سورة الحاقة

مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

الحاقة

الحسوم ، قال الفراء : من حسم الداء ، أي تابع بالمكواة عليه ، قال الشاعر : ففرق بين جمعهم زمان

تتابع فيه أعوام حسوم

وقال المبرد : حسمت الشيء : فصلته عن غيره ، ومنه الحسام . قال الشاعر : فأرسلت ريحاً دبوراً عقيما

فدارت عليهم فكانت حسوماً

وقال الليث : الحسوم : الشؤم ، يقال : هذه ليالي الحسوم : أي تحسم الخير عن أهلها ، وقاله في الصحاح . صرعي : هلكى ، الواحد صريع ، وهي الشيء ضعف وتداعي للسقوط . قال ابن شجرة : من قولهم وهي السقاء إذا انخرق ، ومن أمثالهم قول الراجز : خل سبيل من وهي سقاؤه

ومن هريق بالفلاة ماؤه

الأرجاء : الجوانب ، واحدها رجا ، أي جانب من حائط أو بئر ونحوه ، وهو من ذوات الواو ، ولذلك برزت في التثنية . قال الشاعر : كأن لم ترا قبلي أسيراً مقيدا

ولا رجلاً يرمي به الرجوان

وقال الآخر : فلا يرمي به الرجوان إني

أقل اليوم من يغني مكاني

هاء بمعنى خذ ، فيها لغات ذكرناها في شرح التسهيل . وقال الكسائي وابن السكيت : العرب تقول : هاء يا رجل ، وللاثنين رجلين أو امرأتين : هاؤما ، وللرجل هاؤم ، وللمرأء هاء بهمزة مكسورة من غير ياء ، وللنساء هاؤن . قيل : ومعنى هاؤم : خذوا ، ومنه الخبر في الربا الإهاء وهاء : أي يقول كل واحد لصاحبه خذ .

وقيل : تعالوا ، وزعم القتبي أن الهمزة بدل من الكاف ، وهذا ضعيف إلا إن كان عنى أنها تحل محلها في لغة من قال : هاك وهاك وهاكما وهاكم وهاكن ، فيمكن أنه بدل صناعي ، لأن الكاف لا تبدل من الهمزة ولا الهمزة منها .

وقيل : هاؤم كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط . وفي الحديث ، أنه عليه الصلاة والسلام ناداه أعرابي بصوت عال ، فجاوبه عليه الصلاة والسلام :  { هاؤم } ، بصولة صوته . وزعم قوم أنها مركبة في الأصل ، والأصل هاء أموا ، ثم نقله التخفيف والاستعمال . وزعم قوم أن هذه الميم ضمير جماعة الذكور . القطوف جمع قطف : وهو ما يجتنى من الثمر ويقطف . السلسلة معروفة ، وهي حلق يدخل في حلق على سبيل الطول . الذراع مؤنث ، وهو معروف ، وقال الشاعر : أرمي عليها وهي فرع أجمع

وهي ثلاث أذرع وأصبع

حض على الشيء : حمل على فعله بتوكيد . الغسلين ، قال اللغويون : ما يجري من الجراح إذا غسلت . الوتين : عرق يتعلق به القلب ، إذا انقطع مات صاحبه . وقال الكلبي : عرق بين العلباء والحلقوم ، والعلباء : عصب العنق ، وهما علباوان بينهما العرق .

وقيل : عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر ، ومنه قول الشماخ : إذا بلغتني وحملت رحلي

عرابة فاشرقي بدم الوتين

هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر شيئاً من أحوال السعداء والأشقياء ، وقال :{ ذَرْنِى وَمَنْ يُكَذّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ } ، ذكر حديث القيامة وما أعد اللّه تعالى لأهل السعادة وأهل الشقاوة ، وأدرج بينهما شيئاً من أحوال الذين كذبوا الرسل ، كعاد وثمود وفرعون ، ليزدجر بذكرهم وما جرى عليهم الكفار الذين عاصروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكانت العرب عالمة بهلاك عاد وثمود وفرعون ، فقص عليهم ذلك .

{الْحَاقَّةُ } : المراد بها القيامة والبعث ، قاله ابن عباس وغيره ، لأنها حقت لكل عامل عمله .

وقال ابن عباس وغيره : لأنها تبدي حقائق الأشياء .

وقيل : سميت بذلك لأن الأمر يحق فيها ، فهي من باب ليل نائم . والحاقة اسم فاعل من حق الشيء إذا ثبت ولم يشك في صحته . وقال الأزهري : حاققته فحققته أحقه : أي غالبته فغلبته . فالقيامة حاقة لأنها تحقق كل محاق في دين اللّه بالباطل ، أي كل مخاصم فتغلبه .

وقيل : الحاقة مصدر كالعاقبة والعافية ، والحاقة مبتدأ ،

٢

ما الحاقة

وما مبتدأ ثان ، والحاقة خبره ، والجملة خبر عن الحاقة ، والرابط تكرار المبتدأ بلفظه نحو : زيد ما زيد ،

٣

وما أدراك ما . . . . .

وما استفهام لا يراد حقيقته بل التعظيم ، وأكثر ما يربط بتكرار المبتدأ إذا أريد ، يعني التعظيم والتهويل . { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ } : مبالغة في التهويل ، والمعنى أن فيها ما لم يدر ولم يحط به وصف من أمورها الشاقة وتفصيل أوصافها . وما استفهام أيضاً مبتدأ ، { وأدراك } الخبر ، والعائد على ما ضمير الرفع في { وَمَا أَدْرَاكَ } ، وما مبتدأ ، والحاقة خبر ، والجملة في موضع نصب بأدراك ، وأدراك معلقة . وأصل درى أن يعدى بالباء ، وقد تحذف على قلة ، فإذا دخلت همزة النقل تعدى إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر ، فقوله :{ مَا الْحَاقَّةُ } بعد أدراك في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر .

والقارعة من أسماء القيامة ، لأنها تقرع القلوب بصدمتها .

وقال الزمخشري : تقرع الناس بالأقراع والأهوال ، والسماء بالانشقاق والانفطار ، والأرض والجبال بالدك والنسف ، والنجوم بالطمس والانكدار ؛ فوضع الضمير ليدل على معنى القرع في الحاقة زيادة في وصف شدّتها .

٤

كذبت ثمود وعاد . . . . .

ولما ذكرها وفخمها ، أتبع ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب ، تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم . انتهى .

٥

انظر تفسير الآية:٦

٦

فأما ثمود فأهلكوا . . . . .

وقرأ الجمهور : { فَأُهْلِكُواْ } : رباعياً مبنياً للمفعول ؛ وزيد بن عليّ : فهلكوا مبنياً للفاعل . قال قتادة : بالطاغية : بالصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة . وقال مجاهد وابن زيد : بسبب الفعلة الطاغية التي فعلوها .

وقال ابن عباس وابن زيد أيضاً وأبو عبيدة ما معناه : الطاغية مصدر كالعاقبة ، فكأنه قال : بطغيانهم ، ويدل عليه

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا}

وقيل : الطاغية : عاقر الناقة ، والهاء فيه للمبالغة ، كرجل راوية ، وأهلكوا كلهم لرضاهم بفعله .

وقيل : بسبب الفئة الطاغية . واختار الطبري وغيره أن الطاغية هي الصيحة ، وترجيح ذلك مقابله سبب الهلاك في ثمود بسبب الهلاك في عاد ، وهو قوله :{ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ } ، وتقدّم القول في { صَرْصَرٍ } في سورة القمر ، { عَاتِيَةٍ } : عتت على خزانها فخرجت بغير مقدار ، أو على عاد فما قدروا على أن يتستروا منها ، أو وصفت بذلك استعارة لشدّة عصفها ،

٧

سخرها عليهم سبع . . . . .

والتسخير هو استعمال الشيء باقتدار عليه . فمعنى { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ } : أي أقامها وأدامها ، { سَبْعَ لَيَالٍ } : بدت عليهم صبح الأربعاء لثمان بقين من شوّال إلى آخر الأربعاء تمام الشهر ، { حُسُوماً } ، قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وأبو عبيدة : تباعاً لم يتخللّها انقطاع . وقال الخليل : شؤماً ونحساً . وقال ابن زيد :{ حُسُوماً } جمع حاسم ، أي تلك الأيام قطعتهم بالإهلاك ، ومنه حسم العلل والحسام .

وقال الزمخشري : وإن كان مصدراً ، فإما أن ينتصب بفعل مضمر ، أي تحسم حسوماً بمعنى تستأصل استئصالاً ، أو تكون صفة ، كقولك : ذات حسوم ، أو تكون مفعولاً له ، أي سخرها عليهم للاستئصال .

وقرأ السدّي : حسوماً بالفتح : حالاً من الريح ، أي سخرها عليهم مستأصلة .

وقيل : هي أيام العجز ، وهي آخر الشتاء . وأسماؤها : الصين والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومصفى الجمر .

وقيل : مكفى الطعن .

{فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا } : أي في الليالي والأيام ، أو في ديارهم ، أو في مهاب الريح ؛ احتمالات أظهرها الأول لأنه أقرب ومصرح به .

وقرأ أبو نهيك : أعجز ، على وزن أفعل ، كضبع وأضبع .

وحكى الأخفش أنه قرىء : نخيل خاوية خلت أعجازها بلى وفساداً . وقال ابن شجرة : كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحسو من أدبارهم ، فصاروا كالنخل الخاوية . وقال يحيى بن سلام : خلت أبدانهم من أرواحهم . وقال ابن جريج : كانوا في سبعة أيام في عذاب ، ثم في الثامن ماتوا وألقتهم الريح في البحر ،

٨

فهل ترى لهم . . . . .

فذلك قوله : { فَهَلْ تَرَى لَهُم مّن بَاقِيَةٍ} وقال ابن الأنباري :{ مّن بَاقِيَةٍ } : أي من باق ، والهاء للمبالغة . وقال أيضاً : من فئة باقية .

وقيل :{ مّن بَاقِيَةٍ } : من بقاء مصدر جاء على فاعلة كالعاقبة .

وقرأ أبو رجاء وطلحة والجحدري والحسن بخلاف عنه ؛

٩

وجاء فرعون ومن . . . . .

وعاصم في رواية أبان ، والنحويان : ومن قبله ، بكسر القاف وفتح الباء : أي أجناده وأهل طاعته ، وتقول : زيد قبلك : أي فيما يليك من المكان . وكثر استعمال قبلك حتى صار بمنزلة عندك وفي جهتك وما يليك بأي وجه ولي .

وقرأ باقي السبعة وأبو جعفر وشيبة والسلمي : { وَمِن قَبْلِهِ } ، ظرف زمان : أي الأمم الكافرة التي كانت قبله ، كقوم نوح ، وقد أشار إلى شيء من حديثه بعد هذا .{ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ } : قرى قوم لوط .

وقرأ الحسن هنا : والمؤتفكة على الإفراد ، { بِالْخَاطِئَةِ } : أي بالفعلة أو الفعلات الخاطئة ، قاله مجاهد ؛ أو بالخطأ ، فيكون مصدراً جاء على فاعلة كالعاقبة ، قاله الجرجاني .

١٠

فعصوا رسول ربهم . . . . .

{فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبّهِمْ } : رسول جنس ، وهو من جاءهم من عند اللّه تعالى ، كموسى ولوط عليهما السلام .

وقيل : لوط عليه السلام ، أعاده على أقرب مذكور ، وهو رسول المؤتفكات . وقال الكلبي : موسى عليه السلام ، أعاده على الأسبق وهو رسول فرعون .

وقيل : رسول بمعنى رسالة ، { رَّابِيَةً } : أي نامية . قال مجاهد : شديدة ، يريد أنها زادت على غيرها من الأخذات ، وهي الغرق وقلب المدائن .

١١

إنا لما طغى . . . . .

{أنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء } : أي زاد وعلا على أعلى جبل في الدنيا خمس عشرة ذراعاً . قال ابن جبير : طغى على الخزان ، كما طغت الريح على خزانها ، { حَمَلْنَاكُمْ } : أي في أصلاب آبائكم ، { فِى الْجَارِيَةِ } : هي سفينة نوح عليه السلام ، وكثر استعمال الجارية في السفينة ، ومنه قوله تعالى :{ وَمِنْ ءايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ } ، وقال الشاعر :

تسعون جارية في بطن جارية

وقال المهدوي : المعنى في السفن الجارية يعني أن ذلك هو على سبيل الامتنان ، والمحمولون هم المخاطبون .

١٢

لنجعلها لكم تذكرة . . . . .

{لِنَجْعَلَهَا } : أي سفينة نوح عليه السلام ، { لَكُمْ تَذْكِرَةً } بما جرى لقومه الهالكين وقومه الناجين فيها وعظة . قال قتادة : أدركها أوائل هذه الأمة . وقال ابن جريج : كانت ألواحها على الجودي .

وقيل : لنجعل تلك الجملة في سفينة نوح عليه السلام لكم موعظة تذكرون بها نجاة آبائكم وإغراق مكذبي نوح عليه السلام ، { وَتَعِيَهَا } : أي تحفظ قصتها ، { أَذِنَ } من شأنها أن تعي المواعظ ، يقال : وعيت لما حفظ في النفس ، وأوعيت لما حفظ في غير النفس من الأوعية . وقال قتادة : الواعية هي التي عقلت عن اللّه وانتفعت بما سمعت من كتاب اللّه ؛ وفي الحديث ، أنه صلى اللّه عليه وسلم قال لعلي : { إني دعوت اللّه تعالى أن يجعلها أذنك يا علي} . قال علي رضي اللّه تعالى عنه : فما سمعت بعد ذلك شيئاً فنسيته ، وقرأها : وتعيها ، بكسر العين وتخفيف الياء العامة ؛ وابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة عنه ؛ وقنبل بخلاف عنه : بإسكانها ؛ وحمزة : بإخفاء الحركة ، ووجه الإسكان التشبيه في الفعل بما كان على وزن فعل في الاسم والفعل . نحو : كبد وعلم . وتعي ليس على وزن فعل ، بل هو مضارع وعي ، فصار إلى فعل وأصله حذفت واوه . وروي عن عاصم عصمة وحمزة الأزرق : وتعيها بتشديد الياء ، قيل : وهو خطأ وينبغي أن يتأول على أنه أريد به شدة بيان الياء إحترازاً ممن سكنها ، لا إدغام حرف في حرف ، ولا ينبغي أن يجعل ذلك من باب التضعيف في الوقف ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، وإن كان قد ذهب إلى ذلك بعضهم . وروي عن حمزة وعن موسى بن عبد اللّه العنسي : وتعيها بإسكان الياء ، فاحتمل الاستئناف وهو الظاهر ، واحتمل أن يكون مثل قراءة من أوسط ما تطعمون أهاليكم بسكون الياء .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : لم قيل { أُذُنٌ واعِيَةٌ } على التوحيد والتنكير ؟

قلت : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم ، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن اللّه تعالى فهي السواد الأعظم عند اللّه تعالى ، وأن ما سواها لا يبالي بالة وإن ملأوا ما بين الخافقين . انتهى ، وفيه تكثير .

١٣

فإذا نفخ في . . . . .

ولما ذكر تعالى ما فعل بمكذبي الرسل من العذاب في الدنيا ، ذكر أمر الآخرة وما يعرض فيها لأهل السعادة وأهل الشقاوة ، وبدأ بإعلام يوم القيامة فقال : { فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ } ، وهذه النفخة نفخة الفزع . قال ابن عباس : وهي النفخة الأولى التي حصل عنها خراب العالم ، ويؤيد ذلك قوله :{ وَحُمِلَتِ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ} وقال ابن المسيب ومقاتل : هي النفخة الآخرة ، وعلى هذا لا يكون الدك بعد النفخ ، والواو لا ترتب . وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً ، ولما كانت مرة أكدت بقوله :{ واحِدَةٌ}

وقرأ الجمهور : نفخة واحدة ، برفعهما ، ولم تلحق التاء نفخ ، لأن تأنيث النفخة مجازى ووقع الفصل . و

قال ابن عطية : لما نعت صح رفعه . انتهى . ولو لم ينعت لصح ، لأن نفخة مصدر محدود ونعته ليس بنعت تخصيص ، إنما هو نعت توكيد .

وقرأ أبو السمال : بنصبهما ، أقام الجار والمجرور مقام الفاعل .

١٤

وحملت الأرض والجبال . . . . .

وقرأ الجمهور : { وَحُمِلَتِ } بتخفيف الميم ؛ وابن أبي عبلة وابن مقسم والأعمش وابن عامر في رواية يحيى : بتشديدها ، فالتخفيف على أن تكون { الاْرْضُ وَالْجِبَالُ } حملتها الريح العاصف أو الملائكة أو القدرة من غير واسطة مخلوق . ويبعد قوله من قال : إنها الزلزلة ، لأن الزلزلة ليس فيها حمل ، إنما هي اضطراب . والتشديد على أن تكون للتكثير ، أو يكون التضعيف للنقل ، فجاز أن تكون { الاْرْضُ وَالْجِبَالُ } المفعول الأول أقيم مقام الفاعل ، والثاني محذوف ، أي ريحاً تفتتها أو ملائكة أو قدرة . وجاز أن يكون الثاني أقيم مقام الفاعل ، والأول محذوف ، وهو واحد من الثلاثة المقدرة . وثني الضمير في { فَدُكَّتَا } ، وإن كان قد تقدمه ما يعود عليه ضمير الجمع ، لأن المراد جملة الأرض وجملة الجبال ، أي ضرب بعضها ببعض حتى تفتتت ، وترجع كما

قال تعالى :{ كَثِيباً مَّهِيلاً} والدك فيه تفرق الأجزاء لقوله :{ هَبَاء } ، والدق فيه اختلاف الأجزاء .

وقيل : تبسط فتصير أرضاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، وهو من قولهم : بعير أدك وناقة دكاء إذا ضعفا ، فلم يرتفع سنامهما واستوت عراجينهما مع ظهريهما .

١٥

فيومئذ وقعت الواقعة

{فَيَوْمَئِذٍ } معطوف على { فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ } ، وهو منصوب بوقعت ، كما أن إذا منصوب بنفخ على ما اخترناه وقررناه واستدللنا له في أن العامل في إذا هو الفعل الذي يليهما لا الجواب ، وإن كان مخالفا

لقول الجمهور . والتنوين في إذ للعوض من الجملة المحذوفة ، وهي في التقدير : فيوم إذ نفخ في الصور وجرى كيت وكيت ، والواقعة هي القيامة ، وقد تقدم في { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } أن بعضهم قال : هي صخرة بيت المقدس .

١٦

وانشقت السماء فهي . . . . .

{وَانشَقَّتِ السَّمَاء } : أي انفطرت وتميز بعضها من بعض ، { فَهِىَ يَوْمَئِذٍ إِذْ } انشقت ، { وَاهِيَةٌ } : ضعيفة لتشققها بعد أن كانت شديدة ، { أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا } ،أو منخرقة ، كما يقال : وهي السقاء انخرق .

وقيل انشقاقها لنزول الملائكة ،

قال تعالى :{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً}

وقيل : انشقاقها لهول يوم القيامة .

١٧

والملك على أرجائها . . . . .

{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا } ، قال ابن عباس : على حافاتها حين تنشق ، والظاهر أن الضمير في حافاتها عائد على السماء . وقال ابن جبير والضحاك : على حافات الأرض ، ينزلون إليها يحفظون أطرافها ، وإن لم يجر لها ذكر قريب . كما روي أن اللّه تعالى يأمر ملائكة سماء الدنيا فيقفون صفاً على حافات الأرض ، ثم ملائكة الثانية فيصفون حولهم ، ثم ملائكة كل سماء ، فكلما ندّ أحد من الجن والإنس وجد الأرض أحيط بها .{ وَالْمَلَكُ } : اسم جنس يراد به الملائكة .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : ما الفرق بين قولك :{ وَالْمَلَكُ } ، وبين أن يقال : والملائكة ؟

قلت : الملك أعم من الملائكة . ألا ترى أن قولك : ما من ملك إلا وهو شاهد ، أعم من قولك : ما من ملائكة ؟ انتهى . ولا يظهر أن الملك أعم من الملائكة ، لأن المفرد المحلى بالألف واللام الجنسية قصاراه أن يراد به الجمع المحلى بهما ، ولذلك صح الاستثناء منه ، فقصاراه أن يكون كالجمع المحلى بهما .

وأما دعواه أنه أعم منه بقوله : ألا ترى الخ ، فليس دليلاً على دعواه ، لأن من ملك نكرة مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها من المخلصة للاستغراق ، فشملت كل ملك فاندرج تحتها الجمع لوجود الفرد فيه فانتفى كل فرد فرد ، بخلاف من ملائكة ، فإن من دخلت على جمع منكر ، فعم كل جمع جمع من الملائكة ، ولا يلزم من ذلك انتفاء كل فرد فرد من الملائكة . لو

قلت : ما في الدار من رجال ، جاز أن يكون فيها واحد ، لأن النفي إنما انسحب على جمع ، ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفرد .

والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه من فيكون أعم من جمع دخلت عليه من ، وإنما جيء به مفرداً لأنه أخف ، ولأن قوله :{ عَلَى أَرْجَائِهَا } يدل على الجمع ، لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكون على أرجائها في وقت واحد ، بل في أوقات . والمراد ، واللّه تعالى أعلم ، أن الملائكة على أرجائها ، لا أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات .

وقال الزمخشري : يعني أنها تنشق ، وهي مسكن الملائكة ، فينضوون إلى أطرافها وما حولها من حافاتها . انتهى . والضمير في فوقهم عائد على الملك ضمير جمع على المعنى ، لأنه يراد به الجنس ، قال معناه الزمخشري .

وقيل : يعود على الملائكة الحاملين ، أي فوق رؤوسهم .

وقيل : على العالم كلهم . والظاهر أن التمييز المحذوف في قوله :{ ثَمَانِيَةٌ } أملاك ، أي ثمانية أشخاص من الملائكة ؛ وعن الضحاك : ثمانية صفوف ؛ وعن الحسن ، اللّه أعلم كم هم ، أثمانية صفوف أم ثمانية أشخاص ؟ وذكروا في صفات هؤلاء الثمانية أشكالاً متكاذبة ضربنا عن ذكرها صفحاً .

١٨

يومئذ تعرضون لا . . . . .

{يَوْمَئِذٍ } : أي يوم إذٍ كان ما ذكر ، { تُعْرَضُونَ } : أي للحساب ، وتعرضون هو جواب قوله :{ فَإِذَا نُفِخَ} فإن كانت النفخة هي الأولى ، فجاز ذلك لأنه اتسع في اليوم فجعل ظرفاً للنفخ ووقوع الواقعة وجميع الكائنات بعدها ؛ وإن كانت النفخة هي الثانية ، فلا يحتاج إلى اتساع لأن قوله :{ فَيَوْمَئِذٍ } معطوف على فإذا ، و { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } بدل من { فَيَوْمَئِذٍ } ، وما بعد هذه الظروف واقع في يوم القيامة . والخطاب في { تُعْرَضُونَ } لجميع العالم المحاسبين . وعن عبد اللّه : رأى موسى في القيامة عرضتان فيهما معاذير وتوقيف وخصومات ، وثالثة تتطاير فيها الصحف للإيمان والشمائل .

وقرأ الجمهور :{ لاَ تَخْفَى } بتاء التأنيث ؛ وعلي وابن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وابن مقسم عن عاصم وابن سعدان : بالياء ، { خَافِيَةٌ } : سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا .

١٩

فأما من أوتي . . . . .

أما : حرف تفصيل فصل بها ما وقع في يوم العرض . ويظهر أن من قضى عليه دخول النار من الموحدين ، أنه في يوم العرض يأخذ كتابه بيمينه مع الناجين من النار ، ويكون ذلك يأنس به مدة العذاب .

وقيل : لا يأخذه حتى يخرج من النار ، وإيمانه أنيسه مدة العذاب . قيل : وهذا يظهر لأن من يسار به إلى النار كيف يقول : { هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ } ؟ وهل هذا إلا استبشار وسرور ؟ فلا يناسب دخول النار . وهاؤم إن كان مدلولها خذ ، فهي متسلطة على كتابيه بغير واسطة ، وإن كان مدلولها تعالوا ، فهي متعدية إليه بواسطة إلى ، وكتابيه يطلبه هاؤم واقرؤا . فالبصريون يعملون اقرؤا ، والكوفيون يعملون هاؤم ، وفي ذلك دليل على جواز التنازع بين اسم الفعل والقسم .

وقرأ الجمهور :{ كِتَابيَهْ } ، و { حِسَابِيَهْ } في موضعيهما و { مَالِيَهْ } و { سُلْطَانِيَهْ } ، وفي القارعة :{ ماهيه } بإثبات هاء السكت وقفاً ووصلاً لمراعاة خط المصحف .

وقرأ ابن محيصن : بحذفها وصلاً ووقفاً وإسكان الياء ، وذلك كتابي وحسابي ومالي وسلطاني ، ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه في { ماهيه } في القارعة ؛ وابن أبي إسحاق والأعمش : بطرح الهاء فيهما في الوصل لا في الوقف ، وطرحهما حمزة في مالي وسلطاني وما هي في الوصل لا في الوقف ، وفتح الياء فيهن . وما قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علمته ليس كما قال ، بل ذلك منقول نقل التواتر فوجب قبوله .

٢٠

إني ظننت أني . . . . .

{إِنّى ظَنَنتُ } : أي أيقنت ، ولو كان ظناً فيه تجويز لكان كفراً .

٢١

فهو في عيشة . . . . .

{فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } : ذات رضا . وقال أبو عبيدة والفراء : راضية مرضية كقوله :{ مِن مَّاء دَافِقٍ } ،أي مدفوق .

٢٢

في جنة عالية

{فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } : أي مكاناً وقدراً .

٢٣

قطوفها دانية

{قُطُوفُهَا } : أي ما يجني منها ، { دَانِيَةٌ } : أي قريبة التناول يدركها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها .

٢٤

كلوا واشربوا هنيئا . . . . .

{كُلُواْ وَاشْرَبُواْ } : أي يقال ، و { هَنِيئَاً } ، تقدم الكلام عليه في أول النساء .

وقال الزمخشري : هنيئاً أكلاً وشرباً هنيئاً ، أو هنيتم هنيئاً على المصدر . انتهى فقوله : أكلاً وشرباً هنيئاً يظهر منه جعل هنيئاً صفة لمصدرين ، ولا يجوز ذلك إلا على تقدير الإضمار عند من يجيز ذلك ، أي أكلاً هنيئاً وشرباً هنيئاً .{ بِمَا أَسْلَفْتُمْ } : أي قدمتم من العمل الصالح ، { فِى الاْيَّامِ الْخَالِيَةِ } : يعني أيام الدنيا . وقال مجاهد وابن جبير ووكيع وعبد العزيز بن رفيع : أيام الصوم ، أي بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه اللّه تعالى . والظاهر العموم في قوله :{ بِمَا أَسْلَفْتُمْ } : أي من الأعمال الصالحة .

٢٥

انظر تفسير الآية:٢٦

٢٦

وأما من أوتي . . . . .

{يالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ } : لما رأى فيه قبائح أفعاله وما يصير أمره إليه ، تمنى أنه لم يعطه ، وتمنى أنه لم يدر حسابه ، فإنه انجلى عنه حسابه عن ما يسوءه فيه ، إذ كان عليه لا له .

٢٧

يا ليتها كانت . . . . .

{يا ليتها } : أي الموتة التي متها في الدنيا ، { حِسَابِيَهْ يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ } : أي القاطعة لأمري ، فلم أبعث ولم أعذب ؛ أو يا ليت الحالة التي انتهيت إليها الآن كانت الموتة التي منها في الدنيا ، حيث رأى أن حالته التي هو فيها أمر مما ذاقه من الموتة ، وكيف لا وأمره آل إلى عذاب لا ينقطع ؟

٢٨

ما أغنى عني . . . . .

{مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ } : يجوز أمن يكون نفياً محضاً ، أخبر بذلك متأسفاً على ماله حيث لم ينفعه ؛ ويجوز أن يكون استفهاماً وبخ به نفسه وقررها عليه .

٢٩

هلك عني سلطانيه

{هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ } : أي حجتي ، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعكرمة والسدي . وقال ابن زيد : يقول ذلك ملوك الدنيا . وكان عضد الدولة ابن نوية لما تسمى بملك الأملاك غلاب القدر لم يفلح وجن ، فكان لا ينطلق لسانه إلا بقوله :{ هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ}

٣٠

خذوه فغلوه

{خُذُوهُ } : أي يقال للزبانية { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } : أي اجعلوا في عنقه غلاًّ ،

٣١

ثم الجحيم صلوه

{ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ } ،

قال الزمخشري : ثم لا تصلوه إلا الجحيم ، وهي النار العظمى ، لأنه كان سلطاناً يتعظم على الناس . يقال : صلى النار وصلاه النار . انتهى ، وإنما قدره لا تصلوه إلا الجحيم ، لأنه يزعم أن تقديم المفعول يدل على الحصر . وقد تكلمنا معه في ذلك عند قوله :{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، وليس ما قاله مذهباً لسيبويه ولا لحذاق النحاة .

وأما قوله : لأنه كان سلطاناً يتعظم على الناس ، فهذا قول ابن زيد وهو مرجوح ، والراجح قول ابن عباس ومن ذكر معه : أن السلطان هنا هو الحجة التي كان يحتج بها في الدنيا ، لأن من أوتي كتابه بشماله ليس مختصاً بالملوك ، بل هو عام في جميع أهل الشقاوة .

٣٢

ثم في سلسلة . . . . .

{ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا } : أي قياسها ومقدار طولها ، { سَبْعُونَ ذِرَاعاً } : يجوز أن يراد ظاهره من العدد ، ويجوز أن يراد المبالغة في طولها

وإن لم يبلغ هذا العدد . قال ابن عباس وابن جريج ومحمد بن المنكدر : بذراع الملك . وقال نوف البكالي وغيره : الذراع سبعون باعاً ، في كل باع كما بين مكة والكوفة ، وهذا يحتاج إلى نقل صحيح . وقال الحسن : اللّه أعلم بأي ذراع هي .

وقيل : بالذراع المعروف ، وإنما خاطبنا تعالى بما نعرفه ونحصله .

وقال ابن عباس : لو وضع منها حلقة على جبل لذاب كالرصاص . { فَاْسْلُكُوهُ } : أي ادخلوه ، كقوله :{ فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ } ، والظاهر أنه يدخله في السلسلة ، ولطولها تلتوي عليه من جميع جهاته فيبقى داخلاً فيها مضغوطاً حتى تعمه .

وقيل : في الكلام قلب ، والسلسلة تدخل في فمه وتخرج من دبره ، فهي في الحقيقة التي تسلك فيه ، ولا ضرورة تدعو إلى إخراج الكلام عن ظاهره ، إلا إن دل الدليل الصحيح على خلافه .

وقال الزمخشري : والمعنى في تقديم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية ، أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة ، كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم . ومعنى ثم : الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية بالجحيم ، وما بينها وبين السلك في السلسلة ، لا على تراخي المدة . انتهى . وقد تقدم أن من مذهبه الحصر في تقديم المعمول ،

وأما ثم فيمكن بقاؤها على موضوعها من المهلة الزمانية ، وأنه أولاً يؤخذ فيغل . ولما لم يعذب بالعجلة ، صارت له استراحة ، ثم جاء تصلية الجحيم ، فكان ذلك أبلغ في عذابه ، إذ جاءه ذلك وقد سكنت نفسه قليلاً ، ثم جاء سلكه بعد ذلك بعد كونه مغلولاً معذباً في النار ، لكنه كان له انتقال من مكان إلى مكان ، فيجد بذلك بعض تنفس . فلما سلك في السلسلة كان ذلك أشد ما عليه من العذاب ، حيث صار لا حراك له ولا انتقال ، وأنه يضيق عليه غاية ، فهذا يصح فيه أن تكون ثم على موضوعها من المهلة الزمانية .

٣٣

إنه كان لا . . . . .

{أنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ } : بدأ بأقوى أسباب تعذيبه وهو كفره باللّه ، وإنه تعليل مستأنف ، كأن قائلاً قال : لم يعذب هذا العذاب البليغ .

وقيل :{ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ } ،

٣٤

ولا يحض على . . . . .

وعطف { وَلاَ يَحُضُّ } على { لاَ يُؤْمِنُ } داخل في العلة ، وذلك يدل على عظم ذنب من لا يحض على إطعام المسكين ، إذ جعل قرين الكفر ، وهذا حكم ترك الحض ، فكيف يكون ترك الإطعام ؟ والتقدير على إطعام طعام المسكين . وأضاف الطعام إلى المسكين من حيث لم ينسبه إليه ، إذ يستحق المسكين حقاً في مال الغني الموسر ولو بأدنى يسار ؛ وللعرب في مكارمهم وإيثارهم آثار عجيبة غريبة بحيث لا توجد في غيرهم ، وما أحسن ما قيل فيهم : على مكثريهم رزق من يعتريهم

وعند المقلين السماحة والبذل

وكان أبو الدرداء يحض امرأته على تكثير الرزق لأجل المساكين ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان ، أفلا نخلع نصفها الآخر ؟

وقيل : هو منع الكفار . وقولهم :{ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللّه أَطْعَمَهُ } ، يعني أنه إذا نفي الحض انتفى الإطعام بجهة الأولى ، كما صرح به في قوله تعالى :{ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}

٣٥

فليس له اليوم . . . . .

{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ } : أي صديق ملاطف وادّ ، { الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}

وقيل : قريب يدفع عنه .

٣٦

ولا طعام إلا . . . . .

{وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } ، قال ابن عباس : هو صديد أهل النار . وقال قتادة وابن زيد : هو والزقوم أخبث شيء وأبشعه . وقال الضحاك والربيع : هو شجر يأكله أهل النار .

وقيل : هو شيء يجري من أهل النار ، يدل على هذا قوله في الغاشية :{ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } ، فهما شيء واحد أو متداخلان . قيل : ويجوز أن يكونا متباينين ، وأخبر بكل واحد منهما عن طائفة غير الطائفة التي الآخر طعامها ، وله خبر ليس . وقال المهدوي : ولا يصح أن يكون هاهنا ، ولم يبين ما المانع من ذلك . وتبعه القرطبي في ذلك وقال : لأن المعنى يصير ليس هاهنا طعام إلا من غسلين ، ولا يصح ذلك لأن ثم طعاماً غيره ، وهاهنا متعلق بما في له من معنى الفعل . انتهى . وإذا كان ثم غيره من الطعام ، وكان الأكل غير أكل آخر ، صح الحصر بالنسبة إلى اختلاف الأكلين .

وأما إن كان الضريع هو الغسلين ، كما قال بعضهم ، فلا تناقض ، إذ المحصور في الآيتين هو شيء واحد ، وإنما يمتنع ذلك من وجه غير ما ذكره ، وهو أنه إذا جعلنا الخبر هاهنا ، كان له واليوم متعلقين بما تعلق به الخبر ، وهو العامل في ههنا ، وهو عامل معنوي ، فلا يتقدم معموله عليه . فلو كان

العامل لفظياً جاز ، كقوله تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } ، فله متعلق بكفواً وهو خبر ليكن .

٣٧

لا يأكله إلا . . . . .

وقرأ الجمهور : { الْخَاطِئُونَ } ، اسم فاعل من خطىء ، وهو الذي يفعل ضد الصواب متعمداً لذلك ، والمخطىء الذي يفعله غير متعمد .

وقرأ الحسن والزهري والعتكي وطلحة في نقل : بياء مضمومة بدلاً من الهمزة .

وقرأ أبو جعفر وشيبة وطلحة ونافع : بخلاف عنه ، بضم الطاء دون همز ، فالظاهر اسم فاعل من خطىء كقراءة من همز .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد : الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود اللّه . انتهى . فيكون اسم فاعل من خطا يخطو ، كقوله تعالى :{ طَيّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ } ،{ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ } خطا إلى المعاصي .

٣٨

انظر تفسير الآية:٣٩

٣٩

فلا أقسم بما . . . . .

تقدم الكلام في لا قبل القسم في قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ } ، وقراءة الحسن : لأقسم بجعلها لا ما دخلت على أقسم .

وقيل : لا هنا نفي للقسم ، أي لا يحتاج في هذا إلى قسم لوضوح الحق في ذلك ، وعلى هذا فجوابه جواب القسم . قال مقاتل : سبب ذلك أن الوليد قال : إن محمداً ساحر ، وقال أبو جهل : شاعر ، وقال : كاهن . فردّ اللّه عليهم بقوله :{ فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } ، عام في جميع مخلوقاته . وقال عطاء : ما تبصرون من آثار القدرة ، وما لا تبصرون من أسرار القدرة .

وقيل :{ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } : الملائكة .

وقيل : الأجساد والأرواح .

٤٠

إنه لقول رسول . . . . .

{إنَّهُ } : أي إن القرآن ، { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } : هو محمد صلى اللّه عليه وسلم في قول الأكثرين ،

٤١

انظر تفسير الآية:٤٢

٤٢

وما هو بقول . . . . .

ويؤيده : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } وما بعده ، ونسب القول إليه لأنه هو مبلغه والعامل به . وقال ابن السائب ومقاتل وابن قتيبة : هو جبريل عليه السلام ، إذ هو الرسول عن اللّه .

ونفى تعالى أن يكون قول شاعر لمباينته لضروب الشعر ؛ ولا قول كاهن لأنه ورد بسبب الشياطين . وانتصب { قَلِيلاً } على أنه صفة لمصدر محذوف أو لزمان محذوف ، أي تؤمنون إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً . وكذا التقدير في :{ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } ، والقلة هو إقرارهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا اللّه . و

قال ابن عطية : ونصب { قَلِيلاً } بفعل مضمر يدل عليه { تُؤْمِنُونَ } ، وما تحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة . ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، والمتصف بالقلة هو الإيمان اللغوي ، لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئاً ، إذ كانوا يصدقون أن الخير والصلة والعفاف الذي كان يأمر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو حق صواب . انتهى . أمّا قوله : ونصب قليلاً بفعل مضمر يدل عليه تؤمنون فلا يصح ، لأن ذلك الفعل الدال عليه { تُؤْمِنُونَ } إما أن تكون ما نافية أو مصدرية ، كما ذهب إليه . فإن كانت نافية ، فذلك الفعل المضمر الدال عليه تؤمنون المنفي بما يكون منفياً ، فيكون التقدير : ما تؤمنون قليلاً ما تؤمنون ، والفعل المنفي بما لا يجوز حذفه ولا حذف ما لا يجوز زيداً ما أضربه ، على تقدير ما أضرب زيداً ما أضربه ، وإن كانت مصدرية كانت ما في موضع رفع على الفاعلية بقليلاً ، أي قليلاً إيمانكم ، ويبقى قلى لاً لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له ؛

وإما في موضع رفع على الابتداء ، فيكون مبتدأ لا خبر له ، لأن ما قبله منصوب لا مرفوع .

وقال الزمخشري : والقلة في معنى العدم ، أي لا تؤمنون ولا تذكرون البتة ، والمعنى : ما أكفركم وما أغفلكم . انتهى . ولا يراد بقليلاً هنا النفي المحض ، كما زعم ، وذلك لا يكون إلا في أقل نحو : أقل رجل يقول ذلك إلا زيد ، وفي قل نحو : قلّ رجل يقول ذلك إلا زيد . وقد تستعمل في قليل وقليلة إذا كانا مرفوعين ، نحو ما جوزوا في قوله :

قليل بها الأصوات إلا بغاتها

أما إذا كان منصوباً نحو : قليلا ضربت ، أو قليلاً ما ضربت ، على أن تكون ما مصدرية ، فإن ذلك لا يجور ، لأنه في : قليلاً ضربت منصوب بضربت ، ولم تستعمل العرب قليلاً إذا انتصب بالفعل نفياً ، بل مقابلاً لكثير .

وأمّا في قليلاً ما ضربت على أن تكون ما مصدرية ، فتحتاج إلى رفع قليل ، لأن ما المصدرية في موضع رفع على الابتداء .

وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بخلاف عنهما ؛ والجحدري والحسن : يؤمنون ، يذكرون : بالياء فيهما ؛ وباقي السبعة : بتاء الخطاب ؛ وأبيّ : بياءين .

٤٣

تنزيل من رب . . . . .

وقرأ الجمهور : { تَنزِيلَ } بالرفع ؛ وأبو السمال : تنزيلاً بالنصب .

وقرأ الجمهور :{ وَلَوْ تَقَوَّلَ } ، والتقول أن يقول الإنسان عن آخر إنه قال شيئاً لو يقله .

وقرأ ذكوان وابنه محمد : يقول مضارع قال ، وهذه القراءة معترضة بما صرحت به قراءة الجمهور .

٤٤

ولو تقول علينا . . . . .

وقرىء : ولو تقول مبنياً للمفعول ، وحذف الفاعل وقام المفعول مقامه ، وهو بعض ، إن كان قرىء مرفوعاً ؛ وإن كان قرىء منصوباً بعلينا قام مقام الفاعل ، والمعنى : ولو تقول علينا متقول . ولا يكون الضمير في تقول عائد على الرسول صلى اللّه عليه وسلم لاستحالة وقوع ذلك منه ، فنحن نمنع أن يكون ذلك على سبيل الفرض في حقه عليه الصلاة والسلام . والأقاويل جمع الجمع ، وهو أقوال كبيت وأبيات ،

قال الزمخشري : وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً ، كقولك : الأعاجيب والأضاحيك ، كأنها جمع أفعولة من القول .

٤٥

لأخذنا منه باليمين

والظاهر أن قوله : { بِالْيَمِينِ } المراد به الجارحة . فقال الحسن : المعنى قطعناه عبرة ونكالاً ، والباء على هذا زائدة .

وقيل : الأخذ على ظاهرة .

قال الزمخشري : والمعنى : ولو ادعى مدع علينا شيئاً لم نقله لقتلناه صبراً ، كما تفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام ، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول ، وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته ، وخص اليمين على اليسار لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يلحفه بالسيف ، وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف ، أخذ بيمينه .

ومعنى { لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } : لأخذنا بيمينه ،

٤٦

ثم لقطعنا منه . . . . .

كما أن قوله تعالى { لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } : لقطعنا وتينة . انتهى ، وهو قول للمتقدّمين حسنه الزمخشري بتكثير ألفاظه ومصاغها قالوا : المعنى لأخذنا بيده التي هي اليمين على جهة الإذلال والصغار ، كما يقول السلطان إذا أراد عقوبة رجل : يا غلام خذ بيده وافعل كذا ، قاله أو قريباً منه الطبري .

وقيل : اليمين هنا مجاز . فقال ابن عباس : باليمين : بالقوّة ، معناه لنلنا منه عقابه بقوّة منا . وقال مجاهد : بالقدرة . وقال السدّي : عاقبناه بالحق ومن على هذا صلة . وقال نفطويه : لقبضنا بيمينه عن التصرّف .

وقيل : لنزعنا منه قوّته .

وقيل : لأذللناه وأعجزناه .

{ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } ، قال ابن عباس : وهو نياط القلب . وقال مجاهد : حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع . والموتون الذي قطع وتينه ، والمعنى : لو تقول علينا لأذهبنا حياته معجلاً ،

٤٧

فما منكم من . . . . .

والضمير في عنه الظاهر أنه يعود على الذي تقول ، ويجوز أن يعود على القتل ، أي لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه ، والخطاب في منكم للناس ، والظاهر في { حَاجِزِينَ } أن يكون خبراً لما على لغة الحجاز ، لأن حاجزين هو محط الفائدة ، ويكون منكم لو تأخر لكان صفة لأحد ، فلما تقدّم صار حالاً ، وفي جواز هذا نظر . أو يكون للبيان ، أو تتعلق بحاجزين ، كما تقول : ما فيك زيد راغباً ، ولا يمنع هذا الفصل من انتصاب خبر ما . وقال الحوفي والزمخشري : حاجزين نعت لأحد على اللفظ ، وجمع على المعنى لأنه في معنى الجماعة يقع في النفي العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، ومنه :{ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } ، وقوله :{ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء } ، مثل بهما الزمخشري ، وقد تكلمنا على ذينك في موضعيهما . وفي الحديث : { لم تحل لأحد سود الرؤوس قبلكم} . وإذا كان حاجزين نعتاً فمن أحد مبتدأ والخبر منكم ، ويضعف هذا القول ، لأن النفي يتسلط على الخبر وهو كينونته منكم ، فلا يتسلط على الحجز . وإذا كان حاجزين خبراً . تسلط النفي على ه وصار المعنى : ما أحد منكم يحجزه عن ما يريد به من ذلك .

٤٨

وإنه لتذكرة للمتقين

{وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ } : أي وإن القرآن أو الرسول صلى اللّه عليه وسلم.

٤٩

وإنا لنعلم أن . . . . .

{وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ } : وعيد ، أي مكذبين بالقرآن أو بالرسول صلى اللّه عليه وسلم.

٥٠

وإنه لحسرة على . . . . .

{وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ } : أي القرآن من حيث كفروا به ، ويرون من آمن به ينعم وهم معذبون . وقال مقاتل : وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم ، عاد الضمير على

المصدر المفهوم من قوله : { مُّكَذّبِينَ } ،كقوله :

إذا نهي السفيه جرى إليه

أي للسفه .

٥١

انظر تفسير الآية:٥٢

٥٢

وإنه لحق اليقين

{وإَنَّهُ } : أي وإن القرآن ، { لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ } : وسبق الكلام على إضافة حق إلى اليقين في آخر الواقعة .

﴿ ٠