سورة القمر

مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

اقتربت الساعة وانشق . . . . .

الجدث : القبر ، وتبدل ثاؤه فاء فيقال : جدف ، كما أبدلوا في ثم فقالوا : فم . انهمر الماء : نزل بقوة غزيراً ، قال الشاعر : راح تمريه الصبا ثم تنحى

فيه شؤبوب جنوب منهمر

الدسر : المسامير التي تشدّ بها السفينة ، واحدها دسار ، نحو كتاب وكتب .

ويقال : دسرت السفينة ، إذا شددتها بالمسامير . وقال الليث وصاحب الصحاح : الدسر : خيوط تشدّ بها ألواح السفينة . الصرصر : الشديدة الصوت ، أو البرد ، إما من صرير الباب ، وهو تصويته ، أو من الصر الذي هو البرد ، وهو بناء متأصل على وزن فعلل عند الجمهور . العجز : مؤخر الشيء . المنقعر : المنقلع : من أصله ، قعرت الشجرة قعراً : قلعتها من أصلها فانقعرت ، والبئر : نزلت حتى انتهيت إلى قعرها ، والإناء : شربت ما فيه حتى انتهيت إلى قعره ، وأقعرته البئر : جعلت لها قعراً . الأشر : البطر .

وقرأ : أشر بالكسر يأشر أشراً ، فهو أشر وآشر وأشران ، وقوم أشارى ، مثل : سكران وسكارى . سقر : علم لجهنم مشتق من سقرته النار بالسين ، وصقرته بالصاد إذا لوّحته . قال ذو الرمّة : إذا دابت الشمس اتقى صقراتها

بأفنان مربوع الصريمة معيل

وامتنعت سقر من الصرف للعلمية ، والتأنيث تنزلت حركة وسطه تنزل الحرف الرابع في زينب .

هذه السورة مكية في قول الجمهور .

وقيل : هي مما نزل يوم بدر . وقال مقاتل : مكية إلا ثلاث آيات ، أولها :{ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ } ، وآخرها :{ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وسبب نزولها أن مشركي قريش قالوا للرسول صلى اللّه عليه وسلم : إن كنت صادقاً فشق لنا القمر

فرقتين ، ووعدوه بالإيمان إن فعل . وكانت ليلة بدر ، فسأل ربه ، فانشق القمر نصف على الصفا ونصف على قيقعان . فقال أهل مكة : آية سماوية لا يعمل فيها السحر . فقال أبو جهل : اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي ، فإن أخبروا بانشقاقه فهو صحيح ، وإلا فقد سحر محمد أعيننا . فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر ، فأعرض أبو جهل وقال : { سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ}

وعن ابن عباس : شق القمر شقين ، شطرة على السويداء وشطرة على الحديبية . وعنه : انشق القمر بمكة مرتين . وعنه : انفلق فلقتين ، فلقة ذهبت وفلقة بقيت .

ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها ظاهرة ، قال :{ أَزِفَتِ الاْزِفَةُ } ، وقال :{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} وممن عاين انشقاق القمر ابن مسعود جبير بن مطعم ، وأخبر به ابن عمر وأنس وحذيفة وابن عباس . وحين أرى اللّه الناس انشقاق القمر ، قال الرسول صلى اللّه عليه وسلم : { اشهدوا } ، وقال المشركون إذ ذاك : سحرنا محمد .

وقال بعضهم : سحر القمر . والأمة مجمعة على خلاف من زعم أن قوله : { وَانشَقَّ الْقَمَرُ } معناه : أنه ينشق يوم القيامة ، ويرده من الآية قوله :{ وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} فلا يناسب هذا الكلام أن يأتي إلا بعد ظهور ما سألوه معيناً من انشقاق القمر .

وقيل : سألوا آية في الجملة ، فأراهم هذه الآية السماوية ، وهي من أعظم الآيات ، وذلك التأثير في العالم العلوي .

وقرأ حذيفة : وقد انشق القمر ، أي اقتربت ، وتقدم من آيات اقترابها انشقاق القمر ، كما تقول : أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه . وخطب حذيفة بالمدائن ، ثم قال : ألا إن الساعة قد اقتربت ، وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم ، ولا التفات إلى قول الحسن أن المعنى : إذ جاءت الساعة انشق القمر بعد النفخة الثانية ، ولا إلى قول من قال : إن انشقاقه عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه في أثنائها ،

فالمعنى : ظهر الأمر ، فإن العرب تضرب بالقمر مثلاً فيما وضح ، كما يسمى الصبح فلقاً عند انفلاق الظلمة عنه ، وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق . قال النابغة : فلما أدبروا ولهم دوي

دعانا عند شق الصبح داعي

وهذه أقوال فاسدة ، ولولا أن المفسرين ذكروها ، لأضربت عن ذكرها صفحاً .

٢

وإن يروا آية . . . . .

{وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ } ، وقرىء : وإن يروا مبنياً للمفعول : أي من شأنهم وحالتهم أنهم متى رأوا ما يدل على صدق الرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الآيات الباهرة أعرضوا عن الإيمان به وبتلك الآية . وجاءت الجملة شرطية ليدل على أنهم في الاستقبال على مثل حالهم في الماضي ، ويقولوا :{ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } : أي دائم ، ومنه قول الشاعر : ألا إنما الدنيا ليال وأعصر

وليس على شيء قويم بمستمر

لما رأوا الآيات متوالية لا تنقطع ، قالوا ذلك . وقال أبو العالية والضحاك والأخفش : مستمر : مشدود موثق من مرائر الحبل ، أي سحر قد أحكم ، ومنه قول الشاعر : حتى استمرت على سر مريرته

صدق العزيمة لا رياً ولا ضرعا

وقال أنس ويمان ومجاهد والكسائي والفراء ، واختاره النحاس : مستمر : مار ذاهب زائل عن قريب ، عللوا بذلك أنفسهم .

وقيل مستمر : شديد المرارة ، أي مستبشع عندنا مر ، يقال : مر الشيء وأمر ، إذا صار مراً ، وأمر غيره

ومره ، يكون لازماً ومتعدياً .

وقيل : مستمر : يشبه بعضه بعضاً ، أي استمرت أفعاله على هذا الوجه من التخيلات .

وقيل : مستمر : مار من الأرض إلى السماء ، أي بلغ من سحره أنه سحر القمر .

٣

وكذبوا واتبعوا أهواءهم . . . . .

{وَكَذَّبُواْ } : أي بالآيات وبمن جاء بها ، أي قالوا هذا سحر مستمر سحرنا محمد .{ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ } : أي شهوات أنفسهم وما يهوون .{ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } ، بكسر القاف وضم الراء : مبتدأ أو خبر . قال مقاتل : أي له غاية ينتهي إليها . وقال الكلبي : مستقرّ له حقيقة ، فما كان في الدنيا فسيظهر ، وما كان في الآخرة فسيعرف . وقال قتادة : معناه أن الخير يستقر بأهل الخير ، والشر بأهل الشر .

وقيل : يستقر الحق ظاهراً ثابتاً ، والباطل زاهقاً ذاهباً .

وقيل : كل أمر من أمرهم وأمره يستقر على خذلان أو نصرة في الدنيا وسعادة ، أو شقاوة في الآخرة .

وقرأ شيبة : مستقر بفتح القاف ، ورويت عن نافع ؛ وقال أبو حاتم : لا وجه لفتح القاف . انتهى . وخرجت على حذف مضاف ، أي ذو استقرار ، وزمان استقرار .

وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي : مستقر بكسر القاف والراء معاً صفة لأمر . وخرجه الزمخشري على أن يكون وكل عطفاً على الساعة ، أي اقتربت الساعة ، واقترب كل أمر مستقر يستقر ويتبين حاله ، وهذا بعيد لطول الفصل بجمل ثلاث ، وبعيد أن يوجد مثل هذا التركيب في كلام العرب ، نحو : أكلت خبزاً وضربت زيداً ، وأن يجيء زيد أكرمه ورحل إلى بني فلان ولحماً ، فيكون ولحماً عطفاً على خبزاً ، بل لا يوجد مثله في كلام العرب . وخرجه صاحب اللوامح على أنه خبر لكل ، فهو مرفوع في الأصل ، لكنه جر للمجاورة ، وهذا ليس بجيد ، لأن الخفض على الجوار في غاية الشذوذ ، ولأنه لم يعهد في خبر المبتدأ ، إنما عهد في الصفة على اختلاف النحاة في وجوده ، والأسهل أن يكون الخبر مضمراً لدلالة المعنى عليه ، والتقدير :{ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } بالغوه ، لأن قبله :{ وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ } : أي وكل أمر مستقر لهم في القدر من خير أو شر بالغه هم .

وقيل : الخبر حكمة بالغة ، أي وكل أمر مستقر حكمة بالغة . ويكون :

٤

ولقد جاءهم من . . . . .

{وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الاْنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } اعتراض بين المبتدأ وخبره .

{وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الاْنبَاء } : أي من الأخبار الواردة في القرآن في إهلاك من كذب الأنبياء وما يؤولون إليه في الآخرة ، { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } : أي ازدجار رادع لهم عن ما هم فيه ، أو موضع ازدجار وارتداع ، أي ذلك موضع ازدجار ، أو مظنة له . وقرىء مزجر ، بإبدال تاء الافتعال زاياً وإدغام الزاي فيها .

وقرأ زيد بن علي : مزجر اسم فاعل من أزجر ، أي صار ذا زجر ، كأعشب : أي صار ذا عشب .

٥

حكمة بالغة فما . . . . .

وقرأ الجمهور : { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } برفعهما ، وجوزوا أن تكون حكمة بدلاً من مزدجر أو من ما ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وتقدم قول من جعله خبراً عن كل في قراءة من قرأ مستقر بالجر .

وقرأ اليماني : حكمة بالغة بالنصب فيهما حالاً من ما ، سواء كانت ما موصولة أم موصوفة تخصصت بالصفة ، ووصفت الحكمة ببالغة لأنها تبلغ غيرها .{ فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ } مع هؤلاء الكفرة .

٦

فتول عنهم يوم . . . . .

ثم سلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم فقال : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي أعرض عنهم ، فإن الإنذار لا يجدي فيهم . ثم ذكر شيئاً من أحوال الآخرة وما يؤولون إليه ، إذ ذاك متعلق باقتراب الساعة ، فقال :{ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِىَ } ، والناصب ليوم اذكر مضمرة ، قاله الرماني ، أو يخرجون . وقال الحسن : المعنى : فتول عنهم إلى يوم ، وهذا ضعيف من جهة اللفظ ومن جهة المعنى . أما من جهة اللفظ فحذف إلى ،

وأما من جهة المعنى فإن توليه عنهم ليس مغياً بيوم يدع الداع . وجوزوا أن يكون منصوباً بقوله :{ فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ } ، ويكون { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } اعتراضاً ، وأن يكون منصوباً بقوله :{ يَقُولُ الْكَافِرُونَ}

ومنصوباً على إضمار انتظر ، ومنصوباً بقوله : { فَتَوَلَّ } ، وهذا ضعيف جدّاً ، ومنصوباً بمستقر ، وهو بعيد أيضاً . وحذفت الواو من يدع في الرسم اتباعاً للنطق ، والياء من الداع تخفيفاً أجريت أل مجرى ما عاقبها ، وهو التنوين . فكما تحذف معه حذفت معها ، والداع هو إسرافيل ، أو جبرائيل ، أو ملك غيرهما موكل بذلك ، أقوال .

وقرأ الجمهور :{ نُّكُرٍ } بضم الكاف ، وهو صفة على فعل ، وهو قليل في الصفات ، ومنه رجل شلل : أي خفيف في الحاجة ، وناقة أجد ، ومشية سجح ، وروضة أنف .

وقرأ الحسن وابن كثير : وشبل بإسكان الكاف ، كما قالوا : شغل وشغل ، وعسر وعسر .

وقرأ مجاهد وأبو قلابة والجحدري وزيد بن علي : نكر فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول ، أي جهل فنكر . وقال الخليل : النكر نعت للأمر الشديد ، والوجل الداهية ، أي تنكره النفوس لأنها لم تعهد مثله ، وهو يوم القيامة . قال مالك بن عوف النضري : أقدم محاج أنه يوم نكر

مثلي على مثلك يحمي ويكر

٧

خشعا أبصارهم يخرجون . . . . .

وقرأ قتادة وأبو جعفر وشيبة والأعرج والجمهور : خشعاً جمع تكسير ؛ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وحمزة والكسائي : خاشعاً بالإفراد .

وقرأ أبيّ وابن مسعود : خاشعة ، وجمع التكسير أكثر في كلام العرب . وقال الفراء وأبو عبيدة : كله جائز . انتهى ، ومثال جمع التكسير قول الشاعر : بمطرد لذن صحاح كعربه

وذي رونق عضب يقد الوانسا

ومثال الإفراد قوله : ورجال حسن أو جههم

من أياد بن نزار بن معد

وقال آخر :

ترمي الفجاج به الركبان معترضاً

أعناق بزلها مرخى لها الجدل

وانتصب خشعاً وخاشعا وخاشعة على الحال من ضمير يخرجون ، والعامل فيه يخرجون ، لأنه فعل متصرف ، وفي هذا دليل على بطلان مذهب الجرمى ، لأنه لا يجوز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفاً . وقد قالت العرب : شتى تؤب الحلبة ، فشتى حال ، وقد تقدمت على عاملها وهو تؤب ، لأنه فعل متصرف ، وقال الشاعر :

سريعاً يهون الصعب عند أولي النهي

إذا برجاء صادق قابلوه البأسا

فسريعاً حال ، وقد تقدمت على عاملها ، وهو يهون .

وقيل : هو حال من الضمير المجرور في عنهم من قوله : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ }

وقيل : هو مفعول بيدع ، أي قوماً خشعاً ، أو فريقاً خشعاً ، وفيه بعد . ومن أفرد خاشعاً وذكر ،

فعلى تقدير تخشع أبصارهم ؛ ومن قرأ خاشعة وأنث ، فعلى تقدير تخشع ؛ ومن قرأ خشعاً جمع تكسير ، فلأن الجمع موافق لما بعده ، وهو أبصارهم ، وموافق للضمير الذي هو صاحب الحال في يخرجون ، وهو نظير قولهم : مررت برجال كرام آباؤهم .

وقال الزمخشري : وخشعاً على يخشعن أبصارهم ، وهي لغة من يقول : أكلوني البراغيث ، وهم طيء . انتهى . ولا يجري جمع التكسير مجرى جمع السلامة ، فيكون على تلك اللغة النادرة القليلة .

وقد نص سيبويه على أن جمع التكسير أكثر في كلام العرب ، فكيف يكون أكثر ، ويكون على تلك اللغة النادرة القليلة ؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإفراد مذكراً ومؤنثاً وجمع التكسير ، قال : لأن الصفة متى تقدمت على الجماعة جاز فيها جميع ذلك ، والجمع موافق للفظها ، فكان أشبه . انتهى . وإنما يخرج على تلك اللغة إذا كان الجمع مجموعاً بالواو والنون نحو : مررت بقوم كريمين آباؤهم . والزمخشري قاس جمع التكسير على هذا الجمع السالم ، وهو قياس فاسد ، ويزده النقل عن العرب أن جمع التكسير أجود من الإفراد ، كما ذكرناه عن سيبويه ، وكما دل عليه كلام الفراء ؛ وجوز أن يكون في خشعاً ضمير ، وأبصارهم بدل منه . وقرىء : خشع أبصارهم ، وهي جملة في موضع الحال ، وخشع خبر مقدم ، وخشوع الأبصار كناية عن الذلة ، وهي في العيون أظهر منها في سائر الجوارح ؛ وكذلك أفعال النفس من ذلة وعزة وحياء وصلف وخوف وغير ذلك .

{كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } : جملة حالية أيضاً ، شبههم بالجراد في الكثرة والتموج ،

ويقال : جاءوا كالجراد في الجيش الكثير المتموج ،

ويقال : كالذباب . وجاء تشبيههم أيضاً بالفراش المبثوث ، وكل من الجراد والفراش في الخارجين يوم الحشر شبه منهما .

وقيل : يكونون أولاً كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون ، لأن الفراش لا جهة له يقصدها ، ثم كالجراد المنتشر إذا توجهوا إلى المحشر والداعي ، فهما تشبيهان باعتبار وقتين ، قال معناه مكي بن أبي طالب .

٨

مهطعين إلى الداع . . . . .

{مُهْطِعِينَ } ، قال أبو عبيدة : مسرعين ، ومنه قوله : بدجلة دارهم ولقد أراهم

بدجلة مهطعين إلى السماع

زاد غيره : مادّي أعناقهم ، وزاد غيره : مع هز ورهق ومد بصر نحو المقصد ، إما لخوف أو طمع ونحوه . وقال قتادة : عامدين . وقال الضحاك : مقبلين . وقال عكرمة : فاتحين آذانهم إلى الصوت .

وقال ابن عباس : ناظرين . ومنه قول الشاعر : تعبدني نمر بن سعد وقد أرى

ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع

وقيل : خافضين ما بين أعينهم . وقال سفيان : خاشعة أبصارهم إلى السماء .{ يَوْمٌ عَسِرٌ } ، لما يشاهدون من مخايل هوله ، وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه .

٩

كذبت قبلهم قوم . . . . .

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } : أي قبل قريش ، { قَوْمُ نُوحٍ } وفيه وعيد لقريش وضرب مثل لهم . ومفعول كذبت محذوف ، أي كذبت الرسل ، فكذبوا نوحاً عليه السلام . لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأساً ، كذبوا نوحاً لأنه من جملة الرسل . ويجوز أن يكون المحذوف نوحاً أول مجيئه إليهم ، فكذبوه تكذيباً يعقبه تكذيب . كلما مضى منهم قرن مكذب ، تبعه قرن مكذب . وفي لفظ عبدنا تشريف وخصوصية بالعبودية ، كقوله تعالى :{ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ } ،{ سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ}{ وَقَالُواْ مَجْنُونٌ } : أي هو مجنون . لما رأوا الآيات الدالة على صدقه قالوا : هو مصاب الجن ، لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إلى الجنون ، أي

يقول ما لا يقبله عاقل ، وذلك مبالغة في تكذيبهم .

{وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ } ، الظاهر أن قوله :{ وَازْدُجِرَ } من أخبار اللّه تعالى ، أي انتهروه وزجروه بالسبب والتخويف ، قاله ابن زيد

وقرأ :{ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ نُوحٌ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ} قيل : والمعنى أنهم فعلوا به ما يوجب الانزجار من دعائهم حتى ترك دعوتهم إلى الإيمان وعدل إلى الدعاء عليهم . وقال مجاهد : وازدجر من تمام قولهم ، أي قالوا وازدجر : أي استطير جنوناً ، أي ازدجرته الجن وذهبت بلبه وتخبطته .

١٠

فدعا ربه أني . . . . .

وقرأ ابن إسحاق وعيسى والأعمش وزيد بن عليّ ، ورويت عن عاصم : إني بكسر الهمزة ، على إضمار القول على مذهب البصريين ، أو على إجراء الدعاء مجرى القول على مذهب الكوفيين .

وقرأ الجمهور : بفتحها ، أي بأني مغلوب ، أي غلبني قومي ، فلم يسمعوا مني ، ويئست من إجابتهم لي . { فَانتَصِرْ } : أي فانتقم بعذاب تبعثه عليهم . وإنما دعا عليهم بعد ما يئس منهم وتفاقم أمرهم ، وكان الواحد من قومه يخنقه إلى أن يخر مغشياً عليه ، وقد كان يقول : اللّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، ومتعلق { فَانتَصِرْ } محذوف .

وقيل : التقدير فانتصر لي منهم بأن تهلكهم .

وقيل : فانتصر لنفسك ، إذ كذبوا رسولك فوقعت الإجابة . وللمتصوفة قول في { مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ } حكاه ابن عطية ، يوقف عليه في كتابه .

١١

ففتحنا أبواب السماء . . . . .

{فَفَتَحْنَا } : بيان أن اللّه تعالى انتصر منهم وانتقم . قيل : ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين ، فأهلكهم اللّه تعالى بمطلوبهم .{ أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء } : جعل الماء كأنه آلة يفتح بها ، كما تقول : فتحت الباب بالمفتاح ، وكأن الماء جاء وفتح الباب ، فجعل المقصود ، وهو الماء ، مقدّماً في الوجود على فتح الباب المغلق . ويجوز أن تكون الباء للحال ، أي ملتبسة بماء منهمر .

وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج ويعقوب : ففتحنا مشدّداً ؛ والجمهور : مخففاً ، { أَبْوابَ السَّمَاء } ، هذا عند الجمهور مجاز وتشبيه ، لأن المطر كثره كأنه نازل من أبواب ، كما تقول : فتحت أبواب القرب ، وجرت مزاريب السماء . وقال عليّ ، وتبعه النقاش : يعني بالأبواب المجرة ، وهي سرع السماء كسرع العيبة . وذهب قوم إلى أنها حقيقة فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء ، ومثله مروي عن ابن عباس ، قال : أبواب السماء فتحت من غير سحاب ، لم تغلق أربعين يوماً . قال السدي :{ مُّنْهَمِرٍ } : أي كثير . قال الشاعر : أعينيّ جودا بالدموع الهوامر

على خير باد من معد وحاضر

١٢

انظر تفسير الآية:١٣

١٣

وفجرنا الأرض عيونا . . . . .

وقرأ الجمهور : { وَفَجَّرْنَا } بتشديد الجيم ؛ وعبد اللّه وأصحابه وأبو حيوة والمفضل عن عاصم : بالتخفيف ؛ والمشهور أن العين لفظ مشترك . والظاهر أنها حقيقة في العين الباصرة ، مجاز في غيرها ، وهو في غير الماء مجاز مشهور ، غالب وانتصب عيوناً على التمييز ، جعلت الأرض كلها كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ من : وفجرنا عيون الأرض ، ومن منع مجيء التمييز من المفعول أعربه حالاً ، ويكون حالاً مقدرة ، وأعربه بعضهم مفعولاً ثانياً ، كأنه ضمن { وَفَجَّرْنَا } : صيرنا بالتفجير ، { الاْرْضَ عُيُوناً}

وقيل : وفجرت أربعين يوماً .

وقرأ الجمهور :{ فَالْتَقَى المَاء } ، وهو اسم جنس ، والمعنى : ماء السماء وماء الأرض .

وقرأ عليّ والحسن ومحمد بن كعب والجحدري : الماآن .

وقرأ الحسن أيضاً : الماوان .

وقال الزمخشري :

وقرأ الحسن ماوان ، بقلب الهمزة واواً ، كقولهم : علباوان . انتهى . شبه الهمزة التي هي بدل من هاء في الماء بهمزة الإلحاق في علبا . وعن الحسن أيضاً : المايان ، بقلب الهمزة ياء ، وفي كلتا القراءتين شذوذ .{ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } : أي على حالة ورتبة قد فصلت في الأزل .

وقيل : على مقادير قد رتبت وقت التقائه ، فروى أن ماء الأرض كان على سبعة عشر ذراعاً ، ونزل ماء السماء على تكملة أربعين ذراعاً .

وقيل : كان ماء الأرض أكثر .

وقيل : كانا متساويين ، نزل من السماء قدر ما خرج من الأرض .

وقيل :{ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } : في اللوح

أنه يكون ، وهو هلاك قوم نوح عليه السلام بالطوفان ، وهذا هو الراجح ، لأن كل قصة ذكرت بعد هذه القصة ذكر اللّه هلاك مكذبي الرسل فيها ، فيكون هذا كناية عن هلاك قوم نوح ، ولذلك ذكر نجاة نوح بعدها في قوله : { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ}

وقرأ أبو حيوة : قدر بشد الدال ؛ والجمهور ؛ بتخفيفها ، وذات الألواح والدسر هي السفينة التي أنشأها نوح عليها السلام . ويفهم من هذين الوصفين أنها السفينة ، فهي صفة تقوم مقام الموصوف وتنوب عنه ، ونحوه : قميصي مسرودة من حديد ، أي درع ، وهذا من فصيح الكلام وبديعه . ولو جمعت بين الصفة والموصوف فيه ، لم يكن بالفصيح والدسر المسامير ، قاله الجمهور . وقال الحسن وابن عباس : مقاديم السفينة لأنها تدسر الماء ، أي تدفعه ، والدسر : الدفع . وقال مجاهد وغيره : بطن السفينة . وعنه أيضاً : عوارض السفينة . وعنه أيضاً : أضلاع السفينة ، تجري في ذلك الماء المتلقي بحفظ منا وكلاءة ، بحيث نجا من كان فيها وغرق غيرهم .

١٤

تجري بأعيننا جزاء . . . . .

وقال مقاتل بن سليمان : { بِأَعْيُنِنَا } : بوحينا .

وقيل : بأمرنا .

وقيل : بأوليائنا . يقال : فلان عين من عيون اللّه تعالى : أي ولي من أوليائه .

وقيل : بأعين الماء التي أنبعناها .

وقيل : من حفظها من الملائكة سماهم أعيناً .

وقرأ زيد بن علي وأبو السمال : بأعينا بالإدغام ؛ والجمهور : بالفك .{ جَزَاء } : أي مجازاة ، { لّمَن كَانَ كُفِرَ } : أي لنوح عليه السلام ، إذ كان نعمة أهداها اللّه إلى قومه لأن يؤمنوا فكفروها ، المعنى : أنه حمله في السفينة ومن آمن معه كان جزاء له على صبره على قومه المئين من السنين ، ومن كناية عن نوح . قيل : يعني بمن كفر لمن جحدت نبوته .

وقال ابن عباس ومجاهد : من يراد به اللّه تعالى ، كأنه قال : غضباً وانتصاراً للّه تعالى ، أي انتصر لنفسه ، فأغرق الكافرين ، وأنجى المؤمنين ، وهذان التأويلان في من على قراءة الجمهور . كفر : مبنياً للمفعول .

وقرأ مسلمة بن محارب : بإسكان الفاء خفف فعل ، كما قال الشاعر :

لو عصر منه البان والمسك انعصر

يريد : لو عصر .

وقرأ زيد بن رومان وقتادة وعيسى : كفر مبنياً للفاعل ، فمن يراد به قوم نوح : أي إن ما نشأ من تفتيح أبواب السماء بالماء ، وتفجر عيون الأرض ، والتقاء الماءين من غرق قوم نوح عليه الصلاة والسلام ، كان جزاء لهم على كفرهم . وكفر : خبر لكان ، وفي ذلك دليل على وقوع الماضي بغير قد خبراً لكان ، وهو مذهب البصريين وغيرهم . يقول : لا بد من قد ظاهرة أو مقدرة ، على أنه يجوز إن كان هنا زائدة ، أي لمن كفر ،

١٥

ولقد تركناها آية . . . . .

والضمير في { تَّرَكْنَاهَا } عائد على الفعلة والقصة . وقال قتادة والنقاش وغيرهما : عائد على السفينة ، وأنه تعالى أبقى خشبها حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة . وقال قتادة : وكم من سفينة بعدها صارت رماداً

وقرأ الجمهور :{ مُّدَّكِرٍ } ، بإدغام الذال في الدال المبدلة من تاء الافتعال ؛ وقتادة : فيما نقل ابن عطية بالذال ، أدغمه بعد قلب الثاني إلى الأول . وقال صاحب كتاب اللوامح قتادة : فهل من مذكر ، فاعل من التذكير ، أي من يذكر نفسه أو غيره بما مضى من القصص . انتهى . وقرىء : مدتكر على الأصل .

١٦

فكيف كان عذابي . . . . .

{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } : تهويل لما حل بقوم نوح من العذاب وإعظام له ، إذ قد استأصل جميعهم وقطع دابرهم ، فلم ينسل منهم أحد ؛ أي كيف كان عاقبة إنذاري ؟ والنذر : جمع نذير وهو الإنذار ، وفيه توقيف لقريش على ما حل بالمكذبين أمثالهم . وكان ، إن كانت ناقصة ، كانت كيف في موضع خبر

كان ؛ وإن كانت تامة ، كانت في موضع نصب على الحال . والاستفهام هنا لا يراد به حقيقته ، بل المعنى على التذكير بما حل بهم .

١٧

ولقد يسرنا القرآن . . . . .

{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا } : أي سهلنا ، { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا } : أي للإذكار والاتعاظ ، لما تضمنه من الوعظ والوعد والوعيد .{ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } ، قال ابن زيد : من متعظ . وقال قتادة : فهل من طالب خير ؟ وقال محمد بن كعب : فهل من مزدجر عن المعاصي ؟

وقيل : للذكر : للحفظ ، أي سهلناه للحفظ ، لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلامة اللفظ ، وعروه عن الحشو وشرف المعاني وصحتها ، فله تعلق بالقلوب .{ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } : أي من طالب لحفظه ليعان عليه ، وتكون زواجره وعلومه حاضرة في النفس . وقال ابن جبير : لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن .

وقيل : يسرنا : هيأنا { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا } ، كقولهم : يسر ناقته للسفر إذا رحلها ، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه ، قال الشاعر : وقمت إليه باللجام ميسرا

هنالك يجزيني الذي كنت أصنع

١٨

انظر تفسير الآية:١٩

١٩

كذبت عاد فكيف . . . . .

تقدمت قصة عاد مطولة ومتوسطة ، وهنا ذكرها تعالى موجزة ، كما ذكر قصة نوح عليه السلام موجزة . ولما لم يكن لقوم نوح علم ، ذكر قوم مضافاً إلى نوح . ولما كانت عاد علماً لقوم هود ، ذكر العلم ، لأنه أبلغ في الذكر من التعريف بالإضافة . وتكرر التهويل بالاستفهام قبل ذكر ما حل بهم وبعده ، لغرابة ما عذبوا به من الريح ، وانفرادهم بهذا النوع من العذاب ، ولأن الاختصار داعية الاعتبار والتدبر والصرصر الباردة ، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة .

وقيل ، المصوتة والجمهور : على إضافة يوم إلى نحس ، وسكون الحاء .

وقرأ الحسن : بتنوين يوم وكسر الحاء ، جعله صفة لليوم ، كقوله تعالى : { فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ}{ مُّسْتَمِرٌّ } ، قال قتادة : استمر بهم حتى بلغهم جهنم . وعن الحسن والضحاك : كان مراً عليهم . وروي أنه كان يوم الأربعاء ، والذي يظهر أنه ليس يوماً معيناً ، بل أريد به الزمان والوقت ، كأنه قيل : في وقت نحس . ويدل على ذلك أنه قال في سورة فصلت :{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} وقال في الحاقة :{ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } ، إلا أن يكون ابتداء الريح في يوم الأربعاء ، فعبر بوقت الابتداء ، وهو يوم الأربعاء ، فيمكن الجمع بينها .

٢٠

تنزع الناس كأنهم . . . . .

{تَنزِعُ النَّاسَ } : يجوز أن يكون صفة للريح ، وأن يكون حالاً منها ، لأنها وصفت فقربت من المعرفة . ويحتمل أن يكون تنزع مستأنفاً ، وجاء الظاهر

مكان المضمر ليشمل ذكورهم وإناثهم ، إذ لو عاد بضمير المذكورين ، لتوهم أنه خاص بهم ، أي تقلعهم من أماكنهم . قال مجاهد : يلقى الرجل على رأسه ، فتفتت رأسه وعنقه وما يلي ذلك من بدنه .

وقيل : كانوا يصطفون آخذي بعضهم بأيدي بعض ، ويدخلون في الشعاب ، ويحفرون الحفر فيندسون فيها ، فتنزعهم وتدق رقابهم . والجملة التشبيهية حال من الناس ، وهي حال مقدرة . وقال الطبري : في الكلام حذف تقديره : فتتركهم . { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ } : فالكاف في موضع نصب بالمحذوف شبههم ، بأعجاز النخل المنقعر ، إذ تساقطوا على الأرض أمواتاً وهم جثث عظام طوال . والأعجاز : الأصول بلا فروع قد انقلعت من مغارسها .

وقيل : كانت الريح تقطع رؤوسهم ، فتبقى أجساداً بلا رؤوس ، فأشبهت أعجاز النخل التي انقلعت من مغرسها .

وقرأ أبو نهيك : أعجز على وزن أفعل ، نحو ضبع وأضبع . والنخل اسم جنس يذكر ويؤنث ، وإنما ذكر هنا لمناسبة الفواصل ، وأنث في قوله :{ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } في الحاقة لمناسبة الفواصل أيضاً .

٢٤

انظر تفسير الآية:٢٥

٢٥

فقالوا أبشرا منا . . . . .

وقرأ أبو السمال ، فيما ذكر الهذلي في كتابه الكامل ، وأبو عمرو والداني : برفعهما . فأبشر : مبتدأ ، وواحد صفته ، والخبر نتبعه . ونقل ابن خالويه ، وصاحب اللوامح ، وابن عطية رفع أبشر ونصب واحداً عن أبي السمال . قال صاحب اللوامح : فأما رفع أبشر فبإضمار الخبر بتقدير : أبشر منا يبعث إلينا ، أو يرسل ، أو نحوهما ؟

وأما انتصاب واحداً فعلى الحال ، إما مما قبله بتقدير : أبشر كائن منا في الحال توحده ،

وإما مما بعده بمعنى : نتبعه في توحده ، أو في انفراده . و

قال ابن عطية : ورفعه إما على إضمار فعل مبني للمفعول ، التقدير : أينبأ بشر ؟

وإما على الابتداء ، والخبر في قوله : { نَّتَّبِعُهُ } ، وواحداً على هذه القراءة حال إما من الضمير في نتبعه ،

وإما من المقدر مع منا ، كأنه يقول : أبشر كائن منا واحداً ؟ وفي هذا نظر . وقولهم ذلك حسد منهم واستبعاد أن يكون نوع البشر يفضل بعضه بعضاً هذا الفضل ، فقالوا : نكون جمعاً ونتبع واحداً ، ولم يعلموا أن الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء ، ويفيض نور الهدى على من رضيه . انتهى .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : كيف أنكروا أن يتبعوا بشراً منهم واحداً ؟

قلت : قالوا : أبشراً إنكاراً ؟ لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية ، وطلبوا أن يكونوا من جنس أعلى من جنس البشر ، وهم الملائكة ، وقالوا منا ، لأنه إذا كان منهم ، كانت المماثلة أقوى ، وقالوا واحداً إنكاراً ، لأن تتبع الأمة رجلاً واحداً ، وأرادوا واحداً من أبنائهم ليس بأشرفهم ولا أفضلهم ، ويدل عليه .{ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ } : أي أأنزل عليه الوحي من بيننا ؟ وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوة . انتهى ، وهو حسن ، على أن فيه تحميل اللفظ ما لا يحتمله .{ إِنَّا إِذَا } : أي إن اتبعناه ، فنحن في ضلال : أي بعد عن الصواب وحيرة . وقال الضحاك : في تيه . وقال وهب : بعد عن الحق ، { وَسُعُرٍ } : أي عذاب ، قاله ابن عباس . وعنه وجنون يقال : ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة ، وقال الشاعر : كأن بها سعراً إذا العيس هزها

زميل وإزجاء من السير متعب

وقال قتادة : وسعر : عناء . وقال ابن بحر : وسعر جمع سعير ، وهو وقود النار ، أي في في خطر كمن هو في النار . انتهى . وروي أنه كان يقول لهم : إن لم تتبعوني ، كنتم في ضلال عن الحق وسعر : أي نيران ، فعكسوا عليه فقالوا : إن اتبعناك كنا إذاً كما تقول . ثم زادوا في الإنكار والاستبعاد فقالوا :{ أَءلْقِىَ } : أي أأنزل ؟ قيل : وكأنه يتضمن العجلة في الفعل ، والعرب تستعمل هذا الفعل ، ومنه :{ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى } ،{ إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} والذكر هنا : الوحي والرسالة وما جاءهم من الحكمة والموعظة . ثم قالوا : ليس الأمر كما تزعم بل هو القرآن .{ أَشِرٌ } : أي بطر ،

يريد العلوّ علينا ، وأن يقتادنا ويتملك طاعتنا .

وقرأ قتادة وأبو قلابة : بل هو الكذاب الأشر ، بلام التعريف فيهما وبفتح الشين وشد الراء ، وكذا الأشر الحرف الثاني .

وقرأ الحرف الثاني مجاهد ، فيما ذكر صاحب اللوامح وأبو قيس الأودي الأشر بثلاث ضمات وتخفيف الراء .

ويقال : أشر وأشر ، كحذر وحذر ، فضمة الشين لغة وضم الهمزة تبع لضمة الشين .

وحكى الكسائي عن مجاهد : ضم الشين .

وقرأ أبو حيوة : هذا الحرف الآخر الأشر أفعل تفضيل ، وإتمام خير ، وشر في أفعل التفضيل قليل .

وحكى ابن الأنباري أن العرب تقول : هو أخير وهو أشر . قال الراجز .

بلال خير الناس وابن الأخير

وقال أبو حاتم : لا تكاد العرب تتكلم بالأخير والأشر إلا في ضرورة الشعر ، وأنشد قول رؤبة بلال البيت .

٢٦

سيعلمون غدا من . . . . .

وقرأ علي والجمهور : سيعلمون بياء الغيبة ، وهو من إعلام اللّه تعالى لصالح عليه السلام ؛ وابن عامر وحمزة وطلحة وابن وثاب والأعمش : بتاء الخطاب : أي قل لهم يا صالح وعداً يراد به الزمان المستقبل ، لا اليوم الذي يلي يوم خطابهم ، فاحتمل أن يكون يوم العذاب الحال بهم في الدنيا ، وأن يكون يوم القيامة ، وقال الطرماح : ألا عللاني قبل نوح النوائح

وقبل اضطراب النفس بين الجوانح

وقبل غد يا لهف نفسي في غد

إذا راح أصحابي ولست برائح

أراد وقت الموت ، ولم يرد غداً بعينه .

وفي قوله : { سَيَعْلَمُونَ غَداً } تهديد ووعيد ببيان انكشاف الأمر ، والمعنى : أنهم هم الكذابون الأشرون . وأورد ذلك مورد الإبهام والاحتمال ، وإن كانوا هم المعنيين بقوله تعالى ، حكاية عن قول نوح عليه الصلاة والسلام :{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } ، والمعنى به قومه ، وكذا قول شعيب عليه السلام :{ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ } ؛ وقول الشاعر : فلئن لقيتك خاليين لتعلمن

أني وأيك فارس الأحزاب

وإنما عنى أنه فارس الأحزاب ، لا الذي خاطبه .

٢٧

إنا مرسلو الناقة . . . . .

{إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ } : أي ابتلاء واختباراً ، وآنس بذلك صالحاً . ولما هددهم بقوله :{ سَيَعْلَمُونَ غَداً } ، وكانوا قد ادعوا أنه كاذب ، قالوا : ما الدليل على صدقك ؟ قال اللّه تعالى :{ إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ } : أي مخرجوها من الهضبة التي سألوها .{ فَارْتَقِبْهُمْ } : أي فانتظرهم وتبصر ما هم فاعلون ، { وَاصْطَبِرْ } على أذاهم ولا تعجل حتى يأتي أمر اللّه .

٢٨

ونبئهم أن الماء . . . . .

{وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء } : أي ماء البئر الذي لهم ، { قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } : أي بين ثمود وبين الناقة غلب ثمود ، فالضمير في بينهم لهم وللناقة . أي لهم شرب يوم ، وللناقة شرب يوم .

وقرأ الجمهور : قسمة بكسر القاف ؛ ومعاذ عن أبي عمرو : بفتحها .{ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } أي محضور لهم وللناقة . وتقدمت قصة الناقة مستوفاة ، فأغنى عن إعادتها ، وهنا محذوف ، أي فكانوا على هذه الوتيرة من قسمة الماء ، فملوا ذلك وعزموا على عقر الناقة .

٢٩

فنادوا صاحبهم فتعاطى . . . . .

{فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ } ، وهو قدار بن سالف ، { فَتَعَاطَى } : هو مطاوع عاطى ، وكأن هذه الفعلة تدافعها الناس وعاطاها بعضهم بعضاً ، فتعاطاها قدار وتناول العقر بيده . ولما كانوا راضين ، نسب ذلك إليهم في قوله :{ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ } ،

وفي قوله :{ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}

٣١

إنا أرسلنا عليهم . . . . .

والصيحة التي أرسلت عليهم .

يروي أن جبريل عليه السلام صاح في طرف منازلهم ، فتفتتوا وهمدوا

وصاروا { كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } وهو ما تفتت وتهضم من الشجر . والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة ، فإنه تتفتت منه حالة العمل وتتساقط أجزاء مما يعمل به ، أو يكون الهشيم ما يبس من الحظيرة بطول الزمان ، تطأه البهائم فيتهشم .

وقرأ الجمهور : بكسر الظاء ؛ وأبو حيوة وأبو السمال وأبو رجاء وأبو عمرو بن عبيد : بفتحها ، وهو موضع الاحتظار .

وقيل : هو مصدر ، أي كهشيم الاحتظار ، وهو ما تفتت حالة الاحتظار . والحظيرة تصنعها العرب وأهل البوادي للمواشي والسكنى من الأغصان والشجر المورق والقصب . والخظر : المنع ؛

وعن ابن عباس وقتادة ، أن المحتظر هو المحترق . قال قتادة : كهشيم محترق ؛ وعن ابن جبير : هو التراب الذي يسقط من الحائط البالي .

وقيل : المحتظر بفتح الظاء هو الهشيم نفسه ، فيكون من إضافة الموصوف إلى صفته ، كمسجد الجامع على من تأوله كذلك ، وكان هنا قيل : بمعنى صار .

٣٣

انظر تفسير الآية:٣٤

٣٤

كذبت قوم لوط . . . . .

تقدمت قصة لوط عليه السلام وقومه . والحاصب من الحصباء ، وهو المعنيّ بقوله تعالى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ}{ إِلا ءالَ لُوطٍ } ،قيل : إلا ابنتاه ، و { بِسَحَرٍ } : هو بكرة ، فلذلك صرف ،

٣٥

نعمة من عندنا . . . . .

وانتصب { نِعْمَتَ } على أنه مفعول من أجله ، أي نجيناهم لإنعامنا عليهم أو على المصدر ، لأن المعنى : أنعمنا بالتنجية إنعاماً .{ كَذالِكَ نَجْزِى } : أي مثل ذلك الإنعام والتنجية نجزي { مَن شَكَرَ } إنعامنا وأطاع وآمن .

٣٦

ولقد أنذرهم بطشتنا . . . . .

{وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا } : أي أخذتنا لهم بالعذاب ، { فَتَمَارَوْاْ } : أي تشككوا وتعاطوا ذلك ، { بِالنُّذُرِ } : أي بالإنذار ، أو يكون جمع نذير .

٣٧

ولقد راودوه عن . . . . .

{فَطَمَسْنَا } ، قال قتادة : الطمس حقيقة جر جبريل عليه السلام على أعينهم جناحه ، فاستوت مع وجوههم . وقال أبو عبيدة : مطموسة بجلد كالوجه . قيل : لما صفقهم جبريل عليه السلام بجناحه ، تركهم يترددون لا يهتدون إلى الباب ، حتى أخرجهم لوط عليه السلام .

وقال ابن عباس والضحاك : هذه استعارة ، وإنما حجب إدراكهم ، فدخلوا المنزل ولم يروا شيئاً ، فجعل ذلك كالطمس .

وقرأ الجمهور : فطمسنا بتخفيف الميم ؛ وابن مقسم : بتشديدها .{ فَذُوقُواْ } : أي فقلت لهم على ألسنة الملائكة : ذوقوا .

٣٨

ولقد صبحهم بكرة . . . . .

{وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً } : أي أول النهار وباكره ، لقوله :{ مُشْرِقِينَ } و { مُّصْبِحِينَ}

وقرأ الجمهور : بكرة بالتنوين ، أراد بكرة من البكر ، فصرف .

وقرأ زيد بن علي : بغير تنوين .{ عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } : أي لم يكشفه عنهم كاشف ، بل اتصل بموتهم ، ثم بما بعد ذلك من عذاب القبر ، ثم عذاب جهنم .

٣٩

فذوقوا عذابي ونذر

{فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ } : توكيد وتوبيخ ذلك عند الطمس ، وهذا عند تصبيح العذاب . قيل : وفائدة تكرار هذا ، وتكرار

٤٠

ولقد يسرنا القرآن . . . . .

{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا } ، التجرد عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ، للاتعاظ واستئناف التيقظ إذا سمعوا الحث على ذلك لئلا تستولي عليهم الغفلة ، وهكذا حكم التكرير لقوله :{ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } عند كل نعمة عدها في سورة الرحمن . وقوله :{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } عند كل آية أوردها في سورة والمرسلات ، وكذلك تكرير القصص في أنفسها ، لتكون العبرة حاضرة للقلوب ، مذكورة في كل أوان .

٤١

ولقد جاء آل . . . . .

{وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ } : هم موسى

وهارون وغيرهما من الأنبياء ، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون ، أو يكون جمع نذير المصدر بمعنى الإنذار .

٤٢

كذبوا بآياتنا كلها . . . . .

{كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا } هي التسع ، والتوكيد هنا كهو في قوله :{ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءايَاتِنَا كُلَّهَا} والظاهر أن الضمير في :{ كَذَّبُواْ } ، وفي :{ فَأَخَذْنَاهُمْ } عائد على آل فرعون .

وقيل : هو عائد على جميع من تقدم من الأمم ذكره ، وتم الكلام عند قوله :{ النُّذُرُ}{ فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ } : لا يغالب ، { مُّقْتَدِرٍ } : لا يعجز شيء .

٤٣

أكفاركم خير من . . . . .

{أَكُفَّارُكُمْ } : خطاب لأهل مكة ، { خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ } : الإشارة إلى قوم نوح وهود وصالح ولوط ، وإلى فرعون ، والمعنى : أهم خير في القوّة وآلات الحروب والمكانة في الدنيا ، أو أقل كفؤاً وعناداً ؟ فلأجل كونهم خيراً لا يعاقبون على الكفر باللّه ، وقفهم على توبيخهم ، أي ليس كفاركم خيراً من أولئكم ، بل هم مثلهم أو شرّ منهم ، وقد علمتم ما لحق أولئك من الهلاك المستأصل لما كذبوا الرسل .{ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِى الزُّبُرِ } : أي ألكم في الكتب الإلهية براءة من عذاب اللّه تعالى ؟ قاله الضحاك وعكرمة وابن زيد .

٤٤

أم يقولون نحن . . . . .

{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ } أي واثقون بجماعتنا ، منتصرون بقوتنا ، تقولون ذلك على سبيل الإعجاب بأنفسكم .

وقرأ الجمهور : أم يقولون ، بياء الغيبة التفاتاً ، وكذا ما بعده للغائب .

وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهشيم : بتاء الخطاب للكفار ، اتباعا لما تقدم من خطابهم .

٤٥

سيهزم الجمع ويولون . . . . .

وقرأوا : ستهزم الجمع ، بفتح التاء وكسر الزاي وفتح العين ، خطاباً للرسول صلى اللّه عليه وسلم ؛ وأبو حيوة أيضاً ويعقوب : بالنون مفتوحة وكسر الزاي وفتح العين ؛ والجمهور : بالياء مبنياً للمفعول ، وضم العين . وعن أبي حيوة وابن أبي عبلة أيضاً : بفتح الياء مبنياً للفاعل ونصب العين : أي سيهزم اللّه الجمع . والجمهور : { وَيُوَلُّونَ } بياء الغيبة ؛ وأبو حيوة وداود بن أبي سالم ، عن أبي عمرو : بتاء الخطاب . والدبر هنا : اسم جنس ، وجاء في موضع آخر { لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ } ، وهو الأصل ، وحسن اسم الجنس هنا كونه فاصلة .

وقال الزمخشري :{ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } : أي الأدبار ، كما قال : كلوا في بعض بطنكم تعفوا . وقرىء : الأدبار . انتهى ، وليس مثل بطنكم ، لأن مجيء الدبر مفرداً ليس بحسن ، ولا يحسن لإفراد بطنكم . وفي قوله تعالى :{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ } عدة من اللّه تعالى لرسوله صلى اللّه عليه وسلم بهزيمة جمع قريش ؛ والجمهور : على أنها مكية ، وتلاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مستشهداً بها .

وقيل : نزلت يوم بدر .

٤٦

بل الساعة موعدهم . . . . .

{بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ } : انتقل من تلك الأقوال إلى أمر الساعة التى عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتال .{ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى } : أي أفظع وأشد ، والداهية الأمر : المنكر الذي لا يهتدى لدفعه ، وهي الرزية العظمى تحل بالشخص .{ وَأَمَرُّ } من المرارة : استعارة لصعوبة الشيء على النفس .

٤٧

إن المجرمين في . . . . .

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ } : أي في حيرة وتخبط في الدنيا .{ وَسُعُرٍ } : أي احتراق في الآخرة ، جعلوا فيه من حيث مصيرهم إليه .

وقال ابن عباس : وخسران وجنون ، والسعر : الجنون ، وتقدم مثله في قصة صالح عليه السلام .

٤٨

يوم يسحبون في . . . . .

{يَوْمَ يُسْحَبُونَ } : يجرون { فِى النَّارِ } ، وفي قراءة عبد اللّه : إلى النار .{ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ } : أي مقولاً لهم :{ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ}

وقرأ محبوب عن أبي عمرو : مسقر ، بإدغام السين في السين . قال ابن مجاهد : إدغامه خطأ لأنه مشدد . انتهى . والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال ، ثم أدغم .

٤٩

إنا كل شيء . . . . .

{إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، قراءة الجمهور : كل شيء بالنصب .

وقرأ أبو السمال ، قال ابن عطية وقوم من أهل السنة : بالرفع . قال أبو الفتح : هو الوجه في العربية ، وقراءتنا بالنصب مع الجماعة . وقال قوم : إذا كان الفعل يتوهم فيه الوصف ، وأن ما بعده يصلح للخبر ، وكان المعنى على أن يكون الفعل هو الخبر ، اختير النصب في الاسم الأول حتى يتضح أن الفعل ليس بوصف ، ومنه هذا الموضع ، لأن في قراءة الرفع يتخيل أن الفعل وصف ، وأن الخبر يقدر . فقد

تنازع أهل السنة والقدرية الاستدلال بهذه الآية . فأهل السنة يقولون : كل شيء فهو مخلوق للّه تعالى بقدرة دليله قراءة النصب ، لأنه لا يفسر في مثل هذا التركيب إلا ما يصح أن يكون خبراً لو وقع الأول على الابتداء . وقالت القدرية : القراءة برفع كل ، وخلقناه في موضع الصفة لكل ، أي إن أمرنا أو شأننا كل شيء خلقناه فهو بقدر أو بمقدار ، على حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك .

وقال الزمخشري : { كُلّ شَىْء } منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر . وقرىء : كل شيء بالرفع ، والقدر والقدر هو التقدير . وقرىء : بهما ، أي خلقنا كل شيء مقدراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة ، أو مقدراً مكتوباً في اللوح ، معلوماً قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه . انتهى . قيل : والقدر فيه وجوه :

أحدها : أن يكون بمعنى المقدار في ذاته وصفاته .

والثاني : التقدير ،

قال تعالى :{ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} وقال الشاعر :

وما قدّر الرحمن ما هو قادر

أي ما هو مقدور . و

الثالث : القدر الذي يقال مع القضاء ، يقال : كان ذلك بقضاء اللّه وقدره ، والمعنى : أن القضاء ما في العلم ، والقدر ما في الإرادة ، فالمعنى في الآية :{ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } : أي بقدرة مع إرادة . انتهى .

٥٠

وما أمرنا إلا . . . . .

{وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَةٌ } : أي إلا كلمة واحدة وهي : كن كلمح بالبصر ، تشبيه بأعجل ما يحس ، وفي أشياء أمر اللّه تعالى أوحي من ذلك ، والمعنى : أنه إذا أراد تكوين شيء لم يتأخر عن إرادته .

٥١

ولقد أهلكنا أشياعكم . . . . .

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ } : أي الفرق المتشايعة في مذهب ودين .

٥٢

وكل شيء فعلوه . . . . .

{وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ } : أي فعلته الأمم المكذبة ، محفوظ عليهم إلى يوم القيامة ، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد . ومعنى { فِى الزُّبُرِ } : في دواوين الحفظة .

٥٣

وكل صغير وكبير . . . . .

{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } من الأعمال ، ومن كل ما هو كائن ، { مُّسْتَطَرٌ } : أي مسطور في اللوح . يقال : سطرت واستطرت بمعنى .

وقرأ الأعمش وعمران بن حدير وعصمة عن أبي بكر : بشد راء مستطر . قال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون من طرّ النبات ، والشارب إذا ظهر وثبت بمعنى : كل شيء ظاهر في اللوح مثبت فيه . ويجوز أن يكون من الاستطار ، لكن شدّد الراء للوقف على لغة من يقول : جعفرّ ونفعلّ بالتشديد وقفاً . انتهى ، ووزنه على التوجيه الأول استفعل ، وعلى الثاني افتعل .

٥٤

إن المتقين في . . . . .

وقرأ الجمهور : ونهر على الإفراد ، والهاء مفتوحة ؛ والأعرج ومجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان : بسكونها ، والمراد به الجنس ، إن أريد به الأنهار ، أو يكون معنى ونهر : وسعة في الأرزاق والمنازل ، ومنه قول قيس بن الحطيم : ملكت بها كفي فأنهرت فتقها

يرى قائم من دونها ما وراءها

أي : أوسعت فتقها .

وقرأ زهير العرقبي والأعمش وأبو نهيك وأبو مجلز واليماني : بضم النون والهاء ، جمع نهر ، كرهن ورهن ، أو نهر كأسد وأسد ، وهو مناسب لجمع جنات .

وقيل : نهر جمع نهار ، ولا ليل في الجنة ، وهو بعيد

٥٥

في مقعد صدق . . . . .

. {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ } : يجوز أن يكون ضد الكذب ، أي في المقعد الذي صدقوا في الخبر به ، وأن يكون من قولك : رجل صدق : أي خير وجود وصلاح .

وقرأ الجمهور : في مقعد ، على الإفراد ، يراد به اسم الجنس ؛ وعثمان البتي : في مقاعد على الجمع ؛ وعند تدل على قرب المكانة من اللّه تعالى ، واللّه تعالى أعلم .

﴿ ٠