سورة الأعلى

مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

سبح اسم ربك . . . . .

الغثاء ، مخفف الثاء ومشدّدها : ما يقذف به السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات والقماش ، قال الشاعر : كأن طميا المجيمر غدوة

من السيل والغثاء فلك مغزل

ورواه الفرّاء : والإغثاء على الجمع ، وهو غريب من حيث جمع فعال على أفعال . الحوّة : سواد يضرب إلى الخضرة ، قال ذو الرّمة : لمياء في شفتيها حوّة لعس

وفي اللثات وفي أنيابها شنب

وقيل : خضرة عليها سواد ، والأحوى : الظبي الذي في ظهره خطان من سواد وبياض ، قال الشاعر : وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن

مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد

وفي الصحاح : الحوة : سمرة ، وقال الأعلم : لون يضرب إلى السواد ، وقال أيضاً : الشديد الخضرة التي تضرب إلى السواد .

هذه السورة مكية . ولما ذكر فيما قبلها { فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } ، كأن قائلاً قال : من خلقه على هذا المثال ؟ فقيل :{ سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ} وأيضاً لما قال :{ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } ،قيل : هو { سَنُقْرِئُكَ } ،أي ذلك القول الفصل .

{سَبِّحِ } : نزّه عن النقائص ، { اسْمَ رَبّكَ } : الظاهر أن التنزيه يقع على الاسم ، أي نزهه عن أن يسمى به صنم أو وثن فيقال له رب أو إله ، وإذا كان قد أمر بتنزيهه اللفظ أن يطلق على غيره فهو أبلغ ، وتنزيه الذات أحرى .

وقيل : الاسم هنا بمعنى المسمى .

وقيل : معناه نزّه اسم اللّه عن أن تذكره إلا وأنت خاشع .

وقال ابن عباس : المعنى صلّ باسم ربك الأعلى ، كما تقول : ابدأ باسم ربك ، وحذف حرف الجر .

وقيل : لما نزل { فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ } ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { اجعلوها في ركوعكم} . فلما نزل :{ سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى } ، قال : { اجعلوها في سجودكم} . وكانوا يقولون في الركوع : اللّهم لك ركعت ، وفي السجود : اللّهم لك سجدت . قالوا :{ الاْعْلَى } يصح أن يكون صفة لربك ، وأن يكون صفة لاسم فيكون منصوباً ، وهذا الوجه لا يصح أن يعرب

٢

الذي خلق فسوى

{الَّذِى خَلَقَ } صفة لربك ، فيكون في موضع جر لأنه قد حالت بينه وبين الموصوف صفة لغيره . لو

قلت : رأيت غلام هند العاقل الحسنة ، لم يجز ؛ بل لا بد أن تأتي بصفة هند ، ثم تأتي بصفة الغلام فتقول : رأيت غلام هند الحسنة العاقل . فإن لم يجعل الذي صفة لربك ، بل ترفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أو تنصبه على المدح ، جاز أن يكون الأعلى صفة لاسم .

{الَّذِى خَلَقَ } : أي كل شيء ، { فَسَوَّى } : أي لم يأت متفاوتاً بل متناسباً على إحكام وإتقان ، دلالة على أنه صادر عن عالم حكيم .

٣

والذي قدر فهدى

وقرأ الجمهور : { قُدِرَ } بشد الدال ، فاحتمل أن يكون من القدر والقضاء ، واحتمل أن يكون من التقدير والموازنة بين الأشياء .

وقال الزمخشري : قدّر لكل حيوان ما يصلحه ، فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به ، انتهى .

وقرأ الكسائي : قدر مخفف الدال من القدرة أو من التقدير والموازنة ، وهدى عام لجميع الهدايات . وقال الفرّاء : فهدى وأضل ، اكتفى بالواحدة عن الأخرى . وقال الكلبي ومقاتل : هدى الحيوان إلى وطء الذكور للإناث . وقال مجاهد : هدى الإنسان للخير والشر ، والبهائم للمراتع .

وقيل : هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي ، وهذه الأقوال محمولة على التمثيل لا على التخصيص .

٥

فجعله غثاء أحوى

والظاهر أن أحوى صفة لغثاء . قال ابن عباس : المعنى { فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى } : أي أسود ، لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفن فصار أحوى .

وقيل : أحوى حال من المرعى ، أي أحرى المرعى أحوى ، أي للسواد من شدّة خضرته ونضارته لكثرة ريه ، وحسن تأخير أحوى لأجل الفواصل ، وقال : وغيث من الوسمي حوتلاعه

تبطنته بشيظم صلتان

٦

سنقرئك فلا تنسى

{سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } ، قال الحسن وقتادة ومالك : هذا في معنى { لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ} وعده اللّه أن يقرئه ، وأخبره أنه لا ينسى ، وهذه آية للرسول صلى اللّه عليه وسلم في أنه أمّيّ ، وحفظ اللّه عليه الوحي ، وأمنه من نسائه .

وقيل : هذا وعد بإقراء السور ، وأمر أن لا ينسى على معنى التثبيت والتأكيد ، وقد علم أن النسيان ليس في قدرته ، فهو نهي عن إغفال التعاهد ، وأثبتت الألف في { فَلاَ تَنسَى } ، وإن كان مجزوماً بلا التي للنهي لتعديل رءوس الآي .

٧

إلا ما شاء . . . . .

{إِلاَّ مَا شَاء اللّه } ، الظاهر أنه استثناء مقصود . قال الحسن وقتادة وغيرهما : مما قضى اللّه نسخه ، وأن ترتفع تلاوته وحكمه .

وقال ابن عباس : إلا ما شاء اللّه أن ينسيك لتسن به ، على نحو قوله عليه الصلاة والسلام : { أني لأنسى وأنسى لأسن} .

وقيل : إلا ما شاء اللّه أن يغلبك النسيان عليه ، ثم يذكرك به بعد ، كما قال عليه الصلاة والسلام ، حين سمع قراءة عباد بن بشير : { لقد ذكرني كذا وكذا آية في سورة كذا وكذا} .

وقيل :{ فَلاَ تَنسَى } : أي فلا تترك العمل به إلا ما شاء اللّه أن تتركه بنسخه إياه ، فهذا في نسخ العمل . وقال الفراء وجماعة : هذا استثناء صلة في الكلام على سنة اللّه تعالى في الاستثناء ، وليس ثم شيء أبيح

استثناؤه .

وأخذ الزمخشري هذا القول فقال : وقال : إلا ما شاء اللّه ، والغرض نفي النسيان رأساً ، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء اللّه ، ولا يقصد استثناء شيء ، وهو من استعمال القلة في معنى النفي ، انتهى . وقول الفراء والزمخشري يجعل الاستثناء كلا استثناء ، وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام اللّه تعالى ، بل ولا في كلام فصيح . وكذلك القول بأن لا في { فَلاَ تَنسَى } للنهي ، والألف ثابتة لأجل الفاصلة ، وهذا قول ضعيف . ومفهوم الآية في غاية الظهور ، وقد تعسفوا في فهمها . والمعنى أنه تعالى أخبر أنه سيقرئه ، وأنه لا ينسى إلا ما شاء اللّه ، فإنه ينساه إما النسخ ،

وإما أن يسن ،

وإما على أن يتذكر . وهو صلى اللّه عليه وسلم معصوم من النسيان فيما أمر بتبليغه ، فإن وقع نسيان ، فيكون على وجه من الوجوه الثلاثة .

ومناسبة { سَنُقْرِئُكَ } لما قبله : أنه لما أمره تعالى بالتسبيح ، وكان التسبيح لا يتم إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن ، وكان يتذكر في نفسه مخافة أن ينسى ، فأزال عنه ذلك وبشره بأنه تعالى يقرئه وأنه لا ينسى ، استثنى ما شاء اللّه أن ينسيه لمصلحة من تلك الوجوه .{ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ } : أي جهرك بالقرآن ، { وَمَا يَخْفَى } : أي في نفسك من خوف التفلت ، وقد كفاك ذلك بكونه تكفل بإقرائك إياه وإخباره أنك لا تنسى إلا ما استثناه ، وتضمن ذلك إحاطة علمه بالأشياء .

٨

ونيسرك لليسرى

{وَنُيَسّرُكَ } معطوف على { سَنُقْرِئُكَ } ، وما بينهما من الجملة المؤكدة اعتراض ، أي يوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل ، يعني في حفظ الوحي .

وقيل : للشريعة الحنيفية السهلة .

وقيل : يذهب بك إلى الأمور الحسنة في أمر دنياك وآخرتك من النصر وعلو المنزلة والرفعة في الجنة . ولما أخبر أنه يقرئه وييسره ، أمره بالتذكير ، إذ ثمرة الإقراء هي انتفاعه في ذاته وانتفاع من أرسل إليهم .

٩

فذكر إن نفعت . . . . .

والظاهر أن الأمر بالتذكير مشروط بنفع الذكرى ، وهذا الشرط إنما جيء به توبيخاً لقريش ، أي { إِن نَّفَعَتِ الذّكْرَى } في هؤلاء الطغاة العتاه ، ومعناه استبعاد انتفاعهم بالذكرى ، فهو كما قال الشاعر : لقد أسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن تنادي

كما تقول : قل لفلان وأعد له إن سمعك ؛ فقوله : إن سمعك إنما هو توبيخ وإعلام أنه لن يسمع . وقال الفراء والنحاس والزهراوي والجرجاني معناه : وإن لم ينفع فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني .

وقيل : إن بمعنى إذ ، كقوله :{ وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } : أي إذ كنتم ؛ لأنه لم يخبر بكونهم الأعلون إلا بعد إيمانهم .

١٠

سيذكر من يخشى

{سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى } : أي لا يتذكر بذكراك إلا من يخاف ، فإن الخوف حامل على النظر في الذي ينجيه مما يخافه ، فإذا نظر فأداه النظر والتذكر إلى الحق ، وهؤلاء هم العلماء والمؤمنون كل على قدر ما وفق له .

١١

انظر تفسير الآية:١٢

١٢

ويتجنبها الأشقى

{وَيَتَجَنَّبُهَا } : أي الذي ، { الاْشْقَى } : أي المبالغ في الشقاوة ، لأن الكافر بالرسول صلى اللّه عليه وسلم هو أشقى الكفار ، كما أن المؤمن به وبما جاء به هو أفضل ممن آمن برسول قبله . ثم وصفه بما يؤول إليه حاله في الآخرة ، وهو صلي النار ووصفها بالكبرى . قال الحسن : النار الكبرى : نار الآخرة ، والصغرى : نار الدنيا . وقال الفراء : الكبرى : السفلى من أطباق النار .

وقيل : نار الآخرة تتفاضل ، ففيها شيء أكبر من شيء .

١٣

ثم لا يموت . . . . .

{ثُمَّ لاَ يَمُوتُ } : فيستريح ، { وَلاَ يُحْىِ } حياة هنيئة ؛ وجيء بثم المقتضية للتراخي إيذاناً بتفاوت مراتب الشدة ، لأن التردد بين الحياة والموت أشد وأفظع من الصلى بالنار .

١٤

قد أفلح من . . . . .

{قَدْ أَفْلَحَ } : أي فاز وظفر بالبغية ، { مَن تَزَكَّى } : تطهر . قال ابن عباس : من الشرك ، وقال : لا إله إلا اللّه . وقال الحسن : من كان عمله زاكياً . وقال أبو الأحوص وقتادة وجماعة : من رضخ من ماله وزكاه .

١٥

وذكر اسم ربه . . . . .

{وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ } : أي وحده ، لم يقرنه بشيء من الأنداد ، { فَصَلَّى } : أي أتى الصلاة المفروضة وما أمكنه من النوافل ، والمعنى : أنه لما تذكر آمن باللّه ، ثم أخبر عنه تعالى أنه أفلح من أتى بهاتين العبادتين الصلاة والزكاة ، واحتج بقوله :{ وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ } على وجوب تكبيرة الافتتاح ، وعلى أنه جائز بكل اسم من أسمائه تعالى ، وأنها ليست من الصلاة ، لأن الصلاة معطوفة على الذكر الذي هو تكبيرة الافتتاح ، وهو احتجاج ضعيف .

وقال ابن عباس :{ وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ } : أي معاده وموقفه بين يدي ربه ،

{فَصَلَّى لَهُ}

١٦

بل تؤثرون الحياة . . . . .

وقرأ الجمهور : { بَلْ تُؤْثِرُونَ } بتاء الخطاب للكفار .

وقيل : خطاب للبر والفاجر ؛ يؤثرها البر لاقتناء الثواب ، والفاجر لرغبته فيها .

وقرأ عبد اللّه وأبو رجاء والحسن والجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو والزعفراني وابن مقسم : بياء الغيبة .

{إِنَّ هَذَا } : أي الإخبار بإفلاح من تزكى وإيثار الناس للدنيا ، قاله ابن زيد وابن جرير ، ويرجح بقرب المشار إليه بهذا .

وقال ابن عباس وعكرمة والسدي : إلى معاني السورة . وقال الضحاك : إلى القرآن . وقال قتادة : إلى قوله :{ وَالاْخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}

١٨

إن هذا لفي . . . . .

{لَفِى الصُّحُفِ الاْولَى } ، لم ينسخ إفلاح من تزكى ، والآخرة خير وأبقى في شرح من الشرائع . فهو في الأولى وفي آخر الشرائع .

١٩

صحف إبراهيم وموسى

وقرأ الجمهور : الصحف بضم الحاء كالحرف الثاني ؛ والأعمش وهرون وعصمة ، كلاهما عن أبي عمرو : بسكونها ؛ وفي كتاب اللوامح العبقلي عن أبي عمرو : الصحف صحف بإسكان الحاء فيهما ، لغة تميم .

وقرأ الجمهور : إبراهيم بألف وبياء والهاء مكسورة ؛ وأبو رجاء : بحذفهما والهاء مفتوحة مكسورة معاً ؛ وأبو موسى الأشعري وابن الزبير : أبراهام بألف في كل القرآن ؛ ومالك بن دينار : إبراهيم بألف وفتح الهاء وبغير ياء ؛ وعبد الرحمن بن أبي بكرة : إبراهيم بكسر الهاء وبغير ياء في جميع القرآن . قال ابن خالويه : وقد جاء إبراهيم ، يعني بألف وضم الهاء . وتقدم في والنجم الكلام على صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام .

﴿ ٠