سورة التحريم

مدنية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

يا أيها النبي . . . . .

هذه السورة مدنية ، وسبب نزولها ما يأتي ذكره في تفسير أوائلها ، والمناسبة بينها وبين السورة قبلها أنه لما ذكر جملة من أحكام زوجات المؤمنين ، ذكر هنا ما جرى من بعض زوجات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

{مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِىّ } : نداء إقبال وتشريف وتنبيه بالصفة على عصمته مما يقع فيه من ليس بمعصوم ؛{ لِمَ تُحَرّمُ } : سؤال تلطف ، ولذلك قدم قبله { مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِىّ } ، كما جاء في قوله تعالى :{ عَفَا اللّه عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} ومعنى { تُحَرّمُ } : تمنع ، وليس التحريم المشروع بوحي من اللّه ، وإنما هو امتناع لتطييب خاطر بعض من يحسن معه العشرة .{ مَا أَحَلَّ اللّه لَكَ } : هو مباشرة مارية جاريته ، وكان صلى اللّه عليه وسلم ألمّ بها في بيت بعض نسائه ، فغارت من ذلك صاحبة البيت ، فطيب خاطرها بامتناعه منها ، واستكتمها ذلك ، فأفشته إلى بعض نسائه .

وقيل : هو عسل كان يشربه عند بعض نسائه ، فكان ينتاب بيتها لذلك ، فغار بعضهن من دخوله بيت التي عندها العسل ، وتواصين على أن يذكرن له على أن رائحة ذلك العسل ليس بطيب ، فقال : { لا أشربه} . وللزمخشري هنا كلام أضربت عنه صفحاً ، كما ضربت عن كلامه في قوله :{ عَفَا اللّه عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } ، وكلامه هذا ونحوه محقق قوي فيه ، ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقاً .

فلو حرم الإنسان على نفسه شيئاً أحله اللّه ، كشرب عسل ، أو وطء سرية ؛ واختلفوا إذا قال لزوجته : أنت عليّ حرام ، أو الحلال على حرام ، ولا يستثني زوجته ؛ فقال جماعة ، منهم الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ : هو

كتحريم الماء والطعام .

وقال تعالى : { لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّه لَكُمْ } ، والزوجة من الطيبات ومما أحله اللّه . وقال أبو بكر وعمر وزيد وابن عباس وابن مسعود وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاووس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة والحسن والأوزاعي وأبو ثور وجماعة : هو يمين يكفرها . وقال ابن مسعود وابن عباس أيضاً في إحدى روايتيه ، والشافعي في أحد قوليه : فيه تكفير يمين وليس بيمين . وقال أبو حنيفة وسفيان والكوفيون : هذا ما أراد من الطلاق ، فإن لم يرد طلاقها فهو لا شيء . وقال آخرون : كذلك ، فإن لم يرد فهو يمين . وفي التحرير ، قال أبو حنيفة وأصحابه : إن نوى الطلاق فواحدة بائنة ، أو اثنين فواحدة ، أو ثلاثاً فثلاث ، أو لم ينو شيئاً فيمين وهو مول ، أو الظهار فظهار . وقال ابن القاسم : لا تنفعه نية الظهار ويكون طلاقاً . وقال يحيى بن عمر : يكون ، فإن ارتجعها ، فلا يجوز له وطئها حتى يكفر كفارة الظهار فما زاد من أعداده ، فإن نوى واحدة فرجعية ، وهو قول الشافعي . وقال الأوزاعي وسفيان وأبو ثور : أيأي شيء نوى به من الطلاق وقع وإن لم ينو شيئاً ، فقال سفيان : لا شيء عليه . وقال الأوزاعي وأبو ثور : تقع واحدة . وقال الزهري : له نيته ولا يكون أقل من واحدة ، فإن لم ينو فلا شيء . وقال ابن جبير : عليه عتق رقبة وإن لم يكن ظهاراً . وقال أبو قلابة وعثمان وأحمد وإسحاق : التحريم ظهار ، ففيه كفارة . وقال الشافعي : إن نوى أنها محرمة كظهر أمه ، فظهار أو تحريم عينها بغير طلاق ، أو لم ينو فكفارة يمين . وقال مالك : هي ثلاث في المدخول بها ، وينوى في غير المدخول بها ، فهو ما أراد من واحدة أو اثنتين أو ثلاث . وقاله علي وزيد وأبو هريرة .

وقيل : في المدخول بها ثلاث ، قاله عليّ أيضاً وزيد بن أسلم والحكم . وقال ابن أبي ليلى وعبد الملك بن الماجشون : هي ثلاث في الوجهين ، ولا ينوي في شيء . وروى ابن خويز منداد عن مالك ، وقاله زيد وحماد بن أبي سليمان : إنها واحدة بائنة في المدخول بها وغير المدخول بها . وقال الزهري وعبد العزيز بن الماجشون : هي واحدة رجعية . وقال أبو مصعب ومحمد بن الحكم : هي في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي المدخول بها ثلاث . وفي الكشاف لا يراه الشافعي يميناً ، ولكن سبباً في الكفارة في النساء وحدهن ، وإن نوى الطلاق فهو رجعي . وعن عمر : إذا نوى الطلاق فرجعي . وعن علي : ثلاث ؛ وعن زيد : واحدة ؛ وعن عثمان : ظهاراً . انتهى . وقال أيضاً : ولم يثبت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال لما أحله : { هو حرام علي } ، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدّمت منه ، وهو قوله :  { واللّه لا أقربها بعد اليوم } ، فقيل له : { لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللّه لَكَ } : أي لم تمتنع منه بسبب اليمين ؟ يعني أقدم على ما حلفت عليه وكفر ، ونحو قوله تعالى :{ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ } : أي منعناه منها . انتهى . و { تَبْتَغِى } : في موضع الحال .

وقال الزمخشري تفسير لتحرم ، أو استئناف ، { مَرْضَاتَ } : رضا أزواجك ، أي بالامتناع مما أحله اللّه لك .

٢

قد فرض اللّه . . . . .

{قَدْ فَرَضَ اللّه لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } : الظاهر أنه كان حلف على أنه يمتنع من وطء مارية ، أو من شرب ذلك العسل ، على الخلاف في السبب ، وفرض إحالة على آية العقود ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان . وتحلة : مصدر حلل ، كتكرمة من كرم ، وليس مصدراً مقيساً ، والمقيس : التحليل والتكريم ، لأن قياس فعل الصحيح العين غير المهموز هو التفعيل ، وأصل هذا تحللة فأدغم . وعن مقاتل : أعتق رقبة في تحريم مارية . وعن الحسن : لم يكفر . انتهى . فدل على أنه لم يكن ثم يمين .

٣

وإذ أسر النبي . . . . .

و { بَعْضِ أَزْواجِهِ } : حفصة ، والحديث هو بسبب مارية .{ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } : أي أخبرت عائشة .

وقيل : الحديث إنما هو : { شربت عسلاً} . وقال ميمون بن مهران : هو إسراره إلى حفصة أن أبا بكر وعمر يملكان إمرتي من بعدي خلافه .

وقرأ الجمهور :{ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } ؛ وطلحة : أنبأت ، والعامل في إذا : اذكر ، وذكر ذلك على سبيل التأنيب لمن أسرّ له فأفشاه . ونبأ وأنبأ ، الأصل أن يتعديا إلى واحد بأنفسهما ، وإلى ثان بحرف الجر ، ويجوز حذفه فتقول : نبأت به ، المفعول الأول محذوف ، أي غيرها . و { مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا } : أي بهذا ، { قَالَ نَبَّأَنِىَ } أي نبأني به أو نبأنيه ، فإذا ضمنت معنى أعلم ، تعدت إلى ثلاثة مفاعيل ، نحو قول الشاعر

نبئت زرعة والسفاهة كاسمها

تهدي إليّ غرائب الأشعار

{وَأَظْهَرَهُ اللّه عَلَيْهِ } : أي أطلعه ، أي على إفشائه ، وكان قد تكوتم فيه ، وذلك بإخبار جبريل عليه السلام . وجاءت الكناية هنا عن التفشية والحذف للمفشى إليها بالسر ، حياطة وصوناً عن التصريح بالاسم ، إذ لا يتعلق بالتصريح بالاسم غرض .

وقرأ الجمهور :{ عَرَّفَ } بشد الرّاء ، والمعنى : أعلم به وأنب عليه .

وقرأ السلمي والحسن وقتادة وطلحة والكسائي وأبو عمرو في رواية هارون عنه : بخف الراء ، أي جازى بالعتب واللوم ، كما تقول لمن يؤذيك : لأعرفن لك ذلك ، أي لأجازينك .

وقيل : إنه طلق حفصة وأمر بمراجعتها .

وقيل : عاتبها ولم يطلقها .

وقرأ ابن المسيب وعكرمة : عراف بألف بعد الراء ، وهي إشباع . وقال ابن خالويه : ويقال إنها لغة يمانية ، ومثالها قوله : أعوذ باللّه من العقراب

الشائلات عقد الأذناب

يريد : من العقرب .{ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } : أي تكرماً وحياء وحسن عشرة . قال الحسن : ما استقصى كريم قط . وقال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام ، ومفعول عرّف المشدد محذوف ، أي عرّفها بعضه ، أي أعلم ببعض الحديث .

وقيل : المعرّف خلافة الشيخين ، والذي أعرض عنه حديث مارية . ولما أفشت حفصة الحديث لعائشة واكتتمتها إياه ، ونبأها الرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم به ، ظنت أن عائشة فضحتها فقالت :{ مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا } على سبيل التثبت ، فأخبرها أن اللّه هو الذي نبأه به ، فسكنت وسلمت .

٤

إن تتوبا إلى . . . . .

{إِن تَتُوبَا إِلَى اللّه} : انتقال من غيبة إلى خطاب ، ويسمى الالتفات والخطاب لحفصة وعائشة .{ فَقَدْ صَافَّاتٍ } : مالت عن الصواب ، وفي حرف عبد اللّه : راغت ، وأتى بالجمع في قوله :{ قُلُوبُكُمَا } ، وحسن ذلك إضافته إلى مثنى ، وهو ضميراهما ، والجمع في مثل هذا أكثر استعمالاً من المثنى ، والتثنية دون الجمع ، كما قال الشاعر : فتخالسا نفسيهما بنوافذ

كنوافذ العبط التي لا ترفع

وهذا كان القياس ، وذلك أن يعبر بالمثنى عن المثنى ، لكن كرهوا اجتماع تثنيتين فعدلوا إلى الجمع ، لأن التثنية جمع في المعنى ، والإفراد لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر ، كقوله :

حمامة بطن الواديين ترنمي

يريد : بطني . وغلط ابن مالك فقال في كتاب التسهيل : ونختار لفظ الإفراد على لفظ التثنية .

وقرأ الجمهور : تظاهرا بشد الظاء ، وأصله تتظاهرا ، وأدغمت التاء في الظاء ، وبالأصل قرأ عكرمة ، وبتخفيف الظاء قرأ أبو رجاء والحسن وطلحة وعاصم ونافع في رواية ، وبشد الظاء والهاء دون ألف قرأ أبو عمرو في رواية ، والمعنى : وأن تتعاونا عليه في إفشاء سره والإفراط في الغيرة ، { فَإِنَّ اللّه هُوَ مَوْلَاهُ } : أي مظاهره ومعينه ، والأحسن الوقف على قوله :{ مَوْلاهُ} ويكون { وَجِبْرِيلُ } مبتدأ ، وما بعده معطوف عليه ، والخبر { ظَهِيرٍ} فيكون ابتداء الجملة بجبريل ، وهو أمين وحي

اللّه واختتامه بالملائكة . وبدىء بجبريل ، وأفرد بالذكر تعظيماً له وإظهاراً لمكانته عند اللّه . ويكون قد ذكر مرتين ، مرة بالنص ومرة في العموم . واكتنف صالح المؤمنين جبريل تشريفاً لهم واعتناء بهم ، إذ جعلهم بين الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون . فعلى هذا جبريل داخل في الظهراء لا في الولاية ، ويختص الرسول بأن اللّه هو مولاه . وجوزوا أن يكون { وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } عطفاً على اسم اللّه ، فيدخلان في الولاية ، ويكون { وَالْمَلَئِكَةُ } مبتدأ ، والخبر { ظَهِيرٍ } ، فيكون جبريل داخلاً في الولاية بالنص ، وفي الظهراء بالعموم ، والظاهر عموم وصالح المؤمنين فيشمل كل صالح . وقال قتادة والعلاء بن العلاء بن زيد : هم الأنبياء ، وتكون مظاهرتهم له كونهم قدوة ، فهم ظهراء بهذا المعنى . وقال عكرمة والضحاك وابن جبير ومجاهد : المراد أبو بكر وعمر ، وزاد مجاهد : وعلي بن أبي طالب .

وقيل : الصحابة .

وقيل : الخلفاء . وعن ابن جبير : من يرىء من النفاق ، وصالح يحتمل أن يراد به الجمع ، وإن كان مفرداً فيكون كالسامر في قوله :{ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً } ،أي سماراً . ويحتمل أن يكون جمعاً حذفت منه الواو خطأ لحذفها لفظاً ، كقوله :{ سَنَدْعُ } ، وأفرد الظهير لأن المراد فوج ظهير ، وكثيراً ما يأتي فعيل نحو : هذا للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ المفرد ، كأنهم في الظاهرة يد واحدة على من يعاديه ، فما قد تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه ، وذلك إشارة إلى تظاهرهما ، أو إلى الولاية .

وفي الحديث أن عمر قال : يا رسول اللّه لا تكترث بأمر نسائك ، واللّه معك ، وجبريل معك ، وأبو بكر وأنا معك ، فنزلت .

٥

عسى ربه إن . . . . .

وروي عنه أنه قال لزوجات النبي صلى اللّه عليه وسلم : { ظَهِيرٌ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ } الآية ، فنزلت .

وقرأ الجمهور : طلقكن بفتح القاف ، وأبو عمرو في رواية ابن عباس : بإدغامها في الكاف ، وتقدم ذكر الخلاف في { أَن يُبْدِلَهُ } في سورة الكهف ، والمتبدل به محذوف لدلالة المعنى عليه ، تقديره : أن يبدله خيراً منكن ، لأنهن إذا طلقهن كان طلاقهن لسوء عشرتهن ، واللواتي يبدلهن بهذه الأوصاف يكن خيراً منهن . وبدأ في وصفهن بالإسلام ، وهو الانقياد ؛ ثم بالإيمان ، وهو التصديق ؛ ثم بالقنوت ، وهو الطواعية ؛ ثم بالتوبة ، وهي الإقلاع عن الذنب ؛ ثم بالعبادة ، وهي التلذذ ؛ ثم بالسياحة ، وهي كناية عن الصوم ، قاله أبو هريرة وابن عباس وقتادة والضحاك .

وقيل : إن الرسول صلى اللّه عليه وسلم فسره بذلك ، قاله أيضاً الحسن وابن جبير وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن . قال الفراء والقتبي : سمي الصائم سائحاً لأن السائح لا زاد معه ، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام . وقال زيد بن أسلم ويمان : مهاجرات . وقال ابن زيد : ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة .

وقيل : ذاهبات في طاعة اللّه .

وقرأ الجمهور : سائحات ، وعمرو بن فائد : سيحات ، وهذه الصفات تجتمع ،

وأما الثيوبة والبكارة فلا يجتمعان ، فلذلك عطف أحدهما على الآخر ، ولو لم يأت بالواو لاختل المعنى . وذكر الجنسين لأن في أزواجه صلى اللّه عليه وسلم من تزوجها بكراً ، والثيب : الراجع بعد زوال العذرة ، يقال : ثابت تثوب ثووباً ، ووزنه فعيل كسيد .

٦

يا أيها الذين . . . . .

ولما وعظ أزواج الرسول صلى اللّه عليه وسلم موعظة خاصة ، أتبع ذلك بموعظة عامة للمؤمنين وأهليهم ، وعطف { وَأَهْلِيكُمْ } على { أَنفُسَكُمْ } ، لأن رب المنزل راع وهو مسؤول عن أهله . ومعنى وقايتهم : حملهم على طاعته وإلزامهم أداء ما فرض عليهم . قال عمر : يا رسول اللّه ، نقي أنفسنا ، فكيف لنا بأهلينا ؟ قال : { تنهونهن عما نهاكم اللّه تعالى عنه ، وتأمرونهن بما أمركم اللّه به ، فتكون ذلك وقاية بينهن وبين النار } ، ودخل الأولاد في { وَأَهْلِيكُمْ}

وقيل : دخلوا في { أَنفُسَكُمْ } لأن الولد بعض من أبيه ، فيعلمه الحلال والحرام ويجنبه المعاصي . وقرىء : وأهلوكم بالواو ، وهو معطوف على الضمير في { قُواْ } وحسن العطف للفصل بالمفعول .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : أليس التقدير قوا أنفسكم وليق أهلوكم أنفسهم ؟

قلت : لا ، ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو وأنفسكم واقع بعده ، فكأنه قيل : قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم . لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه . فجعلت ضميرهما معاً على لفظ المخاطب . انتهى . وناقض في قوله هذا لأنه قدر وليق أهلوكم فجعله من عطف الجمل ، لأن أهلوكم اسم ظاهرة لا يمكن عنده أن يرتفع بفعل الآمر الذي للمخاطب ، وكذا في قوله :{ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } ، ثم قال : ولكن المعطوف مقارن

في التقدير للواو ، فناقض لأنه في هذا جعله مقارناً في التقدير للواو ، وفيما قبله رفعه بفعل آخر غير الرافع للواو وهو وليق ، وتقدم الخلاف في فتح الواو في قوله : { وَقُودُهَا } وضمها في البقرة . وتفسير { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } في البقرة { عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ } : هي الزبانية التسعة عشر وأعوانهم . ووصفهم بالغلظ ، إما لشدة أجسامهم وقوتها ،

وإما لفظاظتهم لقوله :{ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ } ،أي ليس فيهم رقة ولا حنة على العصاة . وانتصب { مَا أَمَرَهُمْ } على البدل ، أي لا يعصون أمره لقوله تعالى :{ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى } ،أو على إسقاط حرف الجر . أي فيما أمرهم { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} قيل : كرر المعنى توكيداً .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : أليس الجملتان في معنى واحد ؟

قلت : لا فإن معنى

الأولى : أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ، ومعنى الثانية : أنهم يودون ما يؤمرون ، لا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه .

٧

يا أيها الذين . . . . .

{لاَ تَعْتَذِرُواْ } : خطاب لهم عند دخولهم المنار ، لأنهم لا ينفعهم الاعتذار ، فلا فائدة فيه .

٨

يا أيها الذين . . . . .

ذكروا في النصوح أربعة وعشرين قولاً . وروي عن عمر وعبد اللّه وأبي ومعاذ أنها التي لا عودة بعدها ، كما لا يعود اللبن إلى الضرع ، ورفعه معاذ إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم.

وقرأ الجمهور : { نَّصُوحاً } بفتح النون ، وصفاً لتوبة ، وهو من أمثلة المبالغة ، كضروب وقتول .

وقرأ الحسن والأعرج وعيسى وأبو بكر عن عاصم ، وخارجة عن نافع : بضمها ، هو مصدر وصف به ، ووصفها بالنصح على سبيل المجاز ، إذ النصح صفة التائب ، وهو أن ينصح نفسه بالتوبة ، فيأتي بها على طريقها ، وهي خلوصها من جميع الشوائب المفسدة لها ، من قولهم : عسل ناصح ، أي خالص من الشمع ، أو من النصاحة وهي الخياطة ، أي قد أحكمها وأوثقها ، كما يحكم الخياط الثوب بخياطته وتوثيقه .

وسمع عليّ أعرابياً يقول : اللّهم إني أستغفرك وأتوب إليك ، فقال : يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين ، قال : وما التوبة ؟ قال : يجمعها ستة أشياء : على الماضي من الذنوب الندامة ، وعلى الفرائض الإعادة ، ورد المظالم واستحلال الخصوم ، وأن يعزم على أن لا يعودوا ، وأن تدئب نفسك في طاعة اللّه كما أدأبتها في المعصية ، وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي . وعن حذيفة : بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه . انتهى . ونصوحاً من نصح ، فاحتمل وهو الظاهر أن تكون التوبة تنصح نفس التائب ، واحتمل أن يكون متعلق النصح الناس ، أي يدعوهم إلى مثلها لظهور أمرها على صاحبها .

وقرأ زيد بن علي : توباً بغير تاء ، ومن قرأ بالضم جاز أن يكون مصدراً وصف كما قدمناه ، وجاز أن يكون مفعولاً له ، أي توبوا لنصح أنفسكم .

وقرأ الجمهور : { وَيُدْخِلْكُمْ } عطفاً على { أَن يُكَفّرَ}

وقال الزمخشري : عطفاً على محل عسى أن يكفر ، كأنه قيل : توبوا يوجب تكفير سيآتكم ويدخلكم . انتهى . والأولى أن يكون حذف الحركة تخفيفاً وتشبيهاً لما هو من كلمتين بالكلمة الواحدة ، تقول في قمع ونطع : قمع ونطع .

{يَوْمٌ لاَّ } منصوب بيدخلكم ، ولا يجزي تعريض بمن أخزاهم اللّه من أهل الكفر ، والنبي هو محمد رسول صلى اللّه عليه وسلم ، وفي الحديث أنه صلى اللّه عليه وسلم تضرع إلى اللّه عز وجل في أمر أمته ، فأوحى اللّه تعالى إليه : إن شئت جعلت حسابهم إليك ، فقال : { يا رب أنت أرحم بهم} ، ف

قال تعالى : إذاً لا أخزيك فيهم . وجاز أن يكون : { مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ } معطوفاً على { النَّبِىّ } ، فيدخلون في انتفاء الخزي . وجاز أن يكون مبتدأ ، والخبر { نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}

وقرأ سهل بن شعيب وأبو حيوة : وبإيمانهم بكسر الهمزة ، وتقدم في الحديث .{ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} قال ابن عباس والحسن : يقولون ذلك إذا طفىء نور المنافقين . وقال الحسن أيضاً : يدعونه تقرباً إليه ، كقوله :{ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } ، وهو مغفور له .

وقيل : يقوله من يمر على الصراط زحفاً وحبوا .

وقيل : يقوله من يعطى من النور مقدار ما يبصر به موضع قدميه .

٩

يا أيها النبي . . . . .

{ياأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } : تقدم نظير هذه الآية في التوبة .

١٠

ضرب اللّه مثلا . . . . .

{ضَرَبَ اللّه مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } : ضرب تعالى المثل لهم بامرأة نوح وامرأة لوط في أنهم لا ينفعهم في كفرهم لحمة نسب ولا وصلة صهر ، إذ الكفر قاطع العلائق بين الكافر والمؤمن ، وإن كان المؤمن في أقصى درجات العلا . ألا ترى إلى قوله تعالى :{ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } ؟ كما لم ينفع تينك المرأتين كونهما زوجتي نبيين . وجاءت الكناية عن اسمهما العلمين بقوله :{ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا } ، لما في ذلك من التشريف بالإضافة إليه تعالى . ولم يأت التركيب بالضمير عنهما ، فيكون تحتهما لما قصد من ذكر وصفهما بقوله :{ صَالِحِينَ } ، لأن الصلاح هو الوصف الذي يمتاز به من اصطفاه اللّه تعالى بقوله في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام :{ وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } ، وفي قول يوسف عليه السلام :{ وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ } ، وقول سليمان عليه الصلاة والسلام :{ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}{ فَخَانَتَاهُمَا } ، وذلك بكفرهما وقول امرأة نوح عليه السلام : هو مجنون ، ونميمة امرأة لوط عليه السلام بمن ورد عليه من الأضياف ، قاله ابن عباس . وقال : لم تزن امرأة نبي قط ، ولا ابتلي في نسائه بالزنا . قال في التحرير : وهذا إجماع من المفسرين ، وفي كتاب ابن عطية . وقال الحسن في كتاب النقاش : فخانتاهما بالكفر والزنا وغيره .

وقال الزمخشري : ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور ، لأنه سمج في الطباع نقيصة عند كل أحد ، بخلاف الكفر ، فإن الكفر يستسمجونه ويسمونه حقاً . وقال الضحاك : خانتاهما بالنميمة ، كان إذا أوحى إليه بشيء أفشتاه للمشركين ،

وقيل : خانتاهما بنفاقهما . قال مقاتل : اسم امرأة نوح والهة ، واسم امرأة لوط والعة .{ فَلَمْ يُغْنِينَا } بياء الغيبة ، والألف ضمير نوح ولوط : أي على قربهما منهما فرق بينهما الخيانة .{وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ } : أي وقت موتهما ، أو يوم القيامة ؛{ مَعَ الدخِلِينَ } : الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أو مع من دخلها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط .

وقرأ مبشر بن عبيد : تغنيا بالتاء ، والألف ضمير المرأتين ، ومعنى { عَنْهُمَا } : عن أنفسهما ، ولا بد من هذا المضاف إلا أن يجعل عن اسما ، كهي في : دع عنك ، لأنها إن كانت حرفاً ، كان في ذلك تعدية الفعل الرافع للضمير المتصل إلى ضمير المجرور ، وهو يجري مجرى المنصوب المتصل ، وذلك لا يجوز .

١١

وضرب اللّه مثلا . . . . .

{وَضَرَبَ اللّه مَثَلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ } : مثل تعالى حال المؤمنين في أن وصلة الكفار لا تضرهم ولا تنقص من ثوابهم بحال امرأة فرعون ، واسمها آسية بنت مزاحم ، ولم يضرها كونها كانت تحت فرعون عدوّ اللّه تعالى والمدعي الإلهية ، بل نجاها منه إيمانها ؛ وبحال مريم ، إذ أوتيت من كرامة اللّه تعالى في الدنيا والآخرة ، والاصطفاء على نساء العالمين ، مع أن قومها كانوا كفاراً .{ إِذْ قَالَتْ رَبّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ } : هذا يدل على إيمانها وتصديقها بالبعث . قيل : كانت عمة موسى عليه السلام ، وآمنت حين سمعت بتلقف عصاه ما أفك السحرة . طلبت من ربها القرب من رحمته ، وكان ذلك أهم عندها ، فقدمت

الظرف ، وهو { عِندَكَ بَيْتاً } ، ثم بينت مكان القرب فقالت :{ فِى الْجَنَّةِ} وقال بعض الظرفاء : وقد سئل : اين في القرآن مثل قولهم : الجار قبل الدار ؟ قال : قوله تعالى { ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ } ، فعندك هو المجاورة ، وبيتاً في الجنة هو الدار ، وقد تقدم { عِندَكَ } على قوله :{ بَيَاتًا}{ وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ } ،قيل : دعت بهذه الدعوات حين أمر فرعون بتعذيبها لما عرف إيمانها بموسى عليه السلام . وذكر المفسرون أنواعاً مضطربة في تعذيبها ، وليس في القرآن نصاً أنها عذبت . وقال الحسن : لما دعت بالنجاة ، نجاها اللّه تعالى أكرم نجاة ، فرفعها إلى الجنة تأكل وتشرب وتتنعم .

وقيل : لما قالت :{ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ } ، أريت بيتها في الجنة يبنى ، { وَعَمَلِهِ } ،قيل : كفره .

وقيل : عذابه وظلمه وشماتته .

وقال ابن عباس : الجماع .{ وَنَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ، قال : أهل مصر ، وقال مقاتل : القبط ، وفي هذا دليل على الالتجاء إلى اللّه تعالى عند المحن وسؤال الخلاص منها ، وإن ذلك من سنن الصالحين والأنبياء .

١٢

ومريم ابنة عمران . . . . .

{وَمَرْيَمَ } : معطوف على امرأة فرعون ، { ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } : تقدم تفسير نظير هذه في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

وقرأ الجمهور : ابنت بفتح التاء ؛ وأيوب السختياني : ابنه بسكون الهاء وصلاً أجراه مجرى الوقف .

وقرأ الجمهور :{ فَنَفَخْنَا فِيهِ } : أي في الفرج ؛ وعبد اللّه : فيها ، كما في سورة الأنبياء ، أي في الجملة . وجمع تعالى في التمثيل بين التي لها زوج والتي لا زوج لها تسلية للأرامل وتطييباً لقلوبهن .

وقرأ الجمهور :{ وَصَدَّقَتْ } بشد الدال ؛ ويعقوب وأبو مجلز وقتادة وعصمة عن عاصم : بخفها ، أي كانت صادقة بما أخبرت به من أمر عيسى عليه السلام ، وما أظهر اللّه له من الكرامات .

وقرأ الجمهور : وكلماته جمعاً ، فاحتمل أن تكون الصحف المنزلة على إدريس عليه السلام وغيره ، وسماها كلمات لقصرها ، ويكون المراد بكتبه : الكتب الأربعة . واحتمل أن تكون الكلمات : ما كلم اللّه تعالى به ملائكته وغيرهم ، وبكتبه : جميع ما يكتب في اللوح وغيره . واحتمل أن تكون الكلمات : ما صدر في أمر عيسى عليه السلام .

وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري : بكلمة على التوحيد ، فاحتمل أن يكون اسم جنس ، واحتمل أن يكون كناية عن عيسى ، لأنه قد أطلق عليه أنه كلمة اللّه ألقاها إلى مريم .

وقرأ أبو عمرو وحفص : وكتبه جمعاً ، ورواه كذلك خارجة عن نافع .

وقرأ باقي السبعة : وكتابه على الإفراد ، فاحتمل أن يراد به الجنس ، وأن يراد به الإنجيل لا سيما إن فسرت الكلمة بعيسى .

وقرأ أبو رجاء : وكتبه .

قال ابن عطية : بسكون التاء وكتبه ، وذلك كله مراد به التوراة والإنجيل . وقال صاحب اللوامح أبو رجاء : وكتبه بفتح الكاف ، وهو مصدر أقيم مقام الاسم . قال سهل : وكتبه أجمع من كتابه ، لأن فيه وضع المضاف موضع الجنس ، فالكتب عام ، والكتاب هو الإنجيل فقط . انتهى .

{وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } : غلب الذكورية على التأنيث ، والقانتين شامل للذكور والإناث ، ومن للتبعيض .

وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون لابتداء الغاية على أنها ولدت من القانتين ، لأنها من أعقاب هارون أخي موسى ، صلوات اللّه وسلامه عليهما ، وقال يحيى بن سلام : مثل ضربه اللّه يحذر به عائشة وحفصة من المخالفة حين تظاهرتا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم ضرب لهما مثلاً بامرأة فرعون ومريم ابنت عمران ترغيباً في التمسك بالطاعات والثبات على الدّين . انتهى . وأخذ الزمخشري كلام ابن سلام هذا وحسنه وزمكه بفصاحة فقال : وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأمّي المؤمنين المذكورتين في أول السورة ، وما فرط منهما من التظاهر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه لما في التمثيل من ذكر الكفر ونحوه . ومن التغليظ قوله :{ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللّه غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } ، وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص والكتمان فيه كمثل هاتين المؤمنتين ، وأن لا يشكلا على أنهما زوجتا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فإن ذلك الفضل لا ينقصهما إلا مع كونهما مخلصين . والتعريض بحفصة أرج ، لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدّاً يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره . انتهى . و

قال ابن عطية : وقال بعض الناس : إن في المثلين عبرة لزوجات النبي صلى اللّه عليه وسلم حين تقدم عتابهن ، وفي هذا بعد ، لأن النص أنه للكفار يبعد هذا ، واللّه سبحانه وتعالى أعلم .

﴿ ٠