سورة القيامة

مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

لا أقسم بيوم . . . . .

برق بكسر الراء : فزع ودهش ، وأصله من برق الرجل ، إذا نظر إلى البرق فدهش بصره ، ومنه قول ذي الرمّة : ولو أنّ لقمان الحكيم تعرّضت

لعينيه ميّ سافراً كاد يبرق

قال الأعشى : وكنت أرى في وجه مية لمحة

فأبرق مغشياً عليّ مكانياً

وبرق بفتح الراء : شق بصره ، وهو من البريق ، أي لمع بصره من شدّة شخوصه . الوزر : ما يلجأ إليه من

حصن أو جبل أو غيرهما ، قال الشاعر : لعمرك ما للفتى من وزر

من الموت يدركه والكبر

النضرة : النعمة وجمال البشرة وطراوتها ، قال الشاعر : أبى لي قبر لا يزال مقابلي

وضربة فاس فوق رأسي فاقره

أي : مؤثرة . التراقي جمع ترقوة : وهي عظام الصدر ، ولكل إنسان ترقونان ، وهو موضع الحشرجة ، قال دريد بن الصمة : ورب عظيمة دافعت عنهم

وقد بلغت نفوسهم التراقي

رقي يرقى من الرقية ، وهي ما يستشفى به للمريض من الكلام المعد لذلك . تمطى : تبختر في مشيته ، وأصله من المطا وهو الظهر ، أي يلوي مطاه تبختراً .

وقيل : أصله تمطط : أي تمدّد في مشيته ، ومد منكبيه ، قلبت الطاء فيه حرف علة كراهة اجتماع الأمثال ، كما قالوا : تظني من الظن ، وأصله تظنن ، والمطيطا : التبختر ومد اليدين في المشي ، والمطيط : الماء الخاثر في أسفل الحوض ، لأنه يتمطط فيه ، أي يمتد ؛ وعلى هذا الاشتقاق لا يكون أصله من المط لاختلاف المادتين ، إذ مادة المطا م ط و ، ومادة تمطط م ط ط . سدى : مهمل ، يقال إبل سدى : أي مهملة ترعى حيث شاءت بلا راع ، وأسديت الشيء : أي أهملته ، وأسديت حاجتي : ضيعتها . قال الشاعر : فأقسم باللّه جهد اليمين

ما خلق اللّه شيئاً سدى

وقال أبو بكر بن دريد في المقصورة : لم أر كالمزن سواما بهلا

تحسبها مرعية وهي سدى

هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها : أن في آخر ما قبلها قوله : { كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الاْخِرَةَ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } ، وفيها كثير من أحوال القيامة ، فذكر هنا يوم القيامة وجملاً من أحوالها .

٢

ولا أقسم بالنفس . . . . .

وتقدّم الكلام في { لاَ أُقْسِمُ} والخلاف في لا ، والخلاف في قراآتها في أواخر الواقعة . أقسم تعالى بيوم القيامة لعظمه وهو له .

٤

بلى قادرين على . . . . .

و { لاَ أُقْسِمُ } ،قيل : لا نافية ، نفى أن يقسم بالنفس اللوّامة وأقسم بيوم القيامة ، نص على هذا الحسن ؛ والجمهور : على أن اللّه أقسم بالأمرين . واللوّامة ، قال الحسن : هي التي تلوم صاحبها في ترك الطاعة ونحوها ، فهي على هذا ممدوحة ، ولذلك أقسم اللّه بها . وروي نحوه عن ابن عباس وعن مجاهد ، تلوم على ما فات وتندم على الشر لم فعلته ، وعلى الخير لم لم تستكثر منه .

وقيل : النفس المتقية التي تلوم النفوس في يوم القيامة على تقصيرهنّ في التقوى .

وقال ابن عباس وقتادة : هي الفاجرة الخشعة اللوّامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأعراضها ، فهي على هذا ذميمة ، ويحسن نفي القسم بها . والنفس اللوّامة : اسم جنس بهذا الوصف .

وقيل : هي نفس معينة ، وهي نفس آدم عليه السلام ، لم تزل لائمة له على فعله الذي أخرجه من الجنة .

قال ابن عطية : وكل نفس متوسطة ليست بمطمئنة ولا أمّارة بالسوء فإنها لوّامة في الطرفين ، مرّة تلوم على ترك الطاعة ، ومرّة تلوم على فوت ما تشتهي ، فإذا اطمأنت خلصت وصفت . انتهى . والمناسبة بين القسمين من حيث أحوال النفس من سعادتها وشقاوتها وظهور ذلك في يوم القيامة ، وجواب القسم محذوف يدل عليه يوم القيامة المقسم به وما بعده من قوله :{ أَيَحْسَبُ } الآية ، وتقديره لتبعثن .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : قوله تعالى :{ فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } ، والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي ، وكان قد أنشد قول امرىء القيس : لا وأبيك ابنة العامري

لا يدعي القوم إني أفرّ

وقول غوية بن سلمى : ألا نادت أمامة باحتمالي

لتحزنني فلا بك ما أبالي

قال : فهلا زعمت أن لا التي للقسم زيدت موطئة للنفي بعده ومؤكدة له ، وقدرت المقسم عليه المحذوف ههنا منفياً ، نحو قولك :{ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } ، لا تتركون سدى ؟

قلت : لو قصروا الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ ، ولكنه لم يقسم . ألا ترى كيف لقي { لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ } بقوله :{ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ } ، وكذلك { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ } ،{ إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ } ؟ ثم

قال الزمخشري : وجواب القسم ما دل عليه قوله :{ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } ، وهو لتبعثن . انتهى ، وهو تقدير النحاس . وقول من قال جواب القسم هو :{ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ} وما روي عن الحسن أن الجواب :{ بَلَى قَادِرِينَ } ، وما قيل أن لا في القسمين لنفيهما ، أي لا أقسم على شيء ، وأن التقدير : أسألك أيحسب الإنسان ؟ أقوال لا تصلح أن يرد بها ، بل تطرح ولا يسود بها الورق ، ولولا أنهم سردوها في الكتب لم أنبه عليها . والإنسان هنا الكافر المكذب بالبعث . روي أن عدي بن ربيعة قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا محمد ، حدّثني عن يوم القيامة متى يكون أمره ؟ فأخبره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن به ، أو يجمع اللّه هذه العظام بعد بلاها ، فنزلت .

وقيل : نزلت في أبي جهل ، كان يقول : أيزعم محمد صلى اللّه عليه وسلم أن يجمع اللّه هذه العظام بعد بلاها وتفرّقها فيعيدها خلقا

جديداً ؟

وقرأ الجمهور : { نَّجْمَعَ } بنون ، { عِظَامَهُ } نصباً ؛ وقتادة : بالتاء مبنياً للمفعول ، عظامه رفعاً ، والمعنى : بعد تفرّقها واختلاطها بالتراب وتطيير الرياح إياها في أقاصي الأرض . وقوله :{ أَيَحْسَبُ } استفهام تقرير وتوبيخ ، حيث ينكر قدرة اللّه تعالى على إعادة المعدوم .{ بَلَى } : جواب للاستفهام المنسخب على النفي ، أي بلى نجمهعا . وذكر العظام ، وإن كان المعنى إعادة الإنسان وجمع أجزائه المتفرقة ، لأن العظام هي قالب الخلق .

وقرأ الجمهور :{ قَادِرِينَ } بالنصب على الحال من الضمير الذي في الفعل المقدر وهو يجمعها ؛ وابن أبي عبلة وابن السميفع : قادرون ، أي نحن قادرون .{ عَلَى أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ } : وهي الأصابع ، أكثر العظام تفرّقاً وأدقها أجزاء ، وهي العظام التي في الأنامل ومفاصلها ، وهذا عند البعث .

وقال ابن عباس والجمهور : المعنى نجعلها في حياته هذه بعضة ، أو عظماً واحداً كخف البعير لا تفاريق فيه ، أي في الدنيا فتقل منفعته بها ، وهذا القول فيه توعد ، والمعنى الأول هو الظاهر والمقصود من رصف الكلام . وذكر الزمخشري هذين القولين بألفاظ منمقة على عادته في حكاية أقوال المتقدمين .

وقيل :{ قَادِرِينَ } منصوب على خبر كان ، أي بلى كنا قادرين في الابتداء .

٥

بل يريد الإنسان . . . . .

{بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ بَلِ } : إضراب ، وهو انتقال من كلام إلى كلام من غير إبطال . والظاهر أن { يُرِيدُ } إخبار عن ما يريده الإنسان .

وقال الزمخشري :{ بَلْ يُرِيدُ } عطف على { أَيَحْسَبُ } ، فيجوز أن يكون قبله استفهاماً ، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر ، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب . انتهى . وهذه التقادير الثلاثة لا تظهر ، وهي متكلفة ، بل المعنى : الإخبار عن الإنسان من غير إبطال لمضمون الجملة السابقة ، وهي نجمعها قادرين ، لنبين ما هو عليه الإنسان من عدم الفكر في الآخرة وأنه معني بشهواته ؛ ومفعول { يُرِيدُ } محذوف يدل عليه التعليل في { لِيَفْجُرَ} قال مجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي : معنى الآية : أن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبداً قدماً راكباً رأسه مطيعاً أمله ومسوفاً بتوبته . قال السدي أيضاً : ليظلم على قدر طاقته ، وعلى هذا فالضمير في { أَمَامَهُ } عائد على الإنسان ، وهو الظاهر .

وقال ابن عباس : ما يقضي أن الضمير عائد على يوم القيامة أن الإنسان في زمان وجوده أمام يوم القيامة ، وبين يديه يوم القيامة خلفه ، فهو يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث وغير ذلك بين يدي يوم القيامة ، وهو لا يعرف القدر الذي هو فيه ؛ والأمام ظرف مكان استعير هنا للزمان ، أي ليفجر فيما بين يديه ويستقبله من زمان حياته .

٦

يسأل أيان يوم . . . . .

{يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ } : أي متى يوم القيامة ؟ سؤال استهزاء وتكذيب وتعنت .

٧

فإذا برق البصر

وقرأ الجمهور : { بَرِقَ } بكسر الراء ؛ وزيد بن ثابت ونصر بن عاصم وعبد اللّه بن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وابن مقسم ونافع وزيد بن علي وأبان عن عاصم وهارون ومحبوب ، كلاهما عن أبي عمرو ، والحسن والجحدري : بخلاف عنهما بفتحها . قال أبو عبيدة : برق بالفتح : شق . وقال ابن إسحاق : خفت عند الموت . قال مجاهد : هذا عند الموت . وقال الحسن : هو يوم القيامة .

وقرأ أبو السمال : بلق باللام عوض الراء ، أي انفتح وانفرج ، يقال : بلق الباب وأبلقته وبلقته : فتحته ، هذا قول أهل اللغة إلا الفراء فإنه يقول : بلقه وأبلقه إذا أغلفه . وقال ثعلب : أخطأ الفراء في ذلك ، إنما هو بلق الباب وأبلقه إذا فتحه . انتهى . ويمكن أن تكون اللام بدلاً من الراء ، فهما يتعاقبان في بعض الكلام ، نحو قولهم : نثرة ونثلة ، ووجر ووجل .

٨

وخسف القمر

وقرأ الجمهور : { وَخَسَفَ } مبنياً للفاعل ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويزيد بن قطيب وزيد بن علي : مبنياً للمفعول . يقال : خسف القمر وخسفه اللّه ، وكذلك الشمس . قال أبو عبيدة وجماعة من أهل اللغة : الخسوف والكسوف بمعنى واحد . وقال ابن أبي أويس : الكسوف ذهاب بعض الضوء ، والخسوف جميعه .

٩

وجمع الشمس والقمر

{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } : لم تلحق علامة التأنيث ، لأن تأنيث الشمس مجان ، أو لتغليب التذكير على التأنيث . وقال الكسائي : حمل على المعنى ، والتقدير : جمع النوران أو الضياآن ، ومعنى الجمع بينهما ، قال عطاء بن يسار : يجمعان فيلقيان في النار ، وعنه يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في البحر ، فيكونان نار اللّه الكبرى .

وقيل : يجمع بينهما في الطلوع من المغرب ، فيطلعان أسودين مكورين . وقال علي وابن عباس : يجعلان في نور الحجب ،

وقيل : يجتمعان ولا يتفرقان ، ويقربان من الناس فيلحقهم العرق لشدة الحر ، فكأن المعنى : يجمع حرهما .

وقيل : يجمع بينهما في ذهابه الضوء ، فلا يكون ثم تعاقب ليل ولا نهار .

١٠

يقول الإنسان يومئذ . . . . .

وقرأ الجمهور : { الْمَفَرُّ } بفتح الميم والفاء ، أي أين الفرار ؟

وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب ، والحسن بن زيد ، وابن عباس والحسن وعكرمة وأيوب السختياني وكلثوم بن عياض ومجاهد وابن يعمر وحماد بن سلمة وأبو رجاء وعيسى وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزهري : بكسر الفاء ، وهو موضع الفرار .

وقرأ الحسن : بكسر الميم وفتح الفاء ، ونسبها ابن عطية للزهري ، أي الجيد الفرار ، وأكثر ما يستعمل هذا الوزن في الآلات وفي صفات الخيل ، نحو قوله :

مكر مفر مقبل مدبر معاً

١١

كلا لا وزر

والظاهر أن قوله : { كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } من تمام قول الإنسان .

وقيل : هو من كلام اللّه تعالى ، لا حكاية عن الإنسان .{ كَلاَّ } : ردع عن طلب المفر ، { لاَ وَزَرَ } : لا ملجأ ، وعبر المفسرون عنه بالجبل . قال مطرف بن الشخير : هو كان وزر فرار العرب في بلادهم ، فلذلك استعمل ؛ والحقيقة أنه الملجأ من جبل أو حصن أو سلاح أو رجل أو غيره .

١٢

إلى ربك يومئذ . . . . .

{إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ } : أي إلى حكمه يومئذ تقول أين المفر ، { الْمُسْتَقَرُّ } : أي الاستقرار ، أو موضع استقرار من جنة أو نار إلى مشيئته تعالى ، يدخل من شاء الجنة ، ويدخل من شاء النار .

١٣

ينبأ الإنسان يومئذ . . . . .

{بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } ، قال عبد اللّه وابن عباس : بما قدم في حياته وأخر من سنة يعمل بها بعده .

وقال ابن عباس أيضاً : بما قدم من المعاصي وأخر من الطاعات . وقال زيد بن أسلم : بما قدم من ماله لنفسه ، وبما أخر منه للوارث . وقال النخعي ومجاهد : بأول عمله وآخره . وقال الضحاك : بما قدم من فرض وأخر من فرض ؛ والظاهر حمله على العموم ، أي يخبره بكل ما قدم وكل ما أخر مما ذكره المفسرون ومما لم يذكروه .

١٤

بل الإنسان على . . . . .

{بَصِيرَةٌ } : خبر عن الإنسان ، أي شاهد ، قاله قتادة ، والهاء للمبالغة . وقال الأخفش : هو كقولك : فلإن عبرة وحجة .

وقيل : أنث لأنه أراد جوارحه ، أي جوارحه على نفسه بصيرة .

وقيل : بصيرة مبتدأ محذوف الموصوف ، أي عين بصيرة ، وعلى نفسه الخبر . والجملة في موضع خبر عن الإنسان ، والتقدير عين بصيرة ، وإليه ذهب الفراء وأنشد : كأن على ذي العقل عيناً بصيرة

بمقعده أو منظر هو ناظره

يحاذر حتى يحسب الناس كلهممن الخوف لا تخفى عليهم سرائره

وعلى هذا نختار أن تكون بصيرة فاعلاً بالجار والمجرور ، وهو الخبر عن الإنسان . ألا ترى أنه قد اعتمد بوقوعه خبراً

عن الإنسان ؟ وعلى هذا فالتاء للتأنيث . وتأول ابن عباس البصيرة بالجوارح أو الملائكة الحفظة .

١٥

ولو ألقى معاذيره

والمعاذير عند الجمهور الأعذار ،

فالمعنى : لو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه فإنه هو الشاهد عليها والحجة البينة عليها .

وقيل : المعاذير جمع معذرة .

وقال الزمخشري : قياس معذرة معاذر ، فالمعاذير ليس بجمع معذرة ، إنما هو اسم جمع لها ، ونحو المناكير في المنكر . انتهى . وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع ، وإنما هو من أبنية جمع التكسير ، فهو كذاكير وملاميح والمفرد منهما لمحة وذكر ؛ ولم يذهب أحد إلى أنهما من أسماء الجموع ، بل قيل : هما جمع للمحة وذكر على قياس ، أو هما جمع لمفرد لم ينطق به ، وهو مذكار وملمحة . وقال السدي والضحاك : المعاذير : الستور بلغة اليمن ، واحدها معذار ، وهو يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة الذنب . وقاله الزجاج أيضاً ، أي وإن رمى مستورة يريد أن يخفي عمله ، فنفسه شاهدة عليه . وأنشدوا في أن المعاذير الستور قول الشاعر : ولكنها ضنت بمنزل ساعة

علينا وأطت فوقها بالمعاذر

وقيل : البصيرة : الكاتبان يكتبان ما يكون من خير أو شر ، أي وإن تستر بالستور ؛ وإذا كانت من العذر ، فمعنى { وَلَوْ أَلْقَى } : أي نطق بمعاذيره وقالها .

وقيل : ولو رمى بأعذاره واستسلم . وقال السدي : ولو أدى بحجة وعذر .

وقيل : ولو أحال بعضهم على بعض ، كقوله تعالى :{ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } ؛ والعذرة والعذرى : المعذرة ، قال الشاعر :

ها إن ذي عذرة إن لا تكن نفعت

وقال فيها : ولا عذر لمجحود .

١٦

انظر تفسير الآية:١٩

١٩

لا تحرك به . . . . .

{لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ } : الظاهر والمنصوص الصحيح في سبب النزول أنه خطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم على ما سنذكر إن شاء اللّه تعالى . وقال القفال : هو خطاب للإنسان المذكور في قوله :{ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ } ، وذلك حال تنبئه بقبائح أفعاله ، يعرض عليه كتابه فيقال له : اقرأ كتابك ، كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً . فإذا أخذ في القراءة تلجلج من شدّة الخوف وسرعة القراءة ، فقيل له :{ لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } ، فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك .{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } عليك ، { فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ } بأنك فعلت تلك الأفعال .{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } : أي بيان أمره وشرح عقوبته . وحاصل قول هذا القول أنه تعالى يقرر الكافر على جميع أفعاله على التفصيل ، وفيه أشد الوعيد في الدنيا والتهويل في الآخرة .

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس : أنه عليه الصلاة والسلام كان يعالج من التنزيل شدّة ، وكان بما يحرك شفتيه مخافة أن يذهب عنه ما يوحى إليه لحينه ، فنزلت . وقال الضحاك : السبب أنه كان عليه الصلاة والسلام كان يخاف أن ينسى القرآن ، فكان يدرسه حتى غلب ذلك عليه وشق ، فنزلت . وقال الشعبي : كان لحرصه عليه الصلاة والسلام على أداء الرسالة والاجتهاد في عبادة اللّه ربما أراد النطق ببعض ما أوحي إليه قبل كمال إيراد الوحي ، فأمر أن لا يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه ، وجاءت هذه الآية في هذا المعنى . والضمير في به للقرآن دل عليه مساق الآية .{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } : أي في صدرك ، { وَقُرْءانَهُ } : أي قراءتك إياه ، والقرآن مصدر كالقراءة ، قال الشاعر

ضحوا بأشمط عنوان السجود به

يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا

وقيل : وقرآنه : وتأليفه في صدرك ، فهو مصدر من قرأت : أي جمعت ، ومنه قولهم للمرأة التي لم تلد : ما قرأت سلاقط ، وقال الشاعر : ذراعي بكرة أدماء بكر

هجان اللون لم تقرأ جنينا

{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } : أي الملك المبلغ عنا ، { فَأَتْبَعَ } : أي بذهنك وفكرك ، أي فاستمع قراءته ، قاله ابن عباس . وقال أيضاً هو قتادة والضحاك : فاتبع في الأوامر والنواهي . وفي كتاب ابن عطية ،

وقرأ أبو العالية : فإذا قرته فاتبع قرته ، بفتح القاف والراء والتاء من غير همز ولا ألف في الثلاثة ، ولم يتكلم على توجيه هذه القراءة الشاذة ، ووجه اللفظ الأول أنه مصدر ، أي إن علينا جمعه وقراءته ، فنقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة وحذفها فبقي قرته كما ترى .

وأمّا الثاني فإنه فعل ماض أصله فإذا قرأته ، أي أردت قراءته ؛ فسكن الهمزة فصار قرأته ، ثم حذف الألف على جهة الشذوذ ، كما حذفت في قول العرب : ولو تر ما الصبيان ، يريدون : ولو ترى ما الصبيان ، وما زائدة .

وأمّا اللفظ الثالث فتوجيهه توجيه اللفظ الأول ، أي فإذا قرأته ، أي أردت قراءته ، فاتبع قراءته بالدرس أو بالعمل .{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } ، قال قتادة وجماعة : أن نبينه لك ونحفظكه .

وقيل : أن تبنيه أنت . وقال قتادة أيضاً : أن نبين حلاله وحرامه ومجمله ومفسره .

وفي التحرير والتحبير قال ابن عباس :{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } : أي حفظه في حياتك ، وقراءته : تأليفه على لسانك . وقال الضحاك : نثبته في قلبك بعد جمعه لك .

وقيل : جمعه بإعادة جبريل عليك مرة أخرى إلى أن يثبت في صدرك .{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } ، قال ابن عباس : أنزلناه إليك ، فاستمع قراءته ، وعنه أيضاً : فإذا يتلى عليكك فاتبع ما فيه . وقال قتادة : فاتبع حلاله واجتنب حرامه . وقد نمق الزمخشري بحسن إيراده تفسير هذه الآية فقال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا لقن الوحي ، نازع جبريل القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن يتفلت منه ، فأمر بأن يستنصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي إليه وحيه ، ثم يعقبه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه . والمعنى : لا تحرك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل يقرأ .{ لِتَعْجَلَ بِهِ } : لتأخذه على عجلة ولئلا يتفلت منك ، ثم علل النهي عن العجلة بقوله :{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } في صدرك وإثبات قراءته في لسانك .{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } : جعل قراءة جبريل قراءته ، والقرآن القراءة ، فاتبع قراءته : فكن مقفياً له فيه ولا تراسله ، وطامن نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ ، فنحن في ضمان تحفيظه .{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } : إذا أشكل عليك شيء من معانيه ، كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعاً ، كما ترى بعض الحراص على العلم ونحوه ، ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه . انتهى .

وذكر أبو عبد اللّه الرازي في تفسيره : أن جماعة من قدماء الروافض زعموا أن القرآن قد غير وبدل وزيد فيه ونقص منه ، وأنهم احتجوا بأنه لا مناسبة بين هذه الآية وما قبلها ، ولو كان التركيب من اللّه تعالى ما كان الأمر كذلك . ثم ذكر الرازي مناسبات على زعمه يوقف عليها في كتابه ، ويظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه تعالى لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضاً عن آيات اللّه تعالى ومعجزاته وأنه قاصر شهواته على الفجور غير مكترث بما يصدر منه ، ذكر حال من يثابر على تعلم آيات اللّه وحفظها وتلقفها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها ، فظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات اللّه ومن يرغب عنها .

وبضدها تتميز الأشياء

ولما كان عليه الصلاة والسلام ، لمثابرته على ذلك ، كان يبادر للتحفظ بتحريك لسانه أخبره تعالى أنه يجمعه له ويوضحه .

٢٠

انظر تفسير الآية:٢١

٢١

كلا بل تحبون . . . . .

كلا بل يحبون العاجلة ويذرون الآخرة . لما فرغ من خطابه

عليه الصلاة والسلام ، رجع إلى حال الإنسان السابق ذكره المنكر البعث ، وأن همه إنما هو في تحصيل حطام الدنيا الفاني لا في تحصيل ثواب الآخرة ، إذ هو منكر لذلك .

وقرأ الجمهور : { بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ } بتاء الخطاب ، لكفار قريش المنكرين البعث ، و { كَلاَّ } : رد عليهم وعلى أقوالهم ، أي ليس كما زعمتم ، وإنما أنتم قوم غلبت عليكم محبة شهوات الدنيا حتى تتركون معه الآخرة والنظر في أمرها .

وقال الزمخشري :{ كَلاَّ } ردع ، وذكر في كتابه ما يوقف عليه فيه .

وقرأ مجاهد والحسن وقتادة والجحدري وابن كثير وأبو عمرو : بياء الغيبة فيهما .

٢٢

انظر تفسير الآية:٢٣

٢٣

وجوه يومئذ ناضرة

ولما وبخهم بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة ، تخلص إلى شيء من أحوال الآخرة فقال : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } ، وعبر بالوجه عن الجملة .

وقرأ الجمهور :{ نَّاضِرَةٌ } بألف ، وزيد بن علي : نضرة بغير ألف .

وقرأ ابن عطية :{ وُجُوهِ } رفع بالابتداء ، وابتدأ بالنكرة لأنها تخصصت بقوله :{ يَوْمَئِذٍ } و { نَّاضِرَةٌ } خبر { وُجُوهِ} وقوله :{ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ } جملة هي في موضع خبر بعد خبر . انتهى . وليس { يَوْمَئِذٍ } تخصيصاً للنكرة ، فيسوغ الابتداء بها ، لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ، إنما يكون { يَوْمَئِذٍ } معمول لناضرة . وسوغ جواز الابتداء بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل ، و { نَّاضِرَةٌ } الخبر ، و { نَّاضِرَةٌ } صفة .

وقيل :{ نَّاضِرَةٌ } نعت لوجوه ، و { إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ } الخبر ، وهو قول سائغ . ومسألة النظر ورؤية اللّه تعالى مذكورة في أصول الدين ودلائل الفريقين ، أهل السنة وأهل الاعتزال ، فلا نطيل بذكر ذلك هنا . ولما كان الزمخشري من المعتزلة ، ومذهبه أن تقديم المفعول يدل على الاختصاص ، قال هنا : ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر في محشر يجمع اللّه فيه الخلائق ، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه محال ، فوجب حمله على معنى لا يصح معه الاختصاص ، والذي يصح معه أن يكون من قول الناس : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، يريد معنى التوقع والرجاء ، ومنه قول القائل : وإذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك زدتني نعماء

وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون مقائلهم تقول : عيينتي ناظرة إلى اللّه وإليكم ، والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم ، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه . انتهى . و

قال ابن عطية : ذهبوا ، يعني المعتزلة ، إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة ، أو إلى ثوابه أو ملكه ، فقدروا مضافاً محذوفاً ، وهذا وجه سائغ في العربية . كما تقول : فلان ناظر إليك في كذا : أي إلى صنعك في كذا . انتهى . والظاهر أن إلى في قوله :{ إِلَى رَبّهَا } حرف جر يتعلق بناظرة . وقال بعض المعتزلة : إلى هنا واحد الآلاء ، وهي النعم ، وهي مفعول به معمول لناظرة بمعنى منتظرة .

٢٤

انظر تفسير الآية:٢٥

٢٥

ووجوه يومئذ باسرة

{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } : يجوز أن يكون { وُجُوهِ } مبتدأ خبره { بَاسِرَةٌ } وتظن خبر بعد خبر وأن تكون باسرة صفة وتظن الخبر . والفاقرة قال ابن المسيب قاصمة الظهر ، وتظن بمعنى توقن أو يغلب على اعتقادها وتتوقع { أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } : فعل هو في شدة داهية تقصم . وقال أبو عبيدة : فاقرة من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار .

٢٦

انظر تفسير الآية:٢٧

٢٧

كلا إذا بلغت . . . . .

{كَلاَّ } : ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة وتذكير لهم بما يؤولون إليه من الموت الذي تنقطع العاجلة عنده وينتقل منها إلى الآجلة ، والضمير في { بَلَغَتِ } عائد إلى النفس الدال عليها سياق الكلام ، كقول حاتم : لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

وتقول العرب : أرسلت ، يريدون جاء المطر ، ولا نكاد نسمعهم يقولون السماء . وذكرهم تعالى بصعوبة الموت ، وهو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها .

وقيل : مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون القائل حاضروا المريض طلبوا له من يرقي ويطب ويشفي ، وغير ذلك مما يتمناه له أهله ، قاله ابن عباس والضحاك وأبو قلابة وقتادة ، وهو استفهام

حقيقة .

وقيل : هو استفهام إبعاد وإنكار ، أي قد بلغ مبلغاً لا أحد يرقيه ، كما عند الناس : من ذا الذي يقدر أن يرقي هذا المشرف على الموت قاله عكرمة وابن زيد . واحتمل أن يكون القائل الملائكة ، أي من يرقي بروحه إلى السماء ؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ قاله ابن عباس أيضاً وسليمان التيمي .

وقيل : إنما يقولون ذلك لكراهتهم الصعود بروح الكافر لخبثها ونتنها ، ويدل عليه قوله بعد : { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى } الآية . ووقف حفص على { مِنْ } ، وابتدأ { رَاقٍ } ، وأدغم الجمهور . قال أبو علي : لا أدري ما وجه قراءته . وكذلك قرأ :{ بَلْ رَانَ} انتهى . وكان حفصاً قصد أن لا يتوهم أنها كلمة واحدة ، فسكت سكت لطيفاً ليشعر أنهما كلمتان . وقال سيبويه : إن النون تدغم في الراء ، وذلك نحو من راشد ؛ والإدغام بغنة وبغير غنة ، ولم يذكر البيان . ولعل ذلك من نقل غيره من الكوفيين ، وعاصم شيخ حفص يذكر أنه كان عالماً بالنحو .

وأمّا { بَلْ رَانَ } فقد ذكر سيبويه أن اللام البيان فيها ، والإدغام مع الراء حسنان ، فلما أفرط في شأن البيان في { بَلْ رَانَ } ، صار كالوقف القليل .

٢٨

وظن أنه الفراق

{وَظَنَّ } ،أي المريض ، { أَنَّهُ } : أي ما نزل به ، { الْفِرَاقُ } : فراق الدنيا التي هي محبوبته ، والظن هنا على بابه .

وقيل : فراق الروح الجسد .

٢٩

والتفت الساق بالساق

{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ } ، قال ابن عباس والربيع بن أنس وإسماعيل بن أبي خالد : استعارة لشدّة كرب الدنيا في آخر يوم منها ، وشدة كرب الآخرة في أول يوم منها ، لأنه بين الحالين قد اختلطا به ، كما يقول : شمرت الحرب عن ساق ، استعارة لشدتها . وقال ابن المسيب والحسن : هي حقيقة ، والمراد ساقا الميت عندما لفا في الكفن . وقال الشعبي وقتادة وأبو مالك : التفافهما لشدّة المرض ، لأنه يقبض ويبسط ويركب هذه على هذه . وقال الضحاك : أسوق حاضريه من الإنس والملائكة ؛ هؤلاء يجهزونه إلى القبر ، وهؤلاء يجهزون روحه إلى السماء .

وقيل : التفافهما : موتهما أولاً ، إذ هما أول ما تخرج الروح منهما فتبردان قبل سائر الأعضاء . وجواب إذا محذوف تقديره وجد ما عمله في الدنيا من خير وشر .

٣٠

إلى ربك يومئذ . . . . .

{إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } : المرجع والمصير ، والمساق مفعل من السوق ، فهو اسم مصدر ، إمّا إلى جنة ،

وإمّا إلى نار .{ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى } ، الجمهور : إنها نزلت في أبي جهل وكادت أن تصرح به في قوله :{ يَتَمَطَّى} فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم ، وكان يكثر منها . وتقدم أيضاً أنه قيل في قوله :{ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } أنها نزلت في أبي جهل .

وقال الزمخشري : يعني الإنسان في قوله :{ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} ألا ترى إلى قوله :{ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } ، وهو معطوف على قوله :{ يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ } : أي لا يؤمن بالبعث ؟

٣١

فلا صدق ولا . . . . .

{فَلاَ صَدَّقَ } بالرسول والقرآن ، { وَلاَ صَلَّى} ويجوز أن يراد : فلا صدق ماله ، يعني فلا زكاة . انتهى . وكون { فَلاَ صَدَّقَ } معطوفاً على قوله :{ يَسْئَلُ } فيه بعد ، ولا هنا نفت الماضي ، أي لم يصدق ولم يصل ؛ وفي هذا دليل على أن لا تدخل على الماضي فتنصبه ، ومثله قوله : وأي خميس لا أتانا نهابه

وأسيافنا يقطرن من كبشه دما

وقال الراجز : إن تغفر اللّهم تغفر جما

وأيّ عبد لك لا ألما

وصدق : معناه برسالة اللّه . وقال يوم : هو من الصدقة ، وهذا الذي يظهر نفي عنه الزكاة والصلاة وأثبت له التكذيب ، كقوله : { لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ} وحمل { فَلاَ صَدَّقَ } على نفي التصديق بالرسالة ، فيقتضي أن يكون { وَلَاكِن كَذَّبَ } تكراراً . ولزم أن يكون لكن استدراكاً بعد { وَلاَ صَلَّى } لا بعده { فَلاَ صَدَّقَ } ، لأنه كان يتساوى الحكم في { فَلاَ صَدَّقَ } وفي { كَذَّبَ } ، ولا يجوز ذلك ،

٣٢

ولكن كذب وتولى

إذ لا يقع لكن بعد متوافقين . { وتولي } : أعرض عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكذب بما جاء به .

٣٣

ثم ذهب إلى . . . . .

{ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ } : أي قومه ، { يَتَمَطَّى } : يبختر في مشيته .

٣٤

انظر تفسير الآية:٣٥

٣٥

أولى لك فأولى

روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لبب أبا جهل يوماً في البطحاء وقال له :  { إن اللّه يقول لك أولى فأولى لك } ، فنزل القرآن على نحوها ، وقالت الخنساء : هممت بنفسي كل الهمو

م فأولى لنفسي أولى لها

وتقدم الكلام على { أُوْلِى } شرحاً وإعراباً في قوله تعالى :{ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } في سورة القتال ، وتكراره هنا مبالغة في التهديد والوعيد .

٣٦

أيحسب الإنسان أن . . . . .

ولما ذكر حاله في الموت وما كان من حاله في الدنيا ، قرر له أحواله في بدايته ليتأمّلها ، فلا ينكر معها جواز البعث من القبور .

٣٧

ألم يك نطفة . . . . .

وقرأ الجمهور : { أَلَمْ يَكُ } بياء الغيبة ؛ والحسن : بتاء الخطاب على سبيل الالتفات .

وقرأ الجمهور : تمنى ، أي النطفة يمنيها الرجل ؛ وابن محيصن والجحدري وسلام ويعقوب وحفص وأبو عمر : بخلاف عنه بالياء ، أي يمنى هو ، أي المني ، فخلق اللّه منه بشراً مركباً من أشياء مختلفة .

٣٨

ثم كان علقة . . . . .

{فَسَوَّى } : أي سواه شخصاً مستقلاً .

٣٩

فجعل منه الزوجين . . . . .

{فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ } : أي النوعين أو المزدوجين من البشر ، وفي قراءة زيد بن عليّ : الزّوجان بالألف ، وكأنه على لغة بني الحارث بن كعب ومن وافقهم من العرب من كون المثنى بالألف في جميع أحواله .

٤٠

أليس ذلك بقادر . . . . .

وقرأ أيضاً : يقدر مضارعاً ، والجمهور : { بِقَادِرٍ } اسم فاعل مجرور بالباء الزائدة .

{أَلَيْسَ ذَلِكَ } : أي الخالق المسوي ، { بِقَادِرٍ } ، وفيه توقيف وتوبيخ لمنكر البعث .

وقرأ طلحة بن سليمان والفيض بن غزوان : بسكون الياء من قوله :{ أَن يُحْيِىَ } ، وهي حركة إعراب لا تنحذف إلا في الوقف ، وقد جاء في الشعر حذفها .

وقرأ الجمهور : بفتحها . وجاء عن بعضهم يحيي بنقل حركة الياء إلى الحاء وإدغام الياء في الياء . قال ابن خالويه : لا يجيز أهل البصرة سيبويه وأصحابه إدغام يحيي ، قالوا لسكون الياء الثانية ، ولا يعتدون بالفتحة في الياء لأنها حركة إعراب غير لازمة .

وأما الفراء فاحتج بهذا البيت :

تمشي بسده بينها فتعيى

يريد : فتعيي ، واللّه تعالى أعلم .

﴿ ٠