الشورىمكية بسم اللّه الرحمن الرحيم ١انظر تسفير الآية:٥ ٢انظر تسفير الآية:٥ ٣انظر تسفير الآية:٥ ٤انظر تسفير الآية:٥ ٥حم هذه السورة مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر . وقال ابن عباس : مكية إلا أربع آيات من قوله :{ قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى } إلى آخر الأربع آيات ، فإنها نزلت بالمدينة . وقال مقاتل : فيها مدني قوله :{ ذَلِكَ الَّذِى يُبَشّرُ اللّه عِبَادَهُ } إلى الصدور . ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها أنه قال :{ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللّه } الآية ، وكان في ذلك الحكم عليهم بالضلال . لما كفروا به قال هنا :{ كَذالِكَ } ،أي مثل الإيحاء السابق في القرآن الذي كفر به هؤلاء ، { يُوحِى إِلَيْكَ } : أي إن وحيه تعالى إليك متصل غير منقطع ، يتعهدك وقتاً بعد وقت . وذكر المفسرون في { حمعسق } أقوالاً مضطربة لا يصح منها شيء كعادتهم في هذه الفواتح ، ضربنا عن ذكرها صفحاً . ركد الشيء ، ثبت في مكانه ، وقد قال الشاعر : وقد ركدت وسط السماء نجومها ركوداً يواري الربرب المتفرّق وقرأ الجمهور : يوحي مبنياً للفاعل ؛ وأبو حيوة ، والأعشى عن أبي بكر ، وأبان : نوحي بنون العظمة ؛ ومجاهد ، وابن كثير ، وعباس ، ومحبوب ، كلاهما عن أبي عمرو : يوحي مبنياً للمفعول ؛ واللّه مرفوع بمضمر تقديره أوحي ، أو بالابتداء ، التقدير : اللّه العزيز الحكيم الموحي ؛ وعلى قراءة نوحي بالنون ، يكون { عِندِ اللّه الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } مبتدأ وخبراً . ويوحي ، إما في معنى أوجب حتى ينتظم قوله :{ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ } ،أو يقرأ على موضوعه ، ويضمر عامل يتعلق به إلى الذين تقديره : وأوحي إلى الذين من قبلك . وتقدم الكلام على { تَكَادُ السَّمَاوَاتِ } في سورة مريم قراءة وتفسيراً . وقال الزمخشري : وروى يونس عن أبي عمر وقراءة عربية : تتفطرن بتاءين مع النون ، ونظيرها حرف نادر روي في نوادر ابن الأعرابي : الإبل تتشممن . انتهى . والظاهر أن هذا وهم من الزمخشري في النقل ، لأن ابن خالويه ذكر في شواذ القراآت له ما نصب : تفطرن بالتاء والنون ، يونس عن أبي عمرو . وقال ابن خالويه : هذا حرف نادر ، لأن العرب لا تجمع بين علامتي التأنيث . لا يقال : النساء تقمن ، ولكن يقمن ، والوالدات يرضعن . قد كان أبو عمر الزاهد روى في نوادر ابن الأعرابي : الإبل تتشممن ، فأنكرناه ، فقد قواه ، لأن هذا كلام ابن خالويه . فإن كانت نسخ الزمخشري متفقة على قوله بتاءين مع النون فهو وهم ، وإن كان في بعضها بتاء مع النون ، كان موافقاً لقول ابن خالويه ، وكان بتاءين تحريفاً من النساخ . وكذلك كتبهم تتفطرن وتتشممن بتاءين . والظاهر عود الضمير في { مِن فَوْقِهِنَّ } على { السَّمَاوَاتِ} قال ابن عطية : من أعلاهن . وقال الزمخشري : ينفطرن من علو شأن اللّه تعالى وعظمته ، ويدل عليه مجيئه بعد { الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ} وقيل : من دعائهم له ولداً ، كقوله :{ تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} فإن قلت : لم قال { مِن فَوْقِهِنَّ } ؟ قلت : لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة فوق السموات ، وهي العرض والكرسي وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش ، وما لا يعلم كنهه إلا اللّه من آثار ملكوته العظمى ، فلذلك قال :{ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } : أي يبتدىء الانفطار من جهتهن الفوقانية . وقال جماعة ، منهم الحوفي ، قال :{ مِن فَوْقِهِنَّ } ، والهاء والنون كناية عن الأرضين . انتهى .{ مِن فَوْقِهِنَّ } متعلق يتفطرن ، ويدل على هذا القول ذكر الأرض قبل . وقال علي بن سليمان الأخفش : الضمير للكفار ، والمعنى : من فوق الفرق والجماعات الملحدة ، أي من أجل أقوالها . انتهى . فهذه الآية كالذي في سورة مريم ، واستبعد مكي هذا القول ، قال : لا يجوز في الذكور من بني آدم ، يعني ضمير المؤنث والاستشعار ما ذكره مكي . قال علي بن سليمان : من فوق الفرق والجماعات ، وظاهر الملائكة العموم . وقال مقاتل : حملة العرش والتسبيح ، قيل : قولهم سبحان اللّه ، وقيل : يهللون ؛ والظاهر يستغفرون طلب الغفران ، ولأهل الأرض عام مخصوص بقوله : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } ، قاله السدي . وقيل : عام . ومعنى الاستغفار : طلب الهداية المؤدية إلى المغفرة ، كأنهم يقولون : اللّهم اهد أهل الأرض ، فاغفر لهم . ويدل عليه وصفه بالغفران والحرحمة والاستفتاح . وقال الزمخشري : ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار لهم : طلب الحلم والغفران في قوله :{ إِنَّ اللّه يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ } ، إلى أن قال :{ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } ، وقوله :{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } ، والمراد : الحلم عنهم ، وأن لا يعاجلهم بالانتقام فيكون عاماً . انتهى . وتكلم أبو عبد اللّه الرازي في قوله :{ تَكَادُ السَّمَاوَاتِ } كلاماً خارجاً عن مناحي مفهومات العرب ، منتزعاً من كلام الفلاسفة ومن جرى مجراهم ، يوقف على ذلك فى كتابه . ٦انظر تسفير الآية:٧ ٧{وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } : أي أصناماً وأوثاناً ، { اللّه حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } : أي على أعمالهم ومجازيهم عليها ، { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } : أي بمفوض إليك أمرهم ولا قائم . وما في هذا من الموادعة منسوخ بآية السيف .{ وَكَذالِكَ } : أي ومثل هذا الإيحاء والقضاء ، إنك لست بوكيل عليهم ، { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءاناً} والظاهر أن { قُرْءاناً } مفعول { أَوْحَيْنَا} وقال الزمخشري : الكاف مفعول به ، أي أوحيناه إليك ، وهو قرآن عربي لا لبس فيه عليك ، إذ نزل بلسانك . انتهى . فاستعمل الكاف اسماً في الكلام ، وهو مذهب الأخفش .{ لّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى } : مكة ، أي أهل جم القرى ، وكذلك المفعول الأول محذوف ، والثاني هو :{ يَوْمَ الْجَمْعِ } : أي اجتماع الخلائق ، والمنذر به هو ما يقع في يوم الجمع من الجزاء وانقسام الجمع إلى الفريقين ، أو اجتماع الأرواح بالأجساد ، أو أهل الأرض بأهل السماء ، أو الناس بأعمالهم ، أقوال أربعة . لينذر بياء الغيبة ، أي لينذر القرآن .{ لاَ رَيْبَ فِيهِ } : أي لا شك في وقوعه . وقال الزمخشري :{ لاَ رَيْبَ فِيهِ } : اعتراض لا محالة . انتهى . ولا يظهر أنه اعتراض ، أعني صناعياً ، لأنه لم يقع بين طالب ومطلوب . وقرأ الجمهور :{ فَرِيقٌ } بالرفع فيهما ، أي هم فريق أو منهم فريق . وقرأ زيد بن عليّ بنصبهما ، أي افترقوا ، فريقاً في كذا ، وفريقاً في كذا ؛ ويدل على الافتراق : الاجتماع المفهوم من يوم الجمع . ٨انظر تسفير الآية:٩ ٩{وَلَوْ شَاء اللّه لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً } : يعني من إيمان أو كفر ، قال معناه الضحاك ، وهو قول أهل السنة ، وذلك تسلية للرسول . كما كان يقاسيه من كفر قومه ، وتوقيف على أن ذلك راجع إلى مشيئته ، ولكن من سبقت له السعادة أدخله في رحمته . وقال الزمخشري :{ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً } : أي مؤمنين كلهم على القسر والإكراه ، كقوله :{ وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } ، وقوله :{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} والدليل على أن المعنى هو الإيحاء إلى الإيمان قوله :{ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } ، وذكر ما ظنه استدلالاً على ذلك ، وهو على طريق الاعتزال . وقال أنس بن مالك :{ فِى رَحْمَتِهِ } : في دين الإسلام .{ أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } ، أم بمعنى بل ، للانتقال من كلام إلى كلام ، والهمزة للإنكار عليهم اتخاذ أولياء من دون اللّه . وقيل : أم بمعنى الهمزة فقط ، وتقدّم الكلام على مثل هذا ، حيث جاءت أم المنقطعة ، والمعنى : اتخذوا أولياء دون اللّه ، وليسوا بأولياء حقيقة ، فاللّه هو الولي ، والذي يجب أن يتولى وحده ، لا ما لا يضر ولا ينفع من أوليائهم . ولما أخبر أنه هو الولي ، عطف عليه هذا الفعل الغريب الذي لا يقدر عليه غيره ، وهو إحياء الموتى . ولما ذكر هذا الوصف ، ذكر قدرته على كل شيء تتعلق إرادته به . وقال الزمخشري : في قوله :{ فَاللّه هُوَ الْوَلِىُّ } ، والفاء في قوله :{ فَاللّه هُوَ الْوَلِىُّ } جواب شرط مقدر ، كأنه قيل : بعد إنكار كل ولي سواه ، وإن أراد وأوليا بحق ، فاللّه هو الولي بالحق ، لا ولي سواه . انتهى . ولا حاجة إلى تقدير شرط محذوف ، والكلام يتم بدونه . ١٠انظر تسفير الآية:١٢ ١١انظر تسفير الآية:١٢ ١٢{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْء } : هذا حكاية لقول الرسول ، أي ما اختلفتم فيه أيها الناس من تكذيب أو تصديق وإيمان وكفر وغير ذلك ، فالحكم فيه والمجازاة عليه ليس ذلك إلا إلى اللّه ، لا إليّ ، ولفظة من شيء تدل على العموم . وقيل : من شيء من الخصومات ، فتحاكموا فيه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره ، كقوله :{ وَأَنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ} وقيل :{ مِن شَىْء } : من تأويل آية واشتبه عليكم ، فارجعوا في بيانه إلى آي المحكم من كتاب اللّه ، والظاهر من سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : ما وقع منكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم ، ولا طريق لكم إلى علمه ، فقولوا : اللّه أعلم ، كمعرفة الروح . وقال الزمخشري : أي ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمور الدين ، فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى اللّه ، وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاتبة المبطلين .{ ذالِكُمْ } : الحكم بينكم هو { رَبّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في رد كيد أعداء الدين ، وإليه أرجع في كفاية شرهم . انتهى . وقرأ الجمهور :{ فَاطِرَ } بالرفع ، أي هو فاطر ، أو خبر بعد خبر كقوله :{ ذالِكُمْ} وقرأ زيد بن عليّ : فاطر بالجر ، صفة لقوله :{ إِلَى للّه } ، والجملة بعدها اعتراض بين الصفة والموصوف . {جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ } : أي من جنس أنفسكم ، أي آدميات ، { أَزْواجاً } : إناثاً ، أو جعل الخلق لأبينا آدم من ضلعه حواء زوجاً له خلقاً لنا ، { وَمِنَ الاْنْعَامِ أَزْواجاً } : أي أنواعاً كثيرة ، ذكوراً وإناثاً ، أو أزواجاً إناثاً .{ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } ، قال ابن عباس : أي يجعل لكم فيه معيشية تعيشون بها . وقال ابن زيد : يرزقكم فيه ، وهو قريب من القول قبله . وقال مجاهد : يخلقكم في بطون الإناث . وقال ابن زيد أيضاً : ى ذرأكم فيما خلق من السموات والأرض . وقال الزجاج : يكثركم به ، أي فيه ، أي يكثركم في خلقكم أزواجاً . وقال عليّ بن سليمان : ينقلكم من حال إلى حال . و قال ابن عطية : الضمير في فيه للحعل ، أي يخلقكم ويكثركم في الجعل ، كما تقول : كلمت زيداً كلاماً أكرمته فيه ، قال : ولفظة ذرأ تزيد على لفظة خلق معنى آخر ليس في خلق ، وهو توالي الطبقات على مر الزمان . وقال الزمخشري :{ يَذْرَؤُكُمْ } : يكثركم ، يقال ذرأ اللّه الخلق : بثهم وكثرهم ، والذرء والذروء والذرواء أخوات في هذا التدبير ، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل . والضمير في يذرؤكم يرجع إلى المخاطبين والأنعام ، مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على الغيه مما لا يعقل ، وهي من الأحكام ذات العلتين . انتهى . وقوله : وهي من الأحكام ذات العلتين ، اصطلاح غريب ، ويعني أن الخطاب يغلب على الغيبة إذا اجتمعا فتقول : أنت وزيد تقومان ؛ والعاقل يغلب على غير العاقل إذا اجتمعا ، فتقول : الحيوان وغيرهم يسبحون خالقهم . قال الزمخشري ؛ فإن قلت : ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير ؟ وهلا قيل : يذرؤكم به ؟ قلت : جعل هذا التدبيه كالمنبع والمعدن للبث والتكثير . ألا تراك تقول للحيوان في خلق الأزواج تكثير ؟ كما قال تعالى :{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواةٌ } انتهى .{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } ، تقول العرب : مثلك لا يفعل كذا ، يريدون به المخاطب ، كأنهم إذا نفوا الوصف عن مثل الشخص كان نفياً عن الشخص ، وهو من باب المبالغة ، ومثل الآية قول أوس بن حجر : ليس كمثل الفتى زهير خلق يوازيه في الفضائل وقال آخر : وقتلى كمثل جذوع النخيل تغشاهم مسبل منهمر سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ما إن كمثلهم في الناس من أحد فجرت الآية في ذلك على نهج كلام العرب من إطلاق المثل على نفس الشيء . وما ذهب إليه الطبري وغيره من أن مثلاً زائدة للتوكيد كالكاف في قوله : فأصبحت مثل كعصف مأكول وقوله : وصاليات ككما يؤثفين ليس بجيد ، لأن مثلاً اسم ، والأسماء لا تزاد ، بخلاف الكاف ، فإنها حرف ، فتصلح للزيادة . ونظير نسبة المثل إلى من لا مثل له قولك : فلان يده مبسوطة ، يريد أنه جواد ، ولا نظير له في الحقيقة إلى اليد حتى تقول ذلك لمن لا يد له ، كقوله : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} فكما جعلت ذلك كناية عن الجواد فيمن لا يد له ، فكذلك جعلت المثل كناية عن الذوات في من لا مثل له . ويحتمل أيضاً أن يراد بالمثل الصفة ، وذلك سائغ ، يطلق المثل بمعنى المثل وهو الصفة ، فيكون المعنى : ليس مثل صفته تعالى شيء من الصفات التي لغيره ، وهذا محمل سهل ، والوجه الأول أغوص . قال ابن قتيبة : العرب تقيم المثال مقام النفس ، فيقول : مثلي لا يقال له هذا ، أي أنا لا يقال لي هذا . انتهى . فقد صار ذلك كناية عن الذات ، فلا فرق بين قولك : ليس كاللّه شيء ، أو ليس كمثل اللّه شيء . وقد أجمع المفسرون على أن الكاف والمثل يراد بهما موضوعهما الحقيقي من أن كلاً منهما يراد به التشبيه ، وذلك محال ، لأن فيه إثبات مثل للّه تعالى ، وهو محال .{ وَهُوَ السَّمِيعُ } لأقوال الخلق ، { البَصِيرُ } لأعمالهم . وتقدم تفسير :{ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } في سورة الزمر ؛ وقرىء :{ وَيَقْدِرُ } : أي يضيق .{ إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } : أي يوسع لمن يشاء ، ويضيق على من يشاء . وقال الزمخشري : فإذا علم أن الغنى خير للعبد أغناه لا أفقره . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال . ١٣{شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ} لما عدد تعالى نعمه عليهم الخاصة ، أتبعه بذكر نعمه العامة ، وهو ما شرع لهم من العقائد المتفق عليها ، من توحيد اللّه وطاعته ، والإيمان برسله وبكتبه وباليوم الآخر ، والجزاء فيه . ولما كان أول الرسل نوح عليه السلام ، وآخرهم محمد صلى اللّه عليه وسلم ، قال :{ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } ، ثم أتبع ذلك ما وصى به إبراهيم ، إذ كان أبا العرب ، ففي ذلك هزلهم وبعث على ابتاع طريقته وموسى وعيسى صلوات اللّه عليهم ، لأنهما هما اللذان كان أتباعهما موجودين زمان بعثة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. والشرائع متفقة فيما ذكرنا من العقائد ، وفي كثير من الأحكام ، كتحريم الزنا والقتل بغير حق . والشرائع مشتملة على عقائد وأحكام ؛ ويقال : إن نوحاً أول من أتى بتحريم البنات والأمهات وذوات المحارم . وقال ابن عباس : اختار ، ويحتمل أن تكون أن مفسرة ، لأن قبلها ما هو بمعنى القول ، فلا موضع لها من الإعراب . وأن تكون أن المصدرية ، فتكون في موضع نصب على البدل من ما ؛ وما عطف عليها ، أو في موضع رفع ، أي ذلك ، أو هو إقامة الدين ، وهو توحيد اللّه وما يتبعه مما لا بد من اعتقاده . ثم نهى عن التفرقة فيه ، لأن التفرق سبب للّهلاك ، والاجتماع والألفة سبب للنجاة . { كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ } : أي عظم وشق ، { مَا تَدْعُوهُمْ } من توحيد اللّه وترك عباده الأصنام وإقامة الدين .{ إِلَيْهِ اللّه يَجْتَبِى } : يجتلب ويجمع ، { إِلَيْهِ مَن يَشَاء } هدايته ، وهذا تسلية للرسول . وقيل : يجتبي ، فيجعله رسولاً إلى عباده ، { وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } : يرجع إلى طاعته عن كفره . وقال الزمخشري :{ مَن يَشَآء } : من ينفع فيهم توفيقه ويجري عليهم لطفة . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال . وقال الحافظ أبو بكر بن العربي : لم يكن مع آدم عليه السلام إلا بنوه ، ولم تفرض ، له الفرائض ، ولا شرعت له المحارم ، وإنما كان منبهاً على بعض الأمور ، مقتصراً على ضرورات المعاش . واستمر الهدى إلى نوح ، فبعثه اللّه بتحريم الأمهات والبنات ، ووظف عليه الواجبات ، وأوضح له الأدب في الديانات . ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء واحداً بعد واحد وشريعة إثر شريعة ، حتى ختمه اللّه بخير الملل على لسان أكرم الرسل ، فكان المعنى : أوصيناك يا محمد ونوحاً ديناً واحداً في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع ، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والحج والتقريب بصالح الأعمال ، والصدق والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والإذاية للخلق كيفما تصرفت ، والاعتداء على الحيوان ، واقتحام الدناءآت وما يعود بخرم المروآت ؛ فهذا كله مشروع ديناً واحداً ، أو ملة متحدة ، لم يختلف على ألسنة الأنبياء ، وإن اختلفت أعدادهم ، وذلك قوله :{ أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } : أي اجعلوه قائماً ، يريد دائماً مستمراً محفوظاً مستقراً من غير خلاف فيه ولا اضطراب . انتهى . وقال مجاهد : لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وايتاء الزكاة والإقرار باللّه وطاعته ، فهو إقامة الدين . وقال أبو العالية : إقامة الدين : الأخلاص للّه وعبادته ، { وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } ، قال أبو العالية : لا تتعادوا فيه . وقال مقاتل : معناه لا تختلفوا ، فإن كل نبي مصدق . وقيل : لا تتفرقوا فيه ، فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض . ١٤انظر تسفير الآية:١٥ ١٥{وَمَا تَفَرَّقُواْ } ، قال ابن عباس : يعني قرشياً ، والعلم : محمد عليه الصلاة والسلام ، وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي ، كما قال :{ وَأَقْسَمُواْ بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ } ، يريدون نبياً . وقيل : الضمير يعود على أمم الأنبياء ، جاءهم العلم ، فطال عليهم الأمد ، فآمن قوم وكفر قوم . وقال ابن عباس أيضاً : عائد على أهل الكتاب ، والمشركين دليله :{ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدَمَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَةُ } ، قال المشركون : لم خص بالنبوة ، واليهود والنصارى حسدوه .{ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ } : أي عدة التأخر إلى يوم القيامة ، فحينئذ يقع الجزاء ، { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } : لجوزوا بأعمالهم في الدنيا ؛ لكنه قضى أن ذلك لا يكون إلا في الآخرة . وقال الزجاج : الكلمة قوله :{ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ}{ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ } : هم بقية أهل الكتاب الذين عاصروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،{ مّن بَعْدِهِمْ } : أي من بعد أسلافهم ، أو هم المشركون ، أورثوا الكتاب من بعدما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل . وقرأ زيد بن علي : ورثوا مبنياً للمفعول مشدد الراء ، { لَفِى شَكّ مّنْهُ } : أي من كتابهم ، أو من القرآن ، أو مما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم ،أو من الدين الذي وصى به نوحاً . ولما تقدم شيئآن : الأمر بإقامة الدين ، وتفرق الذين جاءهم العلم واختلافهم وكونهم في شك ، احتمل قوله . { فَلِذَلِكَ } ، أن يكون إشارة إلى إقامة الدين ، أي فادع لدين اللّه وإقامته ، لا تحتاج إلى تقدير اللام بمعنى لأجل ، لأن دعا يتعدى باللام ، قال الشاعر : دعوت لما نابني مسورا فلبى فلبى يدي مسورا واحتمل أن تكون اللام للعلة ، أي فلأجل ذلك التفرق . ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعباً ، { فَادْعُ } إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية ، { وَاسْتَقِمْ } : أي دم على الاستقامة ، وتقدم الكلام على { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } ، وكيفية هذا التشبيه في أواخر هود .{ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } المختلفة الباطلة ، وأمره بأن يصرح أنه آمن بكل كتاب أنزله اللّه ، لأن الذين تفرقوا آمنوا ببعض .{ وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ } ،قيل : إن المعنى : وأمرت بما أمرت به لأعدل بينكم في ايصال ما أمرت به إليكم ، لا أخص شخصاً بشيء دون شخص ، فالشريعة واحدة ، والأحكام مشترك فيها . وقيل : لاعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم .{ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } : أي قد وضحت الحجج وقامت البراهين وأنتم محجوجون ، فلا حاجة إلى إظهار حجة بعد ذلك .{ اللّه يَجْمَعُ بَيْنَنَا } وبينكم ، أي يوم القيامة ، فيفصل بيننا . وما يظهر في هذه الآية من الموادعة منسوخ بآية السيف . ١٦انظر تسفير الآية:٢٠ ١٧انظر تسفير الآية:٢٠ ١٨انظر تسفير الآية:٢٠ ١٩انظر تسفير الآية:٢٠ ٢٠{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِى اللّه} : أي يخاصمون في دينه ، قال ابن عباس ومجاهد : نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم ومحاجتهم ، بل قالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ؛ فديننا أفضل ، فنزلت الآية في ذلك . وقيل : نزلت في قريش ، كانوا يجادلون في هذا المعنى ، ويطمعون في رد المؤمنين إلى الجاهلية . واستجيب مبني للمفعول ، فقيل : المعنى من بعدما استجاب الناس للّه ، أي لدينه ودخلوا فيه . وقيل : من بعدما استجاب اللّه له ، أي لرسوله ودينه ، بان نصره يوم بدر وظهر دينه .{ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ } أي باطلة لا ثبوت لها . ولما ذكر من يحاج في دين الإسلام ، صرح بأنه تعالى هو الذي أنزل الكتاب ، والكتاب جنس يراد به الكتب الآلهية .{ وَالْمِيزَانَ } ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم : هو المعدل ؛ وعن ابن مجاهد : هو هنا الميزان الذي بإيدي الناس ، وهذا مندرج في العدل . {وَمَا يُدْرِيكَ } أيها المخاطب ، { لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } ، ذكر على معنى البعث أو على حذف مضاف : أي لعل مجيء الساعة ؛ ولعل الساعة في موضع معمول ، وما يدريك ، وتقدم الكلام على مثل هذا في قوله في آخر الأنبياء :{ وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ} وتوافقت هذه الجملة مع قوله :{ اللّه الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَالْمِيزَانَ} الساعة : يوم الحساب ، ووضع الموازين : القسط ، فكأنه قيل : أمركم اللّه بالعدل والتسوية قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم .{ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } بها بطلب وقوعها عاجلة ، لأنهم ليسوا موقنين بوقوعها ، ليبين عجز من يؤمن بها عندهم ، أي هي مما لا يقع عندهم .{ أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ } ويلحون في أمر الساعة ، { لَفِى ضَلَالَ بَعِيدٍ } عن الحق ، لأن البعث غير مستعبد من قدرة اللّه ، ودل عليه الكتاب المعجز ، فوجب الإيمان به .{ اللّه لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } : أي بر بعباده المؤمنين ، ومن سبق له الخلود في الدنيا ، وما يرى من النعم على الكافر فليس بلطف ، إنما هو إملاء ، ولا لطف إلا ما آل إلى الرحمة والوفاة على الإسلام . وقال مقاتل : لطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعاً . وقال الزمخشري : يوصل بره إلى جميعهم ، { يَرْزُقُ مَن يَشَاء } : أي من يشاء يرزقه شيئاً خاصاً ، ويحرم من يشاء من ذلك الشيء الخاص ، وكل منهم مرزوق ، وإن اختلف الرزق ، { وَهُوَ الْقَوِىُّ } : أي البالغ القوة ، وهي القدرة { الْعَزِيزُ } : الغالب الذي لا يغلب . ولما ذكر تعالى الرزق ، ذكر حديث الكسب . ولما كان الحرث في الأرض أصلاً من أصول المكاسب ، استعير لكل مكسب أريد به النماء والفائدة ، أي من كان يريد عمل الآخرة ، وسعى لها سعيها ، { نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ } : أي جزاء حرثه أي من جزاء حرثه من تضعيف الحسنات ، { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } : أي العمل لها لا لآخرته ، { نُؤْتِهِ مِنْهَا } : أي نعطه شيئاً منها ، { لَهُ فِى الاْخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } ، لأنه لم يعمل شيئاً للآخرة . والجملة الأولى وعد منجز ، والثانية مقيدة بمشيئته تعالى ، فلا يناله إلا رزقه الذي فرغ منه ، وكل ما يريده هو . واقتصر في عامل الآخرة على ذكر حظه في الآخرة ، كأنه غير معتبر ، فلا يناسب ذكر مع ما أعد اللّه له في الآخرة لمن يشاء ما يشاء . وجعل فعل الشرط ماضياً ، والجواب مجزوم لقوله تعالى :{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } ، ولا نعلم خلافاً في جواز الجزم ، فإنه فصيح مختار ، إلا ما ذكره صاحب كتاب الإعراب ، وهو أبو الحكم بن عذرة ، عن بعض النحويين ، أنه لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع كأن لأنها أصل الأفعال ، ولا يجيء مع غيرها من الأفعال . ونص كلام سيبويه والجماعة أنه لا يختص ذلك بكان ، بل سائر الأفعال في ذلك مثلها ، وأنشد سيبويه للفرزدق : دست رسولاً بأن القوم إن قدروا عليك يشفوا صدوراً ذات توغير وقال آخر : تعال فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان وقرأ الجمهور : نزد ونؤته بالنون فيهما : وابن مقسم ، والزعفراني ، ومحبوب ، والمنقري ، كلاهما عن أبي عمرو : بالياء فيهما . وقرأ سلام : نؤته منها برفع الهاء ، وهي لغة الحجاز . ٢١{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللّه وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء } : استفهام تقرير وتوبيخ . لما ذكر تعالى أنه شرع للناس { مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً } الآية ، أخذ ينكر ما شرع غيره تعالى . والشركاء هنا يحتمل أن يراد به شركاؤهم في الكفر ، كالشياطين والمغوين من الناس . والضمير في شرعوا عائد على الشركاء ، والضمير في لهم عائد على الكفار المعاصرين للرسول ؛ ويحتمل أن يراد به الأصنام والأوثان وكل من جعلوه شريكاً للّه . وأضيف الشركاء إليهم لأنهم متخذوها شركاء للّه ، فتارة إليهم بهذه الملابسة ، وتارة إلى اللّه . والضمير في شرعوا يحتمل أن يعود على الشركاء ، ولهم عائد على الكفار ، لما كانت سبباً لضلالهم وافتتانهم جعلت شارعة لدين الكفر ، كما قال إبراهيم عليه السلام : { رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ} واحتمل أن يعود على الكفار ، ولهم عائد على الشركاء ، أي شرع الكفار لأصنامهم ومعبوداتهم ، أي رسموا لهم غواية وأحكاماً في المعتقدات ، كقولهم : إنهم آلهة ، وإن عبادتهم تقربهم إلى اللّه ؛ ومن الأحكام البحيرة والوصيلة والحامي وغير ذلك .{ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ } : أي العدة بأن الفصل في الآخرة ، أو لولا القضاء بذلك لقضي بين المؤمن والكافر ، أو بين المشركين وشركائهم . وقرأ الجمهور :{ إِنَّ الظَّالِمِينَ } ، بكسر الهمزة على الاستئناف والإخبار ، بما ينالهم في الدنيا من القتل والأسر والنهب ، وفي الآخرة النار . وقرأ الأعرج ، ومسلم بن جندب : وأن بفتح الهمزة عطفاً على كلمة الفصل ، فهو في موضع رفع ، أي ولولا كلمة الفصل وكون الظالمين لهم عذاب في الآخرة ، لقضي بينهم في الدنيا وفصل بين المتعاطفين بجواب لولا ، كما فصل في قوله :{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} ٢٢انظر تسفير الآية:٢٣ ٢٣{تَرَى الظَّالِمِينَ } : أي تبصر الكافرين لمقابلته بالمؤمنين ، { مُشْفِقِينَ } : خائفين الخوف الشديد ، { مِمَّا كَسَبُواْ } من السيآت ، { وَهُوَ } : أي العذاب ، أو يعود على ما كسبوا على حذف مضاف : أي وبال كسبوا من السيآت ، أو جزاؤه حال بهم ، { وَهُوَ وَاقِعٌ } : فإشفاقهم هو في هذه الحال ، فليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مشفقون من الساعة . ولما كانت الروضات أحسن ما في الجنات وأنزهها وفي أعلاها ، ذكر أن المؤمنين فيها . واللغة الكثيرة تسكين الواو في روضات ، ولغة هذيل بن مدركة فتح الواو إجراء للمعتل مجرى الصحيح نحو جفنات ، ولم يقرأ أحد ممن علمناه بلغتهم . وعند ظرف ، قال الحوفي : معمول ليشاءون . وقال الزمخشري : منصوب بالظرف لا يشاءون . انتهى ، وهو الصواب . ويعني بالظرف : الجار والمجرور ، وهو لهم في الحقيقة غير معمول للعامل في لهم ، والمعنى : ما يشاءون من النعيم والثواب ، مستقر لهم .{ عِندَ رَبّهِمْ } : والعندية عندية المكانة والتشريف ، لا عندية المكانة . وقرأ الجمهور :{ يُبَشّرُ } بتشديد الشين ، من بشر ؛ وعبد اللّه بن يعمر ، وابن أبي إسحاق ، والجحدري ، والأعمش ، وطلحة في رواية ، والكسائي ، وحمزة : يبشر ثلاثياً ؛ ومجاهد ، وحميد بن قيس : بضم الياء وتخفيف الشين من أبشر ، وهو معدى بالهمزة من بشر اللازم المكسور الشين . وأما بشر بفتحها فتعد ، وبشر يالتشديد للتكثير لا للتعدية ، لأن المتعدي إلى واحد ، وهو مخفف ، لا يعدى بالتضعيف إليه ؛ فالتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية .{ ذالِكَ } : إشارة إلى ما أعد لهم من الكرامة ، وهو مبتدأ خبره الموصول والعائد عليه محذوف ، أي يبشر اللّه به عباده . وقال الزمخشري : أو ذلك التبشير الذي يبشره اللّه عباده . انتهى . ولا يظهر الوجه ، إذ لم يتقدم في هذه السورة لفظ البشري ، ولا ما يدل عليها من تبشير أو شبهه . ومن النحويين من جعل الذي مصدرية ، حكاه ابن مالك عن يونس ، وتأويل عليه هذه الآية ، أي ذلك تبشير اللّه عباده ، وليس بشيء ، لأنه إثبات للاشتراك بين مختلفي الحد بغير دليل . وقد ثبتت اسمية الذي ، فلا يعدل عن ذلك بشيء لا تقوم به دليل ولا شبهة . {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى} روي أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم ، فقال بعضهم لبعض : أترون محمداً يسأل أجراً على ما يتعاطاه ؟ فنزلت . وروي أن الأنصار أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمال جمعوه وقالوا : يا رسول اللّه ، هدانا اللّه بك ، وأنت ابن أختنا ، وتعروك حقوق وما لك سعة ، فاستعن بهذا على ما ينو بك ، فنزلت الآية ، فردّه . وقيل : الخطاب متوجه إلى قريش حين جمعوا له مالاً وأرادوا أن يرشوه عليهم على أن يمسك عن سب آلهتهم ، فلم يفعل ، ونزلت . فالمعنى :{ لا أسألكم مالاً ولا رياسة ، ولكن أسألكم أن ترعوا حق قرابتي وتصدقوني فيما جئتكم به ، وتمسكوا عن أذيتي وأذية من تبعني } ، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو مالك والشعبي وغيرهم . قال الشعبي : أكثر الناس علينا في هذه الآية ، فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عنها ، فكتب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان أوسط الناس في قريش ، ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده ، فقال اللّه تعالى : قل لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودّوني في قرابتي منكم ، فارعوا ما بيني وبينكم وصدقوني . وقال عكرمة : وكانت قريش تصل أرحامها . وقال الحسن : المعنى إلا أن تتودّدوا إلى اللّه بالتقرّب إليه . وقال عبد اللّه بن القاسم : إلا أن يتودّد بعضكم إلى بعض وتصلوا قراباتكم . روي أن شباباً من الأنصار فاخروا المهاجرين وصالوا بالقول ، فنزلت على معنى : أن لا تؤذوني في قرابتي وتحفظوني فيهم . وقال بهذا المعنى عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، واستشهد بالآية حين سيق إلى الشام أسيراً ، وهو قول ابن جبير والسدي وعمرو بن شعيب ، وعلى هذا التأويل قال ابن عباس : قيل يا رسول اللّه : من قرابتك الذين أمرنا بمودّتهم ؟ فقال : { عليّ وفاطمة وابناهما} . وقيل : هم ولد عبد المطلب . والظاهر أن قوله :{ إِلاَّ الْمَوَدَّةَ } استثناء منقطع ، لأن المودّة ليست أجراً . وقال الزمخشري : يجوز أن يكون استثناء متصلاً ، أي لا أسألكم عليه أجراً إلا هذا أن تودّوا أهل قرابتي ، ولم يكن هذا أجراً في الحقيقة ، لأن قرابته قرابتهم ، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة . وقال : فإن قلت : هلا قيل إلا مودّة القربى ، أو إلا المودّة للقربى ؟ قلت : جعلوا مكاناً للمودة ومقرّاً لها ، كقولك : لي في آل فلان مودّة ، ولي فيهم هوى وحب شديد ، تريد : أحبهم وهم مكان حبي ومحله . وليست في صلة للمودّة كاللام ، إذا قلت إلا المودّة للقربى ، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك : المال في الكيس ، وتقديره : إلا المودّة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها . انتهى ، وهو حسن وفيه تكثير . وقرأ زيد بن عليّ ؛ إلا مودّة ؛ والجمهور : إلا المودّة . {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً } : أي يكتسب ، والظاهر عموم الحسنة عموم البدل ، فيندرج فيها المودّة في القربى وغيرها . وعن ابن عباس والسدي ، أنها المودّة في آل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقرأ الجمهور :{ نَزِدْ } بالنون ؛ وزيد بن عليّ ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، وأحمد بن جبير عن الكسائي : يزد بالياء ، أي يزد اللّه . والجمهور :{ حَسَنًا } بالتنوين ؛ وعبد الوارث عن أبي عمرو : حسنى بغير تنوين ، على وزن رجعي ، وزيادة حسنها : مضاعفة أجرها .{ أَنَّ اللّه غَفُورٌ } : ساتر عيوب عباده ، { شَكُورٍ } : مجاز على الدقيقة ، لا يضيع عنده عمل العامل . وقال السدي : غفور لذنوب آل محمد عليه السلام ، شكور لحسناتهم . ٢٤انظر تسفير الآية:٢٥ ٢٥{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِباً } : أضرب عن الكلام المتقدم من غير إبطال ، واستفهم استفهام إنكار وتوبيخ على هذه المقالة ، أي مثله لا ينسب إليه الكذب على اللّه ، مع اعترافكم له قبل بالصدق والأمانة .{ فَإِن يَشَإِ اللّه يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ } ، قال مجاهد : يربط على قلبك بالصبر على أذاهم ، حتى لا يشق عليك قولهم : إنك مفتر . وقال قتادة وجماعة :{ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ } : ينسيك القرآن ، والمراد الرد على مقالة الكفار وبيان إبطالها ، وذلك كأنه يقول : وكيف يصح أن تكون مغتريات وأنت من اللّه بمرأى ومسمع وهو قادر : ولو شاء أن يختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك ؟ فمقصد اللفظ هذا المعنى ، وحذف ما يدل عليه الظاهر اختصار واقتصار . انتهى . هكذا أو رد هذا التأويل عن قتادة ابن عطية ، وفي ألفاظه فظاظة لا تليق أن تنسب للأنبياء . وقال الزمخشري : عن قتادة : ينسيك القرآن وينقطع عنك الوحي ، يعني لو افترى على اللّه الكذب لفعل به ذلك . انتهى . وقال الزمخشري أيضاً : فإن يشأ اللّه يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب ، فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على اللّه إلا من كان في مثل حالهم ، وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله ، وأنه في البعد مثل الشرك باللّه والدخول في جملة المختوم على قلوبهم . ومثال هذا أن يخون بعض الأمناء فيقول : لعل اللّه خذلني ، لعل اللّه أعمي قلبي ، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمي القلب ، وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله ، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم . ثم قال : ومن عادة اللّه أن يمحو الباطل ويثبت الحق بوحيه أو بقضائه لقوله :{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ } ، يعني : لو كان مفترياً ، كما يزعمون ، لكشف اللّه افتراءه ومحقه ، وقذف بالحق على الباطل فدمغه . انتهى . وقيل : المعنى لو افتريت على اللّه ، لطبع على قلبك حتى لا تقدر على حفظ القرآن وقيل : لختم على قلبك بالصدق واليقين ، وقد فعل ذلك . وذكر القشيري أن المعنى : يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم ويعاجلهم بالعذاب . انتهى ، فيكون التفاتاً من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الجمع إلى الإفراد ، أي يختم على قلبك أيها القائل أنه افترى على اللّه كذباً . { وَيَمْحُ اللّه الْبَاطِلَ } : استئناف إخبار ، أي يمحوه . إما في الدنيا وإما في الآخرة حيث نازله . وكتب ويمح بغير واو ، كما كتبوا سندع بغير واو ، اعتباراً بعدم ظهورها ، لأنه لا يوقف عليها وقف اختيار . ولما سقطت من اللفظ سقطت من الخط . وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون عدة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب ، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مرد له من نصرتك عليهم . إن اللّه عليم بما في صدرك وصدورهم ، فيجري الأمر على حسب ذلك . انتهى . قيل : ويحق الإسلام بكلماته ، أي بما أنزل من القرآن . وتقدم الكلام في شرائط التوبة ، يقال : قبلت منه الشيء بمعنى : أخذته منه ، لقوله :{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ } ،أي تؤخذ ، أي جعلته مبدأ قبولي ومنشأه ، وقبلته عنه : عزلته عنه وأبنته ، فمعنى { عَنْ عِبَادِهِ } : أي يزيل الرجوع عن المعاصي .{ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ } ، قال الزمخشري : عن السيئآت إذا تيب عنها ، وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر . انتهى ، وهو على طريقة الأعتزال . إن الكبائر لا يعفى عنها إلا بالتوبة ، { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } ، فيثيت ويعاقب . وقرأ الجمهور : ما يفعلون بياء الغيبة ؛ وعبد اللّه ، وعلقمة ، والإخوان ، وحفص : بتاء الخطاب . والظاهر أن الذين فاعل ، { وَيَسْتَجِيبُ } : أي ويجيب ، { الَّذِينَ كَفَرُواْ } لربهم ، كما قال :{ مُّعْرِضُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّه وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } ، فيكون يستجيب بمعنى يجيب ، أو يبقى على بابه من الطلب ، أي يستدعي الذين آمنوا الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحة . وقال سعيد بن جبير : هذا في فعلهم إذا دعاهم . وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل : ما بالنا ندعو فلا نجاب ؟ قال : لأنه دعاكم فلم تجيبوه ، ثم قرأ :{ وَاللّه يَدْعُواْ إِلَى دَارُ السَّلَامِ} ٢٦انظر تسفير الآية:٣٦ ٢٧انظر تسفير الآية:٣٦ ٢٨انظر تسفير الآية:٣٦ ٢٩انظر تسفير الآية:٣٦ ٣٠انظر تسفير الآية:٣٦ ٣١انظر تسفير الآية:٣٦ ٣٢انظر تسفير الآية:٣٦ ٣٣انظر تسفير الآية:٣٦ ٣٤انظر تسفير الآية:٣٦ ٣٥انظر تسفير الآية:٣٦ ٣٦{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامَنُواْ } ، قال الزجاج : الذين مفعول ، واستجاب وأجاب بمعنى واحد ، فالمعنى : ويجيب اللّه الذين آمنوا ، أي للذين ، كما قال : فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي : لم يجبه . وروي هذا المعنى عن معاذ ابن جبل وابن عباس .{ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } : أي على الثواب تفضلاً . وفي الحديث : { قبول الشفاعات في المؤمنين والرضوان} . وقال خباب بن الارت : نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها ، فنزلت :{ وَلَوْ بَسَطَ اللّه الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ} وقال عمرو بن حريث : طلب قوم من أهل الصفة من الرسول عليه السلام أن يغنيهم اللّه ويبسط لهم الأموال والأرزاق ، فنزلت . أعلم أن الرزق لو جاء على اقتراح البشر ، لكان سبب بغيهم وإفسادهم ، ولكنه تعالى أعلم بالمصلحة . فرب إنسان لا يصلح ولا يكتفي شره إلا بالفقر ، وآخر بالغنى . وفي هذا المعنى والتقسيم حديث رواه أنس وقال : { اللّهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى ، فلا تفقرني} . ولبغوا ، إما من البذخ والكبر ، أي لتكبروا في الأرض ، ففعلوا ما يتبع الكبر مع الغنى . ألا ترى إلى حال قارون ؟ وفي الحديث : { أخوف ما يخاف على أمتي زهرة الدنيا } ، وقال الشاعر : وقد جعلوا الوسمي ينبت بيننا وبين بني رومان نبعاً وشوحطا يعني : أنهم أحبوا ، فجذبوا أنفسهم بالبغي والفتن . { وَلَاكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء } ، يقال : قدر بالسكون وبالفتح ، أي : يقدر لهم ما هو أصلح لهم . وقرأ الجمهور :{ قَنَطُواْ } ، بفتح النون ؛ والأعمش ، وابن وثاب : بكسرها ، { وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } : يظهرها من آثار الغيث من المنافع والخصب ، والظاهر أن رحمته نشرها أعم مما في الغيث . وقال السدي : رحمته : الغيث ، وعدد النعمة بعينها بلفظين . وقيل : الرحمة هنا ظهور الشمس ، لأن إذا دام المطر سئم ، فتجيء الشمس بعده عظمية الموقع ، ذكره المهدوي . { وَهُوَ الْوَلِىُّ } : الذي يتولى عباده ، { الْحَمِيدِ } : المحمود على ما أسدى من نعمائه وما بث . الظاهر أنه مجرور عطفاً على السموات والأرض . ويجوز أن يكون مرفوعاً ، عطفاً على خلق ، على حذف مضاف ، أي وخلق ما بث . وفيهما يجوز أن يكون مما نسب فيه دابة إلى المجموع المذكور ، وإن كان ملتبساً ببعضه . كما يقال : بنو فلان صنعوا كذا ، وإنما صنعه واحد منهم ، ومنه يخرج منهما ، وإنما يخرج من الملح ، أو يكون من الملائكة . بعض يشمي مع الطيران ، فيوصف بالدبيب كما يوصف به الأناسي ، أو يكون قد خلق السموات حيوانا يمشي مع مشي الإناس على الأرض ، أو يريد الحيوان الذي يكون في السحاب . وقد يقع أحياناً ، كالضفادع والسحاب داخل في اسم السماء . وقال مجاهد :{ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ } : هم الناس والملائكة . وقال أبو علي : هو على حذف مضاف ، أي وما بث في أحدهما . وقرأ الجمهور : فيهما بالفاء ، وكذا هي في معظم المصاحف . واحتمل ما أن تكون شرطية ، وهو الأظهر ، وأن تكون موصولة ، والفاء تدخل في خبر الموصول إذا أجري مجرى الشرط بشرائط ذكرت في النحو ، وهي موجودة . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر في رواية ، وشيبة : بما بغير فاء ، فما موصولة ، ولا يجوز أن تكون شرطية ؛ وحذفت الفاء لأن ذلك مما يخصه سيبويه بالشعر ، وأجازت ذلك الأخفش وبعض نحاة بغداد وذلك على إرادة الفاء . وترتب ما أصاب من المصائب على كسب الأيدي موجود مع الفاء ودونها هنا ، والمصيبة : الرزايا والمصائب في الدنيا ، وهي مجازاة على ذنوب المرء وتمحيص لخطاياه ، وأنه تعالى يعفو عن كثير ، ولا يجازي عليه بمصيبة . وفي الحديث : { لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر} . وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال ؛ إن أحبه إليّ أحبه إلى اللّه ، وهذا مما كسبت يداي . ورؤي على كف شريح قرحة ، فقيل : بم هذا ؟ فقال : بما كسبت يداي . وقال الزمخشري : الآية مخصوصة بالمجرمين ، ولا يمتنع أن يستوفي اللّه عقاب المجرم ويعفو عن بعض . فأما من لا جرم له ، كالأنبياء والأطفال والمجانين ، فهو كما إذا أصابهم شيء من ألم أو غيره ، فللعوض الموفي والمصلحة وعن علي : هذه أرجى آية للمؤمنين . وقال الحسن :{ مِن مُّصِيبَةٍ } : أي حد من حدود اللّه ، وتلك مصائب تنزل بشخص الإنسان ونفسه ، فإنما هي بكسب أيدى كم .{ ويعفو } اللّه { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } ، فيستره على العباد حتى لا يحد عليه .{ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } : أنتم في قبضة القدرة . وقيل : ليست المصائب من الأسقام والقحط والغرق وغير ذلك بعقوبات على الذنوب لقوله :{ الْيَوْمَ تَجْزِى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } ، ولاشتراك الصالح والطالح فيهما ، بل أكثر ما يبتلي به الصالحون المتقون . وفي الحديث : { خص بالبلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل} . ولأن الدنيا دار التكليف ، فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار الجزاء ، وليس الأمر كذلك . وهذا القول يؤخره نصوص القرآن ، كقوله تعالى :{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } الآية . لما ذكر تعالى من دلائل وحدانيته أنواعاً ، ذكر بعدها العالم الأكبر ، وهو السموات والأرض ؛ ثم العالم الأصغر ، وهو الحيوان . ثم اتبعه بذكر المعاد ، أتبعه بذكر السفن الجارية في البحر ، لما فيها من عظيم دلائل القدرة ، من جهة أن الماء جسم لطيف شفاف يغوص فيه الثقيل ، والسفن تشخص بالأجسام الثقيلة الكثيفة ، ومع ذلك جعل تعالى للماء قوة يحملها بها ويمنع من الغوص . ثم جعل الرياح سبباً لسيرها . فإذا أراد أن ترسو ، أسكن الريح ، فلا تبرح عن مكانها . والجواري : جمع جارية ، وأصله السفن الجواري ، حذف الموصوف وقامت صفته مقامه ، وحسن ذلك قوله :{ فِى الْبَحْرِ } ، فدل ذلك على أنها صفة للسفن ، وإلا فهي صفة غير مختصة ، فكان القياس أن لا يحذف الموصوف ويقوم مقامه . ويمكن أن يقال : إنها صفة غالبة ، كالأبطح ، فجاز أن تلي العوامل بغير ذكر الموصوف . وقرىء : الجواري بالياء ودونها ، وسمع من العرب الأعراب في الراء ، وفي البحر متعلق بالجواري ، وكالأعلام في موضع الحال ، والأعلام : الجبال ، ومنه قول الخنساء أخت صخر ومعاوية : وإن صخراً التأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار ومنه : إذا قطعن علماً بدا علم وقرأ جمهور السبعة :{ الرّيحَ } إفراداً ، ونافع : جمعاً ، وقرأ الجمهور :{ فَيَظْلَلْنَ } بفتح اللام ، وقرأ قتادة : بكسرها ، والقياس الفتح ، لأن الماضي بكسر العين ، فالكسر في المضارع شاذ . وقال الزمخشري : من ظل يظل ويظل ، نحو ضل يضل ويضل . انتهى . وليس كما ذكر ، لأن يضل بفتح العين من ضللت بكسرها في الماضي ، ويضل بكسرها من ضللت بفتحها في الماضي ، وكلاهما مقيس .{ لّكُلّ صَبَّارٍ } على بلائه ، { شَكُورٍ } لنعمائه .{أَوْ يُوبِقْهُنَّ } : يهلكهن ، أي الجواري ، وهو عطف على يسكن ، والضمير في { كَسَبُواْ } عائد على ركاب السفن ، أي بذنوبهم . وقرأ الأعمش : ويعفو بالواو ، وعن أهل المدينة : بنصب الواو ، والجمهور : ويعف مجزوماً عطفاً على يوبقهن . فأما قراءة الأعمش ، فإنه أخبر تعالى أنه يعفو عن كثير ، أي لا يؤاخذ بجميع ما اكتسب الإنسان . وأما النصب ، فبإضمار أن بعد الواو ، وكالنصب بعد الفاء في قراءة من قرأ : يحاسبكم به اللّه فيغفر ، وبعد الواو في قول الشاعر : فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الناس والشهر الحرام ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سنام روي بنصب ونأخذ ورفعه وجزمه . وفي هذه القراءة يكون العطف على مصدر متوهم ، أي يقع إيباق وعفو عن كثير . وأما الجزم فإنه داخل في حكم جواب الشرط ، إذ هو معطوف عليه ، وهو راجع في المعنى إلى قراءة النصب ، لكن هذا عطف فعل على فعل ، وفي النصب عطف مصدر مقدر على مصدر متوهم . وقال القشيري : وقرىء : { وَيَعْفُ } بالجزم ، وفيها إشكال ، لأن المعنى : إن يشأ يسكن الريح ، فتبقى تلك السفن رواكد ، أو يهلكها بذنوب أهلها ، فلا يحسن عطف ويعف على هذه ، لأن المعنى : يعيران شيئاً يعف ، وليس المعنى ذلك ، بل المعنى : الإخبار عن الغيوب عن شرط المشيئة ، فهو إذن عطف على المجزوم من حيث اللفظ ، لا من حيث المعنى . وقد قرأ قوم : ويعفو بالرفع ، وهي جيدة في المعنى . انتهى ، وما قاله ليس بجيد ، إذ لم يفهم مدلول التركيب . والمعنى : أنه تعالى إن يشأ أهلك ناساً وأنجى ناساً على طريق العفو عنهم . وقال الزمخشري : فإن قلت : على م عطف يوبقهن ؟ قلت : على يسكن ، لأن المعنى : إن يشأ يسكن الريح فيركدن ، أو يعصفها فيغرقن بعصفها . انتهى . ولا يتعين أن يكون التقدير : أو يعصفها فيغرقن ، لأن إهلاك السفن لا يتعين أن يكون بعصف الريح ، بل قد يهلكها تعالى بسبب غير الريح ، كنزول سطحها بكثرة الثقل ، أو انكسار اللوح يكون سبباً لإهلاكها ، أو يعرض عدو يهلك أهلها . وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، ونافع ، وابن عامر ، وزيد بن علي :{ وَيَعْلَمَ } بالرفع على القطع . وقرأ الجمهور : ويعلم بالنصب ؛ قال أبو علي وحسن : النصب إذا كان قبله شرط وجزاء ، وكل واحد منهما غير واجب . وقال الزجاج : على إضمار أن ، لأن قبلها جزاء . تقول : ما تصنع أصنع مثله ، وأكرمك ، وإن أشئت ، وأكرمك علي ، وأنا أكرمك ، وإن شئت ، وأكرمك جزماً . قال الزمخشري : فيه نظر ، لما أورده سيبويه في كتابه قال : واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله : إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف ، وهو نحو من قوله : وألحق بالحجاز فاستريحا فهذا لا يجوز ، وليس بحد الكلام ولا وجهه ، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً ، لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل . فلما ضارع الذي لا يوجبه ، كالاستفهام ونحوه ، أجازوا فيه هذا على ضعفه . قال الزمخشري : ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام ولا وجهه ، ولو كانت من هذا الباب ، لما أخلى سيبويه منها كتابه ، وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة . انتهى . وخرج الزمخشري النصب على أنه معطوف على تعليل محذوف ، قال تقديره :{ عَن كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ } ، يكره في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ، ومنه قوله تعالى :{ وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ } ، وقوله :{ خَلَقَ اللّه السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ } ،{ يَتَأَخَّرَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} انتهى . ويبعد تقديره لينتقم منها ، لأنه ترتب على الشرط إهلاك قوم ، فلا يحسن لينتقم منهم . وأما الآيتان فيمكن أن تكون اللام متعلقة بفعل محذوف ، أي { وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ } ،{ يَتَأَخَّرَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} فعلنا ذلك ، وكثيراً ما يقدر هذا الفعل محذوفاً قبل لام العلة ، إذا لم يكن فعل ظاهر يتعلق به . وذكر الزمخشري أن قوله تعالى :{ وَيَعْلَمَ } قرىء بالجزم ، فإن قلت : فكيف يصح المعنى على جزم ويعلم ؟ قلت : كأنه قال : أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور : هلاك قوم ، ونجاة قوم ، وتحذير آخرين ، لأن قوله :{ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِىءايَاتِنَا مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ } يتضمن تحذيرهم من عقاب اللّه، { وَمَا لَهُم مّنَ مَّحِيصٍ } في موضع نصب ، لأن يعلم معلقة ، كقولك : علمت ما زيد قائم . وقال ابن عطية في قراءة النصب ، وهذه الواو ونحوها التي تسميها الكوفيون واو الصرف ، لأن حقيقة واو الصرف التي يريدونها عطف فعل على اسم مقدر ، فيقدر أن ليكون مع الفعل بتأويل المصدر ، فيحسن عطفه على الاسم . انتهى . وليس قوله تعليلاً لقولهم واو الصرف ، إنما هو تقرير لمذهب البصريين . وأما الكوفيون فإن واو الصرف ناصبة بنفسها ، لا بإضمار أن بعدها . وقال أبو عبيد على الصرف كالذي في آل عمران :{ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } ، ومعنى الصرف أنه كان على جهة ، فصرف إلى غيرها ، فتغير الإعراب لأجل الصرف . والعطف لا يعين الاقتران في الوجود ، كالعطف في الأسم ، نحو : جاء زيد وعمرو . ولو نصب وعمرو اقتضى الاقتران ؛ وكذلك واو الصرف ، ليفيد معنى الاقتران ويعين معنى الاجتماع ، ولذلك أجمع على النصب في قوله :{ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } ،أي ويعلم المجاهدين والصابرين معاً . عن عليّ ، رضي اللّه عنه ، اجتمع لأبي بكر رضي اللّه عنه مال ، فتصدق به كله في سبيل اللّه والخير ، فلامه المسلمون وخطأه الكافرون ، فنزلت :{ فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شَىْء } ، والظاهر أنه خطاب للناس . وقيل : للمشركين ، وما شرطية مفعول ثان لأوتيتم ، ومن شيء بيان لما ، والمعنى : من شيء من رياش الدنيا ومالها والسعة فيها ، والفاء جواب الشرط ، أي فهو متاع ، أي يستمتع في الحياة .{ وَمَا عِندَ اللّه } : أي من ثوابه وما أعد لأوليائه ، { خَيْرٌ وَأَبْقَى } مما أوتيتم ، لأنه لا انقطاع له . وتقدم الكلام في الكبائر في قوله :{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } ، في النساء . وقرأ الجمهور :{ كَبَائِرَ } جمعاً هنا ، وفي النجم ، وحمزة ، والكسائي : بالإفراد . ٣٧{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ } : عطف على { الَّذِينَ كَفَرُواْ } ، وكذلك ما بعده . ووقع لأبي البقاء وهم في التلاوة ، اعتقد أنها الذين يجتنبون بغير واو ، فبنى عليه الإعراب فقال : الذين يجتنبون في موضع جر بدلاً من الذين آمنوا ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بإضمار ، أعني : وفي موضع رفع على تقديرهم . انتهى . والعامل في إذا يغفرون ، وهي جملة من مبتدأ وخبر معطوف على يجتنبون ، ويجوز أن يكون هم توكيداً للفاعل في غضبوا . وقال أبو البقاء : هم مبتدأ ، ويغفرون الخبر ، والجملة جواب إذا . انتهى ، وهذا لا يجوز ، لأن الجملة لو كانت جواب إذا لكانت بالفاء ، تقول : إذا جاء زيد فعمرو منطلق ، ولا يجوز حذف الفاء إلا إن ورد في شعر . وقيل : هم مرفوع بفعل محذوف يفسره يغفرون ، ولما حذف ، انفصل الضمير ، وهذا القول فيه نظر ، وهو أن جواب إذا يفسر كما يفسر فعل الشرط بعدها ، نحو :{ إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ } ، ولا يبعد جواز ذلك على مذهب سيبويه ، إذ جاء ذلك في أداة الشرط الجازمة ، نحو : إن ينطلق زيد ينطلق ، فزيد عنده فاعل بفعل محذوف يفسره الجواب ، أي ينطلق زيد ، منع ذلك الكسائي والفراء . وقال الزمخشري : هم يغفرون ، أي هم الأخصاء بالغفران ، في حال الغضب لا يغول الغضب أحلامهم ، كماي غول حلوم الناس . والمجيء لهم وإيقاعه مبتدأ ، وإسناد يغفرون إليه لهذه الفائدة . انتهى ، وفيه حض على كسر الغضب . وفي الحديث : { أوصني ، قال : لا تغضب ، قال : زدني ، قال : لا تغضب ، قال : زدني ، قال : لا تغضب} . ٣٨انظر تسفير الآية:٣٩ ٣٩{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمْ } ،قيل : نزلت في الأنصار ، دعاهم اللّه للإيمان به وطاعته فاستجابوا له . وكانوا قبل الإسلام ، وقبل أن يقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، إذا نابهم أمر تشاوروا ، فأثنى اللّه عليهم ، لا ينفردون بأمر حتى يجتمعوا عليه . وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم . انتهى . وفي الشورى اجتماع الكلمة والتحاب والتعاضد على الخير . وقد شاور الرسول عليه السلام فيما يتعلق بمصالح الحروب والصحابة بعده في ذلك ، كمشاورة عمر للّهرمز . وفي الأحكام ، كقتال أهل الردّة ، وميراث الحربي ، وعدد مدمني الخمر ، وغير ذلك . والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور ، على حذف مضاف ، أي وأمرهم ذو شورى بينهم . و { هُمْ يَنتَصِرُونَ } : صلة للذين ، وإذا معمولة لينتصرون ، ولا يجوز أن يكون { هُمْ يَنتَصِرُونَ } جواباً لإذا ، والجملة الشرطية وجوابها صلة لما ذكرناه من لزوم الفاء ، ويجوز هنا أن يكون هم فاعلاً بفعل محذوف على ذلك القول الذي قيل في { هُمْ يَغْفِرُونَ} وقال الحوفي : وإن شئت جعلت هم توكيداً للّهاء والميم ، يعني في أصابهم ، وهو ضمير رفع ، وفي هذا نظر ، وفيه الفصل بين المؤكد والتوكيد بالفاعل ، وهو فعل الظاهر أنه لا يمتنع ، والانتصار : أن يقتصر على ما حده اللّه له ولا يتعدى . وقال النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم ، فتجترىء عليهم الفساق ، ومن انتصر غير متعد فهو مطيع محمود . وقال مقاتل ، وهشام عن عروة : الآية في المجروح ينتصف من الجارح بالقصاص . وقال ابن عباس : تعدى المشركون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى أصحابه ، وأخرجوهم من مكة ، فأذن اللّه لهم بالخروج في الأرض ، ونصرهم على من بغى عليهم . وقال الكيا الطبري : ظاهره أن الانتصار في هذا الموضع أفضل ، ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة للّه ولرسوله وإقامة الصلاة ؟ فهذا على ما ذكره النخعي ، وهذا فيمن تعدى وأصر ، والمأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادماً مقلعاً . وقد قال عقيب هذه الآية { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } الآية ، فيقتضي إباحة الانتصار . وقد عقبه بقوله :{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ } ، وهذا محمول على القرآن عند غير المصر . فأما المصر على البغي ، فالأفضل الانتصار منه بدليل الآية قبلها . وقال ابن بحر : المعنى تناصروا عليه فأزالوه عنهم . وقال أبو بكر بن العربي نحواً من قول الكيا . قال الجمهور : إذا بغى مؤمن على مؤمن ، فلا يجوز له أن ينتصر منه بنفسه ، بل يرفع ذلك إلى الإمام أو نائبه . وقالت فرقة : له ذلك . ٤٠انظر تسفير الآية:٤٣ ٤١انظر تسفير الآية:٤٣ ٤٢انظر تسفير الآية:٤٣ ٤٣{وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } : هذا بيان للانتصار ، أي لا يتعدى فيما يجازي به من بغى عليه . قال ابن أبي نجييج ، والسدي : إذا شتم ، فله أن يرد مثل ما شتم به دون أن يتعدى ، وسمى القصاص سيئة على سبيل المقابلة ، أو لأنها تسوء من اقتص منه ، كما ساءت الحيض . وظاهر قوله : مثلها المماثلة مطلقاً في كل الأحوال ، لا فيما خصه الدليل . والفقهاء أدخلوا التخصيص في صور كثيرة بناء على القياس . قال مجاهد ، والسدي : إذا قال له أخزاك اللّه فليقل أخزاك اللّه ، وإذا قذفه قذفاً يوجب الحد ، بل الحد الذي أمره اللّه به .{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } : أي بينه وبين خصمه بالعفو ، { فَأَجْرُهُ عَلَى اللّه } : عدة مبهمة لا يقاس عظمها ، إذ هي على اللّه .{ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } : أي الخائنين ، وإذا كان لا يحبه وقد ندب إلى العفو عنه ، فالعفو الذي يحبه اللّه أولى أن يعفي عنه ، أو لا يحب الظالمين من تجاوز واعتدى من المجني عليهم ، إذا انتصروا خصوصاً في حالة الحرب والتهاب الحمية ، فربما يظلم وهو لا يشعر . وفي الحديث : { إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له أجر على اللّه فليقم ، قال : فيقوم خلق ، فيقال لهم : ما أجركم على اللّه ؟ فيقولون : نحن عفونا عمن ظلمنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة بإذن اللّه} . واللام في { وَلَمَنِ انتَصَرَ } لام توكيد . قال الحوفي : وفيها معنى القسم . و قال ابن عطية : لام التقاء القسم يعنيان أنها اللام التي يتلقى بها القسم ، فالقسم قبلها محذوف ، ومن شرطية ، وحمل { انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } على لفظ من ، وفأولئك على معنى من ، والفاء جواب الشرط ، وظلمه مصدر مضاف إلى المفعول . قال الزمخشري : ويفسره قراءة من قرأ : بعد ما ظلم ما عليهم من سبيل ، قيل :أي من طريق إلى الحرج ؛ وقيل : من سبيل للمعاقب ، ولا المعاقب والعاتب ، وهذه مبالغة في إباحة الانتصار .{ إِنَّمَا السَّبِيلُ } : أي سبيل الإثم والحرج ، { عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ } : أي يبتذلون بالظلم ، { وَيَبْغُونَ فِى الاْرْضِ } : أي يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون . وقيل : ويظلمون الناس : أي يضعون الأشياء غير مواضعها من القتل وأخذ المال والأذى باليد واللسان . والبغي بغير الحق ، فهو نوع من أنواع الظلم ، خصه بالذكر تنبيهاً على شدته وسوء حال صاحبه . انتهى .{ وَلَمَن صَبَرَ } : أي على الظلم والأذى ، { وَغَفَرَ } ، ولم ينتصر . واللام في ولمن يجوز أن تكون اللام الموطئة القسم المحذوف ، ومن شرطية ، وجواب القسم قوله :{ إِنَّ ذالِكَ } ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه . ويجوز أن تكون اللام لام الابتداء ، ومن موصولة مبتدأ ، والجملة المؤكدة بأن في موضع الخبر . وقال الحوفي : من رفع بالابتداء وأضمر الخبر ، وجواب الشرط إن وما تعلقت به على حذف الفاء ، كما قال الشاعر : من يفعل الحسنات اللّه يشكرها أي : فاللّه يشكرها . انتهى ، وهذا ليس بجيد ، لأن حذف الفاء مخصوص بالشعر عند سيبويه . والإشارة بذلك إلى ما يفهم من مصدر صبر وغفر والعائد على الموصول المبتدأ من الخبر محذوف ، أي إن ذلك منه لدلالة المعنى عليه : { لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ } ، إن كان ذلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله :{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ } ، لم يكن في عزم الأمور حذف ، وإن كان ذلك إشارة إلى المبتدأ ، كان هو الرابط ، ولا يحتاج إلى تقدير منه ، وكان في { عَزْمِ الاْمُورِ } ،أي أنه لمن ذوي عزم الأمور . وسب رجل آخر في مجلس الحسن ، فكان المسبوب يكظم ويعرق ويمسح العرق ، ثم قام فتلا الآية ، فقال الحسن : عقلها واللّه وفهمها ، لم هذه ضيعها الجاهلون . والجملة من قوله :{ إِنَّمَا السَّبِيلُ } اعتراض بين قوله :{ وَلَمَنِ انتَصَرَ } ، وقوله :{ وَمِنْ صَبَرَ} ٤٤انظر تسفير الآية:٥١ ٤٥انظر تسفير الآية:٥١ ٤٦انظر تسفير الآية:٥١ ٤٧انظر تسفير الآية:٥١ ٤٨انظر تسفير الآية:٥١ ٤٩انظر تسفير الآية:٥١ ٥٠انظر تسفير الآية:٥١ ٥١{وَمَن يُضْلِلِ اللّه فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ } : أي من ناصر يتولاه من بعده ، أي من بعد إضلاله ، وهذا تحقير لأمر الكفرة .{ وَتَرَى الظَّالِمِينَ } : الخطاب للرسول ، والمعنى : وترى حالهم وما هم فيه من الحيرة ، { لَمَّا رَأَوُاْ اْلَعَذَابَ } ، يقولون :{ هَلْ إِلَى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ } : هل سبيل إلى الردّ للدنيا ؟ وذلك من فظيع ما اطلعوا عليه ، وسوء ما يحل بهم .{ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } : أي على النار ، دل عليها ذكر العذاب ، { خاشِعِينَ } متضائلين صاغرين مما يحلقهم ، { مَّنَ الذُّلّ وِقْراً سَبِيلاً وَقُلِ الْحَمْدُ للّه الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذُّلّ } متعلق { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ} قال ابن عباس : ذليل . انتهى . قيل : ووصف بالخفاء لأن نظرهم ضعيف ولحظهم نهاية ، قال الشاعر : فغض الطرف إنك من نمير وقيل : يحشرون عمياً . ولما كان نظرهم بعيون قلوبهم ، جعله طرفاً خفياً ، أي لا يبدو نظرهم ، وهذا التأويل فيه تكلف . وقال السدي ، وقتادة : المعنى يسارقون النظر لما كانوا فيه من الهمّ وسوء الحال ، لا يستطيعون النظر بجميع العين ، وإنما ينظرون من بعضها ، فيجوز على هذا التأويل أن يكون الطرف مصدراً ، أي من نظر خفي . وقال الزمخشري :{ مِن طَرْفٍ خَفِىّ } ،أي يبتدىء نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفي بمسارقة ، كما ترى المصور ينظر إلى السيف ، وهكذا نظر الناظر إلى المكاره ، ولا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينه منها ، كما يفعل في نظره إلى المتحاب . {وَقَالَ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مّن دُونِ اللّه وَمَن يُضْلِلِ اللّه فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ اسْتَجِيبُواْ لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللّه مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِير } سقط : الآية كاملة { ٍ} {سقط : لتهدي إلى صراط مستقيم ، صراط اللّه الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلا اللّه تصير الأمور} الظاهر أن { وَقَالَ } ماض لفظاً ومعنى ، أي { وَقَالَ الَّذِينَ ءامَنُواْ } في الحياة الدنيا ، ويكون يوم القيامة معمولاً لخسروا ، ويحتمل أن يكون معنى { وَقَالَ } : ويقول ، ويوم القيامة معمول لو يقولوا ، أي ويقولوا في ذلك اليوم لما عاينوا ما حل بالكفار وأهليهم . الظاهر أنهم الذين كانوا أهليهم في الدنيا ، فإن كانوا معهم في النار فقد خسروهم ، أي لا ينتفعون بهم ؛ وإن كانوا في الجنة لكونهم كانوا في الجنة لكونهم كانوا مؤمنين ، كآسية امرأة فرعون ، فهم لا ينتفعون بهم أيضاً . وقيل : أهلوهم ما كان أعد لهم من الحور لو كانوا آمنوا ، والظاهر أن قوله :{ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ } من كلام المؤمنين ؛ وقيل : استئناف إخبار من اللّه تعالى . {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ } ،قيل : هو يوم ورود الموت ، والظاهر أنه يوم القيامة . و { مِنَ اللّه } متعلق بمحذوف يدل عليه ما مر ، أي لا يرد ذلك اليوم من ما حكم اللّه به فيه . وقال الزمخشري :{ مِنَ اللّه } : من صلة للأمرد . انتهى ، وليس الجيد ، إذ لو كان من صلته لكان معمولاً له ، فكان يكون معرباً منوناً . وقيل :{ مِنَ اللّه } يتعلق بقوله :{ يَأْتِىَ } ، من قبل أن يأتي من اللّه يوم لا يقدر أحد على رده .{ مَالَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ } تلجأون إليه ، فتتخلصون من العذاب ، ومالكم من إنكار شيء من أعمالكم التي توردكم النار ، والنكير مصدر أنكر على غير قياس . قيل : ويحتمل أن يكون اسم فاعل للمبالغة ، وفيه بعد ، لأن نكر معناه لم يميز .{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ } الآية : تسلية للرسول وتأنيس له ، وإزالة لهمه بهم . والإنسان : يراد به الجنس ، ولذلك جاء :{ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} وجاء جواب الشرط { فَإِنَّ الإنسَانَ } ولم يأت فإنه ، ولا فأنهم ، ليدل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم ، كما قال :{ إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } ،{ إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ} ولما ذكر أنه يكفر النعم ، أتبع ذلك بأن له ملك العالم العلوي والسفلي ، وأنه يفعل ما يريد ، ونبه على عظيم قدرته ، وأن الكائنات ناشئة عن إرادته ، فذكر أنه يهب لبعض إناثاً ، ولبعض ذكوراً ، ولبعض الصنفين ، ويعقم بعضاً فلا يولد له . وقال إسحاق بن بشر : نزلت هذه الآية في الأنبياء ، ثم عمت . فلوط أبو بنات لم يولد له ذكور ، وإبراهيم ضده ، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم وعليهما ولد له الصنفان ، ويحي عقيم . انتهى . وذكر أيضاً مع لوط شعيب ، ومع يحي عيسى ، وقدم تعالى هبة البنات تأنيساً لهن وتشريفاً لهن ، ليهتم بصونهن والإحسان إليهن . وفي الحديث : { من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له ستراً من النار} . وقال واثلة بن الأسقع : من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر ، لأن اللّه تعالى بدأ بالإناث . وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قدم الإناث على الذكور مع تقدمهم عليهن ، ثم رجع فقدمهم ؟ ولم عرف الذكور بعد ما نكر الإناث ؟ قلت : لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى . وكفران الإنسان : نسيانه الرحمة السابقة عنده . ثم ذكره بذكر ملكه ومشيئته ، وذكر قسمة الأولاد ، فقدم الإناث ، لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه ، لا ما يشاء الإنسان ، فكان ذكر الإناث اللائي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم ، والأهم أوجب التقديم . والبلاء : الجنس الذي كانت العرب تعده بلاء ، ذكر البلاء وآخر الذكور . فلما أخرهم لذلك تدارك تأخيره ، وهم أحق بالتقديم بتعريفهم ، لأن التعريف تنويه وتشهير ، كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفريقين ، الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم . ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حظه من التقديم والتأخير ، وعرفان تقديمهن لم يكن لتقدمهن ، ولكن لمقتضى آخر فقال :{ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } ، كما قال :{ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى } ،{ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى} انتهى . وقيل : بدأ بالأنثى ثم ثنى بالذكر ، لتنقله من الغم إلى الفرح . وقيل : ليعلم أنه لا اعتراض على اللّه فيرضى . فإذا وهب له الذكر ، علم أنه زيادة وفضل من اللّه وإحسان إليه . وقيل : قدمها تنبيهاً على أنه إذا كان العجز والحاجة لهم ، كانت عناية اللّه أكثر . وقال مجاهد : هو أن تلد المرأة غلاماً ، ثم تلد جارية . وقال محمد بن الحنيفة : أن تلد توأماً ، غلاماً وجارية . وقال أبو بكر بن العربي : أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً . قال علماؤنا : يعني آدم ، كانت حواء تلد له في كل بطن توأمين ، ذكراً وأنثى ؛ تزوج ذكر هذا البطن أنثى البطن الآخر . انتهى . ولما ذكر الهبة في الإناث ، والهبة في الذكور ، اكتفى عن ذكرها في قوله :{أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} ولما كان العقم ليس بمحمود قال :{ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً } ، وهو قسيم لمن يولد له . ولما كانت الخنثى مما يحزن بوجوده ، لم يذكره تعالى . قالوا : وكانت الخلقة مستمرة ، ذكراً وأنثى ، إلى أن وقع في الجاهلية الأولى الخنثى ، فسئل فارض العرب ومعمرها عامر بن الظرب عن ميراثه ، فلم يدر ما يقوله وأرجأهم . فلما جن عليه الليل ، جعل يتقلب وتذهب به الأفكار ، وأنكرت خادمه حاله فسألته ، فقال : بهرت لأمر لا أدري ما أقول فيه ، فقالت له : ما هو ؟ فقال : شخص له ذكر وفرج ، كيف يكون حاله في الميراث ؟ قالت له الأمة : ورثه من حيث يبول ، فعقلها وأصبح فعرضها عليهم ، فرضوا بها . وجاء الإسلام على ذلك ، وقضى بذلك علي ، كرم اللّه وجهه ، إنه عليم بمصالح العباد ، قدير على تكوين ما يشاء . كان من الكفار خوض في معنى تكليم اللّه موسى ، فذهبت قريش واليهود في ذلك إلى التجسيم ، فنزلت . وقيل : كانت قريش تقول : ألا تكلم اللّه وتنظر إليه إن كنت نبياً صادقاً ، كما كلمه موسى ونظر إليه ؟ فقال لهم الرسول عليه السلام : { لم ينظر موسى إلى اللّه } ، فنزلت : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللّه } ، بياناً لصورة تكليم اللّه عباده أي ما ينبغي ولا يمكن لبشر إلا يوحى إليه أحد وجوه الوحي من الإلهام . قال مجاهد : أو النفث في القلب . وقال النقاش : أو وحي في المنام . وقال النخعي : كان في الأنبياء من يخط له في الأرض ، أو بأن يسمعه كلامه دون أن يعرف هو للمتكلم جهة ولا حيزاً ، كموسى عليه السلام ، وهذا معنى { مِن وَرَاء حِجَابٍ } : أي من خفاء عن المتكلم ، لا يحده ولا يتصور بذهنه عليه ، وليس كالحجاب في المشاهد ، أو بأن يرسل إليه ملكاً يشافهه بوحى اللّه تعالى ، قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : وما صح لأحد من البشر أن يكلمه اللّه إلا على ثلاثة أوجه : إما على طريق الوحي ، وهو الإلهام والقذف في القلب والمنام ، كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده . وعن مجاهد : أوحى اللّه الزبور إلى داود عليه السلام في صدره ، قال عبيد بن الأبرص : وأوحى إلى اللّه أن قد تأمروا بابن أبي أوفى فقمت على رجل أي : ألهمنى وقذف في قلبي . وإما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه ، لأنه في ذاته غير مرئي . وقوله :{ مِن وَرَاء حِجَابٍ } مثل ، أي : كما يكلم الملك المحتجب بعض خواصه ، وهو من وراء حجاب ، فيسمع صوته ولا يرى شخصه ، وذلك كما كلم اللّه موسى ويكلم الملائكة . وإما على أن يرسل إليه رسولاً من الملائكة فيوحي الملك إليه ، كما كلم الأنبياء غير موسى . انتهى ، وهو على طريق المعتزلة في استحالة رؤية اللّه تعالى ونفي الكلام الحقيقي عن اللّه . وكل هذه الأقسام الثلاثة يصدق عليها أنها وحي ، وخص الأول باسم الوحي هنا ، لأن ما يقع في القلب على سبيل الإلهام يقع دفعة واحدة ، فكان تخصيص لفظ الوحي به أولى . وقيل :{ وَحْياً } كما أوحى إلى الرسل بواسطة الملائكة ، أو { يُرْسِلَ رَسُولاً } : أي نبياً ، كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم ، حكاه الزمخشري ، وترك تفسير {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } ، ومعناه في هذا القول : كما كلم محمداً وموسى صلى اللّه عليه وسلم. وقرأ الجمهور :{ حِجَابٍ } ، مفرداً ؛ وابن أبي عبلة : حجب جمعاً . وقرأ الجمهور : بنصب الفعلين عطف ، أو يرسل على المضمر الذي يتعلق به من وراء حجاب تقديره : أو يكلمه من وراء حجاب ، وهذا المضمر معطوف على وحياً ، والمعنى : إلا بوحي أو سماع من وراء حجاب ، أو إرسال رسول فيوحي ذلك الرسول إلى النبي الذي أرسل عنه بإذن اللّه ما يشاء ، ولا يجوز أن يعطف {أَوْ يُرْسِلَ } على { أَن يُكَلّمَهُ اللّه } لفساد المعنى . وقال الزمخشري : ووحياً ، وأن يرسل ، مصدران واقعان موقع الحال ، لأن أن يرسل في معنى إرسالاً ، ومن وراء حجاب ظرف واقع موقع الحال أيضاً ، كقوله :{ وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } ، والتقدير : وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب ، أو مرسلاً . انتهى . أما وقوع المصدر موقع الحال ، فلا ينقاس ، وإنما قالته العرب . وكذلك لا يجوز : جاء زيد بكاء ، تريد باكياً ، وقاس منه المبرد ما كان منه نوعاً للفعل ، نحو : جاء زيد مشياً أو سرعة ، ومنع سيبويه أن يقع أن والفعل المقدر بالمصدر موقع الحال ، فلا يجوز ، نحو : جاء زيد أن يضحك في معنى ضحكا الواقع موقع ضاحكاً ، فجعله وحياً مصدراً في موضع الحال مما لا ينقاس ، وأن يرسل في معنى إرسالاً الواقع موقع مرسلاً ممنوع بنص سيبويه . وقرأ نافع وأهل المدينة : أو يرسل رسولاً فيوحي بالرفع فيهما ، فخرج على إضمار هو يرسل ، أو على ما يتعلق به من وراء ، إذ تقديره : أو يسمع من وراء حجاب ، ووحياً مصدر في موضع الحال ، عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه ، أو يرسل والتقدير : إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب ، أو مرسلاً ، وإسناد التكلم إلى اللّه بكونه أرسل رسولاً مجاز ، كما تقول : نادى الملك في الناس بكذا ، وإنما نادى الريح ، الدائر في الأسواق ، نزل ما كان بواسطة منزلة ما كان بغير واسطة . قال ابن عطية : وفي هذه الآية دليل على أن الرسالة من أنواع التكلم ، وأن الحالف الرسل ، كانت إذا حلف أن لا يكلم إنساناً فأرسل إليه ، وهو لم ينو المشافهة وقت يمينه . انتهى .{ إِنَّهُ عَلِىٌّ } : أي عليٌّ عن صفات المخلوقين ، { حَكِيمٌ } : تجري أفعاله على ما تقتضيه الحكمة ، يكلم بواسطة وبغير واسطة . ٥٢انظر تسفير الآية:٥٣ ٥٣{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا } : أي مثل ذلك الإيحاء الفصل أوحينا إليك ، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث : النفث في الروع ، والمنام ، وتكليم اللّه له حقيقة ليلة الإسراء ، وإرسال رسول إليه ، وهو جبريل . وقيل : كما أوحينا إلى الأنبياء قبلك ، { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا} قال ابن عباس : النبوة . وقال السدي : الوحي ؛ وقال قتادة : رحمة ؛ وقال الكلبي : كتاباً ؛ وقال الربيع : جبريل ؛ وقيل : القرآن ؛ وسمى ما أوحى إليه روحاً ، لأن به الحياة من الجهل . وقال مالك بن دينار : يا أهل القرآن ، ماذا زرع القرآن في قلوبكم ؟ فإن القرآن ربيع القلوب ، كما أن العشب ربيع الأرض .{ مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ } : توقيف على عظم المنة ، وهو صلى اللّه عليه وسلم أعلم الناس بها ، وعطف ولا الإيمان على ما الكتاب ، وإنما معناه : الإيمان الذي يدركه السمع ، لأن لنا أشياء من الإيمان لا تعلم إلا بالوحي . أما توحيد اللّه وبراءته عن النقائص ، ومعرفة صفاته العلا ، فجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عالمون ذلك ، معصومون أن يقع منهم زلل في شيء من ذلك ، سابق لهم علم ذلك قبل أن يوحي إليهم . وقد أطلق الإيمان على الصلاة في قوله :{ وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } ، إذ هي بعض ما يتناوله الإيمان . ومن طالع سير الأنبياء من نشأتهم إلى مبعثهم ، تحقق عنده أنهم معصومون من كل نقيصة ، موحدون للّه منذ نشؤوا . قال اللّه تعالى في حق يحي عليه السلام :{ وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} قال معمر : كان ابن سنتين أو ثلاث . وعن أبي العالية : ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن ، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان . وقال القاضي :{ وَلاَ الإِيمَانُ } : الفرائض والأحكام . قال : وكان قبل مؤمناً بتوحيد اللّه ، ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل ، فزاد بالتكليف إيماناً . وقال القشيري : يجوز إطلاق الإيمان على تفاصيل الشرع . وقال الحسين بن الفضل : هو على حذف مضاف ، أي ولا أهل الإيمان من الذي يؤمن أبو طالب أو العباس أو غيرهما . وقال علي بن عيسى : إذ كنت في المهد . وقيل : ما الكتاب لولا إنعامنا عليك ، ولا الإيمان لولا هدايتنا لك . وقيل : أي كنت من قوم أميين لا يعرفون الإيمان ولا الكتاب ، فتكون أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم . ما الكتاب : جملة استفهامية مبتدأ وخبر ، وهي في موضع نصب بتدري ، وهي معلقة . {وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً } : يحتمل أن يعود إلى قوله :{ رُوحاً } ، وإلى { كِتَابٌ } ، وإلى { الاْيْمَانَ } ، وهو أقرب مذكور . و قال ابن عطية : عائد على الكتاب . انتهى . وقيل : يعود إلى الكتاب والإيمان معاً لأن مقصدهما واحد ، فهو نظير :{ وَاللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} وقرأ الجمهور :{ لَتَهْدِى } ، مضارع هدى مبنياً للفاعل ؛ وحوشب : مبنياً للمفعول ، إجابة سؤاله عليه الصلاة والسلام :{ اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وقرأ ابن السميقع : لتهدي بضم التاء وكسر الدال ؛ وعن الجحدري مثلها ومثل قراءة حوشب .{ صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، قال علي : هو القرآن ؛ وقيل : الإسلام .{ أَلاَ إِلَى اللّه تَصِيرُ الاْمُورُ } : أخبر بالمضارع ، والمراد به الديمومة ، كقوله : زيد يعطي ويمنع ، أي من شأنه ذلك ، ولا يراد به حقيقة المستقبل ، أي ترد جميع أمور الخلق إليه تعالى يوم القيامة فيقضي بينهم بالعدل ، وخص ذلك بيوم القيامة ، لأنه لا يمكن لأحد أن يدعي فيه لنفسه شيئاً ، قاله الفراء . |
﴿ ٠ ﴾