سورة الضحى

مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

{وَالضُّحَى ...}

هذه السورة مكية . ولما ذكر فيما قبلها { وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى } ، وكان سيد الأتقين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ذكر تعالى هنا نعمه عليه .

٢

وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى

سجا الليل : أدبر ،

وقيل : أقبل ، ومنه : يا حبذا القمراء والليل الساج وطرق مثل ملاء النساج

وبحر ساج : ساكن ، قال الأعشى : وما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم وبحرك ساج لا يوارى الدعامصا

وطرف ساج : غيره مضطرب بالنظر . وقال الفراء : سجا الليل : أظلم وركد . وقال ابن الأعرابي : سجا الليل : اشتد ظلامه

٣

وقرأ الجمهور { مَا وَدَّعَكَ } بتشديد الدال ؛ وعروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة : بخفها ، أي ما تركك . واستغنت العرب في فصيح كلامها بترك عن ودع ووذر ، وعن اسم فاعلهما بتارك ، وعن اسم مفعولهما بمتروك ، وعن مصدرهما بالترك ، وقد سمع ودع ووذر . قال أبو الأسود : ليت شعري عن خليلي ما الذي غاله في الحب حتى ودعه

وقال آخر : وثم ودعنا آل عمرو وعامر

فرائس أطراف المثقفة السمر

والتوديع مبالغة في الودع ، لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك .

{ وَمَا قَلَى } : ما أبغضك ، واللغة الشهيرة في مضارع قلى يقلى ، وطيىء تعلى بفتح العين وحذف المفعول اختصاراً في { قَلَى } ، وفي { فَاوَى } وفي { فَهَدَى } ، وفي { فَأَغْنَى } ، إذ يعلم أنه ضمير المخاطب ، وهو الرسول صلى اللّه عليه وسلم. قال ابن عباس وغيره : أبطأ الوحي مرة على الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهو بمكة ، حتى شق ذلك عليه ، فقالت أم جميل ، امرأة أبي لهب : يا محمد ما أرى شيطانك إلا تركك ؟ فنزلت . وقال زيد بن أسلم : إنما احتبس عنه جبريل عليه السلام لجرو كلب كان في بيته .

٤

وللآخرة خير لك . . . . .

{وَلَلاْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى} : يريد الدارين ، قاله ابن إسحاق وغيره . ويحتمل أن يريد حالتيه قبل نزول السورة وبعدها ، وعده تعالى بالنصر والظفر ، قاله ابن عطية اهتمالاً .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : كيف اتصل قوله :{ وَلَلاْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى } بما قبله ؟

قلت : لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن اللّه مواصلك بالوحي إليك ، وأنك حبيب اللّه ، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك ، ولا نعمة أجل منه ، أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل ، وهو السبق والتقدم على جميع أنبياء اللّه ورسله ، وشهادة أمته على سائر الأمم ، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته .

٥

ولسوف يعطيك ربك . . . . .

{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } ، قال الجمهور : ذلك في الآخرة .

وقال ابن عباس : رضاه أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار . وقال أيضاً : رضاه أنه وعده بألف قصر في الجنة بما تحتاج إليه من النعم والخدم .

وقيل : في الدنيا بفتح مكة وغيره ، والأولى أن هذا موعد شامل لما أعطاه في الدنيا من الظفر ، ولما ادخر له من الثواب . واللام في { وَلَلاْخِرَةُ } لام ابتداء أكدت مضمون الجملة ، وكذا في { وَلَسَوْفَ } على إضمار مبتدأ ، أي ولأنت سوف يعطيك .

ولما وعده هذا الموعود الجليل ، ذكره بنعمه عليه في حال نشأته .

٦

ألم يجدك يتيما . . . . .

{أَلَمْ يَجِدْكَ } : يعلمك ، { يَتِيماً } : توفي أبوه عليه الصلاة والسلام وهو جنين ، أتت عليه ستة أشهر وماتت أمه عليه الصلاة والسلام وهو ابن ثماني سنين ، فكفله عمه أبو طالب فأحسن تربيته .

وقيل لجعفر الصادق : لم يتم النبي صلى اللّه عليه وسلم من أبويه ؟ فقال : لئلا يكون عليه حق لمخلوق .

قال الزمخشري : ومن يدع التفاسير أنه من قولهم درّة يتيمة ، وأن المعنى : ألم يجدك واحداً في قريش عديم النظير فآواك ، انتهى .

وقرأ الجمهور :{ فَاوَى } رباعياً ؛ وأبو الأشهب العقيلي : فأوى ثلاثياً ، بمعنى رحم . تقول : أويت لفلان : أي رحمته ، ومنه قول الشاعر : أراني ولا كفران للّه أنه

لنفسي قد طالبت غير منيل

٧

ووجدك ضالا فهدى

{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ } : لا يمكن حمله على الضلال الذي يقابله الهدى ، لأن الأنبياء معصومون من ذلك . قال ابن عباس : هو ضلاله وهو في صغره في شعاب مكة ، ثم رده اللّه إلى جده عبد المطلب .

وقيل : ضلاله من حليمة مرضعته .

وقيل : ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب ،

٨

ووجدك عائلا فأغنى

ولبعض المفسرين أقوال فيها بعض ما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . ولقد رأيت في النوم أني أفكر في هذه الجملة فأقول على الفور : { وَوَجَدَكَ } ،أي وجد رهطك ، { ضَالاًّ } ، فهداه بك . ثم أقول : على حذف مضاف ، نحو :{ وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ}

وقرأ الجمهور :{ عَائِلاً } : أي فقيراً . قال جرير : اللّه نزل في الكتاب فريضة

لابن السبيل وللفقير العائل

كرر لاختلاف اللفظ .

وقرأ اليماني : عيّلاً ، كسيّدٍ ، بتشديد الياء المكسورة ، ومنه قول أجيحة بن الحلاج

وما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغني متى يعيل

عال : افتقر ، وأعال : كثر عياله . قال مقاتل : { فَأَغْنَى } رضاك بما أعطاك من الرزق .

وقيل : أغناك بالقناعة والصبر .

وقيل : بالكفاف .

٩

فأما اليتيم فلا . . . . .

ولما عدد عليه هذه النعم الثلاث ، وصاه بثلاث كأنها مقابلة لها . { فَلاَ تَقْهَرْ } ، قال مجاهد : لا تحتقر . وقال ابن سلام : لا تستزله . وقال سفيان : لا تظلمه بتضييع ماله . وقال الفراء : لا تمنعه حقه ، والقهر هو التسليط بما يؤذي .

وقرأ الجمهور :{ تَقْهَرْ } بالقاف ؛ وابن مسعود وإبراهيم التيمي : بالكاف بدل القاف ، وهي لغة بمعنى قراءة الجمهور .

١٠

وأما السائل فلا . . . . .

{وَأَمَّا السَّائِلَ } : ظاهره المستعطي ، { فَلاَ تَنْهَرْ } : أي تزجره ، لكن أعطه أو رده رداً جميلاً . وقال قتادة : لا تغلظ عليه ، وهذه في مقابلة { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } ؛ فالسائل ، كما قلنا : المستعطي ، وقاله الفراء وجماعة . وقال أبو الدرداء والحسن وغيرهما : السائل هنا : السائل عن العلم والدين ، لا سائل المال ، فيكون بإزاء { وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى}

١١

وأما بنعمة ربك . . . . .

{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ } ، قال مجاهد والكلبي : معناه بث القرآن وبلغ ما أرسلت به . وقال محمد بن إسحاق : هي النبوة . وقال آخرون : هي عموم في جميع النعم .

وقال الزمخشري : التحديث بالنعم : شكرها وإشاعتها ، يريد ما ذكره من نعمة الإيواء والهداية والإغناء وما عدا ذلك ، انتهى . ويظهر أنه لما تقدم ذكر الامتنان عليه بذكر الثلاثة ، أمره بثلاثة : فذكر اليتيم أولاً وهي البداية ، ثم ذكر السائل ثانياً وهو العائل ، وكان أشرف ما امتن به عليه هي الهداية ، فترقى من هذين إلى الأشرف وجعله مقطع السورة ، وإنما وسط ذلك عند ذكر الثلاثة ، لأنه بعد اليتيم هو زمان التكليف ، وهو عليه الصلاة والسلام معصوم من اقتراف ما لا يرضي اللّه عز وجل في القول والفعل والعقيدة ، فكان ذكر الامتنان بذلك على حسب الواقع بعد اليتيم وحالة التكليف ، وفي الآخر ترقى إلى الأشرف ، فهما مقصدان في الخطاب .

﴿ ٠