سورة العاديات

مدنية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

والعاديات ضبحا

العاديات : الجاريات بسرعة ، وهو وصف ، ويأتي في التفسير الخلاف في الموصوف ، الضبح : تصويت جهير عند العدو الشديد ، ليس بصهيل ولا رغاء ولا نباح ، بل هو غير المعتاد من صوت الحيوان الذي يضبح .

وعن ابن عباس : ليس يضبح من الحيوان غير الخيل والكلاب . قيل : ولا يصح عن ابن عباس ، لأن الإبل تضبح ، والأسود من الحيات والبوم والصدى والأرنب والثعلب والقوس ، كما استعملت العرب لها الضبح . أنشد أبو حنيفة في صفة قوس : حنانة من نشم أو تألب

تضبح في الكف ضباح الثعلب

وقال أهل اللغة : أصله للثعلب ، فاستعير للخيل ، وهو من ضبحته النار : غيرت لونه ولم تبالغ فيه ، وانضبح لونه : تغير إلى السواد قليلاً . وقال أبو عبيدة : الضبح والضبع بمعنى العدو الشديد ، وكذا قال المبرد : م الضبح من إضباعها في السير . القدح : الصك ،

وقيل : الاستخراج ، ومنه قدحت العين : أخرجت منها الفاسد ، والقداح والقداحة والمقدحة : ما تورى به النار . أغار على العدو : قصده لنهب أو قتل أو أسر . النقع : الغبار . قال الشاعر : يخرجن من مستطار النقع دامية

كأن آذانها أطراق أقلام

وقال ابن رواحة : عدمت بنيتي إن لم تروها

تثير النقع من كنفي كداء

وقال أبو عبيدة : النقع : رفع الصوت ، ومنه قول لبيد : فمتى ينقع صراخ صادق

تحلبوها ذات حرس وزجل

الكنود : الكفور للنعمة ، قال الشاعر : كنود لنعماء الرجال ومن يكن

كنوداً لنعماء الرجال يبعد

وعن ابن عباس : الكنود ، بلسان كندة وحضرموت : العاصي ؛ وبلسان ربيعة ومضر : الكفور ؛ وبلسان كنانة : البخيل السيىء الملكة ، وقاله مقاتل . وقال الكلبي مثله إلا أنه قال : وبلسان بني مالك : البخيل ، ولم يذكر وحضرموت ،

ويقال : كند النعمة كنوداً . وقال أبو زبيد في البخيل : إن تفتني فلم أطب عنك نفسا

غير أني أمنى بدهر كنود

حصل الشيء : جمعه ،

وقيل : ميزه من غيره ، ومنه قيل للمنحل : المحصل ، وحصل الشيء : ظهر واستبان .

هذه السورة مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء ، مدنية في قول ابن عباس وأنس وقتادة . لما ذكر فيما قبلها ما يقتضي تهديداً ووعيداً بيوم القيامة ، بتعنيف لمن لا يستعد لذلك اليوم ، ومن آثر أمر دنياه على أمر آخرته . والجمهور من أهل التفسير واللغة على أن العاديات هنا الخيل ، تعدو في سبيل اللّه وتضبح حالة عدوها ، وقال عنترة : والخيل تكدح حين تضبح

في حياض الموت ضبحا

وقال أبو عبد اللّه وعلي وإبراهيم والسدي ومحمد بن كعب وعبيد بن عمير : العاديات : الإبل . أقسم بها حين تعدو من عرفة ومن المزدلفة إذا دفع الحاج . وبأهل غزوة بدر لم يكن فيها غير فرسين ، فرس للزبير وفرس للمقداد ، وبهذا حج عليّ رضي اللّه عنه ابن عباس حين تماريا ، فرجع ابن عباس إلى قول علي رضي اللّه تعالى عنهما . وقالت صفية بنت عبد المطلب : فلا والعاديات غداة جمع

بأيديها إذا سطع الغبار

وانتصب ضبحاً على إضمار فعل ، أي يضبحن ضبحاً ؛ أو على أنه في موضع الحال ، أي ضابحات ؛ أو على المصدر على قول أبي عبيدة أن معناه العدو الشديد ، فهو منصوب بالعاديات .

وقال الزمخشري : أو بالعاديات كأنه قيل : والضابحات ، لأن الضبح يكون مع العدو ، انتهى . وإذا كان الضبح مع العدو ، فلا يكون معنى { وَالْعَادِيَاتِ } معنى الضابحات ، فلا ينبغي أن يفسر به .

٢

فالموريات قدحا

{فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً } ، والإيراء : إخراج النار ، أي تقدح

بحوافرها الحجارة فيتطاير منها النار لصك بعض الحجارة بعضاً .

ويقال : قدح فأورى ، وقدح فأصلد . وتسمى تلك النار التي تقدحها الحوافر من الخيل أو الإبل : نار الحباحب . قال الشاعر : تقدّ السلوقي المضاعف نسجة

وتوقد بالصفاح نار الحباحب

وقيل : { فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً } مجاز ، أو استعارة في الخيل تشعل الحرب ، قاله قتادة .

وقال تعالى :{ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّه}

ويقال : حمي الوطيس إذا اشتدّ الحرب .

وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم : الموريات : الجماعة التي تمكر في الحرب ، والعرب تقوله إذا أرادت المكر بالرجل : واللّه لا يكون ذلك ، ولأورين لك .

وعن ابن عباس أيضاً : التي توري نارها بالليل لحاجتها وطعامها . وعنه أيضاً : جماعة الغزاة تكثر النار إرهاباً . وقال عكرمة : ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به ، وتظهر من الحجج والدلائل ، وإظهار الحق وإبطال الباطل .

٣

فالمغيرات صبحا

{فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً } : أي تغير على العدو في الصبح ، ومن قال هي الإبل ، قال العرب تقول : أغار إذا عدى جرياً ، أي من مزدلفة إلى منى ، أو في بدر ؛ وفي هذا دليل على أن هذه الأوصاف لذات واحدة ، لعطفها بالفاء التي تقتضي التعقيب . والظاهر أنها الخيل التي يجاهد عليها العدو من الكفار ، ولا يستدل على أنها الإبل بوقعة بدر ، وإن لم يكن فيها إلا فرسان ، لأنه لم يذكر أن سبب نزول هذه السورة هو وقعة بدر ، ثم بعد ذلك لا يكاد يوجد أن الإبل جوهد عليها في سبيل اللّه ، بل المعلوم أنه لا يجاهد في سبيل اللّه تعالى إلا على الخيل في شرق البلاد وغربها .

٤

انظر تفسير الآية:٥

٥

فأثرن به نقعا

{فَأَثَرْنَ } : معطوف على اسم الفاعل الذي هو صلة أل ، لأنه في معنى الفعل ، إذ تقديره : فاللاتي عدون فأغرن فأثرن .

وقال الزمخشري : معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه ، انتهى . وتقول أصحابنا : هو معطوف على الاسم ، لأنه في معنى الفعل .

وقرأ الجمهور :{ فَأَثَرْنَ } ،{ فَوَسَطْنَ } ، بتخفيف الثاء والسين ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بشدّهما ؛ وعليّ وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى : بشدّ السين .

وقال الزمخشري :

وقرأ أبو حيوة : فأثرن بالتشديد ، بمعنى : فأظهرن به غباراً ، لأن التأثير فيه معنى الإظهار ، أو قلب ثورن إلى وثرن ، وقلب الواو همزة . وقرىء : فوسطن بالتشديد للتعدية ، والباء مزيدة للتوكيد ، كقوله :{ فَأْتُواْ بِهِ } ، وهي مبالغة في وسطن ، انتهى . أما قوله : أو قلب ، فتمحل بارد .

وأما أن التشديد للتعدية ، فقد نقلوا أن وسط مخففاً ومثقلاً بمعنى واحد ، وأنهما لغتان ، والضمير في به عائد في الأول على الصبح ، أي هيجن في ذلك الوقت غباراً ، وفي به الثاني على الصبح . قيل :أو على النقع ، أي وسطن النقع الجمع ، فيكون وسطه بمعنى توسطه . وقال علي وعبد اللّه :{ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } : أي الإبل ، وجمعاً اسم للمزدلفة ، وليس بجمع من الناس . وقال بشر بن أبي حازم : فوسطن جمعهم وأفلت حاجب

تحت العجاجة في الغبار الأقتم

وقيل : الضمير في به معاً يعود على العدو الدال عليه { وَالْعَادِيَاتِ } أيضاً .

وقيل : يعود على المكان الذي يقتضيه المعنى ، وإن لم يجر له ذكر ، لدلالة والعاديات وما بعدها عليه .

وقيل : المراد بالنقع هنا الصياح ، والظاهر أن المقسم به هو جنس العاديات ، وليست أل فيه للعهد ، والمقسم عليه :{ إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ}

٦

إن الإنسان لربه . . . . .

وفي الحديث :  { الكنود يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده} .

وقال ابن عباس والحسن : هو الجحود لنعمة اللّه تعالى . وعن الحسن أيضاً : هو اللائم لربه ، يعد السيئات وينسى الحسنات . وقال الفضيل : هو الذي تنسيه سيئة واحدة حسنات كثيرة ،

ويعامل اللّه على عقد عوض . وقال عطاء : هو الذي لا يغطى في النائبات مع قومه .

وقيل : البخيل . وقال ابن قتيبة : أرض كنود : لا تنبت شيئاً .

٧

وإنه على ذلك . . . . .

والظاهر عود الضمير في { وَأَنَّهُ } على ذلك { لَشَهِيدٌ } ،أي يشهد على كنوده ، ولا يقدر أن يجحده لظهور أمره ، وقاله الحسن ومحمد بن كعب .

وقال ابن عباس وقتادة : هو عائد على اللّه تعالى ، أي وربه شاهد عليه ، وهو على سبيل الوعيد . وقال التبريزي : هو عائد على اللّه تعالى ، وربه شاهد عليه هو الأصح ، لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورين ، ويكون ذلك كالوعيد والزجر عن المعاصي ، انتهى . ولا يترجح بالقرب إلا إذا تساويا من حيث المعنى . والإنسان هنا هو المحدث عنه والمسند إليه الكنود . وأيضاً فتناسق الضمائر لواحد مع صحة المعنى أولى من جعلهما لمختلفين ، ولا سيما إذا توسط الضمير بين ضميرين عائدين على واحد .

٨

وإنه لحب الخير . . . . .

{وَإنَّهُ } : أي وإن الإنسان ، { لِحُبّ الْخَيْرِ } : أي المال ، ، لشديد } : أي قوي في حبه .

وقيل : لبخيل بالمال ضابط له ، ويقال للبخيل : شديد ومتشدد . وقال طرفة : أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الفاحش المتشدد

وقال قتادة : الخير من حيث وقع في القرآن هو المال .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد هذا الخير الدنيوي من مال وصحة وجاءه عند الملوك ونحوه ، لأن الكفار والجهال لا يعرفون غير ذلك . فأما المحب في خير الآخرة فممدوح مرجوله الفور . وقال الفراء : نظم الآية أن يقال : وإنه لشديد الحب للخير . فلما تقدم الحب قال لشديد ، وحذف من آخره ذكر الحب لأنه قد جرى ذكره ، ولرءوس الآي كقوله تعالى : : أي قوي في حبه .

وقيل : لبخيل بالمال ضابط له ، ويقال للبخيل : شديد ومتشدد . وقال طرفة : أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الفاحش المتشدد

وقال قتادة : الخير من حيث وقع في القرآن هو المال .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد هذا الخير الدنيوي من مال وصحة وجاءه عند الملوك ونحوه ، لأن الكفار والجهال لا يعرفون غير ذلك . فأما المحب في خير الآخرة فممدوح مرجوله الفور . وقال الفراء : نظم الآية أن يقال : وإنه لشديد الحب للخير . فلما تقدم الحب قال لشديد ، وحذف من آخره ذكر الحب لأنه قد جرى ذكره ، ولرءوس الآي كقوله تعالى :{ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } ، والعصوف : للريح لا للأيام ، كأنه قال : في يوم عاصف الريح ، انتهى . وقال غيره ما معناه : لأنه ليس أصله ذلك التركيب ، بل اللام في { لِحُبّ } لام العلة ، أي وإنه لأجل حب المال لبخيل ؛ أو وإنه لحب المال وإيثاره قوي مطيق ، وهو لحب عبادة اللّه وشكر نعمه ضعيف متقاعس . تقول : هو شديد لهذا الأمر وقوي له إذا كان مطيقاً له ضابطاً .

قال الزمخشري : أو أراد : وإنه لحب الخيرات غير هش منبسط ، ولكنه شديد منقبض .

٩

أفلا يعلم إذا . . . . .

{أَفَلاَ يَعْلَمُ } : توقيف إلى ما يؤول إليه الإنسان ، ومفعول يعلم محذوف وهو العامل في الظرف ، أي أفلا يعلم مآ له ؟{ إِذَا بُعْثِرَ } ، وقال الحوفي : إذا ظرف مضاف إلى بعثر والعامل فيه يعلم . انتهى ، وليس بمتضح لأن المعنى : أفلا يعلم الآن ؟

وقرأ الجمهور : بعثر بالعين مبنياً للمفعول .

وقرأ عبد اللّه : بالحاء .

وقرأ الأسود بن زيد : بحث .

وقرأ نضر بن عاصم : بحثر على بنائه للفاعل .

١٠

وحصل ما في . . . . .

وقرأ ابن يعمر ونصر بن عاصم ومحمد بن أبي سعدان : وحصل مبنياً للفاعل ؛ والجمهور : مبنياً للمفعول .

وقرأ ابن يعمر أيضاً ونصر بن عاصم أيضاً : وحصل مبنياً للفاعل خفيف الصاد ، والمعنى جمع ما في المصحف ، أي أظهر محصلاً مجموعاً .

وقيل : ميز وكشف ليقع الجزاء عليه .

١١

إن ربهم بهم . . . . .

وقرأ الجمهور : { ءانٍ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ } باللام : هو استئناف إخبار ، والعامل في { بِهِمُ } ، وفي { يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ } ، وهو تعالى خبير دائماً لكنه ضمن خبير معنى مجاز لهم في ذلك اليوم .

وقرأ أبو السمال والحجاج : بفتح الهمزة وإسقاط اللام . ويظهر في هذه القراءة تسلط يعلم على إن ، لكنه لا يمكن إعمال خبير في إذا لكونه في صلة أن المصدرية ، لكنه لا يمكن أن يقدر له عامل فيه من معنى الكلام ، فإنه قال : يجزيهم إذا بعثر ، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون يعلم معلقه عن العمل في قراءة الجمهور ، وسدت مسد المعمول في إن ، وفي خبرها اللام ظاهر ، إذ هي في موضع نصب بيعلم . وإذا العامل فيها من معنى مضمون الجملة تقديره : كما قلنا يجزيهم إذا بعثر .

﴿ ٠