سورة الطارق

مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

والسماء والطارق

طرق يطرق طروقاً : أتى ليلاً ، قال امرؤ القيس :

ومثلك حبلى قد طرقت ومرضعاً

وأصله الضرب ، لأن الطارق يطرق الباب ، ومنه المطرقة : وهي المبيعة ، واتسع فيه فكل ما جاء بليل يسمى طارقاً ،

ويقال : أطرق فلان : أمسك عن الكلام ، وأطرق بعينيه : رمى بهما نحو الأرض . دفق الماء يدفقه دفقاً : صبه ، وماء دافق على النسب ،

ويقال : دفق اللّه روحه ، إذا دعا عليه بالموت . التريبة : موضع القلادة من الصدر . قال امرؤ القيس : مهفهفة بيضاء غير مفاضة

ترائبها مصقولة كالسنجنجل

جمعها بما حولها فقال ترائبها ، وقال الشاعر : والزعفران على ترائبها

شرقت به اللبات والنحر

وقال أبو عبيدة : وجمع تربية تريب ، قال المثقب العبدي : ومن ذهب يبين على تريب

كلون العاج ليس بذي غصون

الهزل : ضدّ الجد ، وقال الكميت :

تجدّ بنا في كل يوم وتهزل

أمهلت الرجل : انتظرته ، والمهل والمهلة : السكينة ، ومهلته أيضاً تمهيلاً وتمهل في أمره : اتأد ، واستمهلت : انتظرته ، ويقال مهلاً : أي رفقاً وسكوناً . رويداً : مصدر أرود يرود ، مصغر تصغير الترخيم ، وأصله إرواداً .

وقيل : هو تصغير رود ، من قوله : يمشي على رود : أي مهل ، ويستعمل مصدراً نحو : رويد عمرو بالإضافة : أي إمهال عمرو ، كقوله : { فَضَرْبَ الرّقَابِ } ، ونعتاً لمصدر نحو : ساروا سيراً رويداً ؛ وحالاً نحو : سار القوم رويداً ، ويكون اسم فعل ، وهذا كله موضح في علم النحو ، واللّه تعالى أعلم .

هذه السورة مكية ، ولما ذكر فيما قبلها تكذيب الكفار للقرآن ، نبه هنا على حقارة الإنسان ، ثم استطرد منه إلى أن هذا القرآن قول فصل جد ، لا هزل فيه ولا باطل يأتيه . ثم أمر نبيه بإمهال هؤلاء الكفرة المكذبين ، وهي آية موادعة منسوخة بآية السيف .{ وَالسَّمَاء } : هي المعروفة ، قاله الجمهور .

وقيل : السماء هنا المطر ، { وَالطَّارِقِ } : هو الآتي ليلاً ، أي يظهر بالليل .

وقيل : لأنه يطرق الجني ، أي يصكه ، من طرقت الباب إذا ضربته ليفتح لك . أتى بالطارق مقسماً به ، وهي صفة مشتركة بين النجم الثاقب وغيره .

٣

النجم الثاقب

ثم فسره بقوله : { النَّجْمُ الثَّاقِبُ } ، إظهاراً لفخامة ما أقسم به لما علم فيه من عجيب القدرة ولطيف الحكمة ، وتنبيهاً على ذلك . كما

قال تعالى :{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}

و

قال ابن عطية : معنى الآية : والسماء وجميع ما يطرق فيه من الأمور والمخلوقات . ثم ذكر بعد ذلك ، على جهة التنبيه ، أجل الطارقات قدراً وهو النجم الثاقب ، وكأنه قال : وما أدراك ما الطارق حتى الطارق ، انتهى . فعلى هذا يكون { النَّجْمُ الثَّاقِبُ } بعضاً مما دل عليه { وَالطَّارِقِ } ، إذ هو اسم جنس يراد به جميع الطوارق . وعلى قول غيره : يراد به واحد مفسر بالنجم الثاقب . والنجم الثاقب عند ابن عباس : الجدي ، وعند ابن زيد : زحل . وقال هو أيضاً وغيره : الثريا ، وهو الذي تطلق عليه العرب اسم النجم . وقال علي : نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم ، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ، ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة ، فهو طارق حين ينزل ، وطارق حين يصعد . وقال الحسن : هو اسم جنس لأنها كلها ثواقب ، أي ظاهرة الضوء .

وقيل : المراد جنس النجوم التي يرمى بها ويرجم . والثاقب ، قيل : المضيء ؛ يقال : ثقب يثقب ثقوباً وثقابة : أضاء ، أي يثقب الظلام بضوئه .

وقيل : المرتفع العالي ، ولذلك قيل هو زحل لأنه أرقها مكاناً . وقال الفراء : ثقب الطائر ارتفع وعلا .

٤

إن كل نفس . . . . .

وقرأ الجمهور : إن خفيفة ، كل رفعاً لما خفيفة ، فهي عند البصريين مخففة من الثقيلة ، كل مبتدأ واللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن المخففة ، وما زائدة ، وحافظ خبر المبتدأ ، وعليها متعلق به . وعند الكوفيين : إن نافية ، واللام بمعنى إلا ، وما زائدة ، وكل حافظ مبتدأ وخبر ؛ والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو .

وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وعاصم وابن عامر وحمزة وأبو عمرو ونافع بخلاف عنهما :

لما مشددة وهي بمعنى إلا ، لغة مشهورة في هذيل وغيرهم . تقول العرب : أقسمت عليك لما فعلت كذا : أي إلا فعلت ، قاله الأخفش . فعلى هذه القراءة يتعين أن تكون نافية ، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ .

وحكى هرون أنه قرىء : إن بالتشديد ، كل بالنصب ، فاللام هي الداخلة في خبر إن ، وما زائدة ، وحافظ خبر إن ، وجواب القسم هو ما دخلت عليه إن ، سواء كانت المخففة أو المشددة أو النافية ، لأن كلاًّ منها يتلقى به القسم ؛ فتلقيه بالمشددة مشهور ، وبالمخففة { تَاللّه إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } ، وبالنافية { وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا}

وقيل : جواب القسم { إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } ، وما بينهما اعتراض ، والظاهر عموم كل نفس . وقال ابن سيرين وقتادة وغيرهما :{ إِن كُلُّ نَفْسٍ } مكلفة ، { عَلَيْهَا حَافِظٌ } : يحصي أعمالها ويعدها للجزاء عليها ، فيكون في الآية وعيد وزاجر وما بعد ذلك يدل عليه .

وقيل : حفظة من اللّه يذبون عنها ، ولو وكل المرء إلى نفسه لاختطفته الغير والشياطين . وقال الكلبي والفراء : حافظ من اللّه يحفظها حتى يسلمها إلى المقادير .

وقيل : الحافظ : العقل يرشده إلى مصالحه ويكفه عن مضاره .

وقيل : حافظ مهيمن ورقيب عليه ، وهو اللّه تعالى .

٥

انظر تفسير الآية:٦

٦

فلينظر الإنسان مم . . . . .

ولما ذكر أن كل نفس عليها حافظ ، أتبع ذلك بوصية الإنسان بالنظر في أول نشأته الأولى حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه ، فيعمل لذلك ولا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبته . و { مِمَّ خُلِقَ } : استفهام ، ومن متعلقة بخلق ، والجملة في موضع نصب ب : فلينظر ، وهي معلقة . وجواب الاستفهام ما بعده وهو :{ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ } ، وهو مني الرجل والمرأة لما امتزجا في الرحم واتحدا عبر عنهما بماء ، وهو مفرد ، ودافق قيل : هو بمعنى مدفوق ، وهي قراءة زيد بن عليّ . وعند الخليل وسيبويه : هو على النسب ، كلابن وتامر ، أي ذي دفق .

وعن ابن عباس : بمعنى دافق لزج ، وكأنه أطلق عليه وصفه لا أنه موضوع في اللغة لذلك ، والدفق : الصب ، فعله متعد . و

قال ابن عطية : والدفق : دفع الماء بعضه ببعض ، تدفق الوادي والسيل إذا جاء يركب بعضه بعضاً . ويصح أن يكون الماء دافقاً ، لأن بعضه يدفع بعضاً ، فمنه دافق ومنه مدفوق ، انتهى . وركب قوله هذا على تدفق ، وتدفق لازم دفقته فتدفق ، نحو : كسرته فتكسر ، ودفق ليس في اللغة معناه ما فسر من قوله : والدفق دفع الماء بعضه ببعض ، بل المحفوظ أنه الصب .

٧

يخرج من بين . . . . .

وقرأ الجمهور : { يَخْرُجُ } مبنياً للفاعل ، { مِن بَيْنِ الصُّلْبِ } : بضم الصاد وسكون اللام ؛ وابن أبي عبلة وابن مقسم : مبنياً للمفعول ، وهما وأهل مكة وعيسى : بضم الصاد واللام ؛ واليماني : بفتحهما . قال العجاج :

في صلب مثل العنان المؤدم

وتقدمت اللغات في الصلب في سورة النساء ، وإعرابها صالب كما قال العباس :

تنقل من صالب إلى رحم

قال قتادة والحسن : معناه من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائبه . وقال سفيان وقتادة أيضاً : من بين صلب الرجل وترائب المرأة ، وتقدم شرح الترائب في المفردات .

وقال ابن عباس : موضع القلادة ؛ وعن ابن جبير : هي أضلاع الرجل التي أسفل الصلب .

وقيل : ما بين المنكبين والصدر .

وقيل : هي التراقي ؛ وعن معمر : هي عصارة القلب ومنه يكون الولد . ونقل مكي عن ابن عباس أن الترائب أطراف المرء ، رجلاه ويداه وعيناه .

قال ابن عطية :

وفي هذه الأحوال تحكم على اللغة ، انتهى .

٨

إنه على رجعه . . . . .

{إنَّهُ } : الضمير يعود على الخالق الدال عليه خلق .{ عَلَى رَجْعِهِ } ، قال ابن عباس وقتادة : الضمير في رجعه عائد على الإنسان ، أي على رده حياً بعد موته ، أي من أنشأه أولاً قادر على بعثه يوم القيامة لا يعجزه شيء . وقال الضحاك : على رده من الكبر إلى الشباب . وقال عكرمة ومجاهد : الضمير عائد على الماء ، أي على رد الماء في الإحليل أو في الصلب . وعلى هذا القول وقول الضحاك يكون العامل في { يَوْمَ تُبْلَى } مضمر تقديره اذكر . وعلى قول ابن عباس ، وهو الأظهر ، فقال بعض النحاة : العامل ناصر من قوله :{ وَلاَ نَاصِرٍ } ، وهذا فاسد لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها ، وكذلك ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها على المشهور المنصور . وقال آخرون ، ومنهم الزمخشري : العامل رجعه ورد بأن فيه فصلاً بين الموصول ومتعلقه ، وهو من تمام الصلة ، ولا يجوز . وقال الحذاق من النحاة : العامل فيه مضمر يدل عليه المصدر تقديره : يرجعه يوم تبلى السرائر .

قال ابن عطية : وكل هذه الفرق فرت من أن يكون العامل لقادر ، لأنه يظهر من ذلك تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده . وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون المعنى لقادر ، وذلك أنه قال :{ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } على الإطلاق أولاً وآخراً وفي كل وقت .

٩

يوم تبلى السرائر

م ذكر تعالى وخصص من الأوقات الوقت الأهم على الكفار ، لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب ليجتمع الناس إلى حذره والخوف منه ، انتهى . { تُبْلَى } قيل : تختبر ،

وقيل : تعرف وتتصفح وتميز صالحها من فاسدها ، و { السَّرَائِرُ } : ما أكنته القلوب من العقائد والنيات ، وما أخفته الجوارح من الأعمال ، والظاهر عموم السرائر . وفي الحديث : إنها التوحيد والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة ، وكان المذكور في الحديث هو أعظم السرائر ، وسمع الحسن من ينشد : سيبقى لها في مضمر القلب والحشا

سريرة ودّ يوم تبلى السرائر

١٠

فما له من . . . . .

فقال : ما أغفله عما في السماء والطارق ، والبيت للأحوص . ولما كان الامتناع في الدنيا إما بقوة في الإنسان ،

وإما بناصر خارج عن نفسه ، نفى عنه تعالى ما يمتنع به وأتى بمن الدالة على العموم في نفي القوة والناصر .

١١

والسماء ذات الرجع

{وَالسَّمَاء } : أقسم ثانياً بالسماء وهي المظلة . قيل : ويحتمل أن يكون السحاب .{ ذَاتِ الرَّجْعِ } ، قال ابن عباس : الرجع : السحاب فيه المطر . وقال الحسن : ترجع بالرزق كل عام . وقال ابن زيد : الرجع مصدر رجوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى حال ومن منزلة إلى منزلة ، تذهب وترجع ،

وقيل : الرجع : المطر ، ومنه قول الهذلي : أبيض كالرجع رسوب إذا

ما ناح في محتفل يختلي

يصف سيفاً شبهه بماء المطر في بياضه وصفائه ، وسمي رجعاً كما سمي إرباً ، قال الشاعر : ربا شمالاً يأوي لقلتها

إلا السحاب وإلا الإرب والسبل

تسمية بمصدر آب ورجع . تزعم العرب أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض إذا أرادوا التفاؤل ، وسموه رجعاً وإرباً ليرجع ويؤب .

وقيل : لأن اللّه تعالى يرجعه وقتاً فوقتاً ، قالت الخنساء :

كالرجع في الموجنة السارية

وقيل : الرجع : الملائكة ، سموا بذلك لرجوعهم بأعمال العباد .

وقيل : السحاب ، والمشهور عند أهل اللغة وقول

الجمهور : أن الرجع هو المطر ،

١٢

والأرض ذات الصدع

والصدع : ما تتصدع عنه الأرض من النبات ، ويناسب قول من قال : الرجع : المطر . وقال ابن زيد : ذات الانشقاق : النبات . وقال أيضاً : ذات الحرث . وقال مجاهد : الصدع : ما في الأرض من شقاق ولصاب وخندق وتشقق بحرث وغيره ، وهي أمور فيها معتبر ، وعنه أيضاً : ذات الطرق تصدعها المشاة .

وقيل : ذات الأموات لانصداعها عنهم يوم النشور .

١٣

انظر تفسير الآية:١٤

١٤

إنه لقول فصل

والضمير في { أَنَّهُ } ، قالوا عائد على القرآن .{ فَصْلٌ } أي فاصل بين الحق والباطل ، كما قيل له فرقان . وأقول : ويجوز أن يعود الضمير في { أَنَّهُ } على الكلام الذي أخبر فيه ببعث الإنسان يوم القيامة ، وابتلاء سرائره : أي إن ذلك القول قول جزم مطابق للواقع لا هزل فيه ، ويكون الضمير قد عاد على مذكور ، وهو الكلام الذي تضمن الأخبار عن البعث ، وليس من الأخبار التي فيها هزل بل هو جد كله .

١٥

إنهم يكيدون كيدا

{إنَّهُمْ } : أي الكافرون ، { يَكِيدُونَ } : أي في إبطال أمر اللّه وإطفاء نور الحق ،

١٦

وأكيد كيدا

{وَأَكِيدُ } : أي أجازيهم على كيدهم ، فسمى الجزاء كيداً على سبيل المقابلة ، نحو قوله تعالى :{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّه } ،{ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ } ،{ اللّه يَسْتَهْزِىء بِهِمْ}

١٧

فمهل الكافرين أمهلهم . . . . .

ثم أمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم فقال : { أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } : أي انتظر عقوبتهم ولا تستعجل ذلك ثم أكد أمره فقال :{ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } : أي إمهالاً لما كرر الأمر توكيداً خالف بين اللفظين ، على أن الأول مطلق ، وهذا الثاني مقيد بقوله :{ رُوَيْداً}

وقرأ ابن عباس : مهلهم ، بفتح الميم وشدّ الهاء موافقة للفظ الأمر الأول .

﴿ ٠