سورة النبأ

مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

عم يتساءلون

السبات ، قال ابن قتيبة : السبات أصله القطع والمدّ ، فالنوم قطع الأشغال الشاقة ، ومن المدّ قول الشاعر : وإن سبتته مال حبلاً كأنه

سدى وأملات من نواسج خثعما

أي : إن مدت شعرها مال والتف كالتفاف السدي بأيدي نساء ناسجات . الوهاج : المتوقد المتلالي . المعصر ، قال الفراء : السحاب الذي يجلب المطر ، ولما يجتمع مثل الجارية المعصر ، قد كادت تحيض ولما تحض ، وقال نحوه ابن قتيبة ، وقال أبو النجم العجلي

تمشي الهوينا مائلاً خمارها

قد أعصرت أو قد دنا إعصارها

الثج ، قال ثعلب : أصله شدّت الانصباب . وقال الأزهري : مطر ثجاج : شديد الانصباب ، ثج الماء وثججته ثجاً وثجوجاً : يكون لازماً بمعنى الانصباب وواقعاً بمعنى الصب . قال الشاعر في وصف الغيث :

إذا رمقت فيها رحى مرجحنه

تنعج ثجاجاً عزير الحوافل

ألفافاً جمع لف ، ثم جمع لف على ألفاف . الكواعب جمع كاعب : وهي التي برز نهدها ، ومنه كعب الزجل لبروزه ، ومنه الكعبة . قال عاصم بن قيس المنقري :

وكم من حصان قد حوينا كريمة

ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر

الدهاق : الملأى ، مأخوذ من الدهق ، وهو ضغط الشيء وشده باليد كأنه لامتلأته انضغط .

وقيل : الدهاق : المتتابعة ، قال الشاعر :

أتانا عامر يبغي قرانا

فأترعنا له كأساً دهاقاً

وقال آخر :

لأنت إلى الفؤاد أحب قربا

من الصادي إلى كأس دهاق

هذه السورة مكية . وروي أنه صلى اللّه عليه وسلم لما بعث ، جعل المشركون يتساءلون بينهم فيقولون : ما الذي أتى به ؟ ويتجادلون فيما بعث به ، فنزلت . ومناسبتها لما ذكر قبلها ظاهرة . لما ذكر { فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } ،أي بعد الحديث الذي هو القرآن ، وكانوا يتجادلون فيه ويسائلون عنه ، قال :{ عَمَّ يَتَسَاءلُونَ}

وقرأ الجمهور :{ عَمَّ } ؛ وعبد اللّه وأبيّ وعكرمة وعيسى : عما بالألف ، وهو أصل عم ، والأكثر حذف الألف من ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر وأضيف إليها . ومن إثبات الألف قوله :

على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرغ في رماد

وقرأ الضحاك وابن كثير في رواية : عمه بهاء السكت ، أجرى الوصل مجرى الوقف ، لأن الأكثر في الوقف على ما

الاستفهامية هو بإلحاق هاء السكت ، إلا إذا أضيفت إليها فلا بد من الهاء في الوقف ، نحو : بحي مه . والاستفهام عن هذا فيه تفخيم وتهويل وتقرير وتعجيب ، كما تقول : أي رجل زيد ؟ وزيد ما زيد ، كأنه لما كان عديم النظير أو قليله خفيّ عليك جنسه فأخذت تستفهم عنه . ثم جرد العبارة عن تفخيم الشيء ، فجاء في القرآن ، والضمير في { يَتَسَاءلُونَ } لأهل مكة . ثم أخبر تعالى أنهم { يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } ، وهو أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وما جاء به من القرآن .

وقيل : الضمير لجميع العالم ، فيكون الاختلاف تصديق المؤمن وتكذيب الكافر .

وقيل : المتسأل فيه البعث ، والاختلاف فيه عم متعلق بيتساءلون . ومن قرأ عمه بالهاء في الوصل فقد ذكرنا أنه يكون أجرى الوصل مجرى الوقف ، وعن النبأ متعلق بمحذوف ، أي يتساءلون عن النبأ . وأجاز الزمخشري أن يكون وقف على عمه ، ثم ابتدأ بيتسألون عن النبأ العظيم على أن يضمر لعمه يتساءلون ، وحذفت لدلالة ما بعدها عليه ، كشيء مبهم ثم يفسر . و

قال ابن عطية : قال أكثر النحاة قوله { عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } متعلق بيتساءلون ، الظاهر كأنه قال : لم يتساءلون عن النبأ العظيم ؟ وقال الزجاج : الكلام تام في قوله { عَمَّ يَتَسَاءلُونَ } ، ثم كان مقتضى القول أن يجيب مجيب فيقول : يتساءلون عن النبأ ، فاقتضى إيجاز القرآن وبلاغته أن يبادر المحتج بالجواب الذي يقتضيه الحال ، والمجاورة اقتضاء بالحجة وإسراعاً إلى موضع قطعهم .

وقرأ عبد اللّه وابن جبير : يسألون بغير تاء وشد السين ، وأصله يتساءلون بتاء الخطاب ، فأدغم التاء الثانية في السين .

٤

كلا سيعلمون

{كَلاَّ } : ردع للمتسائلين .

وقرأ الجمهور : بياء الغيبة فيهما . وعن الضحاك : الأول بالتاء على الخطاب ، والثاني بالياء على الغيبة . وهذا التكرار توكيد في الوعيد وحذف ما يتعلق به العلم على سبيل التهويل ، أي سيعلمون ما يحل بهم .

٦

ألم نجعل الأرض . . . . .

ثم قررهم تعالى على النظر في آياته الباهرة وغرائب مخلوقاته التي ابتدعها من العدم الصرف ، وأن النظر في ذلك يفضي إلى الإيمان بما جاءت به الرسل من البعث والجزاء ، فقال : { أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ مِهَاداً } ، فبدأ بما هم دائماً يباشرونه ، والمهاد : الفراش الموطأ .

وقرأ الجمهور :{ مِهَاداً } ؛ ومجاهد وعيسى وبعض الكوفيين : مهداً ، بفتح الميم وسكون الهاء ، ولم ينسب ابن عطية عيسى في هذه القراءة . وقال ابن خالويه : مهداً على التوحيد ، مجاهداً وعيسى الهمداني وهو الحوفي ، فاحتمل أن يكون قول ابن عطية وبعض الكوفيين كناية عن عيسى الهمداني . وإذا أطلقوا عيسى ، أو قالوا عيسى البصرة ، فهو عيسى بن عمر الثقفي . وتقدم الكلام في المهاد في البقرة في أول حزب ، { وَاذْكُرُواْ اللّه}

٧

والجبال أوتادا

{وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً } : أي ثبتنا الأرض بالجبال ، كما ثبت البيت بالأوتاد . قال الأفوه : والبيت لا ينبني إلا له عمد

ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

٨

وخلقناكم أزواجا

{أَزْواجاً } : أي أنواعاً من اللون والصورة واللسان . وقال الزجاج وغيره : مزدوجين ، ذكراً وأنثى .

٩

وجعلنا نومكم سباتا

{سُبَاتاً } : سكوناً وراحة . سبت الرجل : استراح وترك الشغل ، والسبات علة معروفة يفرط على الإنسان السكوت حتى يصير قاتلاً ، والنوم شبيه به إلا في الضرر . وقال قتادة : النائم مسبوت لا يعقل ، كأنه ميت .

١٠

وجعلنا الليل لباسا

{لِبَاساً } : أي يستترون به عن العيون فيما لا يحبون أن يظهر عليه .

١١

وجعلنا النهار معاشا

{وَجَعَلْنَا النَّهَارَ } : قابل النوم بالنهار ، إذ فيه اليقظة .{ مَعَاشاً } : وقت عيش ، وهو الحياة تتصرفون فيه في حوائجكم .

١٢

وبنينا فوقكم سبعا . . . . .

{سَبْعاً } : أي سموات ، { شِدَاداً } : محكمة الخلق قوية لا تتأثر بمرور الأعصار إلا إذا أراد اللّه عز وجل . وقال الشاعر : فلما جئته أعلى محلي

وأجلسني على السبع الشداد

١٣

وجعلنا سراجا وهاجا

{سِرَاجاً } : هو الشمس ، { وَهَّاجاً } : حاراً مضطرم الاتقاد . وقال عبد اللّه بن عمرو . الشمس في السماء الرابعة ، إلينا ظهرها ، ولهيبها يضطرم علواً .

١٤

وأنزلنا من المعصرات . . . . .

{مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } ، قال أبي والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم وقتادة ومقاتل : هي

السموات .

وقال ابن عباس وأبو العالية والربيع والضحاك : السحاب القاطرة ، مأخوذ من العصر ، لأن السحاب ينعصر فيخرج منه الماء .

وقيل : السحاب التي فيها الماء ولم تمطر . وقال ابن كيسان : سميت بذلك من حيث تغيث ، فهي من العصرة ، ومنه قوله : { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} والعاصر : المغيث ، فهو ثلاثي ؛ وجاء هنا من أعصر : أي دخلت في حين العصر ، فحان لها أن تعصر ، وأفعل للدخول في الشيء .

وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة : الرياح لأنها تعصر السحاب ، جعل الإنزال منها لما كانت سبباً فيه .

وقرأ ابن الزبير وابن عباس والفضل بن عباس أخوه وعبد اللّه بن يزيد وعكرمة وقتادة : بالمعصرات ، بالياء بدل من .

قال ابن عطية : فهذا يقوي أنه أراد الرياح .

وقال الزمخشري : فيه وجهان : أن يراد بالرياح التي حان لها أن تعصر السحاب ، وأن يراد السحاب ، لأنه إذا كان الأنزال منها فهو بها ، كما تقول : أعطى من يده درهماً ، وأعطى بيده درهماً .{ ثَجَّاجاً } : منصباً بكثرة ، ومنه أفضل الحج العج والثج : أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدى .

وقرأ الأعرج : ثجاحاً بالحاء : آخراً ، ومساجح الماء : مصابه ، والماء ينثجح في الوادي .

١٥

لنخرج به حبا . . . . .

{حَبّاً وَنَبَاتاً } : بدأ بالحب لأنه الذي يتقوت به ، كالحنطة والشعير ، وثنى بالنبات فشمل كل ما ينبت من شجر وحشيش ودخل فيه الحب .

١٦

وجنات ألفافا

{أَلْفَافاً } : ملتفة ،

قال الزمخشري : ولا واحد له ، كالأوزاع والأخياف .

وقيل : الواحد لف : قال صاحب الإقليد : أنشدني الحسن بن علي الطوسي : جنة لف وعيش مغدق

وندامى كلهم بيض زهر

ولو قيل : هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولاً وجيهاً . انتهى . ولا حاجة إلى هذا القول ولا إلى وجاهته ، فقد ذكر في المفردات أن مفرده لف بكسر اللام ، وأنه قول جمهور أهل اللغة .

١٧

إن يوم الفصل . . . . .

{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ } : هو يوم القيامة يفصل فيه بين الحق والباطل ، { كَانَ مِيقَاتاً } : أي في تقدير اللّه وحكمه تؤقت به الدنيا وتنتهي عنده أو حداً للخلائق ينتهون إليه .

١٨

يوم ينفخ في . . . . .

{يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ } : بدل من يوم الفصل .

قال الزمخشري : أو عطف بيان ، وتقدم الكلام في الصور .

وقرأ أبو عياض : في الصور بفتح الواو جمع صورة ، أي يرد اللّه الأرواح إلى الأبدان ؛ والجمهور : بسكون الواو . و { فَتَأْتُونَ } من القبور إلى الموقف أمماً ، كل أمة بإمامها .

وقيل : جماعات مختلفة . وذكر الزمخشري حديثاً في كيفيات قبيحة لعشرة أصناف يخلقون عليها ، وسبب خلقه من خلق على تلك الكيفية اللّه أعلم بصحته .

١٩

وفتحت السماء فكانت . . . . .

وقرأ الكوفيون : { وَفُتِحَتْ } : خف ؛ والجمهور : بالتشديد ، { فَكَانَتْ أَبْواباً } تنشق حتى يكون فيها فتوح كالأبواب في الجدرات .

وقيل : ينقطع قطعاً صغاراً حتى تكون كالألواح ، الأبواب المعهود .

وقال الزمخشري :{ فُتِحَتْ فَكَانَتْ أَبْواباً } : أي كثرت أبوابها لنزول الملائكة ، كأنها ليست إلا أبواباً مفتحة ، كقوله :{ وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً } ، كأن كلها عيون تنفجر .

وقيل : الأبواب : الطرق والمسالك ، أي تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقاً لا يسدها شيء .

٢٠

وسيرت الجبال فكانت . . . . .

{فَكَانَتْ سَرَاباً } : أي تصير شيئاً كلا شيء لتفرق أجزائها وانبثاث جواهرها . انتهى . و

قال ابن عطية : عبارة عن تلاشيها وفنائها بعد كونها هباء منبثاً ، ولم يرد أن الجبال تشبه الماء على بعد من الناظر إليها . وقال الواحدي : على حذف مضاف ، أي ذات أبواب .

٢١

إن جهنم كانت . . . . .

{مِرْصَاداً } : مفعال من الرصيد ، ترصد من حقت عليه كلمة العذاب . وقال مقاتل : مجلساً للأعداء وممراً للأولياء ، ومفعال للمذكر والمؤنث بغير تاء وفيه معنى النسب ، أي ذات رصد ، وكل ما جاء من الأخبار والصفات على معنى النسب فيه التكثير واللزوم . وقال الأزهري : المرصاد : المكان الذي يرصد فيه العدو . وقال الحسن : إلا أن على النار المرصاد . فمن جاء بجواز جاز ، ومن لم يجىء بجواز احتبس .

وقرأ أبو عمر والمنقري وابن يعمر : أن جهنم ، يفتح الهمزة ؛ والجمهور : بكسرها

٢٢

للطاغين مآبا

{مَئَاباً } : مرجعاً .

٢٣

لابثين فيها أحقابا

وقرأ عبد اللّه وعلقمة وزيد بن علي وابن وثاب وعمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل وطلحة والأعمش وحمزة وقتيبة وسورة وروح : لبثين ، بغير ألف بعد اللام ؛ والجمهور : بألف بعدها ، وفاعل يدل على من وجد منه الفعل ، وفعل على من شأنه ذلك ، كحاذر وحذر . { أَحْقَاباً } : تقدم الكلام عليه في الكهف عند :{أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً } ، والمعنى هنا : حقباً بعد حقب ، كلما مضى تبعه آخر إلى غير نهاية ، ولا يكاد يستعمل الحقب إلا حيث يراد تتابع الأزمنة ، كقول أبي تمام : لقد أخذت من دار ماوية الحقب

أنحل المغاني لليلى أم هي نهب

ويجوز أن يتعلق للطاغين بمرصاداً ، ويجوز أن يتعلق بمآبا . ولبثين حال من الطاغين ، وأحقاباً نصب على الظرف .

وقال الزمخشري : وفيه وجه آخر ، وهو أن يكون من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره ، وحقب إذا أخطأ الرزق فهو حقب ، وجمعة أحقاب ، فينتصب حالاً عنهم ، يعني لبثين فيها حقبين جحدين .

٢٤

لا يذوقون فيها . . . . .

وقوله : { يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } تفسير له ، والاستثناء منقطع ، يعني : لا يذوقون فيها برداً ورَوحاً ينفس عنهم حر النار ، ولا شراب يسكن من عطشهم ، ولكن يذوقون فيها { حَمِيماً وَغَسَّاقاً} انتهى . وكان قد قدم قبل هذا الوجه ما نصه : ويجوز أن يراد لابثين فيها أحقاباً غير ذائقين برداً ولا شراباً

٢٥

إلا حميما وغساقا

إلا حميماً وغساقاً ، ثم يبد لوم بعد الأحقاب غير الحميم ، والغاق من جنس آخر من العذاب . انتهى . وهذا الذي قاله هو قول للمتقدمين ، حكاه ابن عطية . قال : وقال آخرون إنما المعنى لابثين فيها أحقاباً غير ذائقين برداً ولا شراباً ، فهذه الحال يلبثون أحقاباً ، ثم يبقى العذاب سرمداً وهم يشربون أشربة جهنم . والذي يظهر أن قوله : { لاَ يَذُوقُونَ } كلام مستأنف وليس في موضع الحال ، و { إِلاَّ حَمِيماً } استثناء متصل من قوله :{ وَلاَ شَرَاباً } ، وإن { أَحْقَاباً } منصوب على الظرف حملاً على المشهور من لغة العرب ، لا منصوب على الحال على تلك اللغة التي ليست مشهورة . وقول من قال : إن الموصوفين باللبث أحقاباً هم عصاة المؤمنين ، أواخر الآي يدفعه ؛ وقول مقاتل : إن ذلك منسوخ بقوله :{ فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } ، فاسد . والظاهر ، وهو قول الجمهور ، أن البرد هو مس الهواء القرّ ، أي لا يمسهم منه ما يستلذ ويكسر شدة الحر . وقال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ النحوي : البرد هنا النوم ، والعرب تسمية بذلك لأنه يبرد سورة العطش ، ومن كلامهم : منع البرد البرد ، وقال الشاعر : فلو شئت حرمت النساء سواكم

وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا

النقاخ : الماء ، والبرد : النوم . وفي كتاب اللغات في القرآن أن البرد هو النوم بلغة هذيل ، والذوق على هذين القولين مجاز .

وقال ابن عباس : البرد : الشراب البارد المستلذ ، ومنه قول حسان بن ثابت : يسقون من ورد البريض عليهم

برداً يصفق بالرحيق السلسل

ومنه قول الآخر : أماني من سعدى حسان كأنما

سقتك بها سعدى على ظمأ بردا

والذوق على هذا حقيقة ، والنحويون ينشدون على هذا بيت حسان . بردى ، بفتح الراء والدال بعدها ألف التأنيث : وهو نهر في دمشق . وتقدم شرح الحميم والغساق ، وخلف القرّاء في شدة الشين وخفتها .

٢٦

جزاء وفاقا

{وِفَاقاً } : أي لأعمالهم وكفرهم ، وصف الجزاء بالمصدر لوافق ، أو على حذف مضاف ، أي ذا وفاق . وقال الفراء : هو جمع وفق .

وقرأ الجمهور : بخف الفاء ؛ وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة : بشدها من وفقه كذا .

٢٧

إنهم كانوا لا . . . . .

{لاَ يَرْجُونَ } : لا يخافون أو لا يؤمنون ، والرجاء والأمل مفترقان ، والمعنى هنا : لا يصدقون بالحساب ، فهم لا يؤمنون ولا يخافون .

٢٨

وكذبوا بآياتنا كذابا

وقرأ الجمهور : { كِذَّاباً } بشد الذال مصدر كذب ، وهي لغة لبعض العرب يمانية . يقولون في مصدر فعل فعالاً ، وغيرهم يجعل مصدره على تفعيل ، نحو تكذيب . ومن تلك اللغة قول الشاعر : لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي

وعن حاجة قضاؤها من شفائيا

ومن كلام أحدهم وهو يستفتي الحلق أحب إليك أم القصار ، يريد التقصير ، يعني في الحج .

وقال الزمخشري : وفعال في باب فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره ، وسمعني بعضهم أفسر آية فقال : لقد فسرتها فساراً ما سمع بمثله .

وقرأ علي وعوف الأعرابي وأبو رجاء والأعمش وعيسى بخلاف عنه بخف الذال . قال صاحب اللوامح علي وعيسى : البصرة ، وعوف الأعرابي : كذاباً ، كلاهما بالتخفيف ، وذلك لغة اليمن بأن يجعلوا مصدر كذب مخففاً ، كذاباً بالتخفيف مثل كتب كتاباً ، فصار المصدر هنا من معنى الفعل دون لفظه ، مثل أعطيته عطاء . انتهى . وقال الأعشى : فصدقتها وكذبتها

والمرء ينفعه كذابه

وقال الزمخشري : هو مثل قوله :{ أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً } يعني : وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً ، أو تنصبه بكذبوا لا يتضمن معنى كذبوا ، لأن كل مكذب بالحق كاذب ؛ وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه : وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة ، أو كذبوا بها مكاذبين لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة ، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب ، فعل من يغالب في أمر فيبلغ فيه أقصى جهده . انتهى . والأظهر الإعراب الأول وما سواه تكلف ، وفي كتاب ابن عطية وكتاب اللوامح .

وقرأ عبد اللّه بن عمر بن عبد العزيز : وفي كتاب ابن خالويه عمر بن عبد العزيز والماجشون ، ثم اتفقوا كذاباً بضم الكاف وشد الذال ، فخرج على أنه جمع كاذب وانتصب على الحال المؤكدة ، وعلى أنه مفرد صفة لمصدر ، أي تكذيباً كذاباً مفرطاً في التكذيب .

٢٩

وكل شيء أحصيناه . . . . .

وقرأ الجمهور : { وَكُلَّ شىْء } بالنصب : وأبو السمال : بالرفع ، وانتصب { كِتَاباً } على أنه مصدر من معنى { أَحْصَيْنَاهُ } أي إحصاء ، أو يكون { أَحْصَيْنَاهُ } في معنى كتبناه . والتجوز إما في المصدر

وإما في الفعل وذلك لالتقائهما في معنى الضبط ، أو على أنه مصدر في موضع الحال ، أو مكتوباً في اللوح وفي مصحف الحفظة .{ وَكُلَّ شىْء } عام مخصوص ، أي كل شيء مما يقع عليه الثواب والعقاب ، وهي جملة اعتراض معترضة ،

٣٠

فذوقوا فلن نزيدكم . . . . .

وفذوقوا مسبب عن كفرهم بالحساب ، فتكذيبهم بالآيات . وقال عبد اللّه بن عمر : وما نزلت في أهل النار آية أشد من هذه ، ورواه أبو بردة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم.

٣١

انظر تفسير الآية:٣٥

٣٢

انظر تفسير الآية:٣٥

٣٣

انظر تفسير الآية:٣٥

٣٤

انظر تفسير الآية:٣٥

٣٥

إن للمتقين مفازا

ولما ذكر شيئاً من حال أهل النار ، ذكر ما

لأهل الجنة فقال : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } : أي موضع فوز وظفر ، حيث زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة . و { حَدَائِقَ } بدل من { مَفَازاً } وفوزاً ، فيكون أبدل الجرم من المعنى على حذف ، أي فوز حدائق ، أي بها .{ دِهَاقاً } ، قال الجمهور : مترعة . وقال مجاهد وابن جبير : متتابعة .

وقرأ الجمهور :{ وَلاَ كِذباً } بالتشديد ، أي لا يكذب بعضهم بعضاً .

وقرأ الكسائي بالتخفيف ، كاللفظ الأول في قوله تعالى :{ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً } ، مصدر كذب ومصدر كاذب .

قال الزمخشري :{ جَزَاء } : مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله :{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } ، كأنه قال : جازى المتقين بمفاز وعطاء نصب بجزاء نصب المفعول به ، أي جزاءهم عطاء . انتهى . وهذا لا يجوز لأنه جعله مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة التي هي { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } ، والمصدر المؤكد لا يعمل ، لأنه ليس ينحل بحرف مصدري والفعل ، ولا نعلم في ذلك خلافاً .

٣٦

جزاء من ربك . . . . .

وقرأ الجمهور : { حِسَاباً } ، وهو صفة لعطاء ، أي كافياً من قولهم : أحسبني الشيء : أي كفاني . وقال مجاهد : معنى حساباً هنا بتقسيط على الأعمال ، أو دخول الجنة برحمة اللّه والدرجات فيها على قدر الأعمال ، فالحساب هنا بموازنة الأعمال .

وقرأ ابن قطيب : حساباً ، بفتح الحاء وشد السين . قال ابن جني : بني فعالاً من أفعل ، كدراك من أدرك . انتهى ، فمعناه محسباً ، أي كافياً .

وقرأ شريح بن يزيد الحمصي وأبو البرهشيم : بكسر الحاء وشد السين ، وهو مصدر مثل كذاب أقيم مقام الصفة ، أي إعطاء محسباً ، أي كافياً .

وقرأ ابن عباس وسراح : حسناً بالنون من الحسن ،

وحكى عنه المهدوي حسباً بفتح الحاء وسكون السين والباء ، نحو قولك : حسبك كذا ، أي كافيك .

٣٧

رب السماوات والأرض . . . . .

وقرأ عبد اللّه وابن أبي إسحاق والأعمش وابن محيصن وابن عامر وعاصم : رب والرحمن بالجر ؛ والأعرج وأبو جعفر وشيبة وأبو عمرو والحرميان برفعهما ؛ والأخوان : رب بالجر ، والرحمن بالرفع ، وهي قراءة الحسن وابن وثاب والأعمش وابن محيصن بخلاف عنهما في الجر على البدل من ربك ، والرحمن صفة أو بدل من رب أو عطف بيان ، وهل يكون بدلاً من ربك فيه نظر ، لأن البدل الظاهر أنه لا يتكرر فيكون كالصفات ، والرفع على إضمار هو رب ، أو على الابتداء ، وخبره { لاَّ يَمْلِكُونَ } ، والضمير في { لاَّ يَمْلِكُونَ } عائد على المشركين ، قاله عطاء عن ابن عباس ، أي لا يخاطب المشركون اللّه . أما المؤمنون فيشفعون ويقبل اللّه ذلك منهم .

وقيل : عائد على المؤمنين ، أي لا يملكون أن يخاطبوه في أمر من الأمور لعلمهم أن ما يفعله عدل منه .

وقيل : عائد على أهل السموات والأرض . والضمير في منه عائد عليه تعالى ، والمعنى أنهم لا يملكون من اللّه أن يخاطبوه في شيء من الثواب . والعقاب خطاب واحد يتصرفون فيه تصرف الملاك ، فيزيدون فيه أو ينقصون منه .

٣٨

يوم يقوم الروح . . . . .

والعامل في { يَوْمٍ } إما { لاَّ يَمْلِكُونَ} وقد تقدم الخلاف في { الرُّوحُ } ، أهو جبريل أم ملك أكبر الملائكة خلقة ؟ أو خلق على صورة بني آدم ، أو خلق حفظة على الملائكة ، أو أرواح بني آدم ، أو القرآن وقيامه ، مجاز يعني به ظهور آثاره الكائنة عن تصديقه أو تكذيبه . والظاهر عود الضمير في { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ } على { الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ}

وقال ابن عباس : عائد على الناس ، فلا يتكلم أحد إلا بإذن منه تعالى . ونطق بالصواب . وقال عكرمة : الصواب : لا إله إلا اللّه ، أي قالها في الدنيا .

وقال الزمخشري : هما شريطتان : أن يكون المتكلم منهم مأذوناً لهم في الكلام ، وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى لقوله تعالى :{ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} انتهى .

٣٩

ذلك اليوم الحق . . . . .

{ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ } : أي كيانه ووجوده ، { فَمَن شَاء } : وعيد وتهديد ،

٤٠

إنا أنذرناكم عذابا . . . . .

والخطاب في { أَنذَرْنَاكُمْ } لمن حضر النبي صلى اللّه عليه وسلم ، واندرج فيه من يأتي بعدهم ، { عَذَاباً } : هو عذاب الآخرة لتحقق وقوعه ، وكل آت قريب .{ يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْء } : عام في المؤمن والكافر .{ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } من خير أو شر لقيام الحجة له وعليه .

وقال الزمخشري ، وقاله قبله عطاء : المرء هو الكافر لقوله :{ إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } ، والكافر ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم . ومعنى { مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } من الشر

لقوله : { وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}

وقال ابن عباس وقتادة والحسن : المرء هنا المؤمن ، كأنه نظر إلى مقابله في قوله :{ وَيَقُولُ الْكَافِرُ}

وقرأ الجمهور :{ الْمَرْء } بفتح الميم ؛ وابن أبي إسحاق بضمها ؛ وضعفها أبو حاتم ، ولا ينبغي أن تضعف لأنها لغة يتبعون حركة الميم لحركة الهمزة فيقولون : مرؤ ومرأ ومرء على حسب الإعراب ، وما منصوب بينظر ومعناه : ينتظر ما قدّمت يداه ، فما موصولة . ويجوز أن يكون ينظر من النظر ، وعلق عن الجملة فهي في موضع نصب على تقدير إسقاط الخافض ، وما استفهامية منصوبة تقدّمت ، وتمنيه ذلك ، أي تراباً في الدنيا ، ولم يخلق أو في ذلك اليوم . وقال أبو هريرة وعبد اللّه بن عمر : إن اللّه تعالى يحضر البهائم يوم القيامة فيقتص من بعضها لبعض ، ثم يقول لها بعد ذلك : كوني تراباً ، فتعود جميعها تراباً ، فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله .

وقيل : الكافر هنا إبليس ، إذا رأى ما حصل للمؤمنين من الثواب قال :{ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً } كآدم الذي خلق من تراب واحتقره هو أوّلاً .

وقيل :{ تُراباً } : أي متواضعاً لطاعة اللّه تعالى ، لا جباراً ولا متكبراً .

﴿ ٠