سورة الجن

مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

قل أوحي إلي . . . . .

الجد : لغة العظمة والجلال ، وجد في عيني : عظم وجل . وقال أبو عبيدة والأخفش : الملك والسلطان ، والجد : الحظ ، والجد : أبو الأب . الحرس : اسم جمع ، الواحد حارس ، كغيب واحده غائب ، وقد جمع على أحراس . قال الشاعر :

تجاوزت أحراساً وأهوال معشر كشاهد وأشهاد ، والحارس : الحافظ للشيء يرقبه . القدد : السير المختلفة ، الواحدة قدة . قال الشاعر : القابض الباسط الهادي بطاعته

في قنية الناس إذ أهواؤهم قدد

وقال الكميت : جمعت بالرأي منهم كل رافضة

إذ هم طرائق في أهوائهم قدد

تحرى الشيء : طلبه باجتهاد وتوخاه وقصده . الغدق : الكثير . اللبد ، جمع لبدة : وهو تراكم بعضه فوق بعض ، ومنه لبدة الأسد . ويقال للجراد الكثير المتراكم : لبد ، ومنه اللبد الذي يفرش ، يلبد صوفه : دخل بعضه في بعض .

هذه السورة مكية . ووجه مناسبتها لما قبلها : أنه لما حكي تمادي قوم نوح في الكفر وعكوفهم على عبادة الأصنام ، وكان عليه الصلاة والسلام أول رسول إلى الأرض ؛ كما أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم آخر رسول إلى الأرض ، والعرب الذي هو منهم عليه الصلاة والسلام كانوا عباد أصنام كقوم نوح ، حتى أنهم عبدوا أصناماً مثل أصنام أولئك في الأسماء ، وكان ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم من القرآن هادياً إلى الرشد ، وقد سمعته العرب ، وتوقف عن الإيمان به أكثرهم ، أنزل اللّه تعالى سورة الجن إثر سورة نوح ، تبكيتاً لقريش والعرب في كونهم تباطؤا عن الإيمان ، إذ كانت الجن خيراً لهم وأقبل للإيمان ، هذا وهم من غير جنس الرسول صلى اللّه عليه وسلم ؛ ومع ذلك فبنفس ما سمعوا القرآن استعظموه وآمنوا به للوقت ، وعرفوا أنه ليس من نمط كلام الناس ، بخلاف العرب فإنه نزل بلسانهم وعرفوا كونه معجزاً ، وهم مع ذلك مكذبون له ولمن جاء به حسداً وبغياً أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء من عباده .

وقرأ الجمهور :{ قُلْ أُوحِىَ } رباعياً ؛ وابن أبي عبلة والعتكي ، عن أبي عمرو ، وأبو أناس جوية بن عائذ الأسدي : وحى ثلاثياً ، يقال : وحى وأوحى بمعنى واحد . قال العجاج

وحى إليها القرار فاستقرت .

وقرأ زيد بن عليّ وجوية ، فيما روي عن الكسائي وابن أبي عبلة أيضاً : أحى بإبدال الواو همزة ، كما قالوا في وعد أعد .

وقال الزمخشري : وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة . انتهى . وليس كما ذكر ، بل في ذلك تفصيل ، وذلك أن الواو المضمومة قد تكون أولاً وحشواً وآخراً ، ولكل منها أحكام ، وفي بعضها خلاف وتفصيل مذكور في النحو .

قال الزمخشري : وقد أطلقه المازني في المكسور أيضاً ، كإشاح وإسادة وإعاء أخيه . انتهى ، وهذا تكثير وتبجح . وكان يذكر هذا في { وِعَاء أَخِيهِ } في سورة يوسف . وعن المازني في ذلك قولان :

أحدهما : القياس كما قال ، والآخر : قصر ذلك على السماع .

و { أَنَّهُ اسْتَمَعَ } في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ؛ أي استماع { نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ } ، والمشهور أن هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف في قوله تعالى :{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءانَ } ، وهي قصة واحدة .

وقيل : قصتان ، والجن الذين أتوه بمكة جن نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جن نينوي ، والسورة التي استمعوها ، قال عكرمة :{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ}

وقيل : سورة الرحمن . ولم تتعرض الآية ، لا هنا ولا في سورة الأحقاف ، إلى أنه رآهم وكلمهم عليه الصلاة والسلام . ويظهر من الحديث } أن ذلك كان مرتين : إحداهما : في مبدأ مبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو في الوقت الذي أخبر فيه عبد اللّه بن مسعود أنه لم يكن معه ليلة الجن ، وقد كانوا فقدوه عليه الصلاة والسلام ، فالتمسوه في الأودية والشعاب فلم يجدوه . فلما أصبح ، إذا هو جاء من قبل حراء ، وفيه أتاني داعي الجن ، فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن ، فانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نارهم . والمرة الآخرى : كان معه ابن مسعود ، وقد استندب صلى اللّه عليه وسلم من يقوم معه إلى أن يتلو القرآن على الجن ، فلم يقم أحد غير عبد اللّه بن مسعود ، فذهب معه إلى الحجون عند الشعب ، فخط على ه خطاً وقال : لا تجاوزه . فانحدر عليه صلى اللّه عليه وسلم أمثال الحجر يجرون الحجارة بأقدامهم يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفهن حتى غشوه فلا أراه فقمت فأومأ إليّ بيده أن اجلس فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع واختفوا في الأرض حتى ما أراهم} . الحديث . ويدل على أنهما قصتان ، اختلافهم في العدد ، فقيل : سبعة ،

وقيل : تسعة ، وعن زر : كانوا ثلاثة من أهل حران ، وأربعة من أهل نصيبين ، قرية باليمن غير القرية التي بالعراق . وعن عكرمة : كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل ، وأين سبعة من اثني عشر ألفاً ؟

{فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً } : أي قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم ، ووصفوا قرآناً بقولهم { عَجَبًا } وصفاً بالمصدر على سبيل المبالغة ، أي هو عجب في نفسه لفصاحة كلامه ، وحسن مبانيه ، ودقة معانيه ، وغرابة أسلوبه ، وبلاغة مواعظه ، وكونه مبايناً لسائر الكتب . والعجب ما خرج عن أحد أشكاله ونظائره .

٢

يهدي إلى الرشد . . . . .

{يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ } : أي يدعو إلى الصواب .

وقيل : إلى التوحيد والإيمان .

وقرأ الجمهور :{ الرُّشْدِ } بضم الراء وسكون الشين ؛ وعيسى : بضمهما ؛ وعنه أيضاً : فتحهما .{ يَهْدِى إِلَى } : أي بالقرآن . ولما كان الإيمان به متضمناً الإيمان باللّه وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا :{ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً}

وقرأ الحرميان والأبوان : بفتح الهمزة من قوله :

٣

انظر تفسير الآية:٥

٥

وأنه تعالى جد . . . . .

{وَأَنَّهُ تَعَالَى } وما بعده ، وهي اثنتا عشرة آية آخرها { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ } ؛ وباقي السبعة : بالكسر . فأما الكسر فواضح لأنها معطوفات على قوله :{ إِنَّا سَمِعْنَا } ، فهي داخلة في معمول القول .

وأما الفتح ، فقال أبو حاتم : هو على { أَوْحَى } ، فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله . انتهى . وهذا لا يصح ، لأن من المعطوفات ما لا يصح دخوله تحت { أَوْحَى } ، وهو كل ما كان فيه ضمير المتكلم ، كقوله :{ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} ألا ترى أنه لا يلائم { أُوحِىَ إِلَيْكَ } ،{ إِنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ } ، وكذلك باقيها ؟ وخرجت قراءة الفتح على أن تلك كلها معطوفة على الضمير المجرور في به من قوله :{ يَهْدِى إِلَى } : أي وبأنه ، وكذلك باقيها ، وهذا جائز على مذهب الكوفيين ، وهو الصحيح . وقد تقدم احتجاجنا على صحة ذلك في قوله :{ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}

وقال مكي : هو أجود في أن منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر مع أن . وقال الزجاج : وجهه أن يكون محمولاً على آمنا به ، لأنه معناه : صدقناه وعلمناه ، فيكون المعنى : فآمنا به أنه تعالى جد ربنا ؛ وسبقه إلى نحوه الفراء قال : فتحت أن لوقوع الإيمان عليها ، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض ، فلا يمنعك ذلك من إمضائهن على الفتح ، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح أن نحو : صدقنا وشهدنا .

وأشار الفراء إلى أن بعض ما فتح لا يناسب تسليط آمنا عليه ، نحو قوله : { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللّه كَذِباً } ، وتبعهما الزمخشري فقال : ومن فتح كلهن فعطفاً على محل الجار والمجرور في آمنا به ، كأنه قيل : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا ، وأنه كان يقول سفيهنا ، وكذلك البواقي . انتهى . ولم يتفطن لما تفطن له الفراء من أن بعضها لا يحسن أن يعمل فيه آمنا .

وقرأ الجمهور :{ جَدُّ رَبّنَا } ، بفتح الجيم ورفع الدال ، مضافاً إلى ربنا : أي عظمته ، قاله الجمهور . وقال أنس والحسن : غناه . وقال مجاهد : ذكره .

وقال ابن عباس : قدره وأمره .

وقرأ عكرمة : جد منوباً ، ربنا مرفوع الباء ، كأنه قال : عظيم هو ربنا ، فربنا بدل ، والجد في اللغة العظيم .

وقرأ حميد بن قيس : جد بضم الجيم مضافاً ومعناه العظيم ، حكاه سيبويه ، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، والمعنى : تعالى ربنا العظيم .

وقرأ عكرمة : جداً ربنا ، بفتح الجيم والدال منوناً ، ورفع ربنا وانتصب جداً على التمييز المنقول من الفاعل ، أصله { تَعَالَى جَدُّ رَبّنَا}

وقرأ قتادة وعكرمة أيضاً : جداً بكسر الجيم والتنوين نصباً ، ربنا رفع .

قال ابن عطية : نصب جداً على الحال ، ومعناه : تعالى حقيقة ومتمكناً . وقال غيره : هو صفة لمصدر محذوف تقديره : تعاليا جداً ، وربنا مرفوع بتعالى .

وقرأ ابن السميفع : جدي ربنا ، أي جدواه ونفعه .

وقرأ الجمهور :{ يَقُولُ سَفِيهُنَا } : هو إبليس .

وقيل : هو اسم جنس لكل سفيه ، وإبليس مقدم السفهاء . والشطط : التعدي وتجاوز الجد . قال الأعشى : أينتهون ولن ينهى ذوو شطط

كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

ويقال : أشط في السوم إذا أبعد فيه ، أي قولا هو في نفسه شطط ، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى اللّه تعالى .{ وَأَنَّا ظَنَنَّا } الآية : أي كنا حسنا الظن بالإنس والجن ، واعتقدنا أن أحداً لا يجترىء على أن يكذب على اللّه فينسب إليه الصاحبة والولد ، فاعتقدنا صحة ما أغوانا به إبليس ومردته حتى سمعنا القرآن فتبينا كذبهم .

وقرأ الجمهور :{ أَن لَّن تَقُولَ } مضارع قال ؛ والحسن والجحدري وعبد الرحمن بن أبي بكرة ويعقوب وابن مقسم : تقول مضارع تتقول ، حذفت إحدى التاءين وانتصب { كَذِبًا } في قراءة الجمهور بتقول ، لأن الكذب نوع من القول ، أو على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي قولا كذباً ، أي مكذوباً فيه . وفي قراءة الشاذ على أنه مصدر لتقول ، لأنه هو الكذب ، فصار كقعدت جلوساً .

٦

وأنه كان رجال . . . . .

{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ} روى الجمهور أن الرجل كان إذا أراد المبيت أو الحلول في وادٍ نادى بأعلى صوته : يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك ، فيعتقد بذلك أن الجني الذي بالوادي يمنعه ويحميه . فروي أن الجن كانت تقول عند ذلك : لا نملك لكم ولا لأنفسنا من اللّه شيئاً . قال مقاتل : أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن ، ثم بنو حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب . والظاهر أن الضمير المرفوع في { فَزَادوهُمْ } عائد على { رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ } ، إذ هم المحدث عنهم ، وهو قول مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير .{ فَزَادوهُمْ } أي الإنس ، { رَهَقاً } : أي جراءة وانتخاءً وطغياناً وغشيان المحارم وإعجاباً بحيث قالوا : سدنا الإنس والجن ، وفسر قوم الرهق بالإثم . وأنشد الطبري في ذلك بيت الأعشى : لا شيء ينفعني من دون رؤيتها

لا يشتفي وامق ما لم يصب رهقاً

قال معناه : ما لم يغش محرماً ، والمعنى : زادت الإنس الجن مأثماً لأنهم عظموهم فزادوهم استحلالاً لمحارم اللّه تعالى . وقال قتادة وأبو العالية والربيع وابن زيد : { فَزَادوهُمْ } ،أي الجن زادت الإنس مخافة يتخيلون لهم بمنتهى طاقتهم ويغوونهم لما رأوا من خفة أحلامهم ، فازدروهم واحتقروهم . وقال ابن جبير :{ رَهَقاً } : كفراً .

وقيل : لا يطلق لفظ الرجال على الجن ،

فالمعنى : وإنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس ، وكان الرجل يقول مثلاً : أعوذ بحذيفة بن اليمان من جن هذا الوادي ، وهذا قول غريب .

٧

وأنهم ظنوا كما . . . . .

{وَأنَّهُمْ } : أي كفار الإنس ، { ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ } أيها الجن ، يخاطب به بعضهم بعضاً . وظنوا وظننتم ، كل منهما يطلب ، { أَن لَّن يَبْعَثَ } ، فالمسألة من باب الإعمال ، وإن هي المخففة من الثقيلة .

وقيل : الضمير في وأنهم يعود على الجن ، والخطاب في ظننتم لقريش ، وهذه والتي قبلها هما من الموحى به لا من كلام الجن :{ أَن لَّن يَبْعَثَ اللّه أَحَداً } : الظاهر أنه بعثة الرسالة إلى الخلق ، وهو أنسب لما تقدم من الآي ولما تأخر .

وقيل : بعث القيامة .

٨

وأنا لمسنا السماء . . . . .

{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء } : أصل اللمس المس ، ثم استعير للتطلب ، والمعنى : طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها فوجدناها ملئت . الظاهر أن وجد هنا بمعنى صادف وأصاب وتعدت إلى واحد ، والجملة من { مُلِئَتْ } في موضع الحال ، وأجيز أن تكون تعدت إلى اثنين ، فملئت في موضع المفعول الثاني .

وقرأ الأعرج : مليت بالياء دون همز ، والجمهور : بالهمز ، وشديداً : صفة للحرس على اللفظ لأنه اسم جمع ، كما قال :

أخشى رجيلاً أو ركيباً عادياً

ولو لحظ المعنى لقال : شداداً بالجمع . والظاهر أن المراد بالحرس : الملائكة ، أي حافظين من أن تقربها الشياطين ، وشهباً جمع شهاب ، وهو ما يرحم به الشياطين إذا استمعوا . قيل : ويحتمل أن يكون الشهب هم الحرس ، وكرر المعنى لما اختلف اللفظ نحو :

وهند أتى من دونها النأي والبعد

وقوله :{ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ } يدل على أنها كانت قبل ذلك يطرقون السماء ولا يجدونها قد ملئت .

٩

وأنا كنا نقعد . . . . .

{مَقَاعِدَ } جمع مقعد ، وقد فسر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صورة قعود الجن أنهم كانوا واحداً فوق واحد ، فمتى أحرق الأعلى طلع الذي تحته مكانه ، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون معها ، ثم يزيد الكهان الكلمة مائة كذبة .{ فَمَن يَسْتَمِعِ الاْنَ } ، الآن ظرف زمان للحال ، ويستمع مستقبل ، فاتسع في الظرف واستعمل للاستقبال ، كما قال :

سأسعى الآن إذ بلغت اناها

فالمعنى : فمن يقع منه استماع في الزمان الآتي ، { يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } : أي يرصده فيحرقه ، هذا لمن استمع .

وأما السمع فقد انقطع ، كما

قال تعالى :{ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } ، والرجم كان في الجاهلية ، وذلك مذكور

في أشعارهم ، ويدل عليه الحديث حين رأى عليه الصلاة والسلام نجماً قد رمي به ، قال :  { ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية } ؟ قالوا : كنا نقول : يموت عظيم أو يولد عظيم . قال أوس بن حجر : وانقض كالدري يتبعه

نقع يثور بحالة طنبا

وقال عوف بن الجزع : فرد علينا العير من دون إلفه

أو الثور كالدري يتبعه الدم

وقال بشر بن أبي حازم : والعير يرهقها الغبار وجحشها

ينقض خلفهما انقضاض الكوكب

قال التبريزي : وهؤلاء الشعراء كلهم جاهليون ليس فيهم محضرم ، وقال معمر : قلت للزهري : أكان يرمي بالنجوم في الجاهلي ؟ قال : نعم ،

قلت : أرأيت قوله : { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ } ؟ فقال : غلظت وشدد أمرها حين بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقال الجاحظ : القول بالرمي أصح لقوله :{ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ } ، وهذا إخبار عن الجن أنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت ، ولما روى ابن عباس وذكر الحديث السابق .

وقال الزمخشري : تابعاً للجاحظ ، وفي قوله دليل على أن الحرس هو الملء والكثرة ، فلذلك { نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ } : أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب ، والآن ملئت المقاعد كلها . انتهى . وهذا كله يبطل قول من قال : إن الرجم حدث بعد مبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو إحدى آياته . والظاهر أن رصداً على معنى : ذوي شهاب راصدين بالرجم ، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع .

١٠

وأنا لا ندري . . . . .

ولما رأوا ما حدث من كثرة الرجم ومنع الاستراق قالوا : { وإنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الاْرْضِ } ، وهو كفرهم بهذا النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فينزل بهم الشر ، { أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } ، فيؤمنون به فيرشدون . وحين ذكروا الشر لم يسندوه إلى اللّه تعالى ، وحين ذكروا الرشد أسندوه إليه تعالى .

١١

وأنا منا الصالحون . . . . .

{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ } : أخبروا بما هم عليه من صلاح وغيره .{ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } : أي دون الصالحين ، ويقع دون في مواضع موقع غير ، فكأنه قال : ومنا غير صالحين . ويجوز أن يريدوا : ومنادون ذلك في الصلاح ، أي فيهم أبرار وفيهم من هو غير كامل في الصلاح ، ودون في موضع الصفة لمحذوف ، أي ومنا قوم دون ذلك . ويجوز حذف هذا الموصوف في التفصيل بمن ، حتى في الجمل ، قالوا : منا ظعن ومنا أقام ، يريدون : منا فريق ظعن ومنا فريق أقام ، والجملة من قوله :{ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً } تفسير للقسمة المتقدمة . قال ابن عباس وعكرمة وقتادة : أهواء مختلفة ،

وقيل : فرقاً مختلفة .

وقال الزمخشري : أي كنا ذوي مذاهب مختلفة ، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة ، أو كنا في طرائق مختلفة كقوله :

كما عسل الطريق الثعلب أو كانت طرائقنا قدداً على حذف المضاف الذي هو الطرائق ، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه . انتهى . وفي تقديريه الأولين حذف المضاف من طرائق وإقامة المضاف إليه مقامه ، إذ حذف ذوي ومثل .

وأما التقدير الثالث ، وهو

أن ينتصب على إسقاط في ، فلا يجوز ذلك إلا في الضرورة ، وقد نص سيبويه على أن عسل الطريق شاذ ، فلا يخرج القرآن عليه .

١٢

وأنا ظننا أن . . . . .

{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللّه} : أي أيقنا ، { فِى الاْرْضِ } : أي كائنين في الأرض ، { وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } : أي من الأرض إلى السماء ، وفي الأرض وهرباً حالان ، أي فارين أو هاربين .

١٣

وأنا لما سمعنا . . . . .

{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى } : وهو القرآن ، { بِهِ إِنَّهُ } : أي بالقرآن ، { فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ } : أي فهو لا يخاف .

وقرأ ابن وثاب والأعمش والجمهور :{ فَلاَ يَخَافُ } ، وخرجت قراءتهما على النفي .

وقيل : الفاء زائدة ولا نفي وليس بشيء ، وكان الجواب بالفاء أجود من المجيء بالفعل مجزوماً دون الفاء ، لأنه إذا كان بالفاء كان إضمار مبتدأ ، أي فهو لا يخاف . والجملة الاسمية أدل وآكد من الفعلية على تحقق مضمون الجملة .{ بَخْساً } ، قال ابن عباس : نقص الحسنات ، { وَلاَ رَهَقاً } ، قال : زيادة في السيئات ، { وَلاَ رَهَقاً } ،قيل : تحميل ما لا يطاق .

وقال الزمخشري : أي جزاء بخس ولا رهق ، لأنه لم يبخس أحداً حقاً ولا رهق ظلم أحد ، فلا يخاف جزاءهما . ويجوز أن يراد : فلا يخاف أن يبخس بل يجزى الجزاء الأوفى ، ولا أن ترهقه ذلة من قوله عز وجل :{ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} انتهى .

وقرأ الجمهور :{ بَخْساً } بسكون الخاء ؛

١٤

انظر تفسير الآية:١٥

١٥

وأنا منا المسلمون . . . . .

وابن وثاب : بفتحها . { وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ } : أي الكافرون الجائزون عن الحق . قال مجاهد وقتادة : والبأس القاسط : الظالم ، ومنه قول الشاعر : قوم هم قتلوا ابن هند عنوة

وهمو اقسطوا على النعمان

وجاء هذا التقسيم ، وإن كان قد تقدم { وَأَنَّا مِنَّا } ، ومنا دون ذلك ليذكر حال الفريقين من النجاة والهلكة ويرغب من يدخل في الإسلام . والظاهر أن { الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ } إلى آخر الشرطين من كلام الجن . و

قال ابن عطية : الوجه أن يكون { فَمَنْ أَسْلَمَ } مخاطبة من اللّه تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وسلم ويؤيده ما بعد من الآيات .

وقرأ الأعرج : رشداً ، بضم الراء وسكون الشين ؛ والجمهور : بفتحهما .

وقال الزمخشري : وقد زعم من لا يرى للجن ثواباً أن اللّه تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم ، وكفى به وعيداً ، أي فأولئك تحروا رشداً ، فذكر سبب الثواب وموجبه ، واللّه أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال في قوله وموجبه .

١٦

وأن لو استقاموا . . . . .

هذا من جملة الموحى المندرج تحت { أُوحِىَ إِلَيْكَ } ، وأن مخففة من الثقيلة ، والضمير في { اسْتَقَامُواْ } ، قال الضحاك والربيع بن أنس وزيد بن أسلم وأبو مجلز : هو عائد على قوله :{ فَمَنْ أَسْلَمَ } ، والطريقة : طريقة الكفر ، أي لو كفر من أسلم من الناس { لاَسْقَيْنَاهُم } إملاء لهم واستدراجاً واستعارة ، الاستقامة للكفر قلقة لا تناسب .

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جبير : هو عائد على القاسطين ، والمعنى على الطريقة الإسلام والحق ، لأنعمنا عليهم ، نحو قوله :{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ}

وقيل : الضمير في استقاموا عائد على الخلق كلهم ، وأن هي

المخففة من الثقيلة . { لاَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً } : كناية عن توسعة الرزق لأنه أصل المعاش .

وقال بعضهم : المال حيث الماء .

وقرأ الجمهور :{ غَدَقاً } بفتح الدال ؛ وعاصم في رواية الأعشى : بكسرها ؛

ويقال : غدقت العين تغدق غدقاً فهي غدقة ، إذا كثر ماؤها .

١٧

لنفتنهم فيه ومن . . . . .

{لِنَفْتِنَهُمْ } : أي لنختبرهم كيف يشكرون ما أنعم عليهم به ، أو لمنتحنهم ونستدرجهم ، وذلك على الخلاف في من يعود عليه الضمير في { اسْتَقَامُواْ}

وقرأ الأعمش وابن وثاب بضم واو لو ؛ والجمهور : بكسرها .

وقرأ الكوفيون :{ يَسْلُكْهُ } بالياء ؛ وباقي السبعة : بالنون ؛ وابن جندب : بالنون من أسلك ؛ وبعض التابعين : بالياء من أسلك أيضاً ، وهما لغتان : سلك وأسلك ، قال الشاعر :

حتى إذا أسلكوهم في قائدة

وقرأ الجمهور :{ صَعَداً } بفتحتين ، وذو مصدر صعد وصف به العذاب ، أي يعلو المعذب ويغلبه ، وفسر بشاق . يقال : فلان في صعد من أمره ، أي في مشقة . وقال عمر : ما يتصعد بي شيء كما يتصعد في خطبة النكاح ، أي ما يشق عليّ . وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس : صعد : جبل في النار . وقال الخدري : كلما وضعوا أيديهم عليه ذابت . وقال عكرمة : هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها ، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم ، فعلى هذا يجوز أن يكون بدلاً من عذاب على حذف مضاف ، أي عذاب صعد . ويجوز أن يكون صعداً مفعول يسلكه ، وعذاباً مفعول من أجله .

وقرأ قوم : صعداً بضمتين ؛ وابن عباس والحسن : بضم الصاد وفتح العين . قال الحسن : معناه لا راحة فيه .

١٨

وأن المساجد للّه . . . . .

وقرأ الجمهور : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ } ، بفتح الهمزة عطفاً على { أَنَّهُ اسْتَمَعَ } ، فهو من جملة الموحى . وقال الخليل : معنى الآية :{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للّه فَلاَ تَدْعُواْ } : أي لهذا السبب ، وكذلك عنده { لإِيلَافِ قُرَيْشٍ } ،{ فَلْيَعْبُدُواْ } ، وكذلك { وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ } : أي ولأن هذه .

وقرأ ابن هرمز وطلحة : وإن المساجد ، بكسرها على الاستئناف وعلى تقدير الخليل ،

فالمعنى : فلا تدعوا مع اللّه أحداً في المساجد لأنها للّه خاصة ولعبادته ، والظاهر أن المساجد هي البيوت المعدة للصلاة والعبادة في كل ملة . وقال الحسن : كل موضع سجد فيه فهو مسجد ، كان مخصوصاً لذلك أو لم يكن ، لأن الأرض كلها مسجد هذه الأمة . وأبعد ابن عطاء في قوله إنها الآراب التي يسجد عليها ، واحدها مسجد بفتح الجيم ، وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتان والقدمان عد الجبهة والأنف واحداً وأبعد أيضاً من قال المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد ، وقال : إنه جمع مسجد وهو السجود . وروي أنها نزلت حين تغلبت قريش على الكعبة ، فقيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : المواضع كلها للّه ، فاعبده حيث كنت . وقال ابن جبير : نزلت لأن الجن قالت : يا رسول اللّه ، كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك ؟ فنزلت الآية ليخاطبهم على معنى أن عبادتكم حيث كنتم مقبولة إذ دخلنا المساجد .

وقرأ الجمهور :{ وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللّه } بفتح الهمزة ، عطفاً على قراءتهم { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ } بالفتح .

وقرأ ابن هرمز وطلحة ونافع وأبو بكر . بكسرها على الاستئناف ؛

١٩

وأنه لما قام . . . . .

وعبد اللّه هو محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، { يَدْعُوهُ } : أي يدعو اللّه { كَادُواْ } : أي كاد الجن ، قال ابن عباس والضحاك : ينقضون عليه لاستماع القرآن . وقال الحسن وقتادة : الضمير في { كَادُواْ } لكفار قريش والعرب في اجتماعهم على رد أمره . وقال ابن جبير : المعنى أنها قول الجن لقومهم يحكمون ، والضمير في { كَادُواْ } لأصحابة الذين يطوعون له ويقيدون به في الصلاة .

قال الزمخشري :

فإن قلت : هلا قيل رسول اللّهأو النبي ؟

قلت : لأن تقديره وأوحي إليّ أنه لما قام عبد اللّه ، فلما كان واقعاً في كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن نفسه ، جيء به على ما

يقتضيه التواضع والتذلل ؛ أو لأن المعنى أن عبادة عبد اللّهللّه ليست بأمر مستعبد عن العقل ولا مستنكر حتى يكونوا عليه لبداً . ومعنى قام يدعوه : قام يعبده ، يريد قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن ، فاستمعوا لقراءته عليه السلام . { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } : أي يزدحمون عليه متراكمين ، تعجباً مما رأوا من عبادته ، واقتداء أصحابه به قائماً وراكعاً وساجداً ، وإعجاباً بما تلا من القرآن ، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله ، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره . انتهى ، وهو قول متقدم كثره الزمخشري بخطابته .

وقرأ الجمهور :{ لِبَداً } بكسر اللام وفتح الباء جمع لبدة ، نحو : كسرة وكسر ، وهي الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض ، ومنه قول عبد مناف بن ربيع : صافوا بستة أبيات وأربعة

حتى كأن عليهم جانباً لبداً

وقال ابن عباس : أعواناً .

وقرأ مجاهد وابن محيصن وابن عامر : بخلاف عنه بضم اللام جمع لبدة ، كزبرة وزبر ؛ وعن ابن محيصن أيضاً : تسكين الباء وضم اللام لبداً .

وقرأ الحسن والجحدري وأبو حيوة وجماعة عن أبي عمرو : بضمتين جمع لبد ، كرهن ورهن ، أو جمع لبود ، كصبور وصبر .

وقرأ الحسن والجحدري : بخلاف عنهما ، لبداً بضم اللام وشد الباء المفتوحة . قال الحسن وقتادة وابن زيد : لما قام الرسول للدعوة ، تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه ، فأبى اللّه إلا أن ينصره ويتم نوره . انتهى . وأبعد من قال عبد اللّه هنا نوح عليه السلام ، كاد قومه يقتلونه حتى استنقذه اللّه منهم ، قاله الحسن . وأبعد منه قول من قال إنه عبد اللّه بن سلام .

٢٠

قل إنما أدعو . . . . .

وقرأ الجمهور : قال إنما أدعوا ربي : أي أعبده ، أي قال للمتظاهرين عليه : { إِنَّمَا ادْعُواْ رَبّى } : أي لم آتكم بأمر ينكر ، إنما أعبد ربي وحده ، وليس ذلك مما يوجب إطباقكم على عداوتي . أو قال للجن عند ازدحامهم متعجبين : ليس ما ترون من عبادة اللّه بأمر يتعجب منه ، إنما يتعجب ممن يعبد غيره . أو قال الجن لقومهم : ذلك حكاية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهذا كله مرتب على الخلاف في عود الضمير في { كَادُواْ}

وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو بخلاف عنه :{ قُلْ } : أي قل يا محمد لهؤلاء المزدحمين عليك ، وهم إما الجن

وإما المشركون ، على اختلاف القولين في ضمير { كَادُواْ}

٢١

قل إني لا . . . . .

ثم أمره تعالى أن يقول لهم ما يدل على تبرئه من القدرة على إيصال خير أو شر إليهم ، وجعل الضر مقابلاً للرشد تعبيراً به عن الغي ، إذ الغي ثمرته الضرر ، يمكن أن يكون المعنى : ضراً ولا نفعاً ولا غياً ولا رشد ، فحذف من كل ما يدل عليه مقابله . قرأ الأعرج : رشداً بضمتين .

٢٢

قل إني لن . . . . .

ولما تبرأ عليه السلام من قدرته على نفعهم وضرهم ، أمر بأن يخبرهم بأنه مربوب للّه تعالى ، يفعل فيه ربه ما يريد ، وأنه لا يمكن أن يجبره منه أحد ، ولا يجد من دونه ملجأ يركن إليه ، قال قريباً منه قتادة . وقال السدي : حرزاً . وقال الكلبي : مدخلاً في الأرض ،

وقيل : ناصراً ،

وقيل : مذهباً ومسلكاً ، ومنه قول الشاعر : يا لهف نفسي ونفسي غير مجدية

عني وما من قضاء اللّه ملتحد

وقيل : في الكلام حذف وهو : قالوا له أترك ما ندعو إليه ونحن نجيرك ، فقيل له : قل لن يجيرني .

وقيل : هو جواب لقول وردان سيد الجن ، وقد ازدحموا عليه ، قال وردان : أنا أرحلهم عنك ، فقال : إني لن يجبرني أحد ، ذكره الماوردي .

٢٣

إلا بلاغا من . . . . .

{إِلاَّ بَلاَغاً } ، قال الحسن : هو استثناء منقطع ، أي لن يجيرني أحد ، لكن إن بلغت رحمني بذلك . والإجارة للبلاغ مستعارة ، إذ هو سبب إجارة اللّه تعالى ورحمته .

وقيل على هذا المعنى : هو استثناء متصل ، أي لن يجيرني في أحد ، لكن لم أجد شيئاً أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيزني اللّه ، فيجوز نصبه على الاستثناء من ملتحداً وعلى

البدل وهو الوجه ، لأن ما قبله نفياً ، وعلى البدل خرجه الزجاج . وقال أبو عبد اللّه الرازي : هذا الاستثناء منقطع ، لأنه لم يقل : ولم أجد ملتحداً بل ، قال : { مِن دُونِهِ } ؛ والبلاغ من اللّه لا يكون داخلاً تحت قوله :{ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } لأنه لا يكون من دون اللّه ، بل يكون من اللّه وبإعانته وتوفيقه . وقال قتادة : التقدير لا أملك إلا بلاغاً إليكم ، فأما الإيمان والكفر فلا أملك . انتهى ، وفيه بعد لطول الفصل بينهما .

وقيل ، إلا في تقدير الانفصال : إن شرطية ولا نافية ، وحذف فعلها لدلالة المصدر عليه ، والتقدير : إن لم أبلغ بلاغاً من اللّه ورسالته ، وهذا كما تقول : إن لا قياماً قعوداً ، أي إن لم تقيم قياماً فاقعد قعوداً ، وحذف هذا الفعل قد يكون لدلالة عليه بعده أو قبله ، كما حذف في قوله : فطلقها فلست لها بكفء

وإلا يعل مفرقك الحسام

التقدير : وإن لا تطقها ، فحذف تطلقها لدلالة فطلقها عليه ، ومن لابتداء الغاية .

وقال الزمخشري : تابعاً لقتادة ، أي لا أملك إلا بلاغاً من اللّه ، و { قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى } : جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه على معنى إن اللّه إن أراد به سوأ من مرض أو موت أو غيرهما لم يصح أن يجيره منه أحد أو يجد من دونه ملاذاً يأوي إليه . انتهى .{ وَرِسَالَاتِهِ } ،قيل : عطف على { بَلاَغاً } ،أي إلا أن أبلغ عن اللّه ، أو أبلغ رسالاته . الظاهر أن رسالاته عطف على اللّه ، أي إلا أن أبلغ عن اللّه وعن رسالاته .{ وَمَن يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ } : أي بالشرك والكفر ، ويدل عليه قوله :{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}

وقرأ الجمهور :{ فَإِنَّ لَهُ } بكسر الهمزة .

وقرأ طلحة : بفتحها ، والتقدير : فجزاؤه أن له . قال ابن خالويه : وسمعت ابن مجاهد يقول : ما قرأ به أحد وهو لحن ، لأنه بعد فاء الشرط . وسمعت ابن الأنباري يقول : هو ضراب ، ومعناه : فجزاؤه أن له نار جهنم . انتهى . وكان ابن مجاهد إماماً في القراآت ، ولم يكن متسع النقل فيها كابن شنبوذ ، وكان ضعيفاً في النحو . وكيف يقول ما قرأ به أحد ؟ وهذا كطلحة بن مصرّف قرأ به . وكيف يقول وهو لحن ؟ والنحويون قد نصوا على أن إن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر . وجمع { خَالِدِينَ حِمْلاً } على معنى من ، وذلك بعد الحمل على لفظ من في قوله :{ يَعْصِ } ،{ فَإِنَّ لَهُ}

٢٤

حتى إذا رأوا . . . . .

{حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ } : حتى هنا حرف ابتداء ، أي يصلح أن يجيء بعدها جملة الابتداء والخبر ، ومع ذلك فيها معنى الغاية .

قال الزمخشري :

فإن قلت : بم تعلق حتى وجعل ما بعده غاية له ؟

قلت : بقوله { يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } ، على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون عددهم { حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } من يوم بدر ، وإظهار اللّه له عليهم ، أو من يوم القيامة ، { فَسَيَعْلَمُونَ } حينئذ أنهم { أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده ، كأنه لا يزالون على ما هم عليه { حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} قال المشركون : متى يكون هذا الموعد إنكاراً له ؟ فقيل : قل إنه كائن لا ريب فيه فلا تنكروه ، فإن اللّه قد وعد ذلك ، وهو لا يخلف الميعاد .

وأما وقته فلا أدري متى يكون ، لأن اللّه لم يبينه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة . انتهى . وقوله : بم تعلق إن ؟ عنى تعلق حرف الجر ، فليس بصحيح لأنها حرف ابتداء ، فما بعدها ليس في موضع جر خلافاً للزجاج وابن درستوية ، فإنهما زعما أنها إذا كانت حرف ابتداء ، فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر ؛ وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها ، وكون ما بعدها غاية لما قبلها ، فهو صحيح .

وأما تقديره أنها تتعلق بقوله :{ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } ، فهو بعيد جداً لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة . وقال التبريزي : حتى جاز أن تكون غاية لمحذوف ، ولم يبين ما المحذوف .

وقيل : المعنى دعهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من الساعة ، { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } ، أهم أم أهل الكتاب ؟ والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم بكينونة النار لهم ، كأنه قيل : إن العاصي يحكم له بكينونة النار لهم ،

والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فسيعلمون . فقوله : { فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } هو وعيد لهم بالنار ، ومن أضعف مبتدأ وخبر في موضع نصب لما قبله ، وهو معلق عنه لأن من استفهام . ويجوز أن تكون من موصولة في موضع نصب بسيعلمون ، وأضعف خبر مبتدأ محذوف . والجملة صلة لمن ، وتقديره : هو أضعف ، وحسن حذفه طول الصلة بالمعمول وهو ناصراً . قال مكحول : لم ينزل هذا إلا في الجن ، أسلم منهم من وفق وكفر من خذل كالإنس ، قال : وبلغ من تابع النبي صلى اللّه عليه وسلم ليلة الجن سبعين ألفاً ، وفزعوا عند انشقاق الفجر .

٢٥

قل إن أدري . . . . .

ثم أمره تعالى أن يقول لهم إنه لا يدري وقت طول ما وعدوا به ، أهو قريب أم بعيد ؟ .

قال الزمخشري :

فإن قلت : ما معنى قوله : { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً } ، والأمد يكون قريباً وبعيداً ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى :{ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا } ؟

قلت : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستقرب الموعد ، فكأنه قال : { ما أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم مؤجل ضربت له غاية } ؟

٢٦

انظر تفسير الآية:٢٧

٢٧

عالم الغيب فلا . . . . .

أي هو عالم الغيب . { فَلاَ يُظْهِرُ } : فلا يطلع ، و { مِن رَّسُولٍ } تبيين لمن ارتضى ، يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضي الذي هو مصطفى للنبوّة خاصة ، لا كل مرتضي ، وفي هذه إبطال للكرامات ، لأن الذين تضاف إليهم ، وإن كانوا أولياء مرتضين ، فليسوا برسل . وقد خص اللّه الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم ، لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط . انتهى .

وقال ابن عباس :{ عَالِمُ الْغَيْبِ } ، قال الحسن : ما غاب عن خلقه ،

وقيل : الساعة .

وقال ابن عباس : إلا بمعنى لكن ، فجعله استثناء منقطعاً .

وقيل : إلا بمعنى ولا أي ، ولا من ارتضى من رسول وعالم خبر مبتدأ محذوف ، أي هو عالم الغيب ، أو بدل من ربي . وقرىء : عالم بالنصب على المدح . وقال السدّي : علم الغيب ، فعلاً ماضياً ناصباً ، والجمهور : عالم الغيب اسم فاعل مرفوعاً .

وقرأ الجمهور :{ فَلاَ يُظْهِرُ } من أظهر ؛ والحسن : يظهر بفتح الياء والهاء من ظهر ، { إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } : استثناء من أحداً ، أي فإنه يظهره على ما يشاء من ذلك ، فإنه يسلك اللّه من بين يدي ذلك الرسول ، { وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } : أي حفظة يحفظونه من الجن ويحرسونه في ضبط ما يلقيه تعالى إلى ذلك الرسول من علم الغيب . وعن الضحاك : ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك .

وقال القرطبي : قال العلماء : لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه ، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم ، ثم ذكر استدلالاً على بطلان ما يقوله المنجم ، ثم قال باستحلال دم المنجم . وقال الواحدي : في هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدل على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن . قال أبو عبد اللّه الرازي والواحدي : تجوز الكرامات على ما قال صاحب الكشاف ، فجعلها تدل على المنع من الأحكام النجومية ولا تدل على الإلهامات مجرد تشبه ، وعندي أن الآية لا تدل على شيء مما قالوه ، لأن قوله :{ عَلَى غَيْبِهِ } ليس فيه صفة عموم ، فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر خلقه تعالى على غيب واحد من غيوبه ، ويحمله على وقت قيام القيامة فلا يبقى دليل في الآية على أنه لا يظهر شيئاً من الغيوب لأحد ، ويؤكده أنه ذكر هذه الآية عقيب قوله :{ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } الآية : أي لا أدري وقت وقوع القيامة ، إذ هي من الغيب الذي لا يظهره اللّه لأحد . و { إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى } : استثناء منقطع ، كأنه قال : فلا يظهر على غيبه المخصوص أحداً إلا من ارتضى من رسول ، فله حفظة يحفظونه من شرّ مردة الإنس والجن .

قال أبو عبد اللّه الرازي : واعلم أنه لا بد من القطع بأنه ليس المراد من هذه الآية أنه لا يطلع أحد على شيء من المغيبات إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام ، والذي يدل عليه وجوه :

أحدها : أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور محمد صلى اللّه عليه وسلم قبل زمان ظهوره ، وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا صلى اللّه عليه وسلم. وثانيها : إطباق الأمم على صحة علم التعبير ، فيخبر المعبر عن ما

يأتي في المستقبل ويكون صادقاً . وثالثها : أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملكشاه من بغداد إلى خراسان سألها عن أشياء في المستقبل فأخبرت بها ووقعت على وفق كلامها ، فقد رأيت أناساً محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة على سبيل التفصيل وجاءت كذلك ، وبالغ أبو البركات صاحب المعتبر في شرح حالها في كتاب التعبير وقال : فحصت عن حالها منذ ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات أخباراً مطابقة موافقة . ورابعها : أنا نشاهد أصحاب الإلهامات الصادقة ، ليس هذا مختصاً بالأولياء ، فقد يوجد في السحرة وفي الأحكام النجومية ما يوافق الصدق ، وإن كان الكذب يقع منهم كثيراً . وإذا كان ذلك مشاهداً محسوساً ، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن ، وذلك بأطل . فقلنا : إن التأويل الصحيح ما ذكرناه . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وإنما أوردنا كلام هذا الرجل في هذه المسألة لننظر فيما ذكر من تلك الوجوه .

أما قصة شق وسطيح فليس فيها شيء من الإخبار بالغيب ، لأنه مما يخبر به رئي الكهان من الشياطين مسترقة السمع ، كما جاء في الحديث :  { إنهم يسمعون الكلمة ويكذبون ويلقون إلى الكهنة ويزيد الكهنة للكلمة مائة كذبة} . وليس هذا من علم الغيب ، إذ تكلمت به الملائكة ، وتلقفها الجني ، وتلقفها منه الكاهن ؛ فالكاهن لم يعلم الغيب .

وأما تعبير المنامات ، فالمعبر غير المعصوم لا يعبر بذلك على سبيل البت والقطع ، بل على سبيل الحزر والتخمين ، وقد يقع ما يعبر به وقد لا يقع .

وأما الكاهنة البغدادية وما حكي عنها فحسبه عقلاً أن يستدل بأحوال امرأة لم يشاهدها ، ولو شاهد ذلك لكان في عقله ما يجوز أنه لبس عليه هذا ، وهو العالم المصنف الذي طبق ذكره الآفاق ، وهو الذي شكك في دلائل الفلاسفة وسامهم الخسف .

وأما حكايته عن صاحب المعتبر ، فهو يهودي أظهر إسلامه وهو منتحل طريقة الفلاسفة .

وأما مشاهدته أصحاب الإلهامات الصادقة ، فلي من العمر نحو من ثلاث وسبعين سنة أصحب العلماء وأتردد إلى من ينتمي إلى الصلاح ، فلم أر أحداً منهم صاحب إلهام صادق .

وأما الكرامات ، فلا أشك في صدور شيء منها ، لكن ذلك على سبيل الندرة ، وذلك في من سلف من صلحاء هذه الأمة ؛ وربما قد يكون في أعصارنا من تصدر منه الكرامات ، وللّه تعالى أن يخص من شاء بما شاء واللّه الموفق .

٢٨

ليعلم أن قد . . . . .

وقرأ الجمهور : { لِيَعْلَمَ } مبنياً للفاعل . قال قتادة : ليعلم محمد صلى اللّه عليه وسلم أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم وحفظوا . وقال ابن جبير : ليعلم محمد أن الملائكة الحفظة الرصد النازلين بين يدي جبريل وخلفه قد أبلغوا رسالات ربهم . وقال مجاهد : ليعلم من أشرك وكذب أن الرسل قد بلغت ، وعلى هذا القول لا يقع لهم هذا العلم إلا في الآخرة .

وقيل : ليعلم اللّه رسله مبلغة خارجة إلى الوجود ، لأن علمه بكل شيء قد سبق . واختار الزمخشري هذا القول الأخير فقال :{ لِيَعْلَمَ اللّه أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبّهِمْ } : يعني الأنبياء . وحد أولاً على اللفظ في قوله :{ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } ، ثم جمع على المعنى كقوله :{ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ } ، والمعنى : ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان ، وذكر العلم كذكره في قوله { حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ} انتهى .

وقيل :{ لِيَعْلَمَ } ،أي : أيّ رسول كان أن الرسل سواه بلغوا .

وقيل : ليعلم إبليس أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه وإسراف أصحابه .

وقيل : ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم .

وقيل : ليعلم محمد أن قد بلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه .

وقيل : ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم ، ولم يكونوا هم المتلقين بإستراق السمع .

وقرأ ابن عباس وزيد بن عليّ : ليعلم ، بضم الياء مبنياً للمفعول ؛ والزهري وابن أبي عبلة : بضم الياء وكسر اللام ، أي ليعلم اللّه ، أي من شاء أن يعلمه ، أن الرسل قد أبلغوا رسالاته .

وقرأ الجمهور :{ رِسَالاتِ } على الجمع ؛ وأبو حيوة : على الإفراد .

وقرأ الجمهور :{ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } : وأحاط مبنياً للفاعل ، أي اللّه، { وَأَحْصَى } : مبنياً للفاعل ، أي اللّه كل نصباً ؛ وابن أبي عبلة : وأحيط وأحصى مبنياً للمفعول كل رفعاً . ولما كان ليعلم مضمناً معنى علم ، صار المعنى : قد علم ذلك ، فعطف وأحاط على هذا الضمير ، والمعنى : وأحاط بما عند الرسل من الحكم والشرائع

لا يفوته منها شيء . { وَأَحْصَى كُلَّ شَىْء عَدَداً } : أي معدوداً محصوراً ، وانتصابه على الحال من كل شيء ، وإن كان نكرة لاندراج المعرفة في العموم . ويجوز أن ينتصب نصب المصدر لأحصى لأنه في معنى إحصاء . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون تمييزاً . انتهى ، فيكون منقولاً من المفعول ، إذا أصله : وأحصى عدد كل شيء ، وفي كونه ثابتاً من لسان العرب خلاف .

﴿ ٠