سورة الممتحنة

مدنية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

يا أيها الذين . . . . .

هذه السورة مدنية ، ونزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة ، كان قد وجه كتاباً ، مع امرأة إلى أهل مكة يخبرهم بأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم متوجه إليهم لغزوهم ؛ فأطلع اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم على ذلك ، ووجه إلى المرأة من أخذ الكتاب منها ، والقصة مشهورة في كتب الحديث والسير .

ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أنه لما ذكر فيما قبلها حالة المنافقين والكفار ، افتتح هذه بالنهي عن موالاة الكفار والتودّد إليهم ، وأضاف في قوله : { عَدُوّى } تغليظاً ، لجرمهم وإعلاماً بحلول عقاب اللّه بهم . والعدو ينطلق على الواحد وعلى الجمع ، وأولياء مفعول ثان لتتخذوا .{ تُلْقُونَ } : بيان لموالاتهم ، فلا موضع له من

الإعراب ، أو استئناف إخبار . وقال الحوفي والزمخشري : حال من الضمير في { لاَ تَتَّخِذُواْ } ،أو صفة لأولياء ، وهذا تقدّمه إليه الفراء ، قال :{ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } من صلة { أَوْلِيَاء} انتهى . وعندهم أن النكرة توصل ، وعند البصريين لا توصل بل توصف ، والحال والصفة قيد وهم قد نهوا عن اتخاذهم أولياء مطلقاً ، والتقييد يدل على أنه يجوز أن يتخذوا أولياء إذا لم يكونوا في حال إلقاء المودة ، أو إذا لم يكن الأولياء متصفين بهذا الوصف ، وقد

قال تعالى :{ يُوقِنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء } ، فدل على أنه لا يقتصر على تلك الحال ولا ذلك الوصف . والأولياء عبارة عن الإفضاء بالمودة ، ومفعول { تُلْقُونَ } محذوف ، أي تلقون إليهم أخبار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأسراره . والباء في { بِالْمَوَدَّةِ } للسبب ، أي بسبب المودة التي بينهم . وقال الكوفيون : الباء زائدة ، كما قيل : في :{ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } : أي أيديكم . قال الحوفي : وقال البصريون هي متعلقة بالمصدر الذي دل عليه الفعل ، وكذلك قوله { بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } : أي إرادته بإلحاد . انتهى . فعلى هذا يكون { بِالْمَوَدَّةِ } متعلقاً بالمصدر ، أي إلقاؤهم بالمودّة ، وهذا ليس بجيد ، لأن فيه حذف المصدر ، وهو موصول ، وحذف الخبر ، إذ إلقاؤهم مبتدأ وبما يتعلق به ، { وَقَدْ كَفَرُواْ } جملة حالية ، وذو الحال الضمير في { تُلْقُونَ } : أي توادونهم ، وهذه حالهم ، وهي الكفر باللّه ، ولا يناسب الكافر باللّه أن يودّ . وأجاز الزمخشري أن يكون حالاً من فاعل { لاَ تَتَّخِذُواْ}

وقرأ الجمهور :{ بِمَا جَاءكُمْ } ، والجحدري والمعلى عن عاصم : لما باللام مكان الباء ، أي لأجل ما جاءكم .{ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ } : استئناف ، كالتفسير لكفرهم ، أو حال من ضمير { كَفَرُواْ } ،{ وَإِيَّاكُمْ } : معطوف على الرسول . وقدّم على إياكم الرسول لشرفه ، ولأنه الأصل للمؤمنين به . ولو تقدّم الضمير لكان جائزاً في العربية ، خلافاً لمن خص ذلك بالضرورة ، قال : لأنك قادر على أن تأتي به متصلاً ، فلا تفصل إلا في الضرورة ، وهو محجوج بهذه الآية وبقوله تعالى :{ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } وإياكم أن اتقوا أللّه ، وقدّم الموصول هنا على المخاطبين للسبق في الزمان وبغير ذلك من كلام العرب . و { أَن تُؤْمِنُواْ } مفعول من أجله ، أي يخرجون لإيمانكم أو كراهة إيمانكم ، { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ } : شرط جوابه محذوف لدلالة ما تقدّم عليه ، وهو قوله :{ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى } ، ونصب جهاداً وابتغاء على المصدر في موضع الحال ، أي مجاهدين ومبتغين ، أو على أنه مفعول من أجله .{ تُسِرُّونَ } : استئناف ، أي تسرون وقد علمتم أني أعلم الإخفاء والإعلان ، وأطلع الرسول صلى اللّه عليه وسلم على ذلك ، فلا طائل في فعلكم هذا . و

قال ابن عطية :{ تُسِرُّونَ } بدل من { تُلْقُونَ} انتهى ، وهو شبيه ببدل الاشتمال ، لأن الإلقاء يكون سراً وجهراً ، فهو ينقسم إلى هذى ن النوعين . وأجاز أيضاً أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : أنتم تسرون . والظاهر أن { أَعْلَمُ } أفعل تفضيل ، ولذلك عداه بالباء . وأجاز ابن عطية أن يكون مضارعاً عدى بالباء قال : لأنك تقول علمت بكذا .{ وَأَنَاْ أَعْلَمُ } : جملة حالية ، والضمير في { وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ } ، الظاهر أنه إلى أقرب مذكور ، أي ومن يفعل الأسرار . و

قال ابن عطية : يعود على الاتخاذ ، وانتصب سواء على المفعول به على تقدير تعدى ضل ، أو على الظرف على تقدير اللزوم ، والسواء : الوسط .

٢

إن يثقفوكم يكونوا . . . . .

ولما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء ، وشرح ما به الولاية من الإلقاء بالمودة بينهم ، وذكر ما صنع الكفار بهم أولاً من إخراج الرسول صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ، ذكر صنيعهم آخراً لو قدروا عليه من أنه إن تمكنوا منكم تظهر عداوتهم لكم ، ويبسطوا أيديهم بالقتل والتعذيب ، وألسنتهم بالسب ؛ وودوا لو ارتددتم عن دينكم الذي هو أحب الأشياء إليكم ، وهو سبب إخراجهم إياكم .

قال الزمخشري :

فإن قلت : كيف أورد جواب الشرط مضارعاً مثله ، ثم قال { وَوَدُّواْ } بلفظ الماضي ؟

قلت : الماضي ، وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب ، فإنه فيه نكتة كأنه قيل : وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم ، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعاً . انتهى . وكأن الزمخشري فهم من قوله :{ وَوَدُّواْ } أنه معطوف على جواب الشرط ، فجعل ذلك سؤالاً وجواباً . والذي يظهر أن قوله :{ وَوَدُّواْ } ليس على جواب الشرط ، لأن ودادتهم كفرهم ليست مترتبة على الظفر بهم والتسلط عليهم ، بل هم وادون

كفرهم على كل حال ، سواء أظفروا بهم أم لم يظفروا ، وإنما هو معطوف على جملة الشرط والجزاء ، أخبر تعالى بخبرين : أحدهما اتضاح عداوتهم والبسط إليهم ما ذكر على تقدير الظفر بهم ، والآخر ودادتهم كفرهم ، لا على تقدير الظفر بهم .

٣

لن تنفعكم أرحامكم . . . . .

ولما كان حاطب قد اعتذر بأن له بمكة قرابة ، فكتب إلى أهلها بما كتب ليرعوه في قرابته ،

قال تعالى : { لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ } : أي قراباتكم الذين توالون الكفار من أجلهم ، وتتقربون إليهم محاماة عليهم . ويوم معمول لينفعكم أو ليفصل .

وقرأ الجمهور ؛{ يُفَصّلُ } بالياء مخففاً مبنياً للمفعول .

وقرأ الأعرج وعيسى وابن عامر : كذلك إلا أنه مشدد ، والمرفوع ، إما { بَيْنِكُمْ } ، وهو مبني على الفتح لإضافته إلى مبني ،

وإما ضمير المصدر المفهوم من يفصل ، أي يفصل هو ، أي الفصل .

وقرأ عاصم والحسن والأعمش : يفصل بالياء مخففاً مبنياً للفاعل ؛ وحمزة والكسائي وابن وثاب : مبنياً للفاعل بالياء مضمومة مشدداً ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : كذلك إلا أنه بالنون مشدداً ؛ وهما أيضاً وزيد بن علي : بالنون مفتوحة مخففاً مبنياً للفاعل ؛ وأبو حيوة أيضاً : بالنون مضمومة ، فهذا ثماني قراآت .

٤

قد كانت لكم . . . . .

ولما نهى عن موالاة الكفار ، ذكر قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وأن من سيرته التبرؤ من الكفار ليقتدوا به في ذلك ويتأسوا .

وقرأ الجمهور : إسوة بكسر الهمزة ، وعاصم بضمها ، وهما لغتان . { وَالَّذِينَ مَعَهُ } ،قيل : من آمن به . وقال الطبري وغيره : الأنبياء معاصروه ، أو كانوا قريباً من عصره ، لأنه لم يرو أنه كان له أتباع مؤمنون في مكافحته لهم ولنمروذ . ألا تراه قال لسارة حين رحل إلى الشام مهاجراً من بلد نمروذ : ما على الأرض من يعبد اللّه غيري وغيرك ؟ والتأسي بإبراهيم عليه السلام هو في التبرؤ من الشرك ، وهو في كل ملة وبرسولنا عليه الصلاة والسلام على الإطلاق في العقائد وأحكام الشرع .

وقرأ الجمهور ؛{ بَرَاء } جمع بريء ، كظريف وظرفاء ؛ وعيسى : براء جمع بريء أيضاً ، كظريف وظراف ؛ وأبو جعفر : بضم الباء ، كتؤام وظؤار ، وهم اسم جمع الواحد بريء وتوأم وظئر ، ورويت عن عيسى . قال أبو حاتم : زعموا أن عيسى الهمداني رووا عنه براء على فعال ، كالذي في قوله تعالى :{ إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ } في الزخرف ، وهو مصدر على فعال يوصف به المفرد والجمع .

وقال الزمخشري : وبراء على إبدال الضم من الكسر ، كرخال ورباب . انتهى . فالضمة في ذلك ليست بدلاً من كسرة ، بل هي ضمة أصلية ، وهو قريب من أوزان أسماء الجموع ، وليس جمع تكسير ، فتكون الضمة بدلاً من الكسرة ، إلا قول إبراهيم استثناء من قوله :{ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } ، قاله قتادة والزمخشري . قال مجاهد وقتادة وعطاء الخراساني وغيرهم : المعنى أن الأسوة لكم في هذا الوجه لا في الوجه الآخر ، لأنه كان لعلمه ليست في نازلتكم .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : فإن كان قوله :{ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } مستثنى من القول الذي هو { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } ، فما بال قوله :{ فَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّه مِن شَىْء } ، وهو غير حقيق بالاستثناء ؟ ألا ترى إلى قوله :{ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ اللّه شَيْئاً } ؟

قلت : أراد استثناء جملة قوله لأبيه ، والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده مبني عليه وتابع له ، كأنه قال : أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار . انتهى .

وقال الزمخشري : أولاً بعد أن ذكر أن الاستثناء هو من قوله :{ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } في مقالات قال : لأنه أراد بالأسوة الحسنة ، فهو الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذوه سنة يستنون بها . انتهى . والذين يظهر أنه مستثنى من مضاف لإبراهيم تقديره : أسوة حسنة في مقالات إبراهيم ومحاوراته لقومه إلا قول إبراهيم لأبيه { لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } ، فليس فيه أسوة حسنة ، فيكون على هذا استثناء متصلاً .

وأما أن يكون قول إبراهيم مندرجاً في أسوة حسنة ، لأن معنى الأسوة هو الاقتداء والتأسي ، فالقول ليس مندرجاً تحته ، لكنه مندرج تحت مقالات إبراهيم عليه السلام . و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الاستثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت ، لم تبق جملة إلا كذا . انتهى .

وقيل : هو استثناء منقطع المعنى ، لكن قول إبراهيم لأبيه { لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } ، فلا تأسوا به فيه فتستغفروا وتفذوا آباءكم الكفار بالاستغفار .{ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } وما بعده ، الظاهر أنه من تمام قول إبراهيم متصلاً بما قبل الاستثناء ، وهو من جملة ما يتأسى به فيه ، وفصل بينهما بالاستثناء اعتناء بالاستثناء ولقربه من المستثنى منه ، ويجوز أن يكون أمراً من اللّه للمؤمنين ، أي قولوا ربنا عليك توكلنا ، علمهم بذلك قطع العلائق التي

بينهم وبين الكفار .

٥

ربنا لا تجعلنا . . . . .

{رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } ، قال ابن عباس : لا تسلطهم علينا فيسبوننا ويعذبوننا . وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيديهم أو بعذاب من عندك ، فيظنوا أنهم محقون وأنا مبطلون ، فيفتنوا لذلك . وقال قريباً منه قتادة وأبو مجلز ، وقول ابن عباس أرجح لأنه دعاء لأنفسهم ، وعلى قول غيره دعاء للكافرين ،

٦

لقد كان لكم . . . . .

والضمير في فيهم عائد على إبراهيم والذين معه ، وكررت الأسوة تأكيداً ، وأكد ذلك بالقسم أيضاً ، ولمن يرجو بدل من ضمير الخطاب ، بدل بعض من كل .

٧

عسى اللّه أن . . . . .

وروي أنه لما نزلت هذه الآية ، عزم المسلمون على إظهار عداوات أقربائهم الكفار ، ولحقهم هم لكونهم لم يؤمنوا حتى يتوادوا ، فنزل { عَسَى اللّه } الآية مؤنسة ومرجئة ، فأسلم الجميع عام الفتح وصاروا إخواناً . ومن ذكر أن هذه المودة هي تزويج النبي صلى اللّه عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأنها كانت بعد الفتح فقد أخطأ ، لأن تزويجها كان وقت هجرة الحبشة ، وهذه الآيات سنة ست من الهجرة ، ولا يصح ذلك عن ابن عباس إلا أن يسوقه مثالاً ، وإن كان متقدماً لهذه الآية ، لأنه استمر بعد الفتح كسائر ما نشأ من المودات ، قاله ابن عطية . وعسى من اللّه تعالى واجبة الوقوع ، { وَاللّه قَدِيرٌ } على تقليب القلوب وتيسير العسير ، { وَاللّه غَفُورٌ } لمن أسلم من المشركين .

٨

انظر تفسير الآية:٩

٩

لا ينهاكم اللّه . . . . .

{لاَّ يَنْهَاكُمُ اللّه} الآية ، قال مجاهد : نزلت في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا ، فكانوا في رتبة سوء لتركهم فرض الهجرة . وقى ل : في مؤمنين من أهل مكة وغيرها تركوا الهجرة . وقال الحسن وأبو صالح : في خزاعة وبين الحارث بن كعب وكنانة ومزينة وقبائل من العرب ، كانوا مظاهرين للرسول محبين فيه وفي ظهوره .

وقيل : فيمن لم يقاتل ، ولا أخرج ولا أظهر سوأ من كفار قريش . وقال قرة الهمداني وعطية العوفي : في قوم من بني هاشم منهم العباس . وقال عبد اللّه بن الزبير : في النساء والصبيان من الكفرة . وقال النحاس والثعلبي : أراد المستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطى عوا الهجرة .

وقيل : قدمت على أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه أمّها نفيلة بنت عبد العزى ، وهي مشركة ، بهدايا ، فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول ، فنزلت الآية ، فأمرها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن تدخلها منزلها وتقبل منها وتكفيها وتحسن إليها .

قال ابن عطية : وكانت المرأة فيما روي خالتها فسمتها أمّاً ؛ وفي التحرير : أن أبا بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه طلق امرأته نفيلة في الجاهلية ، وهي أم أسماء بنت أبي بكر ، فقدمت في المدة التي فيها الهدنة وأهدت إلى أسماء قرطاً وأشياء ، فكرهت أن تقبل منها ، فنزلت الآية . و { أَن تَبَرُّوهُمْ } ، و { ءانٍ } بدلان مما قبلهما ، بدل اشتمال .

١٠

يا أيها الذين . . . . .

كان صلح الحديبية قد تضمن أن من أتى أهل مكة من المسلمين لم يرد إليهم ، ومن أتى المسلمين من أهل مكة رد إليهم ، فجاءت أم كلثوم ، وهي بنت عقبة بن أبي معيط ، وهي أول امرأة هاجرت بعد هجرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في هدنة الحديبية ، فخرج في أثرها أخواها عمارة والوليد ، فقالا : يا محمد أوف لنا بشرطنا ، فقالت : يا رسول اللّه حال النساء إلى الضعف ، كما قد علمت ، فتردني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبر لي ، فنقض اللّه العهد في النساء ، وأنزل فيهن الآية ، وحكم بحكم رضوه كلهم .

وقيل : سبب نزولها سبيعة بنت الحارث الأسلمية ، جاءت الحديبية مسلمة ، فأقبل زوجها مسافر المخدومي .

وقيل : صيفي بن الراهب ، فقال : يا محمد اردد علي امرأتي ، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف ، فنزلت بياناً أن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء . وذكر أبو نعيم الأصبهاني أن سبب نزولها أميمة بنت بشر بن عمرو بن عوف ، امرأة حسان بن الدحداحة ، وسماهن تعالى مؤمنات قبل أن يمتحن ، وذلك لنطقهن بكلمة الشهادة ، ولم يظهر منهن ما ينافي ذلك ، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان .

وقرىء : مهاجرات بالرفع على البدل من المؤمنات ، وامتحانهن ، قالت عائشة : بآية المبايعة .

وقيل : بأن بشهدن أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه .

وقال ابن عباس : بالحلف إنها ما خرجت إلا حباً للّه ورسوله ورغبة في دين الإسلام .

وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة وعكرمة : كانت تستحلف أنها ما هاجرت لبغض في زوجها ، ولا لجريرة جرتها ، ولا لسبب من أغراض الدنيا سوى حب اللّه ورسوله والدار الآخرة . { اللّه أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } : لأنه تعالى هو المطلع على أسرار القلوب ومخبآت العقائد ، { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ } : أطلق العلم على الظن الغالب بالحلف وظهور الإمارات بالخروج من الوطن ، والحلول في قوم ليسوا من قومها ، وبين انتفاء رجعهن إلى الكفار أزواجهن ، وذلك هو التحريم بين المسلمة والكافر .

وقرأ طلحة : لا هن يحلان لهم ، وانعقد التحريم بهذه الجملة ، وجاء قوله :{ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } على سبيل التأكيد وتشديد الحرمة ، لأنه إذا لم تحل المؤمنة للكافر ، علم أنه لا حل بينهما البتة .

وقيل : أفاد قوله :{ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل ، كما هو في الحال ما داموا على الإشراك وهن على الإيمان .{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ } : أمر أن يعطي الزوج الكافر ما أنفق على زوجته إذا أسلمت ، فلا يجمع عليه خسران الزوجية والمالية . قال ابن عباس : أعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، بعد إمتحانها زوجها الكافر ، ما أنفق عليها ، فتزوجها عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه ، وكان إذا امتحنهن ، أعطى أزواجهن مهورهن . وقال قتادة : الحكم في رد الصداق إنما كان في نساء أهل العهد ، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين ، فلا يرد عليه الصداق ، والأمر كما قال قتادة ، ثم نفى الحرج في نكاح المؤمنين اياهن إذا آتوهن مهورهن ، ثم أمر تعالى المؤمنين بفراق نسائهن الكوافر عوابد الأوثان .

وقرأ الجمهور :{ تُمْسِكُواْ } مضارع أمسك ، كأكرم ؛ وأبو عمرو ومجاهد : بخلاف عنه ؛ وابن جبير والحسن والأعرج : مضارع مسك مشدّداً ؛ والحسن أيضاً وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد الحميد وأبو عمرو في رواية معاذ : تمسكوا بفتح الثلاثة ، مضارع تمسك محذوف الثاني بتمسكوا ؛ والحسن أيضاً : تمسكوا بكسر السين ، مضارع مسك ثلاثياً . وقال الكرخي :{ الْكَوَافِرِ } ، يشمل الرجال والنساء ، فقال له أبو علي الفارسي : النحويون لا يرون هذا إلا في النساء ، جمع كافرة ، وقال : أليس يقال : طائفة كافرة وفرقة كافرة ؟ قال أبو علي : فبهت فقلت : هذا تأييد . انتهى . وهذا الكرخي معتزلي فقيه ، وأبو علي معتزلي ، فأعجبه هذا التخريج ، وليس بشيء لأنه لا يقال كافرة في وصف الرجال إلا تابعاً لموصوفها ، أو يكون محذوفاً مراداً ، أما بغير ذلك فلا يجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث . والعصم جمع عصمة ، وهي سبب البقاء في الزوجية .{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ } : أي واسألوا الكافرين ما أنفقتم على أزواجكم إذا فروا إليهم ، { وَلْيَسْئَلُواْ } : أي الكفار ما أنفقوا على أزواجهم إذ فروا إلى المؤمنين .

١١

وإن فاتكم شيء . . . . .

ولما تقرر هذا الحكم ، قالت قريش ، فيما روي : لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقاً ، فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى : { وَإِن فَاتَكُمْ } ، فأمر تعالى المؤمنين أن يدفعوا من فرت زوجته من المسلمين ، ففاتت بنفسها إلى الكفار وانقلبت من الإسلام ، ما كان مهرها . قال

الزمخشري :

فإن قلت : هل لإيقاع شيء في هذا الموضوع فائدة ؟

قلت : نعم ، الفائدة فيه أن لا يغادر شيء من هذا الجنس ، وإن قل وحقر ، غير معوض منه تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه . انتهى . واللاتي ارتددن من نساء المهاجرين ولحقن بالكفار : أم الحكم بنت أبي سفيان ، زوج عياض بن شداد الفهري ؛ وأخت أم سلمة فاطمة بنت أبي أمية ، زوج عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه ؛ وعبدة بنت عبد العزى ، زوج هشام بن العاصي ؛ وأم كلثوم بنت جرول ، زوج عمر أيضاً . وذكر الزمخشري أنهن ست ، فذكر : أم الحكم ، وفاطمة بنت أبي أمية زوج عمر بن الخطاب ، وعبدة وذكر أن زوجها عمرو بن ود ، وكلثوم ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاصي ، أعطى أزواجهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مهورهن من الغنيمة .

وقرأ الجمهور { فَعَاقَبْتُمْ } بألف ؛ ومجاهد والزهري والأعرج وعكرمة وحميد وأبو حيوة والزعفراني : بشد القاف ؛ والنخعي والأعرج أيضاً وأبو حيوة أيضاً والزهري أيضاً وابن وثاب : بخلاف عنه بخف القاف مفتوحة ؛ ومسروق والنخعي أيضاً والزهري أيضاً : بكسرها ؛ ومجاهد أيضاً : فاعقبتم على وزن افعل ، يقال : عاقب الرجل صاحبه في كذا ، أي جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر ،

ويقال : أعقب ، قال : وحادرت البلد الحلاد ولم يكن

لعقبة قدر المستعيرين يعقب

وعقب : أصاب عقبى ، والتعقيب : غزو إثر غزو ، وعقب بفتح القاف وكسرها مخففاً .

وقال الزمخشري : فعاقبتم من العقبة ، وهي النوبة . شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة ، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى ، بأمر يتعاقبون فيه ، كما يتعاقب في الركوب وغيره ، ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر .{ فَاتُواْ } من فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة ، ولا يؤتوه زوجها الكافر ، وهكذا عن الزهري ، يعطي من صداق من لحق بهم . ومعنى أعقبتم : دخلتم في العقبة ، وعقبتم من عقبه إذا قفاه ، لأن كل واحد من المتعاقبين يقفي صاحبه ، وكذلك عقبتم بالتخفيف ، يقال : عقبه يعقبه . انتهى . وقال الزجاج : فعاقبتم : قاضيتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم ، وفسر غيرها من القراءات : لكانت العقبى لكم : أي كانت الغلبة لكم حتى غنمتم والكفار من قوله :{ إِلَى الْكُفَّارِ } ، ظاهره العموم في جميع الكفار ، قاله قتادة ومجاهد . قال قتادة : ثم نسخ هذا الحكم .

وقال ابن عباس : يعطى من الغنيمة قبل أن تخمس . وقال الزهري : من مال الفيء ؛ وعنه : من صداق من لحق بنا .

وقيل : الكفار مخصوص بأهل العهد . وقال الزهري : اقتطع هذا يوم الفتح . وقال الثوري : لا يعمل به اليوم . وقال مقاتل : كان في عهد الرسول فنسخ . و

قال ابن عطية : هذه الآية كلها قد ارتفع حكمها . وقال أبو بكر بن العربي القاضي : كان هذا حكم اللّه مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة بإجماع الأمة . وقال القشيري : قال قوم هو ثابت الحكم إلى الآن .

١٢

يا أيها النبي . . . . .

{يأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ } : كانت بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفاء ، بعدما فرغ من بيعة الرجال ، وهو على الصفا وعمر أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه ، وما مست يده عليه الصلاة والسلام يد امرأة أجنبية قط . وقالت أسماء بنت يزيد بن السكن : كنت في النسوة المبايعات ، فقلت : يا رسول اللّه ابسط يدك نبايعك ، فقال لي عليه الصلاة والسلام : { إني لا أصافح النساء لكن آخذ عليهن ما أخذ اللّه عليهن} . وكانت هند بنت عتبة في النساء ، فقرأ عليهن الآية . فلما قررهن على أن لا يشركن باللّه شيئاً ، قالت هند : وكيف نطمع أن تقبل منا ما لم تقبله من الرجال ؟ تعني أن هذا بين لزومه . فلما وقف على السرقة قالت : واللّه إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان ، لا أدري أيحل لي ذلك ؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما

مضى وفيما عبر فهو لك حلال ، فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعرفها ، فقال لها :  { وإنك لهند بنت عتبة } ، قالت : نعم ، فاعف عما سلف يا نبي اللّه عفا اللّه عنك . فقال : { وَلاَ يَزْنِينَ } ، فقالت : أوتزني الحرة ؟ قال :{ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ } ، فقالت : ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر ، فضحك عمر رضي اللّه تعالى عنه حتى استلقى ، وتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال :{ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ } ، فقالت : واللّه إن البهتان لأمر قبيح ، ولا يأمر اللّه إلا بالرشد ومكارم الأخلاق . فقال :{ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ } ، فقالت : واللّه ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء . ومعنى قول هند : أو تزني الحرة أنه كان في قريش في الإماء غالباً ، وإلا فالبغايا ذوات الربات قد كن حرائر . وقرأعليّ والحسن والسلمي : ولا يقتلن مشدداً ، وقتلهن من أجل الفقر والفاقة ، وكانت العرب تفعل ذلك . والبهتان ، قال الأكثرون : أن تنسب إلى زوجها ولداً ليس منه ، وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هو ولدي منك .{ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } : لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين ، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين . وروى الضحاك : البهتان : العضة ، لأنها إذا قذفت المرأة غيرها ، فقد بهتت ما بين يدي المقذوفة ورجليها ، إذ نفت عنها ولداً قد ولدته ، أو ألحقت بها ولداً لم تلده .

وقيل : البهتان : السحر .

وقيل : بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة ، وأرجلهن ؛ فروجهن .

وقيل : بين أيديهن قبله أو جسة ، وأرجلهن الجماع . ومن البهتان الفرية بالقول على أحد من الناس ، والكذب فيما اؤتمنّ عليه من حمل وحيض ، والمعروف الذي نهى عن العصيان فيه ، قال ابن عباس وأنس وزيد بن أسلم : هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر ، وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها .

١٣

يا أيها الذين . . . . .

وروي أن قوماً من فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم ، فقيل لهم : لا تتولوا قوماً مغضوباً عليهم وعلى أنهم اليهود ، فسرهم الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد ، لأن غضب اللّه قد صار عرفاً لهم .

وقال ابن عباس : كفار قريش ، لأن كل كافر عليه غضب من اللّه .

وقيل : اليهود والنصارى .

{قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الاْخِرَةِ } ، قال ابن عباس : من خيرها وثوابها . والظاهر أن من في { مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } لابتداء الغاية ، أي لقاء أصحاب القبور . فمن الثانية كالأولى من الآخرة . فالمعنى أنهم لا يلقونهم في دار الدنيا بعد موتهم . وقال ابن عرفة : هم الذين قالوا : ما يهلكنا إلا الدهر . انتهى . والكفار على هذا كفار مكة ، لأنهم إذا مات لهم حميم قالوا : هذا آخر العهد به ، لن يبعث أبداً ، وهذا تأويل ابن عباس وقتادة والحسن .

وقيل : من لبيان الجنس ، أي الكفار الذين هم أصحاب القبور ، والمأيوس منه محذوف ، أي كما يئس الكفار المقبورون من رحمة اللّه ، لأنه إذا كان حياً لم يقبر ، كان يرجى له أن لا ييأس من رحمة اللّه ، إذ هو متوقع إيمانه ، وهذا تأويل مجاهد وابن جبير وابن زيد . و

قال ابن عطية : وبيان الجنس أظهر . انتهى . وقد ذكرنا أن الظاهر كون من لابتداء الغاية ، إذ لا يحتاج الكلام إلى تقدير محذوف .

وقرأ ابن أبي الزناد : كما يئس الكافر على الإفراد . والجمهور : على الجمع . ولما فتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء ، ختمها بمثل ذلك تأكيداً لترك مولاتهم وتنفير المسلمين عن توليهم وإلقاء المودّة إليهم .

﴿ ٠