٤٤{مَّا يُقَالُ لَكَ } : يقال مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون القائل اللّه تعالى ، كما تقدم تأويلها فيه ، أي ما يوحي إليك اللّه إلا مثل ما أوحى إلى الرسل في شأن الكفار ، كما تأولناه على أحد الوجهين أو في الشرائع . وجوزوا على أن القائل هو اللّه أن يكون .{ إِنَّ رَبَّكَ } : تفسير لقوله :{ مَا قَدْ قِيلَ } ، فالمقول { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو وَمَغْفِرَةٌ } للمطائعين ، { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } للعاصين ، وهذا التأويل فيه بعد ، لأنه حصر ما أوحى اللّه إليه وإلى الرسل في قوله :{ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } ، وهو تعالى قد أوحى إليه وإليهم أشياء كثيرة . فإذا أحذناه على الشرائع أو على عاقبة المكذبين كان الحصر صحيحاً ، وكان قوله تعالى :{ إِنَّ رَبَّكَ } استئناف إخبار عنه تعالى لا تفسير لما قد قيل . ويحتمل أن يكون القائل الكفار ، أي مايقول لك كفار قومك إلا ما قد قال كفار الرسل لهم من الكلام المؤذي والطعن فيما أنزل اللّه عليهم من الكتب . ثم أخبر تعالى أنه ذو مغفرة وذو عقاب أليم ، وفيه الترجئة بالغفران ، والزجر بالعقاب ، وهو وعظ وتهديد . وقال قتادة : عزى اللّه نبيه وسلاه بقوله : { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } ، ومثله كذلك :{ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} ولما ذكر تعالى الملحدين في آياته ، وأنهم لا يخفون عليه ، والكافرين بالقرآن ما دل على تعنتهم وما ظهر من تكذيبهم ، وقولهم : هل أنزل بلغة العجم ؟ فقال :{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً أعْجَمِيّاً } : أي لا يفصح ولا تبين معانيه لهم لكونه بلغة العجم أو بلغة غير العرب ، لم يتركوا الاعتراض ، و { لَّقَالُواْ لَوْلاَ لا فُصّلَتْ ءايَاتُهُ } : أي بينت لنا ، وأوصحت حتى نفهمها . وقرأ الجمهور : آعجمي بهمزة الاستفهام بعدها مدة هي همزة أعجمي ، وقياسها في التخفيف التسهيل بين بين . وقرأ الإخوان ، والأعمش ، وحفص : بهمزتين ، أي وقالوا منكرين : أقرآن أعجمي ورسول عربي ؟ أو مرسل إليه عربي ؟ وتأوله ابن جبير أن معنى قوله :{ أَعْجَمِىٌّ } ، ونحن عرب ما لنا وللعجمة . و قال ابن عطية : لانهم ينكرون ذلك فيقولون : لولا بين أعجمي وعربي مختلط هذا لا يحسن . انتهى . ولا يصح هذا التقسيم لأنه بالنسبة للقرآن ، وهم إنما قالوا ما دل عليه قوله تعالى :{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً أعْجَمِيّاً } ، من اقتراحهم أن يكون أعجمياً ، ولم يقترحوا أن يكون القرآن أعجمياً وعربياً . وقرأ الحسن ، وأبو الاسود ، والجحدري ، وسلام ، والضحاك ، وابن عباس ، وابن عامر بخلاف عنهما : أعجمي وعربي دون استفهام وسكون العين ، فقيل معناه : أنهم قالوا : أعجمة وأعرب ، إن هذا لشاذ . وقال ابن جبير معناه : لولا فصل فصلين ، فكان بعضه أعجمياً بفهمه العجم ، وبعضه عربياً يفهمه العرب . وقال صاحب اللوامح : لأنهم لما قالوا :{ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءايَاتُهُ } ، أعادوا القول ثانياً فقالوا :{ أَعْجَمِىٌّ } ، وأضمر المبتدأ ، أي هو أعجمي ، والقرآن ، أو الكلام ، أو نحوها ، والذي أتى به ، أو الرسول عربي ، كأنهم كانوا ينكرون ذلك . وقرأ عمرو بن ميمون : أعجمي بهمزة استفهام وفتح العين أن القرآن لو جاء على طريقة كائنة كانوا تعنتوا ، لأنهم لا يطلبون الحق . وقال صاحب اللوامح : والعجمي المنسوب إلى العجم ، والياء للنسب على الحقيقة ؛ وأما إذا سكنت العين فهو الذي لا يفصح ، والياء فيه بلفظ النسب دون معناه ، فهو بمنزلة ياء كرسي وبختي ، واللّه أعلم . انتهى ، وليست كياء كرسي بنيت الكلمة عليها ، وياء أعجمي لم تبن الكلمة عليها . تقول العرب : رجل أعجم ورجل أعجمي ، فالياء للنسبة الدالة على المبالغة في الصفة ، نحو : أحمري ودواري مبالغة في أحمر ودوار . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمة العرب ؟ قلت : هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتاباً عجمياً كتب إلى قوم من العرب يقول : أكتاب عجمي والمكتوب إليه عربي ؟ لأن نسخ الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه ، لا على أن المكتوب إليه واحد وجماعة ؛ فوجب أن يجرد لما سيق له من الغرض ، ولا يوصل به غرضاً آخر . ألا تراك تقول : وقد رأيت لباساً طويلاً على امرأة قصيرة ، اللباس طويل واللابس قصير ؟ ولو قلت : واللابسة قصيرة ، جئت بما هو لكنة وفضول قول ، لإن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته ، إنما وقع في غرض وراءهما . انتهى ، وهو حسن ، إلا أن فيه تكثيراً على عادته في حب الشقشقة والتفهيق . {قُلْ هُوَ } : أي القرآن ، { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء } ، هدى : أي إرشاد إلى الحق ، وشفاء : أي لما في الصدور من الظن والشك . والظاهر أن { وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } مبتدأ ، و { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً } هو موضع الخبر . وقال الزمخشري : هو في آذانهم وقر على حذف المبتدأ لما أخبر أنه هدى وشفاء للمؤمنين ، أخبر أنه وقر وصمم في آذانهم ، أي الكافرين ، ولا يضطر إلى إضمار هو ، فالكلام تام دونه أخبر أن في آذانهم صمماً عن سماعهم . ثم أخبر أنه عليهم عمى ، يمنعهم من إبصار حكمته والنظر في معانيه والتقرير لآياته ، وجاء بلفظ عليهم الدالة على استيلاء العمى عليهم ، وجاء في حق المؤمنين باللام الدالة على الاختصاص ، وكون والذين في موضع جر عطفاً على قوله :{ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } ، والتقدير : وللذين لا يؤمنون وقر في آذانهم إعراب متكلف ، وهو من العطف على عاملين ، وفيه مذاهب كثيرة في النحو ، والمشهور منع ذلك . وقرأ الجمهور : عمى بفتح الميم منوناً : مصدر عمى . وقرأ ابن عمرو ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، وابن هرمز : بكسر الميم وتنوينه . وقال يعقوب القارىء ، وأبو حاتم : لا ندري نونوا أم فتحوا الياء ، على أنه فعل ماض وبغير تنوين ، رواها عمرو بن دينار وسليمان بن قتيبة عن ابن عباس . والظاهر أن الضمير في { وَهُوَ عَلَيْهِمْ } عائد على القرآن ، وقيل : يعود على الوقر .{ أُوْلَائِكَ } إشارة إلى الذين لا يؤمنون ، ومن جعله خبراً ، لأن الذين كفروا كانت الإشارة إليهم .{ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } ،قيل : هو حقيقة . قال الضحاك : ينادون بكفرهم وقبح أعمالهم بأقبح أسمائهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف فتعظم السمعة عليهم ويحل المصاب . وقال علي ومجاهد : استعارة لقلة فهمهم ، شبههم بالرجل ينادي من بعد ، فيسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه . وحكى أهل اللغة أنه يقال للذي لا يفهم : أنت تنادي من بعيد ، أي كأنه ينادي من موضع بعيد ، فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه . وحكى النقاش : كأنما ينادون من السماء . |
﴿ ٤٤ ﴾