سورة الجاثيةبسم اللّه الرحمن الرحيم ١هذه السورة مكية ، قال ابن عطية : بلا خلاف ، وذكر الماوردي :{ إِلاَّ قَلِيلٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ } الآية ، فمدنية نزلت في عمر بن الخطاب . قال ابن عباس ، وقتادة ، وقال النحاس ، والمهدوي ، عن ابن عباس : نزلت في عمر : شتمه مشرك بمكة قبل الهجرة ، فأراد أن يبطش به ، فنزلت . ومناسبة أولها لآخر ما قبلها في غاية الوضوح . قال :{ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ } ، وقال :{ حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ } ، ٢تنزيل الكتاب من . . . . . وتقدم الكلام على { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّه الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } ، أول الزمر . وقال أبو عبد اللّه الرازي : وقوله : { العَزِيزُ الحَكِيمُ } ، يجوز جعله صفة للّه ، فيكون ذلك حقيقة ؛{ وَأَنْ جَعَلْنَاهُ } صفة للكتاب ، كان ذلك مجازاً ؛ والحقيقة أولى من المجاز ، مع أن زيادة القرب توجب الرجحان . انتهى . وهذا الذي ردّد في قوله :{ وَأَنْ جَعَلْنَاهُ } صفة للكتاب لا يجوز . لو كان صفة للكتاب لوليه ، فكان يكون التركيب : تنزيل الكتاب العزيز الحكيم من اللّه ، لأن من اللّه ، إما أن يكون متعلقاً بتنزيل ، وتنزيل خبر لحم ، أو لمبتدأ محذوف ، فلا يجوز الفصل به بين الصفة والموصوف ، لا يجوز أعجبني ضرب زيد سوط الفاضل ؛ أو في موضع الخبر ، وتنزيل مبتدأ ، فلا يجوز الفصل بين الصفة والموصوف أيضاً ، لا يجوز ضرب زيد شديد الفاضل ، والتركيب الصحيح في نحو هذا أن يلي الصفة موصوفها . ٣انظر تفسير الآية:٤ ٤إن في السماوات . . . . . {إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } ، احتمل أن يريد : في خلق السموات ، كقوله :{ وَفِى خَلْقِكُمْ } ، والظاهر أنه لا يراد التخصيص بالخلق ، بل في السموات والأرض على الإطلاق والعموم ، أي في أي شيء نظرت منهما من خلق وغيره ، من تسخير وتنوير وغيرهما ، { لاَيَاتٍ } : لم يأت بالآيات مفصلة ، بل أتى بها مجملة ، إحالة على غوامض يثيرها الفكر ويخبر بكثير منها الشرع . وجعلها { لِلْمُؤْمِنِينَ } ، إذ في ضمن الإيمان العقل والتصديق .{ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ } ،أي في غير جنسكم ، وهو معطوف على :{ وَفِى خَلْقِكُمْ} ومن أجاز العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ، أجاز في { وَمَا يَبُثُّ } أن يكون معطوفاً على الضمير { فِى خَلَقَكُمْ } ، وهو مذهب الكوفيين ، ويونس ، والأخفش ؛ وهو الصحيح ، واختاره الأستاذ أبو علي الشلوبين . وقال الزمخشري : يقبح العطف عليه ، وهذا تفريع على مذهب سيبويه وجمهور البصريين ، قال : وكذلك أن أكدوه كرهوا أن يقولوا : مررت بك أنت وزيد . انتهى . وهذا يجيزه الجرمي والزيباري في الكلام ، وقال :{ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } : وهم الذين لهم نظر يؤديهم إلى اليقين . ٥واختلاف الليل والنهار . . . . . {وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } : تقدم الكلام على نظيره في سورة البقرة . وقرأ الجمهور : آيات ، جمعاً بالرفع فيهما ؛ والأعمش ، والجحدري ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب : بالنصب فيهما ؛ وزيد بن علي ؛ برفعهما على التوحيد . وقرأ أبي ، وعبد اللّه : لآيات فيهما ، كالأولى . فأما :{ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تَلْكَ } رفعاً ونصباً ، فاستدل به وشبهه مما جاء في كلام الأخفش ، ومن أخذ بمذهبه على عطف معمولي عاملين بالواو ، وهي مسألة فيها أربعة مذاهب ، ذكرناها في } كتاب التذييل والتكميل لشرح التسهيل} . فأما ما يخص هذه الآية ، فمن نصب آيات بالواو عطفت ، واختلاف على المجرور بفي قبله وهو :{ وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ } ، وعطف آيات على آيات ، ومن رفع فكذلك ، والعاملان أولاهما إن وفي ، وثانيهما الابتداء وفي . وقال الزمخشري : أقيمت الواو مقامهما ، فعملت الجر ، واختلاف الليل والنهار والنصب في آيات ، وإذا رفعت والعاملان الابتداء ، وفي عملت الرفع للواو ليس بصحيح ، لأن الصحيح من المذاهب أن حرف العطف لا يعمل ؛ ومن منع العطف على مذهب الأخفش ، أضمر حرف الجر فقدر . وفي اختلاف ، فالعمل للحرف مضمراً ، ونابت الواو مناب عامل واحد ؛ ويدل على أن في مقدرة قراءة عبد اللّه : وفي اختلاف ، مصرحاً وحسن حذف في تقدمها في قوله :{ وَفِى خَلْقِكُمْ } ؛ وخرج أيضاً النصب في آيات على التوكيد لآيات المتقدمة ، ولإضمار حرف في وقرىء واختلاف بالرفع على خبر مبتدأ محذوف ، أي هي آيات ولإضمار حرف أيضاً . وقرأ : واختلاف الليل والنهار آية بالرفع في اختلاف ، وفي آية موحدة ؛ وكذلك { وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ} وقرأ زيد بن علي ، وطلحة ، وعيسى :{ وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ} وقال الزمخشري : والمعنى أن المنصفين من العباد ، إذا نظروا في السموات والأرض النظر الصحيح ، علموا أنها مصنوعة ، وأنه لا بد لها من صانع ، فآمنوا باللّه وأقروا . فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وهيئة إلى هيئة ، في خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان ، ازدادوا إيماناً وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس . فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدد في كل وقت ، كاختلاف الليل والنهار ، ونزول الأمطار ، وحياة الأرض بها بعد موتها ، وتصريف الرياح جنوباً وشمالاً وقبولاً ودبوراً ، عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم . وقال أبو عبد اللّه الرازي : ذكر في البقرة ثمانية دلائل ، وهنا ستة ؛ لم يذكر الفلك والسحاب ، والسبب في ذلك أن مدار الحركة للفلك والسحاب على الرياح المختلفة ، فذكر الرياح ؛ وهناك جعل مقطع الثمانية واحداً ، وهنا رتبها على مقاطع ثلاثة : يؤمنون ، يوقنون ، يعقلون . قال : وأظن سبب هذا الترتيب : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ، فافهموا هذه الدلائل ؛ فإن لم تكونوا مؤمنين ولا موقنين ، فلا أقل أن تكونوا من العاقلين ، فاجتهدوا . وقال هناك :{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ } ، وهنا :{ فِي السَّمَاوَاتِ } ، فدل على أن الخلق غير المخلوق ، وهو الصحيح عند أصحابنا ، ولا تفارق بين أن يقال : في السموات ، وفي خلق السموات . انتهى ، وفيه تلخيص وتقدم وتأخير . ٦تلك آيات اللّه . . . . . {تِلْكَ آيَاتُ اللّه} : أي تلك الآيات ، وهي الدلائل المذكورة ؛{ نَتْلُوهَا } : أي نسردها عليك ملتبسة بالحق ، ونتلوها في موضع الحال ، أي متلوة . قال الزمخشري : والعامل ما دل عليه تلك من معنى الإشارة ونحوه ، وهذا بعلى شيخاً . انتهى ، وليس نحوه ، لأن في وهذا حرف تنبيه . وقيل : العامل في الحال ما دل عليه حرف التنبيه ، أي تنبه . وأما تلك ، فليس فيها حرف تنبيه عاملاً بما فيه من معنى التنبيه ، لأن الحرف قد يعمل في الحال : تنبه لزيد في حال شيخه وفي حال قيامه . وقيل : العامل في العامل في مثل هذا التركيب فعل محذوف يدل عليه المعنى ، أي انظر إليه في حال شيخه ، فلا يكون اسم الإشارة عاملاً ولا حرف التنبيه ، إن كان هناك . و قال ابن عطية : نتلوها ، فيه حذف مضاف ، أي نتلو شأنها وشرح العبرة بها . ويحتمل أن يريد بآيات اللّه القرآن المنزل في هذه المعاني ، فلا يكون في نتلوها حذف مضاف . انتهى . ونتلوها معناه : يأمر الملك أن نتلوها . وقرىء : يتلوها ، بياء الغيبة ، عائداً على اللّه ؛ وبالحق : بالصدق ، لأن صحتها معلومة بالدلائل العقلية . {فَبِأَىّ حَدِيثٍ } الآية ، فيه تقريع وتوبيخ وتهديد ؛{ بَعْدِ اللّه } : أي بعد حديث اللّه ، وهو كتابه وكلامه ، كقوله :{ اللّه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } ؛ وقال : فبأي حديث بعده يؤمنون } ؛ أي بعد حديث اللّه وكلامه . وقال الضحاك : بعد توحيد اللّه . وقال الزمخشري : بعد اللّه وآياته ، أي بعد آيات اللّه ، كقولهم : أعجبني زيد وكرمه ، يريدون : أعجبني كرم زيد . انتهى . وهذا ليس بشيء ، لأن فيه من حيث المعنى إقحام الأسماء من غير ضرورة ؛ والعطف والمراد غير العطف من إخراجه إلى باب البدل ، لأن تقدير كرم زيد إنما يكون في : أعجبني زيد كرمه ، بغير واو على البدل ؛ وهذا قلب لحقائق النحو . وإنما المعنى في : أعجبني زيد وكرمه ، أن ذات زيد أعجبته ، وأعجبه كرمه ؛ فهما إعجابان لا إعجاب واحد ، وقد رددنا عليه مثل قوله هذا فيما تقدم . وقرأ أبو جعفر ، والأعرج ، وشيبة ، وقتادة ، والحرميان ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية : يؤمنون ، بالياء من تحت ؛ والأعمش ، وباقي السبعة : بتاء الخطاب ؛ وطلحة : توقنون بالتاء من فوق ، والقاف من الإيقان . ؛ أي بعد حديث اللّه وكلامه . وقال الضحاك : بعد توحيد اللّه . وقال الزمخشري : بعد اللّه وآياته ، أي بعد آيات اللّه ، كقولهم : أعجبني زيد وكرمه ، يريدون : أعجبني كرم زيد . انتهى . وهذا ليس بشيء ، لأن فيه من حيث المعنى إقحام الأسماء من غير ضرورة ؛ والعطف والمراد غير العطف من إخراجه إلى باب البدل ، لأن تقدير كرم زيد إنما يكون في : أعجبني زيد كرمه ، بغير واو على البدل ؛ وهذا قلب لحقائق النحو . وإنما المعنى في : أعجبني زيد وكرمه ، أن ذات زيد أعجبته ، وأعجبه كرمه ؛ فهما إعجابان لا إعجاب واحد ، وقد رددنا عليه مثل قوله هذا فيما تقدم . وقرأ أبو جعفر ، والأعرج ، وشيبة ، وقتادة ، والحرميان ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية : يؤمنون ، بالياء من تحت ؛ والأعمش ، وباقي السبعة : بتاء الخطاب ؛ وطلحة : توقنون بالتاء من فوق ، والقاف من الإيقان . ٧انظر تفسير الآية:١١ ٨انظر تفسير الآية:١١ ٩انظر تفسير الآية:١١ ١٠انظر تفسير الآية:١١ ١١ويل لكل أفاك . . . . . {وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } ،قيل : نزلت في أبي جهل ؛ وقيل : في النضير بن الحارث وما كان يشتري من أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن . والآية عامة فيمن كان مضاراً لدين اللّه ؛ وأفاك أثيم ، صفتا مبالغة ؛ وألفاظ هذه الآية تقدم الكلام عليها . وقرأ الجمهور : علم ؛ وقتادة ومطر الوراق : بضم العين وشد اللام ؛ مبنياً للمفعول ، أي عرف . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى : ثم ، في قوله :{ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً } ؟ قلت : كمعناه في قول القائل : يرى غمرات الموت ثم يزورها وذلك بأن غمرات الموت حقيقة بأن ينجو رائبها بنفسه ويطلب الفرار منها ، وأما زيارتها والإقدام على مزاولتها ، فأمر مستبعد . فمعنى ثم : الإيذان بأن فعل المقدم عليها ، بعدما رآها وعاينها ، شيء يستبعد في العادة والطباع ، وكذلك آيات اللّه الواضحة القاطعة بالحق ، من تليت عليه وسمعها ، كان مستبعداً في العقول إصراره على الضلالة عندها واستكباره عن الإيمان بها .{ اتَّخَذَهَا هُزُواً } ، ولم يقل : اتخذه ، إشعاراً بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها اللّه على محمد صلى اللّه عليه وسلم ، خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ، ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه . وقال الزمخشري : ويحتمل { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءايَاتِنَا شَيْئاً } ، يمكن أن يتشبث به المعاند ويجعله محملاً يتسلق به على الطعن والغميزة ، افترضه واتخذ آيات اللّه هزواً وذلك نحو افترص ابن الزبعري قوله عز وجل : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ } ، ومغالطته رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقوله : خصمتك ؛ ويجوز أن يرجع الضمير إلى شيء ، لأنه في معنى الآية كقول أبي العتاهية : نفسي بشيء من الدنيا معلقة اللّه والقائم المهدي يكفيها حيث أراد عتبة . انتهى . وعتبة جارية كان أبو العتاهية يهواها وينتسب بها . والإشارة بأولئك إلى كل أفاك ، لشموله الأفاكين . حمل أولاً على لفظ كل ، وأفرد على المعنى فجمع ، كقوله :{ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}{ مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ } : أي من قدامهم ، والوراء : ما توارى من خلف وأمام .{ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً } من الأموال في متاجرهم ، { وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللّه } من الأوثان .{ هَاذَا } ،أي القرآن ، { هُدًى } ،أي بالغ في الهداية ، كقولك : هذا رجل ، أي كامل في الرجولية . قرأ طلحة ، وابن محيصن ، وأهل مكة ، وابن كثير ، وحفص :{ أَلِيمٌ } ، بالرفع نعتاً لعذاب ؛ والحسن ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وعيسى ، والأعمش ، وباقي السبعة : بالجر نعتاً لرجز . ١٢انظر تفسير الآية:١٣ ١٣اللّه الذي سخر . . . . . {اللّه الَّذِى سَخَّرَ } الآية : آية اعتبار في تسخير هذا المخلوق العظيم ، والسفن الجارية فيه بهذا المخلوق الحقير ، وهو الإنسان .{ بِأَمْرِهِ } : أي بقدرته . أناب الأمر مناب القدرة ، كأنه يأمر السفن أن تجري .{ مِن فَضْلِهِ } بالتجارة وبالغوص على اللؤلؤ والمرجان ، واستخراج اللحم الطري .{ مَا فِي السَّمَاوَاتِ } من الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والهواء ، والأملاك الموكلة بهذا كله .{ وَمَا فِى الاْرْضِ } من البهائم والمياه والجبال والنبات . وقرأ الجمهور :{ مِنْهُ } ، وابن عباس : بكسر الميم وشد النون ونصب التاء على المصدر . قال أبو حاتم : نسبة هذه القراءة إلى ابن عباس ظلم . وحكاها أبو الفتح ، عن ابن عباس ، وعبد اللّه بن عمر ، والجحدري ، وعبد اللّه بن عبيد بن عمير ، وحكاها أيضاً عن هؤلاء الأربعة صاحب اللوامح ، وحكاها ابن خالويه ، عن ابن عباس ، وعبيد بن عمير . وقرأ سلمة بن محارب كذلك ، إلا أنه ضم التاء ، أي هو منه ، وعنه أيضاً فتح الميم وشد النون ، وهاء الكناية عائد على اللّه ، وهو فاعل سخر على الإسناد المجازي ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي ذلك ، أو هو منه . والمعنى ، على قراءة الجمهور : أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة عنده ، إذ هو موجدها بقدرته وحكمته ، ثم سخرها لخلقه . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون يعني منه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هي جميعاً منه ، وأن يكون : وما في الأرض ، مبتدأ ، ومنه خبره . انتهى . ولا يجوز هذان الوجهان إلا على قول الأخفش ، لأن جميعاً إذ ذاك حال ، والعامل فيها معنوي ، وهو الجار والمجرور ؛ فهو نظير : زيد قائماً في الدار ، ولا يجوز على مذهب الجمهور . ١٤انظر تفسير الآية:١٧ ١٥انظر تفسير الآية:١٧ ١٦انظر تفسير الآية:١٧ ١٧قل للذين آمنوا . . . . . {قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ } : نزلت في صدر الإسلام . أمر المؤمنين أن يتجاوزوا عن الكفار ، وأن لا يعاقبوهم بذنب ، بل يصبرون لهم ، قاله السدّي ومحمد بن كعب ، قيل : وهي محكمة ، والأكثر على أنها منسوخة بآية السيف . يغفروا ، في جزمه أوجه للنحاة ، تقدّمت في :{ قُل لّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ } في سورة إبراهيم .{ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللّه } : أي وقائعه بأعدائه ونقمته منهم . وقال مجاهد : وقيل أيام إنعامه ونصره وتنعيمه في الجنة وغير ذلك . وقيل : لا يأملون الأوقات التي وقتها اللّه لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز . قيل : نزلت قبل آية القتال ثم نسخ حكمها . وتقدم قول ابن عباس أنها نزلت في عمر بن الخطاب ؛ قيل : سبه رجل من الكفار ، فهم أن يبطش به ، وقرأ الجمهور : ليجزي اللّه ، وزيد بن عليّ ، وأبو عبد الرحمن ، والأعمش ، وأبو علية ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : بالنون ؛ وشيبة ، وأبو جعفر : بخلاف عنه بالياء مبنياً للمفعول . وقد روي ذلك عن عاصم ، وفيه حجة لمن أجاز بناء الفعل للمفعول ، على أن يقام المجرور ، وهو بما ، وينصب المفعول به الصريح ، وهو قوماً ؛ ونظيره : ضرب بسوط زيداً ؛ ولا يجير ذلك الجمهور . وخرجت هذه القراءة على أن يكون بني الفعل للمصدر ، أي وليجزي الجزاء قوماً . وهذا أيضاً لا يجوز عند الجمهور ، لكن يتأول على أن ينصب بفعل محذوف تقديره يجزى قوماً ، فيكون جملتان ، إحداهما : ليجزي الجزاء قوماً ، والأخرى : يجزيه قوماً ؛ وقوماً هنا يعني به الغافرين ، ونكره على معنى التعظيم لشأنهم ، كأنه قيل : قوماً ، أي قوم من شأنهم التجاوز عن السيئات والصفح عن المؤذيات وتحمل الوحشة . وقيل : هم الذين لا يرجون أيام اللّه ، أي بما كانوا يكسبون من الإثم ، كأنه قيل : لم تكافئوهم أنتم حتى نكافئهم نحن . {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً } كهؤلاء الغافرين ، { وَمَنْ أَسَاء } كهؤلاء الكفار ، وأتى باللام في فلنفسه ، لأن المحاب والحظوظ تستعمل فيها على الدالة على العلو والقهر ، كما تقول : الأمور لزيد متأتية وعلى عمرو مستصعبة . والكتاب : التوراة ، والحكم : القضاء ، وفصل الأمور لأن الملك كان فيهم . قيل : والحكم : الفقه . ويقال : لم يتسع فقه الأحكام على نبي ، كما اتسع على لسان موسى من الطيبات المستلذات الحلال ، وبذلك تتم النعمة ، وذلك المن والسلوى وطيبات الشام ، إذ هي الأرض المباركة . بينات : أي دلائل واضحة من الأمر ، أي من الوحي الذي فصلت به الأمور . وعن ابن عباس : من الأمر ، أي من أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب . وقيل معجزات موسى .{ فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } : تقدم تفسيره في الشورى . ١٨انظر تفسير الآية:٢٢ ١٩انظر تفسير الآية:٢٢ ٢٠انظر تفسير الآية:٢٢ ٢١انظر تفسير الآية:٢٢ ٢٢ثم جعلناك على . . . . . لما ذكر تعالى إنعامه على بني إسرائيل واختلافهم بعد ذلك ، ذكر حال نبيه عليه الصلاة والسلام وما منّ به عليه من اصطفائه فقال : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مّنَ الاْمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء} قال قتادة : الشريعة : الأمر ، والنهي ، والحدود ، والفرائض . وقال مقاتل : البينة ، لأنها طريق إلى الحق . وقال الكلبي : السنة ، لأنه كان يستن بطريقة من قبله من الأنبياء . وقال ابن زيد : الدّين ، لأنه طريق إلى النجاة . والشريعة في كلام العرب : الموضع الذي يرد فيه الناس في الأنهار والمياه ، ومنه قول الشاعر : وفي الشرائع من جيلان مقتص رث الثياب خفي الشخص منسرب فشريعة الدّين من ذلك ، من حيث يرد الناس أمر اللّه ورحمته والقرب منه ، من الأمور التي من دين اللّه الذي بعثه في عباده في الزمان السالف ؛ أو يكون مصدر أمر ، أي من الأمر والنهي ، وسمي النهي أمراً . { أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } ،قيل : جهال قريظة والنضير . وقيل : رؤساء قريش ، حين قالوا : رجع إلى دين آبائك .{ هَاذَا بَصَائِرُ } : أي هذا القرآن ؛ جعل ما نافية من معالم الدين ، بصائر للقلوب ، كما جعل روحاً وحياة . وقرىء : هذى ، أي هذه الآيات .{ أَمْ حَسِبَ } : أم منقطعة تتقدر ببل والهمزة ، وهو استفهام إنكار . وقال الكلبي : نزلت في عليّ ، وحمزة ، وعبيدة بن الحارث ، وفي عتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة . قالوا للمؤمنين : واللّه ما أنتم على شيء ، ولئن كان ما تقولون حقاً ، لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة ؛ كما هو أفضل في الدنيا . واجترحوا : اكتسبوا ، والسيئات : هنا سيئات الكفر ؛ ونجعلهم : نصيرهم ، والمفعول الثاني هو كالذين ، وبه تمام المعنى . وقرأ الجمهور : سواء بالرفع ، ومماتهم بالرفع أيضاً ؛ وأعربوا سواء : مبتدأ ، وخبره ما بعده ، ولا مسوغ لجواز الابتداء به ، بل هو خبر مقدم ، وما بعده المبتدأ . والجملة خبر مستأنف ؛ واحتمل الضمير في { مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } أن يعود على { الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ } ، أخبر أن حالهم في الزمانين سواء ، وأن يعود على المجترحين والصالحين بمعنى : أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء في إهانتهم عند اللّه وعدم كرامتهم عليه ، ويكون اللفظ قد لف هذا المعنى ، وذهن السامع يفرقه ، إذ قد تقدم إبعاد اللّه أن يجعل هؤلاء كهؤلاء . قال أبو الدرداء : يبعث الناس على ما ماتوا عليه . وقال مجاهد : المؤمن يموت مؤمناً ويبعث مؤمناً ، والكافر يموت كافراً ويبعث كافراً . و قال ابن عطية : مقتضى هذا الكلام أنه لفظ الآية ؛ ويظهر لي أن قوله :{ سَوَاء مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } داخل في المحسنة المنكرة السيئة ، وهذا احتمال حسن ، والأول أيضاً أجود . انتهى . ولم يبين كيفية تشبث الجملة بما قبلها حتى يدخل في المحسنة . وقال الزمخشري : والجملة التي هي : سواء محياهم ومماتهم ، بدل من الكاف ، لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً ؛ فكانت في حكم المفرد . ألا تراك لو قلت : أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم كان سديداً ؟ كما تقول : ظننت زيد أبوه منطلق . انتهى . وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري ، من إبدال الجملة من المفرد ، قد أجازه أبو الفتح ، واختاره ابن مالك ، وأورد على ذلك شواهد على زعمه ، ولا يتعين فيها البدل . وقال بعض أصحابنا ، وهو الإمام العالم ضياء الدين أبو عبد اللّه محمد بن عليّ الإشبيلي ، ويعرف بابن العلج ، وكان ممن أقام باليمن وصنف بها ، قال في كتابه { البسيط في النحو} : ولا يصح أن يكون جملة معمولة للأول في موضع البدل ، كما كان في النعت ، لأنها تقدر تقدير المشتق تقدير الجامد ، فيكون بدلاً ، فيجتمع فيه تجوز أن ، ولأن البدل يعمل فيه العامل الأول ، فيصح أن يكون فاعلاً ، والجملة لا تكون في موضع الفاعل بغير سائغ ، لأنها لا تضمر ، فإن كانت غير معمولة ، فهل تكون جملة ؟ لا يبعد عندي جوازها ، كما يتبع في العطف الجملة للجملة ، ولتأكيد الجملة التأكيد اللفظي . انتهى . وتبين من كلام هذا الإمام ، أنه لا يجوز أن تكون الجملة بدلاً من المفرد ، وأما تجويز الزمخشري أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم ، فيظهر لي أنه لا يجوز ؛ لأنها بمعنى التصيير . لا يجوز صيرت زيداً أبوه قائم ، ولا صيرت زيداً غلامه منطلق ، لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات ، أو من وصف في الذات إلى وصف فيها . وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول صيرت المقدرة مفعولاً ثانياً ، ليس فيها انتقال مما ذكرنا ، فلا يجوز والذي يظهر لي أنه إذا قلنا بتشبث الجملة بما قبلها ، أن تكون الجملة في موضع الحال ، والتقدير : أم حسب الكفار أن نصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء محياهم ومماتهم ؟ ليسوا كذلك ، بل هم مفترقون ، أي افتراق في الحالتين ، وتكون هذه الحال مبينة ما انبهم في المثلية الدال عليها الكاف ، التي هي في موضع المفعول الثاني . وقرأ زيد بن علي ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : سواء بالنصب ، وما بعده مرفوع على الفاعلية ، أجرى سواء مجرى مستوياً ، كما قالوا : مررت برجل سواء هو والعدم . وجوز في انتصاب سواء وجهين : أحدهما : أن يكون منصوباً على الحال ، وكالذين المفعول الثاني ، والعكس . وقرأ الأعمش : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالنصب أيضاً ، وخرج على أن يكون محياهم ومماتهم ظرفي زمان ، والعامل ، إما أن نجعلهم ، وإما سواء ، وانتصب على البدل من مفعول نجعلهم ، والمفعول الثاني سواء ، أي أن يجعل محياهم ومماتهم سواء . وقال الزمخشري : ومن قرأ ومماتهم بالنصب ، جعل محياهم ومماتهم ظرفين ، كمقدم الحاج وخفوق النجم ، أي سواء في محياهم وفي مماتهم ، والمعنى : إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً ، وأن يستووا مماتاً ، لافتراق أحوالهم وتمثيله بقوله : وخفوق النجم ليس بجيد ، لأن خفوق مصدر ليس على مفعل ، فهو في الحقيقة على حذف مضاف ، أي وقت خفوق النجم ، بخلاف محيا وممات ومقدم ، فإنها تستعمل بالوضع مصدراً واسم زمان واسم مكان ، فإذا استعملت اسم مكان أو اسم زمان ، لم يكن ذلك على حذف مضاف قامت هذه مقامه ، لأنها موضوعة للزمان وللمكان ، كما وضعت للمصدر ؛ فهي مشتركة بين هذه المدلولات الثلاثة ، بخلاف خفوق النجم ، فإنه وضع للمصدر فقط . وقد خلط ابن عطية في نقل القرآن ، وله بعض عذر . فإنه لم يكن معرباً ، فقال : وقرأ طلحة بن مصرف ، وعيسى بخلاف عنه : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالرفع ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، والأعمش : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالنصب ؛ ووجه كلاً من القراءتين على ما تقتضيه صنعة الإعراب ، وتبعه على هذا الوهم صاحب التحرير ، وهو معذور ، لأنه ناسخ من كتاب إلى كتاب ؛ والصواب ما استبناه من القراءات لمن ذكرنا . ويستنبط من هذه الآية تباين حال المؤمن العاصي من حال الطائع ، وإن كانت في الكفار ، وتسمى مبكاة العابدين . وعن تميم الداري ، رضي اللّه عنه ، أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام ، فبلغ هذه الآية ، فجعل يبكي ويردد إلى الصباح : { سَاء مَا يَحْكُمُونَ} وعن الربيع بن خيثم ، أنه كان يردّدها ليلة أجمع ، وكذلك الفضيل بن عياض ، كان يقول لنفسه : ليت شعري من أي الفريقين أنت ؟ و قال ابن عطية : وأما لفظها فيعطي أنه اجتراح الكفر ، بدليل معادلته بالإيمان ؛ ويحتمل أن تكون المعادلة هي بالاجتراح وعمل الصالحات ، ويكون الإيمان في الفريقين ، ولهذا بكى الخائفون . {سَاء مَا يَحْكُمُونَ } : هو كقوله :{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ } ، وتقدم إعرابه في البقرة . و قال ابن عطية : هنا ما مصدرية ، والتقدير : ساء الحكم حكمهم .{ بِالْحَقّ } : بأن خلقها حق ، واجب لما فيه من فيض الخيرات ، وليدل عليه دلالة الصنعة على الصانع .{ ولتجزي } : هي لام كي معطوفة على بالحق ، لأن كلاًّ من التاء واللام يكونان للتعليل ، فكان الخلق معللاً بالجزاء . وقال الزمخشري : أو على معلل محذوف تقديره : ليدل بها على قدرته ، { بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ} و قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون لام الصيرورة ، أي فصار الأمر منها من حيث اهتدى بها قوم وضل عنها آخرون ، لأن يجازي كل واحد بعمله ، وبما اكتسب من خير أو شر . انتهى . ٢٣أفرأيت من اتخذ . . . . . {أَفَرَأَيْتَ } الآية ، قال مقاتل : نزلت في الحرث بن قيس السهمي ، وأفرأيت : هو بمعنى أخبرني ، والمفعول الأول هو :{ مَنِ اتَّخَذَ } ، والثاني محذوف تقديره بعد الصلاة التي لمن اهتدى ، يدل عليه قوله بعد :{ فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللّه } ،أي لا أحد يهديه من بعد إضلال اللّه إياه .{ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ } : أي هو مطواع لهوى نفسه ، يتبع ما تدعوه إليه ، فكأنه يعبده ، كما يعبد الرجل إلهه . قال ابن جبير ، إشارة إلى الأصنام : إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة . وقال قتادة : لا يهوى شيئاً إلا ركبه ، لا يخاف اللّه ، فلهذا يقال : الهوى إله معبود . وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر : آلهة ، بتاء التأنيث ، بدل من هاء الضمير . وعن الأعرج أنه قرأ : آلهة على الجمع . قال ابن خالويه : ومعناه أن أحدهم كان يهوى الحجر فيعبده ، ثم يرى غيره فيهواه ، فيلقى الأول ، فكذلك قوله :{ إِلَاهَهُ هَوَاهُ } الآية . وإن نزلت في هوى الكفر ، فهي متناولة جميع هوى النفس الأمارة . قال ابن عباس : ما ذكر اللّه هوى إلاّ ذمه . وقال وهب : إذا شككت في خبر أمرين ، فانظر أبعدهما من هواك فأته . وقال سهل التستري : هواك داؤك ، فإن خالفته فدواؤك . وفي الحديث : { والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه الأماني} . ومن حكمه الشعر قول عنترة ، وهو جاهلي : إني امرؤ سمح الخليقة ماجد لا أتبع النفس اللجوج هواها وقال أبو عمران موسى بن عمران الإشبيلي الزاهد ، رحمه اللّه تعالى : فخالف هواها واعصها إن من يطع هوى نفسه ينزع به شر منزع ومن يطع النفس اللجوج تردهو ترم به في مصرع أي مصرع {وَأَضَلَّهُ اللّه عَلَى عِلْمٍ } : أي من اللّه تعالى سابق ، أو على علم من هذا الضال بأن الحق هو الدين ، ويعرض عنه عناداً ، فيكون كقوله :{ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ} وقال الزمخشري : صرفه عن الهداية واللطف ، وخذ له عن علم ، عالماً بأن ذلك لا يجدي عليه ، وأنه ممن لا لطف به ، أو مع علمه بوجوه الهداية وإحاطته بأنواع الألطاف المحصلة والمقربة . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . وقرأ الجمهور :{ غِشَاوَةً } : بكسر الغين ؛ وعبد اللّه ، والأعمش : بفتحها ، وهي لغة ربيعة . والحسن ، وعكرمة ، وعبد اللّه أيضاً : بضمها ، وهي لغة عكلية . والأعمش ، وطلحة ، وأبو حنيفة ، ومسعود بن صالح ، وحمزة ، والكسائي ، غشوة ، بفتح الغين وسكون الشين . وابن مصرف ، والأعمش أيضاً : كذلك ، إلا أنهما كسرا العين ، وتقدم تفسير الجملتين في أول البقرة . وقرأ الجمهور :{ تَذَكَّرُونَ } ، بشد الذال ؛ والجحدري يخففها ، والأعمش : بتاءين . ٢٤انظر تفسير الآية:٢٦ ٢٥انظر تفسير الآية:٢٦ ٢٦وقالوا ما هي . . . . . {وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } : هي مقالة بعض قريش إنكاراً للبعث . والظاهر أن قولهم :{ نَمُوتُ وَنَحْيَا } حكم على النوع بجملته من غير اعتبار تقديم وتأخير ، أي تموت طائفة وتحيا طائفة . وأن المراد بالموت مفارقة الروح للجسد . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي نحيا ونموت . وقيل : نموت عبارة عن كونهم لم يوجدوا ، ونحيا : أي في وقت وجودنا ، وهذا قريب من الأول قبله ، ولا ذكر للموت الذي هو مفارقة الروح في هذين القولين . وقيل : تموت الآباء وتحيا الأبناء . وقرأ زيد بن علي : ونحيا ، بضم النون .{ وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ } : أي طول الزمان ، لأن الآفات تستوي فيه كمالاتها هذا إن كان قائلو هذا معترفين باللّه ، فنسبوا الآفات إلى الدهر بجهلهم أنها مقدرة من عند اللّه ، وإن كانوا لا يعرفون اللّه ولا يقرون به ، وهم الدهرية ، فنسبوا ذلك إلى الدهر . وقرأ عبد اللّه : إلا دهر ، وتأويله : إلا دهر يمر . كانوا يضيفون كل حادثة إلى الدهر ، وأشعارهم ناطقة بشكوى الدهر ، حتى يوجد ذلك في أشعار المسلمين . قال ابن دريد في مقصورته : يا دهر إن لم تك عتبي فاتئد فإن اروادك والعتبي سواء و { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ } ، ليست حجة حقيقة ، أي حجتهم عندهم ، أو لأنهم أدلوا بها ، كما يدلي المحتج بحجته ، وساقوها مساقها ، فسميت حجة على سبيل التهكم ؛ أو لأنه في نحو قولهم : تحية بينهم ضرب وجيع أي : ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة ، والمراد نفي أن يكون لهم حجة البتة . وقرأ الجمهور : حجتهم بالنصب ؛ والحسن ، وعمرو بن عبيد ، وزيد بن علي ، وعبيد بن عمير ، وابن عامر ، فيما روى عنه عبد الحميد ، وعاصم ، فيما روى هارون وحسين ، عن أبي بكر عنه : حجتهم ، أي ما تكون حجتهم ، لأن إذا للاستقبال ، وخالفت أدوات الشرط بأن جوابها إذا كان منفياً بما ، لم تدخل الفاء ، بخلاف أدوات الشرط ، فلا بد من الفاء . تقول : إن تزرنا فما جفوتنا ، أي فما تجفونا . وفي كون الجواب منفياً بما ، دليل على ما اخترناه من أن جواب إذا لا يعمل فيها ، لأن ما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها . {ائْتُواْ } : يظهر أنه خطاب للرسول والمؤمنين ، إذ هم قائلون بمقالته ، أو هو خطاب له ولمن جاء بالبعث ، وهم الأنبياء ، وغلب الخطاب على الغيبة . وقال ابن عطية : إئتوا ، من حيث المخاطبة له ؛ والمراد : هو وإلهه والملك الوسيط الذي ذكره هو لهم ؛ فجاء من ذلك جملة قيل لها إئتوا وإن كنتم . انتهى . ولما اعترفوا بأنهم ما يهلكهم إلا الدهر ، وأنهم استدلوا على إنكار البعث بما لا دليل لهم فيه من سؤال إحياء آبائهم ، ردّ اللّه تعالى عليهم بأنه تعالى هو المحيي ، وهو المميت لا الدهر ، وضم إلى ذلك آية جامعة للحساب يوم البعث ، وهذا واجب الاعتراف به إن أنصفوا ، ومن قدر على هذا قدر على الإتيان بآبائهم . ٢٧انظر تفسير الآية:٢٩ ٢٨انظر تفسير الآية:٢٩ ٢٩وللّه ملك السماوات . . . . . العامل في { وَيَوْمَ تَقُومُ } : يخسر ، و { يَوْمَئِذٍ } : بدل من يوم ، قاله الزمخشري ، وحكاه ابن عطية عن فرقة . والتنوين في يومئذ تنوين العوض عن جملة ، ولم تتقدم جملة إلا قوله :{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ } ، فيصير التقدير : ويوم تقوم يوم إذ تقوم إذ تقوم الساعة يخسر ؛ ولا مزيد فائدة في قوله : يوم إذ تقوم الساعة ، لأن ذلك مستفاد من ويوم تقوم الساعة . فإن كان بدلاً توكيدياً ، وهو قليل ، جاز ذلك ، وإلا فلا يجوز أن يكون بدلاً . وقالت فرقة العامل : في ويوم تقوم ما يدل عليه الملك ، قالوا : وذلك أن يوم القيامة حال ثالثة ليست بالسماء ولا بالأرض ، لأن ذلك يتبدل ، فكأنه قال :{ وَللّه مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } ، والملك يوم القيامة ، فحذفه لدلالة ما قبله عليه ؛ ويومئذ منصوب بيخسر ، وهي جملة فيها استئناف ، وإن كان لها تعلق بما قبلها من جهة تنوين العوض . و { الْمُبْطِلُونَ } : الداخلون في الباطل .{ جَاثِيَةً } : باركة على الركب مستوفرة ، وهي هيئة المذنب الخائف . وقرىء : جاذية ، بالذال ؛ والجذو أشد استيفازاً من الجثو ، لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه . وعن ابن عباس : جاثية : مجتمعة . وعن قتادة : جماعات ، من الجثوة : وهي الجماعة ، يجمع على جثى ، قال الشاعر : ترى جثوتين من تراب عليهما صفائح صم من صفيح منضد وعن مورج السدوسي : جاثية : خاضعة ، بلغة قريش . وعن عكرمة : جاثية : متميزة . وقرأ يعقوب :{ كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى } ، بنصب كل أمة على البدل ، بدل النكرة الموصوفة من النكرة ؛ والظاهر عموم كل أمة من مؤمن وكافر . قال الضحاك : وذلك عند الحساب . وقال يحيى بن سلام : ذلك خاص بالكفار ، تدعى إلى كتابها المنزل عليها ، فتحاكم إليه ، هل وافقته أو خالفته ؟ أو الذي كتبته الحفظة ، وهو صحائف أعمالها ، أو اللوح المحفوظ ، أو المعنى إلى ما يسبق لها فيه ، أي إلى حسابها ، أقوال . وأفراد كتابها اكتفاء باسم الجنس لقوله : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ } ،{ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ } ،{ هَاذَا كِتَابُنَا } ، هو الذي دعيت إليه كل أمة ، وصحت إضافته إليه تعالى لأنه مالكه والآمر بكتبه وإليهم ، لأن أعمالهم مثبتة فيه . والإضافة تكون بأدنى ملابسة ، فلذلك صحت إضافته إليهم وإليه تعالى . {يَنطِقُ عَلَيْكُم } : يشهد بالحق من غير زيادة ولا نقصان .{ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ } : أي الملائكة ، أي نجعلها تنسخ ، أي تكتب . وحقيقة النسخ نقل خط من أصل ينظم فيه ، فأعمال العباد كأنها الأصل . وقال الحسن : هو كتب الحفظة على بني آدم . وعن ابن عباس : يجعل اللّه الحفظة تنسخ من اللوح المحفوظ كل ما يفعل العباد ، ثم يمسكونه عندهم ، فتأتي أفعال العباد على نحو ذلك ، فبعيد أيضاً ، فذلك هو الاستنساخ . وكان يقول ابن عباس : ألستم عرباً ؟ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل ؟ ٣٠انظر تفسير الآية:٣١ ٣١فأما الذين آمنوا . . . . . ثم بين حال المؤمن بأنه يدخله في رحمته ، وهو الثواب الذي أعد له ، وأن ذلك هو الظفر بالبغية ؛ وبين الكافر بأنه يوبخ ويقال له : {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى } عن اتباعها والإيمان بها وكنتم أصحاب جرائم ؟ والفاء في : أفلم ينوي بها التقديم ؛ وإنما قدمت الهمزة لأن الاستفهام له صدراً الكلام ، والتقدير : فيقال له ألم . وقال الزمخشري : والمعنى ألم يأتكم رسلي ؟ فلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف المعطوف عليه . انتهى . وقد تقدم الكلام معه في زعمه أن بين الفاء والواو ، إذا تقدمها همزة الاستفهام معطوفاً عليه محذوفاً ، ورددنا عليه ذلك . ٣٢وإذا قيل إن . . . . . وقرأ الأعرج وعمرو بن فائد : { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللّه } ، بفتح الهمزة ، وذلك على لغة سليم ؛ والجمهور : إن بكسرها . وقرأ الجمهور :{ وَالسَّاعَةُ } بالرفع على الابتداء ، ومن زعم أن لاسم إن موضعاً جوز العطف عليه هنا ، أو زعم أن لأن واسمها موضعاً جوز العطف عليه ، وبالعطف على الموضع لأن واسمها هنا . قال أبو علي : ذكره في الحجة ، وتبعه الزمخشري فقال : وبالرفع عطفاً على محل إن واسمها ، والصحيح المنع ؛ وحمزة : بالنصب عطفاً على اللّه ، وهي مروية عن الأعمش ، وأبي عمرو ، وعيسى ، وأبي حيوة ، والعبسي ، والمفضل .{ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً } ، تقول : ضربت ضرباً ، فإن نفيت ، لم تدخل إلا ، إذ لا يفرغ بالمصدر المؤكد ، فلا تقول : ما ضربت إلا ضرباً ، ولا ما قمت إلا قياماً . فأما الآية ، فتأول على حذف وصف المصدر حتى يصير مختصاً لا مؤكداً ، وتقديره : إلا ظناً ضعيفاً ، أو على تضمين نظن معنى نعتقد ، ويكون ظناً مفعولاً به . وقد تأول ذلك بعضهم على وضع إلا في غير موضعها ، وقال : التقدير إن نحن إلا نظن ظناً . وحكى هذا عن المبرد ، ونظيره ما حكاه أبو عمرو بن العلاء وسيبويه من قول العرب : ليس الطيب إلا المسك قال المبرد : ليس إلا الطيب المسك . انتهى . واحتاج إلى هذا التقدير كون المسك مرفوعاً بعد إلا وأنت إذا قلت : ما كان زيد إلا فاضلاً نصبت ، فلما وقع بعد إلا ما يظهر أنه خبر ليس ، احتاج أن يزحزح إلا عن موضعها ، ويجعل في ليس ضمير الشأن ، ويرفع إلا الطيب المسك على الابتداء والخبر ، فيصير كالملفوظ به ، في نحو : ما كان إلا زيد قائم . ولم يعرف المبرد أن ليس في مثل هذا التركيب عاملتها بنو تميم معاملة ما ، فلم يعملوها إلا باقية مكانها ، وليس غير عامله . وليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب في نحو ليس الطيب إلا المسك ، ولا تميمي إلا وهو يرفع . في ذلك حكاية جرت بين عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء ، ذكرناها فيما كتبناه من علم النحو . ونظير { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً } قول الأعشى : وجدّ به الشيب أثقاله وما اغتره الشيب إلا اغتراراً أي اغتراراً بيناً . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً } ؟ قلت ؛ أصله نظن ظناً ، ومعناه إثبات الظن مع نفي ما سواه ، وزيد نفى ما سوى الظن توكيداً بقوله :{ وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} انتهى . وهذا الكلام ممن لا شعور له بالقاعدة النحوية ، من أن التفريغ يكون في جميع المعمولات من فاعل ومفعول وغيره ، إلا المصدر المؤكد فإنه لا يكون فيه . وقدّره بعضهم : إن نظن إلا أنكم تظنون ظناً ، قال : وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأنه لا يجوز في الكلام : ما ضربت إلا ضرباً ، فاهتدى إلى هذه القاعدة النحوية ، وأخطأ في التخريج ، وهو محكي عن المبرد ، ولعله لا يصح . وقولهم : إن نظن ، دليل على أن الكفار قد أخبروا بأنهم ظنوا البعث واقعاً ، ودل قولهم قبل قوله : { إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } ، على أنهم منكرون البعث ، فهم ، واللّه أعلم ، فرقتان ، أو اضطربوا ، فتارة أنكروا ، وتارة ظنوا ، وقالوا :{ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً } على سبيل الهزء . ٣٣انظر تفسير الآية:٣٦ ٣٤انظر تفسير الآية:٣٦ ٣٥انظر تفسير الآية:٣٦ ٣٦وبدا لهم سيئات . . . . . {وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } : أي قبائح أعمالهم ، أو عقوبات أعمالهم السيئات ؛ وأطلق على العقوبة سيئة ، كما قال :{ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا}{ وَحَاقَ بِهِم } أي أحاط ، ولا يستعمل حاق إلا في المكروه .{ نَنسَاكُمْ } : نترككم في العذاب ، أو نجعلكم كالشيء المنسي الملقى غير المبالى بهم .{ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ } : أي لقاء جزاء اللّه على أعمالكم ، ولم تخطروه على بال بعد ما ذكرتم به وتقدم إليكم بوقوعه . وأضاف اللقاء لليوم توسعاً كقوله :{ بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} وقرأ الجمهور :{ لاَ يَخْرُجُونَ } ، مبنياً للمفعول ؛ والحسن ، وابن وثاب ، وحمزة ، والكسائي : مبنياً للفاعل .{ مِنْهَا } : أي من النار .{ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي بطلب مراجعة إلى عمل صالح . وتقدم الكلام في الاستعتاب . وقرأ الجمهور :{ رَبّ } ، بالجر في الثلاثة على الصفة ، وابن محيصن : بالرفع فيهما على إضمار هو . |
﴿ ٠ ﴾