سورة المسد

مكية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

تبت يدا أبي . . . . .

الحطب معروف ،

ويقال : فلان يحطب على فلان إذا وشى عليه . الجيد : العنق . المسد : الحبل من ليف ، وقال أبو الفتح : ليف المقل ، وقال ابن زيد : هو شجر باليمن يسمى المسد ، انتهى . وقد يكون من جلود الإبل ومن أوبارها . قال الراجز :

ومسد أمر من أيانق

ورجل ممسود الخلق : أي مجدوله شديده .

{تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ}

هذه السورة مكية . ولما ذكر فيما قبلها دخول الناس في دين اللّه تعالى ، أتبع بذكر من لم يدخل في الدين ، وخسر ولم يدخل فيما دخل فيه أهل مكة من الإيمان . وتقدم الكلام على التباب في سورة غافر ، وهنا قال ابن عباس : خابت ، وقتادة : خسرت ، وابن جبير : هلكت ، وعطاء : ضلت ، ويمان بن رياب : صفرت من كل خير ، وهذه الأقوال متقاربة في المعنى . وقالوا فيما حكى إشابة : أم تابة : أي هالكة من الهرم والتعجيز . وإسناد الهلاك إلى اليدين ، لأن العمل أكثر ما يكون بهما ، وهو في الحقيقة للنفس ، كقوله :{ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}

وقيل : أخذ بيديه حجراً ليرمي به الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فأسند التب إليهما . والظاهر أن التب دعاء ، وتب : إخبار بحصول ذلك ، كما قال الشاعر : جزاني جزاه اللّه شرّ جزائه

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

ويدل عليه قراءة عبد اللّه : وقد تب . روي أنه لما نزل :{ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ } ، قال : { يا صفية بنت عبد المطلب ، يا فاطمة بنت محمد ، لا أغني لكما من اللّه شيئاً ، سلاني من مالي ما شتئما} . ثم صعد الصفا ، فنادى بطون قريش : { يا بني فلان يا بني فلان} . وروي أنه صاح بأعلى صوته : { يا صباحاه} . فاجتمعوا إليه من كل وجه ، فقال لهم : { أرأيتم لو قلت لكم إني أنذركم خيلاً بسفح هذا الجبل ، أكنتم مصدقي ؟ } قالوا : نعم ، قال :  { فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد} . فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ؟ فافترقوا عنه ، ونزلت هذه السورة . وأبو لهب اسمه عبد العزى ، ابن عم المطلب عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقرأ ابن محيصن وابن كثير : أبي لهب بسكون الهاء ، وفتحها باقي السبعة ولم يختلفوا في ذات لهب ، لأنها فاصلة ، والسكون يزيلها على حسن الفاصلة .

قال الزمخشري : وهو من تغيير الأعلام ، كقولهم : شمس مالك بالضم . انتهى ، يعني : سكون الهاء في لهب وضم الشين في شمس ، ويعني في قول الشاعر : وإني لمهد من ثنائي فقاصد

به لابن عمي الصدق شمس بن مالك

فأما في لهب ، فالمشهور في كنيته فتح الهاء ،

وأما شمس بن مالك ، فلا يتعين أن يكون من تغيير الأعلام ، بل يمكن أن يكون مسمى بشمس المنقول من شمس الجمع ، كما جاء أذناب خيل شمس . قيل : وكنى بأبي لهب لحسنه وإشراق وجهه ، ولم يذكره تعالى باسمه لأن اسمه عبد العزى ، فعدل عنه إلى الكنية ، أو لأن الكنية كانت أغلب عليه من الاسم ؛ أو لأن مآله إلى النار ، فوافقت حالته كنيته ، كما يقال للشرير : أبو الشر ، وللخير أبو الخير ؛ أو لأن الاسم أشرف من الكنية ، فعدل إلى الأنقص ؛ ولذلك ذكر اللّه تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم ولم يكنّ أحداً منهم .

٢

ما أغنى عنه . . . . .

والظاهر أن ما في { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ } نفي ، أي لم يغن عنه ماله الموروث عن آبائه ، وما كسب هو بنفسه أو ماشيته ، وما كسب من نسلها ومنافعها ، أو ما كسب من أرباح ماله الذي يتجر به . ويجوز أن تكون ما استفهاماً في موضع نصب ، أي : أيّ شيء يغني عنه ماله على وجه التقرير والإنكار ؟ والمعنى : أين الغني الذي لماله ولكسبه ؟ والظاهر أن ما في قوله :{ وَمَا كَسَبَ } موصولة ، وأجيز أن تكون مصدرية . وإذا كانت ما في { مَا أَغْنَى } استفهاماً ، فيجوز أن تكون ما في { وَمَا كَسَبَ } استفهاماً أيضاً ، أي : وأي شيء كسب ؟ أي لم يكسب شيئاً .

وعن ابن عباس :{ وَمَا كَسَبَ } ولده .

وفي الحديث : { ولد الرجل من كسبه} . وعن الضحاك :{ وَمَا كَسَبَ } هو عمله الخبيث في عداوة الرسول صلى اللّه عليه وسلم. وعن قتادة : وعمله الذي ظن أنه منه على شيء . وروي عنه أنه كان يقول : إن كان ما يقول ابن أخي حقاً ، فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي .

وقرأ عبد اللّه : وما اكتسب بتاء الافتعال .

٣

انظر تفسير الآية:٤

٤

سيصلى نارا ذات . . . . .

وقرأ أبو حيوة وابن مقسم وعباس في اختياره ، وهو أيضاً سيصلى بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام ، ومريئته ؛ وعنه أيضاً : ومريته على التصغير فيهما بالهمز وبإبدالها ياء وإدغام ياء التصغير فيها .

وقرأ أيضاً : حمالة للحطب ، بالتنوين في حمالة ، وبلام الجر في الحطب .

وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : سيصلى بضم الياء وسكون الصاد ؛ وأبو قلابة : حاملة الحطب على وزن فاعلة مضافاً ، واختلس حركة الهاء في وامرأته أبو عمرو في رواية ؛ والحسن وزيد بن علي والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن محيصن وعاصم : حمالة بالنصب .

وقرأ الجمهور : { سَيَصْلَى } بفتح الياء وسكون الصاد ، { وَامْرَأَتُهُ } على التكبير ، { حَمَّالَةَ } على وزن فعالة للمبالغة مضافاً إلى الحطب مرفوعاً ، والسين للاستقبال وإن تراخى الزمان ، وهو وعيد كائن إنجازه لا محالة . وارتفع { وَامْرَأَتُهُ } عطفاً على الضمير المستكن في { سَيَصْلَى } ، وحسنه وجود الفصل بالمفعول وصفته ، { وحمالة } في قراءة الجمهور خبر مبتدأ محذوف ، أو صفة لامرأته ، لأنه مثال ماض فيعرف بالإضافة ، وفعال أحد الأمثلة الستة وحكمها كاسم الفاعل . وفي قراءة النصب ، انتصب على الذم . وأجازوا في قراءة الرفع أن يكون { لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ } مبتدأ ، وحمالة ، واسمها أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان ، وكانت عوراء . والظاهر أنها كانت تحمل الحطب ، أي ما فيه شوك ، لتؤذي بإلقائه في طريق الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه لتعقرهم ، فذمت بذلك وسميت حمالة الحطب ، قاله ابن عباس . فحمالة معرفة ، فإن كان صار لقباً لها جاز فيه حالة الرفع أن يكون عطف بيان ، وأن يكون بدلاً . قيل : وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنشرها بالليل في طريق

رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة والسدي : كانت تمشي بالنميمة ، ويقال للمشاء بها : يحمل الحطب بين الناس ، أي يوقد بينهم النائرة ويورث الشر . قال الشاعر : من البيض لم يصطد على ظهر لامه

ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب

جعله رطباً ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر . وقال الراجز :

إن بني الأرزم حمالو الحطب

هم الوشاة في الرضا وفي الغضب

وقال ابن جبير : حمالة الخطايا والذنوب ، من قولهم : يحطب على ظهره .

قال تعالى : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ}

وقيل : الحطب جمع حاطب ، كحارس وحرس ، أي يحمل الجناة على الجنايات ،

٥

في جيدها حبل . . . . .

والظاهر أن الحبل من مسد . وقال عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان : استعارة ، والمراد سلسلة من حديد في جهنم . وقال قتادة : قلادة من ودع . وقال ابن المسيب : قلادة فاخرة من جوهر ، فقالت : واللات والعزى لأنفقنها على عداوة محمد .

قال ابن عطية : وإنما عبر عن قلادتها بحبل من مسد على جهة التفاؤل لها ، وذكر تبرجها في هذا السعي الخبيث ، انتهى . وقال الحسن : إنما كانت خرزاً .

وقال الزمخشري : والمعنى في جيدها حبل مما مسد من الحبال ، وأنها تحمل الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها ، كما يفعل الحطابون تحسيساً لحالها وتحقيراً لها بصورة بعض الحطابات من المواهن لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها وهما في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة . ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب ، فقال :

ماذا أردت إلى شتمي ومنقصتي

أم ما تعير من حمالة الحطب

غرساء شاذخة في المجد سامية

كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب

ويحتمل أن يكون المعنى : إن حالها يكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك ، فلا يزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجر الزقوم أو الضريع ، وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار ، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه ، انتهى .

ولما سمعت أم جميل هذه السورة أتت أبا بكر ، وهو مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر ، فقالت : بلغني أن صاحبك هجاني ، ولأفعلنّ وأفعلن ؛ وأعمى اللّه تعالى بصرها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فروي أن أبا بكر ، رضي اللّه تعالى عنه ، قال لها : هل تري معي أحداً ؟ فقالت : أتهزأ بي ؟ لا أرى غيرك . وإن كان شاعراً فأنا مثله أقول :

مذمماً أبينا

ودينه قلينا

وأمره عصينا فسكت أبو بكر ومضت هي ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { لقد حجبتني عنها ملائكة فما رأتني وكفى اللّه شرها} . وذكر أنها ماتت مخنوقة بحبلها ، وأبو لهب رماه اللّه تعالى بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال .

﴿ ٠