سورة المدثرمكية بسم اللّه الرحمن الرحيم ١يا أيها المدثر تدثر : لبس الدثار ، وهو الثوب الذي فوق الشعار ، والشعار : الثوب الذي يلي الجسد ، ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم : { الأنصار شعار والناس دثار} . النقر : الصوت ، قال الشاعر : أخفضه بالنقر لما علوته ويرفع طرفاً غير خاف غضيض وقال الراجز : أنا ابن ماوية إذ جد النقر يريد النقر ، فنقل الحركة ، فالناقور فاعول منه ، كالجاسوس مأخوذ من التجسس . عبس يعبس عبساً وعبوساً : قطب ، والعبس : ما تعلق بأذناب الإبل من أبعارها وأبوالها . قال أبو النجم : كأن في أذنابهن الشوّل من عبس الضيف قرون الإبل بسر : قبض ما بين عينيه وأربد وجهه ، قال : صحبنا تميماً غداة الجفار بشهباً ملومة باسره وأهل اليمن يقولون : بسر المركب وأبسر إذا وقف ، وقد أبسرنا ، وتقول العرب : وجه باسر بين البسور ، إذا تغير واسود ، لاحه البسر : غير خلقته ، قال : تقول ما لاحك يا مسافر يا ابنة عمي لاحنى الهواجر وقال آخر : وتعجب هند إن رأتني شاحباً تقول لشيء لوحته السمائم وقال الأخفش : اللوح : شدة العطش ، لاحه العطش ولوحه غيره . وقال الشاعر : سقتني على لوح من الماء شربة سقاها به اللّه الرهام الغواديا ويقال : التاح ، أي عطا . القسورة : الرماة والصيادون ، قاله ابن كيسان ؛ أو الأسد ، قاله جماعة من اللغويين ، قال مضمر تحدره الأبطال كأنه القسورة الريبال أو الرجال الشداد ، قال لبيد : إذا ما هتفنا هتفة في ندينا أتانا الرجال الصائدون القساور أو ظلمة أول الليل لا ظلمة آخره ، قاله ابن الأعرابي وثعلب . هذه السورة مكية ، قال ابن عطية بإجماع . وفي التحرير ، قال مقاتل : إلا آية وهي :{ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً} ومناسبتها لما قبلها أن في ما قبلها { ذَرْنِى وَالْمُكَذّبِينَ } ، وفيه { إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ } ، فناسب { رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ } ، وناسب ذكر يوم القيامة بعد ، وذكر بعض المكذبين في قوله :{ ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} قال الجمهور : لما فزع من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض ورعب منه ، رجع إلى خديجة فقال : زملوني دثروني ، نزلت { رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ} قال النخعي وقتادة وعائشة : نودي وهو في حال تدثره ، فدعى بحال من أحواله . وروي أنه كان تدثر في قطيفة . قيل : وكان يسمع من قريش ما كرهه ، فاغتم وتغطى بثوبه مفكراً ، فأمر أن لا يدع إنذارهم وإن أسمعوه وآذوه . وقال عكرمة معناه : يا أيها المدثر للنبوة وأثقالها ، كما قال في المزمل . وقرأ الجمهور :{ الْمُدَّثّرُ } بشد الدال . وأصله المتدثر فأدغم ، وكذا هو في حرف أبي على الأصل . وقرأ عكرمة : بتخفيف الدال ، كما قرىء بتخفيف الزاي في المزمل ، أي دثر نفسه . وعن عكرمة أيضاً : فتح التاء اسم مفعول ، وقال : دثرت هذا الأمر وعصب بك . ٢قم فأنذر {قُمْ فَأَنذِرْ } : أي قم من مضجعك ، أو قم بمعنى الأخذ في الشيء ، كما تقول : قام زيد يضرب عمراً ، أي أخذ ، وكما قال : علام قام يشتمني لئيم أي أخذ ، والمعنى قم قيام تصميم وجد ، { فَأَنذِرْ } : أي حذر عذاب اللّه ووقائعه ، والإنذار عام بجميع الناس وبعثه إلى الخلق . ٣وربك فكبر {وَرَبَّكَ فَكَبّرْ } : أي فعظم كبرياءه . وقال الزمخشري : واختص ربك بالتكبير ، وهو الوصف بالكبرياء ، وأن يقال : اللّه أكبر . انتهى . وهذا على مذهبه من أن تقديم المفعول على الفعل يدل على الاختصاص ، قال : ودخلت الفاء لمعنى الشرط ، كأنه قيل : وما كان فلا تدع تكبيره . انتهى . وهو قريب مما قدره النحاة في قولك : زيدا فاضرب ، قالوا تقديره : تنبه فاضرب زيداً ، فالفاء هي جواب الأمر ، وهذا الأمر إما مضمن معنى الشرط ، وإما الشرط بعده محذوف على الخلاف الذي فيه عند النحاة . ٤وثيابك فطهر {وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ } : الظاهر أنه أمر بتطهير الثياب من النجاسات ، لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة ، ويقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة ، والقول بأنها الثياب حقيقة هو قول ابن سيرين وابن زيد والشافعي ، ومن هذه الآية ذهب الشافعي إلى وجوب غسل النجاسة من ثياب المصلي . وقيل : تطهيرها : تقصيرها ، ومخالفة العرب في تطويل الثياب وجرهم الذيول على سبيل الفخر والتكبر ، قال الشاعر : ثم راحوا عبق المسك بهم يلحفون الأرض هداب الأزر ولا يؤمن من أصابتها النجاسة وفي الحديث : { أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، ما كان أسفل من ذلك ففي النار} . وذهب الجمهور إلى أن الثياب هنا مجاز . فقال ابن عباس والضحاك : تطهيرها أن لا تكون تتلبس بالقذر . وقال ابن عباس وابن جبير أيضاً : كنى بالثياب عن القلب ، كما قال امرؤ القيس : فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي أي قلبي من قلبك وعلى الطهارة من القذر ، وأنشد قول غيلان بن سلمة الثقفي : إني بحمد اللّه لا ثوب غادر لبست ولا من خزية أتقنع وقيل : كناية عن طهارة العمل ، المعنى : وعملك فأصلح ، قاله مجاهد وابن زيد . وقال ابن زيد : إذا كان الرجل خبيث العمل قالوا : فلان خبيث الثياب ؛ وإذا كان حسن العمل قالوا : فلان طاهر الثياب ، ونحو هذا عن السدي ، ومنه قول الشاعر : لا هم إن عامر بن جهم أو ذم حجا في ثياب دسم أي : دنسة بالمعاصي ، وقيل : كنى عن النفس بالثياب ، قاله ابن عباس . قال الشاعر : فشككت بالرمح الطويل ثيابه وقال آخر : ثياب بني عوف طهارى نقية وأوجههم بيض سافر غران أي : أنفسهم . وقيل : كنى بها عن الجسم . قالت ليلى وقد ذكرت إبلاً : رموها بأثواب خفاف فلا نرى لها شبهاً إلا النعام المنفرا أي : ركبوها فرموها بأنفسهم . وقيل : كناية عن الأهل ، قال تعالى :{ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } ، والتطهر فيهن اختيار المؤمنات العفائف . وقيل : وطئهن في القبل لا في الدبر ، في الطهر لا في الحيض ، حكاه ابن بحر . وقيل : كناية عن الخلق ، أي وخلقك فحسن ، قاله الحسن والقرطبي ، ومنه قوله : ويحيى ما يلائم سوء خلق ويحيى طاهر الأثواب حر أي : حسن الأخلاق . ٥والرجز فاهجر وقرأ الجمهور : والرجز بكسر الراء ، وهي لغة قريش ؛ والحسن ومجاهد والسلمي وأبو جعفر وأبو شيبة وابن محيصن وابن وثاب وقتادة والنخعي وابن أبي إسحاق والأعرج وحفص : بضمها ، فقيل : هما بمعنى واحد ، يراد بهما الأصنام والأوثان . وقيل : الكسر للبين والنقائص والفجور ، والضم لصنمين أساف ونائلة . وقال عكرمة ومجاهد والزهري : للأصنام عموماً . وقال ابن عباس : الرجز : السخط ، أي اهجر ما يؤدي إليه . وقال الحسن : كل معصية ، والمعنى في الأمر : اثبت ودم على هجره ، لأنه صلى اللّه عليه وسلم كان بريئاً منه . وقال النخعي : الرجز : الإثم . وقال القتبي : العذاب ، أي اهجر ما يؤدي إليه . ٦ولا تمنن تستكثر وقرأ الجمهور : { وَلاَ تَمْنُن } ، بفك التضعيف ؛ والحسن وأبو السمال : بشد النون . قال ابن عباس وغيره : لا تعط عطاء لتعطي أكثر منه ، كأنه من قولهم : منّ إذا أعطى . قال الضحاك : هذا خاص به صلى اللّه عليه وسلم ، ومباح ذلك لأمته ، لكنه لا أجر لهم . وعن ابن عباس أيضاً : لا تقل دعوت فلم أجب . وعن قتادة : لا تدل بعملك . وعن ابن زيد : لا تمنن بنبوتك ، تستكثر بأجر أو كسب تطلبه منهم . وقال الحسن : تمنن على اللّه بجدك ، تستكثر أعمالك ويقع لك بها إعجاب ، وهذه الأقوال كلها من المنّ تعداد اليد وذكرها . وقال مجاهد :{ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } ما حملناك من أعباء الرسالة ، أو تستكثر من الخير ، من قولهم : حبل متين : أي ضعيف . وقيل : ولا تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه . وقرأ الجمهور : تستكثر برفع الراء ، والجملة حالية ، أي مستكثراً . قال الزمخشري : ويجوز في الرفع أن تحذف أن ويبطل عملها ، كما روي : أحضر الوغى بالرفع . انتهى ، وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه ، لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر ، ولنا مندوحة عنه مع صحة الحال ، أي مستكثراً . وقرأ الحسن وابن أبي عبلة : بجزم الراء ، ووجهه أنه بدل من تمنن ، أي لا تستكثر ، كقوله :{ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ } في قراءة من جزم ، بدلاً من قوله :{ يَلْقَ } ، وكقوله : متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطباً جزًلا وناراً تأججا ويكون من المن الذي في قوله تعالى :{ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى } ، لأن من شأن المان أن يستكثر ما يعطي أن يراه كثيراً ويعتد به ؛ وأجاز الزمخشري فيه وجهين ، أحدهما : أن تشبه ثرو بعضد فتسكن تخفيفاً ؛ والثاني : أن يعتبر حال الوقف ، يعني فيجري الوصل مجرى الوقف ، وهذان لا يجوز أن يحمل القرآن عليهما مع وجود ما هو راجح عليهما ، وهو المبدل . وقرأ الحسن أيضاً والأعمش : تستكثر بنصب الراء ، أي لن تحقرها . وقرأ ابن مسعود : أن تستكثر ، بإظهار أن . ٧ولربك فاصبر {وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ } : أي لوجه ربك أمره بالصبر ، فيتناول الصبر على تكاليف النبوة ، وعلى أداء طاعة اللّه ، وعلى أذى الكفار . قال ابن زيد : على حرب الأحمر والأسود ، فكل مصبور عليه ومصبور عنه يندرج في الصبر . ٨فإذا نقر في . . . . . وقال الزمخشري : والفاء في قوله : { فَإِذَا نُقِرَ } للتسبب ، كأنه قيل : فاصبر على أذاهم ، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك عليه . ٩فذلك يومئذ يوم . . . . . وقال الزمخشري : والفاء في { فَذَلِكَ } للجزاء . فإن قلت : بم انتصب إذا ، وكيف صح أن يقع يومئذ ظرفاً ليوم عسير ؟ قلت : انتصب إذا بما دل عليه الجزاء ، لأن المعنى : { فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ } ، عسر الأمر على الكافرين ؛ والذي أجاز وقوع يومئذ ظرفاً ليوم عسير أن المعنى : فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير ، لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور . ويجوز أن يكون يومئذ مبنياً مرفوع المحل بدلاً من ذلك ، ويوم عسير خبر ، كأنه قيل : فيوم النقر يوم عسير . فإن قلت : فما فائدة قوله :{ غَيْرُ يَسِيرٍ } ، وعسير مغن عنه ؟ قلت : لما قال { عَلَى الْكَافِرِينَ } فقصر العسر عليهم ، قال { غَيْرُ يَسِيرٍ } ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيراً هيناً ، فيجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم . ويجوز أن يراد به عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً ، كما يرجى بيسير العسير من أمور الدنيا . انتهى . وقال الحوفي :{ فَإِذَا } ، إذا متعلقة بأنذر ، أي فأنذرهم إذا نقر في الناقورة ، قال أبو البقاء : يجري على القول الأخفش أن تكون إذا مبتدأ والخبر فذلك والفاء زائدة . فأما يومئذ فظرف لذلك ، ١٠على الكافرين غير . . . . . وأجاز أبو البقاء أن يتعلق على الكافرين بيسير ، أي غير يسير ، أي غير سهل على الكافرين ؛ وينبغي أن لا يجوز ، لأن فيه تقديم معمول العامل المضاف إليه غير على العامل ، وهو ممنوع على الصحيح ؛ وقد أجازه بعضهم فيقول : أنا بزيد غير راض . ١١ذرني ومن خلقت . . . . . {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } : لا خلاف أنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي ، فروي أنه كان يلقب بالوحيد ، أي لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته . والظاهر انتصاب وحيداً على الحال من الضمير المحذوف العائد على من ، أي خلقته منفرداً ذليلاً قليلاً لا مال له ولا ولد ، فآتاه اللّه تعالى المال والولد ، فكفر نعمته وأشرك به واستهزأ بدينه . وقيل : حال من ضمير النصب في ذرني ، قاله مجاهد ، أي ذرني وحدي معه ، فأنا أجزيك في الانتقام منه ؛ أو حال من التاء في خلقت ، أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقي أحد ، فأنا أهلكه لا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه . وقيل : وحيداً لا يتبين أبوه . وكان الوليد معروفاً بأنه دعي ، كما تقدم في قوله تعالى :{ عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } ، وإذا كان يدعى وحيداً ، فلا يجوز أن ينتصب على الذم ، لأنه لا يجوز أن يصدقه اللّه تعالى في أنه وحيداً لا نظير له . ورد ذلك بأنه لما لقب بذلك صار علماً ، والعلم لا يفيد في المسمى صفة ، وأيضاً فيمكن حمله على أنه وحيد في الكفر والخبث والدناءة . ١٢وجعلت له مالا . . . . . {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } ، قال ابن عباس : كان له بين مكة والطائف إبل وحجور ونعم وجنان وعبيد وجوار . وقيل : كان صاحب زرع وضرع وتجارة . وقال النعمان بن بشير : المال المدود هو الأرض لأنها مدت . وقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : هو الريع المستغل مشاهرة ، فهو مد في الزمان لا ينقطع . وقيل : هو مقدار معين واضطربوا في تعيينه . فما قيل : ألف دينار ، وقيل : ألف ألف دينار ، وكل هذا تحكم . ١٣وبنين شهودا {وَبَنِينَ شُهُوداً } : أي حضوراً معه بمكة لا يظعنون عنه لغناهم فهو مستأنس بهم ، أو شهوداً : أي رجالاً يشهدون معه المجامع والمحافل ، أو تسمع شهادتهم فيما يتحاكم فيه ؛ واختلف في عددهم ، فذكر منهم : خالد وهشام وعمارة ، وقد أسلموا ؛ والوليد والعاصي وقيس وعبد شمس . قال مقاتل : فما زال الوليد بعد هذه الآية وبعد نزولها في نقص في ماله وولده حتى هلك . ١٤ومهدت له تمهيدا {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } : أي وطأت وهيأت وبسطت له بساطاً حتى أقام ببلدته مطمئناً يرجع إلى رأيه . وقال ابن عباس : وسعت له ما بين اليمن إلى الشام . وقال مجاهد : مهدت له المال بعضه فوق بعض ، كما يمهد الفراش . ١٥ثم يطمع أن . . . . . {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } : أي على ما أعطيته من المال والولد . ١٦كلا إنه كان . . . . . {كَلاَّ } : أي ليس يكون كذلك مع كفره بالنعم . وقال الحسن وغيره : ثم يطمع أن أدخله الجنة ، لأنه كان يقول : إن كان محمداً صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي .{ ثُمَّ يَطْمَعُ } ، قال الزمخشري : استعباد لطمعه واستنكار ، أي لا مزيد على ما أوتي كثرة وسعة ، { كَلاَّ } : قطع لرجائه وردع . انتهى . وطمعه في الزيادة دليل على مبشعه وحبه للدنيا .{ إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً } : تعليل للرّدع على وجه الاستئناف ، كأن قائلاً قال : لم لا يزاد ؟ فقال إنه كان يعاند آيات المنعم وكفر بذلك ، والكافر لا يستحق المزيد ؛ وإنما جعلت الآيات بالنسبة إلى الأنعام لمناسبة قوله :{ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } إلى آخر ما آتاه اللّه ، والأحسن أن يحمل على آيات القرآن لحديثه في القرآن وزعمه أنه سحر . ١٧سأرهقه صعودا {سَأُرْهِقُهُ } : أي سأكلفه وأعنته بمشقة وعسر ، { صَعُوداً } : عقبة في جهنم ، كلما وضع عليها شيء من الإنسان ذاب ثم يعود ، والصعود في اللغة : العقبة الشاقة ، وتقدّم شرح عنيد في سورة إبراهيم عليه السلام . ١٨إنه فكر وقدر {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } : روي أن الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن وقال : إن له لحلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن فرعه لجناة ، وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو وما يعلى ، ونحو هذا من الكلام ، فخالفوه وقالوا : هو شعر ، فقال : واللّه ما هو بشعر ، قد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه ، قالوا : فهو كاهن ، قال : واللّه ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، قالوا : هو مجنون ، قال : واللّه ما هو بمجنون ، لقد رأينا المجنون وخنقه ، قالوا : هو سحر ، قال : أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه . وروي هذا بألفاظ غير هذا ويقرب من حيث المعنى ، وفيه : وتزعمون أنه كذب ، فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب ؟ فقالوا : في كل ذلك اللّهم لا ، ثم قالوا : فما هو ؟ ففكر ثم قال : ما هو إلا ساحر . أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ؟ وما الذي يقوله إلا سحر يؤثره عن مثل مسيلمة وعن أهل بابل ، فارتج النادي فرحاً وتفرّقوا متعجبين منه . وروي أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه ، ثم سمع كذلك مراراً حتى كاد أن يقارب الإسلام . ودخل إلى بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه مراراً ، فجاءه أبو جهل فقال : يا وليد ، أشعرت أن قريشاً قد ذمّتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة ، وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه ؟ وقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد ، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولاً يرضيهم ، ففتنه أبو جهل فافتتن وقال : أفعل .{ إِنَّهُ فَكَّرَ } : تعليل للوعيد في قوله :{ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} قيل : ويجوز أن يكون { إِنَّهُ فَكَّرَ } بدلاً من قوله :{ إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً } ، بياناً لكنه عناده وفكر ، أي في القرآن ومن أتى به ، { وَقَدَّرَ } : أي في نفسه ما يقول فيه . ١٩انظر تفسير الآية:٢٠ ٢٠فقتل كيف قدر {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } ، قتل : لعن ، وقيل : غلب وقهر ، وذلك من قوله : لسهميك في أعسار قلب مقتل أي مذلل مقهور بالحب ، فلعن دعاء عليه بالطرد والإبعاد وغلب ، وذلك إخبار بقهره وذلته ، و { كَيْفَ قَدَّرَ } معناه : كيف قدر ما لا يصح تقديره وما لا يسوغ أن يقدره عاقل ؟ وقيل : دعاء مقتضاه الاستحسان والتعجب . فقيل ذلك لمنزعه الأول في مدحه القرآن ، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه ، فيجري مجرى قول عبد الملك بن مروان : قاتل اللّه كثيراً ، كأنه رآنا حين قال كذا . وقيل : ذلك لإصابته ما طلبت قريش منه . وقيل : ذلك ثناء عليه على جهة الاستهزاء . وقيل : ذلك حكاية لما كرروه من قولهم : قتل كيف قدّر ، تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره واستعظامهم لقوله ، وهذا فيه بعد . وقولهم : قاتلهم اللّه ، مشهور في كلام العرب أنه يقال عند استعظام الأمر والتعجب منه ، ومعناه : أنه قد بلغ المبلغ الذي يحسد عليه ويدعى عليه من حساده ، والاستفهام في { كَيْفَ قَدَّرَ } في معنى : ما أعجب تقديره وما أغربه ، كقولهم : أي رجل زيد ؟ أي ما أعظمه . وجاء التكرار بثم ليدل على أن الثانية أبلغ من الأولى للتراخى الذي بينهما ، كأنه دعى عليه أولاً ورجى أن يقلع عن ما كان يرومه فلم يفعل ، فدعى عليه ثانياً ، ٢١ثم نظر {ثُمَّ نَظَرَ } : أي فكر ثانياً . وقيل : نظر إلى وجوه الناس ، ٢٢ثم عبس وبسر {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } : أي قطب وكلح لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول . وقيل : قطب في وجه رسول اللّه e ٢٣ثم أدبر واستكبر . {ثُمَّ أَدْبَرَ } : رجع مدبراً ، وقيل : أدبر عن الحق ، { وَاسْتَكْبَرَ } ،قيل : تشارس مستكبراً ، وقيل : استكبر عن الحق ، وصفه بالهيئات التي تشكل بها حين أراد أن يقول : ما قال كل ذلك على سبيل الاستهزاء ، وأن ما يقوله كذب وافتراء ، إذ لو كان ممكناً ، لكان له هيئات غير هذه من فرح القلب وظهور السرور والجذل والبشر في وجهه ، ولو كان حقاً لم يحتج إلى هذا الفكر لأن الحق أبلج يتضح بنفسه من غير إكداد فكر ولا إبطاء تأمّل . ألا ترى إلى ذلك الرجل وقوله حين رأي رسول صلى اللّه عليه وسلم ، فعلمت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، وأسلم من فوره . وقيل : ثم نظر فيما يحتج به للقرآن ، فرأى ما فيه من الإعجاز والإعلام بمرتبة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ودام نظره في ذلك . { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } ، دلالة على تأنيه وتمهله في تأمّله ، إذ بين ذلك تراخ وتباعد . وكان العطف في { وَبَسَرَ } وفي { وَاسْتَكْبَرَ } ، لأن البسور قريب من العبوس ، فهو كأنه على سبيل التوكيد والاستكبار يظهر أنه سبب للادبار ، إذ الاستكبار معنى في القلب ، والإدبار حقيقة من فعل الجسم ، فهما سبب ومسبب ، فلا يعطف بثم ؛ وقدّم المسبب على السبب لأنه الظاهر للعين ، وناسب العطف بالواو ؛ وكان العطف في ٢٤فقال إن هذا . . . . . فقال بالفاء دلالة على التعقيب ، لأنه لما خطر بباله هذا القول بعد تطلبه ، لم يتمالك أن نطق به من غير تمهل . ومعنى { يُؤْثَرُ } : يروي وينقل ، قال الشاعر : لقلت من القول ما لا يزا ل يؤثر عني به المسند وقيل :{ يُؤْثَرُ } أي يختار ويرجح على غيره من السحر فيكون من الإيثار ، ومعنى { إِلاَّ سِحْرٌ } : أي شبيه بالسحر . ٢٥إن هذا إلا . . . . . {إِنْ هَاذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ } : تأكيد لما قبله ، أي يلتقط من أقوال الناس ، ويظهر أن كفر الوليد إنما هو عناد . ألا ترى ثناءه على القرآن ، ونفيه عنه جميع ما نسبوا إليه من الشعر والكهانة والجنون ، وقصته مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين قرأ عليه أوائل سورة فصلت إلى قوله تعالى :{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } ، وكيف ناشدة اللّه بالرحم أن يسكت ؟ ٢٦سأصليه سقر {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } ، قال الزمخشري : بدل من { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} انتهى . ويظهر أنهما جملتان اعتقبت كل واحدة ، منهما فتوعد على سبيل التوعد العصيان الذي قبل كل واحدة منهما ، فتوعد على كونه عنيداً لآيات اللّه بإرهاق صعود ، وعلى قوله بأن القرآن سحر يؤثر بإصلائه سقر ، وتقدّم الكلام على سقر في أواخر سورة القمر . ٢٧وما أدراك ما . . . . . {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } : تعظيم لهولها وشدتها ، ٢٨لا تبقي ولا . . . . . {لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ } : أي لا تبقي على من ألقي فيها ، ولا تذر غاية من العذاب إلا أوصلته إليه . ٢٩لواحة للبشر {لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ } ، قال ابن عباس ومجاهد وأبو رزين والجمهور : معناه مغيرة للبشرات محرقة للجلود مسوّدة لها ، والبشر جمع بشرة ، وتقول العرب : لاحت النار الشيء إذا أحرقته وسوّدته . وقال الحسن وابن كيسان : لوّاحة بناء مبالغة من لاح إذا ظهر ، والمعنى أنها تظهر للناس ، وهم البشر ، من مسيرة خمسمائة عام ، وذلك لعظمها وهولها وزجرها ، كقوله تعالى :{ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ } ، وقوله :{ وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} وقرأ الجمهور :{ لَوَّاحَةٌ } بالرفع ، أي هي لوّاحة . وقرأ العوفي وزيد بن عليّ والحسن وابن أبي عبلة : لواحة بالنصب على الحال المؤكدة ، لأن النار التي لا تبقي ولا تذر لا تكون إلا مغيرة للإبشار . وقال الزمخشري : نصباً على الاختصاص للتهويل . ٣٠انظر تفسير الآية:٣١ ٣١عليها تسعة عشر {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } : التمييز محذوف ، والمتبادر إلى الذهن أنه ملك . ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه أن المراد ملك حين سمعوا ذلك ؟ فقال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمّهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ؟ فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي ، وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين ، فأنزل اللّه تعالى :{ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَةً } أي ما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون ، وأنزل اللّه تعالى في أبي جهل { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وقيل : التمييز المحذوف صنفاً من الملائكة ، وقيل : نقيباً ، ومعنى عليها يتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها ، فالذي يظهر من العدد ومن الآية بعد ذلك ومن الحديث أن هؤلاء هم النقباء . ألا ترى إلى قوله تعالى :{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ } ، وقوله عليه الصلاة والسلام : { يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها } ؟ وقد ذكر المفسرون من نعوت هؤلاء الملائكة وخلقهم وقوتهم ، وما أقدرهم اللّه تعالى عليه من الأفعال ما اللّه أعلم بصحته ، وكذلك ذكر أبو عبد اللّه الرازي حكماً على زعمه في كون هؤلاء الملائكة على هذا العدد المخصوص يوقف عليها في تفسيره . وقرأ الجمهور : { تِسْعَةَ عَشَرَ } مبنيين على الفتح على مشهور اللغة في هذا العدد . وقرأ أبو جعفر وطلحة بن سليمان : بإسكان العين ، كراهة توالي الحركات . وقرأ أنس بن مالك وابن عباس وابن قطيب وإبراهيم بن قنة : بضم التاء ، وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح لتوالي خمس فتحات ، ولا يتوهم أنها حركة إعراب ، لأنها لو كانت حركة إعراب لأعرب عشر . وقرأ أنس أيضاً : تسعة بالضم ، أعشر بالفتح . وقال صاحب اللوامح : فيجوز أنه جمع العشرة على أعشر ثم أجراه مجرى تسعة عشر ، وعنه أيضاً تسعة وعشر بالضم ، وقلب الهمزة من أعشر واواً خالصة تخفيفاً ، والباء فيهما مضمومة ضمة بناء لأنها معاقبة للفتحة ، فراراً من الجمع بين خمس حركات على جهة واحدة . وعن سليمان بن قنة ، وهو أخو إبراهيم : أنه قرأ تسعة أعشر بضم التاء ضمة إعراب وإضافته إلى أعشر ، وأعشر مجرور منون وذلك على فك التركيب . قال صاحب اللوامح : ويجيء على هذه القراءة ، وهي قراءة من قرأ أعشر مبنياً أو معرباً من حيث هو جمع ، أن الملائكة الذين هم على النار تسعون ملكاً . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . قال الزمخشري : وقرىء تسعة أعشر جمع عشير ، مثل يمين وأيمن . انتهى . وسليمان بن قنة هذا هو الذي مدح أهل بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو القائل : مررت على أبيات آل محمد فلم أر أمثالاً لها يوم حلت وكانوا ثمالاً ثم عادوا رزية لقد عظمت تلك الرزايا وجلت {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَةً } : أي جعلناهم خلقاً لا قبل لأحد من الناس بهم ، { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } : أي سبب فتنة ، وفتنة مفعول ثان لجعلنا ، أي جعلنا تلك العدّة ، وهي تسعة عشر ، سبباً لفتنة الكفار ، فليس فتنة مفعولاً من أجله ، وفتنهم هي كونهم أظهروا مقاومتهم في مغالبتهم ، وذلك على سبيل الاستهزاء . فإنهم يكذبون بالبعث وبالنار وبخزنتها .{ لِيَسْتَيْقِنَ } : هذا مفعول من أجله ، وهو متعلق بجعلنا لا بفتنة . فليست الفتنة معلولة للاستيقان ، بل المعلول جعل العدّة سبباً لفتنة { الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } ، وهم اليهود والنصارى . إنّ هذا القرآن هو من عند اللّه ، إذ هم يجدون هذه العدّة في كتبهم المنزلة ، ويعلمون أن الرسول لم يقرأها ولا قرأها عليه أحد ، ولكن كتابة يصدّق كتب الأنبياء ، إذ كل ذلك حق يتعاضد من عند اللّه تعالى . قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد ، وبورود الحقائق من عند اللّه يزداد كل ذي إيمان إيماناً ، ويزول الريب عن المصدّقين من أهل الكتاب وعن المؤمنين . وقيل : إنما صار جعلها فتنة لأنهم يستهزئون ويقولون : لم لم يكونوا عشرين ؟ وما المقتضى لتخصيص هذا العدد بالوجود ؟ ويقولون هذا العدد القليل ، يقوون بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس من أول ما خلق اللّه تعالى إلى قيام الساعة . وقال الزمخشري : فإن قلت : قد جعل افتتان الكافرين بعدّة الزبانية سبباً لاستيقان أهل الكتاب وزيادة إيمان المؤمنين واستهزاء الكافرين والمنافقين ، فما وجه صحة ذلك ؟ قلت : ما جعل افتتانهم بالعدّة سبباً لذلك ، وإنما العدّة نفسها هي التي جعلت سبباً ، وذلك أن المراد بقوله :{ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } : وما جعلنا عدّتهم إلا تسعة عشر ؛ فوضع { فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } موضع تسعة عشر ، لأن حال هذه العدّة الناقصة واحداً من عقد العشرين ، أن يفتتن بها من لا يؤمن باللّه وبحكمته ويعترض ويستهزىء ولا يذعن إذعان المؤمن ، وإن خفي عليه وجه الحكمة ، كأنه قيل : ولقد جعلنا عدّتهم عدّة من شأنها أن يفتتن بها لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين . انتهى ، وهو سؤال عجيب وجواب فيه تحريف كتاب اللّه تعالى ، إذ زعم أن معنى { إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } : إلا تسعة عشر ، وهذا لا يذهب إليه عاقل ولا من له أدنى ذكاء ؛ وكفى ردّاً عليه تحريف كتاب اللّه ووضع ألفاظ مخالفة لألفاظ ومعنى مخالف لمعنى . وقيل :{ لِيَسْتَيْقِنَ } متعلق بفعل مضمر ، أي فعلنا ذلك ليستيقن .{ وَلاَ يَرْتَابَ } : توكيد لقوله { لِيَسْتَيْقِنَ } ، إذ إثبات اليقين ونفي الارتياب أبلغ وآكد في الوصف لسكون النفس السكون التام . و { الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } ، قال الحسين بن الفضل : السورة مكية ، ولم يكن بمكة نفاق ، وإنما المرض في الآية : الاضطراب وضعف الإيمان . وقيل : هو إخبار بالغيب ، أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة : { مَاذَا أَرَادَ اللّه بِهَاذَا مَثَلاً} لما سمعوا هذا العدد لم يهتدوا وحاروا ، فاستفهم بعضهم بعضاً عن ذلك استبعاداً أن يكون هذا من عند اللّه ، وسموه مثلاً استعارة من المثل المضروب استغراباً منهم لهذا العدد ، والمعنى : أي شيء أراد اللّه بهذا العدد العجيب ؟ ومرادهم إنكار أصله وأنه ليس من عند اللّه ، وتقدّم إعراب مثل هذه الجملة في أوائل البقرة . {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللّه مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} الكاف في محل نصب ، وذلك إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدى ، أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى ، يضل الكافرين فيشكون فيزيدهم كفراً وضلالاً ، ويهدي المؤمنين فيزيدهم إيماناً .{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ } : إعلام بأن الأمر فوق ما يتوهم ، وأن الجزاء إنما هو عن بعض القدرة لا عن كلها ، والسماء عامرة بأنواع من الملائكة . وفي الحديث : { أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وملك واضع جبهته للّه ساجداً} .{ وَمَا هِىَ } : أي النار ، قاله مجاهد ، أو المخاطبة والنذارة ، أو نار الدنيا ، أو الآيات التي ذكرت ، أو العدّة التسعة عشر ، أو الجنود ، أقوال راجحها الأول وهي سقر ، ذكر بها البشر ليخافوا ويطيعوا . وقد جرى ذكر النار أيضاً في قوله :{ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ الْمَلَائِكَةَ}{ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } : أي الذين أهلوا للتذكر والاعتبار . ٣٢كلا والقمر {كَلاَّ } ، قال الزمخشري : كلا إنكار بعد أن جعلها ذكرى ، أن يكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون . انتهى . ولا يسوغ هذا في حق اللّه تعالى أن يخبر أنها ذكرى للبشر ، ثم ينكر أن تكون لهم ذكرى ، وإنما قوله :{ لّلْبَشَرِ } عام مخصوص . وقال الزمخشري : أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذير . وقيل : ردع لقول أبي جهل وأصحابه أنهم يقدرون على مقاومة خزنة جهنم . وقيل : ردع عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة . وقال الفراء : هي صلة للقسم ، وقدرها بعضهم بحقاً ، وبعضهم بألا الاستفتاحية ، وقد تقدم الكلام عليها في آخر سورة مريم عليها السلام . {وَالْقَمَرِ} ٣٣والليل إذ أدبر {وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ } : أي ولى ، ويقال دبر وأدبر بمعنى واحد . أقسم تعالى بهذه الأشياء تشريفاً لها وتنبيهاً على ما يظهر بها وفيها من عجائب اللّه وقدرته ، وقوام الوجود بإيجادها . وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وابن يعمر وأبو جعفر وشيبة وأبو الزناد وقتادة وعمر بن العزيز والحسن وطلحة والنحويان والابنان وأبو بكر : إذا ظرف زمان مستقبل دبر بفتح الدال ؛ وابن جبير والسلمي والحسن : بخلاف عنهم ؛ وابن سيرين والأعرج وزيد بن علي وأبو شيخ وابن محيصن ونافع وحمزة وحفص : إذ ظرف زمان ماض ، أدبر رباعياً ؛ والحسن أيضاً وأبو رزين وأبو رجاء وابن يعمر أيضاً والسلمي أيضاً وطلحة أيضاً والأعمش ويونس بن عبيد ومطر : إذا بالألف ، أدبر بالهمز ، وكذا هو في مصحف عبد اللّه وأبيّ ، وهو مناسب لقوله :{ إِذَا أَسْفَرَ } ، ويقال : كأمس الدابر وأمس المدبر بمعنى واحد . وقال يونس بن حبيب : دبر : انقضى ، وأدبر : تولى . وقال قتادة : دبر الليل : ولى . وقال الزمخشري : ودبر بمعنى أدبر ، كقبل بمعنى أقبل . وقيل : هو من دبر الليل النهار : أخلفه . ٣٤والصبح إذا أسفر وقرأ الجمهور : أسفر رباعياً ؛ وابن السميفع وعيسى بن الفضل : سفر ثلاثياً ، والمعنى : طرح الظلمة عن وجهه . ٣٥انظر تفسير الآية:٣٦ ٣٦إنها لإحدى الكبر {إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ } : الظاهر أن الضمير في إنها عائد على النار . قيل : ويحتمل أن يكون للنذارة ، وأمر الآخرة فهو للحال والقصة . وقيل : إن قيام الساعة لإحدى الكبر ، فعاد الضمير إلى غير مذكور ، ومعنى إحدى الكبر : الدواهي الكبر ، أي لا نظير لها ، كما تقول : هو أحد الرجال ، وهي إحدى النساء ، والكبر : العظائم من العقوبات . وقال الراجز : يا ابن المعلى نزلت إحدى الكبر داهية الدهر وصماء الغير والكبر جمع الكبرى ، طرحت ألف التأنيث في الجمع ، كما طرحت همزته في قاصعاء فقالوا قواصع . وفي كتاب ابن عطية : والكبر جمع كبيرة ، ولعله من وهم الناسخ . وقرأ الجمهور : لإحدى بالهمز ، وهي منقلبة عن واو أصله لوحدى ، وهو بدل لازم . وقرأ نصر بن عاصم وابن محيصن ووهب بن جرير عن ابن كثير : بحذف الهمزة ، وهو حذف لا ينقاس ، وتخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بين بين . والظاهر أن هذه الجملة جواب للقسم . وقال الزمخشري : أو تعليل لكلا ، والقسم معترض للتوكيد . انتهى . وقرأ الجمهور :{ نَذِيراً } ، واحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار ، كالنكير بمعنى الإنكار ، فيكون تمييزاً : أي لإحدى الكبر إنذاراً ، كما تقول : هي إحدى النساء عفافاً . كما ضمن إحدى معنى أعظم ، جاء عنه التمييز . وقال الفراء : هو مصدر نصب بإضمار فعل ، أي أنذر إنذاراً . واحتمل أن يكون اسم فاعل بمعنى منذر . فقال الزجاج : حال من الضمير في إنها . وقيل : حال من الضمير في إحدى ، ومن جعله متصلاً بقم في أول السورة ، أو ب : فأنذر في أول السورة ، أو حالاً من الكبر ، أو حالاً من ضمير الكبر ، فهو بمعزل عن الصواب . قال أبو البقاء : والمختار أن يكون حالاً مما دلت عليه الجملة تقديره : عظمت نذيراً . انتهى ، وهو قول لا بأس به . قال النحاس : وحذفت الهاء من نذيراً ، وإن كان للنار على معنى النسب ، يعني ذات الإنذار . وقال علي بن سليمان : أعني نذيراً . وقال الحسن : لأنذر ، إذ هي من النار . قال ابن عطية : وهذا القول يقتضي أن نذيراً حال من الضمير في إنها ، أو من قوله :{ لإِحْدَى} قال أبو رزين : نذير هنا هو اللّه تعالى ، فهو منصوب بإضمار فعل ، أي ادعوا نذيراً . وقال ابن زيد : نذير هنا هو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فهو منصوب بفعل مضمر ، أي ناد ، أو بلغ ، أو أعلن . وقرأ أبيّ وابن أبي عبلة : نذير بالرفع . فإن كان من وصف النار ، جاز أن يكون خبراً وخبر مبتدأ محذوف ، أي هي نذير . وإن كان من وصف اللّهأو الرسول ، فهو على إضمار هو . ٣٧لمن شاء منكم . . . . . والظاهر أن لمن بدل من البشر بإعادة الجار ، وأن يتقدم منصوب بشاء ضمير يعود على من . وقيل : الفاعل ضمير يعود على اللّه تعالى ، أي لمن شاء هو ، أي اللّه تعالى . وقال الحسن : هو وعيد ، نحو قوله تعالى : { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} قال ابن عطية : هو بيان في النذارة وإعلام بأن كل أحد يسلك طريق الهدى والحق إذا حقق النظر ، إذ هو بعينه يتأخر عن هذه الرتبة بغفلته وسوء نظره . ٣٨كل نفس بما . . . . . ثم قوى هذا المعنى بقوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} وقال الزمخشري :{ أَن يَتَقَدَّمَ } في موضع الرفع بالابتداء ، و { لِمَن شَاء } خبر مقدم عليه ، كقولك لمن توضأ : أن يصلي ، ومعناه مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر . والمراد بالتقدم والتأخر : السبق إلى الخير والتخلف عنه ، وهو كقوله :{ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} انتهى ، وهو معنى لا يتبادر إلى الذهن وفيه حذف قيل : والتقدم : الإيمان ، والتأخر : الكفر . وقال السدي : أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها ، أو يتأخر عنها إلى الجنة . وقال الزجاج : أن يتقدم إلى المأمورات ، أو يتأخر عن المنهيات ، والظاهر العموم في كل نفس . وقال الضحاك : كل نفس حقيق عليها العذاب ، ولا يرتهن اللّه تعالى أحداً من أهل الجنة ، ورهينة بمعنى رهن ، كالشتيمة بمعنى الشتم ، وليست بمعنى مفعول لأنها بغير تاء للمذكر والمؤنث ، نحو : رجل قتيل وامرأة قتيل ، فالمعنى : كل نفس بما كسبت رهن ، ومنه قول الشاعر : أبعد الذي بالنعف نعف كويكب رهينة رمس ذي تراب وجندل أي : رمس رهن ، والمعنى : أن كل نفس رهن عند اللّه غير مفكوك . وقيل : الهاء في رهينة للمبالغة . وقيل : على تأنيث اللفظ لا على الإنسان ، والذي أختاره أنها مما دخلت فيه التاء ، وإن كان بمعنى مفعول في الأصل كالنطيحة ، ويدل على ذلك أنه لما كان خبر عن المذكر كان بغير هاء ، قال تعالى : { كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} فأنت ترى حيث كان خبراً عن المذكر أتى بغير تاء ، وحيث كان خبراً عن المؤنث أتى بالتاء ، كما في هذه الآية . فأما الذي في البيت فأنث على معنى النفس . ٣٩إلا أصحاب اليمين {إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ } ، قال ابن عباس : هم الملائكة . وقال عليّ : هم أطفال المسلمين . فعلى هذين القولين يكون استثناء منقطعاً ، أي لكن أصحاب اليمين في جنات . وقال الحسن وابن كيسان : هم المسلمون المخلصون ، ليسوا بمرتهنين لأنهم أدوا ما كان عليهم ، وهذا كقول الضحاك الذي تقدم . وقال الزمخشري :{ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ } ، فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم ، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق . انتهى . وظاهر هذا أنه استثناء متصل ٤٠انظر تفسير الآية:٤٢ ٤٢في جنات يتساءلون في جنات ، أي هم { فِى جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ } : أي يسأل بعضهم بعضاً ، أو يكون يتساءل بمعنى يسأل ، أي يسألون عنهم غيرهم ، كما يقال : دعوته وتداعوته بمعناه . وعلى هذين التقديرين كيف جاء { مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ } بالخطاب للمجرمين ، وفي الكلام حذف ، المعنى : أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضاً ، أو يسألون غيرهم عن من غاب من معارفهم ، فإذا عرفوا أنهم مجرمون في النار قالوا لهم ، أو قالت لهم الملائكة : هكذا قدره بعضهم ، والأقرب أن يكون التقدير : يتساءلون عن المجرمين قائلين لهم بعد التساؤل :{ مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ} وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف طابق قوله :{ مَا سَلَكَكُمْ } ؟ وهو سؤال للمجرمين ، قوله :{ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ } ؟ وهو سؤال عنهم ، وإنما كان يطابق ذلك لو قيل يتساءلون عن المجرمين ما سلككم ؟ قلت :{ مَا سَلَكَكُمْ } ليس ببيان للتساؤل عنهم ، وإنما هو حكاية قول المسؤولين عنهم ، لأن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون : قلنا لهم { مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ } ،{ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ } ، إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار ، كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه . انتهى ، وفيه تعسف . والأظهر أن السائلين هم المتسائلون ، وما سلككم على إضمار القول كما ذكرنا ، وسؤالهم سؤال توبيخ لهم وتحقير ، وإلا فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار . ٤٣انظر تفسير الآية:٤٧ ٤٧قالوا لم نك . . . . . والجواب أنهم لم يكونوا متصفين بخصائل الإسلام من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ثم ارتقوا من ذلك إلى الأعظم وهو الكفر والتكذيب بيوم الجزاء ، كقولهم : { فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ } ، ثم قال :{ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ} واليقين : أي يقيناً على إنكار يوم الجزاء ، أي وقت الموت . و قال ابن عطية : واليقين عندي صحة ما كانوا يكذبون من الرجوع إلى اللّه تعالى والدار الآخر . وقال المفسرون : اليقين : الموت ، وذلك عندي هنا متعقب ، لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي . وإنما اليقين الذي عنوا في هذه الآية الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم أحياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت ، وإنما يتفسر اليقين بالموت في قوله تعالى :{ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} ٤٨فما تنفعهم شفاعة . . . . . {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } : ليس المعنى أنهم يشفع لهم فلا تنفع شفاعة من يشفع لهم ، وإنما المعنى نفي الشفاعة فانتفى النفع ، أي لا شفاعة شافعين لهم فتنفعهم من باب : على لاحب لا يهتدي بمناره أي : لا منار له فيهتدي به . وتخصيصهم بانتفاء شفاعة الشافعين يدل على أنه قد تكون شفاعات وينتفع بها ، ووردت أحاديث في صحة ذلك . ٢٩فما لهم عن . . . . . {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ } : وهي مواعظ القرآن التي تذكر الآخرة ، { مُعْرِضِينَ } : أي والحال المنتظرة هذه الموصوفة . ٥٠كأنهم حمر مستنفرة ثم شبههم بالحمر المستنفرة في شدة إعراضهم ونفارهم عن الإيمان وآيات اللّه تعالى . وقرأ الجمهور : { حُمُرٌ } بضم الميم ؛ والأعمش : بإسكانها . قال ابن عباس : المراد الحمر الوحشية ، شبههم تعالى بالحمر مذمة وتهجيناً لهم . وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم :{ مُّسْتَنفِرَةٌ } بفتح الفاء ، ٥١فرت من قسورة والمعنى : استنفرها : فزعها من القسورة ؛ وباقي السبعة : بكسرها ، أي نافرة نفر ، واستنفر بمعنى عجب واستعجب وسر واستسخر ، ومنه قول الشاعر : أمسك حمارك إنه مستنفر في إصر أحمرة عهدن لعرّب ويناسب الكسر قوله : { فَرَّتْ} وقال محمد بن سلام : سألت أبا سرار العتوي ، وكان أعرابياً فصيحاً ، فقلت : كأنهم حمر ماذا مستنفرة طردها قسورة ؟ فقلت : إنما هو { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } ، قال : أفرّت ؟ قلت : نعم ، قال : فمستنفرة إذن . قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري وقتادة وعكرمة : القسورة : الرماة . وقال ابن عباس أيضاً وأبو هريرة وجمهور من اللغويين : الأسد . وقال ابن جبير : رجال القنص ، وهو قريب من القول الأول ، وقاله ابن عباس أيضاً . وقال ابن الأعرابي : القسورة أول الليل ، والمعنى : فرّت من ظلمة الليل ، ولا شيء أشدّ نفاراً من حمر الوحش ، ولذلك شبهت بها العرب الإبل في سرعة سيرها وخفتها . ٥٢بل يريد كل . . . . . {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىء مّنْهُمْ } : أي من المعرضين عن عظات اللّه وآياته ، { أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } : أي منشورة غير مطوية تقرأ كالكتب التي يتكاتب بها ، أو كتبت في السماء نزلت بها الملائكة ساعة كتبت رطبة لم تطو بعد ، وذلك أنهم قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لن نتبعك حتى يؤتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه : من رب العالمين إلى فلان بن فلان ، يؤمر فيها باتباعك ، ونحوه { لَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ} وروي أن بعضهم قال : إن كان يكتب في صحف ما يعمل كل إنسان ، فلتعرض تلك الصحف علينا ، فنزلت هذه الآية . وقرأ الجمهور :{ صُحُفاً } بضم الصاد والحاء ، { مُّنَشَّرَةً } مشدّداً ؛ وابن جبير : بإسكانها منشرة مخففاً ، ونشر وأنشر مثل نزل وأنزل . شبه نشر الصحيفة بإنشار اللّه الموتى ، فعبر عنه بمنشرة من أنشرت ، والمحفوظ في الصحيفة والثوب نشر مخففاً ثلاثياً ، ويقال في الميت : أنشره اللّه فنشر هو ، أي أحياه فحيي . ٥٣كلا بل لا . . . . . {كَلاَّ } : ردع عن إرادتهم تلك وزجر لهم عن اقتراح الآيات ، { بَل لاَّ يَخَافُونَ الاْخِرَةَ } ، ولذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف . وقرأ الجمهور :{ يَخَافُونَ } بياء الغيبة ؛ وأبو حيوة : بتاء الخطاب التفاتاً . ٥٤انظر تفسير الآية:٥٦ ٥٦كلا إنه تذكرة {كَلاَّ } : ردع عن إعراضهم عن التذكرة ، { إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ } : ذكر في إنه وفي ذكره ، لأن التذكرة ذكر . وقرأ نافع وسلام ويعقوب : تذكرة بتاء الخطاب ساكنة الذال ؛ وباقي السبعة وأبو جعفر والأعمش وطلحة وعيسى والأعرج : بالياء . وروي عن أبي حيوة : يذكرون بياء الغيبة وشد الذال . وروي عن أبي جعفر : تذكرون بالتاء وإدغام التاء في الذال .{ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى } : أي أهل أن يتقي ويخاف ، وأهل أن يغفر . وروى أنس بن مالك رضي اللّه تعالى عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم فسر هذه الآية فقال : { يقول لكم ربكم جلت قدرته وعظمته : أنا أهل أن أتقى ، فلا يجعل يتقى إله غيري ، ومن اتقى أن يجعل معي إلهاً غيري فأنا أغفر له} . وقال الزمخشري : في قوله تعالى { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّه } ، يعني : إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه ، لأنهم مطبوع على قلوبهم معلوم أنهم لا يؤمنون إختياراً . |
﴿ ٠ ﴾