٢٤

لكي لا تأسوا . . . . .

ثم بين تعالى الحكمة في إعلامنا بذلك الذي فعله من تقدير ذلك ، وسبق قضائه به فقال : { لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ } : أي تحزنوا ، { عَلَى مَا فَاتَكُمْ } ، لأن العبد إن أعلم ذلك سلم ، وعلم أن ما فاته لم يكن ليصيبه ، وما أصابه لم يكن ليخطئه ، فلذلك لا يحزن على فائت ، لأنه ليس بصدد أن يفوته ، فهون عليه أمر حوادث الدنيا بذلك ، إذ قد وطن نفسه على هذه العقيدة . ويظهر أن المراد بقوله :{ لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ } : أن يلحق الحزن الشديد على ما فات من الخير ، فيحدث عنه التسخط وعدم الرضا بالمقدور .{ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَاكُمْ } : أن يفرح الفرح المؤدي إلى البطر المنهي عنه في قوله تعالى :{ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللّه لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } ، فإن الحزن قد ينشأ عنه البطر ، ولذلك ختم بقوله :{ وَاللّه لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فالفرح بما ناله من حطام الدنيا يلحقه في نفسه الخيلاء والافتخار والتكبر على الناس ، فمثل هذا هو المنهي عنه .

وأما الحزن على ما فات من طاعة اللّه ، والفرح بنعم اللّه والشكر عليها والتواضع ، فهو مندوب إليه .

وقال ابن عباس : ليس أحد إلا يحزن ويفرح ، ولكن من أصابته مصيبة فجعلها صبراً ، ومن أصاب خيراً جعله شكراً . انتهى ، يعني هو المحمود .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ، ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح .

قلت : المراد : الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر ، والتسليم لأمر اللّه تعالى ، ورجاء ثواب الصابرين ، والفرح المطغي الملهي عن الشكر . فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة اللّه والاعتداد بها مع الشكر ، فلا بأس به . انتهى .

وقرأ الجمهور : بما آتاكم : أي أعطاكم ؛ وعبد اللّه : أوتيتم ، مبنياً للمفعول : أي أعطيتم ؛ وأبو عمرو : أتاكم : أي جاءكم .

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } : أي هم الذين يبخلون ، أو يكون الذين مبتدأ محذوف الخبر على جهة الإبهام تقديره : مذمومون ، أو موعودون بالعذاب ، أو مستغنى عنهم ، أو على إضمار ، أعني فهو في موضع نصب ، أو في موضع نصب صفة لكل مختال ، وإن كان نكرة ، فهو مخصص نوعاً مّا ، فيسوغ لذلك وصفة بالمعرفة .

قال ابن عطية : هذا مذهب الأخفش . انتهى .

عظمت الدنيا في أعينهم ، فبخلوا أن يؤدوا منها حقوق اللّه تعالى ، وما كفاهم ذلك حتى أمروا الناس بالبخل ورغبوهم في الإمساك ، والظاهر أنهم أمروا الناس حقيقة .

وقيل : كانوا قدوة فيه ، فكأنهم يأمرون به .{ وَمَن يَتَوَلَّ } عن ما أمر اللّه به .

وقرأ الجمهور :{ فَإِنَّ اللّه هُوَ } ؛

وقرأ نافع وابن عامر : بإسقاط هو ، وكذا في

مصاحف المدينة والشام ، وكلتا القراءتين متواترة . فمن أثبت هو ، فقال أبو علي الفارسي : يحسن أن يكون فصلاً ، قال : ولا يحسن أن يكون ابتداء ، لأن حذف الابتداء غير سائغ . انتهى . يعني أنه في القراءة الأخرى حذف ، ولو كان مبتدأ لم يجز حذفه ، لأنك إذا

قلت : إن زيداً هو الفاضل ، فأعربت هو مبتدأ ، لم يجز حذفه ، لأن ما بعده من قولك الفاضل صالح أن يكون خبراً لأن ، فلا يبقى دليل على حذف هو الرابط . ونظيره : { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ } ، لا يجوز حذف هم ، لأن ما بعده يصلح أن يكون صلة ، فلا يبقى دليل على المحذوف . وما ذهب إليه أبو علي ليس بشيء ، لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وتركيب إحداهما على الأخرى ، وليس كذلك . ألا ترى أنه يكون قراءتان في لفظ واحد ، ولكل منهما توجيه يخالف الآخر ، كقراءة من قرأ :{ وَاللّه أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } بضم التاء ، والقراءة الأخرى :{ بِمَا وَضَعَتْ } بتاء التأنيث فضم التاء يقتضي أن الجملة من كلام أم مريم ، وتاء التأنيث تقتضي أنها من كلام اللّه تعالى ، وهذا كثير في القراءات المتواترة . فكذلك هذا يجوز أن يكون هو مبتدأ في قراءة من أثبته ، وإن كان لم يرد في القراءة الأخرى ، ولكل من التركيبين في الإعراب حكم يخصه .

﴿ ٢٤