سورة البلد

مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

انظر تفسير الآية:٢

٢

لا أقسم بهذا . . . . .

الكبد : الشدة والمشقة ، وأصله من كبد الرجل كبداً فهو أكبد ، إذا وجعه كبده وانتفخت ، فاستعمل في كل تعب ومشقة ، ومنه المكابدة . وقال لبيد : يا عين هلا بكيت أربد إذ

قمنا وقام الخصوم في كبد

وقال أبو الأصبع : لو ابن عم لو أن الناس في كبدلظل محتجراً بالنبل يرميني

الشفة معروفة ، وأصلها شفهة ، حذفت منها الهاء ، ويدل عليه شفيهة وشفاه وشافهت ، وهي مما لا يجوز جمعه بالألف والتاء ، وإن كان تاء التأنيث . النجد : العنق وجمعه نجود ، وبه سميت نجد لارتفاعها عن انخفاض تهامة ، والنجد : الطريق العالي . قال امرؤ القيس :

فريقان منهم جازع بطن نخله

وآخر منهم قاطع كبكير

الفك : تخليص الشيء من الشيء ، قال الشاعر

فيا رب مكروب كررت وراءه

وعان فككت الغل عنه فقدني

السغب : الجوع العام ، وقد يقال سغب الرجل إذا جاع . ترب الرجل ، إذا افتقر ولصق بالتراب ، وأترب ، إذا استغنى وصار ذا مال كالتراب ، وكذلك أثرى . أوصدت الباب وآصدته ، إذا أغلقته وأطبقته . قال الشاعر : تحن إلى أجبال مكة ناقتي

ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة

هذه السورة مكية في قول الجمهور ،

وقيل : مدنية . ولما ذكر تعالى ابتلاءه للإنسان بحالة التنعيم وحالة التقدير ، وذكر من صفاته الذميمة ما ذكر ، وما آل إليه حاله وحال المؤمن ، أتبعه بنوع من ابتلائه ومن حاله السيىء وما آل إليه في الآخرة . والإشارة لهذا البلد إلى مكة .

{وَأَنتَ حِلٌّ } : جملة حالية تفيد تعظيم المقسم به ، أي فأنت مقيم به ، وهذا هو الظاهر .

وقال ابن عباس وجماعة : معناه : وأنت حلال بهذا البلد ، يحل لك فيه قتل من شئت ، وكان هذا يوم فتح مكة . و

قال ابن عطية : وهذا يتركب على قول من قال لا نافية ، أي إن هذا البلد لا يقسم اللّه به ، وقد جاء أهله بأعمال توجب الإحلال ، إحلال حرمته . وقال شرحبيل بن سعد : يعني { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ } ، جعلوك حلالاً مستحل الأذى والقتل والإخراج ، وهذا القول بدأ به الزمخشري ، وقال : وفيه بعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجب من حالهم في عداوته ، أو سلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يحلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميماً للتسلية والتنفيس عنه ، فقال : وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريده من القتل والأسر .

ثم قال الزمخشري : بعد كلام طويل :

فإن قلت : أين نظير قوله :{ وَأَنتَ حِلٌّ } في معنى الاستقبال ؟

قلت : قوله عز وجل :{ إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } ، واسع في كلام العباد ، تقول لمن تعده الإكرام والحبا : وأنت مكرم محبو ، وهو في كلام اللّه أوسع ، لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة ، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال . إن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة من وقت نزولها ؟ فما بال الفتح ؟ انتهى . وحمله على أن الجملة اعتراضية لا يتعين ، وقد ذكرنا أولاً أنها جملة حالية ، وبينا حسن موقعها ، وهي حال مقارنة ، لا مقدرة ولا محكية ؛ فليست من الإخبار بالمستقبل .

وأما سؤاله والجواب ، فهذا لا يسأله من له أدنى تعلق بالنحو ، لأن الأخبار قد تكون بالمستقبلات ، وإن اسم الفاعل وما يجري مجراه حالة إسناده أو الوصف به لا يتعين حمله على الحال ، بل يكون للماضي تارة ، وللحال أخرى ، وللمستقبل أخرى ؛ وهذا من مبادىء علم النحو .

وأما قوله : وكفاك دليلاً قاطعاً الخ ، فليس بشيء ، لأنا لم نحمل { وَأَنتَ حِلٌّ } على أنه يحل لك ما تصنع في مكة من الأسر والقتل في وقت نزولها بمكة فتنافيا ، بل حملناه على أنه مقيم بها خاصة ، وهو وقت النزول كان مقيماً بها ضرورة . وأيضاً فما حكاه من الاتفاق على أنها نزلت بمكة فليس بصحيح ، وقد حكى الخلاف فيها عن قول ابن عطية ، ولا يدل قوله :{ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ } على ما ذكروه من أن المعنى يستحل إذ ذاك ، ولا على أنك تستحل فيه أشياء ، بل الظاهر ما ذكرناه أولاً من

أنه تعالى أقسم بها لما جمعت من الشرفين ، شرفها بإضافتها إلى اللّه تعالى ، وشرفها بحضور رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإقامته فيها ، فصارت أهلاً لأن يقسم بها .

٣

ووالد وما ولد

والظاهر أن قوله : { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } ، لا يراد به معين ، بل ينطلق على كل والد .

وقال ابن عباس ذلك ، قال : هو على العموم يدخل فيه جميع الحيوان . وقال مجاهد : آدم وجميع ولده .

وقيل : والصالحين من ذريته .

وقيل : نوح وذريته . وقال أبو عمران الحوفي : إبراهيم عليه السلام وجميع ولده .

وقيل : ووالد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما ولد إبراهيم عليه السلام . وقال الطبري والماوردي : يحتمل أن يكون الوالد النبي صلى اللّه عليه وسلم لتقدم ذكره ، وما ولد أمته ، لقوله صلى اللّه عليه وسلم : { إنما أنا لكم بمنزلة الوالد } ، ولقراءة عبد اللّه : { وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } ، وهو أب لهم ، فأقسم تعالى به وبأمته بعد أن أقسم ببلده ، مبالغة في شرفه عليه الصلاة والسلام .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : ما المراد بوالد وما ولد ؟

قلت : رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن ولده . أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه ، وحرم أبيه إبراهيم ، ومنشأ أبيه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام ، وبمن ولده وبه .

فإن قلت : لم نكر ؟

قلت : للإبهام المستقل بالمدح والتعجب .

فإن قلت : هلا قيل : ومن ولد ؟

قلت : فيه ما في قوله :{ وَاللّه أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } : أي بأي شيء وضعت ، يعني موضوعاً عجيب الشأن . انتهى . وقال الفراء : وصلح ما للناس ، كقوله :{ مَا طَابَ لَكُمْ } ،{ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاْنثَى } ، وهو الخالق للذكر والأنثى . انتهى .

وقال ابن عباس وعكرمة وابن جبير : المراد بالوالد الذي يولد له ، وبما ولد العاقر الذي لا يولد له . جعلوا ما نافية ، فتحتاج إلى تقدير موصول يصح به هذا المعنى ، كأنه قال : ووالد والذي ما ولد ، وإضمار الموصول لا يجوز عند البصريين .

٤

لقد خلقنا الإنسان . . . . .

{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ } : هذه الجملة المقسم عليها . والجمهور : على أن الإنسان اسم جنس ، وفي كبد : يكابد مشاق الدنيا والآخرة ، ومشاقه لا تكاد تنحصر من أول قطع سرته إلى أن يستقر قراره ، إما في جنة فتزول عنه المشقات ؛

وإما في نار فتتضاعف مشقاته وشدائده .

وقال ابن عباس وعبد اللّه بن شداد وأبو صالح والضحاك ومجاهد :{ فِى كَبَدٍ } معناه : منتصب القامة واقفاً ، ولم يخلق منكباً على وجهه ، وهذا امتنان عليه . وقال ابن كيسان : منتصباً رأسه في بطن أمه ، فإذا أذن له بالخروج ، قلب رأسه إلى قدمي أمه . وعن ابن عمر : يكابد الشكر على السرّاء ، ويكابد الصبر على الضراء . وقال ابن زيد :{ الإِنسَانَ } : آدم ، { فِى كَبَدٍ } : في السماء ، سماها كبداً ، وهذه الأقوال ضعيفة ، والأول هو الظاهر .

٥

أيحسب أن لن . . . . .

والظاهر أن الضمير في { أَيَحْسَبُ } عائد على { الإِنسَانَ } ،أي هو لشدة شكيمته وعزته وقوته يحسب أن لا يقاومه أحد ، ولا يقدر عليه أحد لاستعصامه بعدده وعدده .

٦

انظر تفسير الآية:٧

٧

يقول أهلكت مالا . . . . .

يقول على سبيل الفخر : { أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } : أي في المكارم وما يحصل به الثناء ، أيحسب أن أعماله تخفى ، وأنه لا يراه أحد ، ولا يطلع عليه في إنفاقه ومقصد ما يبتغيه مما ليس لوجه اللّه منه شيء ؟ بل عليه حفظة يكتبون ما يصدر منه من عمل في حياته ويحصونه إلى يوم الجزاء .

وقيل : الضمير في { أَيَحْسَبُ } لبعض صناديد قريش .

وقيل : هو أبو الأسد أسيد بن كلدة ، كان يبسط له الأديم العكاظي ، فيقوم عليه ويقول : من أزالني عنه فله كذا ، فلا ينزع إلا قطعاً ، ويبقى موضع قدميه .

وقيل : الوليد بن المغيرة .

وقيل : الحرث بن عامر بن نوفل ، وكان إذا أذنب استفتى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فيأمره بالكفارة ، فقال : لقد أهلكت مالاً لبداً في الكفارات والتبعات منذ تبعت محمداً صلى اللّه عليه وسلم.

وقرأ الجمهور : لبداً ، بضم اللام وفتح الباء ؛ وأبو جعفر : بشدّ الباء ؛ وعنه وعن زيد بن علي : لبداً بسكون الباء ، ومجاهد وابن أبي الزناد : بضمهما .

٨

ألم نجعل له . . . . .

ثم عدّد تعالى على الإنسان نعمه فقال : { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ } يبصر بهما ،

٩

ولسانا وشفتين

{وَلِسَاناً } يفصح عما في باطنه ، { وَشَفَتَيْنِ } يطبقهما على فيه ويستعين بهما على الأكل والشرب والنفخ وغير ذلك .

١٠

وهديناه النجدين

{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ } ، قال ابن مسعود وابن عباس والجمهور : طريق الخير والشر .

وقال ابن عباس أيضاً ، وعليّ وابن المسيب

والضحاك : الثديين ، لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه .

١١

فلا اقتحم العقبة

{فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ } : أي لم يشكر تلك النعم السابقة ، والعقبة استعارة لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال ، تشبيه بعقبة الجبل ، وهو ما صعب منه ، وكان صعوداً ، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها . واقتحمها : دخلها بسرعة وضغط وشدّة ، والقحمة : الشدّة والسنة الشديدة .

ويقال : قحم في الأمر قحوماً : رمى نفسه فيه من غير روية . والظاهر أن لا للنفي ، وهو قول أبي عبيدة والفرّاء والزجاج ، كأنه قال : وهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل ، فما فعل خيراً ، أي فلم يقتحم . قال الفرّاء والزجاج : ذكر لا مرة واحدة ، والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيد ، كقوله تعالى :{ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى } ، وإنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه ، فيجوز أن يكون قوله :{ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ } ، قائماً مقام التكرير ، كأنه قال : فلا اقتحم العقبة ولا آمن .

وقيل : هو جار مجرى الدعاء ، كقوله : لا نجا ولا سلم ، دعاء عليه أن لا يفعل خيراً .

وقيل : هو تحضيض بألا ، ولا نعرف أن لا وحدها تكون للتحضيض ، وليس معها الهمزة .

وقيل : العقبة : جهنم ، لا ينجي منها إلا هذه الأعمال ، قاله الحسن .

وقال ابن عباس ومجاهد وكعب : جبل في جهنم .

وقال الزمخشري ، بعد أن تنحل مقالة الفرّاء والزجاج : هي بمعنى لا متكررة في المعنى ، لأن معنى { فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ } : فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً . ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك ؟ انتهى ،

١٣

فك رقبة

ولا يتم له هذا إلا على قراءة من قرأ فك فعلاً ماضياً .

وقرأ ابن كثير والنحويان : فك فعلاً ماضياً ، رقبة نصب ، أو أطعم فعلاً ماضياً ؛ وباقي السبعة : فكر مرفوعاً ، رقبة مجروراً ،

١٤

أو إطعام في . . . . .

وإطعام مصدر منون معطوف على فك .

وقرأ عليّ وأبو رجاء كقراءة ابن كثير ، إلا أنهما قرآ : ذا مسغبة بالألف .

وقرأ الحسن وأبو رجاء أيضاً : أو إطعام في يوم ذا بالألف ، ونصب ذا على المفعول ، أي إنساناً ذا مسغبة ، ويتيماً بدل منه أو صفة .

وقرأ بعض التابعين : فك رقبة بالإضافة ، أو أطعم فعلاً ماضياً . ومن قرأ فك بالرفع ، فهو تفسير لاقتحام العقبة ، والتقدير : وما أدراك ما اقتحام العقبة . ومن قرأ فعلاً ماضياً ، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف ، بل يكون التعظيم للعقبة نفسها ، ويجيء فك بدلاً من اقتحم ، قاله ابن عطية . وفك الرقبة : تخليصها من الأسر والرق .

١٥

يتيما ذا مقربة

{ذَا مَقْرَبَةٍ } : ليجتمع صدقة وصلة ، وأو هنا للتنويع ، ووصف يوم بذي مسغبة على الاتساع .

١٦

أو مسكينا ذا . . . . .

{ذَا مَتْرَبَةٍ } ، قال : هم المطروحون على ظهر الطريق قعوداً على التراب ، لا بيوت لهم .

وقال ابن عباس : هو الذي يخرج من بيته ، ثم يقلب وجهه إليه مستيقناً أنه ليس فيه إلا التراب .

١٧

ثم كان من . . . . .

{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ } : هذا معطوف على قوله :{ فَلاَ اقتَحَمَ } ؛ ودخلت ثم لتراخي الإيمان والفضيلة ، لا للتراخي في الزمان ، لأنه لا بد أن يسبق تلك الأعمال الحسنة الإيمان ، إذ هو شرط في صحة وقوعها من الطائع ، أو يكون المعنى : ثم كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان ، إذ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطاعات ، أو يكون التراخي في الذكر كأنه قيل : ثم اذكر أنه كان من الذين آمنوا .{ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ } : أي أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والطاعات وعن المعاصي ، { وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ } : أي بالتعاطف والتراحم ، أو بما يؤدي إلى رحمة اللّه .

١٨

انظر تفسير الآية:١٩

١٩

أولئك أصحاب الميمنة

والميمنة والمشأمة تقدّم القول فيهما في الواقعة .

٢٠

عليهم نار مؤصدة

وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص : { مُّؤْصَدَةُ } بالهمز هنا وفي الهمزة ، فيظهر أنه من آصدت قيل : ويجوز أن يكون من أوصدت ، وهمز على حد من قرأ بالسؤق مهموزاً .

وقرأ باقي السبعة بغير همز ، فيظهر أنه من أوصدت .

وقيل : يجوز أن يكون من آصدت ، وسهل الهمزة ، وقال الشاعر : قوماً تعالج قملاً أبناءهم

وسلاسلاً حلقاً وباباً مؤصدا

﴿ ٠