سورة نوحمكية بسم اللّه الرحمن الرحيم ١إنا أرسلنا نوحا . . . . . الأطوار : الأحوال المختلفة ، قال : فإن أفاق فقد طارت عمايته والمرء يخلق طوراً بعد أطوار ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسراً : أسماء أصنام أعلام لها اتخذها قوم نوح عليه السلام آلهة . هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها : أنه تعالى لما أقسم على أن يبدل خيراً منهم ، وكانوا قد سخروا من المؤمنين وكذبوا بما وعدوا به من العذاب ، ذكر قصة نوح وقومه معه ، وكانوا أشد تمرّداً من المشركين ، فأخذهم اللّه أخذ استئصال حتى أنه لم يبق لهم نسلاً على وجه الأرض ، وكانوا عباد أصنام كمشركي مكة ، فحذر تعالى قريشاً أن يصيبهم عذاب يستأصلهم إن لم يؤمنوا . ونوح عليه السلام أوّل نبي أرسل ، ويقال له شيخ المرسلين ، وآدم الثاني ، وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ ، وهو إدريس بن برد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه الصلاة والسلام .{ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ } : يجوز أن تكون أن مصدرية وأن تكون تفسيرية .{ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، قال أبو عباس : عذاب النار في الآخرة . وقال الكلبي : ما حل بهم من الطوفان . ٤يغفر لكم من . . . . . {مّن ذُنُوبِكُمْ } : من للتبعيض ، لأن الإيمان إنما يجب ما قبله من الذنوب لا ما بعده . وقيل : لابتداء الغاية . وقيل : زائدة ، وهو مذهب ، قال ابن عطية : كوفي ، وأقول : أخفشي لا كوفي ، لأنهم يشترطون أن تكون بعد من نكرة ، ولا يبالون بما قبلها من واجب أو غيره ، والأخفش يجيز مع الواجب وغيره . وقيل : النكرة والمعرفة . وقيل : لبيان الجنس ، ورد بأنه ليس قبلها ما تبينه . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف قال :{ وَيُؤَخّرْكُمْ } مع إخباره بامتناع تأخير الأجل ؟ وهل هذا إلا تنافض ؟ قلت : قضى اللّه مثلاً أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة ، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة ، فقيل لهم : آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى : أي إلى وقت سماه اللّه تعالى وضربه أمداً تنتهون إليه لا تتجاوزونه ، وهو الوقت الأطول تمام الألف . ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد ، لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت ، ولم تكن لكم حيلة ، فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير . انتهى . و قال ابن عطية :{ وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } مما تعلقت المعتزلة به في قولهم أن للإنسان أجلين ، قالوا : لو كان واحداً محدداً لما صح التأخير ، إن كان الحد قد بلغ ، ولا المعاجلة إن كان لم يبلغ ، قال : وليس لهم في الآية تعلق ، لأن المعنى : أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لم يعلم هل هم ممن يؤخر أو ممن يعاجل ، ولا قال لهم إنكم تؤخرون عن أجل قد حان لكم ، لكن قد سبق في الأزل أنهم ، إما ممن قضى له بالإيمان والتأخير ، وإما ممن قضى له بالكفر والمعاجلة . ثم تشدد هذا المعنى ولاح بقوله :{ إِنَّ أَجَلَ اللّه إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ } ، وجواب لو محذوف تقديره : لو كنتم تعلمون ، لبادرتم إلى عبادته وتقواه وطاعتي فيما جئتكم به منه تعالى . ٥انظر تفسير الآية:٦ ٦قال رب إني . . . . . ولما لم يجيبوه وآذوه ، شكا إلى ربه شكوى من يعلم أن اللّه تعالى عالم بحالة مع قومه لما أمر بالإنذار فلم يجد فيهم . {قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً } : أي جميع الأوقات من غير فتور ولا تعطيل في وقت . ولما ازدادوا إعراضاً ونفاراً عن الحق ، جعل الدعاء هو الذي زادهم ، إذ كان سبب الزيادة ، ومثله :{ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} ٧انظر تفسير الآية:٩ ٨انظر تفسير الآية:٩ ٩وإني كلما دعوتهم . . . . . {وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ } : أي ليتربوا فتغفر لهم ، ذكر المسبب الذي هو حظهم خالصاً ليكون أقبح في إعراضهم عنه ، { جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِىءاذانِهِمْ } : الظاهر أنه حقيقة ، سدوا مسامعهم حتى لا يسمعوا ما دعاهم إليه ، وتغطوا بثيابهم حتى لا ينظروا إليه كراهة وبغضاً من سماع النصح ورؤية الناصح . ويجوز أن يكون كناية عن المبالغة في إعراضهم عن ما دعاهم إليه ، فهم بمنزلة من سد سمعه ومنع بصره ، ثم كرر صفة دعائه بياناً وتوكيداً . لما ذكر دعاءه عموم الأوقات ، ذكر عموم حالات الدعاء . و { كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ } : يدل على تكرر الدعوات ، فلم يبين حالة دعائه أولاً ، وظاهرة أن يكون دعاؤه إسراراً ، لأنه يكون ألطف بهم . ولعلهم يقبلون منه كحال من ينصح في السر فإنه جدير أن يقبل منه ، فلما لم يجد له الإسرار ، انتقل إلى أشد منه وهو دعاؤهم جهاراً صلتاً بالدعاء إلى اللّه لا يحاشي أحداً ، فلما لم يجد عاد إلى الإعلان وإلى الأسرار . قال الزمخشري : ومعنى ثم الدلالة على تباعد الأحوال ، لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما . انتهى . وكثيراً كرر الزمخشري أن ثم للاستبعاد ، ولا نعلمه من كلام غيره ، وانتصب جهاراً بدعوتهم ، وهو أحد نوعي الدعاء ، ويجيء فيه من الخلاف ما جاء في نصب هو يمشي الخوزلى . قال الزمخشري : أو لأنه أراد بدعوتهم : جاهرتهم ، ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهاراً : أي مجاهراً به ، أو مصدراً في موضع الحال ، أي مجاهراً . ١٠فقلت استغفروا ربكم . . . . . ثم أخبر أنه أمرهم بالاستغفار ، وأنهم إذا استغفروا در لهم الرزق في الدنيا ، فقدم ما يسرهم وما هو أحب إليهم ، إذ النفس متشوفة إلى الحصول على العاجل ، كما قال تعالى : { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن اللّه وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } ،{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ } ،{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ } ،{ وَإِنَّ لُوطاً اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُم} قال قتادة : كانوا أهل حب للدنيا ، فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها . ١١انظر تفسير الآية:١٢ ١٢يرسل السماء عليكم . . . . . وقيل : لما كذبوه بعد طول تكرار الدعاء قحطوا وأعقم نساؤهم ، فبدأهم في وعده بالمطر ، ثم ثنى بالأموال والبنين . و { مُّدْرَاراً } : من الدر ، وهو صفة يستوي فيها المذكر والمؤنث ، ومفعال لا تلحقه التاء إلا نادراً ، فيشترك فيه المذكر والمؤنث . تقول : رجل محدامة ومطرابة ، وامرأة محدابة ومطرابة ، والسماء المطلة ، قيل : لأن المطر ينزل منها إلى السحاب ، ويجوز أن يراد السحاب والمطر كقوله : إذا نزل السماء بأرض قوم البيت ، ١٣ما لكم لا . . . . . الرجاء بمعنى الخوف ، وبمعنى الأمل . فقال أبو عبيدة وغيره : { لاَ تَرْجُونَ } : لا تخافون ، قالوا : والوقار بمعنى العظمة والسلطان ، والكلام على هذا وعيد وتخويف . وقيل : لا تأملون له توقيراً : أي تعظيماً . قال الزمخشري : والمعنى : ما لكم لا تكونون على حال ما يكون فيها تعظيم اللّه إياكم في دار الثواب ، وللّه بيان للموقر ، ولو تأخر لكان صلة ، أو لا تخافون اللّه حلماً وترك معاجلة بالعقاب فتؤمنوا . وقيل : ما لكم لا تخافون للّه عظمة . وعن ابن عباس : لا تخافون للّه عاقبة ، لأن العاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب منه وقر إذا ثبت واستقر . انتهى . وقيل : ما لكم لا تجعلون رجاءكم للّه وتلقاءه وقاراً ، ويكون على هذا منهم كأنه يقول : تؤده منكم وتمكناً في النظر ، لأن الفكر مظنة الخفة والطيش وركوب الرأس . انتهى . وفي التحرير قال سعيد بن جبير : ما لكم لا ترجون للّه ثواباً ولا تخافون عقاباً ، وقاله ابن جبير عن ابن عباس . وقال العوفي عنه : ما لكم لا تعلمون للّه عظمة ؛ وعن مجاهد والضحاك : ما لكم لا تبالون للّه عظمة . قال قطرب : هذه لغة حجازية ، وهذيل وخزاعة ومضر يقولون : لم أرج : لم أبال . انتهى .{ لاَ تَرْجُونَ } : حال ، ١٤وقد خلقكم أطوارا {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } : جملة حالية تحمل على الإيمان باللّه وإفراده بالعبادة ، إذ في هذه الجملة الحالية التنبيه على تدريج الإنسان في أطوار لا يمكن أن تكون إلا من خلقه تعالى . قال ابن عباس ومجاهد من : النطفة والعلقة والمضغة . وقيل : في اختلاف ألوان الناس وخلقهم وخلقهم ومللّهم . وقيل : صبياناً ثم شباباً ثم شيوخاً وضعفاء ثم أقوياء . وقيل : معنى { أَطْوَاراً } : أنواعاً صحيحاً وسقيماً وبصيراً وضريراً وغنياً وفقيراً . ١٥ألم تروا كيف . . . . . لما نبههم نوح عليه السلام على الفكر في أنفسهم ، وكيف انتقلوا من حال إلى حال ، وكانت الأنفس أقرب ما يفكرون فيه منهم ، أرشدهم إلى الفكر في العالم علوه وسفله ، وما أودع تعالى فيه ، أي في العالم العلوي من هذين النيرين اللذين بهما قوام الوجود . وتقدم شرح { طِبَاقاً } في سورة الملك ، ١٦وجعل القمر فيهن . . . . . والضمير في فيهن عائد على السموات ، ويقال : القمر في السماء الدنيا ، وصح كون السموات ظرفاً للقمر ، لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأه المظروف . تقول : زيد في المدينة ، وهو في جزء منها ، ولم تقيد الشمس بظرف ، فقيل : هي في الرابعة ، وقيل : في الخامسة ، وقيل : في الشتاء في الرابعة ، وفي الصيف في السابعة ، وهذا شيء لا يوقف على معرفته إلا من علم الهيئة . ويذكر أصحاب هذا العلم أنه يقوم عندهم البراهين القاطعة على صحة ما يدعونه ، وأن في معرفة ذلك دلالة واضحة على عظمة اللّه وقدرته وباهر مصنوعاته . { سِرَاجاً } يستضيء به أهل الدنيا ، كما يستضيء الناس بالسراج في بيوتهم ، ولم يبلغ القمر مبلغ الشمس في الإضاءة ، ولذلك ؛ جاء هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً ، والضياء أقوى من النور . ١٧واللّه أنبتكم من . . . . . والإنبات استعارة في الإنشاء ، أنشأ آدم من الأرض وصارت ذريته منه ، فصح نسبتهم كلهم إلى أنهم أنبتوا منها . وانتصاب نباتاً بأنبتكم مصدراً على حذف الزائد ، أي إنباتاً ، أو على إضمار فعل ، أي فنبتم نباتاً . وقال الزمخشري : المعنى أنبتكم فنبتم ، أو نصب بأنبتكم لتضمنه معنى نبتم . انتهى . ولا أعقل معنى هذا الوجه الثاني الذي ذكره . ١٨ثم يعيدكم فيها . . . . . {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا } : أي يصيركم فيها مقبورين ، { وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } : أي يوم القيامة ، وأكده بالمصدر ، أي ذلك واقع لا محالة . ١٩واللّه جعل لكم . . . . . {بِسَاطاً } تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه . وظاهره أن الأرض ليست كروية بل هي مبسوطة ، ٢٠لتسلكوا منها سبلا . . . . . {سُبُلاً } : ظرفاً ، { فِجَاجاً } : متسعة ، وتقدم الكلام على الفج في سورة الحج . ٢١قال نوح رب . . . . . ولما أصروا على العصيان وعاملوه بأقبح الأقوال والأفعال ، { قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى } : الضمير للجميع ، وكان قد قال لهم :{ وَأَطِيعُونِ } ، وكان قد أقام فيهم ما نص اللّه تعالى عليه { أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } ، وكانوا قد وسع عليهم في الرزق بحيث كانوا يزرعون في الشهر مرتين .{ وَاتَّبِعُواْ } : أي عامتهم وسفلتهم ، إذ لا يصح عوده على الجميع في عبادة الأصنام .{ مَن لَّمْ يَزِدْهُ } : أي رؤساؤهم وكبراؤهم ، وهم الذين كان ما تأثلوه من المال وما تكثروا به من الولد سبباً في خسارتهم في الآخرة ، وكان سبب هلاكهم في الدنيا . وقرأ ابن الزبير والحسن والنخعي والأعرج ومجاهد والأخوان وابن كثير وأبو عمرو ونافغ ، في رواية خارجة : وولده بضم الواو وسكون اللام ؛ والسلميّ والحسن أيضاً وأبو رجاء وابن وثاب وأبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم وابن عامر : بفتحهما ، وهما لغتان ، كبخل وبخل ؛ والحسن أيضاً والجحدري وقتادة وزر وطلحة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو ، في رواية : كسر الواو وسكون اللام . وقال أبو حاتم : يمكن أن يكون الولد بالضم جمع الولد ، كخشب وخشب ، وقد قال حسان بن ثابت : يا بكر آمنة المبارك بكرها من ولد محصنة بسعد الأسعد ٢٢ومكروا مكرا كبارا {وَمَكَرُواْ } : يظهر أنه معطوف على صلة من ، وجمع الضمير في { وَمَكَرُواْ } ،{ وَقَالُواْ } على المعنى ؛ ومكرهم : احتيالهم في الدين وتحريش الناس على نوح عليه السلام . وقرأ الجمهور :{ كُبَّاراً } بتشديد الباء ، وهو بناء فيه مبالغة كثير . قال عيسى بن عمر : هي لغة يمانية ، وعليها قول الشاعر : والمرء يلحقه بقنان الندى خلق الكريم وليس بالوضاء وقول الآخر : بيضاء تصطاد القلوب وتستبي بالحسن قلب المسلم القراء ويقال : حسان وطوال وجمال . وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال : بخف الباء ، وهو بناء مبالغة . وقرأ زيد بن علي وابن محيصن ، فيما روي عنه أبو الأخيرط وهب بن واضح : كباراً ، بكسر الكاف وفتح الباء . وقال ابن الأنباري : هو جمع كبير ، كأنه جعل مكراً مكان ذنوب أو أفاعيل . انتهى ، يعني فلذلك وصفه بالجمع . ٢٣وقالوا لا تذرن . . . . . {وَقَالُواْ } : أي كبراؤهم لأتباعهم ، أو قالوا ، أي جميعهم بعضهم لبعض ، { لاَ تَذَرُنَّ } : لا تتركن ، { ءالِهَتَكُمْ } : أي أصنامكم ، وهو عام في جميع أصنامهم ، ثم خصبوا بعد أكابر أصنامهم ، وهو ودّ وما عطف عليه ؛ وروي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الزمان . قال عروة بن الزبير : كانوا بني آدم ، وكان ودّاً أكبرهم وأبرهم به . وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس : كانوا بني آدم ونوح عليهما السلام ، ماتوا فصورت أشكالهم لتذكر أفعالهم الصالحة ، ثم هلك من صورهم وخلف من يعظمها ، ثم كذلك حتى عبدت . قيل : ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها . وقيل : بل الأسماء فقط إلى قبائل من العرب . فكان ودّ لكلب بدومة الجندل ؛ وسواع لهذيل ، وقيل : لهمدان ؛ ويغوث لمراد ، وقيل : لمذحج ؛ ويعوق لهمدان ، وقيل : لمراد ؛ ونسر لحمير ، وقيل : لذي الكلاع من حمير ؛ ولذلك سمت العرب بعبد ودّ وعبد يغوث ؛ وما وقع من هذا الخلاف في سواع ويغوث ويعوق يمكن أن يكون لكل واحد منهما صنم يسمى بهذا الاسم ، إذ يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام ، فإنما بقيت الأسماء فسموا أصنامهم بها . قال أبو عثمان النهدي : رأيت يغوث ، وكان من رصاص ، يحمل على جمل أجرد يسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك ، فإذا برك نزلوا وقالوا : قد رضي لكم المنزل ، فينزلون حوله ويضربون له بناء . انتهى . وقال الثعلبي : كان يغوث لكهلان من سبأ ، يتوارثونه حتى صار في همدان ، وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني : يريش اللّه في الدنيا ويبري ولا يبري يغوث ولا يريش وقال الماوردي : ود اسم صنم معبود . سمي وداً لودهم له . انتهى . وقيل : كان ود على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر ، وهذا مناف لما تقدم من أنهم صوروا صور ناس صالحين . وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة ، بخلاف عنهم : وداً ، بضم الواو ؛ والحسن والأعمش وطلحة وباقي السبعة : بفتحها ، قال الشاعر : حياك ودّ فإنا لا يحل لنا لهو النساء وأن الدين قد عزما وقال آخر : فحياك ودّ من هداك لعسه وخوص باعلاذي فضالة هجه قيل : أراد ذلك الصنم . وقرأ الجمهور : { وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ } بغير تنوين ، فإن كانا عربيين ، فمنع الصرف للعلمية ووزن الفعل ، وإن كانا عجميين ، فللعجمة والعلمية . وقرأ الأشهب : ولا يغوثا ويعوقا بتنوينهما . قال صاحب اللوامح : جعلهما فعولاً ، فلذلك صرفهما . فأما في العامة فإنهما صفتان من الغوث والعوق بفعل منهما ، وهما معرفتان ، فلذلك منع الصرف لاجتماع الفعلين اللذين هما تعريف ومشابهة الفعل المستقبل . انتهى ، وهذا تخبيط . أما أولاً ، فلا يمكن أن يكونا فعولاً ، لأن مادة يغث مفقودة وكذلك يعق ؛ وأما ثانياً ، فليسا بصفتين من الغوث والعوق ، لأن يفعلا لم يجىء اسماً ولا صفة ، وإنما امتنعا من الصرف لما ذكرناه . و قال ابن عطية : وقرأ الأعمش : ولا يغوثا ويعوقا بالصرف ، وذلك وهم لأن التعريف لازم ووزن الفعل . انتهى . وليس ذلك بوهم ، ولم ينفرد الأعمش بذلك ، بل قد وافقه الأشهب العقيلي على ذلك ، وتخريجه على أحد الوجهين ، أحدهما : أنه جاء على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف عند عامة العرب ، وذلك لغة وقد حكاها الكسائي وغيره ؛ والثاني : أنه صرف لمناسبة ما قبله وما بعده من المنون ، إذ قبله { وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً } ، وبعده { وَنَسْراً } ، كما قالوا في صرف { سلاسلاً } ، و { قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ } ، لمن صرف ذلك للمناسبة . وقال الزمخشري : وهذه قراءة مشكلة ، لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين ففيهما منع الصرف ، ولعله قصد الازدواج فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات { وُدّاً وَيَعُوقَ وَنَسْراً } ، كما قرىء :{ وَضُحَاهَا } بالإمالة لوقوعه مع الممالات للازدواج . انتهى . وكان الزمخشري لو يدر أن ثم لغة لبعض العرب تصرف كل ما لا ينصرف عند عامتهم ، فلذلك استشكلها . ٢٤وقد أضلوا كثيرا . . . . . {وَقَدْ أَضَلُّواْ } : أي الرؤساء المتبوعون ، { كَثِيراً } : من أتباعهم وعامتهم ، وهذا إخبار من نوح عليه السلام عنهم بما جرى على أيديهم من الضلال . وقال الحسن :{ وَقَدْ أَضَلُّواْ } : أي الأصنام ، عاد الضمير عليها كما يعود على العقلاء ، كقوله تعالى :{ رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ } ويحسنه عوده على أقرب مذكور ، ولكن عوده على الرؤساء أظهر ، إذ هم المحدث عنهم والمعنى فيهم أمكن . ولما أخبر أنهم قد ضلوا كثيراً ، دعا عليهم بالضلال ، فقال :{ وَلاَ تَزِدِ } : وهي معطوفة على { وَقَدْ أَضَلُّواْ } ، إذ تقديره : وقال وقد أضلوا كثيراً ، فهي معمولة لقال المضمرة المحكي بها قوله :{ وَقَدْ أَضَلُّواْ } ، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل ، بل قد يعطف ، جملة الإنشاء على جملة الخبر والعكس ، خلافاً لمن يدعي التناسب . وقال الزمخشري ما ملخصه : عطف { وَلاَ تَزِدِ } على { رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى } ،أي قال هذين القولين .{ إِلاَّ ضَلاَلاً } ، قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يريد لهم الضلال ويدعو اللّه بزيادته ؟ قلت : المراد بالضلال أن يخذلوا ويمنعوا الألطاف لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم ، وذلك حسن جميل يجوز الدعاء به ، بل لا يحسن الدعاء بخلافه . انتهى ، وذلك على مذهب الاعتزال . قال : ويجوز أن يراد بالضلال الضياع والهلاك ، كما قال :{ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً} وقال ابن بحر :{ إِلاَّ ضَلاَلاً } : إلا عذاباً ، قال كقوله :{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} وقيل : إلا خسراناً . وقيل : إلا ضلالاً في أمر دنياهم وترويج مكرهم وحيلهم . ٢٥مما خطيئاتهم أغرقوا . . . . . وقرأ الجمهور : { مّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ } جمعاً بالألف والتاء مهموزاً ؛ وأبو رجاء كذلك ، إلا أنه أبدل الهمزة ياء وأدغم فيها ياء المد ؛ والجحدري وعبيد ، عن أبي عمرو : على الإفراد مهموزاً ؛ والحسن وعيسى والأعرج : بخلاف عنهم ؛ وأبو عمرو : خطاياهم جمع تكسير ، وهذا إخبار من اللّه تعالى للرسول عليه الصلاة والسلام بأن دعوة نوح عليه السلام قد أجيبت . وما زائدة للتوكيد ؛ ومن ، قال ابن عطية : لابتداء الغاية ، ولا يظهر إلا أنها للسبب . وقرأ عبد اللّه : من خطيئاتهم ما أغرقوا ، بزيادة ما بين أغرقوا وخطيئاتهم . وقرأ الجمهور : { أُغْرِقُواْ } بالهمزة ؛ وزيد بن عليّ : غرقوا بالتشديد وكلاهما للنقل وخطيئاتهم الشرك وما انجر معه من الكبائر ، { فَأُدْخِلُواْ نَاراً } : أي جهنم ، وعبر عن المستقبل بالماضي لتحققه ، وعطف بالفاء على إرادة الحكم ، أو عبر بالدخول عن عرضهم على النار غدوّاً وعشياً ، كما قال :{ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} قال الزمخشري : أو أريد عذاب القبر . انتهى . وقال الضحاك : كانوا يغرقون من جانب ويحرقون بالنار من جانب . {فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ اللّه أَنصَاراً } : تعريض بانتفاء قدرة آلهتهم عن نصرهم ، ٢٦انظر تفسير الآية:٢٧ ٢٧وقال نوح رب . . . . . ودعاء نوح عليه السلام بعد أن أوحى إليه أنه { لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ } ، قاله قتادة . وعنه أيضاً : ما دعا عليهم إلا بعد أن أخرج اللّه كل مؤمن من الأصلاب ، وأعقم أرحام نسائهم ، وهذا لا يظهر لأنه قال :{ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ } الآية ، فقوله :{ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } يدل على أنه لم يعقم أرحام نسائهم ، وقاله أيضاً محمد بن كعب والربيع وابن زيد ، ولا يظهر كما قلنا ، وقد كان قبل ذلك طامعاً في إيمانهم عاطفاً عليهم . وفي الحديث : { أنه ربما ضربه ناس منهم أحياناً حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : اللّهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون} . ودياراً : من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي وما أشبهه ، ووزنه فيعال ، أصله ديوار ، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت ؛ ويقال : منه دوّار ووزنه فعال ، وكلاهما من الدوران ، كما قالوا : قيام وقوام ، والمعنى معنى أحد . وعن السدّي : من سكن داراً . وقال الزمخشري : وهو فيعال من الدور أو من الدار . انتهى . والدار أيضاً من الدور ، وألفها منقلبة عن واو .{ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } : وصفهم وهم حالة الولادة بما يصيرون إليه من الفجور والكفر . ٢٨رب اغفر لي . . . . . ولما دعا على الكفار ، استغفر للمؤمنين ، فبدأ بنفسه ثم بمن وجب برّه عليه ، ثم للؤمنين ، فكأن هو ووالداه اندرجوا في المؤمنين والمؤمنات . وقرأ الجمهور : { والوالديّ } ، والظاهر أنهما أبوه لملك بن متوشلخ وأمه شمخاء بنت أنوش . وقيل : هما آدم وحوّاء . وقرأ ابن جبير والجحدري : ولوالدي بكسر الدال ، فأما أن يكون خص أباه الأقرب ، أو أراد جميع من ولدوه إلى آدم عليه السلام . وقال ابن عباس : لم يكن لنوح عليه السلام أب ما بينه وبين آدم عليه السلام . وقرأ الحسن بن عليّ ويحيى بن يعمر والنخعي والزهري وزيد بن عليّ : ولولداي تثنية ولد ، يعني ساماً وحاماً .{ وَلِوالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ } ، قال ابن عباس والجمهور : مسجدي ؛ وعن ابن عباس أيضاً : شريعتي ، استعار لها بيتاً ، كما قالوا : قبة الإسلام وفسطاطه . وقيل : سفينته . وقيل : داره .{ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } : دعا لكل مؤمن ومؤمنة في كل أمّة . والتبار : الهلاك . |
﴿ ٠ ﴾