٢٥

لما بين تعالى كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا ، أردفه بكيفية عقوبة الكفار أولئك وغيرهم . وانتصب يوم باذكر .

وقرأ الجمهور :{ يُحْشَرُ } مبنياً للمفعول ، { وأعداء } رفعاً ، وزيد بن عليّ ، ونافع ، والأعرج ، وأهل المدينة : بالنون أعداء نصباً ، وكسر الشين الأعرج ؛ وتقدم معنى { فَهُمْ يُوزَعُونَ } في النمل ، و { حَتَّى } : غاية ليحشروا ، { أَعْدَاء اللّه } : هم الكفار من الأولين والآخرين ، وما بعد إذا زائدة للتأكيد .

وقال الزمخشري : ومعنى التأكيد فيها أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم ، ولا وجه لأن يخلو منها ومثله قوله :{ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ } : أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به . انتهى . ولا أدري أن معنى زيادة ما بعد إذ التوكيد فيها ، ولو كان التركيب بغير ما ، كان بلا شك حصول الشرط من غير تأخر ، لأن أداة الشرط ظرف ، فالشهادة واقعة فيه لا محالة ، وفي الكلام حذف ، التقدير :{ حَتَّى إِذَا مَا جَاءوهَا } ،أي النار ، وسئلوا عما أجرموا فأنكروا ، { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم } بما اكتسبوا من الجرائم ، وكانوا حسبوا أن لا شاهد عليهم . ففي الحديث : { أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى ، ثم تنطق الجوارح فيقول : تباً لك ، وعنك كنت أدافع} .

ولما كانت الحواس خمسة : السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، وكان الذوق مندرجاً في اللمس ، إذ بمماسة جلدة اللسان والحنك للمذوق يحصل إدراك المذوق ، وكان حسن الشم ليس فيه تكليف ولا أمر ولا نهي ، وهو ضعيف ، اقتصر من الحواس على السمع والبصر واللمس ، إذ هذه هي التي جاء فيها التكليف ، ولم يذكر حاسة الشم لأنه لا تكليف فيه ، فهذه واللّه أعلم حكمة الاقتصار على هذه الثلاثة . والظاهر أن الجلود هي المعروفة .

وقيل : هي الجوارح كنى بها عنها .

وقيل : كنى بها عن الفروج . قيل : وعليه أكثر المفسرين ، منهم ابن

عباس ، كما كنى عن النكاح بالسر . { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الجرائم . ثم سألوا جلودهم عن سبب شهادتها عليهم ، فلم تذكر سبباً غير أن اللّه تعالى أنطقها .

ولما صدر منها ما صدر من العقلاء ، وهي الشهادة ، خاطبوها بقولهم :{ لِمَ شَهِدتُّمْ } ؟ مخاطبة العقلاء .

وقرأ زيد بن علي : لم شهدتن ؟ بضمير المؤنثات ؟ و { كُلّ شَىْء } : لا يراد به العموم ، بل المعنى : كل ناطق بما ذلك له عادة ، أو كان ذلك فيه خرق عادة .

وقال الزمخشري : أراد بكل شيء : كل شيء من الحيوان ، كما أراد به في قوله :{ وَاللّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } ، من المقدورات . والمعنى : أن نطقنا ليس بعجب من قدرة اللّه الذي قدر على إنطاق كل حيوان ، وعلى خلقكم وإنشائكم ، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ، وإنما قالوا لهم :{ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } لتعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم .

وقال الزمخشري أيضاً :

فإن قلت : كيف تشهد عليهم أبصارهم وكيف تنطق ؟

قلت : اللّه عز وجل ينطقها ، كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلام . انتهى ، وهذا الرجل مولع بمذهبه الاعتزالي ، يدخله في كل ما يقدر أنه يدخل . وإنما أشار بقوله : كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاماً إلى أن اللّه تعالى لم يكلم موسى حقيقة ، وإنما الشجرة هي التي سمع منها الكلام بأن يخلق اللّه فيها كلاماً خاطبته به عن اللّه تعالى . والظاهر أن قوله : وما كنتم تستترون من كلام الجوارح ، قيل : ويحتمل أن يكون من كلام اللّه تعالى توبيخاً لهم ، أو من كلام ملك يأمره تعاليه . و { أَن يَشْهَدَ } : يحتمل أن يكون معناه : خيفة أو لأجل أن يشهد إن كنتم غير عالمين بأنها تشهد ، { وَلَاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللّه لاَ يَعْلَمُ } ، فانهمكتم وجاهدتم ، وإلى هذا نحا مجاهد ، والستر يأتي في هذا المعنى ، كما قال الشاعر : والستر دون الفاحشات وما

يلقاك دون الخير من ستر

ويحتمل أن يكون معناه : عن أن يشهد ، أي وما كنتم تمتنعون ، ولا يمكنكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم ، ولا تظنون أنها تصل بكم إلى هذا الحد من الشهادة عليكم ، وإلى هذا نحا السدي ، أو ما كنتم تتوقعون بالاختفاء والستر أن يشهد عليكم ، لأن الجوارح لزيمة لكم . وعبر قتادة عن تستترون بتظنون ، أي وما كنتم تظنون أن يشهد ، وهذا تفسير من حيث المعنى لا من حيث مرادفة اللفظ ، { وَلَاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللّه لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً } ، وهو الخفيات من أعمالكم ، وهذا الظن كفر وجهل باللّه وسوء معتقد يؤدي إلى تكذيب الرسل والشك في علم الإله .{ وَذَلِكُمْ } : إشارة إلى ظنهم أن اللّه لا يعلم كثيراً من أعمالهم ، وهو مبتدأ خبره { أَرْدَاكُمْ } ، و { ظَنُّكُمُ } بدل من { ذالِكُمْ } أي وظنكم بربكم ذلكم أهلككم .

وقال الزمخشري : وظنكم وأرداكم خبران . و

قال ابن عطية : أرداكم يصلح أن يكون خبراً بعد خبر . انتهى . ولا يصح أن يكون ظنكم بربكم خبراً ، لأن قوله :{ وَذَلِكُمْ } إشارة إلى ظنهم السابق ، فيصير التقدير : وظنكم بأن ربكم لا يعلم ظنكم بربكم ، فاستفيد من الخبر ما استفيد من المبتدأ ، وهو لا يجوز ؛ وصار نظير ما منعه النحاة من قولك : سيد الجارية مالكها . و

قال ابن عطية : وجوز الكوفيون أن يكون معنى أرداكم في موضع الحال ، والبصريون لا يجيزون وقوع الماضي حالاً إلا إذا اقترن بقد ، وقد يجوز تقديرها عندهم إن لم يظهر . انتهى . وقد أجاز الأخفش من البصريين وقوع الماضي حالاً بغير تقدير قد وهو الصحيح ، إذ كثر ذلك في لسان العرب كثرة توجب القياس ، ويبعد فيها التأويل ، وقد ذكرنا كثرة الشواهد على ذلك في كتابنا المسمى } بالتذييل والتكميل في شرح التسهيل} .

{فَانٍ } : خطاب للنبي عليه السلام ، قيل : وفي الكلام حذف تقديره : أولاً يصبروا ، كقوله :{ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ } ، وذلك في يوم القيامة .

وقيل : التقدير : فإن يصبروا على ترك دينك واتباع أهوائهم ، { فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } : أي مكان إقامة .

وقرأ الجمهور :{ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ } مبنياً للفاعل ، { فَمَا هُم مّنَ الْمُعْتَبِينَ } : اسم مفعول . قال الضحاك : إن يعتذروا فما هم من المعذورين ؛

وقيل : وإن طلبوا العتبى ، وهي الرضا ، فما هم ممن يعطاها ويستوجبها .

وقرأ الحسن ، وعمرو بن عبيد ،

وموسى الأسواري : وإن يستعتبوا : مبنياً للمفعول ، فما هم من المعتبين : اسم فاعل ، أي طلب منهم أن يرضوا ربهم ، فما هم فاعلون ، ولا يكون ذلك لأنهم قد فارقوا الدنيا دار الأعمال ، كما قال صلى اللّه عليه وسلم { ليس بعد الموت مستعتب} . وقال أبو ذؤيب : أمن المنون وريبها تتوجع

والدهر ليس بمعتب من يجزع

ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه .

ولما ذكر تعالى الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على كفر أولئك الكفرة ، أردفه بذكر السبب الذي أوقعهم في الكفر فقال :{ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء } : أي سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا .

وقيل : سلطنا ووكلنا عليهم .

وقيل : قدرنا لهم . وقرناء : جمع قرين ، أي قرناء سوء من غواة الجن والإنس ؛{ فَزَيَّنُواْ لَهُم } : أي حسنوا وقد روا في أنفسهم ؛{ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } ، قال ابن عباس : من أمر الآخرة ، أنه لا جنة ولا نار ولا بعث .{ وَمَا } ، قال ابن عباس : من أمر الدنيا ، من الضلالة والكفر ولذات الدنيا . وقال الكلبي :{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } : أعمالهم التي يشاهدونها ، { وَمَا خَلْفَهُمْ } : ما هم عاملوه في المستقبل . و

قال ابن عطية :{ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } ، من معتقدات السوء في الرسل والنبوات ومدح عبادة الأصنام واتباع فعل الآباء ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } : ما يأتي بعدهم من أمر القيامة والمعاد . انتهى ، ملخصاً ، وهو شرح قول الحسن ، قال :{ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } من أمر الدنيا ، { وَمَا خَلْفَهُمْ } من أمر الآخرة .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم ؟

قلت : معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر ، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين ، والدليل عليه :{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً} انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .{ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } : أي كلمة العذاب ، وهو القضاء المختم ، بأنهم معذبون .{ فِى أُمَمٍ } : أي في جملة أمم ، وعلى هذا قول الشاعر : إن تك عن أحسن الصنيعة مأفو

كاً ففي آخرين قد أفكوا

أي : فأنت في جملة آخرين ، أو فأنت في عدد آخرين ، لست في ذلك بأوحد .

وقيل : في بمعنى مع ، ولا حاجة للتضمين مع صحة معنى في . وموضع في { أُمَمٌ } نصب على الحال ، أي كائنين في جملة أمم ، وذو الحال الضمير في عليهم .{ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ } : الضمير لهم وللأمم ، وهذا تعليل لاستحقاقهم العذاب .

﴿ ٢٥