٢

تبارك الذي بيده . . . . .

هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ضرب للكفار بتينك المرأتين المحتوم لهما بالشقاوة ، وإن كانتا تحت نبيين ، ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم ، وهما محتوم لهما بالجنة ، وإن كان قوماهما كافرين . كان ذلك تصرّفاً في ملكه على ما سبق قضاؤه ، فقال : { تَبَارَكَ } : أي تعالى وتعاظم ، { الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ } : وهو كناية عن الإحاطة والقهر ، وكثيراً ما جاء نسبة اليد إليه تعالى كقوله :{ فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء } ،{ بِيَدِكَ الْخَيْرُ } ، وذلك في حقه تعالى استعارة لتحقيق الملك ، إذ كانت في عرف الآدميين آلة للتملك ، والملك هنا هو على الإطلاق لا يبيد ولا يختل .

وعن ابن عباس : ملك الملوك لقوله تعالى :{ قُلِ اللّهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } ، وناسب الملك ذكر وصف القدرة والحياة ما يصح بوجوده الإحساس . ومعنى { خَلَقَ الْمَوْتَ } : إيجاد ذلك المصحح وإعدامه ، والمعنى : خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون ، وسمى علم الواقع منهم باختيارهم بلوى وهي الحيرة ، استعارة من فعل المختبر . وفي الحديث أنه فسر { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } : أي أحسنكم عقلاً وأشدّكم خوفاً وأحسنكم في أمره ونهيه نظراً ، وإن كان أقلكم تطوعاً .

وعن ابن عباس والحسن والثوري : أزهدكم في الدنيا .

وقيل : كنى بالموت عن الدنيا ، إذ هو واقع فيها ، وعن الآخرة بالحياة من حيث لا موت فيها ، فكأنه قال : هو الذي خلق الدنيا والآخرة ، وصفهما بالمصدرين ، وقدّم الموت لأنه أهيب في النفوس . وليبلوكم متعلق بخلق .{ وَإِيَّاكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } مبتدأ وخبر ، فقدر الحوفي قبلها فعلاً تكون الجملة في موضع معموله ، وهو معلق عنها تقديره : فينظر ، وقدّر ابن عطية فينظر أو فيعلم .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : من أين تعلق قوله :{ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } بفعل البلوى ؟

قلت : من حيث أنه تضمن معنى العلم ، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملاً ، وإذا

قلت : علمته أزيد أحسن عملاً أم هو ؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه ، كما تقول : علمته هو أحسن عملاً .

فإن قلت : أيسمى هذا تعليقاً ؟

قلت : لا ، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسدّ المفعولين جميعاً ، كقولك : علمت أيهما عمرو ، وعلمت أزيد منطلق . ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدّراً بحرف الاستفهام وغير مصدّر به ؟ ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان ، كما افترقتا في قولك : علمت أزيد منطلق ، وعلمت زيداً منطلقاً . انتهى . وأصحابنا يسمون ما منعه الزمخشري تعليقاً ، فيقولون في الفعل إذا عدى إلى اثنين ونصب الأول ، وجاءت بعده جملة استفهامية ، أو بلام الابتداء ، أو بحرف نفي ، كانت الجملة معلقاً عنها الفعل ، وكانت في موضع نصب ، كما لو وقعت في موضع المفعولين وفيها ما يعلق الفعل عن العمل . وقد تقدّم الكلام على مثل هذه الجملة في الكهف في قوله تعالى :{ لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً }

﴿ ٢