سورة الذاريات

مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

انظر تفسير الآية:٤

٢

انظر تفسير الآية:٤

٣

انظر تفسير الآية:٤

٤

والذاريات ذروا

الحبك : الطرائق ، مثل حبك الرمل والماء القائم إذا ضربته الريح ، وكذلك حبك الشعر آثار تثنيه وتكسره قال الشاعر : مكلل بأصول النجم ينسجه

ريح خريق لضاحي مائه حبك

والدرع محبوكة لأن حلقها مطرق طرائق ، وواحدها حبيكة ، كطريقة وطرق ، أو حباك ، كمثال ومثل ، قال الراجز : كأنما حللّها الحوّاك

طنفسة في وشيها حباك

ويقال : حباك للظفيرة التي يشد بها خطار القصب بكرة ، وهي مستطيلة تصنع في ترحيب الغراسات المصطفة . وقال ابن الأعرابي : حبكت الشيء : أحكمته وأحسنت عمله . قال الفراء : الحبك : تكسر كل شيء . وقال غيره : المحبوك : الشديد الخلق من فرس وغيره . قال امرؤ القيس : قد غدا يحملني في أنفه

لاحق الأطلين محبوك ممر

الهجود : النوم . السمن : معروف ، وهو امتلاء الجسد بالشحم واللحم . يقال : سمن سمناً فهو سمين ، شذوا في المصدر واسم الفاعل ، والقياس سمن وسمن . وقالوا : سامن ، إذا حدث له السمن . الذنوب : الدلو العظيمة ، قال الراجز : إنا إذا نازلنا غريب

له ذنوب ولنا ذنوب

وإن أبيتم فلنا القليب

وأنشده الزمخشري : لنا ذنوب ولكم ذنوب

ويطلق ، ويراد به الحظ والنصيب ، قال علقمة بن عبدة :

وفي كل حي قد خبطت بنعمة

فحق لشاس من نداك ذنوب

ونسبه الزمخشري لعمرو بن شاس ، وهو وهم في ديوان علقمة . وكان الحارث بن أبي شمر الغساني أسر شاساً أخا علقمة ، فدخل إليه علقمة ، فمدحه بالقصيدة التي فيها هذا البيت ، فلما وصل إلى هذا البيت في الإنشاد قال الحرث : نعم وأذنبه ، وقال حسان :

لا يبعدن ربيعة بن مكرم

وسقى الغوادي قبره بذنوب

وقال آخر :

لعمرك والمنايا طارقات

لكل بني أب منها ذنوب

هذه السورة مكية . ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه قال فذكر بالقرآن من يخاف وعيد . وقال أول هذه بعد القسم :{ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ}

{وَالذرِيَاتِ } : الرياح : .{ فَالْحَامِلَاتِ } السحاب .{ فَالْجَارِيَاتِ } الفلك .{ فَالْمُقَسّمَاتِ } : الملائكة ، هذا تفسير عليّ كرم اللّه وجهه على المنبر ، وقد سأله ابن الكواء ، قاله ابن عباس .

وقال ابن عباس أيضاً :{ فَالْحَامِلَاتِ } هي السفن الموقرة بالناس وأمتاعهم .

وقيل : الحوامل من جميع الحيوان .

وقيل : الجاريات : السحاب بالرياح .

وقيل : الجواري من الكواكب ، وأدغم أبو عمرو وحمزة { وَالذرِيَاتِ } في ذال { ذَرْواً } ، وذروها : تفريقها للمطر أو للتراب . وقرىء : بفتح الواو وتسمية للمحمول بالمصدر . ومعنى { يُسْراً } : جرياً ذا يسر ، أي سهولة . فيسراً مصدر وصف به على تقدير محذوف ، فهو على رأي سيبويه في موضع الحال .{ أمْراً } تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها ، فأمراً مفعول به .

وقيل : مصدر منصوب على الحال ، أي مأموره ، ومفعول المقسمات محذوف . وقال مجاهد : يتولى أمر العباد جبريل للغلظة ، وميكائيل للرحمة ، وملك الموت لقبض الأرواح ، وإسرافيل للنفخ . وجاء في الملائكة : فالمقسمات على معنى الجماعات .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد الرياح لا غير ، لأنها تنشىء

السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجو جرياً سهلاً ، وتقسم الأمطار بتصريف الرياح . انتهى . فإذا كان المدلول متغايراً ، فتكون أقساماً متعاقبة . وإذا كان غير متغاير ، فهو قسم واحد ، وهو من عطف الصفات ، أي ذرت أول هبوبها التراب والحصباء ، فأقلت السحاب ، فجرت في الجو باسطة للسحاب ، فقسمت المطر . فهذا كقوله : يا لهف زيابة للحارث الص

ابح فالغانم فالآيب

أي : الذي صبح العدو فغنم منهم ، فآب إلى قومه سالماً غانماً . والجملة المقسم عليها ، وهي جواب القسم ، هي

٥

إنما توعدون لصادق

{إِنَّمَا تُوعَدُونَ } ، وما موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي توعدونه . ويحتمل أن تكون مصدرية ، أي أنه وعدكم أو وعيدكم ، إذ يحتمل توعدون الأمرين أن يكون مضارع وعد ومضارع أوعد ، ويناسب أن يكون مضارع أوعد لقوله :{ فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } ، ولأن المقصود التخويف والتهويل . ومعنى صدقة : تحقق وقوعه ، والمتصف بالصدق حقيقة هو المخبر .

وقال تعالى :{ ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } : أي مصدوق فيه .

وقيل :{ لَصَادِقٌ } ، ووضع اسم الفاعل موضع المصدر ، ولا حاجة إلى هذا التقدير . وقال مجاهد : الأظهر أن الآية في الكفار ، وأنه وعيد محض .

٦

وإن الدين لواقع

{وَإِنَّ الدّينَ } : أي الجزاء ، { لَوَاقِعٌ } : أي صادر حقيقة على المكلفين من الإنس والجن .

٧

والسماء ذات الحبك

والظاهر في السماء أنه جنس أريد به جميع السموات . وقال عبد اللّه بن عمرو بن العاص : هي السماء السابعة .

وقيل : السحاب الذي يظل الأرض .

{ذَاتِ الْحُبُكِ } : أي ذات الخلق المستوي الجيد ، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة والربيع . وقال الحسن ، وسعيد بن جبير :{ ذَاتِ الْحُبُكِ } : أي الزينة بالنجوم . وقال الضحاك : ذات الطرائق ، يعني من المجرة التي في السماء . وقال ابن زيد : ذات الشدة ، لقوله :{ سَبْعاً شِدَاداً}

وقيل : ذات الصفاقة .

وقرأ الجمهور : الحبك بضمتين ؛ وابن عباس ، والحسن : بخلاف عنه ، وأبو مالك الغفاري ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو السمال ، ونعيم عن أبي عمرو : بإسكان الباء ؛ وعكرمة : بفتحها ، جمع حبكة ، مثل : طرفة وطرف . وأبو مالك الغفاري ، والحسن : بخلاف عنه ، بكسر الحاء والباء ؛ وأبو مالك الغفاري ، والحسن أيضاً ، وأبو حيوة : بكسر الحاء وإسكان الباء ، وهو تخفيف فعل المكسور هما وهو اسم مفرد لا جمع ، لأن فعلاً ليس من أبنية الجموع ، فينبغي أن يعد مع إبل فيما جاء من الأسماء على فعل بكسر الفاء والعين ؛ وابن عباس أيضاً ، وأبو مالك : بفتحهما . قال أبو الفضل الرازي : فهو جمع حبكة ، مثل عقبة وعقب . انتهى . والحسن أيضاً : الحبك بكسر الحاء وفتح الباء ،

وقرأ أيضاً كالجمهور ، فصارت قراءته خمساً : الحبك الحبك الحبك الحبك الحبك .

وقرأ أبو مالك أيضاً : الحبك بكسر الحاء وضم الباء ، وذكرها ابن عطية عن الحسن ، فتصير له ست قراءات . وقال صاحب اللوامح ، وهو عديم النظير في العربية : في أبنيتها وأوزانها ، ولا أدري ما رواه . انتهى . و

قال ابن عطية : هي قراءة شاذة غير متوجهة ، وكأنه أراد كسرها ، ثم توهم الحبك قراءة الضم بعد أن كسر الحاء وضم الباء ، وهذا على تداخل اللغات ، وليس في كلام العرب هذا البناء . انتهى .

وعلى هذا تأول النحاة هذه القراءات ، والأحسن عندي أن تكون مما اتبع فيه حركة الحاء لحركة ذات في الكسرة ، ولم يعتد باللام الساكنة ، لأن الساكن حاجز غير حصين . وجواب القسم :

٨

إنكم لفي قول . . . . .

{إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } ، والظاهر أنه خطاب عام للمسلم والكافر ، كما أن جواب القسم السابق يشملهما ، واختلافهم كونهم مؤمناً بالرسول صلى اللّه عليه وسلم وكتابه وكافراً . وقال ابن زيد : خطاب للكفرة ، فيقولون : ساحر

شاعر كاهن مجنون ، وقال الضحاك : قول الكفرة لا يكون مستوياً ، إنما يكون متناقضاً مختلفاً .

وقيل : اختلافهم في الحشر ، منهم من ينفيه ، ومنهم من يشك فيه .

وقيل : اختلافهم : إقرارهم بأن اللّه تعالى أوجدهم وعبادتهم غيره والأقوال التي يقولونها في آلهتهم .

٩

يؤفك عنه من . . . . .

{يُؤْفَكُ } : أي يصرف عنه ، أي عن القرآن والرسول ، قاله الحسن وقتادة .{ مَنْ أُفِكَ } : أي من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم لقوله : لا يهلك على اللّه إلا هالك .

وقيل : من صرف في سابق علم اللّه تعالى أنه مأفوك عن الحق لا يرعوي .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون ، أو للذي أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه ، فمنهم شاك ومنهم جاحد . ثم قال : يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك .

وقيل : المأفوك عنه محذوف ، وعن هنا للسبب ، والضمير عائد على { قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } ،أي يصرف بسببه من أراد الإسلام بأن يقول : هو سحر هو كهانة ، حكاه الزهراوي والزمخشري ، وأورده على عادته في إبداء ما هو محكي عن غيره أنه مخترعه . و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يعود على { قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } ، والمعنى : يصرف عنه بتوفيق اللّه إلى الإسلام من غلبت سعادته ، وهذا على أن يكون في قول مختلف للكفار ، إلا أن عرف الاستعمال في إفكه الصرف من خير إلى شر ، فلذلك لا تجده إلا في المذمومين . انتهى ، وفيه بعض تلخيص .

وقرأ ابن جبير وقتادة : من أفك مبنياً للفاعل ، أي من أفك الناس عنه ، وهم قريش .

وقرأ زيد بن علي : يأفك عنه من أفك ، أي يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه . وعنه أيضاً : يأفك عنه من أفك ، أي يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب . وقرىء : يؤفن عنه من أفن بالنون فيهما ، أي يحرمه من حرم من أفن الضرع إذا نهكه حلباً .

١٠

قتل الخراصون

{قُتِلَ الْخَرصُونَ } : أي قتل اللّه الخراصين ، وهم المقدرون ما لا يصح .

١١

الذين هم في . . . . .

{فِى غَمْرَةٍ } : في جهل يغمرهم ، { سَاهُونَ } : غافلون عن ما أمروا به .

١٢

يسألون أيان يوم . . . . .

{أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ } : أي متى وقت الجزاء ؟ سؤال تكذيب واستهزاء ، وتقدمت قراءة من كسر الهمزة في قوله :{ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } ،{ أيان يَوْمِ الدّينِ } ، فيكون الظرف محلاً للمصدر ،

١٣

يوم هم على . . . . .

وانتصب يوم هم بمضمر تقديره : هو كائن ، أي الجزاء ، قاله الزجاج ، وجوزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي هو يومهم ، والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير متمكن ، وهي الجملة الإسمية . ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة والزعفراني . { يَوْمَ هُم } بالرفع ، وإذا كان ظرفاً جاز أن تكون الحركة فيه حركة إعراب وحركة بناء ، وتقدم الكلام على إضافة الظرف المستقبل إلى الجملة الإسمية في غافر في قوله تعالى :{ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ} وقال بعض النحاة : يومهم بدل من { يَوْمِ الدّينِ } ، فيكون هنا حكاية من كلامهم على المعنى ، ويقولون ذلك على سبيل الاستهزاء . ولو حكى لفظ قولهم ، لكان التركيب : يوم نحن على النار يفتنون .

١٤

ذوقوا فتنتكم هذا . . . . .

{ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } : أي يقال لهم ذوقوا .{ هَاذَا الَّذِى } : مبتدأ وخبر .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون هذا بدلاً من فتنتكم ، أي ذوقوا هذا العذاب . انتهى ، وفيه بعد ، والاستقلال خير من البدل . ومعنى تفتنون : تعذبون في النار .

١٥

إن المتقين في . . . . .

ولما ذكر حال الكفار ، ذكر حال المؤمنين ، وانتصب آخذين على الحال ، أي قابليه راضين به ، وذلك في الجنة .

وقال ابن عباس :

١٦

آخذين ما آتاهم . . . . .

{ءاخِذِينَ } : أي في دنياهم ، { مَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ } من أوامره ونواهيه وشرعه ، فالحال محكية لتقدمها في الزمان على كونهم في الجنة .

١٧

كانوا قليلا من . . . . .

والظاهر أن { قَلِيلاً } ظرف ، وهو في الأصل صفة ، أي كانوا في قليل من الليل . وجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، أي كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً ، وما زائدة في كلا الإعرابين . وفسر أنس بن مالك ذلك فقال : كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء ، ولا يدل لفظ الآية على الاقتصار على هذا التفسير . وقال الربيع بن خيثم : كانوا يصيبون من الليل حظاً . وقال مطرف ، ومجاهد ، وابن أبي نجيح : قل ليلة أتت عليهم هجوعاً كلها . وقال الحسن : كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلاً . وقال الضحاك :{ كَانُواْ قَلِيلاً } ،أي في عددهم ، وثم خبر كان ، ثم ابتدأ { مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } ، فما نافية ، وقليلاً وقف حسن ، وهذا القول فيه تفكيك للكلام ، وتقدم معمول العامل المنفي بما على عامله ، وذلك لا يجوز عند البصريين ، ولو كان ظرفاً أو مجروراً . وقد أجاز ذلك بعضهم ، وجاء في الشعر قوله :

إذا هي قامت حاسراً مشمعلة

يحسب الفؤاد رأسها ما تقنع

فقدم رأسها على ما تقنع ، وهو منفي بما ، وجوزوا أن تكون ما مصدرية في موضع رفع بقليلاً ، أي كانوا قليلاً هجوعهم ، وهو إعراب سهل حسن ، وأن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف تقديره : { كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ } من الوقت الذي يهجعون فيه ، وفيه تكلف . ومن الليل يدل على أنهم مشغولون بالعبادة في أوقات الراحات ، وسكون الأنفس من مشاق النهار .

١٨

وبالأسحار هم يستغفرون

{وَبِالاْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ، فيه ظهور على أن تهجدهم يتصل بالأسحار ، فيأخدون في الاستغفار مما يمكن أن يقع فيه تقصير وكأنهم أجرموا في تلك الليالي ، والأسحار مظنة الاستغفار . وقال ابن عمرو الضحاك : يستغفرون : يصلون . وقال الحسن : يدعون في طلب المغفرة ، والظاهر أن قيام الليل

١٩

وفي أموالهم حق . . . . .

وهذا الحق في المال هو من المندوبات ، وأكثر ما تقع زيادة الثواب بفعل المندوب . وقال القاضي منذر بن سعيد : هذا الحق هو الزكاة المفروضة ، وضعف بأن السورة مكية ، وفرض الزكاة بالمدينة .

وقيل : كان فرضاً ، ثم نسخ وضعف بأنه تعالى لم يشرع شيئاً بمكة قبل الهجرة من أخد الأموال . والسائل : الذي يستعطي ، والمحروم : لغة الممنوع من الشيء ، قال علقمة : ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمة

أنى توجه والمحروم محروم

وأما في الآية ، فالذي يحسب غنياً فيحرم الصدقة لتعففه .

وقيل : الذي تبعد منه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله الحرمان .

وقال ابن عباس : المحارب الذي ليس له في الإسلام سهم مال . وقال زيد بن أسلم : هو الذي أجيحت ثمرته .

وقيل : الذي ماتت ماشيته . وقال عمر بن عبد العزيز : هو الكلب .

وقيل : الذي لا ينمي له مال .

وقيل : المحارف الذي لا يكاد يكسب .

وقيل غير ذلك ، وكل هذه الأقوال على سبيل التمثيل لا التعيين ، ويجمعها أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه .

٢٠

وفي الأرض آيات . . . . .

{وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ } تدل على الصانع وقدرته وتدبيره من حيث هي كالبساط لما فوقها ، وفيها الفجاج للسلاك ، وهي متجزئة من سهل ووعر وبحر وبر ، وقطع متجاورات من صلبة ورخوة ومنبتة وسبخة ، وتلقح بأنواع النبات ، وفيها العيون والمعادن والدواب المنبتة في بحرها وبرها المختلفة الأشكال .

وقرأ قتادة : آية على الإفراد ، { لّلْمُوقِنِينَ } : وهم الذين نظروا النظر الصحيح ، وأداهم ذلك إلى إيقان ما جاءت به الرسل ، فأيقنوا لم يدخلهم ريب .

٢١

وفي أنفسكم أفلا . . . . .

{وَفِى أَنفُسِكُمْ } حال ابتدائها وانتقالها من حال إلى حال ، وما أودع في شكل الإنسان من لطائف الحواس ، وما ترتب على العقل الذي أوتيه من بدائع العلوم وغريب الصنائع ، وغير ذلك مما لا ينحصر .

٢٢

وفي السماء رزقكم . . . . .

{وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ } ، قال الضحاك ومجاهد وابن جبير : المطر والثلج ، لأنه سبب الأقوات ، وكل عين دائمة من الثلج . وقال مجاهد أيض وواصل الأحدب : أراد القضاء والقدر ، أي الرزق عند اللّه يأتي به كيف شاء ، { وَمَا تُوعَدُونَ } : الجنة ، أو هي النار ، أو أمر الساعة ، أو من خير وشر ، أو من ثواب وعقاب ، أقوال المراد بها التمثيل لا التعيين .

وقرأ ابن محيصن : أرزاقكم على الجمع ،

٢٣

فورب السماء والأرض . . . . .

والضمير في إنه عائد على القرآن ، أو إلى الدين الذي في قوله : { وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ } ،أو إلى اليوم المذكور في قوله :{ أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ } ،أو إلى الرزق ، أو إلى اللّه ، أو إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، أقوال منقولة . والذي يظهر أنه عائد على الإخبار السابق من اللّه تعالى فيما تقدم في هذه السورة من صدق الموعود ووقوع الجزاء ، وكونهم في { قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } ، و { قُتِل الْخَرصُونَ } ، وكينونة المتقين في الجنة على ما وصف ، وذكر أوصافهم وما ذكر بعد ذلك ، ولذلك شبه في الحقيقة بما يصدر من نطق الإنسان بجامع ما اشتركا فيه من الكلام .

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، والأعم ٥ : بخلاف عن ثلاثتهم . مثل بالرفع : صفة لقوله :{ لَحَقُّ } ؛ وباقي السبعة ، والجمهور : بالنصب ،

وقيل : هي فتحة بناء ، وهو نعت كحاله في قراءة من رفع . ولما أضيف إلى غير متمكن بنى ، وما على هذا الإعراب زائدة للتوكيد ، والإضافة هي إلى أنكم تنطقون . وقال المازني : بنى مثل ، لأنه ركب مع ما ، فصار شيئاً واحداً ، ومثله : ويحما وهيما وابنما ، قال حميد بن ثور : ألا هيما مما لقيت وهيما

وويحاً لمن لم يلق منهن ويحما

قال : فلولا البناء لكان منوناً ، وقال الشاعر : فأكرم بنا أو أماً وأكرم بنا ابنما انتهى هذا التخريج . وابنما ليس ابنا بني مع ما ، بل هذا من باب زيادة الميم فيه ، واتباع ما في الآخر ، إذ جعل في الميم الإعراب . تقول : هذا ابنم ، ورئت ابنما ، ومررت بابنم ، وليست ما في الثلاث في ابنما مركبة مع ما ، كما قال : الفتحة في ابنما حركة إعراب ، وهو منصوب على التمييز ، وأنشد النحويون في بناء الاسم مع الحرف قول الراجز :

أثور ما أصيدكم أو ثورين

أم تيكم الجماء ذات القرنين

وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره : إنه لحق حقاً مثل ما أنكم ، فحركته حركة إعراب .

وقيل : انتصب على أنه حال من الضمير المستكن في { لَحَقُّ}

وقيل : حال من لحق ، وإن كان نكرة ، فقد أجاز ذلك الجرمي وسيبويه في مواضع من كتابه . والنطق هنا عبارة عن الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني . ويقول الناس : هذا حق ، كما أنك ههنا وهذا حق ، كما أنك ترى وتسمع ، وهذا كما في الآية . وما زائدة بنص الخليل ، ولا يحفظ حذفها ، فتقول : ذا حق كأنك ههنا ، والكوفيون يجعلون مثلاً محلى ، فينصبونه على الظرف ، ويجيزون زيد مثلك بالنصب ، فعلى مذهبهم يجوز أن تكون مثل فيها منصوباً على الظرف ، واستدلالهم والرد عليهم مذكور في النحو . ومن كلام بعض الأعراب : من ذا الذي أغضب الخليل حتى حلف ، لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين .

٢٤

هل أتاك حديث . . . . .

قوله عز وجل {هَلُ أَتَاكَ } : تقرير لتجتمع نفس المخاطب ، كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدثه بعجيب ، فتقرره هل سمع ذلك أم لا ، فكأنك تقتضي أن يقول لا . ويستطعمك الحديث ، وفيه تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وإنما عرفه بالوحي ، وضيف الواحد والجماعة فيه سواء . وبدأ بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وإن كانت متأخرة عن قصة عاد ، هزماً للعرب ، إذ كان أباهم الأعلى ، ولكون الرسل الذين وفدوا عليه جاءوا بإهلاك قوم لوط ، إذ كذبوه ، ففيه وعيد للعرب وتهديد واتعاظ وتسلية للرسول صلى اللّه عليه وسلم على ما يجري عليه من قومه . ووصفهم بالمكرمين لكرامتهم عند اللّه تعالى ، كقوله تعالى في الملائكة :{ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } ، قاله الحسن ، فهي صفة سابقة فيهم ، أو لإكرام إبراهيم إياهم ، إذ خدمهم بنفسه وزوجته سارة وعجل لهم القرا .

وقيل : لكونه رفع مجالسهم في صفة حادثة .

وقرأ عكرمة : المكرمين بالتشديد ، وأطلق عليهم ضيف ، لكونهم في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم ، أو لحسبانه لذلك . وتقدم ذكر عددهم في سورة هود .

٢٥

إذ دخلوا عليه . . . . .

وإذ معمولة للمكرمين إذا كانت صفة حادثة بفعل إبراهيم ، وإلا فبما في ضيف من معنى لفعل ، أو بإضمار اذكر ، وهذه أقوال منقولة .

وقرأ الجمهور : قالوا سلاماً ، بالنصب على المصدر الساد مسد فعله المستغنى به .

{قَالَ سَلَامٌ } بالرفع ، وهو مبتدأ محذوف الخبر تقديره : عليكم سلام . قصد أن يجيبهم بأحسن مما حيوه أخذاً بأدب اللّه تعالى ، إذ سلاماً دعاء . وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي أمري سلام ، وسلام جملة خبرية قد تحصل مضمونها ووقع . و

قال ابن عطية : ويتجه أن يعمل في سلاماً قالوا ، على أن يجعل سلاماً في معنى قولاً ، ويكون المعنى حينئذ : أنهم قالوا تحية ؛ وقولاً معناه سلاماً ، وهذا قول مجاهد .

وقرأ ابن وثاب ، والنخعي ، وابن جبير ، وطلحة : قال سلم ، بكسر السين وإسكان اللام ، والمعنى : نحن سلم ، أو أنتم سلم ، وقرئا مرفوعين . وقرىء : سلاماً قالوا سلماً ، بنصبهما وكسر سين الثاني وسكون لامه .{ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } ، قال أبو العالية : أنكر سلامهم في تلك الأرض وذلك الزمان .

وقيل : لا نميزهم ولا عهد لنا بهم .

وقيل : كان هذا سؤالهم ، كأنه قال : أنتم قوم منكرون ، فعرّفوني من أنتم . وقوم خبر مبتدأ محذوف قدره أنتم ، والذي يناسب حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لا يخاطبهم بذلك ، إذ فيه من عدم الإنس ما لا يخفى ، بل يظهر أنه يكون التقدير : هؤلاء قوم منكرون . وقال ذلك مع نفسه ، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه بحيث لا يسمع ذلك الأضياف .

٢٦

٢٧

فراغ إلى أهله . . . . .

{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ } : أي مضى أثناء حديثه ، مخفياً مضيه مستعجلاً ؛{ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ } : ومن أدب المضيف أن يخفي أمره ، وأن يبادر بالقرا من غير أن يشعر به الضيف ، حذراً من أن يمنعه أن يجيء بالضيافة . وكونه عطف ، فجاء على فراغ يدل على سرعة مجيئه بالقرا ، وأنه كان معداً عنده لمن يرد عليه . وقال في سورة هود :{ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } ، وهذا يدل أيضاً على أنه كان العجل سابقاً شيه قبل مجيئهم . وقال قتادة : كان غالب ماله البقر ، وفيه دليل على أنه يحضر للضيف أكثر مما يأكل . وكان عليه الصلاة والسلام مضيافاً ، وحسبك وقف للضيافة أوقافاً تمضيها الأمم على اختلاف أديانها وأجناسها .

٢٧

فقربه إليهم قال . . . . .

{فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } : فيه أدب المضيف من تقريب القرا لمن يأكل ، وفيه العرض على الأكل ؛ فإن في ذلك تأنيساً للأكل ، بخلاف من قدم طعاماً ولم يحث على أكله ، فإن الحاضر قد يتوهم أنه قدمه على سبيل التجمل ، عسى أن يمتنع الحاضر من الأكل ، وهذا موجود في طباع بعض الناس . حتى أن بعضهم إذا لج الحاضر وتمادى في الأكل ، أخذ من أحسن ما أحضر وأجزله ، فيعطيه لغلامه برسم رفعه لوقت آخر يختص هو بأكله .

وقيل : الهمزة في ألا

للإنكار ، وكأنه ثم محذوف تقديره : فامتنعوا من الأكل ، فأنكر عليهم ترك الأكل فقال : { أَلا تَأْكُلُونَ} وفي الحديث : { إنهم قالوا إنا لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه ، فقال لهم : وإني لا أبيحه لكم إلا بثمن ، قالوا : وما هو ؟ قال : أن تسموا اللّه عز وجل عند الابتداء وتحمدوه عند الفراغ من الأكل ، فقال بعضهم لبعض : بحق اتخذه اللّه خليلاً} .

٢٨

فأوجس منهم خيفة . . . . .

{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } : أي فلما استمروا على الامتناع من الأكل ، أوجس منهم خيفة ، وذلك أن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه ، وللطعام حرمة وذمام ، والامتناع منه وحشة . فخشي إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن امتناعهم من أكل طعامهم إنما هو لشر يريدونه ، فقالوا لا تخف ، وعرفوه أنهم ملائكة .

وعن ابن عباس : وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب . وعلمهم بما أضمر في نفسه من الخوف ، إنما يكون باطلاع اللّه ملائكته على ما في نفسه ، أو بظهور أمارته في الوجه ، فاستدلوا بذلك على الباطن . وعن يحيى بن شداد : مسح جبريل عليه السلام بجناحه العجل ، فقام يدرج حتى لحق بأمه .{ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } : أي سيكون عليماً ، وفيه تبشير بحياته حتى يكون من العلماء . وعن الحسن : عليم نبي ؛ والجمهور : على أن المبشر به هو إسحاق بن سارة . وقال مجاهد : هو إسماعيل .

وقيل : علم أنهم ملائكة من حيث بشروه بغيب ، ووقعت البشارة بعد التأنيس والجلوس ، وكانت البشارة بذكر ، لأنه أسر للنفس وأبهج ، ووصفه بعليم لأنها الصفة التي يختص بها الإنسان الكامل إلا بالصورة الجميلة والقوة .

٢٩

فأقبلت امرأته في . . . . .

{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ } : أي إلى بيتها ، وكانت في زاوية تنظر إليهم وتسمع كلامهم .

وقيل :{ فَأَقْبَلَتِ } ،أي شرعت في الصياح . قيل : وجدت حرارة الدم ، فلطمت وجهها من الحياء . والصرة ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وسفيان : الصيحة . قال الشاعر : فألحقنا بالهاديات ودونه

حواجرها في صرة لم تزيل

وقال قتادة وعكرمة : الرنة . قيل : قالت أوّه بصياح وتعجب . وقال ابن بحر : الجماعة ، أي من النسوة تبادروا نظراً إلى الملائكة . وقال الجوهري : الصرة : الصيحة والجماعة والشدة .{ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } : أي لطمته ، قاله ابن عباس ، وكذلك كما يفعله من يرد عليه أمر يستهو له ويتعجب منه ، وهو فعل النساء إذا تعجبن من شيء . وقال السدي وسفيان : ضربت بكفها جبهتها ، وهذا مستعمل في الناس حتى الآن .{ وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } : أي إنا قد اجتمع فيها أنها عجوز ، وذلك مانع من الولادة ، وأنها عقيم ، وهي التي لم تلد قط ، فكيف ألد ؟ تعجبت من ذلك .

٣٠

قالوا كذلك قال . . . . .

{قَالُواْ كَذَلِكِ } : أي مثل القول الذي أخبرناك به ، { قَالَ رَبُّكِ } : وهو القادر على إيجاد ما يستبعد . وروي أن جبريل عليه السلام قال لها : انظري إلى سقف بيتك ، فنظرت ، فإذا جذوعه مورقة مثمرة .{ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ } : أي ذو الحكمة .{ الْعَلِيمُ } بالمصالح .

ولما علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنهم ملائكة ، وأنهم لا ينزلون إلا بإذن اللّه تعالى رسلاً ،

٣١

انظر تفسير الآية:٣٢

٣٢

قال فما خطبكم . . . . .

قال { فَمَا خَطْبُكُمْ } إلى :{ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } : أي ذوي جرائم ، وهي كبار المعاصي من كفر وغيره .

٣٣

لنرسل عليهم حجارة . . . . .

{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ } : أي لنهلكهم بها ، { حِجَارَةً مّن طِينٍ } : وهو السجيل ، طين يطبخ كما يطبخ الآجر حتى يصير في صلابة كالحجارة .

٣٤

مسومة عند ربك . . . . .

{مُّسَوَّمَةً } : معلمة ، على كل واحد منها اسم صاحبه .

وقيل : معلمة أنها من حجارة العذاب .

وقيل : معلمة أنها ليست من حجارة الدنيا ، { لِلْمُسْرِفِينَ } : وهم المجاوزون الحد في الكفر .

٣٥

انظر تفسير الآية:٣٧

٣٧

فأخرجنا من كان . . . . .

{فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا } : في القرية التي حل العذاب بأهلها .{ غَيْرَ بَيْتٍ } : هو بيت لوط عليه السلام ، وهو لوط وابنتاه فقط ،

وقيل : ثلاثة عشر نفساً . وقال الرماني : الآية تدل على أن الإيمان هو الإسلام ، وكذا

قال الزمخشري ، وهما معتزليان .

{وَتَرَكْنَا فِيهَا } : أي في القرية ، { ءايَةً } : علامة . قال ابن جريج : حجراً كبيراً جدًّا منضوداً .

وقيل : ماء أسود منتن . ويجوز أن يكون فيها عائداً على الإهلاكة التي أهلكوها ، فإنها من أعاجيب الإهلاك ،

بجعل أعالي القرية أسافل وإمطار الحجارة .

٣٨

وفي موسى إذ . . . . .

والظاهر أن قوله : { وَفِى مُوسَى } معطوف على { وَتَرَكْنَا فِيهَا } : أي في قصة موسى .

وقال الزمخشري وابن عطية :{ وَفِى مُوسَى } يكون عطفاً على { وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ}{ وَفِى مُوسَى } ، وهذا بعيد جدًّا ، ينزه القرآن عن مثله .

وقال الزمخشري أيضاً : أو على قوله ، { وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً } ، على معنى : وجعلنا في موسى آية ، كقوله : علفتها تبناً وماء بارداً انتهى ، ولا حاجة إلى إضمار { وَتَرَكْنَا } ، لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور { وَتَرَكْنَا}

٣٩

فتولى بركنه وقال . . . . .

{فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ } : أي ازور وأعرض ، كما قال :{ وَنَأَى بِجَانِبِهِ}

وقيل : بقوته وسلطانه . وقال ابن زيد : بركنه : بمجموعه . وقال قتادة : بقومه .{ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } : ظن أحدهما ، أو تعمد الكذب ، وقد علم أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حقاً . وقال أبو عبيدة : أو بمعنى الواو ، ويدل على ذلك أنه قد قالهما ، قال :{ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } ، و { قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } ، واستشهد أبو عبيدة بقول جرير :

أثعلبة الفوارس أو رباحا

عدلت بهم طهية والحشايا

ولا ضرورة تدعو إلى جعل أو بمعنى الواو ، إذ يكون قالهما ، وأبهم على السامع ، فأو للإبهام .

٤٠

فأخذناه وجنوده فنبذناهم . . . . .

{هُوَ مُلِيمٌ } : أي أتى من المعاصي ما يلام عليه .

٤١

وفي عاد إذ . . . . .

{الْعَقِيمَ } التي لا خير فيها ، من الشتاء مطر ، أو لقاح شجر . وفي الصحيح : نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور . فقول من ذهب إلى أنها الصبا ، أو الجنوب ، أو النكباء ، وهي ريح بين ريحين ، نكبت عن سمت القبلة ، فسميت نكباء ، ليس بصحيح ، لمعارضته للنص الثابت عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم أنها الدبور .

٤٢

ما تذر من . . . . .

{مَا تَذَرُ مِن شَىْء أَتَتْ عَلَيْهِ } : وهو عام مخصوص ، كقوله :{ تُدَمّرُ كُلَّ شَىْء بِأَمْرِ رَبّهَا } : أي مما أراد اللّه تدميره وإهلاكه من ناس أو ديار أو شجر أو نبات ، لأنها لم يرد اللّه بها إهلاك الجبال والآكام والصخور ، ولا العالم الذي لم يكن من قوم عاد .{ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } : جملة حالية ، والرميم تقدّم تفسيره في يس ، وهنا قال السدّي : التراب ، وقتادة : الهشيم ، ومجاهد : البالي ، وقطرب : الرماد ، وابن عيسى : المنسحق الذي لا يرم ، جعل الهمزة في أرم للسلب . روي أن الريح كانت تمر بالناس ، فيهم الرجل من قوم عاد ، فتنزعه من بينهم وتهلكه .

٤٣

وفي ثمود إذ . . . . .

{تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ } ، قال الحسن : هذا كان حين بعث إليهم صالح ، أمروا بالإيمان بما جاء به ، والتمتع إلى أن تأتي آجالهم ، ثم إنهم عتوا بعد ذلك ، ولذلك جاء العطف بالفاء المقتضية تأخر العتو عن ما أمروا به ، فهو مطابق لفظاً ووجود . وقال الفراء : هذا الأمر بالتمتع كان بعد عقر الناقة ، والحين ثلاثة أيام التي أوعدوا في تمامها بالعذاب . فالعتو كان قد تقدم قبل أن يقال لهم تمتعوا ، ولا ضرورة تدعو إلى قول الفراء ، إذ هو غير مرتب في الوجود .

٤٤

فعتوا عن أمر . . . . .

وقرأ الجمهور : الصاعقة ؛ وعمر وعثمان رضي اللّه تعالى عنهما ، والكسائي : الصعقة ، وهي الصيحة هنا .

وقرأ الحسن : الصاعقة ؛ وزيد بن علي كقراءة الكسائي . { وَهُمْ يَنظُرُونَ } : أي فجأة ، وهم ينظرون بعيونهم ، قاله الطبري : وكانت نهاراً . وقال مجاهد :{ وَهُمْ يَنظُرُونَ } ينتظرون ذلك في تلك الأيام الثلاثة التي أعلموه فيها ، ورأوا علاماته في قلوبهم ، وانتظار العذاب أشد من العذاب .

٤٥

فما استطاعوا من . . . . .

{فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ } ، لقوله :{ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ، ونفي الاستطاعة أبلغ من نفي القدرة .{ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ } ، أبلغ من نفي الانتصار : أي فما قدروا على الهرب ، ولا كانوا ممن ينتصر لنفسه فيدفع ما حل به .

وقيل :{ مِن قِيَامٍ } ، هو من قولهم : ما يقوم به إذا عجز عن دفعه ، فليس المعنى انتصاب القامة ، قاله قتادة .

٤٦

وقوم نوح من . . . . .

وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : { وَقَوْمِ } بالجر عطفاً على ما تقدم ، أي وفي قوم نوح ، وهي قراءة عبد اللّه .

وقرأ باقي السبعة ، وأبو عمرو في رواية : بالنصب . قيل : عطفاً على الضمير في { فَأَخَذَتْهُمُ } ؛

وقيل : عطفاً على { فَنَبَذْنَاهُمْ } ، لأن معنى كل منهما : فأهلكناهم .

وقيل : منصوب بإضمار فعل تقديره : وأهلكنا قوم نوح ، لدلالة معنى الكلام عليه .

وقيل : باذكر مضمرة . وروى عبد الوارث ، ومحبوب ، والأصمعي عن أبي عمرو ، وأبو السمال ، وابن مقسم : وقوم نوح بالرفع على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي أهلكناهم .

٤٧

والسماء بنيناها بأيد . . . . .

أي : وبنينا السماء ، فهو من باب الاشتغال ، وكذا وفرشنا الأرض .

وقرأ أبو السمال ، ومجاهد ، وابن مقسم : برفع السماء ورفع الأرض على الابتداء . { بِأَيْدٍ } : أي بقوة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وهو كقوله :{ دَاوُودُ ذَا الاْيْدِ}{ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } : أي بناءها ، فالجملة حالية ، أي بنيناها موسعوها ، كقوله : جاء زيد وإنه لمسرع ، أي مسرعاً ، فهي بحيث أن الأرض وما يحيط من الماء والهواء كالنقطة وسط الدائرة . وقال ابن زيد قريباً من هذا وهو : أن الوسع راجع إلى السماء .

وقيل : لموسعون قوة وقدرة ، أي لقادرون من الوسع ، وهو الطاقة . وقال الحسن : أوسع الرزق بالمطر والماء .

٤٨

انظر تفسير الآية:٤٩

٤٩

والأرض فرشناها فنعم . . . . .

{فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } ، و { خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } ، قال مجاهد : إشارة إلى المتضادات والمتقابلات ، كالليل والنهار ، والشقاوة والسعادة ، والهدى والضلال ، والسماء والأرض ، والسواد والبياض ، والصحة والمرض ، والكفر والإيمان ، ونحو ذلك ، ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة التي توجد الضدين ، بخلاف ما يفعل بطبعه ، كالتسخين والتبريد . ومثل الحسن بأشياء مما تقدم وقال : كل اثنين منها زوج ، واللّه تعالى فرد لا مثل له . وقال ابن زيد وغيره :{ مِن كُلّ شَىْء } : أي من الحيوان ، { خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } : ذكراً وأنثى .

وقيل : المراد بالشيء الجنس ، وما يكون تحت الجنس نوعان : فمن كل جنس خلق نوعين من الجواهر ، مثل النامي والجامد . ومن النامي المدرك والنبات ، ومن المدرك الناطق والصامت ، وكل ذلك يدل على أنه فرد لا كثرة فيه .{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } : أي بأني باني السماء وفارش الأرض وخالق الزوجين ، تعالى أن يكون له زوج . أو تذكرون أنه لا يعجزه حشر الأجساد وجمع الأرواح .

وقرأ أبي : تتذكرون ، بتاءين وتخفيف الذال .

وقيل : إرادة أن تتذكروا ، فتعرفوا الخالق وتعبدوه .

٥٠

ففروا إلى اللّه . . . . .

{فَفِرُّواْ إِلَى اللّه} : أمر بالدخول في الإيمان وطاعة اللّه ، وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار ، لينبه على أن وراء الناس عقاب وعذاب . وأمر حقه أن يفر منه ، فجمعت لفظة ففروا بين التحذير والاستدعاء . وينظر إلى هذا المعنى قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : { لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك } ، قاله ابن عطية ، وهو تفسير حسن .

وقال الزمخشري : إلى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ، ووحدوه ولا تشركوا به شيئاً . وكرر { إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ، عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل ، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان ، وأنه لا يفوز عند اللّه إلا الجامع بينهما . ألا ترى إلى قوله :{ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا } ؟ والمعنى : قل يا محمد ففروا إلى اللّه . انتهى ، وهو على طريق الاعتزال . وقد رددنا عليه في تفسير { لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا } في موضع هذه الآية

٥٢

كذلك ما أتى . . . . .

{كَذالِكَ } : أي أمر الأمم السابقة عند مجيء الرسل إليهم ، مثل الأمر من الكفار الذين بعثت إليهم ، وهو التكذيب .{ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } : أو للتفصيل ، أي قال بعض ساحر ، وقال بعض مجنون ، وقال بعض كلاهما ، ألا ترى إلى قوم نوح عليه الصلاة والسلام لم يقولوا عنه إنه ساحر ، بل قالوا به جنة ، فجمعوا في الضمير ودلت أو على التفصيل ؟

٥٣

أتواصوا به بل . . . . .

{أَتَوَاصَوْاْ بِهِ } : أي بذلك القول ، وهو توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة على تكذيب الأنبياء ، مع افتراق أزمانهم ، { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } : أي لم يتواصوا به ، لأنهم لم يكونوا في زمان واحد ، بل جمعتهم علة واحدة ، وهي كونهم طغاة ، فهم مستعلون في الأرض ، مفسدون فيها عاتون .

٥٤

فتول عنهم فما . . . . .

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } : أي أعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة ، فلم يجيبوا .{ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ } : إذ قد بلغت ونصحت .

٥٥

وذكر فإن الذكرى . . . . .

{وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } : تؤثر فيهم وفيمن قدر اللّه أن يؤمن ، وما دل عليه الظاهر من الموادعة منسوخ بآية السيف . وعن عليّ ، كرم اللّه وجهه : لما نزل { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } ، حزن المسلمون وظنوا أنه أمر بالتولي عن الجميع ، وأن الوحي قد انقطع ، نزلت { وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } ، فسروا بذلك .{ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } : أي { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ } الطائعين ، قاله زيد بن أسلم وسفيان ، ويؤيده رواية ابن عباس ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :

٥٦

وما خلقت الجن . . . . .

{وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين } . وقال علي وابن عباس :{ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } : إلا لآمرهم بعبادتي ، وليقروا لي بالعبادة . فعبر بقوله :{ لِيَعْبُدُونِ } ، إذ العبادة هي مضمن الأمر ، فعلى هذا الجن والإنس عام .

وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : إلا معدين ليعبدون ، وكأن الآية تعديد نعمه ، أي خلقت لهم حواس وعقولاً وأجساماً منقادة ، نحو : العبادة ، كما تقول : هذا مخلوق لكذا ، وإن لم يصدر منه الذي خلق له ، كما تقول : القلم مبري لأن يكتب به ، وهو قد يكتب به وقد لا يكتب به ،

وقال الزمخشري : إلا لأجل العبادة ، ولم أرد من جميعهم إلا إياها .

فإن قلت : لو كان مريداً للعبادة منهم ، لكانوا كلهم عباداً .

قلت : إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها ، لأنه خلقهم ممكنين ، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريداً لها ، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . وقال مجاهد :{ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } : ليعرفون . وقال ابن زيد : لأحملهم في العبادة على الشقاوة والسعادة . وقال الربيع بن أنس : إلا للعبادة ، قال : وهو ظاهر اللفظ .

وقيل : إلا ليذلوا لقضائي . وقال الكلبي : إلا ليوحدون ، فالمؤمن يوحده في الشدة والرخاء ، والكافر في الشدة . وقال عكرمة : ليطيعون ، فأثيب العابد ، وأعاقب الجاحد . وقال مجاهد أيضاً : إلا للأمر والنهي .

٥٧

انظر تفسير الآية:٥٨

٥٨

ما أريد منهم . . . . .

{مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ } : أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم .{ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } : أي أن يطعموا خلقي ، فهو على حذف مضاف ، فالإضافة إلى الضمير تجوز ، قاله ابن عباس .

وقيل :{ أَن يُطْعِمُونِ } : أن ينفعون ، فذكر جزأ من المنافع وجعله دالاً على الجميع .

وقال الزمخشري : يريد إن شأني مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم ، لأن ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا في تحصيل معايشهم وأرزاقهم بهم ؛ فإما مجهز في تجارة يبغي ربحاً ، أو مرتب في فلاحة ليقتل أرضاً ، أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته ، أو محتطب ، أو محتش ، أو مستق ، أو طابخ ، أو خابز ، أو ما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق . فأما مالك ملاك العبيد فقال لهم : اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم ، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم ، وأنا غني عنكم وعن مرافقكم ، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي ، فما هو إلا أن انا وحدي . انتهى ، وهو تكثير وخطابة .

وقرأ ابن محيصن :{ الرَّزَّاقُ } ، كما قرأ :{ وَفِى السَّمَاء } : اسم فاعل ، وهي قراءة حميد .

وقرأ الأعمش ، وابن وثاب :{ الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } بالجر ، صفة للقوة على معنى الاقتدار ، قاله الزمخشري ، أو كأنه قال : ذو الأيد ، وأجاز أبو الفتح أن تكون صفة لذو وخفض على الجوار ، كقولهم : هذا جحر ضب خرب .

٥٩

فإن للذين ظلموا . . . . .

{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } : هم أهل مكة وغيرهم من الكفار الذين كذبوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ذنوباً : أي حظاً ونصيباً ، { مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ } : من الأمم السابقة التي كذبت الرسل في الإهلاك والعذاب . وعن قتادة : سجلاً من عذاب اللّه مثل سجل أصحابهم . وقال الجوهري : الذنوب : الدلو الملأى ماء ، ولا يقال لها ذنوب وهي فارغة وجمعها العدد ، وفي الكثير ذنائب . والذنوب : الفرس الطويل الذنب ، والذنوب : النصيب ، والذنوب : لحم أسفل المتن . وقال ابن الأعرابي : يقال يوم ذنوب : أي طويل الشر لا ينقضي .

٦٠

فويل للذين كفروا . . . . .

{فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ } ،قيل : يوم بدر .

وقيل : يوم القيامة { الَّذِى يُوعَدُونَ } : أي به ، أو يوعدونه .

﴿ ٠