سورة الجن

مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

قل أوحي إلي . . . . .

الجد : لغة العظمة والجلال ، وجد في عيني : عظم وجل . وقال أبو عبيدة والأخفش : الملك والسلطان ، والجد : الحظ ، والجد : أبو الأب . الحرس : اسم جمع ، الواحد حارس ، كغيب واحده غائب ، وقد جمع على أحراس . قال الشاعر :

تجاوزت أحراساً وأهوال معشر كشاهد وأشهاد ، والحارس : الحافظ للشيء يرقبه . القدد : السير المختلفة ، الواحدة قدة . قال الشاعر : القابض الباسط الهادي بطاعته

في قنية الناس إذ أهواؤهم قدد

وقال الكميت : جمعت بالرأي منهم كل رافضة

إذ هم طرائق في أهوائهم قدد

تحرى الشيء : طلبه باجتهاد وتوخاه وقصده . الغدق : الكثير . اللبد ، جمع لبدة : وهو تراكم بعضه فوق بعض ، ومنه لبدة الأسد . ويقال للجراد الكثير المتراكم : لبد ، ومنه اللبد الذي يفرش ، يلبد صوفه : دخل بعضه في بعض .

هذه السورة مكية . ووجه مناسبتها لما قبلها : أنه لما حكي تمادي قوم نوح في الكفر وعكوفهم على عبادة الأصنام ، وكان عليه الصلاة والسلام أول رسول إلى الأرض ؛ كما أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم آخر رسول إلى الأرض ، والعرب الذي هو منهم عليه الصلاة والسلام كانوا عباد أصنام كقوم نوح ، حتى أنهم عبدوا أصناماً مثل أصنام أولئك في الأسماء ، وكان ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم من القرآن هادياً إلى الرشد ، وقد سمعته العرب ، وتوقف عن الإيمان به أكثرهم ، أنزل اللّه تعالى سورة الجن إثر سورة نوح ، تبكيتاً لقريش والعرب في كونهم تباطؤا عن الإيمان ، إذ كانت الجن خيراً لهم وأقبل للإيمان ، هذا وهم من غير جنس الرسول صلى اللّه عليه وسلم ؛ ومع ذلك فبنفس ما سمعوا القرآن استعظموه وآمنوا به للوقت ، وعرفوا أنه ليس من نمط كلام الناس ، بخلاف العرب فإنه نزل بلسانهم وعرفوا كونه معجزاً ، وهم مع ذلك مكذبون له ولمن جاء به حسداً وبغياً أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء من عباده .

وقرأ الجمهور :{ قُلْ أُوحِىَ } رباعياً ؛ وابن أبي عبلة والعتكي ، عن أبي عمرو ، وأبو أناس جوية بن عائذ الأسدي : وحى ثلاثياً ، يقال : وحى وأوحى بمعنى واحد . قال العجاج

وحى إليها القرار فاستقرت .

وقرأ زيد بن عليّ وجوية ، فيما روي عن الكسائي وابن أبي عبلة أيضاً : أحى بإبدال الواو همزة ، كما قالوا في وعد أعد .

وقال الزمخشري : وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة . انتهى . وليس كما ذكر ، بل في ذلك تفصيل ، وذلك أن الواو المضمومة قد تكون أولاً وحشواً وآخراً ، ولكل منها أحكام ، وفي بعضها خلاف وتفصيل مذكور في النحو .

قال الزمخشري : وقد أطلقه المازني في المكسور أيضاً ، كإشاح وإسادة وإعاء أخيه . انتهى ، وهذا تكثير وتبجح . وكان يذكر هذا في { وِعَاء أَخِيهِ } في سورة يوسف . وعن المازني في ذلك قولان :

أحدهما : القياس كما قال ، والآخر : قصر ذلك على السماع .

و { أَنَّهُ اسْتَمَعَ } في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ؛ أي استماع { نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ } ، والمشهور أن هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف في قوله تعالى :{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءانَ } ، وهي قصة واحدة .

وقيل : قصتان ، والجن الذين أتوه بمكة جن نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جن نينوي ، والسورة التي استمعوها ، قال عكرمة :{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ}

وقيل : سورة الرحمن . ولم تتعرض الآية ، لا هنا ولا في سورة الأحقاف ، إلى أنه رآهم وكلمهم عليه الصلاة والسلام . ويظهر من الحديث } أن ذلك كان مرتين : إحداهما : في مبدأ مبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو في الوقت الذي أخبر فيه عبد اللّه بن مسعود أنه لم يكن معه ليلة الجن ، وقد كانوا فقدوه عليه الصلاة والسلام ، فالتمسوه في الأودية والشعاب فلم يجدوه . فلما أصبح ، إذا هو جاء من قبل حراء ، وفيه أتاني داعي الجن ، فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن ، فانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نارهم . والمرة الآخرى : كان معه ابن مسعود ، وقد استندب صلى اللّه عليه وسلم من يقوم معه إلى أن يتلو القرآن على الجن ، فلم يقم أحد غير عبد اللّه بن مسعود ، فذهب معه إلى الحجون عند الشعب ، فخط على ه خطاً وقال : لا تجاوزه . فانحدر عليه صلى اللّه عليه وسلم أمثال الحجر يجرون الحجارة بأقدامهم يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفهن حتى غشوه فلا أراه فقمت فأومأ إليّ بيده أن اجلس فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع واختفوا في الأرض حتى ما أراهم} . الحديث . ويدل على أنهما قصتان ، اختلافهم في العدد ، فقيل : سبعة ،

وقيل : تسعة ، وعن زر : كانوا ثلاثة من أهل حران ، وأربعة من أهل نصيبين ، قرية باليمن غير القرية التي بالعراق . وعن عكرمة : كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل ، وأين سبعة من اثني عشر ألفاً ؟

{فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً } : أي قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم ، ووصفوا قرآناً بقولهم { عَجَبًا } وصفاً بالمصدر على سبيل المبالغة ، أي هو عجب في نفسه لفصاحة كلامه ، وحسن مبانيه ، ودقة معانيه ، وغرابة أسلوبه ، وبلاغة مواعظه ، وكونه مبايناً لسائر الكتب . والعجب ما خرج عن أحد أشكاله ونظائره .

﴿ ١