سورة الدهر

مدنية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

هل أتى على . . . . .

الأمشاج : الاخلاط ، واحدها مشج بفتحتين ، أو مشج كعدل ، أو مشيج كشريف وأشراف ، قاله ابن الأعرابي ، وقال رؤبة

يطرحن كل معجل بساج

لم يكس جلداً من دم أمشاج

وقال الهذلي : كأن النصل والفوقين منها

خلاف الريش سيط به مشيج

وقال الشماخ : طوت أحشاء مرتجة لوقت

على مشج سلالته مهين

ويقال : مشج يمشج مشجاً إذا خلط ، ومشيج : كخليط ، وممشوج : كمخلوط . مزج الشيء بالشيء : خلطه ، وقال الشاعر : كأن سبيئة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء

استطار الشيء : انتشر ، وتقول العرب : استطار الصدع في القارورة وشبهها واستطال ، ومنه قول الشاعر : فبانت وقد أسأرت في الفؤا

د صدعاً على نأيها مستطيرا

وقال الفراء : مستطير : مستطيل .

ويقال : يوم قمطرير وقماطر واقمطرّ ، فهو مقمطر إذا كان صعباً شديداً ، وقال الزاجز : قد جعلت شبوة تزبئر

تكسو إستها لحماً وتقمطر

وقال الشاعر : ففرّوا إذا ما الحرب ثار غبارها

وبج بها اليوم الشديد القماطر

وقال الزجاج : القمطرير : الذي يعيش حتى يجتمع ما بين عينيه ،

ويقال : أقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ورمت بأنفها ، فاشتقه من القطر وجعل الميم زائدة ، وقال أسد بن ناعصة : واصطليت الحروب في كل يوم

باسد الشر قمطرير الصباح

واختلف في هذا الوزن ، وأكثر النحاة لا يثبت افمعلّ في أوزان الأفعال . الزمهرير : أشد البرد ، وقال ثعلب : هو القمر بلغة طي ، وأنشد قول الراجز :

وليلة ظلامها قد اعتكر

قطعتها والزمهرير ما زهر

القارورة : إناء رقيق صاف توضع فيه الأشربة ، قيل : ويكون من الزجاج . الزنجبيل ، قال الدينوري : نبت في أرض عمان عروق تسري وليس بشجر ، يؤكل رطباً ، وأجوده ما يحمل من بلاد الصين ، كانت العرب تحبه لأنه يوجب لذعاً في اللسان إذا مزج بالشراب فيتلذذون به ، قال الشاعر : كأن جنباً من الزنجبيل بات

بفيها وارياً مستورا

وقال المسيب بن علس :

وكأن طعم الزنجبيل به إذا ذقته وسلافة الخمر

السلسبيل والسلسل والسلسال : ما كان من الشراب غاية في السلاسة ، قاله الزجاج . وقال ابن الأعرابي : لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن . ثم ظرف مكان للبعد .

هذه السورة مكية في قول الجمهور . وقال مجاهد وقتادة : مدنية . وقال الحسن وعكرمة : مدنية إلا آية واحدة فإنها مكية وهي :{ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً}

وقيل : مدنية إلا من قوله :{ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ } الخ ، فإنه مكي ، حكاه الماوردي . ومناسبتها لما قبلها ظاهرة جدّاً لا تحتاج إلى شرح .

{هَلُ } حرف استفهام ، فإن دخلت على الجملة الاسمية لم يمكن تأويله بقد ، لأن قد من خواص الفعل ، فإن دخلت على الفعل فالأكثر أن تأتي للاستفهام المحض .

وقال ابن عباس وقتادة : هي هنا بمعنى قد . قيل : لأن الأصل أهل ، فكأن الهمزة حذفت واجتزىء بها في الاستفهام ، ويدل على ذلك قوله : سائل فوارس يربوع لحلتها

أهل رأونا بوادي النتّ ذي الأكم

فالمعنى : أقد أتى على التقدير والتقريب جميعاً ، أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب حين من الدهر لم يكن كذا ، فإنه يكون الجواب : أتى عليه ذلك وهو بالحال المذكور . وما تليت عند أبي بكر ،

وقيل : عند عمر رضي اللّه تعالى عنهما قال : ليتها تمت ، أي ليت تلك الحالة تمت ، وهي كونه شيئاً غير مذكور ولم يخلق ولم يكلف . والإنسان هنا جنس بني

آدم ، والحين الذي مرّ عليه ، إما حين عدمه ،

وإما حين كونه نطفة . وانتقاله من رتبة إلى رتبة حتى حين إمكان خطابه ، فإنه في تلك المدة لا ذكر له ، وسمي إنساناً باعتبار ما صار إليه .

وقيل : آدم عليه الصلاة والسلام ، والحين الذي مر عليه هي المدة التي بقي فيها إلى أن نفخ فيه الروح .

وعن ابن عباس : بقي طيناً أربعين سنة ، ثم صلصالاً أربعين ، ثم حمأ مسنوناً أربعين ، فتم خلقه في مائة وعشرين سنة ، وسمي إنساناً باعتبار ما آل إليه . والجملة من { لَمْ يَكُنِ } في موضع الحال من الإنسان ، كأنه قيل : غير مذكور ، وهو الظاهر أو في موضع الصفة لحين ، فيكون العائد على الموصوف محذوفاً ، أي لم يكن فيه .

٢

إنا خلقنا الإنسان . . . . .

{إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ } : هو جنس بني آدم لأن آدم لم يخلق { مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } : أخلاط ، وهو وصف للنطفة . فقال ابن مسعود وأسامة بن زيد عن أبيه : هي العروق التي في النطفة .

وقال ابن عباس ومجاهد والربيع : هو ماء الرجل وماء المرأة اختلطا في الرحم فخلق الإنسان منهما . وقال الحسن : اختلاط النطفة بدم الحيض ، فإذا حبلت ارتفع الحيض .

وقال ابن عباس أيضاً وعكرمة وقتادة : أمشاج منتقلة من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى غير ذلك إلى إنشائه إنساناً .

وقال ابن عباس أيضاً والكلبي : هي ألوان النطفة .

وقيل : أخلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء ، والنطفة أريد بها الجنس ، فلذلك وصفت بالجمع كقوله :{ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ } ،أو لتنزيل كل جزء من النطفة نطفة .

وقال الزمخشري : نطفة أمشاج ، كبرمة إعسار ، وبرد أكياس ، وهي ألفاظ مفرد غير جموع ، ولذلك وقعت صفات للأفراد . ويقال أيضاً : نطفة مشج ، ولا يصح أمشاج أن تكون تكسيراً له ، بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما . انتهى . وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن أفعالاً لا يكون مفرداً . قال سيبويه : وليس في الكلام أفعال إلا أن يكسر عليه اسماً للجميع ، وما ورد من وصف المفرد بأفعال تأولوه .{ نَّبْتَلِيهِ } : نختبره بالتكليف في الدنيا ؛

وعن ابن عباس : نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة ، فعلى هذا هي حال مصاحبة ، وعلى أن المعنى نختبره بالتكليف ، فهي حال مقدرة لأنه تعالى حين خلقه من نطفة لم يكن مبتلياً له بالتكليف في ذلك الوقت .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ناقلين له من حال إلى حال فسمي ذلك الابتلاء على طريق الاستعارة . انتهى . وهذا معنى قول ابن عباس .

وقيل : نبتليه بالإيحان والكون في الدنيا ، فهي حال مقارنة .

وقيل : في الكلام تقديم وتأخير الأصل .{ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } نبتليه ، أي جعله سميعاً بصيراً هو الابتلاء ، ولا حاجة إلى ادعاء التقديم والتأخير ، والمعنى يصح بخلافه ، وامتن تعالى عليه بجعله بهاتين الصفتين ، وهما كناية عن التمييز والفهم ، إذ آلتهما سبب لذلك ، وهما أشرف الحواس ، تدرك بهما أعظم المدركات .

٣

إنا هديناه السبيل . . . . .

ولما جعله بهذه المثابة ، أخبر تعالى أنه هداه إلى السبيل ، أي أرشده إلى الطريق ، وعرفنا مآل طريق النجاة ومآل طريق الهلاك ، إذ أرشدناه طريق الهدى . وقال مجاهد : سبيل السعادة والشقاوة . وقال السدي : سبيل الخروج من الرحم .

وقال الزمخشري : أي مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعاً ، وإذ دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع كان معلوماً منه أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة . انتهى ، وهو على طريق الإلتزام .

وقرأ الجمهور : { أَمَّا } بكسر الهمزة فيهما ؛ وأبو السمال وأبو العاج ، وهو كثير بن عبد اللّه السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك : بفتحها فيهما ، وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب ، وهي التي عدها بعض الناس في حروف العطف

وأنشدوا : يلحقها إما شمال عرية

وإما صبا جنح العشي هبوب

وقال الزمخشري : وهي قراءة حسنة ، والمعنى : إما شاكراً بتوفيقنا ،

وإما كفوراً فبسوء اختياره . انتهى . فجعلها إما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط ، ولذلك تلقاها بفاء الجواب ، فصار كقول العرب : إما صديقاً فصديق ؛ وانتصب شاكراً وكفوراً على الحال من ضمير النصب في { هَدَيْنَاهُ}

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكونا حالين من السبيل ، أي عرفناه السبيل ، إما سبيلاً شاكراً

وإما سبيلاً كفوراً ، كقوله :{ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ } ، فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً . انتهى . ولما كان الشكر قل من يتصف به قال شاكراً : ولما كان الكفر كثر من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان بخلاف الشكر جاء كفوراً بصيغة المبالغة .

٤

إنا أعتدنا للكافرين . . . . .

ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد .

وقرأ طلحة وعمرو بن عبيد وابن كثير وأبو عمرو وحمزة : { سَلَاسِلَ } ممنوع الصرف وقفاً ووصلاً .

وقيل عن حمزة وأبي عمر : الوقف بالألف .

وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف ، واختلف عنهم في الوقف ، وكذا عن البزي .

وقرأ باقي السبعة : بالتنوين وصلاً وبالألف المبدلة منه وقفاً ، وهي قراءة الأعمش ، قيل : وهذا على ما حكاه الأخفش من لغة من يصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل من وهي لغة الشعراء ، ثم كثر حتى جرى في كلامهم ، وعلل ذلك بأن هذا الجمع لما كان يجمع فقالوا : صواحبات يوسف ونواكسي الأبصار ، أشبه المفرد فجرى فيه الصرف ، وقال بعض الرجاز : والصرف في الجمع أتى كثيرا

حتى ادعى قوم به التخييرا

والصرف ثابت في مصاحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة ، وفي مصحف أبي وعبد اللّه ، وكذا قوارير . وروى هشام عن ابن عامر : سلاسل في الوصل ، وسلاسلاً بألف دون تنوين في الوقف . وروي أن من العرب من يقول : رأيت عمراً بالألف في الوقف .

٥

انظر تفسير الآية:٦

٦

إن الأبرار يشربون . . . . .

{مِن كَأْسٍ } : من لابتداء الغاية ، { كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } ، قال قتادة : يمزج لهم بالكافور ، ويختم لهم بالمسك .

وقيل : هو على التشبيه ، أي طيب رائحة وبرد كالكافور . وقال الكلبي : كافوراً اسم عين في الجنة ، وصرفت لتوافق الآي .

وقرأ عبد اللّه : قافوراً بالقاف بدل الكاف ، وهما كثيراً ما يتعاقبان في الكلمة ، كقولهم : عربي قح وكح ، و { عَيْناً } بدل من { كَافُوراً } مفعولاً بيشربون ، أي ماء عين ، أو بدل من محل من كأس على حذف مضاف ، أي يشربون خمراً خمر عين ، أو نصب على الاختصاص . ولما كانت الكأس مبدأ شربهم أتى بمن ؛ وفي { يَشْرَبُ بِهَا } : أي يمزج شرابهم بها أتى بالباء الدالة على الإلصاق ، والمعنى : يشرب عباد اللّه بها الخمر ، كما تقول : شربت الماء بالعسل ، أو ضمن يشرب معنى يروى فعدى بالباء .

وقيل : الباء زائدة والمعنى يشرب بها ، وقال الهذلي : شربن بماء البحر ثم ترفعت

متى لجج خضر لهن نئيج

قيل :أي شربن ماء البحر .

وقرأ ابن أبي عبلة : بشربها ؛ وعباد اللّه هنا هم المؤمنون ، { يُفَجّرُونَهَا } : يثقبونها بعود

قصب ونحوه حيث شاءوا ، فهي تجري عند كل واحد منهم ، هكذا ورد في الأثر .

وقيل : هي عين في دار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تنفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين .

٧

يوفون بالنذر ويخافون . . . . .

{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } في الدنيا ، وكانوا يخافون .

وقال الزمخشري :{ يُوفُونَ } جواب من عسى يقول ما لهم يرزقون ذلك . انتهى . فاستعمل عسى صلة لمن وهو لا يجوز ، وأتى بعد عسى بالمضارع غير مقرون بأن ، وهو قليل أو في شعر . والظاهر أن المراد بالنذر ما هو المعهود في الشريعة أنه نذر . قال الأصم وتبعه الزمخشري : هذا مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات ، لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه كان لما أوجبه اللّه تعالى عليه أوفى .

وقيل : النذر هنا عام لما أوجبه اللّه تعالى ، وما أوجبه العبد فيدخل فيه الإيمان وجمع الطاعات .

٨

ويطعمون الطعام على . . . . .

{عَلَى حُبّهِ } : أي على حب الطعام ، إذ هو محبوب للفاقة والحاجة ، قاله ابن عباس ومجاهد ؛ أو على حب اللّه : أي لوجهه وابتغاء مرضاته ، قاله الفضيل بن عياض وأبو سليمان الداراني . والأول أمدح ، لأن فيه الإيثار على النفس ؛

وأما الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر . وقال الحسن بن الفضل : على حب الطعام ، أي محبين في فعلهم ذلك ، لا رياء فيه ولا تكلف .{ مِسْكِيناً } : وهو الطواف المنكسر في السؤال ، { وَيَتِيماً } : هو الصبي الذي لا أب له ، { وَأَسِيراً } : والأسير معروف ، وهو من الكفار ، قاله قتادة .

وقيل : من المسلمين تركوا في بلاد الكفار رهائن وخرجوا لطلب الفداء . وقال ابن جبير وعطاء : هو الأسير من أهل القبلة .

وقيل :{ وَأَسِيراً } استعارة وتشبيه . وقال مجاهد وابن جبير وعطاء : هو المسجون . وقال أبو حمزة اليماني : هي الزوجة ؛ وعن أبي سعيد الخدري : هو المملوك والمسجون . وفي الحديث : { غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك} .

٩

إنما نطعمكم لوجه . . . . .

{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّه} : هو على إضمار القول ، ويجوز أن يكونوا صرحوا به خطاباً للمذكورين ، منعاً منهم وعن المجازاة بمثله أو الشكر ، لأن إحسانهم مفعول لوجه اللّه تعالى ، فلا معنى لمكافأة الخلق ، وهذا هو الظاهر . وقال مجاهد : أما أنهم ما تكلموا به ، ولكن اللّه تعالى علمه منهم فأثنى عليهم به .{ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء } : أي بالأفعال ، { وَلاَ شُكُوراً } : أي ثناء بالأقوال ؛ وهذه الآية قيل نزلت في علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه ، وذكر النقاش في ذلك حكاية طويلة جداً ظاهرة الاختلاف ، وفيها إشعار للمسكين واليتيم والأسير ، يخاطبون بها ببيت النبوة ، وإشعار لفاطمة رضي اللّه عنها تخاطب كل واحد منهم ، ظاهرها الاختلاف لسفساف ألفاظها وكسر أبياتها وسفاطة معانيها .

١٠

إنا نخاف من . . . . .

{يَوْماً عَبُوساً } : نسبة العبوس إلى اليوم مجاز . قال ابن عباس : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من عينيه عرق كالقطران .

١١

فوقاهم اللّه شر . . . . .

وقرأ الجمهور : { فَوَقَاهُمُ } بخفة القاف ؛ وأبو جعفر : بشدها ؛{ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً } : بدل عبوس الكافر ، { وَسُرُوراً } : فرحاً بدل حزنه ، لا تكاد تكون النظرة إلا مع فرح النفس وقرة العين .

١٢

وجزاهم بما صبروا . . . . .

وقرأ الجمهور : { وَجَزَاهُمْ } ؛ وعليّ : وجازاهم على وزن فاعل ، { جَنَّةً وَحَرِيراً } : بستاناً فيه كل مأكل هنيء ، { وَحَرِيراً } فيه ملبس بهي ، وناسب ذكر الحرير مع الجنة لأنهم أوثروا على الجوع والغذاء .

١٣

انظر تفسير الآية:١٤

١٤

متكئين فيها على . . . . .

{لاَ يَرَوْنَ فِيهَا } : أي في الجنة ، { شَمْساً } : أي حر شمس ولا شدة برد ، أي لا شمس فيها فترى فيؤذي حرها ، ولا زمهرير يرى فيؤذي بشدته ، أي هي معتدلة الهواء . وفي الحديث : { هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر} .

وقيل : لا يرون فيها شمساً ولا قمراً ، والزمهرير في لغة طيء القمر .

وقرأ الجمهور :{ وَدَانِيَةً } ، قال الزجاج : هو حال عطفاً على { مُتَّكِئِينَ} وقال أيضاً : ويجوز أن يكون صفة للجنة ،

فالمعنى : وجزاهم جنة دانية .

وقال الزمخشري : ما معناه أنها حال مطعوفة على حال وهي لا يرون ، أي غير رائين ، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم ، كأنه قيل : وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقر ودنوّ الظلال عليهم .

وقرأ أبو حيوة : ودانية بالرفع ، واستدل به الأخفش على جواز رفع اسم الفاعل من غير أن يعتمد ، نحو قولك : قائم الزيدون ، ولا حجة فيه لأن الأظهر أن يكون { ظِلَالُهَا } مبتدأ { وَدَانِيَةً } خبر له .

وقرأ الأعمش : ودانياً عليهم ، وهو كقوله :{ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ}

وقرأ أبيّ : ودان مرفوع ، فهذا يمكن أن يستدل به الأخفش .{ وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا } ، قال قتادة ومجاهد وسفيان : إن كان الإنسان قائماً ، تناول الثمر دون كلفة ؛ وإن قاعداً أو مضطعجاً فكذلك ، فهذا تذليلها ، لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك . فأما على قراءة الجمهور :{ وَدَانِيَةً } بالنصب ، كان { وَذُلّلَتْ } معطوفاً على دانية لأنها في تقدير المفرد ، أي

ومذللة ، وعلى قراءة الرفع كان من عطف جملة فعلية على جملة اسمية . ويجوز أن تكون في موضع الحال ، أي وقد ذللت رفعت دانية أو نصبت .

١٥

انظر تفسير الآية:١٦

١٦

ويطاف عليهم بآنية . . . . .

لما وصف تعالى طعامهم وسكناهم وهيئة جلوسهم ، ذكر شرابهم ، وقدم ذكر الآنية التي يسقون منها ، والآنية جمع إناء ، وتقدم شرح الأكواب .

وقرأ نافع والكسائي : قواريراً قواريراً بتنوينهما وصلاً وإبداله ألفاً وقفاً ؛ وابن عامر وحمزة وأبو عمرو وحفص : بمنع صرفهما ؛ وابن كثير : بصرف الأول ومنع الصرف في الثاني .

وقال الزمخشري : وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق لأنه فاصلة ، وفي الثاني لاتباعه الأول . انتهى . وكذا قال في قراءة من قرأ سلاسلاً بالتنوين : إنه بدل من حرف الإطلاق ، أجرى الفواصل مجرى أبيات الشعر ، فكما أنه يدخل التنوين في القوافي المطلقة إشعاراً بترك الترنم ، كما قال الراجز :

يا صاح ما هاج الدموع الذرّفن

فهذه النون بدل من الألف ، إذ لو ترنم لوقف بألف الإطلاق . { مِن فِضَّةٍ } : أي مخلوقة من فضة ، ومعنى { كَانَتْ } : أنه أوجدها تعالى من قوله :{ كُنْ فَيَكُونُ } تفخيماً لتلك الخقلة العجيبة الشأن الجامعة بين بياض الفضة ونصوعها وشفيف القوارير وصفائها ، ومن ذلك قوله :{ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً}

وقرأ الأعمش : قوارير من فضة بالرفع ، أي هو قرارير .

وقرأ الجمهور :{ قَدَّرُوهَا } مبنياً للفاعل ، والضمير للملائكة ، أو للطواف عليهم ، أو المنعمين ، والتقدير : على قدر الأكف ، قاله الربيع ؛ أو على قدر الري ، قاله مجاهد .

وقال الزمخشري :{ قَدَّرُوهَا } صفة لقرارير من فضة ، ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم ، فجاءت كما قدروها .

وقيل : الضمير للطائفين بها يدل عليه قوله :{ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ } ، على أنهم قدروا شرابها على قدر الري ، وهو ألذ الشراب لكونه على مقدار حاجته ، لا يفضل عنها ولا يعجز . وعن مجاهد : لا يفيض ولا يغيض . انتهى .

وقرأ عليّ وابن عباس والسلمي والشعبي وابن أبزي وقتادة وزيد بن عليّ والجحدري وعبد اللّه بن عبيد بن عمير وأبو حيوة وعباس عن أبان ، والأصمعي عن أبي عمرو ، وابن عبد الخالق عن يعقوب : قدروها مبنياً للمفعول . قال أبو علي : كأن اللفظ قدروا عليها ، وفي المعنى قلب لأن حقيقة المعنى أن يقال : قدرت عليهم ، فهي مثل قوله :{ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ } ، ومثل قول العرب : إذا طلعت الجوزاء ألقى العود على الحرباء .

وقال الزمخشري : ووجهه أن يكون من قدر منقولاً من قدر ، تقول : قدرت الشيء وقدرنيه فلان إذا جعلك قادراً عليه ، ومعناه : جعلوا قادرين لها كما شاءوا ، وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا . انتهى .

وقال أبو حاتم : قدرت الأواني على قدر ريهم ، ففسر بعضهم قول أبي حاتم هذا ، قال : فيه حذف على حذف ، وهو أنه كان قدر على قدر ريهم إياها ، ثم حذف على فصار قدر ريهم

مفعول لم يسم فاعله ، ثم حذف قدر فصار ريهم قائماً مقامه ، ثم حذف الري فصارت الواو مكان الهاء والميم لما حذف المضاف مما قبلها ، وصارت الواو مفعول ما لم يسم فاعله ، واتصل ضمير المفعول الثاني في تقدر النصب بالفعل بعد الواو التي تحولت من الهاء والميم حتى أقيمت مقام الفاعل . انتهى . والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون الأصل قدر ريهم منها تقديراً ، فحذف المضاف وهو الذي ، وأقيم الضمير مقامه فصار التقدير : قدروا منها ؛ ثم اتسع في الفعل فحذفت من ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه فصار قدّروها ، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف واتساع في المجرور .

١٧

انظر تفسير الآية:١٨

١٨

ويسقون فيها كأسا . . . . .

والظاهر أن الكأس تمزج بالزنجبيل ، والعرب تستلذة وتذكره في وصف رضاب أفواه النساء ، كما أنشدنا لهم في الكلام على المفردات .

وقال الزمخشري : تسمى العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها . انتهى . وقال قتادة : الزنجبيل اسم لعين في الجنة ، يشرب منها المقربون صرفاً ، ويمزج لسائر أهل الجنة . وقال الكلبي : يسقى بجامين ، الأول مزاجه الكافور ، والثاني مزاجه الزنجبيل . وعيناً بدل من كأس على حذف ، أي كأس عين ، أو من زنجبيل على قول قتادة .

وقيل : منصوب على الاختصاص . والظاهر أن هذه العين تسمى سلسبيلاً بمعنى توصف بأنها سلسلة في الاتساع سهلة في المذاق ، ولا يحمل سلسبيل على أنه اسم حقيقة ، لأنه إذ ذاك كان ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية . وقد روي عن طلحة أنه قرأه بغير ألف ، جعله علماً لها ، فإن كان علماً فوجه قراءة الجمهور بالتنوين المناسبة للفواصل ، كما قال ذلك بعضهم في سلاسلاً وقواريراً ؛ ويحسن ذلك أنه لغة بعض العرب ، أعني صرف ما لا يصرفه أكثر العرب .

وقال الزمخشري : وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية . انتهى . وكان قد ذكر فقال : شراب سلسل وسلسال وسلسيل ، فإن كان عنى أنه زيد حقيقة فليس بجيد ، لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة في علم النحو ؛ وإن عنى أنها حرف جاء في سنح الكلمة وليس في سلسيل ولا في سلسال ، فيصح ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفاً في المادة .

وقال بعض المعربينّ : سلسبيلاً أمر للنبي صلى اللّه عليه وسلم ولأمته بسؤال السبيل إليها ، وقد نسبوا هذا القول إلى علي كرم اللّه وجهه ، ويجب طرحه من كتب التفسير . وأعجب من ذلك توجيه الزمخشري له واشتغاله بحكايته ، ويذكر نسبته إلى عليّ كرم اللّه وجهه ورضي عنه . وقال قتادة : هي عين تنبع من تحت العرش من جنة عدن إلى الجنان . وقال عكرمة : عين سلس ماؤها . وقال مجاهد : عين جديرة الجرية سلسلة سهلة المساغ . وقال مقاتل : عين يتسلسل عليهم ماؤها في مجالسهم كيف شاءوا

١٩

ويطوف عليهم ولدان . . . . .

وتقدّم شرح { مُّخَلَّدُونَ } وتشبيه الولدان باللؤلؤ المنثور في بياضهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في المساكن في خدمة أهل الجنة يجيئون ويذهبون .

وقيل : شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا أنثر من صدفه ، فإنه أحسن في العين وأبهج للنفس . وجواب

٢٠

وإذا رأيت ثم . . . . .

{إِذَا رَأَيْتَهُمْ } :{ نَعِيماً } ، ومفعول فعل الشرط محذوف ، حذف اقتصاراً ، والمعنى : وإذا رميت ببصرك هناك ، وثم ظرف العامل فيه رأيت .

وقيل : التقدير : وإذا رأيت ما ثم ، فحذف ما كما حذف في قوله :{ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } ،أي ما بينكم . وقال الزجاج ، وتبعه الزمخشري فقال : ومن قال معناه ما ثم فقد أخطأ ، لأن ثم صلة لما ، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة . انتهى . وليس بخطأ مجمع عليه ، بل قد أجاز ذلك الكوفيون ، وثم شواهد من لسان العرب كقوله : فمن يهجو رسول اللّه منكم

ويمدحه وينصره سواء

أي : ومن يمدحه ، فحذف الموصول وأبقى صلته . و

قال ابن عطية : وثم ظرف العامل فيه رأيت أو معناه

التقدير : رأيت ما ثم حذفت ما . انتهى . وهذا فاسد ، لأنه من حيث جعله معمولاً لرأيت لا يكون صلة لما ، لأن العامل فيه إذ ذاك محذوف ، أي ما استقر ثم .

وقرأ الجمهور : ثم بفتح الثاء ؛ وحميد الأعرج : ثم بضم التاء حرف عطف ، وجواب إذا على هذا محذوف ، أي وإذا رميت ببصرك رأيت نعيماً ؛ والملك الكبير قيل : النظر إلى اللّه تعالى . وقال السدّي : استئذان الملائكة عليهم . وقال أكثر المفسرين : الملك الكبير : اتساع مواضعهم . وقال الكلبي : كبيراً عريضاً يبصر أدناهم منزلة في الجنة مسيرة ألف عام ، يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وقاله عبد اللّه بن عمر ، وقال : ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف غلام ، كلهم مختلف شغله من شغل أصحابه . وقال الترمذي ، وأظنه الترمذي الحكيم لا أبا عيسى الحافظ صاحب الجامع : هو ملك التكوين والمشيئة ، إذا أراد شيئاً كان قوله تعالى : { لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا } ،

وقيل غير هذه الأقوال .

٢١

انظر تفسير الآية:٢٢

٢٢

عاليهم ثياب سندس . . . . .

وقرأ عمر وابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأهل مكة وجمهور السبعة : { عَالِيَهُمْ } بفتح الياء ؛ وابن عباس : بخلاف عنه ؛ والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة : بسكونها ، وهي رواية أبان عن عاصم .

وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد بن عليّ : بالياء مضمومة ؛ وعن الأعمش وأبان أيضاً عن عاصم : بفتح الياء .

وقرأ : عليهم حرف جر ، ابن سيرين ومجاهد وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضاً ؛ وقرأت عائشة رضي اللّه عنها : علتهم بتاء التأنيث فعلاً ماضياً ، فثياب فاعل . ومن قرأ بالياء مضمومة فمبتدأ خبره ثياب ؛ ومن قرأ عليهم حرف جر فثياب مبتدأ ؛ ومن قرأ بنصب الياء وبالتاء ساكنة فعلى الحال ، وهو حال من المجرور في { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ } ، فذوا لحال الطوف عليهم والعامل يطوف .

وقال الزمخشري : وعاليهم بالنصب على أنه حال من الضمير في { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ } ،أو في { حَسِبْتَهُمْ } ،أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب ، أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب . ويجوز أن يراد : رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب . انتهى . إما أن يكون حالاً من الضمير في { حَسِبْتَهُمْ } ، فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول ، وهذا عائد على { وِلْدانٌ } ، ولذلك قدر عاليهم بقوله : عالياً لهم ، أي للولدان ، وهذا لا يصح لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمطوف عليهم من قوله :{ وَحُلُّواْ وَسَقَاهُمْ } ، وإن هذا كان لكم جزاء ، وفك الضمائر يجعل هذا كذا وذاك كذا مع عدم الاحتياج والاضطرار إلى ذلك لا يجوز .

وأما جعله حالاً من محذوف وتقديره أهل نعيم ، فلا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقدير ذلك المحذوف ، وثياب مرفوع على الفاعلية بالحال . و

قال ابن عطية : ويجوز في النصب في القراءتين أن يكون على الظرف لأنه بمعنى فوقهم . انتهى . وعال وعالية اسم فاعل ، فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب عاليك أو عاليتك ثوب .

وقرأ الجمهور : ثياب بغير تنوين على الإضافة إلى سندس .

وقرأ ابن عبلة وأبو حيوة : عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق ، برفع الثلاثة ، برفع سندس بالصفة لأنه جنس ، كما تقول : ثوب حرير ، تريد من حرير ؛ وبرفع خضر بالصفة أيضاً لأن الخضرة لونها ؛ ورفع استبرق بالعطف عليها ، وهو صفة أقيمت مقام الموصوف تقديره : وثياب استبرق ، أي من استبرق .

وقرأ الحسن وعيسى ونافع وحفص : خضر برفعهما .

وقرأ العربيان ونافع في رواية : خضر بالرفع صفة لثياب ، وإستبرق جر عطفاً على سندس .

وقرأ ابن كثير وأبو بكر : بجر خضر صفة لسندس ، ورفع إستبرق عطفاً على ثياب .

وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو عمرو : بخلاف عنهما ؛ وحمزة والكسائي : ووصف اسم الجنس الذي بينه وبين واحده تاء التأنيث ، والجمع جائز فصيح كقوله تعالى :{ وَيُنْشِىء السَّحَابَ الثّقَالَ } ، وقال :{ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ } ، فجعل الحال جمعاً ، وإذا كانوا قد جمعوا صفة اسم الجنس

الذي ليس بينه وبين واحده تاء التأنيث المحكي بأل بالجمع ، كقولهم : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، حيث جمع وصفهما ليس بسديد ، بل هو جائز أورده النحاة مورد الجواز بلا قبح .

وقرأ ابن محيصن : { وَإِسْتَبْرَقٍ } ، وتقدم ذلك والكلام عليه في الكهف .

وقال الزمخشري : هنا وقرىء واستبرق نصباً في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمي ، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف ، تقول : الاستبرق إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علماً لهذا الضرب من الثياب . وقرىء : واستبرق ، بوصل الهمزة والفتح على أنه مسمى باستفعل من البريق ، وليس بصحيح أيضاً لأنه معرب مشهور تعريبه ، وأن أصله استبره . انتهى . ودل قوله : إلا أن يزعم ابن محيصن ، وقوله : بعد وقرىء واستبرق بوصل الألف والفتح ، أن قراءة ابن محيصن هي بقطع الهمزة مع فتح القاف ؛ والمنقول عنه في كتب القراآت أنه قرأ بوصل الألف وفتح القاف . وقال أبو حاتم : لا يجوز ، والصواب أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميراً ، ويومئذ ذلك دخول لام المعرفة عليه ، والصواب قطع الألف وإجراؤه على قراءة الجماعة . انتهى . ونقول : إن ابن محيصن قارىء جليل مشهور بمعرفة العربية ، وقد أخذ عن أكابر العلماء ، ويتطلب لقراءته وجه ، وذلك أنه يجعل استفعل من البريق . وتقول : برق واستبرق ، كعجب واستعجب .

ولما كان قوله :{ خُضْرٍ } يدل على الخضرة ، وهي لون ذلك السندس ، وكانت الخضرة مما يكون لشدتها دهمة وغبش ، أخبر أن في ذلك اللون بريقاً وحسناً يزيل غبشته . فاستبرق فعل ماض ، والضمير فيه عائد على السندس أو على الاخضرار الدال عليه قوله :{ خُضْرٍ} وهذا التخريج أولى من تلحين من يعرف العربية وتوهيم ضابط ثقة { أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } ، وفي موضع آخر { مّن ذَهَبٍ } ،أي يحلون منهما على التعاقب أو على الجمع بينهما ، كما يقع للنساء في الدنيا .

قال الزمخشري وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران ، سوار من ذهب وسوار من فضة . انتهى . فقوله بالمعصم إما أن يكون مفعول أحسن ،

وإما أن يكون بدلاً منه ،

وإمّا أن يكون مفعول أحسن ، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور . فإن كان الأول ، فلا يجوز لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول افعل للتعجب ، لا تقول : ما أحسن بزيد ، تريد : ما أحسن زيداً ، وإن كان الثاني ، ففي مثل هذا الفصل خلاف . والمنقول عن سيبويه أنه لا يجوز ، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه عما فيه الخلاف .

{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } ، طهور صفة مبالغة في الطهارة ، وهي من فعل لازم ؛ وطهارتها بكونها لم يؤمر باجتنابها ، وليست كخمر الدنيا التي هي في الشرع رجس ؛ أو لكونها لم تدس برجل دنسة ، ولم تمس بيد وضرة ، ولم توضع في إناء لم يعن بتنظيفه . ذكره بأبسط من هذا الزمخشري ثم قال : أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة ، لأنه يرشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك . انتهى . وهذا الآخر قاله أبو قلابة والنخعيّ وإبراهيم التيمي ، قالوا : لا تنقلب إلى البول ، بل تكون رشحاً من الأبدان أطيب من المسك .{ إِنَّ هَذَا } : أي النعيم السرمدي ، { كَانَ لَكُمْ جَزَاء } : أي لأعمالكم الصالحة ، { وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } : أي مقبولاً مثاباً . قال قتادة : لقد شكر اللّه سعياً قليلاً ، وهذا على إضمار يقال لهم . وهذا القول لهم هو على سبيل التهنئة والسرور لهم بضد ما يقال للمعاقب : إن هذا بعملك الرديء ، فيزداد غماً وحزناً .

٢٣

انظر تفسير الآية:٢٤

٢٤

إنا نحن نزلنا . . . . .

ولما ذكر أولاً حال الإنسان وقسمه إلى العاصي والطائع ، ذكر ما شرف به نبيه محمداً صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ } ، وأمره بالصبر بحكمه ، وجاء التوكيد بأن لمضمون الخبر ومدول المخبر عنه ، وأكد الفعل بالمصدر .{ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً } ، قال قتادة : نزلت في أبي جهل ، قال : إن رأيت محمداً يصلي لأطأن على عنقه ، فأنزل اللّه تعالى :{ وَلاَ تُطِعِ } الآية . والنهي عن طاعة كل واحد منهما أبلغ من النهي عن طاعتهما ، لأنه يستلزم النهي عن أحدهما ، لأن في طاعتهما طاعة أحدهما . ولو قال : لا تضرب زيداً وعمراً ، لجاز أن يكون نهياً عن ضربهما جميعاً ، لا عن ضرب أحدهما . وقال أبو عبيدة : أو بمعنى الواو ، والكفور ، وإن كان إثماً ، فإن فيه مبالغة في الكفر . ولما كان وصف الكفور مبايناً للموصوف لمجرّد الإثم ، صلح التغاير فحسن العطف .

وقيل : الآثم عتبة ، والكفور الوليد ، لأن عتبة كان ركاباً للمآثم متعاطياً لأنواع الفسوق ؛ وكان الوليد غالباً في الكفر ، شديد الشكيمة في العتوّ .

٢٥

واذكر اسم ربك . . . . .

{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً } : يعني صلاة الصبح ، { وَأَصِيلاً } : الظهر والعصر .

٢٦

ومن الليل فاسجد . . . . .

{وَمِنَ الَّيْلِ } : المغرب

والعشاء . وقال ابن زيد وغيره : كان ذلك فرضاً ونسخ ، فلا فرض إلا الخمس . وقال قوم : هو محكم على وجه الندب .

٢٧

إن هؤلاء يحبون . . . . .

{إِنَّ هَؤُلآء } : إشارة إلى الكفرة .{ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ } : يؤثرونها على الدنيا .{ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ } : أي أمامهم ، وهو ما يستقبلون من الزمان .{ يَوْماً ثَقِيلاً } : استعير الثقل لليوم لشدته ، وهوله من ثقل الجرم الذي يتعب حامله .

٢٨

نحن خلقناهم وشددنا . . . . .

وتقدم شرح الأسر في سورة القتال . { وَإِذَا شِئْنَا } : أي تبديل أمثالهم بإهلاكهم ، { بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ } ممن يطيع .

وقال الزمخشري : وحقه أن يجيء بإن لا بإذا ، كقوله :{ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } ،{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} انتهى . يعني أنهم قالوا إن إذا للمحقق وإن للممكن ، وهو تعالى لم يشأ ، لكنه قد توضع إذا موضع إن ، وإن موضع إذا ، كقوله :{ أفإن مت فهم الخالدون}

٢٩

إن هذه تذكرة . . . . .

{إِنَّ هَاذِهِ } : أي السورة ، أو آيات القرآن ، أو جملة الشريعة ليس على جهة التخيير ، بل على جهة التحذير من اتخاذ غير سبيل اللّه .

وقال الزمخشري : لمن شاء ممن اختار الخير لنفسه والعاقبة ، واتخاذ السبيل إلى اللّه عبارة عن التقرب إليه والتوسل بالطاعة .

٣٠

وما تشاؤون إلا . . . . .

{وَمَا تَشَاءونَ } : الطاعة ، { إِلاَّ أَن يَشَاء اللّه } ، يقسرهم عليها .{ إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيماً } بأحوالهم وما يكون منهم ، { حَكِيماً } حيث خلقهم مع علمه بهم . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال .

وقرأ العربيان وابن كثير : وما يشاءون بياء الغيبة ؛ وباقي السبعة : بتاء الخطاب ؛ ومذهب أهل السنة أنه نفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد المعاني في أنفسهم ، ولا يرد هذا وجود ما لهم من الاكتساب .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : ما محل { أَن يَشَاء اللّه } ؟

قلت : النصب على الظرف ، وأصله : إلا وقت مشيئة اللّه ، وكذلك قرأ ابن مسعود : إلا ما يشاء اللّه ، لأن ما مع الفعل كان معه . انتهى . ونصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف إلا المصدر المصرح به ، كقولك : أجيئك صياح الديك ، ولا يجيزون : أجيئك أن يصيح الديك ، ولا ما يصيح الديك ؛ فعلى هذا لا يجوز ما قاله الزمخشري .

٣١

يدخل من يشاء . . . . .

{يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ } : وهم المؤمنون .

وقرأ الجمهور :{ وَالظَّالِمِينَ } نصباً بإضمار فعل يفسره قوله :{ أَعَدَّ لَهُمْ } ، وتقديره : ويعذب الظالمين ، وهو من باب الاشتغال ، جملة عطف فعلية على جملة فعلية .

وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة : والظالمون ، عطف جملة اسمية على فعلية ، وهو جائز حسن .

وقرأ عبد اللّه : وللظالمين بلام الجر ، وهو متعلق بأعد لهم توكيداً ، ولا يجوز أن يكون من باب الاشتغال ، ويقدر فعل يفسره الفعل الذي بعده ، فيكون التقدير : وأعد للظالمين أعدّ لهم ، وهذا مذهب الجمهور ، وفيه خلاف ضعيف مذكور في النحو ، فتقول : بزيد مررت به ، ويكون التقدير : مررت بزيد مررت به ، ويكون من باب الاشتغال . والمحفوظ المعروف عن العرب نصب الاسم وتفسير مررت المتأخر ، وما أشبهه من جهة المعنى فعلاً ماضياً .

﴿ ٠