سورة البقرة

١

  بسم اللّه الرحمن الرحيم

{ الم } قال الشعبي وجماعة آلم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر اللّه تعالى بعلمه وهي سر القرآن. فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى اللّه تعالى. وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها. قال أبو بكر الصديق في كل كتاب سر وسر اللّه تعالى في القرآن أوائل السور، وقال علي لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف ( التهجي ) وقال داود بن أبي هند كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور فقال يا داود إن لكل كتاب سراً وإن سر القرآن فواتح السور فدعها وسل عما سوى ذلك. وقال جماعة هي معلومة المعاني فقيل كل حرف منها مفتاح اسم من أسمائه كما قال ابن عباس في كهيعص الكاف من كافي والهاء من هادي والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق.

وقيل في المص أنا اللّه الملك الصادق، وقال الربيع بن أنس في آلم الألف مفتاح اسمه اللّه واللام مفتاح اسمه اللطيف، والميم مفتاح اسمه المجيد.

وقال محمد بن كعب  الألف آلاء اللّه واللام لطفه، والميم ملكه، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال معنى آلم أنا اللّه أعلم ومعنى آلمص أنا اللّه أعلم وأفضل ومعنى آلر أنا اللّه أرى، ومعنى آلمر أنا اللّه أعلم وأرى. قال الزجاج وهذا حسن فإن العرب تذكر حرفاً من كلمة يريدها كقولهم قلت لها قفى لنا قالت قاف. أي وقفت، وعن سعيد بن جبير قال هي أسماء اللّه تعالى (مقطعة) لو علم الناس تأليفها لعلموا اسم اللّه الأعظم.ألا ترى أنك تقول آلر، وحم، ون، فتكون الرحمن، وكذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على وصلها،

وقال قتادة  هذه الحروف أسماء القرآن. وقال مجاهد و ابن زيد  هي أسماء (السور)، وبيانه أن القائل إذا قال قرأت آلمص عرف السامع أنه قرأ السورة التي افتتحت بالمص. وروي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنها أقسام،

وقال الأخفش  إنما أقسم اللّه بهذه الحروف لشرفها وفضلها لأنها( مبادئ ) كتبه المنزلة، ومباني أسمائه الحسنى.

٢

قوله تعالى { ذلك الكتاب } أي هذا الكتاب وهو القرآن،

وقيل هذا فيه مضمر أي هذا ذلك الكتاب. قال الفراء  كان اللّه قد وعد نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، فلما أنزل القرآن قال هذا (ذلك) الكتاب الذي وعدتك أن أنزله عليك في التوراة والإنجيل وعلى لسان النبيين من قبلك (( وهذا )) للتقريب ((وذلك)) للتبعيد، وقال ابن كيسان  إن اللّه تعالى أنزل قبل سورة البقرة سوراً كذب بها المشركون ثم أنزل سورة البقرة فقال (ذلك الكتاب) يعنى ما تقدم البقرة من السور لا شك فيه. والكتاب مصدر وهو بمعنى المكتوب كما يقال للمخلوق خلق،وهذا الدرهم ضرب فلان أي مضروبه. وأصل الكتب الضم والجمع، ويقال للجند كتيبة لاجتماعها، وسمي الكتاب كتاباً لأنه جمع حرف إلى حرف.

قوله تعالى { لا ريب فيه } أي لا شك فيه أنه من عند اللّه عز وجل وأنه الحق والصدق،

وقيل هو خبر بمعنى النهي أي لا ترتابوا فيه كقوله تعالى { فلا رفث ولا فسوق } (١٩٧-البقرة) أي لا ترفثوا ولا تفسقوا. قرأ ابن كثير فيه بالإشباع في الوصل وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلاً ما لم يلقها ساكن ثم إن كان الساكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسرة ياء وإن كان غير ياء يشبعها بالضم واواً ووافقه حفص في قوله { فيه مهاناً } (٦٩-الفرقان) (فيشبعه). قةله تعالى { هدى للمتقين } يدغم الغنة عند اللام والراء أبو جعفر و ابن كثير و حمزة و الكسائي ، زاد حمزة و الكسائي عند الياء وزاد حمزة عند الواو والآخرون لا يدغمونها ويخفي أبو جعفر النون والتنوين عند الخاء والغين (هدى للمتقين) أي هو هدى أي رشد وبيان لأهل التقوى،

وقيل هو نصب على الحال أي هادياً تقديره لا ريب في هدايته للمتقين والهدى ما يهتدي به الإنسان، للمتقين أي للمؤمنين. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما المتقي من يتقي الشرك والكبائر والفواحش وهو مأخوذ من الاتقاء. وأصله الحجز بين الشيئين ومنه يقال اتقى بترسه أي جعله حاجزاً بين نفسه وبين ما يقصده. وفي الحديث (( كنا إذا أحمر البأس اتقينا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم )) أي إذا اشتد الحرب جعلناه حاجزاً بيننا وبين العدو، فكأن المتقي يجعل امتثال أمر اللّه والاجتناب عما نهاه حاجزاً بينه وبين العذاب. قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه لكعب الأحبار حدثني عن التقوى فقال هل أخذت طريقاً ذا شوك قال نعم. قال فما عملت فيه قال حذرت وشمرت قال كعب ذلك التقوى. وقال شهر بن حوشب  المتقي الذي يترك ما لا بأس به حذراً لما به بأس وقال عمر بن عبد العزيز التقوى ترك ما حرم اللّه وأداء ما افترض اللّه فما رزق اللّه بعد ذلك فهو خير إلى خير.

وقيل هو الاقتداء بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وفي الحديث (( جماع التقوى في قوله تعالى { إن اللّه يأمر بالعدل والإحسان } (٩٠-النحل) الآية )) وقال ابن عمر التقوى أن لا ترى نفسك خيراً من أحد. وتخصيص المتقين بالذكر تشريف لهم أو لأنهم هم المتقون بالهدى.

٣

 

قوله تعالى { الذين يؤمنون } موضع الذين خفض نعتاً للمتقين. يؤمنون يصدقون [ ويترك الهمزة أبو عمرو وورش، والآخرون يهمزونه وكذلك يتركان كل همزة ساكنة هي فاء الفعل نحو يؤمن ومؤمن إلا أحرفاً معدودة ]. وحقيقة الإيمان التصديق بالقلب، قال اللّه تعالى { وما أنت بمؤمن لنا } (١٧-يوسف) [ أي بمصدق لنا ] وهو في الشريعة الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان، فسمي الإقرار والعمل إيماناً، لوجه من المناسبة، لأنه من شرائعه. والإسلام هو الخضوع والانقياد، فكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيماناً، إذا لم يكن معه تصديق، قال اللّه تعالى { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } (١٤- الحجرات) وذلك لأن الرجل قد يكون مستسلماً في الظاهر غير مصدق في الباطن. وقد يكون مصدقاً في الباطن غيرمنقاد في الظاهر. وقد اختلف جواب النبي صلى اللّه عليه وسلم عنهما حين سأله جبريل عليه السلام وهو ما

أخبرنا أبو طاهر محمد ابن علي بن محمد بن علي بن محمد بن بويه الزراد البخاري أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ثنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ثنا أبو أحمد عيسى بن أحمد العسقلاني أنا يزيد بن هارون أنا كهمس بن الحسن عن عبد اللّه بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال كان أول من تكلم في القدر، يعني بالبصرة، معبداً الجهني فخرجت أنا و حميد بن عبد الرحمن نريد مكة فقلنا لو لقينا أحداً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألناه عما يقوله هؤلاء فلقينا عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فعلمت أنه سيكل الكلام إلي فقلت يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يتقفرون هذا العلم ويطلبونه يزعمون أن لا قدر إنما الأمر أنف قال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء شيئاً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ثم قال حدثنا عمر بن الخطاب قال

( بينا نحن عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ما يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد فأقبل حتى جلس بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم [وركبته تمس ركبته] فقال يامحمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا فقال صدقت فتعجبنا من سؤاله وتصديقه. ثم قال فما الإيمان قال أن تؤمن باللّه وحده وملائكته وكتبه ورسوله وبالبعث بعد الموت والجنة والنار وبالقدر خيره وشره فقال صدقت. ثم قال فما الإحسان قال أن تعبد اللّه كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك قال صدقت ثم قال فأخبرني عن الساعة فقال ما المسؤول عنها بأعلم بها من السائل قال صدقت قال فأخبرني عن أماراتها قال أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في بنيان المدر قال صدقت ثم انطلق فلما كان بعد ثالثة قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا عمر هل تدري من الرجل؟ قال قلت اللّه ورسوله أعلم. قال ذلك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا في صورته هذه ).

فالنبي صلى اللّه عليه وسلم جعل الإسلام في هذا الحديث إسماً لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال ذاك جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم. والدليل على أن الأعمال من الإيمان ما

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي أنا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن علي بن الشاه ثنا أبو أحمد بن محمد بن قريش بن سليمان ثنا بشر بن موسى ثنا خلف بن الوليد عن جرير الرازي عن سهل بن أبي صالح عن عبد اللّه بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا اللّه وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ).

وقيل الإيمان مأخوذ من الأمان، فسمي المؤمن مؤمناً لأنه يؤمن نفسه من عذاب اللّه، واللّه تعالى مؤمن لأنه يؤمن العباد من عذابه.

قوله تعالى { بالغيب } والغيب مصدر وضع موضع الاسم فقيل للغائب غيب [ كما قيل للعادل عدل وللزائر زور. والغيب ما كان مغيباً عن العيون قال ابن عباس الغيب هاهنا كل ما أمرت بالإيمان به فيما غاب عن بصرك مثل الملائكة والبعث والجنة والنار والصراط والميزان.

وقيل الغيب هاهنا هو اللّه تعالى،

وقيل القرآن،

وقال الحسن بالآخرة وقال زر بن حبيش وابن جريح بالوحي. نظيره { أعنده علم الغيب } (٣٥-النجم) وقال ابن كيسان  بالقدر وقال عبد الرحمن بن يزيد كنا عند عبد اللّه بن مسعود فذكرنا أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم [وما سبقونا به] فقال عبد اللّه إن أمر محمد كان بيناً لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ { الم * ذلك الكتاب } إلى قوله {المفلحون}. قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وورش يومنون بترك الهمزة وكذلك أبو جعفر بترك كل همزة ساكنة إلا في أنبئهم ونبئهم ونبئنا ويترك أبو عمرو كلها إلا أن تكون علامة للجزم نحو نبئهم وأنبئهم وتسؤهم وإن نشأ وننسأها ونحوها أو يكون خروجاً من لغة إلى أخرى نحو مؤصدة ورئياً. ويترك ورش كل همزة ساكنة كانت فاء الفعل إلا تؤوي وتؤويه ولا يترك من عين الفعل إلا الرؤيا وبابه، إلا ما كان على وزن فعل. مثل ذئب].

قوله تعالى { ويقيمون الصلاة } أي يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها، وأركانها وهيئاتها يقال قام بالأمر، وأقام الأمر إذا أتى به معطىً حقوقه، والمراد بها الصلوات الخمس ذكر بلفظ (الواحد) كقوله تعالى { فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق } (٢١٣-البقرة) يعني الكتب. والصلاة في اللغة الدعاء، قال اللّه تعالى { وصل عليهم } (١٠٣-التوبة) أي ادع لهم، وفي الشريعة اسم لأفعال مخصوصة من قيام وركوع وسجود وقعود ودعاء وثناء.

وقيل في

قوله تعالى { إن اللّه وملائكته يصلون على النبي } (٥٦-الأحزاب) الآية إن الصلاة من اللّه في هذه الآية الرحمة ومن الملائكة الاستغفار، ومن المؤمنين الدعاء.

قوله تعالى { ومما رزقناهم } (أي) أعطيناهم والرزق اسم لكل ما ينتفع به حتى الولد والعبد وأصله في اللغة الحظ والنصيب { ينفقون } يتصدقون.

قال قتادة  ينفقون في سبيل اللّه وطاعته. وأصل الإنفاق الإخراج عن اليد والملك، ومنه نفاق السوق، لأنه تخرج فيه السلعة عن اليد، ومنه نفقت الدابة إذا أخرجت روحها. فهذه الآية في المؤمنين من مشركي العرب.

٤

قوله تعالى { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } يعني القرآن { وما أنزل من قبلك } من التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ويترك أبو جعفر و ابن كثير وقالون (وأبو عمرو) وأهل البصرة ويعقوب كل مدة تقع بين كل كلمتين. والآخرون يمدونها. وهذه الآية في المؤمنين من أهل الكتاب.

قوله تعالى { وبالآخرة } أي بالدار الآخرة سميت الدنيا دنيا لدنوها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا { هم يوقنون } أي يستيقنون أنها كائنة، من الإيقان وهو العلم.

وقيل الإيقان واليقين علم عن استدلال. ولذلك لا يسمى اللّه موقناً ولاعلمه يقيناً إذ ليس علمه عن استدلال.

٥

قوله تعالى { أولئك } أي أهل هذه الصفة وأولاء كلمة معناها الكناية عن جماعة نحو هم، والكاف للخطاب كما في حرف ذلك { على هدى } أي رشد وبيان وبصيرة { من ربهم، وأولئك هم المفلحون } أي الناجون والفائزون فازوا بالجنة ونجوا من النار، ويكون الفلاح بمعنى البقاء أي باقون في النعيم المقيم وأصل الفلاح القطع والشق ومنه سمي الزراع فلاحاً لأنه يشق الأرض وفي المثل الحديد بالحديد يفلح أي يشق فهم (مقطوع) لهم بالخير في الدنيا والآخرة.

٦

قوله { إن الذين كفروا } يعني مشركي العرب

قال الكلبي  يعني اليهود. والكفر هو الجحود وأصله من الكفر وهو الستر ومنه سمي الليل كافراً لأنه يستر الأشياء بظلمته وسمي الزارع كافراً لأنه يستر الحب بالتراب والكافر يستر الحق بجحوده. والكفر على أربعة أنحاء كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر عناد، وكفر نفاق. فكفر الإنكار أن لا يعرف اللّه أصلاً ولا يعترف به، وكفر الجحود هو أن يعرف اللّه تعالى بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر إبليس (وكفر) اليهود. قال اللّه تعالى { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } (٨٩-البقرة) وكفر العناد هو أن يعرف اللّه بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً وأما كفر النفاق فهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد بالقلب، وجميع هذه الأنواع سواء في أن من لقي اللّه تعالى بواحد منها لا يغفر له. قوله { سواء عليهم } أي متساو لديهم { أأنذرتهم } خوفتهم وحذرتهم والإنذار إعلام مع تخويف وتحذير وكل منذر معلم وليس كل معلم منذراً وحقق ابن عامر و عاصم و حمزة و الكسائي الهمزتين في ((أأنذرتهم)) وكذلك كل همزتين تقعان في أول الكلمة والآخرون يلينون الثانية {أم} حرف عطف على الاستفهام {لم} حرف جزم لا تلي إلا الفعل لأن الجزم يختص بالأفعال {تنذرهم لا يؤمنون} وهذه الآية في أقوام حقت عليهم الشقاوة في سابق علم اللّه ثم ذكر سبب تركهم الإيمان فقال

٧

فقال { ختم اللّه } طبع اللّه { على قلوبهم } فلا تعي خيراً ولا تفهمه. وحقيقة الختم الاستيثاق من الشيء كيلا يدخله ما خرج منه ولا يخرج عنه ما فيه، ومنه الختم على الباب. قال أهل السنة أي حكم على قلوبهم بالكفر، لما سبق من علمه الأزلي فيهم، وقال المعتزلة جعلعلى قلوبهم علامة تعرفهم الملائكة بها.

{ وعلى سمعهم } أي على موضع سمعهم فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به، وأراد على أسماعهم كما قال { على قلوبهم } وإنما وحده لأنه مصدر، والمصدر لا يثنى ولا يجمع. { وعلى أبصارهم غشاوة } هذا ابتداء كلام. غشاوة أي غطاء، فلا يرون الحق. وقرأ أبو عمرو و الكسائي أبصارهم بالامالة وكذا كل ألف بعدها راء مجرورة في الأسماء كانت لام الفعل يميلانها ويميل حمزة منها ما يتكرر فيه الراء كالقرار ونحوه. زاد الكسائي إمالة جبارين والجوار والجار وبارئكم ومن أنصاري ونسارع وبابه.

وكذلك يميل هؤلاء كل ألف بمنزلة لام الفعل، أو كان علماً للتأنيث، إذا كان قبلها راء، فعلم التأنيث مثل الكبرى والأخرى. ولام الفعل مثل ترى وافترى، يكسزون الراء فيها. { ولهم عذاب عظيم } أي في الآخرة،

وقيل القتل والأسر في الدنيا والعذاب الدائم في العقبى. والعذاب كل ما يعني الإنسان ويشق عليه. قال الخليل  العذاب ما يمنع الإنسان عن مراده، ومنه الماء العذب، لأنه يمنع العطش.

٨

 قوله { ومن الناس من يقول آمنا باللّه } نزلت في المنافقين عبد اللّه بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير، وجد بن قيس وأصحابهم حيث أظهروا كلمة الإسلام ليسلموا من النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود، والناس جمع انسان سمي به لأنه عهد إليه فنسي كما قال اللّه تعالى { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي } (١١٥-طه)

وقيل لظهوره من قولهم آنست أي أبصرت،

وقيل لأنه يستأنس به { وباليوم الآخر } أي بيوم القيامة.

قال اللّه تعالى { وما هم بمؤمنين } أي يخالفون اللّه.

٩

{ يخادعون اللّه } أي يخالفون اللّه وأصل الخدع في اللغة الإخفاء ومنه المخدع للبيت الذي يخفى فيه المتاع فالمخادع يظهر خلاف ما يضمر والخدع من اللّه في قوله {وهو خادعهم} (١٨٢-النساء) أي يظهر لهم ويعجل لهم من النعيم في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم من عذاب الآخرة.

وقيل أصل الخدع الفساد، معناه يفسدون ما أظهروا من الإيمان بما أضمروا من الكفر.

وقوله {وهو خادعهم} أي يفسد عليهم نعيمهم في الدنيا بما يصيرهم إليه من عذاب الآخرة فإن قيل ما معنى قوله { يخادعون اللّه } والمفاعلة للمشاركة وقد جل اللّه تعالى عن المشاركة في المخادعة؟ قيل قد ترد المفاعلة لا على معنى المشاركة كقولك عافاك اللّه وعاقبت فلاناً، وطارقت النعل.

وقال الحسن  معناه يخادعون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما قال اللّه تعالى { إن الذين يؤذون اللّه } (٥٧- الأحزاب) أي أولياء اللّه،

وقيل ذكر اللّه هاهنا تحسين والقصد بالمخادعة الذين آمنوا كقوله تعالى { فأن للّه خمسه وللرسول } (٤١- الأنفال)

وقيل معناه يفعلون في دين اللّه ما هو خداع في دينهم { والذين آمنوا } أي و يخادعون المؤمنين بقولهمإذا رأوهم آمنا وهم غير مؤمنين. { وما يخدعون } قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو وما يخادعون كالحرف الأول وجعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد. وقرأ الباقون وما يخدعون على الأصل. { إلا أنفسهم } لأن وبال خداعهم راجع إليهم لأن اللّه تعالى يطلع نبيه صلى اللّه عليه وسلم على نفاقهم فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب في العقبى { وما يشعرون } أي لا يعلمون أنهم يخدعون أنفسهم وأن وبال خداعهم يعود عليهم .

١٠

 { في قلوبهم مرض } شك ونفاق وأصل المرض الضعف. وسمي الشك في الدين مرضاً لأنه يضعف الدين كالمرض يضعف البدن. { فزادهم اللّه مرضاً } لأن الآيات كانت تنزل تترى، آية بعد آية، كلما كفروا بآية ازدادوا كفراً ونفاقاً وذلك معنى

قوله تعالى { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم } (١٢٥-التوبة) وقرأ ابن عامر و حمزة فزادهم بالإمالة وزاد حمزة إمالة زاد حيث وقع وزاغ وخاب وطاب وحاق وضاق، والآخرون لا يميلونها { ولهم عذاب أليم } مؤلم يخلص وجعه إلى قلوبهم { بما كانوا يكذبون } ما للمصدر أي بتكذيبهم اللّه ورسوله في السر. قرأ الكوفيون يكذبون بالتخفيف أي بكذبهم (إذ) قالوا آمنا وهم غير مؤمنين.

١١

{ وإذا قيل } قرأ الكسائي  (( قيل )) و (( غيض )) و (( جيء )) و (( حيل )) و (( سيق )) و (( سيئت )) بروم أوائلهن الضم - ووافق ابن عامر في (( سيق )) و (( حيل )) و (( سيئ )) و (( سيئت )) - ووافق أهل المدينة في سيء وسيئت لأن أصلها قول بضم القاف وكسر الواو، مثل قتل وكذل في أخواته فأشير إلى الضمة لتكون دالة على الواو المنقلبة وقرأ الباقون بكسر أوائلهن، استثقلوا الحركة على الواو فنقلوا كسرتها إلى فاء الفعل وانقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها { وإذا قيل لهم } يعني للمنافقين،

وقيل لليهود أي قال لهم المؤمنون { لا تفسدوا في الأرض } بالكفر وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآن.

وقيل معناه لا تكفروا، والكفر أشد فساداً في الدين { قالوا إنما نحن مصلحون } يقولون هذا القول كذباً كقولهم آمنا وهم كاذبون.

١٢

 { ألا } كلمة تنبيه ينبه بها المخاطب { إنهم هم المفسدون } أنفسهم بالكفر والناس بالتعويق عن الإيمان { ولكن لا يشعرون } أي لا يعلمون أنهم مفسدون لأنهم يظنون أن الذي هم عليه من إبطان الكفر صلاح.

وقيل لا يعلمون ما أعد اللّه لهم من العذاب.

١٣

 { وإذا قيل لهم } أي للمنافقين

وقيل لليهود { آمنوا كما آمن الناس } عبد اللّه بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب

وقيل كما آمن المهاجرون والأنصار { قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء } أي الجهال فإن قيل كيف يصح النفاق مع ( المهاجرة ) بقولهم أنؤمن كما آمن السفهاء قيل أنهم كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين. فأخبر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين بذلك فرد اللّه عليهم فقال { ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } أنهم كذلك فالسفيه خفيف العقل رقيق الحلم من قولهم ثوب سفيه أي رقير

وقيل السفيه الكذاب الذي يتعمد (الكذب) بخلاف ما يعلم. قرأ أهل الكوفة والشام (السفهاء ألا) بتحقيق الهمزتين وكذلك كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا والآخرون يحققون الأولى ويلينون الثانية في المختلفتين طلباً للخفة فإن كانتا متفقتين مثل هؤلاء، وأولياء، وأولئك، وجاء أمر ربك - قرأها أبو عمرو و البزي عن ابن كثير بهمزة واحدة وقرأ أبو جعفر وورش والقواش و يعقوب بتحقيق الأولى وتليين الثانية وقرأ قالون بتخفيف الأولى وتحقيق الثانية لأن ما يستأنف أولى بالهمزة مما يسكت عليه.

١٤

 { وإذا لقوا الذين آمنوا } يعني هؤلاء المنافقين إذا لقوا المهاجرين والأنصار { قالوا آمنا } كإيمانكم { وإذا خلوا } رجعوا. ويجوز أن يكون من الخلوة { إلى } بمعنى الباء أي بشياطينهم

وقيل إلى بمعنى مع كما قال ( اللّه تعالى ) { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } ( ٢-النساء) أي مع أموالكم { شياطينهم } أي رؤسائهم وكهنتهم قال ابن عباس رضي اللّه عنهما وهم حمسة نفر من اليهود كعب بن الأشرف بالمدينة، وأبو بردة في بني أسلم وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد اللّه بن السوداء بالشام. ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان تابع له.والشيطان  المتمرد العاتي من الجن والإنس ومن كل شيء وأصله البعد ، يقال بئر شطون أي  بعيدة العمق ، سمي الشيطان شيطانا لامتداده في الشر وبعده عن الخير .

وقال مجاهد  إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين { قالوا إنا معكم } أي  على دينكم { إنما نحن مستهزئون } بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه بما نظهر من الإسلام .

قرأ أبو جعفر مستهزون ويستهزون وقل استهزوا وليطفوا وليواطوا ويستنبونك وخاطين وخاطون ومتكن ومتكون فمالون والمنشون بترك الهمزة فيهن.

١٥

 { اللّه يستهزئ بهم } أي يجازيهم جزاء استهزائهم سمي الجزاء باسمه لأنه في مقابلته كما قال اللّه تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها } (٤٠-الشورى) قال ابن عباس هو أن يفتح لهم باب من الجنة فإذا انتهوا إليه سد عنهم، وردوا إلى النار

وقيل هو أن يضرب للمؤمنين نور يمشون به على الصراط فإذا وصل المنافقون إليه حيل بينهم وبين المؤمنين كما قال اللّه تعالى { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } (٥٤-سبأ) قال اللّه تعالى { فضرب بينهم بسور له باب } الآية (١٣-الحديد) وقال الحسن معناه اللّه يظهر المؤمنين على نفاقهم { ويمدهم } يتركهم ويمهلهم والمد والإمداد واحد، وأصله الزيادة إلا أن المد أكثر ما يأتي في الشر والإمداد في الخير قال اللّه تعالى في المد { ونمد له من العذاب مداً } (٧٩-مريم) وقال في الإمداد { وأمددناكم بأموال وبنين } (٦ ـ الإسراء ) { وأمددناهم بفاكهة } (٢٢-الطور) { في طغيانهم } أي في ضلالتهم وأصله مجاوزة الحد. ومنه طغى الماء { يعمهون } أي يترددون في الضلالة متحيرين.

١٦

 { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } أي استبدلوا الكفر بالإيمان { فما ربحت تجارتهم } أي ما ربحوا في تجارتهم أضاف الربح إلى التجارة لأن الربح يكون فيها كما تقول العرب ربح بيعك وخسرت صفقتك { وما كانوا مهتدين } من الضلالة،

وقيل مصيبين في تجارتهم .

١٧

 { مثلهم } شبههم،

وقيل صفتهم. والمثل قول سائر في عرف الناس يعرف به معنى الشيء وهو أحد أقسام القرآن السبعة { كمثل الذي } يعني الذين بدليل سياق الآية. ونظيره { والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون } (٣٣-الزمر) { استوقد } أوقد { ناراً فلما أضاءت } النار { ما حوله } أي حول المستوقد. وأضاء لازم ومتعد يقال أضاء الشيء بنفسه وأضاءه غيره وهو هاهنا متعد { ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون } قال ابن عباس و قتادة و مقاتل و الضحاك و السدي نزلت في المنافقين. يقول مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مفازة فاستدفأ ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف فبينا هو كذلك إذا طفيت ناره فبقي في ظلمة طائفاً متحيراً فكذلك المنافقون بإظهار كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم وأولادهم وناكحوا المؤمنين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم فذلك نورهم فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف.

وقيل ذهاب نورهم في القبر.

وقيل في القيامه حيث يقولون للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم.

وقيل ذهاب نورهم بإظهارعقيدتهم على لسان النبي صلى اللّه عليه وسلم فضرب النار مثلاً ثم لم يقل أطفأ اللّه نارهم لكن عبر بإذهاب النور عنه لأن النار نور وحرارة فيذهب نورهم وتبقى الحرارة عليهم.

وقال مجاهد  إضاءة النار إقبالهم إلى المسلمين والهدى وذهاب نورهم إقبالهم إلى المشركين والضلالة وقال عطاء و محمد بن كعب  نزلت في اليهود. وانتظارهم خروج النبي صلى اللّه عليه وسلم واستفتاحهم به على مشركي العرب فلما خرج كفروا به ثم وصفهم اللّه فقال

١٨

 { صم } أي هم صم عن الحق لا يقبلونه وإذا لم يقبلوا فكأنهم لم يسمعوا { بكم } خرس عن الحق لا يقولونه أو أنهم لما أبطنوا خلاف ما أظهروا فكأنهم لم ينطقوا بالحق { عمي } أي لا بصائر لهم ومن لا بصيرة له كمن لا بصر له { فهم لا يرجعون } عن الضلالة إلى الحق.

١٩

 { أو كصيب } أي كأصحاب صيب وهذا مثل آخر ضربه اللّه تعالى للمنافقين بمعنىآخر إن شئت مثلهم بالمستوقد وإن شئت بأهل الصيب

وقيل أو بمعنى الواو يريد وكصيب كقوله تعالى { أو يزيدون } بمعنى ويزيدون والصيب المطر وكل ما نزل من الأعلى إلى الأسفل فهو صيب فيعل من صاب يصوب أي نزل من السماء أي من السحاب قيل هي السماء بعينها والسماء كل ما علاك فأظلك وهي من أسماء الأجناس يكون واحداً وجمعاً { فيه } أي في الصيب

وقيل في السماء أي من السحاب ولذلك ذكره

وقيل السماء يذكر ويؤنث قال اللّه تعالى { السماء منفطر به } (١٨-المزمل) وقال { إذا السماء انفطرت } (١-الانفطار) { ظلمات } جمع ظلمة { ورعد } هو الصوت الذي يسمع من السحاب { وبرق } وهو النار التي تخرج منه.

قال علي وابن عباس وأكثر المفسرين رضي اللّه عنهم الرعد اسم ملك يسوق السحاب والبرق لمعان سوط من نور يزجر به الملك السحاب.

وقيل الصوت زجر السحاب

وقيل تسبيح الملك.

وقيل الرعد نطق الملك والبرق ضحكه. وقال مجاهد الرعد اسم الملك ويقال لصوته أيضاً رعد والبرق مصع ملك يسوق السحاب وقال شهر بن حوشب  الرعد ملك يزجي السحاب فإذا تبددت ضمها فإذا اشتد غضبه طارت من فيه النار فهي الصواعق،

وقيل الرعد صوت انحراف الريح بين السحاب والأول أصح. { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق } جمع صاعقة وهي الصيحة التي يموت من يسمعها أو يغشى عليه. ويقال لكل عذاب مهلك صاعقة،

وقيل الصاعقة قطعة عذاب ينزلها اللّه تعالى على من يشاء. روي عن سالم بن عبد اللّه بن عمر عن أبيه رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال { اللّهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك }.

قوله { حذر الموت } أي مخافة الهلاك { واللّه محيط بالكافرين } أي عالم بهم

وقيل جامعهم.

وقال مجاهد  يجمعهم فيعذبهم.

وقيل مهلكهم، دليله

قوله تعالى { إلا أن يحاط بكم } (٦٦-يوسف) أي تهلكوا جميعاً. ويميل أبو عمرو و الكسائي الكافرين في محل النصب والخفض ولا يميلان { أول كافر به } (٤١-البقرة).

٢٠

{ يكاد البرق } أي يقرب، يقال كاد يفعل إذا قرب ولم يفعل { يخطف أبصارهم } يختلسها والخطف استلاب بسرعة { كلما } كل حرف جملة ضم إلى ما الجزاء فصار أداة للتكرار ومعناهما متى ما { أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } أي وقفوا متحيرين، فاللّه تعالى شبههم في كفرهم ونفاقهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة أصابهم مطر فيه ظلمات من صفتها أن الساري (لا يمكنه) المشي فيها، ورعد من صفته أن يضم السامعون أصابعهم إلى آذانهم من هوله، وبرق من صفته أن يقرب من أن يخطف أبصارهم ويعميها من شدة توقده، فهذا مثل ضربه اللّه للقرآن وصنيع الكافرين والمنافقين معه، فالمطر القرآن لأنه حياة الجنان كما أن المطر حياة الأبدان، والظلمات ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك، والرعد ما خوفوا به من الوعيد، وذكر النار والبرق ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة. والكافرون يسدون آذانهم عند قراءة القرآن مخافة ميل القلب إليه لأن الإيمان عندهم كفر والكفر موت { يكاد البرق يخطف أبصارهم } أي القرآن يبهر قلوبهم.

وقيل هذا مثل ضربه اللّه للإسلام فالمطر الإسلام والظلمات ما فيه من البلاء والمحن، والرعد ما فيه من الوعيد والمخاوف في الآخرة، والبرق ما فيه من الوعد والوعيد { يجعلون أصابعهم في آذانهم } يعني أن المنافقين إذا رأوا في الإسلام بلاء وشدة هربوا حذراً من الهلاك{ واللّه محيط بالكافرين } جامعهم يعني لا ينفعهم هربهم لأن اللّه تعالى من ورائهم يجمعهم فيعذبهم. يكاد البرق يعنى دلائل الإسلام تزعجهم إلى النظر لولا ما سبق لهم من الشقاوة.

{ كلما أضاء لهم مشوا فيه } يعني أن المنافقين إذا أظهروا كلمة الإيمان آمنوا فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة.

وقيل معناه كلما نالواغنيمة وراحة في الإسلام ثبتوا وقالوا إنا معكم { وإذا أظلم عليهم قاموا } يعني رأوا شدة وبلاء تأخروا وقاموا أي وقفوا كما قال تعالى { ومن الناس من يعبد اللّه على حرف } (١١-الحج) { ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم } أي بأسماعهم { وأبصارهم } الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة،

وقيل لذهب بما استفادوا من العز والأمان الذي لهم بمنزلة السمع والبصر. { إن اللّه على كل شيء قدير } قادر. قرأ عامر وحمزة شاء وجاء حيث كان بالإمالة.

٢١

قوله تعالى { يا أيها الناس } قال ابن عباس رضي اللّه عنهما ياأيها الناس خطاب أهل مكة، ويا أيها الذين آمنوا خطاب أهل المدينة وهو هاهنا عام إلا من حيث أنه لا يدخله الصغار والمجانين. { اعبدوا } وحدوا. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما كل ما ورد في القرآن من العبادة فمعناها التوحيد { ربكم الذي خلقكم } الخلق اختراع الشيء على غير مثال سبق { والذين من قبلكم } أي وخلق الذين من قبلكم { لعلكم تتقون } لكي تنجوا من العذاب

وقيل معناه كونوا على رجاء التقوى بأن تصيروا في ستر ووقاية من عذاب اللّه، وحكم اللّه من ورائكم يفعل ما يشاء كما قال { فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى } (٤٤-طه) أي ادعواه إلى الحق وكونا على رجاء التذكر، وحكم اللّه من ورائه يفعل ما يشاء، قال سيبويه  لعل وعسى حرفا ترج وهما من اللّه واجب.

٢٢

{ الذي جعل لكم الأرض فراشاً } أي بساطاً

وقيل مناماً

وقيل وطاء أي ذللّها ولم يجعلها حزنة لايمكن القرار عليها قال البخاري  حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال (سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أي ذنب أعظم عند اللّه؟ قال أن تجعل للّه نداً وهوخلقك قلت إن ذلك عظيم. ثم أي؟ قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك . قلت ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك) والجعل هاهنا بمعنى الخلق { والسماء بناء } وسقفاً مرفوعاً. { وأنزل من السماء } أي من السحاب { ماء } وهو المطر { فأخرج به من الثمرات } من ألوان الثمرات وأنواع النبات { رزقاً لكم } طعاماً لكم وعلفاً لدوابكم { فلا تجعلوا للّه أنداداً } أي أمثالاً تعبدونهم كعبادة اللّه. قال أبو عبيدة الند الضد وهو من الأضداد واللّه تعالى بريء من المثل والضد. { وأنتم تعلمون } أنه واحد خالق هذه الأشياء.

٢٣

{ وإن كنتم في ريب } أي (وإن) كنتم في شك، لأن اللّه تعالى علم أنهم شاكون { مما نزلنا } يعني القرآن { على عبدنا } محمد { فأتوا } أمر تعجيز { بسورة } والسورة قطعة من القرآن معلومة الأول والآخر من أسأرت أي أفضلت، حذفت الهمزة،

وقيل السورة اسم للمنزلة الرفيعة ومنه سور البناءلارتفاعه سميت سورة لأن القارئ ينال بقراءتها منزلة رفيعة حتى يستكمل المنازل باستكماله سور القرآن { من مثله } أي مثل القرآن (( ومن )) صلة، كقوله تعالى { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } (٣٠-النور)

وقيل الهاء في مثله راجعة لمحمد صلى اللّه عليه وسلم يعني من مثل محمد صلى اللّه عليه وسلم أمي لا يحسن الخط والكتابة [ قال محمود هاهنا من مثله دون سائر السور، لأن من للتبعيض وهذه السورة أول القرآن بعد الفاتحة فأدخل من ليعلم أن التحدي واقع على جميع سور القرآن، ولو أدخل من في سائر السور كان التحدي واقعاً على جميع سور القرآن، ولو أدخل خفي سائر السور كان التحدي واقعاً على بعض السور ]. { وادعوا شهداءكم } أي واستعينوا بآلهتكم التي تعبدونها { من دون اللّه }

وقال مجاهد  ناساً يشهدون لكم { إن كنتم صادقين } أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم يقوله من تلقاء نفسه فلما تحداهم عجزوا فقال

٢٤

{ فإن لم تفعلوا } فيما مضى { ولن تفعلوا } أبداً فيما بقي. وإنما قال ذلك لبيان الإعجاز وأن القرآن كان معجزة للنبي صلى اللّه عليه وسلم حيث عجزوا عن الإتيان بمثله. { فاتقوا النار } أي فآمنوا واتقوا بالإيمان النار. { التي وقودها الناس والحجارة } قال ابن عباس وأكثر المفسرين يعني حجارة الكبريت لأنها أكثر التهاباً،

وقيل جميع الحجارة وهودليل على عظمة تلك النار

وقيل أراد بها الأصنام لأن أكثر أصنامهم كانت منحوتة من الحجارة كما قال { إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم } (٩٨-الأنبياء) { أعدت } هيئت { للكافرين }.

٢٥

{ وبشر الذين آمنوا } أي أخبر والبشارة كل خبر صدق تتغير به بشرة الوجه، ويستعمل في الخير والشر، وفي الخير أغلب { وعملوا الصالحات } أي الفعلات الصالحات يعني المؤمنين الذين من أهل الطاعات قال عثمان بن عفان رضي اللّه عنه { وعملوا الصالحات } أي أخلصوا الأعمال كما قال { فليعمل عملاً صالحاً } (١١٠-الكهف) أي خالياً عن الرياء. قال معاذ العمل الصالح الذي فيه أربعة أشياء العلم، والنية، والصبر، والاخلاص. { أن لهم جنات } جمع الجنة، والجنة البستان الذي فيه أشجار مثمرة، سميت بها لاجتنابها وتسترها بالأشجار. وقال الفراء  الجنة ما فيه النخيل، والفردوس ما فيه الكرم. { تجري من تحتها } أي من تحت أشجارها ومساكنها { الأنهار } أي المياه في الأنهار لأن النهر لا يجري

وقيل (من تحتها) أي بأمرهم لقوله تعالى حكاية عن فرعون { وهذه الأنهار تجري من تحتي } (٥١-الزخرف) أي بأمري والأنهار جمع نهر سمي به لسعته وضيائه. ومنه النهار. وفي الحديث (( أنهار الجنة في غير أخدود )) { كلما } متى ما { رزقوا } أطعموا { منها } أي من الجنة من ثمرة أي ثمرة و { من } صلة { رزقاً } طعاماً { قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } وقبل رفع على الغاية. قال اللّه تعالى { للّه الأمر من قبل ومن بعد } (٤-الروم) قيل من قبل في الدنيا

وقيل الثمار في الجنة متشابهة في اللون، مختلفة في الطعم، فإذا رزقوا ثمرة بعد أخرى ظنوا أنها الأولى { وأتوا به } بالرزق { متشابهاً } قال ابن عباس و مجاهد و الربيع  متشابهاً في الأوان، مختلفاً في الطعوم. وقال الحسن و قتادة  متشابهاً. أي يشبه بعضها بعضاً في الجودة، أي كلها خيار لا رذالة فيها.

وقال محمد بن كعب  يشبه ثمر الدنيا غير أنها أطيب.

وقيل متشابهاً في الاسم مختلفاً في الطعم. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي. أنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنا أبو عبد اللّه محمد ابن عبد اللّه الصفار أنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي أنا محمد بن كثير أنا سفيان الثوري عن الأعمش عن ابي سفيان عن جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبزقون، يلهمون الحمد والتسبيح، كما تلهمون النفس، طعامهم الجشاء، ورشحهم المسك).

قوله تعالى { ولهم فيها } في الجنان { أزواج } نساء وجواري يعني من الحور العين { مطهرة } من الغائط، والبول، والحيض، والنفاس، والبصاق، والمخاط والمني، والولد، وكل قذر. قال إبراهيم النخعي  في الجنة جماع ما شئت ولا ولد. وقال الحسن هن عجائزكم الغمص العمش طهرن من قذرات الدنيا.

وقيل مطهرة عن مساوئ الأخلاق { وهم فيها خالدون } دائمون لا يموتون فيها ولا يخرجون منها. أنا أبو عمرو عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو حامد أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف الفربري ، أنا محمد بن إسماعيل البخاري أنا قتيبة بن سعيد ، أنا جرير عن عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء ).

أنا عبد الواحد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا فضيل هو ابن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (أول زمرة تدخل الجنة يوم القيامة صورة وجوههم مثل صورة القمر ليلة البدر، والزمرة الثانية على لون أحسن الكواكب في السماء لكل رجل منهم زوجتان، على كل زوجة سبعون حلة، يرى مخ سوقهن دون لحومها ودمائها وحللّها). أنا أبو عبد اللّه محمد بن الفضل الخرقي المروزي أنا أبو الحسن علي بن عبد اللّه الطيسفوني ، أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا عبد اللّه بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا اسماعيل بن جعفر بن أبي كثير المدني عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال قال رسول صلى اللّه عليه وسلم { لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على الأرض لأضاءت ما بينهما ولملئت ما بينهما ريحاً، ولتاجها على رأسها خير من الدنيا وما فيها }.

أنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني أنا أبو محمد محمد بن شريك الشافعي أنا عبد اللّه بن محمد بن مسلم أنا أبو بكر الجوربذي أنا أحمد بن الفرج الحمصي أنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار أنا محمد بن المهاجر عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى حدثني كريب أنه سمع أسامة بن زيد يقول قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (ألا هل من مشمر للجنة، وإن الجنة لا خطر لها وهي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز، وقصر مشيد ونهر مطرد، وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة ومقام أبد في دار سليمة وفاكهة خضرة، وحبرة، ونعمة في محلة عالية بهية قالوا نعم يا رسول اللّه نحن المشمرون لها فقال قولوا إن شاء اللّه قال القوم إن شاء اللّه.)

وروي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم). أنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي أنا الحاكم أبو الفضل الحدادي أنا أبو يزيد محمد بن يحيى ابن خالد أنا إسحاق الحنظلي أنا أبو معاوية أنا عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعيد عن علي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( إن في الجنة لسوقاً ليس فيه بيع ولا شراء إلا الصور من الرجال والنساء، فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها، إن فيها لمجتمع الحور العين ينادين، بصوت لم يسمع الخلائق مثله نحن الخالدات فلا نبيد أبداً، ونحن الناعمات فلا نبأس أبداً، ونحن الراضيات فلا نسخط أبداً، فطوبى لمن كان لنا وكنا له ونحن له) ورواه أبو عيسى عن هناد و أحمد بن منيع عن أبي نعاوية مرفوعاً وقال هذا حديث غريب. أنا أسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا أبو عثمان سعيد بن عبد الجبارالبصري أنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ( إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً فيقول لهم أهلهم واللّه لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً فيقولون وأنتم واللّه لقد زدتم بعدنا حسناً وجمالاً ).

٢٦

قوله تعالى { إن اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها } سبب نزول هذه الآية أن اللّه تعالى لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت فقال { إن الذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } (٧٣-الحج) وقال { مثل الذين اتخذوا من دون اللّه أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } (٤١-العنكبوت) قالت اليهود ما أراد اللّه بذكر هذه الأشياء الخسيسة؟

وقيل قال المشركون إنا لا نعبد إلهاً يذكر مثل هذه الأشياء

فأنزل اللّه تعالى { إن اللّه لا يستحيي } أي لا يترك ولا يمنعه الحياء { أن يضرب مثلاً } يذكر شبهاً، { ما بعوضة } ما صلة، أي مثلاً بالبعوضة، وبعوضة نصب بدل عن المثل. والبعوض صغار البق سميت بعوضة كأنها بعض البق { فما فوقها } يعنى الذباب والعنكبوت وقال أبو عبيدة أي فما دونها كما يقال وفوق ذلك أي وأجهل { فأما الذين آمنوا } بمحمد والقرآن { فيعلمون أنه } يعني المثل هو { الحق } الصدق { من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد اللّه بهذا مثلاً }؟ أي بهذا المثل فلما حذف الألف واللام نصبه على الحال والقطع ثم أجابهم فقال { يضل به } أي بهذا المثل { كثيراً } من الكفار وذلك أنهم يكذبونه فيزدادون ضلالاً { ويهدي به } أي بهذا المثل { كثيراً } من المؤمنين فيصدقونه، والإضلال هو الصرف عن الحق إلى الباطل.

وقيل هو الهلاك يقال ضل الماء في اللبن إذا هلك { وما يضل به إلا الفاسقين } الكافرين وأصل الفسق الخروج يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها قال اللّه تعالى { ففسق عن أمر ربه } (٥٠-الكهف) أي خرج ثم وصفهم فقال

٢٧

{ الذين ينقضون } يخالفون ويتركون وأصل النقض الكسر { عهد اللّه } أمر اللّه الذي عهد إليهم يوم الميثاق بقوله { ألست بربكم؟ قالوا بلى } ( ١٧٣-الأعراف)

وقيل أراد به العهد الذي أخذه على النبيين وسائر الأمم أن يؤمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم في قوله { وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين } (٨١-آل عمران) الآية

وقيل أراد به العهد الذي عهد إليهم في التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ويبينوا نعته { من بعد ميثاقه } توكيده. والميثاق العهد المؤكد { ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل } يعنى الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبجميع الرسل عليهم السلام لأنهم قالوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض وقال المؤمنون { لا نفرق بين أحد من رسله } (٢٨٥-البقرة)

وقيل أراد به الأرحام { ويفسدون في الأرض } بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبالقرآن { أولئك هم الخاسرون } المغبونون، ثم قال لمشركي العرب على وجه التعجب

٢٨

{ كيف تكفرون باللّه } بعد نصب الدلائل ووضوح البراهين ثم ذكر الدلائل فقال { وكنتم أمواتاً } نطفاً في أصلاب آبائكم { فأحياكم } في الأرحام والدنيا { ثم يميتكم } عند انقضاء آجالكم { ثم يحييكم } للبعث { ثم إليه ترجعون } أي تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم. قرأ يعقوب (( ترجعون )) في كل القرآن بفتح الياء والتاء على تسمية الفاعل.

٢٩

قوله تعالى { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } لكي تعتبروا وتستدلوا

وقيل لكي تنتفعوا { ثم استوى إلى السماء } قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف أي ارتفع إلى السماء. وقال ابن كيسان و الفراء وجماعة من النحويين أي أقبل على خلق السماء.

وقيل قصد لأنه خلق الأرض أولاً ثم عمد إلى خلق السماء { فسواهن سبع سماوات } خلقهن مستويات لا فطور فيها ولا صدع { وهو بكل شيء عليم } قرأ أبو جعفر و أبو عمرو و الكسائي و قالون وهو وهي بسكون الهاء إذا كان قبل الهاء واو أو فاء أو لام، زاد الكسائي و قالون  ثم هو و قالون { أن يمل هو } (٢٨٢-البقرة).

٣٠

قوله تعالى { وإذ قال ربك } أي وقال ربك وإذ زائدة

وقيل معناه واذكر إذ قال ربك وكذلك كل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله وإذ وإذا حرفا توقيت إلا أن إذ للماضي وإذا للمستقبل وقد يوضع أحدهما موضع الآخر قال المبرد  إذا جاء (إذ) مع المستقبل كان معناه ماضياً كقوله تعالى { وإذ يمكر بك الذين } (٣٠-الأنفال) يريد وإذ مكروا وإذا جاء (إذا ) مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله { فإذا جاءت الطامة } (٣٤-النازعات) { إذا جاء نصر اللّه } (١-النصر) أي يجيء { للملائكة } جمع ملك وأصله مألك من المألكة والألوكة والوك، وهي الرسالة فقلبت فقيل ملأك ثم حذفت الهمزة طلباً للخفة لكثرة استعماله ونقلت حركتها إلى اللام فقيل ملك. وأراد بهم الملائكة الذين كانوا في الأرض وذلك أن اللّه تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجن الأرض فغبروا فعبدوا دهراً طويلاً في الأرض، ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا وقتلوا فبعث اللّه إليهم جنداً من الملائكة يقال لهم الجن، وهم خزان الجنان اشتق لهم من الجنة رأسهم إبليس وكان رئيسهم ومرشدهم وأكثرهم علماً فهبطوا إلى الأرض فطردوا الجن إلى شعوب الجبال (وبكون الأودية) وجزائر البحور وسكنوا الأرض وخفف اللّه عنهم العبادة فأعطى اللّه إبليس ملك الأرض، وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان يعبد اللّه تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب فقال في نفسه ما أعطاني اللّه هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال اللّه تعالى له ولجنده

{ إني جاعل } خالق. { في الأرض خليفة } أي بدلاً منكم ورافعكم إلي، فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة. والمراد بالخليفة هاهنا آدم سماه لأنه خلف الجن أي جاء بعدهم

وقيل لأنه يخلفه غيره والصحيح أنه خليفة اللّه في أرضه لإقامة أحكامه وتنفيذ وصاياه { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } بالمعاصي. { ويسفك الدماء } بغير حق أي كما فعل بنو الجان فقاسوا الشاهد على الغائب وإلا فهم ما كانوا يعلمون الغيب { ونحن نسبح بحمدك } قال الحسن نقول سبحان اللّه وبحمده وهو صلاة الخلق (وصلاة البهائم وغيرهما) سوى الآدميين، وعليها يرزقون.

أخبرنا اسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد أنا محمد بن عيسى أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا زهير بن حرب أنا حبان بن هلال أنا وهيب أنا سعيد الجريري عن أبي عبد اللّه الجسري عن عبادة بن الصامت عن أبي ذر أن رسول صلى اللّه عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل قال { ما اصطفى اللّه لملائكته أو لعباده سبحان اللّه وبحمده }

وقيل ونحن نصلي بأمرك، قال ابن عباس كل ما في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة { ونقدس لك } أي نثني عليك بالقدس والطهارة

وقيل ونطهر أنفسنا لطاعتك

وقيل وننزهك. واللام صلة

وقيل لم يكن هذا في الملائكة على طريق الاعتراض والعجب بالعمل بل على سبيل التعجب وطلب وجه الحكمة فيه { قال } اللّه { إني أعلم ما لا تعلمون } من المصلحة فيه،

وقيل إني أعلم أن في ذريته من يطيعني ويعبدني من الأنبياء والأولياء والعلماء

وقيل إني أعلم أن فيكم من يعصيني، وهو إبليس،

وقيل إني أعلم أنهم يذنبون وأنا أغفر لهم. قرأ أهل الحجاز والبصرة إني أعلم بفتح الياء وكذلك كل ياء إضافة استقبلها ألف مفتوحة إلا في مواضع معدودة ويفتحون في بعض المواضع عند الألف المضمومة والمكسورة (وعند غير الألف) وبين القراء في تفصيله اختلاف.

٣١

قوله { وعلم آدم الأسماء كلها } سمي آدم لأنه خلق أديم الأرض،

وقيل لأنه كان آدم اللون وكنيته أبو محمد وأبو البشر فلما خلقه اللّه تعالى علمه أسماء الأشياء وذلك أن الملائكة قالوا لما قال اللّه تعالى (( إني جاعل في الأرض خليفة )) ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقاً أكرم عليه منا وإن كان فنحن أعلم منه لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره. فأظهر اللّه تعالى فضله عليهم بالعلم وفيه دليل على أن الأنبياء أفضل من الملائكة وإن كانوا رسلاً كما ذهب إليه أهل السنة والجماعة قال ابن عباس و مجاهد و قتادة  علمه اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة

وقيل اسم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة. وقال الربيع بن أنس أسماء الملائكة

وقيل أسماء ذريته،

وقيل صنعة كل شيء قال أهل التأويل إن اللّه عز وجل علم آدم جميع اللغات ثم تكلم كل واحد من أولاده بلغة فتفرقوا في البلاد واختص كل فرقة منهم بلغة. { ثم عرضهم على الملائكة } إنما قال عرضهم ولم يقل عرضها لأن المسميات إذا جمعت من يعقل ومالا يعقل يكنى عنها بلفظ من يعقل كما يكنى عن الذكور والإناث بلفظ الذكور وقال مقاتل خلق اللّه كل شيء الحيوان والجماد ثم عرض تلك الشخوص على الملائكة فالكناية راجعة إلى الشخوص فلذلك قال عرضهم { فقال أنبئوني } أخبروني { بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } في أني لا أخلق خلقاً إلا وكنتم أفضل وأعلم منه فقالت الملائكة إقراراً بالعجز

٣٢

{ قالوا سبحانك } تنزيهاً لك { لا علم لنا إلا ما علمتنا } معناه فإنك أجل من أن نحيط بشئ من علمك إلا ما علمتنا { إنك أنت العليم} بخلقك { الحكيم } في أمرك والحكيم له ومعنيان أحدهما الحاكم وهو القاضي العدل والثاني المحكم للأمر كي لا لا يتطرق إليه الفساد وأصل الحكمة في اللغة المنع فهي تمنع صاحبها من الباطل ومنه حكمة الدابة لأنها تمنعها من الاعوجاج فلما ظهر عجزهم.

٣٣

{ قال } اللّه تعالى { يا آدم أنبئهم بأسمائهم} أخبرهم بأسمائهم فسمى آدم كل شئ باسمه وذكر الحكمة التي لأجلها خلق { فلما أنبأهم بأسمائهم قال } اللّه تعالى { ألم أقل لكم } يا ملائكتي { إني أعلم غيب السماوات والأرض } ما كان منهما وما يكون لأنه قد قال لهم { إني أعلم ما لا تعلمون } (٣٠ - البقرة ) { وأعلم ما تبدون } قال الحسن وقتادة يعني قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها {وما كنتم تكتمون} قولكم لن يخلق اللّه خلقاً أكرم عليه منا، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما هو أن إبليس مر على جسد آدم وهو ملقى بين مكة والطائف لا روح فيها فقال لأمر ما خلق هذا ثم دخل في فيه وخرج من دبره وقال إنه خلق لا يتماسك لأنه أجوف ثم قال للاملائكة الذين معه أرايتم إن فضل هذا عليكم وأمرتم بطاعته ماذا تصنعون ؟ قالوا نطيع أمر ربنا، فقال إبليس في نفسه واللّه لئن سلطت عليه لأهلكنه ولئن سلط علي لأعصينه فقال اللّه تعالى { وأعلم ما تبدون} يعني ما تبديه الملائكة من الطاعة { وما كنتم تكتمون } يعني إبليس من المعصية.

٣٤

وقوله تعالى { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } قرأ أبو جعفر (( للملائكة اسجدوا )) بضم التاء على جوار ألف اسجدوا وكذلك قرأ { قال رب احكم بالحق } (١١٢-الأنبياء) بضم الباء وضعفه النحاة جداً ونسبوه إلى الغلط فيه

واختلفوا في أن هذا الخطاب مع أي الملائكة فقال بعضهم مع الذين كانوا سكان الأرض. والأصح أنه مع جميع الملائكة ل

قوله تعالى { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } (٣٠-الحجر)

وقوله (اسجدوا) فيه قولان الأصح أن السجود كان لآدم على الحقيقة، وتضمن معنى الطاعة للّه عز وجل بامتثال أمره، وكان ذلك سجود تعظيم وتحية لا سجود عبادة، كسجود إخوة يوسف له في قوله عز وجل { وخروا له سجداً } (١٠٠-يوسف) ولم يكن فيه وضع الوجه على الأرض، إنما كان الانحناء، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام.

وقيل معنى قوله { اسجدوا لآدم } أي إلى آدم قبلة، والسجود للّه تعالى، كما جعلت الكعبة قبلةً للصلاة والصلاة للّه عز وجل. { فسجدوا } يعني الملائكة { إلا إبليس } وكان اسمه عزازيل بالسريانية، وبالعربية الحارث، فلما عصى غير اسمه وصورته فقيل إبليس، لأنه أبلس من رحمة اللّه تعالى أي يئس.

واختلفوا فيه فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما وأكثر المفسرين كان إبليس من الملائكة،

وقال الحسن  كان من الجن ولم يكن من الملائكة ل

قوله تعالى { إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه } (٥٠-الكهف) فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس، ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة، والأول أصح لأن خطاب السجود كان مع الملائكة، وقوله { كان من الجن } أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة. وقال سعيد بن جبير من الذين يعملون في الجنة، وقال قوم من الملائكة الذين يصوغون حلي أهل الجنة،

وقيل إن فرقة من الملائكة خلقوا من النار سموا جناً لاستتارهم عن الأعين، وإبليس كان منهم. والدليل عليه

قوله تعالى { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } (١٥٨-الاصافات) وهو قولهم الملائكة بنات اللّه، ولما أخرجه اللّه من الملائكة جعل له ذرية. قوله { أبى } أي امتنع فلم يسجد { واستكبر } أي تكبر عن السجود (لآدم) { وكان } أي صار { من الكافرين } وقال أكثر المفسرين وكان في سابق علم اللّه من الكافرين الذين وجبت لهم الشقاوة. أنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي أنا ابن الحاكم أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي أنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد أنا اسحاق بن ابراهيم الحنظلي أنا جرير ووكيع وأبومعاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار }.

٣٥

قوله تعالى { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } وذلك أن آدم لم يكن له في الجنة من يجانسه فنام نومة فخلق اللّه زوجته حواء من قصيراء من شقه الأيسر، وسميت حواء لأنها خلقت من حي، خلقها اللّه عز وجل من غير أن أحس به آدم ولا وجد له ألماً، ولو وجد ألماً لما عطف رجل على امرأة قط فلما هب من نهومه رآها جالسة عند رأسه (كأحسن ما في) خلق اللّه فقال لها من أنت؟ قالت زوجتك خلقني اللّه لك تسكن إلي وأسكن إليك { وكلا منها رغداً } واسعاً كثيراً { حيث شئتما } كيف شئتما ومتى شئتما وأين شئتما { ولا تقربا هذه الشجرة } يعني للأكل، وقال بعض لاعلماء وقع النهي على جنس من الشجر. وقالى آخرون على شجرة مخصوصة،

واختلفوا في تلك الشجرة، قال ابن عباس و محمد بن كعب و مقاتل  هي السنبلة وقال ابن مسعود هي شجرة العنب. وقال ابن جريج  شجرة التين، و

قال قتادة  شجرة العلم وفيها من كل شيء، وقال علي رضي اللّه عنه شجرة الكافور { فتكونا } فتصيرا { من الظالمين } أي الضارين بأنفسكما بالمعصية، وأصل الظلم، وضع الشيء في غير موضعه.

٣٦

{ فأزلهما } استزل { الشيطان } آدم وحواء أي دعاهما إلى الزلة وقرأ حمزة فأزالهما، أي نحاهما (( الشيطان )) فيعال من شطن، أي بعد، سمي به لبعده عن الخير وعن الرحمة، { عنها } عن الجنة { فأخرجهما مما كانا فيه } من النعيم، وذلك أن إبليس أراد أن يدخل ليوسوس ( إلى ) آدم وحواء فمنعته الخزنة فأتى الحية وكانت صديقةً لإبليس وكانت من أحسن الدواب، لها أربع قوائم كقوائم البعير، وكانت من خزان الجنة. فسألهما إبليس أن تدخله فمها فأدخلته ومرت به على الخزانة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنة،

وقال الحسن  إنما رآهما على باب الجنة لأنهما كانا يخرجان منها وقد كان آدم حين دخل الجنة ورأى ما فيها من النعيم قال لو أن خلداً، فاغتنم ذلك منه الشيطان فأتاه من قبل الخلد فلما دخل الجنة وقف بين يدي آدم وحواء وهما لا يعلمان أنه إبليس فبكى وناح نياحة أحزنتهما، وهو أول من ناح فقالا له ما يبكيك؟ قال أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة. فوقع ذلك في أنفسهما فاغتما ومضى إبليس ثم أتاهما بعد ذلك وقال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد؟ فأبى أن يقبل منه، وقاسمهما باللّه إنه لهما لمن الناصحين، فاغترا وما ظنا أن أحداً يحلف باللّه كاذباً، فبادرت حواء إلى أكل الشجرة ثم ناولت آدم حتى أكلها. وكان سعيد بن المسيب يحلف باللّه ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حواء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته فأكل. قال إبراهيم بن أدهم  أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلاً.

قال ابن عباس و قتادة  قال اللّه عز وجل لآدم ألم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة؟ قال بلى يا رب وعزتك، ولكن ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً، قال فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش إلا كداً فأهبطا من الجنة وكانا يأكلان فيها رغداً فعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث فحرث فيها وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصد ثم داسه ثم ذراه ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه ثم أكله فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء. قال سعيد بن جبير  عن ابن عباس إن آدم لما أكل من الشجرة التي نهي عنها قال اللّه عز وجل ما حملك على ما صنعت قال يا رب زينته لي حواء قال فإني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً ودميتها في الشهر مرتين، فرنت حواء عند ذلك فقيل عليك الرنة وعلى بناتك، فلما أكلا (تهافت) عنهما ثيابهما وبدت سوآتهما وأخرجا من الجنة، فذلك

قوله تعالى { وقلنا اهبطوا } أي انزلوه إلى الأرض يعني آدم وحواء وإبليس والحية، فهبط آدم بسرنديب من أرض الهند على جبل يقال له نود، وحواء بجدة وإبليس بالآيلة والحية بأصفهان { بعضكم لبعض عدو } أراد العداوة التي بين درية آدم والحية وبين المؤمنين من ذرية آدم وبين إبليس، قال اللّه تعالى { إن الشيطان لكما عدو مبين } (٢٢-الأعراف). أنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي أنا أبو الحسن بن بشران أنا إسماعيل بن محمد الصفار أنا أحمد محمد الصفار حدثنا منصور الرمادي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، قال عكرمة لا أعلمه إلا رفع الحديث، أنه كان يأمر بقتل الحيات وقال من تركهن خشية أو مخافة ثائر فليس منا وزاد موسى بن مسلم عن عكرمة في الحديث ما سالمناهن منذ حاربناهن [وروي أنه نهى عن ذوات البيوت، وروى أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم { إن بالمدينة جناً قد أسلموا فإن رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان }].

قوله تعالى { ولكم في الأرض مستقر } موضع قرار { ومتاع } بلغة ومستمتع { إلى حين } إلى انقضاء آجالكم.

٣٧

{ فتلقى } تلقى والتلقي هو قبول عن فطنة وفهم،

وقيل هو التعلم { آدم من ربه كلمات } قراءة العامة آدم برفع الميم وكلمات بخفض التاء. قرأ ابن كثير آدم بالنصب، كلمات برفع التاء يعني جاءت الكلمات آدم من ربه، وكانت سبب توبته.

واختلفوا في تلك الكلمات قال سعيد بن جبير و مجاهد و الحسن  هي قوله { ربنا ظلمنا أنفسنا } الآية. وقال مجاهد و محمد بن كعب القرظي  هي قوله لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت ( التواب الرحيم ). لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين وقال عبيد بن عمير  هي أن آدم قال يا رب أرأيت ما أتيت أشيء ابتدعته من تلقاء نفسي أم شيء قدرته علي قبل أن تخلقني؟ قال اللّه تعالى بل شيء قدرته عليك قبل أن أخلقك. قال يارب فكما قدرته قبل أن تخلقني فاغفر لي.

وقيل هي ثلاثة أشياء الحياء والدعاء والبكاء، قال ابن عباس بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة، ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوماً، ولم يقرب آدم حواء مائة سنة، وروى المسعودي عن يونس بن خباب وعلقمة بن مرثد قالوا لو أن دموع أهل الأرض جمعت (لكانت) دموع داود أكثر حيث أصاب الخطيئة ولو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حيث أخرجه اللّه من الجنة قال شهر بن حوشب  بلغني أن آدم لما (هبط) إلى الأرض مكث ثلثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من اللّه تعالى. قوله { فتاب عليه } فتجاوز عنه { إنه هو التواب } يقبل توبة عباده { الرحيم } بخلقه.

٣٨

وقوله تعالى { قلنا اهبطوا منها جميعاً } يعني هؤلاء الأربعة.

وقيل الهبوط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا والهبوط (الآخر) من السماء الدنيا إلى الأرض { فإما يأتينكم } أي فإن يأتكم ياذرية آدم { مني هدى } أي رشد وبيان شريعة،

وقيل كتاب ورسول { فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } قرأ يعقوب  فلا خوف بالفتح في كل القرآن والآخرون بالضم والتنوين فلا خوف عليهم فيما [يستقبلون هم] { ولا هم يحزنون } على ما خلفوا.

وقيل لا خوف عليهم في الدنيا ولا هم يحزنون في الآخرة.

٣٩

{ والذين كفروا } (يعني جحدوا) { وكذبوا بآياتنا } بالقرآن { أولئك أصحاب النار } يوم القيامة { هم فيها خالدون } لا يخرجون منها ولا يموتون فيها.

٤٠

قوله تعالى { يا بني إسرائيل } يا أولاد يعقوب. ومعنى اسرائيل عبد اللّه، ((وإيل)) هو اللّه تعالى،

وقيل صفوة اللّه، وقرأ أبو جعفر  إسرائيل بغير همز { اذكروا } احفظوا، والذكر يكون بالقلب ويكون باللسان

وقيل أراد به الشكر، وذكر بلفظ الذكر لأن في الشكر ذكراً وفي الكفران نسياناً، قال الحسن  ذكر النعمة شكرها { نعمتي } أي نعمي، لفظها واحد ومعناها جمع كقوله تعالى { وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها } (٣٤-ابراهيم) { التي أنعمت عليكم } أي على أجدادكم وأسلافكم.

قال قتادة  هي النعم التي خصت بها بنو اسرائيل من فلق البحر وإنجائهم من فرعون بإغراقه وتظليل الغمام عليهم في التيه، وإنزال المن والسلوى وإنزال التوراة، في نعم كثيرة لا تحصى، وقال غيره هي جميع النعم التي للّه عز وجل على عباده { وأوفوا بعهدي } أي بامتثال أمري { أوف بعهدكم } بالقبول والثواب. قال قتادة و مجاهد  أراد بهذا العهد ما ذكر في سورة المائدة { ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا }إلى أن قال -{ لأكفرن عنكم سيئاتكم } (١٢-المائدة) فهذا قوله { أوف بعهدكم }.

وقال الحسن هو قوله { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة } (٦٣-البقرة) فهو شريعة التوراة، وقال مقاتل هو قوله { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا اللّه } (٨٣-البقرة)

وقال الكلبي  عهد اللّه إلى بني اسرائيل على لسان موسى إني باعث من بني اسماعيل نبياً أمياً فمن اتبعه وصدق بالنور الذي يأتي به غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين وهو قوله { وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس } (١٨٧-آل عمران) يعني أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم. { وإياي فارهبون } فخافوني في نقض العهد. وأثبت يعقوب الياءات المحذوفة في الخط مثل فارهبوني، فاتقوني، واخشوني، والآخرون يحذفونها على الخط.

٤١

{ وآمنوا بما أنزلت } يعني القرآن { مصدقاً لما معكم } أي موافقاً لما معكم يعني التوراة، في التوحيد والنبوة والأخبار ونعت النبي صلى اللّه عليه وسلم، نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه من علماء اليهود ورؤسائهم { ولا تكونوا أول كافر به } أي بالقرآن يريد من أهل الكتاب، لأن قريشاً كفرت قبل اليهود بمكة، معناه ولا تكونوا أول من كفر بالقرآن فيتابعكم اليهود على ذلك فتبوؤا بآثامكم وآثامهم { ثمناً قليلاً } أي عرضاً يسيراً من الدنيا وذلك أن رؤساء اليهود وعلماءهم كانت لهم مآكل يصيبونها من سفلتهم وجهالهم يأخذون منهم كل عام شيئاً معلوماً من زروعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا إن هم بينوا صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وتابعوه أن تفوتهم تلك المآكل فغيروا نعته وكتموا اسمه فاختاروا الدنيا على الآخرة { وإياي فاتقون } فاخشوني.

٤٢

{ ولا تلبسوا الحق بالباطل } أي لا تخلطوا، يقال لبس الثوب يلبس لبساً، ولبس عليه الأمر يلبس لبساً أي خلط. يقول لا تخلطوا الحق الذي، أنزلت عليكم من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم بالباطل الذي تكتبونه بأيديكم من تغيير صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم. والأكثرون على أنه أراد لا تلبسوا الإسلام باليهودية والنصرابية. و

قال مقاتل  إن اليهود أقروا ببعض صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وكتموا بعضاً ليصدقوا في ذلك فقال ولا تلبسوا الحق الذي تقرون به بالباطل يعني بما تكتمونه، فالحق بيانهم، والباطل كتمانهم وتكتموا الحق أي لا تكتموه، يعني نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم. { وأنتم تعلمون } أنه نبي مرسل.

٤٣

{ وأقيموا الصلاة } يعني الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودها { وآتوا الزكاة } أدوا زكاة أموالكم المفروضة. والزكاة مأخزذة من زكا الزرع إذا نما وكثر.

وقيل من تزكى أي تطهر، وكلا المعنيين موجود في الزكاة، لأن فيها تطهيراً وتنمية للمال { واركعوا مع الراكعين } أي صلوا مع المصلين محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، وذكر بلفظ الركوع لأنه ركن من أركان الصلاة، ولأن صلاة اليهود لم يكن فيها ركوع، فكأنه قال صلوا صلاة ذات ركوع، قيل إعادته بعد قوله { وأقيموا الصلاة } لهذا، أي صلوا مع الذين في صلاتهم ركوع، فالأول مطلق في حق الكل، وهذا في حق أقوام مخصوصين.

وقيل هذا حث على إقامة الصلاة جماعة كأنه قال لهم صلوا مع المصلين الذين سبقوكم بالإيمان.

٤٤

{ أتأمرون الناس بالبر } أي بالطاعة، نزلت في علماء اليهود، وذلك أن الرجل منهم كان يقول لقريبه وحليفه من المسلمين إذا سأله عن أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم اثبت على دينه فإن أمره حق وقوله صدق.

وقيل هو خطاب لأحبارهم حيث أمروا أتباعهم بالتمسك بالتوراة، ثم خالفوا وغيروا نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم { وتنسون أنفسكم } أي تتركون أنفسكم فلا تتبعونه { وأنتم تتلون الكتاب } تقرؤون التوراة فيها نعته وصفته { أفلا تعقلون } أنه حق فتتبعونه؟. والعقل مأخوذ من عقال الدابة، وهو ما يشد به ركبة البعير فيمنعه من الشرود، فكذلك العقل يمنع صاحبه من الكفر والجحود.

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي أنا أبو عمرو بكر بن محمد المزني أنا أبو بكر محمد بن عبد اللّه حفيد العباس بن حمزة أنا الحسين بن الفضل البجلي أنا عفان أنا حماد بن سلمة أنا علي بن زيد عن أنس ابن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب }.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن اسماعيل أنا علي بن عبد اللّه أنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل قال قال أسامة رضي اللّه عنه سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول { يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه (أي تنقطع أمعاؤه) في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه } وقال شعبة عن الأعمش (( فيطحن فيها كما يطحن الحمار برحاه )).

٤٥

{ واستعينوا } على ما يستقبلكم من أنواع البلاء

وقيل على طلب الآخرة { بالصبر والصلاة } أراد حبس النفس عن المعاصي.

وقيل أراد الصبر على أداء الفرائض،

وقال مجاهد  الصبر الصوم، ومنه سمي شهر رمضان شهر الصبر، وذلك لأن الصوم يزهده في الدنيا، والصلاة ترغبه في الآخرة،

وقيل الواو بمعنى على، أي واستعينوا بالصبر على الصلاة، كما قال اللّه تعالى { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } (١٣٢-طه) { وإنها } ولم يقل وانهما رداً للكناية إلى كل واحد منهما أي وإن كل خصلة منها. كما قال { كلتا الجنتين آتت أكلها } (٣٣-الكهف) أي كل واحدة منهما.

وقيل معناه { واستعينوا بالصبر } وإنه لكبير وبالصلاة وإنها لكبيرة، فحذف أحدهما اختصاراً، وقال المؤرج  رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم كقوله تعالى { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها } (٣٤-التوبة) رد الكناية إلى الفضة لأنها أعم.

وقيل رد الكناية إلى الصلاة لأن الصبر داخل فيها. كما قال اللّه تعالى { واللّه ورسوله أحق أن يرضوه } (٦٢-التوبة) ولم يقل يرضوهما لأن رضا الرسول داخل في رضا اللّه تعالى. وقال الحسين بن الفضل  رد الكناية إلى الاستعانة { لكبيرة } أي لثقيلة { إلا على الخاشعين } يعني المؤمنين،

وقال الحسن  الخائفين

وقيل المطيعين وقال مقاتل بن حيان  المتواضعين، وأصل الخشوع السكون قال اللّه تعالى { وخشعت الأصوات للرحمن } (١٠٨-طه) فالخاشع ساكن إلى طاعة اللّه تعالى.

٤٦

{ الذين يظنون } يستيقنون [أنهم مبعوثون وأنهم محاسبون وأنهم راجعون إلى اللّه تعالى، أي يصدقون بالبعث، وجعل رجوعهم بعد الموت إلى المحشر رجوعاً إليه]. والظن من الأضداد يكون شكاً ويقيناً وأملاً، كالرجاء يكون خوفاً وأملاً وأمناً { أنهم ملاقوا } معاينو { ربهم } في الآخرة وهورؤية اللّه تعالى

وقيل المراد من اللقاء الصيرورة إليه { وأنهم إليه راجعون } فيجزيهم بأعمالهم.

٤٧

{ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين } أي عالمي زمانكم، وذلك التفضيل وإن كان في حق الآباء، لكن به الشرف للأبناء.

٤٨

{ واتقوا يوماً } واخشوا عقاب يوم { لا تجزي نفس } لا تقضي نفس { عن نفس شيئاً } أي حقاً لزمها

وقيل لا تغني،

وقيل لا تكفي شيئاً من الشدائد { ولا يقبل منها شفاعة } قرأ ابن كثير و يعقوب بالتاء لتأنيث الشفاعة، وقرأ الباقون بالياء لأن الشفع والشفاعة بمعنى واحد كالوعظ والموعظة، فالتذكير على المعنى، والتأنيث على اللفظ، ك

قوله تعالى { قد جاءتكم موعظة من ربكم } (٥٧-يونس) وقال في موضع آخر { فمن جاءه موعظة من ربه } (٢٧٥-البقرة) أي لا تقبل منها شفاعة إذا كانت كافرة { ولا يؤخذ منها عدل } أي فداء وسمي به لأنه مثل المفدي. والعدل المثل { ولا هم ينصرون } يمنعون من عذاب اللّه.

٤٩

{ وإذ نجيناكم } يعني أسلافكم وأجدادكم فاعتدها منةً عليهم لأنهم نجوا بنجاتهم { من آل فرعون } أتباعه وأهل دينه، وفرعون هو الوليد مصعب بن الريان وكان من القبط العماليق وعمر أكثر من أربعمائة سنة { يسومونكم } يكلفونكم ويذيقونكم، { سوء العذاب } أشد العذاب وأسوأه

وقيل يصرفونكم في العذاب مرة هكذا ومرة هكذا كالإبل السائمة في البرية، وذلك أن فرعون جعل بني إسرائيل خدماً وخولاً وصنفهم في الأعمال فصنف يبنون، وصنف يحرثون ويزرعون، وصنف يخدمونه، ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليه الجزية. وقال وهب كانوا أصنافاً في أعمال فرعون، فذوو القوة ينحتون السواري من الجبال حتى قرحت أعناقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها، وطائفة ينقلون الحجارة، وطائفة يبنون له القصور، وطائفة منهم يضربون اللبن ويطبخون الآجر، وطائفة نجارون وحدادون، والضعفة منهم يضرب عليهم الخراج ضريبة يؤدونها كل يوم، فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤدي ضريبته غلت يمينه إلى عنقه شهراً، والنساء يغزلن الكتان وينسجن،

وقيل تفسيره ذكر ما بعده { يذبحون أبناءكم } فهو مذكور على وجه البدل من قوله - يسومونكم سوء العذاب { ويستحيون نساءكم } يتركونهن أحياء، وذلك أن فرعون رأى في منامه كأن ناراً أقبلت من بيت المقدس وأحاطت بمصر وأحرقت كل قبطي بها ولم تتعرض لبني إسرائيل فهاله ذلك وسأل الكهنة عن رؤياه؟ فقالوا يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل وجمع القوابل فقال لهن لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتل ولاجارية إلا تركت، ووكل بالقوابل، فكن يفعلن ذلك حتى قيل إنه قتل في بني إسرائيل اثنى عشر ألف صبي في طلب موسى. وقال وهب بلغني أنه ذبح في طلب موسى عليه السلام تسعين ألف وليد. قالوا وأسرع الموت في مشيخه بني إسرائيل فدخل رؤوس القبط على فرعون وقالوا إن الموت قد وقع في بني إسرائيل أفتذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا؟ فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة، فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها، وموسى في السنة التي يذبحون فيها. { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } قيل البلاء المحنة، أي في سومهم إياكم سوء العذاب محنة عظيمة،

وقيل البلاء النعمة أي في إنجائي إياكم منهم نعمة عظيمة، فالبلاء يكون بمعنى النعمة وبمعنى الشدة، فاللّه تعالى قد يختبر على النعمة بالشكر، وعلى الشدة بالصبر وقال اللّه تعالى { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } (٣٥-الأنبياء).

٥٠

{ وإذ فرقنا بكم البحر } قيل معناه فرقنا لكم

وقيل فرقنا البحر بدخولكم إياه وسمي البحر بحراً لاتساعه، ومنه قيل للفرس بحر إذا اتسع في جريه، وذلك أنه لما دنا هلاك فرعون أمر اللّه تعالى موسى عليه السلام أن يسري ببني إسرائيل من مصر ليلاً فأمر موسى قومه أن يسرجوا في بيوتهم إلى الصبح،

وأخرج اللّه تعالى كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إليهم، وكل ولد زنا في بني إسرائيل من القبط إلى القبط حتى رجع كل إلى أبيه، وألقى اللّه الموت على القبط فمات كل بكر لهم واشتغلوا بدفنهم حتى أصبحوا وطلعت الشمس، وخرج موسى عليه السلام في ستمائة ألف وعشرين مقاتل، لا يعدون ابن العشرين لصغره، ولا ابن الستين لكبره، وكانوا يوم دخلوا مصر مع يعقوب اثنين وسبعين إنساناً ما بين رجل وامرأة.

وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال كان أصحاب موسى ستمائة ألف وسبعين ألفاً. وعن عمرو بن ميمون قال كانوا ستمائة ألف فلما أرادوا السير ضرب عليهم التيه فلم يدروا أين يذهبون فدعا موسى مشيخه بني إسرائيل وسألهم عن ذلك فقالوا إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ على إخوته عهداً أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه من مصر حتى يخرجوه معهم فلذلك انسد علينا الطريق، فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموا فقام موسى ينادي أنشد اللّه كل من يعلم أين موضع قبر يوسف عليه السلام إلا أخبرني به؟ ومن لم يعلم به فصمت أذناه عن قولي! وكان يمر بين الرجلين ينادي فلا يسمعان صوته حتى سمعته عجوز لهم فقالت أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كل ما سألتك؟ فأبى عليها وقال حتى أسأل ربي (فأمره) اللّه تعالى بإتيانها سؤلها فقالت إني عجوز كبيرة لا أستطيع المشي فاحملني وأخرجني من مصر، هذا في الدنيا وأما في الآخرة فأسألك أن لا تنزل غرفة من الجنة إلا نزلتها معك قال نعم قالت إنه في جوف الماء في النيل فادع اللّه حتى يحسر عنه الماء، فدعا اللّه تعالى فحسر عنه الماء، ودعا أن يؤخر طلوع الفجر إلى أن يفرغ من أمر يوسف عليه السلام، فحفر موسى عليه السلام ذلك الموضع واستخرجه في صندوق من مرمر، وحمله حتى دفنه بالشام، ففتح لهم الطريق فساروا وموسى عليه السلام على ساقتهم وهارون على مقدمتهم، ونذر بهم فرعون فجمع قومه وأمرهم أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل حتى يصيح الديك،فواللّه ما صاح ديك تلك الليلة، فخرج فرعون في طلب بني إسرائيل وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف، وكان فيهم شبعون ألفاً من دهم الخيل سوى سا ئرالشيات [وقال محمد بن كعب رضي اللّه عنه كان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشيات] وكان فرعون يكون في الدهم

وقيل كان فرعون في سبعة آلاف ألف، وكان بين يديه مائة ألف ناشب، ومائة ألف أصحاب حراب، ومائة ألف أصحاب الأعمدة، فسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا إلى البحر والماء في غاية الزيادة فنظروا فإذا هم بفرعون حين أشرقت الشمس فبقوا متحيرين فقالوا يا موسى كيف نصنع؟ وأين ما وعدتنا؟ هذا فرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا! والبحر أمامنا إن دخلناه غرقنا؟ قال اللّه تعالى { فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين } (٦١-٦٢الشعراء). فأوحى اللّه إليه أن أضرب بعصاك البحر فضربه فلم يطعه فأوحى اللّه إليه أن كنه فضربه وقال انفلق يا أبا خالد بإذن اللّه تعالى، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وظهر فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط طريق وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل وأرسل اللّه الريح والشمس على قعر البحر حتى صار يبساً فخاضت بنو إس رائيل البحر، كل سبط في طريق، وعن جانبيهم الماء كالجبل الضخم ولا يرى بعضهم بعضاً، فخافوا وقال كل سبط قد قتل إخواننا فأوحى اللّه تعالى إلى جبال الماء أن تشبكي، فصار الماء شبكات كالطبقات يرى بعضهم بعضاً ويسمع بعضهم كلام بعض حتى عبروا البحر سالمين فذلك قولم تعالى { وإذ فرقنا بكم البحر }. { فأنجيناكم } من آل فرعون والغرق { وأغرقنا آل فرعون } وذلك أن فرعون لما وصل إلى البحر فرآه منغلقاً قال لقومه انظروا إلى البحر انفلق من هيبتي حتى أدرك عبيدي الذين أبقوا ادخلوا البحر فهاب قومه أن يدخلوه

وقيل قالوا له إن كنت رباً فادخل البحر كما دخل موسى، وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى فجاء جبريل على فرس أنثى وديق فتقدمهم وخاض البحر فلما شم أدهم فرعون ريحها اقتحم البحر في أثرها وهم لا يرونه ولم يملك فرعون من أمره شيئاً وهو لايرى فرس جبريل واقتحمت الخيول جملة خلفه في البحر، وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يشحذهم ويسوقهم حتى لا يشذ رجل منهم ويقول لهم الحقوا بأصحابكم حتى خاضوا كلهم البحر، وخرج جبريل من البحر، وهم أولهم بالخروج فأمر اللّه تعالى البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم وغرقهم أجمعين، وكان بين طرفي البحر أربعة فراسخ وهو بحر قلزم، طرف من بحر فارس،

قال قتادة  بحر من وراء مصر يقال له إساف، وذلك بمرأى من بني إسرائيل فذلك

قوله تعالى { وأنتم تنظرون } إلى مصارعهم

وقيل إلى هلاكهم.

٥١

{ وإذ واعدنا } هو من المفاعلة التي تكون من الواحد كقولهم عافاك اللّه، وعاقبت اللص، وطارقت النعل. وقال الزجاج  كان من اللّه الأمر ومن موسى القبول، فلذلك ذكر بلفظ المواعدة، وقرأ أهل البصرة (وإذ وعدنا) من الوعد { موسى } اسم عربي عرب (( ومو )) بالعبرانية الماء (( وشى )) الشجرة، سمي به لأنه أخذ من بين الماء والشجر، ثم قلبت الشين المعجمة سيناً في العربية { أربعين ليلة } أي انقضاؤها ثلاثين من ذي القعدة وعشر من ذي الحجة، وقرن التاريخ بالليل دون النهار لأن شهور العرب وضعت على سير القمر، والهلال إنما يهل بالليل

وقيل لأن الظلمة أقدم من الضوء، وخلق الليل قبل النهار، قال اللّه تعالى { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } (٣٧-يس) وذلك أن بني إسرائيل لما أمنوا من عدوهم ودخلوا مصر لم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليهما، فوعد اللّه موسى أن ينزل عليه التوراة فقال موسى لقومه إني ذاهب لميقات ربكم آتيكم بكتاب فيه بيان ما تأتون وما تذرون، وواعدهم أربعين ليلة، ثلاثين من ذي القعدة وعشراً من من ذي الحجة، واستخلف عليهم أخاه هارون فلما أتى الوعد جاء جبريل على فرس يقال له فرس الحياة لا يصيب شيئاً إلا حيي ليذهب بموسى إلى ربه، فلما رآه السامري وكان رجلاً صائغاً من أهل باجرمى واسمه ميخا - وقال سعيد بن جبير  كان من أهل كرمان،

وقال ابن عباس اسمه موسى بن مظفر، و

قال قتادة  كان من بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة - وكان منافقاً أظهر الإسلام، وكان من قوم يعبدون البقر، فلما رأى جبرائيل على ذلك الفرس ورأى مواضع قدم الفرس تخضر في الحال قال إن لهذا شأناً فأخذ قبضة من تربة حافر فرس جبرائيل عليه السلام. قال عكرمة  ألقي في روعه أنه إذا ألقى في شيء غيره، وكانت بنو إسرائيل قد استعاروا حلياً كثيرة من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر بعلة عرس لهم، فأهلك اللّه فرعون وبقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل، فلما فصل موسى قال السامري لبني إسرائيل إن الحلي التي استعرتموها من قزم فرعون غنيمة لا تحل لكم، فاحفروا حفرة فادفنوها فيها حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه.

وقال السدي  إن هارون عليه السلام أمرهم أن يلقوها في حفيرة، حتى يرجع موسى ففعلوا، فلما اجتمعت الحلي صاغها السامري عجلاً في ثلاثة أيام ثم ألقى فيها القبضة التي أخذها من تراب فرس جبرائيل عليه السلام، فخرج عجلاً من ذهب مرصعاً بالجواهر كأحسن ما يكون، وخار خورة، و

قال السدي  كان يخور ويمشي فقال السامري { هذا إلهكم وإله موسى فنسي } (٨٨-طه) أي فتركه هاهنا وخرج يطلبه. وكانت بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد فعدوا اليوم مع الليلة يومين فلما مضت عشرون يوماً ولم يرجع موسى وقعوا في الفتنة.

وقيل كان موسى قد وعدهم ثلاثين ليلة ثم زيدت العشرة فكانت فتنتهم في تلك العشرة فلما مضت الثلاثون ولم يرجع موسى ظنوا أنه قد مات ورأوا العجل وسمعوا قول السامري عكف ثمانية آلاف رجل منهم على العجل يعبدونه

وقيل كلهم عبدوه إلا هارون وحده فذلك

قوله تعالى { ثم اتخذتم العجل } أي إلهاً { من بعده } أظهر ابن كثير و حفص الذال من أخذت واتخذت والآخرون يدغمونها { وأنتم ظالمون } ضارون لأنفسكم بالمعصية واضعون العبادة في غير موضعها.

٥٢

{ ثم عفونا عنكم } محونا ذنوبكم { من بعد ذلك } من بعد عبادتكم العجل { لعلكم تشكرون } لكي تشكروا عفوي عنكم وصنيعي إليكم، قيل الشكر هو الطاعة بجميع الجوارح في السر والعلانية قال الحسن  شكر النعمة ذكرها قال اللّه تعالى { وأما بنعمة ربك فحدث } (١١-الضحى) قال الفضيل  شكر كل نعمة أن لا يعصي اللّه بعد تلك النعمة.

وقيل حقيقة الشكر العجز عن الشكر. حكي أن موسى عليه السلام قال إلهي أنعمت علي النعم السوابغ، وأمرتني بالشكر وإنما شكري إياك نعمة منك، قال اللّه تعالى يا موسى تعلمت العلم الذي لا يفوقه شيء من علم، حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهو مني، وقال داود عليه السلام سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكراً، كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة.

٥٣

قوله تعالى { وإذ آتينا موسى الكتاب } يعني التوراة { والفرقان }

قال مجاهد  هو التوراة أيضاً ذكرها باسمين، وقال الكسائي  الفرقان نعت الكتاب والواو زائدة، يعني الكتاب المفرق بين الحلال والحرام، وقال يمان بن رباب أراد بالفرقان انفراق البحر كما قال { وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم } { لعلكم تهتدون } بالتوراة.

٥٤

{ وإذ قال موسى لقومه } الذين عبدوا العجل { يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم } ضررتم بأنفسكم { باتخاذكم العجل } إلهاً قالوا فأي شيء نصنع؟ قال { فتوبوا } فارجعوا { إلى بارئكم } خالقكم قالوا كيف نتوب؟ قال { فاقتلوا أنفسكم } يعني ليقتل البريء منكم المجرم { ذلكم } أي القتل { خير لكم عند بارئكم } فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا نصبر لأمر اللّه فجلسوا بالأفنية محتبين

وقيل لهم من مد حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون مردودة توبته، وأصلت القوم عليهم الخناجر، فكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه وصديقه وجاره فلم يمكنهم المضي لأمر اللّه تعالى، قالوا يا موسى كيف نفعل؟ فأرسل اللّه تعالى عليهم ضبابة وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضاً فكانوا يقتلونهم إلى المساء، فلما كثر القتل دعا موسى وهارون عليهما السلام وبكيا وتضرعا وقالا يارب هلكت بنو إسرائيل، البقية البقية، فكشف اللّه تعالى السحابة وأمرهم أن يكفوا عن القتل فتكشفت عن ألوف من القتلى. روي عن علي رضي اللّه عنه أنه قال كان عدد القتلى سبعين ألفاً فاشتد ذلك على موسى فأوحى اللّه تعالى إليه أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول في الجنة، فكان من قتل شهيداً، ومن بقي مكفراً عنه ذنوبه، فذلك

قوله تعالى { فتاب عليكم } أي ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم فتجاوز عنكم { إنه هو التواب } القابل التوبة { الرحيم } بخلقه.

٥٥

قوله تعالى { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة } وذلك أن اللّه تعالى أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل من عبادة العجل، فاختار موسى سبعين رجلاً من قومه من خيارهم، فقال لهم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، ففعلوا، فخرج بهم موسى إلى طور سيناء لميقات ربه، فقالوا لموسى اطلب لنا نسمع كلام ربنا، فقال لهم أفعل، فلما دنا موسى إلى طور سيناء من الجبل وقع عليه عمود الغمام وتغشى الجبل كله،فدخل في الغمام وقال للقوم ادنوا فدنوا حتى دخلوا في الغمام وخروا سجداً، وكان موسى إذا كلمه ربه وقع علىوجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونهم الحجاب وسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه وأسمعهم اللّه أني أنا اللّه لا إله إلا أنا ذو بكة أخرجتكم من أرض مصر بيد شديدة فاعبدوني ولا تعبدوا غيري، فلما فرغ موسى وانكشف الغمام أقبل إليهم فقالوا له (( لن نؤمن حتى نرى اللّه جهرة )) معاينة وذلك أن العرب تجعل العلم بالقلب رؤية، فقال جهرة ليعلم أن المراد منه العيان { فأخذتكم الصاعقة } أي الموت،

وقيل نار جاءت من السماء فأحرقتهم { وأنتم تنظرون } أي ينظر بعضكم إلى بعض حين أخذكم الموت.

وقيل تعلمون، والنظر يكون بمعنى العلم، فلما هلكوا جعل موسى يبكي ويتضرع ويقول ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ { لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } (١٥٥-الأعراف) فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم اللّه تعالى رجلاً بعد رجل بعدما ماتوا يوماً وليلة، ينظر بعضهم إلى بعض، كيف يحيون فذلك

٥٦

قوله تعالى { ثم بعثناكم } أحييناكم، والبعث إثارة الشيء عن محله يقال بعثت البعير وبعثت النائم فانبعث { من بعد موتكم }

قال قتادة  أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا إلى يوم القيامة، { لعلكم تشكرون }.

٥٧

{ وظللنا عليكم الغمام } في التيه يقيكم حر الشمس، والغمام من الغم وأصله التغطية والستر سمي السحاب غماماً لأنه يغطي وجه الشمس وذلك أنه لم يكن لهم في التيه كن يسترهم فشكوا إلى موسى فأرسل اللّه تعالى غماماً أبيض رقيقاً أطيب من غمام المطر، وجعل لهم عموداً من نور يضيء لهم الليل إذا لم يكن لهم قمر { وأنزلنا عليكم المن والسلوى } أي في التيه، الأكثرون على أن المن هو الترنجبين،

وقال مجاهد  هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالشهد، وقال وهب هو الخبز الرقاق، قال الزجاج  جملة المن ما يمن اللّه به من غير تعب.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن اسماعيل أنا أبو نعيم أنا أبو سفيان عن عبد الملك هو ابن عمير عن عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد رضي اللّه عنه قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم { الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين }.

قالوا فكان المن كل ليلة يقع على أشجارهم مثل الثلج، لكل إنسان منهم صاع، فقالوا يا موسى قتلنا هذا المن بحلاوته فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم

فأنزل اللّه تعالى عليهم السلوى وهو طائر يشبه السماني،

وقيل هو السماني بعينه، بعث اللّه سحابة فمطرت السماني في عرض ميل وطول رمح في السماء، بعضه على بعض والسلوى العسل، فكان اللّه ينزل عليهم المن والسلوى كل صباح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه يوماً وليلة وإذا كان يوم الجمعة أخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت. { كلوا } أي وقلنا لهم كلوا { من طيبات } حلالات { ما رزقناكم } ولا تدخروا لغد،ن ففعلوا، فقطع اللّه ذلك عنهم، ودود وفسد ما ادخروا، فقال اللّه تعالى { وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } أي وما بخسوا بحقنا، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون باستيجابهم عذابي، وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مؤنة في الدنيا ولا حساب في العقبى.

أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أنا أ[و بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنا أبو هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { لولا بنو اسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر }.

٥٨

{ وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } سميت القرية لأنها تجمع أهلها، ومنه المقراة للحوض، لأنها تجمع الماء، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما هي أريحا وهي قرية الجبارين كان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم العمالقة ورأسهم عوج بن عنق،

وقيل بلقاء،

وقال مجاهد  بيت المقدس،

وقال الضحاك  هي الرملة والأردن وفلسطين وتدمر، و

قال مقاتل  إليا، وقال ابن كيسان  الشام { فكلوا منها حيث شئتم رغداً } موسعاً عليكم { وادخلوا الباب } يعني باباً من أبواب القرية وكان لها سبعة أبواب { سجداً } أي ركعاً خضعاً منحنين، وقال وهب  فإذا دخلتموه فاسجدوا شكراً للّه تعالى { وقولوا حطة }

قال قتادة  حط عنا خطايانا، أمروا بالاستغفار، قال ابن عباس لا إله إلا اللّه، لأنها تحط الذنوب، ورفعها على تقدير قولوا مسألتنا حطة { نغفر لكم خطاياكم } من الغفر وهو الستر، فالمغفرة تستر الذنوب، وقرأ أهل المدينة و نافع بالياء وضمها وفتح الفاء، وقرأها ابن عامر بالتاء وضمها وفتح الفاء، وفي الأعراف قرأ جميعاً و يعقوب بالتاء وضمها، وقرأ الآخرون فيهما بنصب النون وكسر الفاء { وسنزيد المحسنين } ثواباً من فضلنا.

٥٩

{ فبدل } فغير { الذين ظلموا } أنفسهم وقالوا { قولاً غير الذي قيل لهم } وذلك أنهم بدلوا قول الحطة بالحبطة، فقالوا بلسانهم حطانا سمقاثاً أي حنطة حمراء، استخفافاً بأمر اللّه تعالى،

وقال مجاهد  طؤطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فأبوا أن يدخلوها سجداً فدخلوا على أساههم مخالفة في الفعل كما بدلوا القول وقالوا قولاً غير الذي قيل لهم.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن اسماعيل أنا اسحاق بن نصر أنا عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة }. { فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء } قيل أرسل اللّه عليهم طاعوناً فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفاً { بما كانوا يفسقون } يعصون ويخرجون من أمر اللّه تعالى.

٦٠

{ وإذ استسقى موسى } طلب السقيا { لقومه } وذلك أنهم عطشوا في التيه فسألوا موسى أن يستسقي لهم ففعل فأوحى اللّه إليه كما قال { فقلنا اضرب بعصاك } وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع على طول موسى عليه السلام ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نوراً، واسمها عليق حملها، آدم عليه السلام من الجنة فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب عليه السلام فأعطاها موسى عليه السلام.

قال مقاتل  اسم العصا بنعته.

قوله تعالى { الحجر } اختلفوا فيه قال وهب  لم يكن حجراً معيناً بل كان موسى يضرب أي حجر كان من عرض الحجارة فينفجر عيوناً لكل سبط عين، وكانوا اثنى عشر سبطاً ثم تسيل كل عين في جدول إلى السبط الذي أمر أن يسقيهم، وقال الآخرون كان حجراً معيناً بدليل أنه عرف بالألف واللام، قال ابن عباس كان حجراً خفيفاً مربعاً على قدر رأس الرجل كان يضعه في مخلاته فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه،

وقال عطاء  كان للحجر أربعة وجوه لكل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين

وقيل كان الحجر رخاماً،

وقيل كان من الكذان فيه اثنتا عشرة حفرة، ينبع من كل حفرة عين ماء عذب، فإذا فرغوا وأراد موسى حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء، وكان يسقس كل يوم ستمائة ألف، وقال سعيد بن جبير  هو الحجر الذي وضع موسى ثوبه عليه ليغتسل ففر بثوبه ومر به على ملأ من بني اسرائيل حين رموه بالأدرة فلما أتاه جبريل فقال إن اللّه تعالى يقول ارفع هذا الحجر فلي فيه قدرة، ولك فيه معجزة، فرفعه ووضعه في مخلاته، قال عطاء  كان يضربه موسى اثنتي عشرة ضربة فيظهر على موضع كل ضربة مثل ثدي المرأة ثم يتفجر الأنهار، ثم تسيل. وأكثر أهل التفسير يقولون انبجست وانفجرت واحد، وقال أبو عمرو بن العلاء انبجست وانفجرت، أي سالت، فذلك

قوله تعالى { فانفجرت } أي فضرب فانفجرت أي سالت منه { اثنتا عشرة عيناً } على عدد الأسباط { قد علم كل أناس مشربهم } موضع شربهم لا يدخل سبط على غيره في شربه { كلوا واشربوا من رزق اللّه } أي وقلنا لهم كلوا من المن والسلوى، واشربوا من الماء فهذا كله من رزق اللّه الذي يأتيكم بلا مشقة { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } والعبث أشد الفساد يقال عثى يعثي عيثاً، وعثا يعثو عثواً وعاث يعيث عيثاً.

٦١

قوله تعالى { وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد } وذلك أنهم أجمعوا وسئموا من اكل المن والسلوى، وإنما قال { على طعام واحد } وهما اثنان لأن العرب تعبر عن الاثنين بلفظ الواحد كما تعبر عن الواحد بلفظ الاثنين، ك

قوله تعالى { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } (٢٢-الرحمن) وإنما يخرج من المالح دون العذب

وقيل كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فكانا كطعام واحد، وقال عبد الرحمن بن زيد بن اسلم كانوا يعجنون المن بالسلوى فيصيران واحداً { فادع لنا } فاسأل لأجلنا { ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها } قال ابن عباس والفوم الخبز وقال عطاء ، الحنطة وقال القتيبي رحمه اللّه تعالى الحبوب التي تؤكل كلها

وقال الكلبي  { وعدسها وبصلها قال } لهم موسى عليه السلام { أتستبدلون الذي هو أدنى } أخس وأردى { بالذي هو خير } أشرف وأفضل وجعل الحنطة أدنى في القيمة وإن كان هو خيراً من المن والسلوى، أو أراد أنها أسهل وجوداً على العادة، ويجوز أن يكون الخير راجعاً إلى اختيار اللّه لهم واختيارهم لأنفسهم { اهبطوا مصراً } يعنى فإن أبيتم إلا ذلك فانزلوا مصراً من الأمصار،

وقال الضحاك  هو مصر موسى وفرعون، والأول أصح، لأنه لأنه لو أراده لم يصرفه { فإن لكم ما سألتم } من نبات الأرض { وضربت عليهم } جعلت عليهم وألزموا { الذلة } الذل والهوان قيل بالجزية، وقال عطاء بن السائب  هو الكستيج والزنار وزي اليهودية { والمسكنة } الفقر، سمي الفقير مسكيناً لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة، فترى اليهود وإن كانوا مياسير كأنهم فقراء،

وقيل الذلة هي فقر القلب فلا ترى في أهل الملل أذل وأحرص على المال من اليهود. { وباءوا بغضب من اللّه } رجعوا ولا يقال (( باؤوا إلا بشر )) وقال أبو عبيدة احتملوا وأقروا به، ومنه الدعاء أبوء (لك) بنعمتك علي وأبوء بذنبي، أقر{ ذلك } أي الغضب { بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه } بصفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وآية الرجم في التوراة ويكفرون بالإنجيل والقرآن { ويقتلون النبيين } تفرد نافع بهمز النبي وبابه، فيكون معناه المخبرمن أنبأ ينبيء ونبأ ينبئ، والقراءة المعروفة ترك الهمزة، وله وجهان أحدهما هو أيضاً من الإنباء، تركت الهمزة فيه تخفيفاً لكثرة الاستعمال، والثاني هو بمعنى الرفيع مأخوذ من النبوة وهي المكان المرتفع، فعلى هذا يكون النبيين على الأصل { بغير الحق } أي بلا جرم فإن قيل فلم قال بغير الحق وقتل النبيين لا يكون إلا بغير الحق؟ قيل ذكره وصفاً للقتل، والقتل تارة يوصف بغير الحق وهو مثل

قوله تعالى { قال رب احكم بالحق } (١١٢-الأنبياء) ذكر الحق وصفاً للحكم لا أن حكمه ينقسم إلى الجور والحق، ويروى أن اليهود قتلت سبعين نبياً في أول النهار وقامت سوق بقتلهم في آخر النهار { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } يتجاوزون أمري ويرتكبون محارمي.

٦٢

{ إن الذين آمنوا والذين هادوا } يعني اليهود سموا به لقولهم إنا هدنا إليك أي ملنا إليك،

وقيل لأنهم هادوا أي تابوا عن عبادة العجل،

وقيل لأنهم مالوا عن دين الإسلام، وعن دين موسى عليه السلام، وقال أبو عمرو بن العلاء لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة ويقولون إن السموات والآرض تحركت حين آتى اللّه موسى التوراة { والنصارى } سموا به لقول الحواريين نحن أنصار اللّه، و

قال مقاتل  لأنهم نزلوا قرية يقال لها ناصرة، لآعتزائهم إلى نصرة وهي قرية كان ينزلها بعيسى عليه السلام. { والصابئين } قرأ أهل المدينة والصابين والصابون بترك الهمزة والباقون بالهمزة، وأصله الخروج، يقال صبأ فلان أي خرج من دين إلى دين آخر، وصبأت النجوم إذا خرجت من مطاعها، وصبأ ناب البعير إذا خرج، فهؤلاء سموا به لخروجهم من دين إلى دين، قال عمر وابن عباس هم قوم من أهل الكتاب، قال عمر رضي اللّه عنه ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب،

وقال ابن عباس لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم،

وقال مجاهد  هم قبيلة نحو الشام بين اليهود والمجوس،

وقال الكلبي  هم قوم بين اليهود والنصارى يحلقون أوساط رؤوسهم ويجبون مذاكيرهم، و

قال قتادة  قوم يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة، ويصلون إلى الكعبة ويقرون باللّه تعالى، أخذوا من كل دين شيئاً، قال عبد العزيز بن يحيى  انقرضوا. { من آمن باللّه واليوم الآخر }

فإن قيل كيف يستقيم قوله ( من آمن باللّه ) وقد ذكر في ابتداء الآية (إن الذين آمنوا)؟ قيل اختلفوا في حكم الآية فقال بعضهم أراد بقوله ( إن الذين آمنوا ) على التحقيق ثم اختلفوا في هؤلاء المؤمنين فقال قوم هم الذين آمنوا قبل المبعث وهم طلاب الدين مثل حبيب النجار، وقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، والبراء السني، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وبحيرا الراهب، ووفد النجاشي، فمنهم من أدرك النبي صلى اللّه عليه وسلم (وبايعه)،ن ومنهم من لم يدركه.

وقيل هم المؤمنون من الأمم الماضية،

وقيل هم المؤمنين من هذه الأمة (والذين هادوا) الذين كانوا على دين موسى عليه السلام، ولم يبدلوا، والنصارى، الذين كانوا على دين عيسى عليه السلام ولم يغيروا وماتوا على ذلك، قالوا وهذان الاسمان لزماهم زمن موسى وعيسى عليهما السلام حيث كانوا على الحق، كالإسلام لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، والصابئون زمن استقامة أمرهم { من آمن } أي من مات منهم وهو مؤمن لأن حقيقة الإيمان بالموافاة، ويجوز أن يكون الواو مضمراً أي ومن آمن بعدك يا محمد إلى يوم القيامة،

وقال بعضهم إن المذكورين بالإيمان في أول الآية على طريق المجاز دون الحقيقة، ثم اختلفوا فيهم فقال بعضهم الذين آمنوا بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك

وقيل أراد بهم المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم، واليهود والنصارى الذين اعتقدوا اليهودية والنصرانية بعد التبديل والصابئون بعض أصناف الكفار { من آمن باللّه واليوم الآخر } من هذه الأصناف بالقلب واللسان { وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم } وإنما ذكر بلفظ الجمع لأن (من) يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث { ولا خوف عليهم } في الدنيا { ولا هم يحزنون } في الآخرة.

٦٣

قوله تعالى { وإذ أخذنا ميثاقكم } عهدكم يا معشر اليهود { ورفعنا فوقكم الطور } وهو الجبل بالسريانية في قول بعضهم، وهو قول مجاهد ،

وقيل ما من لغة في الدنيا إلا وهي في القرآن، وقال الأكثرون ليس في القرآن لغة غير لغة العرب ل

قوله تعالى { قرآناً عربياً } وإنما هذا وأشباهه وقع وفاقاً بين اللغتين،

وقال ابن عباس أمر اللّه تعالى جبلاً من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام على رؤوسهم، وذلك لأن اللّه تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام فأمر موسى قومه أن يقبلوها ويعملوا بأحكامها فأبوا أن يقبلوها للآصار والأثقال التي هي فيها، وكانت شريعة ثقيلة فأمر اللّه تعالى جبريل عليه السلام فقلع جبلاً على قدر عسكرهم، وكان فرسخاً في فرسخ، فرفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة الرجل كالظلة، وقال لهم إن لم تقبلوا التوراة أرسلت هذا الجبل عليكم، وقال عطاء عن ابن عباس رضي اللّه عنهما رفع اللّه فوق رؤوسهم الطور، وبعث ناراً من قبل وجوههم، وأتاهم البحر المالح من خلفهم { خذوا } أي قلنا لهم خذوا { ما آتيناكم } أعطيناكم { بقوة } بجد واجتهاد ومواظبة { واذكروا } وادرسوا { ما فيه }

وقيل احفظوه واعملوا به { لعلكم تتقون } لكي تنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى، فإن فإن قبلتم وإلا رضختم بهذا الجبل وأغرقتكم في هذا البحر وأحرقتكم بهذه النار، فلما رأوا أن لا مهرب لهم عنها قبلوا وسجدوا وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود، فصار سنةً لليهود، ولا يسجدون إلا على أنصاف وجوههم، ويقولون بهذا السجود رفع العذاب عنا.

٦٤

{ ثم توليتم } أعرضتم { من بعد ذلك } من بعد ما قبلتم التوراة { فلولا فضل اللّه عليكم ورحمته } يعني بالإمهال واإدراج وتأخير العذاب عنكم { لكنتم } لصرتم { من الخاسرين } من المغبونين بالعقوبة وذهاب الدنيا والآخرة

وقيل من المعذبين في الحال لأنه رحمهم بالإمهال.

٦٥

قوله تعالى { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } أي جازوا الحد، وأصل السبت القطع، قيل سمي يوم السبت بذلك لأن اللّه تعالى قطع فيه الخلق،

وقيل لأن اليهود أمروا فيه بقطع الأعمال، والقصة فيه أنهم كانوا زمن داود عليه السلام بأرض يقال لها أيلة حرم اللّه عليهم صيد السمك يوم السبت، فكان إذا دخل السبت لم يبق حوت في البحر إلا اجتمع هناك حتى يخرجن خراطيمهن من الماء لأمنها، حتى لا يرى الماء من كثرتها، فإذا مضى السبت تغرقن ولزمن مقل البحر، فلا يرى شيء منها فذلك

قوله تعالى { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم } (١٦٣-الأعراف). ثم ان الشيطان وسوس إليهم وقال إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت، فعمد رجال فحفروا الحياض حول البحر، وشرعوا منها إليها الأنهار، فإذا كانت عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار، فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض، فلا يقدرن على الخروج لبعد عمقها وقلة مائها، فإذا كان يوم الأحد أخذوها،

وقيل كانوا يسوقون الحيتان إلى (الحياض) يوم السبت ولا يأخذونها ثم يأخذوها يوم الأحد،

وقيل كانوا ينصبون الحبائل والشخوص يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد ففعلوا ذلك زماناً ولم تنزل عليهم عقوبة فتجرؤوا على الذنب وقالوا ما نرى السبت إلا وقد أحل لنا فأخذوا وأكلوا وملحوا وباعوا واشتروا وكثر مالهم، فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية، وكان نحواً من سبعين ألفاً، ثلاثة أصناف صنف أمسك ونهى، وصنف أمسك ولم ينه، وصنف انتهك الحرمة، وكان الناهون اثني عشر ألفاً، فلما أبى المجرمون قبول نصحهم قالوا واللّه لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار وعبروا بذلك سنتين، فلعنهم داود عليه السلام، وغضب اللّه عليهم لإصرارهم على المعصية فخرج الناهون ذات يوم من بابهم ولم يخرج من المجرمين أحد ولم يفتحوا بابهم، فلما أبطؤوا تسوروا عليهم الحائط فإذا هم جميعاً قردة لها أذناب يتعاوون،

قال قتادة  صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يمكث مسخ ثلاثة أيام ولم يتوالدوا. قال اللّه تعالى { فقلنا لهم كونوا قردة } أمر تحويل وتكوين { خاسئين } مبعدين مطرودين،

وقيل فيه تقديم وتأخير أي كونوا خاسئين قردة ولذلك لم يقل خاسئات، والخسأ الطرد والإبعاد، وهو لازم ومتعد يقال خسأته خسأً فخسأ خسوءاً مثل رجعته رجعاً فرجع رجوعاً.

٦٦

{ فجعلناها } أي جعلنا عقوبتهم بالمسخ { نكالاً } أي عقوبة وعبرة، والنكال اسم لكل عقوبة ينكل الناظر من فعل ما جعلت العقوبة جزاء عليه، ومنه النكول عن اليمين وهو الامتناع، وأصله من النكل وهو القيد ويكون جمعه أنكالاً { لما بين يديها }

قال قتادة  أراد بما بين يديها يعني ما سبقت من الذنوب، أي جعلنا تلك العقوبة جزاء لما تقدم من ذنوبهم قبل نهيهم عن أخذ الصيد { وما خلفها } ما حضر من الذنوب التي أخذوا بها، وهي العصيان بأخذ الحيتان، وقال أبو العالية و الربيع  عقوبة لما مضى من ذنوبهم وعبرة لمن بعدهم أن يستنوا بسنتهم، و (ما) الثانية بمعنى من،

وقيل (جعلناها) أي جعلنا قرية أصحاب السبت عبرة لما بين يديها أي القرى التي كانت مبنية في الحال { وما خلفها } وما يحدث من القرى من بعد ليتعظوا،

وقيل فيه تقديم وتأخير، تقديره فجعلناها وما خلفها، أي ما أعد لهم من العذاب في الآخرة، نكالاً وجزاء لما بين يديها أي لما تقدم من ذنوبهم باعتدائهم في السبت { وموعظة للمتقين } للمؤمنين من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم فلا يفعلون مثل فعلهم.

٦٧

قوله تعالى { وإذ قال موسى لقومه إن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة } البقرة هي الأنثى من البقر يقال هي مأخوذة من البقر وهو الشق، سميت به لأنها تشق الأرض للحراثة. والقصة فيه أنه كان في بني إسرائيل رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه، فلما طال عليه موته قتله ليرثه، وحمله إلى قرية أخرى وألقاه بفنائهم، ثم أصبح يطلب ثأره وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم القتل، فسألهم موسى فجحدوا، واشتبه أمر القتيل على موسى،

قال الكلبي  وذلك قبل نزول القسامة في التوراة، فسألوا موسى أن يدعو اللّه ليبين لهم بدعائه، فأمرهم اللّه بذبح بقرة فقال لهم موسى إن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة { قالوا أتتخذنا هزواً } أي تستهزئ بنا، نحن نسألك عن أمر القتيل وتأمرنا بذبح بقرة!! وإنما قالوا ذلك لبعد بين الأمرين في الظاهر، ولم يدروا ما الحكمة فيه، قرأ حمزة هزوا وكفوا بالتخفيف وقرأ الآخرون بالتثقيل، وبترك الهمزة حفص { قال } موسى { أعوذ باللّه } أمتنع باللّه { أن أكون من الجاهلين } أي من المستهزئين بالمؤمنين

وقيل من الجاهلين بالجواب لا على وفق السؤال لأن الجواب لا على وفق السؤال جهل، فلما علم (القوم) أن ذبح البقرة عزم من اللّه عز وجل استوصفوها، ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد اللّه عليهم وكانت تحته حكمة، وذلك أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له (ابن) طفل وله عجلة أتى بها إلى غيضة وقال اللّهم إني أستودعك هذه العجلة لابني حتى تكبر، ومات الرجل فصارت العجلة في الغيضة عواناً، وكانت تهرب من كل من رآها فلما كبر الابن وكان باراً بوالدته، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث يصلي ثلثاً وينام ثلثاً، ويجلس عند رأس أمه ثلثاً، فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتي به إلى السوق فيبيعه بما شاء اللّه ثم يتصدق بثلثه، ويأكل بثلثه، ويعطي والدته ثلثه، فقالت له أمه يوماً إن أباك ورثك عجلة استودعها اللّه في غيضة كذا فانطلق وادع إله إبراهيم واسماعيل واسحاق أن يردها عليك وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أنها شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها، فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها

وقال أعزم بإله ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب أن تأتي إلي فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها يقودها، فتكلمت البقرة بإذن اللّه تعالى فقالت أيها الفتى البار بوالدتك اركبني فإن ذلك أهون عليك، فقال الفتى إن أمي لم تأمرني بذلك ولكن قالت خذ بعنقها، فقالت البقرة بإله بني اسرائيل لوركبتني ما كنت تقدر علي أبداً، فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بأمك، فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له إنك فقير لا مال لك فيشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة، قال بكم أبيعها؟ قالت بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي وكان ثمن البقرة يومئذ ثلاثة دنانير، فانطلق بها إلى السوق، فبعث اللّه ملكاً ليرى خلقه قدرته وليختبر الفتى كيف بر بوالدته، وكان اللّه به خبيراً فقال له الملك بكم تبيع هذه البقرة؟

قال بثلاثة دنانير وأشترط عليك رضى والدتي فقال الملك لمك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك فقال الفتى لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضى أمي فردها إلى أمه فأخبرها بالثمن فقالت ارجع فبعها بستة دنانير على رضى مني، فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال استأمرت أمك فقال الفتى إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة على أن أستأمرها فقال الملك فإني أعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرهاا، فأبى الفتى، فرجع إلى أمه فأخبرها، فقالت إن الذي يأتيك ملك بصورة آدمي ليختبرك فإذا آتاك فقل له أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ (ففعل) فقال له الملك اذهب إلى أمك وقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران عليه السلام يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبيعوها إلا بملء مسكها دنانير، فأمسكوها، وقدر اللّه تعالى على بني اسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفون موسى حتى وصف لهم تلك البقرة، مكافأة له على بره بوالدته فضلاً منه ورحمة ( فذلك )

٦٨

قوله تعالى { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } أي (ما صفاتها) { قال } موسى { إنه يقول } يعني أن اللّه تعالى يقول { إنها بقرة لا فارض ولا بكر } أي لا كبيرة ولا صغيرة، والفارض المسنة التي لا تلد، يقال منه فرضت تفرض فروضاً، والبكر الفتاة الصغيرة التي لم تلد قط، وحذفت (الهاء) منهما للاختصاص بالإناث كالحائض { عوان } وسط نصف { بين ذلك } أي بين السنين يقال عونت المرأة تعويناً إذا زادت على الثلاثين، قال الأخفش (العوان التي لم تلد قط، وقيل ) العوان التي نتجت مراراً وجمعها عون { فافعلوا ما تؤمرون } من ذبح البقرة ولا تكثروا السؤال.

٦٩

{ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها } قال ابن عباس شديد الصفرة، و

قال قتادة  صاف،

وقال الحسن  الصفراء الوداء، والأول أصح لأنه لا يقال أسود فاقعإنما يقال أصفر فاقع، وأسود (حالك) وأحمر قانئ وأخضر ناضر، وأبيض بقق للمبالغة، { تسر الناظرين } إليها يعجبهم حسنها وصفاء لونها.

٧٠

{ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } أسائمة أم عاملة { إن البقر تشابه علينا } ولم يقل تشابهت لتذكير لفظ البقر ك

قوله تعالى { أعجاز نخل منقعر } (٢٠-القمر) وقال الزجاج  أي جنس البقر تشابه، أي التبس واشتبه أمره علينا فلا نهتدي إليه { وإنا إن شاء اللّه لمهتدون } إلى وصفها، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { (واللّه) لو لم يستثنوا لما بينت لهم إلى آخر الأبد }.

٧١

{ قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول } مذللة بالعمل يقال رجل ذلول بين الذل، ودابة ذلول بينة الذل { تثير الأرض } تقلبها للزراعة { ولا تسقي الحرث } أي ليست بساقية { مسلمة} بريئة من العيوب { لا شية فيها } لا لون لها سوى لون جميع جلدها قال عطاء  لاعيب فيها،

وقال مجاهد  لا بياض فيها ولا سواد { قالوا الآن جئت بالحق } أي بالبيان التام الشافي الذي لا إشكال فيه، وطلبوها فلم يجدوا بكمال وصفها إلا مع الفتى فاشتروها بملء مسكها ذهباً، { فذبحوها وما كادوا يفعلون } من غلاء ثمنها وقال محمد بن كعب وما كادوا يجدونها باجتماع أوصافها،

وقيل { وما كادوا يفعلون } من شدة اضطرابهم واختلافهم فيها.

٧٢

قوله عز وجل { وإذ قتلتم نفساً } هذا أول القصة وإن كانت مؤخرة في التلاوة، واسم القتيل (عاميل) { فادارأتم فيها } أصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال وأدخلت الألف، مثل قوله { اثاقلتم }، قال ابن عباس و مجاهد  معناه فاختلفتم، وقال الربيع بن أنس تدافعتم، أي يحيل بعضكم على بعض من الدرء وهو الدفع، فكان كل واحد يدفع عن نفسه { واللّه مخرج } أي مظهر { ما كنتم تكتمون } فإن القاتل كان يكتم القتل.

٧٣

{ فقلنا اضربوه } يعني القتيل { ببعضها } أي ببعض البقرة،

واختلفوا في ذلك البعض، قال ابن عباس رضي اللّه عنه وأكثر المفسرين ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف وهو المقتل، وقال مجاهد و سعيد بن جبير  بعجب الذنب لأنه أول ما يخلق وآخر ما يبلى، ويركب عليه الخلق،

وقال الضحاك  بلسانها، وقال الحسين بن الفضل  هذا أدل بها لأنه آلة الكلام، وقال الكلبي و عكرمة  بفخذها الأيمن،

وقيل بعضو منها لا بعينه، ففعلوا ذلك فقام القتيل حياً بإذن اللّه تعالى وأوداجه، أي عروق العنق، تشخب دماً وقال قتلني فلان، ثم سقط ومات مكانه فحرم قاتله الميراث، وفي الخبر (( ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة )) وفيه إضمار تقديره فضرب فحيي { كذلك يحيي اللّه الموتى } كما أحيا عاميل، { ويريكم آياته لعلكم تعقلون } قيل تمنعون أنفسكم من المعاصي.

أما حكم هذه المسألة في الإسلام إذا وجد قتيل في موضع ولا يعرف قاتله فإن كان ثم ( لوث ) على إنسان - واللوث أن يغلب على القلب صدق المدعي، بأن اجتمع جماعة في بيت أو صحراء فتفرقوا عن قتيل يغلب على القلب أن القاتل فيهم، أو وجد قتيل في محلة أو قرية كلهم أعداء للقتيل لا يخالطهم غيرهم، فيغلب على القلب أنهم قتلوه - فادعى الولي على بعضهم، يحلف المدعي خمسين يميناً على من يدعي عليه، وإن كان الأولياء جماعة توزع الأيمان عليهم، ثم بعدما حلفوا أخذوا الدية من عاقلة المدعى عليه إن ادعوا قتل خطأ، وإن ادعوا قتل عمد فمن ماله، ولا قود على قول الأكثرين وذهب بعضهم إلى وجوب القود، وهو قول عمر بن عبد العزيز وبه قال مالك و أحمد ، وإن لم يكن على المدعى عليه لوث فالقول قول المدعى عليه مع يمينه ثم هل يحلف يميناً واحدة أم خمسين يميناً؟ فيه قولان

(أحدهما) يميناً واحدة كما في سائر الدعاوي

( والثاني) يحلف خمسين يميناً تغليظاً لأمر الدم، وعند أبي حنيفة رضي اللّه عنه لا حكم للوث [ولا يزيد بيمين المدعي] وقال إذا وجد قتيل في محلة يختار الإمام خمسين رجلاً من صلحاء أهلها فيحلفهم أنهم ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلاً، ثم يأخذ الدية من سكانها، والدليل على أن البداية بيمين المدعي عند وجود اللوث [ ما

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن يحيى بن سعيد عن بشير ابن يسار ] عن سهل بن أبي حثمة

{أن عبد اللّه بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر لحاجتهما فقتل عبد اللّه بن سهل فانطلق هو وعبد الرحمن أخو المقتول وحويصة بن مسعود إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكروا له قتل عبد اللّه بن سهل فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم فقالوا يا رسول اللّه لم نشهد ولم نحضر، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتبرئكم يهود بخمسين يميناً فقالوا يارسول اللّه كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ فعزم النبي صلى اللّه عليه وسلم عقله من عنده }[ وفي لفظ آخر فزعم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم عقله من عنده ]

قال بشير بن يسار قال سهل لقد ركضتني فريضة تلك الفرائض في مربد لنا، وفي رواية لقد ركضتني ناقة حمراء من تلك الفرائض في مربد لنا أخرجه مسلم عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب .

وجه الدليل من الخبر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بدأ بأيمان المدعين لتقوي جانبهم باللوث، وهو أن عبد اللّه بن سهل وجد قتيلاً في خيبر، وكانت العداوة ظاهرة بين الأنصار وأهل خيبر، وكان يغلب على القلب أنهم قتلوه،ن واليمين أبداً تكون حجة لمن يقوى جانبه وعند عدم اللوث يقوى جانب المدعى عليه من حيث أن الأصل براءة ذمته وكان القول قوله مع يمينه.

٧٤

قوله تعالى { ثم قست قلوبكم } يبست وجفت، جفاف القلب خروج الرحمة واللين عنه،

وقيل غلظت،

وقيل اسودت، { من بعد ذلك } من بعد ظهور الدلالات.

قال الكلبي  قالوا بعد ذلك نحن لم نقتله، فلم يكونوا قط أعمى قلباً ولا أشد تكذيباً لنبيهم منهم عند ذلك { فهي } أي في الغلظة والشدة { كالحجارة أو أشد قسوة } قيل أو بمعنى بل

وقيل بمعنى الواو ك

قوله تعالى { مائة ألف أو يزيدون } (١٤٧-الصافات) أي بل يزيدون أو ويزيدون، وإنما لم يشبهها بالحديد مع أنه أصلب من الحجارة، لأن الحديد قابل للين فإنه يلين بالنار، وقد لان لداود عليه السلام، والحجارة لا تلين قط، ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } قيل أراد به (جميع) الحجارة،

وقيل أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى للأسباط { وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء } أراد به عيوناً دون الأنهار { وإن منها لما يهبط } ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله { من خشية اللّه } وقلوبكم لا تلين ولا تخشع يا معشر اليهود.

فإن قيل جماد لا يفهم، فكيف (يخشى)؟ قيل اللّه يفهمه ويلهمه فيخشى بإلهامه. ومذهب أهل السنة والجماعة أن اللّه تعالى خلق علماً في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقل، لا يقف عليه غيره، فلها صلاة وتسبيح وخشية كما قال جل ذكره { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } (٤٤-الاسراء) وقال { والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه } (٤١-النور) وقال { ألم تر أن اللّه يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر } (١٨-الحج) الآية، فيجب (المؤمن) الإيمان به ويكل علمه إلى اللّه تعالى سبحانه وتعالى، ويروى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان على ثبير والكفار يطلبونه فقال الجبل انزل عني فإني أخاف أن تؤخذ علي فيعاقبني اللّه بذلك فقال له جبل حراء إلي يا رسول اللّه.

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ثنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي أنا أحمد بن محمد بن عبد الوهاب النيسابوري أنا محمد بن اسماعيل الصائغ أنا يحيى بن أبي بكر أنا ابراهيم ابن طهمان عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن } [ هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن يحيى بن أبي بكر وصح عن أنس {أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طلع على أحد فقال هذا جبل يحبنا و نحبه }

وروي عن أبي هريرة يقول،{ صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصبح ثم أقبل على الناس بوجهه وقال بينما رجل يسوق بقرة إذ عيي فركبها فضربها فقالت إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا لحراثة الأرض فقال الناس سبحان اللّه بقرة تتكلم!؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإني أومن به أنا وأبو بكر ,عمر وماهما ثم }

وقال { بينما رجل في غنم له إذ عدا الذئب على شاة منها فأدركها صاحبها فاستنفذها، فقال الذئب فمن لها يوم السبع؟ أي يوم القيامة، يوم لا راعي لها غيري فقال الناس سبحان اللّه ذئب يتكلم؟ فقال أومن به أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم }، وصح عن أبي هريرة قال { كان رسول صلى اللّه عليه وسلم على حراء وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم اهدأ. أي اسكن. فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد } صحيح أخرجه مسلم .

أنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي أنا أ[و سعيد يحيى بن أحمد بن علي الصانع أنا أبو الحسن علي بن اسحاق بن هشام الرازي أنا محمد بن أيوب بن ضريس البجلي الرازي أنا محمد بن الصباح عن الوليد ابن أبي ثور عن السدي عن عباد بن أبي يزيد ] عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال { كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة فخرجنا في نواحيها خارجاً من مكة بين الجبال والشجر، فلم يمر بشجرة ولا جبل إلا قال السلام عليك يارسول اللّه }.

أنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه يقول { كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد، فلما صنع له المنبر فاستوى عليه اضطربت تلك السارية وحنت كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد، حتى نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاعتنقها فسكنت }.

قال مجاهد  لا ينزل حجر من أعلى إلى الأسفل إلا من خشية اللّه، ويشهد لما قلنا

قوله تعالى { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية اللّه، وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } (٢١-الحشر). قوله عز وجل { وما اللّه بغافل } (بساه) { عما تعملون } وعيد وتهديد،

وقيل بتارك عقوبة ما تعملون، بل يجازيكم به، قرأ ابن كثير يعملون بالياء والآخرون بالتاء.

٧٥

قوله تعالى { أفتطمعون } أفترجون؟ يريد محمداً وأصحابه { أن يؤمنوا لكم } تصدقكم اليهود بما تخبرونهم به { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام اللّه } يعني التوراة { ثم يحرفونه } يغيرون ما فيها من الأحكام { من بعد ما عقلوه } علموه كما غيروا صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وآية الرجم { وهم يعلمون } أنهم كاذبون، هذا قول مجاهد و قتادة و عكرمة و السدي وجماعة، وقال ابن عباس و مقاتل  نزلت في السبعين الذين اختارهم موسى لميقات ربه، وذلك أنهم لما رجعوا - بعد ما سمعوا كلام اللّه - إلى قومهم رجع الناس إلى قولهم، وأما الصادقون منهم فأدوا كما سمعوا، وقالت طائفة منهم سمعنا اللّه يقول في آخر كلامه إن استطعتم أن تفعلوا فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا، فهذا تحريفهم وهم يعلمون أنه الحق.

٧٦

{ وإذا لقوا الذين آمنوا } قال ابن عباس و الحسن و قتادة  يعني منافقي اليهود الذين آمنوا بألسنتهم إذا لقوا المؤمنين المخلصين { قالوا آمنا } كإيمانكم { وإذا خلا } رجع { بعضهم إلى بعض } - كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ووهب بن يهودا وغيرهم من رؤساء اليهود - لأمرهم على ذلك { قالوا أتحدثونهم بما فتح اللّه عليكم } بما قص اللّه عليكم في كتابكم أن محمداً حق وقوله صدق. والفتاح القاضي. وقال الكسائي  بما بينه اللّه لكم [ من العلم بصفة النبي صلى اللّه عليه وسلم ونعته، وقال ] الواقدي  بما أنزل اللّه عليكم، ونظيره { لفتحنا عليهم بركات من السماء } (٤٤-الأنعام) أي أنزلنا، وقال أبو عبيدة بما من اللّه عليكم وأعطاكم { ليحاجوكم به } ليخاصموكم، يعني أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم يحتجوا بقولكم (عليكم) فيقولوا قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم ثن لا تتبعونه!! وذلك أنهم قالوا لأهل المدينة حين شاورهم في اتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم آمنوا به فإنه حق ثم قال بعضهم لبعض أتحدثونهم بما أنزل اللّه عليكم لتكون لهم الحجة عليكم { عند ربكم } في الدنيا والآخرة،

وقيل إنهم أخبروا المؤمنين بما عذبهم اللّه به على الجنايات فقال بعضهم لبعض [ أتحدثونهم بما أنزل اللّه عليكم من العذاب ليحاجوكم به عند ربكم، ليروا الكرامة لأنفسهم عليكم عند اللّه

وقال مجاهد  هو قول يهود بني قريظة قال بعضهم لبعض ] حين قال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم { يا إخوان القردة والخنازير } فقالوا من أخبرمحمد بهذا؟ ما خرج هذا إلا منكم، { أفلا تعقلون }.

٧٧

قال اللّه تعالى { أو لا يعلمون أن اللّه يعلم ما يسرون } يخفون { وما يعلنون } يبدون يعني اليهود.

٧٨

وقوله تعالى { ومنهم أميون } أي من اليهود أميون لا يحسنون القراءة والكتابة، جمع أمي منسوب إلى الأم كأنه باق على ما انفصل من الأم لم يتعلم كتابة ولا قراءة. [ وروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال { إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب } ]

وقيل هو منسوب إلى أم القرى وهي مكة { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } قرأ أبو جعفر أماني بتخفيف الياء كل القرآن حذف إحدى الياءين (تخفيفاً)، وقرأءة العامة بالتشديد، وهي جمع الأمنية وهي التلاوة، قال اللّه تعالى { إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } (٥٢-الحج) أي في قراءته، قال أبو عبيدة [ إلا تلاوته وقرأءته ] عن ظهر القلب لا يقرؤونه من كتاب،

وقيل يعلمونه حفظاً وقرأءة لا يعرفون معناه.

وقال ابن عباس يعني غير عارفين بمعاني الكتاب، وقال مجاهد و قتادة  إلا كذباً وباطلاً، قال الفراء  الأماني الأحاديث المفتعلة، قال عثمان رضي اللّه عنه ما تمنيت منذ أسلمت (أي ما كذبت)، وأراد بها الأشياء التي كتبها علماؤهم من عند أنفسهم ثم أضافوها إلى اللّه عز وجل من تغيير نعت النبي صلى اللّه عليه وسلم وغيره، وقال الحسن و أبو العالية  هي من التمني، وهي أمانيهم الباطلة التي تمنوها على اللّه عز وجل مثل قولهم { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } (١١١-البقرة) وقولهم { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } (٨٠-البقرة) وقولهم { نحن أبناء اللّه وأحباؤه } (١٨- المائدة) فعلى هذا تكون (إلا) بمعنى (لكن) أي لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون أشياء تحصل لهم { وإن هم } وما هم { إلا يظنون } وما هم إلا يظنون ظناً وتوهماً لا يقيناً، قاله قتادة و الربيع ،

قال مجاهد  يكذبون.

٧٩

قوله تعالى { فويل } قال الزجاج  ويل كلمة يقولها كل واقع في هلكة،

وقيل هو دعاء الكفار على أنفسهم بالويل والثبور،

وقال ابن عباس شدة العذاب، وقال سعيد بن المسيب ويل واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لانماعت من شدة حره.

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد اللّه بن أبي توبة أنا طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد اللّه بن محمود أنا أبو اسحاق ابراهيم بن عبد اللّه الخلال أنا عبد اللّه بن المبارك عن رشدين بن سعد [ عن عمرو بن الحارث أنه حدث عن أبي السمح عن أبي الهيثم ] عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره، والصعود جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي فهو كذلك }.

{ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاً } وذلك أن أحبار اليهود خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم حين قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة، فاحتالوا في تعويق اليهود عن الايمان به فعمدوا إلى صفته في التوراة، وكانت صفته فيها حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العينين، ربعة، فغيروها وكتبوا مكانها طوال أزرق سبط الشعر فإذا سألهم سفلتهم عن صفته قرؤوا ما كتبوا فيجدونه مخالفاً لصفته فيكذبونه وينكرونه، قال اللّه تعالى { فويل لهم مما كتبت أيديهم } يعني ما كتبوا بأنفسهم اختراعاً من تغيير نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم { وويل لهم مما يكسبون } من المآكل

ويقال من المعاصي.

٨٠

{ وقالوا } يعني اليهود { لن تمسنا النار } [لن يصيبنا النار] { إلا أياماً معدودة } قدراً مقدراً ثم يزول عنا العذاب ويعقبه النعيم

واختلفوا في هذه الآية، قال ابن عباس و مجاهد  كانت اليهود يقولون هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوماً واحداً ثم ينقطع العذاب بعد سبعة آيام. وقال قتادة و عطاء  يعنون أربعين يوماً التي عبد فيها آباؤهم العجل، وقال الحسن و أ[و العالية  قالت اليهود إن ربنا عتب علينا في أمر، فأقسم ليعذبنا أربعين يوماً فلن تمسنا النار إلا أربعين يوماً تحلة القسم، فقال اللّه عز وجل تكذيباً لهم { قل } يا محمد { أتخذتم عند اللّه } ألف استفهام دخلت على ألف الوصل، عند اللّه { عهداً }؟ موثقاً أن لايعذبكم إلا هذه المدة { فلن يخلف اللّه عهده } ووعده قال ابن مسعود عهداً بالتوحيد، يدل عليه

قوله تعالى { إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً } (٨٧-مريم) يعني قول لا إله إلا اللّه { أم تقولون على اللّه ما لا تعلمون } ثم قال

٨١

{ بلى } وبل وبلى حرفا استدراك ومعناهما نفي الخبر الماضي وإثبات الخبر المستقبل { من كسب سيئة } يعني الشرك { وأحاطت به خطيئته } قرأ أهل المدينة خطيئاته بالجمع، والإحاطة الإحداق بالشيء من جميع نواحيه، قال ابن عباس و عطاء و الضحاك و أبو العالية و الربيع وجماعة هي الشرك يموت عليه،

وقيل السيئة الكبيرة. والاحاطة به أن يصر عليها فيموت غير تائب، قال عكرمة و الربيع بن خيثم

وقال مجاهد  هي الذنوب تحيط القلب، كلما أذنب ذنباً ارتفعت (حتى تغشى) القلب وهي الرين.

قال الكلبي  أوبقته ذنوبه، دليله

قوله تعالى { إلا أن يحاط بكم } (٦٦-يوسف) أي تهلكوا { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }.

٨٢

قوله تعالى { والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون }.

٨٣

قوله تعالى { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } في التوراة، والميثاق العهد الشديد { لا تعبدون إلا اللّه } قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي (لا يعبدون) بالياء وقرأ الخرون بالتاء ل

قوله تعالى { وقولوا للناس حسناً } معناه ألا تعبدوا فلما حذف أن صار الفعل مرفوعاً، وقرأ أبي بن كعب لا تعبدوا إلا اللّه على النهي { بالوالدين إحساناً } أي ووصيناهم بالوالدين إحساناً، براً بهما وعطفاً عليهما ونزولاً عند أمرهما، فيما لا يخالف أمر اللّه تعالى { وذي القربى } أي وبذي القرابة والقربى مصدر كالحسنى { واليتامى } جمع يتيم وهو الطفل الذي لا أب له { والمساكين } يعني الفقراء { وقولوا للناس حسناً } صدقاً وحقاً في شأن محمد صلى اللّه عليه وسلم فمن سألكم عنه فاصدقوه وبينوا صفته ولاتكتموا أمره، هذا قول ابن عباس و سعيد بن جبير و ابن جريج و مقاتل ، وقال سفيان الثوري  مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر،

وقيل هو اللين في القول والمعاشرة بحسن الخلق. وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب  حسناً بفتح الحاء والسين أي قولاً حسناً { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم } أعرضتم عن العهد والميثاق { إلا قليلاً منكم } وذلك أن قوماً منهم آمنوا { وأنتم معرضون } كإعراض آبائكم.

٨٤

قوله عز وجل { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم } أي لا تريقون دماءكم أي لا يسفك بعضكم دم بعض،

وقيل لا تسفكوا دماء غيركم فتسفك دماؤكم، فكأنكم سفكتم دماء أنفسكم، { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } أي لا يخرج بعضكم بعضاً من داره،

وقيل لا تسيئوا جوار من جاوركم فتلجؤوهم إلى الخروج بسوء جواركم { ثم أقررتم } بهذا العهد أنه حق وقبلتم { وأنتم تشهدون } اليوم على ذلك يا معشر اليهود وتقرون بالقبول.

٨٥

قوله عز وجل { ثم أنتم هؤلاء } يعني يا هؤلاء، وهؤلاء للتنبيه { تقتلون أنفسكم } أي (يقتل) بعضكم بعضاً { وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم } بتشديد الظاء أي تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء، وقرأ عاصم و حمزة و الكسائي بتخفيف الظاء فحذفوا تاء التفاعل وأبقوا تاء الخطاب ك

قوله تعالى { ولا تعاونوا } معناهما جميعاً تتعاونون، والظهير العون { بالإثم والعدوان } المعصية والظلم { وإن يأتوكم أسارى } وقرأ حمزة  أسرى، وهما جمع أسير، ومعناهما واحد { تفادوهم } بالمال وتنقذوهم وقرأ أهل المدينة و عاصم و الكسائي و يعقوب ( تفادوهم ) أي تبادلوهم، أراد مفاداة الأسيربالأسير،

وقيل معنى القراءتين واحد. ومعنى الآية

قال السدي  إن اللّه تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه، فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، وكانوا يقتتلون في حرب سمير؟ فيقاتل بنو قريظة وحلفاؤهم وبنو النضير وحلفاؤهم وإذا غلبوا أخربوا ديارهم وأخرجوهم منها، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه وإن كان الأسير من عدوهم، فتعيرهم الاعرب وتقول كيف تقاتلونهم وتفدونهم قالوا إنا أمرنا أن نفديهم فيقولون فلم تقاتلونهم؟ قالوا إنا نستحيي أن يستذل حلفاؤنا، فعيرهم اللّه تعالى بذلك فقال { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } وفي الآية تقديم وتأخير ونظمها (وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) { وهو محرم عليكم إخراجهم } وإن يأتوكم أسارى تفادوهم، فكأن اللّه تعالى أخذ عليهم أربعة عهود ترك القتال، وترك الاخراج، وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم، وفداء أسراهم، فأعرضوا عن الكل إلا الفداء.

قال اللّه تعالى { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض }

قال مجاهد  يقول إن وجدته في يد غيرك فديته وأنت تقتله بيدك { فما جزاء من يفعل ذلك منكم } يا معشر اليهود { إلا خزي } عذاب وهوان { في الحياة الدنيا } فكان خزي قريظة القتل والسبي وخزي النضير الجلاء والنفي من منازلهم إلى أذرعات وأريحاء من الشام { ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } وهو عذاب النار { وما اللّه بغافل عما تعملون } قرأ ابن كثير و نافع وأبو بكر بالياء، والباقون بالتاء قوله عز وجل { أولئك الذين اشتروا }.

٨٦

{ أولئك الذين اشتروا } استبدلوا { الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف} يهون{ عنهم العذاب ولا هم ينصرون} يمنعون من عذاب اللّه عز وجل .

٨٧

قوله تعالى  { ولقد آتينا } أعطينا { موسى الكتاب } التوراة ، جملة واحده { وقفينا } وأتبعنا { من بعده بالرسل } رسولا بعد رسول { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } الدلالات الواضحات وهي ما ذكر اللّه في سورة آل عمران والمائدة

وقيل  أراد الإنجيل { وأيدناه } قويناه { بروح القدس } قرأ ابن كثير القدس بسكون الدال والآخرون بضمها وهما لغتان مثل الرعب و الرعب ، واخبلفوا في روح القدس ، قال الربيع وغيره  أراد بالروح الروح الذي نفخ فيه ، والقدس هو اللّه أضافه إلى نفسه تكريماً وتخصيصاً نحو بيت اللّه ، وناقة اللّه ، كما قال  { فنفخنا فيه من روحنا } ( ١٢- التحريم ) { وروح منه } (١٧١-النساء)

وقيل  أراد بالقدس الطهارة ، يعني الروح الطاهرة ، سمى روحه قدساً ، لأنه لم تتضمنه أصلاب الفحولة ، وام تشتمل عليه أرحام الطوامث ، إنما كان أمراً من اللّه تعالى ،

قال قتادة و السدي و الضحاك  روح القدس جبريل عليه السلام قيل  وصف جبريل بالقدس أي بالطهارة لأنه لم يقترف ذنباً ، قال الحسن  القدس هو اللّه وروحه جبريل

قال اللّه تعالى  { قل نزله روح القدس من ربك بالحق }( ١٠٢- النحل ) وتأييد عيسى بجبريل عليهما السلام أنه أمر أن يسير معه حيث سار حتى صعد به اللّه ( الى السماء )

وقيل  سمي جبريل عليه السلام روحاً للطافته ولمكانته من الوحي الذي هو سبب حياة القلوب ، وقال ابن عباس و سعيد بن جبير  روح القدس هو إسم اللّه تعالى الأعظم به كان يحيي الموتى ويرى الناس به العجائب ،

وقيل  هو الإنجيل جعل له روحا كما ( جعل القرآن روحا لمحمد صلى اللّه عليه وسلم لأنه سبب لحياة القلوب )

قال تعالى  { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } ( ٥٢- الشورى ) فلما سمع اليهود ذكر عيسى عليه السلام قالوا  يامحمد لا مثل عيسى _ كما تزعم _ عملت ، ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت ، فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقا .

قال اللّه تعالى  { أفكلما جاءكم } يا معشر اليهود { رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم } تكبرتم وتعظمتم عن الإيمان { ففريقاً } طائفة { كذبتم } مثل عيسى ومحمد صلى اللّه عليه وسلم { وفريقا تقتلون } أي قتلتم مثل زكريا ويحيى وشعيا وسائر من قتلوه من الأنبياء عليهم السلام .

٨٨

{ وقالوا } يعني اليهود { قلوبنا غلف } جمع الاغلف وهو الذي عليه غشاء ، معناه عليها غشاوة فلا تعي ولا تفقه ما تقول ، قاله مجاهد و قتادة ، نظيره

قوله تعالى { وقالوا قلوبنا في أكنة } ( ٥ - فصلت ) وقرأ ابن عباس غلف بضم اللام وهي قراءة الأعرج وهو جمع غلاف أي قلوبنا أوعية لكل علم فلا تحتاج إلى علمك قاله ابن عباس و عطاء

وقال الكلبي  معناه أوعية لكل علم فلا تسمع حديثاً إلا تعيه إلا حديثك لا تعقله ولا تعيه ولو كان فيه خير لوعته وفهمته . قال اللّه عز وجل  { بل لعنهم اللّه } طردهم اللّه وأبعدهم عن كل خير { بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون }

قال قتادة  معناه لن يؤمن منهم إلا قليل لأن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود ، أي فقليلاً يؤمنون ، ونصب قليلاً [ على الحال وقال معمر  لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره ، أي فقليل يؤمنون ونصب قليلاً ] بنزع الخافض ، و(ما) صلة على قولهما ، وقال الواقدي  معناه لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً كقول الرجل للآخر  ما أقل ما تفعل كذا أي لا تفعله أصلاً .

٨٩

{ ولما جاءهم كتاب من عند اللّه } يعني القرآن { مصدق } موافق { لما معهم } يعني التوراة { وكانوا } يعني اليهود { من قبل } من قبل مبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم { يستفتحون } يستنصرون { على الذين كفروا } على مشركي العرب، وذلك أنهم كانوا يقولون إذا حزبهم أمر ودهمهم عدو اللّهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد صفته في التوراة، فكانوا ينصرون، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وثمود وإرم { فلما جاءهم ما عرفوا } يعني محمداً صلى اللّه عليه وسلم من غير بني اسرائيل وعرفوا نعته وصفته { كفروا به } بغياً وحسداً. { فلعنة اللّه على الكافرين }.

٩٠

{ بئسما اشتروا به أنفسهم } بئس ونعم فعلان ماضيان وضعا للمدح والذم، لا يتصرفان تصرف الأفعال، معناه بئس الذي اختاروا لأنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق.

وقيل الاشتراء هاهنا بمعنى البيع والمعنى بئس ما باعوا به حظ أنفسهم أي حين اختاروا الكفر (وبذلوا أنفسهم للنار) { أن يكفروا بما أنزل اللّه } يعني القرآن { بغياً } أي حسداً وأصل البغي الفساد ويقال بغى الجرح إذا فسد والبغي الظلم، وأصله الطلب، والباغي طالب الظلم، والحاسد يظلم المحسود جهده، طلباً لإزالة نعمة اللّه تعالى عنه { أن ينزل اللّه من فضله } أي النبوة والكتاب { على من يشاء من عباده } محمد صلى اللّه عليه وسلم، قرأ أهل مكة والبصرة ينزل بالتخفيف إلا ( في سبحان الذي ) في موضعين { وننزل من القرآن } (٩٣-الإسراء) و { حتى تنزل } (٩٣-الإسراء) فإن ابن كثير يشددهما، وشدد البصريون في الأنعام { على أن ينزل آية } (٣٧-الأنعام) زاد يعقوب تشديد (بما ينزل) في النحل ووافق حمزة و الكسائي في تخفيف (وينزل الغيث) في سورة لقمان وحم وعسق، والآخرون يشددون الكل، ولم يختلفوا في تشديد { وما ننزله إلا بقدر } في الحجر (٢١) { وباءوا بغضب } أي رجعوا بغضب { على غضب } قال ابن عباس و مجاهد  الغضب الأول بتضييعهم التوراة وتبديلهم، والثاني بكفرهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآن، و

قال قتادة  الأول بكفرهم بعيسى والإنجيل، والثاني بكفرهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآن، وقال السدي  الأول بعبادة العجل والثاني بالكفر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم { وللكافرين } الجاحدين بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم من الناس كلهم { عذاب مهين } مخز يهانون فيه.

٩١

قوله تعالى { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللّه } يعني القرآن { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } يعني التوراة، يكفينا ذلك { ويكفرون بما وراءه } أي بما سواه من الكتب كقوله عز وجل { فمن ابتغى وراء ذلك } (٧-المؤمنون) أي سواه، وقال أبو عبيدة [بما وراءه] أي بما سواه من الكتب { وهو الحق } يعني القرآن { مصدقاً } نصب على الحال { لما معهم } من التوراة { قل } لهم يا محمد { فلم تقتلون } أي قتلتم { أنبياء اللّه من قبل } ولم أصله لما فحذفت الألف فرقاً بين الجر والاستفهام كقولهم فيم وبم؟ { إن كنتم مؤمنين } بالتوراة، وقد نهيتم فيها عن قتل الأنبياء عليهم السلام.

٩٢

قوله عز وجل { ولقد جاءكم موسى بالبينات } بالدلالات الواضحة والمعجزات الباهرة { ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون }

٩٣

{ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا } أي استجيبوا وأطيعوا سميت الطاعة والإجابة سمعاً على المجاورة لأنه سبب للطاعة والإجابة { قالوا سمعنا } قولك { وعصينا } أمرك،

وقيل سمعنا بالأذن وعصينا بالقلوب، قال أهل المعاني إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ولكن لما سمعوا وتلقوه بالعصيان فنسب ذلك إلى القول اتساعاً { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } أي حب العجل، أي معناه أدخل في قلوبهم حب العجل وخالطها، كإشراب اللون لشدة الملازمة يقال فلان مشرب اللون إذا اختلط بياضه بالحمرة، وفي القصص أن موسى أمر أن يبرد العجل بالمبرد ثم يذره في النهر وأمرهم (بالشرب) منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه. قوله عز وجل { قل بئسما يأمركم به إيمانكم } أن تعبدوا العجل من دون اللّه أي بئس إيمان يأمركم بعبادة العجل { إن كنتم مؤمنين } بزعمكم، وذلك أنهم قالوا (نؤمن بما أنزل علينا) فكذبهم اللّه عز وجل.

٩٤

قوله تعالى { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند اللّه } وذلك أن اليهود ادعوا دعاوى باطلة مثل قولهم { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } (٨٠-البقرة) { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } (١١١-البقرة) وقولهم { نحن أبناء اللّه وأحباؤه } (١٨-المائدة) فكذبهم اللّه عز وجل وألزمهم الحجة فقال قل لهم يا محمد (إن كانت لكم الدار الآخرة عند اللّه) يعني الجنة عند اللّه { خالصة } أي خاصة { من دون الناس فتمنوا الموت } أي فأريدوه واسألوه لأن من علم أن الجنة مأواه حن إليها ولا سبيل إلى دخولها إلا بعد الموت فاستعجلوه بالتمني { إن كنتم صادقين } في قولكم،

وقيل فتمنوا الموت أي ادعوا بالموت على الفرقة الكاذبة. وروي عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { لو تمنوا الموت لغص كل انسان منهم بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات }.

٩٥

قال اللّه تعالى { ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم } لعلمهم أنهم في دعواهم كاذبون وأراد (بما قدمت أيديهم) أي ما قدموه من الأعمال وأضافها إلى اليد [دون سائر الأعضاء] لأن أكثر جنايات الانسان تكون باليد فأضيف إلى اليد أعماله وإن لم يكن لليد فيها عمل { واللّه عليم بالظالمين }.

٩٦

{ ولتجدنهم } اللام لام القسم والنون تأكيد للقسم، تقديره واللّه لتجدنهم يا محمد يعني اليهود { أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا } قيل هو متصل بالأول، وأحرص من الذين أشركوا،

وقيل ثم الكلام بقوله (على حياة) ثم ابتدأ ( من الذين أشركوا ) وأراد بالذين أشركوا المجوس قاله أبو العالية و الربيع سموا مشركين لأنهم يقولون بالنور والظلمة. { يود } يريد ويتمنى { أحدهم لو يعمر ألف سنة } يعني تعمير ألف سنة وهي تحية المجوس فيما بينهم يقولون عش ألف سنة وكل ألف نيروز ومهرجان، يقول اللّه تعالى اليهود أحرص على الحياة من المجوس الذين يقولون ذلك { وما هو بمزحزحه } مباعده { من العذاب } من النار { أن يعمر } أي طول عمره لا ينقذه. [زحزحه وتزحزح] من العذاب أو زحزح لازم ومتعد، ويقال زحزحته فتزحزح { واللّه بصير بما يعملون }.

٩٧

قوله عز وجل { قل من كان عدواً لجبريل } قال ابن عباس رضي اللّه عنهما إن حبراً من أحبار اليهود يقال له عبد اللّه بن صوريا قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم أي ملك (نزل) من السماء؟ قال (جبريل) قال ذلك عدونا من الملائكة ولو كان ميكائيل لآمنا بك، إن جبريل ينزل بالعذاب والقتال والشدة وإنه عادانا مراراً وكان من أشد ذلك علينا، [أن اللّه تعالى أنزل على نبينا] أن بيت المقدس سيخرب على يد رجل يقال له بختنصر، و

أخبرنا بالحين الذي يخرب فيه، فلما كان وقته بعثنا رجلاً من أقوياء بني إسرائيل في طلبه لقتله فانطلق حتى لقيه ببابل غلاماً مسكيناً فأخذه ليقتله فدفع عنه جبريل وكبر بختنصر وقوي وغزانا وخرب بيت المقدس فلهذا نتخذه عدواً

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

وقال مقاتل  قالت اليهود إن جبريل عدونا لأنه أمر بجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا، وقال قتادة و عكرمة و السدي  كان لعمر بن الخطاب أرض بأعلى المدينة وممرها على مدارس اليهود فكان إذا أتى أرضه يأتيهم ويسمع منهم (كلاماً) فقالوا له ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك، إنهم يمرون علينا فيؤذوننا وأنت لا تؤذينا وإنا لنطمع فيك فقال عمر واللّه ما آتيكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم [وأنتم تكتمونها] فقالوا من صاحب ممحمد الذي يأتيه من الملائكة؟

قال جبريل فقالوا ذلك عدونا يطلع محمداً على أسرارنا وهو صاحب كل عذاب وخسف وسنة وشدة، وإن ميكائيل إذا جاء جاء بالخصب والمغنم فقال لهم عمر تعرفون جبريل وتنكرون محمداً؟ قالوا نعم قال فأخبروني عن منزلة جبريل ووميكائيل من اللّه عز وجل؟ قالوا جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره قال عمر فإني أشهد أن من كان عدواً لجبريل فهو عدو لميكائيل، ومن كان عدواً لميكائيل فإنه لجبريل، ومن كان عدواً له، ثم رجع عمر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية فقال (( لقد وافقك ربك يا عمر )) فقال عمر لقد رأيتني بعد ذلك، في دين اللّه أصلب من الحجر. قال اللّه تعالى { قل من كان عدواً لجبريل فإنه } يعني جبريل { نزله }، يعنى القرآن، كناية عن غير مذكور { على قلبك } يا محمد { بإذن اللّه } بأمر اللّه { مصدقاً } موافقاً { لما بين يديه } لما قبله من الكتب، { وهدىً وبشرى للمؤمنين }.

٩٨

قوله عز وجل { من كان عدواً للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكال } خصهما بالذكر من جملة الملائكة مع دخولهما في قوله { وملائكته } تفضيلاً وتخصيصاً،ن ك

قوله تعالى { فيهما فاكهة ونخل ورمان } (٦٨-الرحمن) خص النخل والرمان بالذكر مع دخولهما في ذكر الفاكهة، والواو فيهما بمعنى أو، يعني من كان عدواً لأحد هؤلاء فإنه عدو للكل، لأن الكافر بالواحد كافر بالكل { فإن اللّه عدو للكافرين } قال عكرمة  جبر وميك واسراف هي العبد بالسريانية، وايل هو اللّه تعالى ومعناهما عبد اللّه وعبد الرحمن. وقرأ ابن كثير جبريل بفتح الجيم غير مهموز بوزن فعليل قال حسان وجبريل رسول اللّه فينا وروح القدس ليس له كفاء وقرأ حمزة و الكسائي بالهمز زالاشباع بوزن سلسبيل، وقرأ أبو بكر بالاختلاس، وقرأ الآخرون بكسر الجيم غير مهموز،ن وميكاييل قرأ أبو عمرو ويعقوب وحفص ميكال بغير همز قال جرير عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد وبجبرائيل وكذبوا ميكالاً وقال آخر ويوم بدر لقيناكم لنا مدد فيه مع النصر جبريل وميكال وقرأ نافع  بالهمز والاختلاس، بوزن ميفاعل، وقرأ الآخرون بالهمز والاشباع بوزن ميكائيل، وقال ابن صوريا ما جئتنا بشيء نعرفه،

فأنزل اللّه تعالى

٩٩

{ ولقد أنزلنا إليك آيات بينات } واضحات مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام { وما يكفر بها إلا الفاسقون } الخارجون عن أمر اللّه عز وجل.

١٠٠

قوله تعالى { أو كلما } واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام { عاهدوا عهداً } يعني اليهود عاهدوا لئن خرج محمد ليومنن به، فلما خرج كفروا به. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما لما ذكرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أخذ اللّه عليهم (من الميثاق) وعهد إليهم في محمد أن يؤمنوا، به قال مالك بن الصيف واللّه ما عهد إلينا في محمد عهد،

فأنزل اللّه تعالى هذهالآية، يدل عليه قراءة أبي رجاء العطاردي (( أو كلما عوهدوا )) فجعلهم مفعولين،

وقال عطاء  هي العهود التي كانت بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين اليهود أن لا يعاونوا المشركين على قتاله فنقضوها كفعل بني قريظة والنضير، دليله

قوله تعالى { الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم } (٥٦-الأنفال)، { نبذه} طرحه ونقضه { فريق } طوائف { منهم } من اليهود { بل أكثرهم لا يؤمنون }.

١٠١

{ ولما جاءهم رسول من عند اللّه } يعني محمداً { مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم } يعني التوراة

وقيل التوراة

وقيل القرآن { كأنهم لا يعلمون } قال الشعبي  كانوا يقرؤون التوراة ولا يعلمون بها، وقال سفيان بن عينية  أدرجوها في الحرير والديباج وحلوها بالذهب والفضة ولم يعملوا بها فذلك نبذهم لها.

١٠٢

قوله تعالى { واتبعوا } يعني اليهود { ما تتلوا الشياطين } أي ماتلت، والعرب تضع المستقبل موضع الماضي، والماضي موضع المستقبل،

وقيل ما كنت تتلو أي تقرأ، قال ابن عباس رضي اللّه عنه تتبع وتعمل به، وقال عطاء تحدث وتكلم به { على ملك سليمان } أي ملكه وعهده. وقصة الآية أن الشياطين كتبوا السحر والنيرنجيات على لسان آصف بن برخيا هذا ما علم آصف بن برخيا سليمان الملك، ثم دفنوها تحت مصلاه حتى نزع اللّه الملك عنه ولم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوها وقالوا للناس إنما ملكهم سليمان بها فتعلموه فأما علماء بني اسرائيل وصلحاؤهم فقالوا معاذ اللّه أن يكون هذا من علم اللّه، وأما السفلة، فقالوا هذا علم سليمان، وأقبلوا على تعلمه، ورفضوا كتب أنبيائهم، وفشت الملامة على سليمان فلم يزل هذا حالهم وفعلهم حتى بعث اللّه محمدأ صلى اللّه عليه وسلم وأنزل عليه براءة سليمان، هذا قول الكلبي . و

قال السدي  كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره، فيأتون الكهنة ويخلطون بما يسمعون في كل كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها [فكتب ذلك] وفشا في بني إسرائيل أن الجن يعلمون الغيب، فبعث سليمان في الناس وجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنه تحت كرسيه وقال لا أسمع أحداً يقول إن الشيطان يعلم الغيب إلا ضربت عنقه، فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب، وخلف بعدهم من خلف، تمثل الشيطان على صورة إنسان فأتى نفراً من بني إسرائيل فقال أدلكم علىكنز لا تأكلونه أبداً قالوا نعم فذهب معهم فأراهم المكان الذي تحت كرسيه، فحفروا فأقام ناحية فقالوا له أدن وقال لا أحضر، فإن لم تجدوه فاقتلوني، وذلك أنه لم يكن أحد من الشياطين يدنو من الكرسي إلا احترق، فحفروا وأخرجوا تلك الكتب، فقال الشيطان لعنه اللّه إن سليمان كان يضبط الجن والإنس والشياطين والطير بهذا، ثم طار الشيطان عنهم، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً، وأخذوا تلك الكتب (واستعملوها) فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود، فلما جاء محمد صلى اللّه عليه وسلم برأ اللّه تعالى سليمان من ذلك، وأنزل في عذر سليمان { وما كفر سليمان } بالسحر،

وقيل لم يكن سليمان كافراً بالسحر ويعمل به { ولكن الشياطين كفروا } قرأ ابن عباس رضي اللّه عنه و الكسائي و حمزة ، (( لكن )) خفيفة النون، (( والشياطين )) رفع، وقرأ الآخرون ولكن مشددة النون (( والشياطين )) نصب وكذلك { ولكن اللّه قتلهم } (١٧-الأنفال) { ولكن اللّه رمى } (١٧-الأنفال) ومعنى لكن نفي الخبر الماضي وإثبات المستقبل. { يعلمون الناس } قيل معنى السحر العلم والحذق بالشيء قال اللّه تعالى { وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك } (٤٩-الزخرف) أي العالم، والصحيح أن السحر عبارة عن التمويه والتخييل، والسحر وجوده حقيقة عند أهل السنة، وعليه أكثر الأمم، ولكن العمل به كفر، حكي عن الشافعي رضي اللّه عنه أنه قال السحر يخيل ويمرض وقد يقتل، حتى أوجب القصاص على من قتل به فهو من عمل الشيطان، يتلقاه الساحر منه بتعليمه إياه، فإذا تلقاه منه استعمله في غيره،

وقيل إنه يؤثر في قلب الأعيان فيجعل الآدمي على صورة الحمار ويجعل الحمار على صورة الكلب، والأصح أن ذلك تخييل قال اللّه تعالى { يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } (٦٦-طه) لكنه يؤثر في الأبدان بالأمراض والموت والجنون، وللكلام تأثير في الطباع والنفوس وقد يسمع الإنسان ما يكره فيحمى ويغضب وربما يحم منه، وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العوارض والعلل التي تؤثر في الأبدان. قوله عز وجل { وما أنزل على الملكين ببابل } أي ويعملون الذي أنزل على الملكين [أي إلهاماً وعلماً، فالإنزال بمعنى الإلهام والتعليم،

وقيل واتبعوا ما أنزل على الملكين] وقرأ ابن عباس و الحسن الملكين بكسر اللام،

وقال ابن عباس هما رجلان ساحران كانا ببابل،

وقال الحسن  علجان لأن الملائكة لا يعلمون السحر. وبابل هي بابل العراق سميت بابل لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود أي تفرقها، قال ابن مسعود بابل أرض الكوفة،

وقيل جبل دماوند، والقراءة المعروفة على الملكين بالفتحز فإن قيل كيف يجوز تعليم السحر من الملائكة؟ قيل له تأويلان أحدهما، أنهما لا يتعمدان التعليم لكن يصفان السحر ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه، والتعليم بمعنى الإعلام، فالشقي يترك نصيحتهما ويتعلم السحر من صنعتهما. والتأويل الثاني وهو الأصح أن اللّه تعالى امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت فمن شقى يتعلم السحر منهما [ويأخذه عنهما ويعمل به] فيكفر به، ومن سعد يتركه فيبقى على الايمان، ويزداد المعلمان بالتعليم عذاباًن ففيه ابتلاء للمعلم [والمتعلم] وللّه أن يمتحن عباده بما شاء، فله الأمر والحكم. قوله عز وجل { هاروت وماروت } اسمان سريانيان وهما في محل الخفض على تفسير الملكين إلا أنهما نصبا لعجمتها ومعرفتهما، وكانت قصتهما على ذكر ابن عباس والمفسرون أن الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس عليه السلام فعيروهم

وقالوا هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض خليفة واخترتهم فهم يعصونك فقال اللّه تعالى لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لركبتم مثل ما ركبوا فقالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك قال لهم اللّه تعالى فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم،

وقال الكلبي  قال اللّه تعالى لهم اختاروا ثلاثة فاختاروا عزا وهو هاروت وعزايا وهو ماروت - غير إسمهما لما قارفا الذنب - وعزائيل، فركب اللّه فيهم الشهوة وأهبطهم إلى الأرض وأمرهم أن يحكموا بين الناس بالحق ونهاهم عن الشرك والقتل بغير الحق والزنا وشرب الخمر، فأما عزائيل فإنه لما وقعت الشهوة في قلبه استقبل ربه وسأله أن يرفعه إلى السماء، فأقاله إلى السماء، فأقاله فسجد أربعين سنة لم يرفع رأسه، ولم يزل بعد ذلك مطأطءاً رأسه حياء من اللّه تعالى. وأما الآخران فإنهما ثبتا على ذلك وكانا يقضيان بين الناس يومهما، فإذا أمسيا ذكرا اسم اللّه الأعظم وصعدا إلى السماء،

قال قتادة  فما مر عليهما شهر حتى افتتنا. قالوا جميعاً إنه اختصمت إليهما ذات يوم الزهرة وكانت من أجمل النساء،

قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وكانت من أهل فارس وكانت ملكة في بلدها فلما رأياها أخذت بقلوبهما فراواداها عن نفسها فأبت وانصرفت ثم عادت في اليوم الثاني ففعلا مثل ذلك فأبت وقالت لا إلا أن تعبدا ما أعبد وتصليا لهذا الصنم وتقتلا النفس وتشربا الخمر فقالا لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن اللّه تعالى قد نهانا عنها، فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث ومعها قدح من خمر، وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها فراواداها عن نفسها فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا الصلاة لغير اللّه عظيم، وقتل النفس عظيم، وأهون الثلاثة شرب الخمر، فشربا الخمر فانتشيا ووقعا بالمرأة، فزنيا فلما فرغا رآهما إنسان فقتلاه، قال الربيع بن أنس وسجدا للصنم فمسخ اللّه الزهرة كوكباً -

وقال بعضهم جاءتهما امرأة من أحسن الناس تخاصم زوجها فقال أحدهما للآخر هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي (من حب هذه)؟ قال نعم فقال وهل لك أن تقضي لها على زوجها بما تقول؟ فقال له صاحبه أما تعلم ماعند اللّه من العقوبة والعذاب؟

فقال له صاحبه أما تعلم ما عند اللّه من العفو والرحمة فسألاها نفسها، فقالت لا إلا أن تقتلاه فقال

أحدهما أما تعلم ما عند اللّه من العقوبة والعذاب؟

فقال صاحبه أما تعلم ما عند اللّه من العفو والرحمة فقتلاه ثم سألاها نفسها، فقالت لا، إن لي صنماً أعبده، إن أنتما صليتما معي له فعلت، فقال أحدهما لصاحبه مثل القول الأول فقال صاحبه مثله، فصليا معها له فمسخت شهاباً. قال ابن أبي طالب رضي اللّه عنه و الكلبي و السدي  إنها قالت لهما حين سألاها نفسها لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء فقالا باسم اللّه الأكبر، قالت فما أنتم تدركاني حتى تعلمانيه، فقال أحدهما لصاحبه علمها فقال إني أخاف اللّه رب العالمين، قال الآخر فأين رحمة اللّه تعالى؟ فعلماها ذلك فتكلمت، فصعدت إلى السماء فمسخها اللّه كوكباً، فذهب بعضهم إلى أنها الزهرة بعينها وأنكر الآخرون هذا

وقالوا إن الزهرة من الكواكب السبعة السيارة التي أقسم اللّه بها فقال { فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس } (١٥-التكوير) والتي فتنت هاروت وماروت امرأة كانت تسمى الزهرة لجمالها فلما بغت مسخها اللّه تعالى شهاباً، قالوا فلما أمسى هاروت وماروت بعدما قارفا الذنب هما بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما، فعلما ما حل بهما (من الغضب) فقصدا إدريس النبي عليه السلام، فأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى اللّه عز وجل وقالا له إنا رأيناك يصعد لك من العبادات مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض فاستشفع لنا، إلى ربك ففعل ذلك إدريس عليه السلام فخيرهما اللّه بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا إذ علما أنه ينقطع فهما ببابل يعذبان.

واختلفوا في كيفية عذابهما فقال عبد اللّه بن مسعود هما معلقان بشعورهما إلى قيام الساعة،

وقال عطاء بن أبي رباح  رؤوسهما مصوبة تحت أجنحتهما، وقال قتادة (كبلا) من أقداهما إلى أصول أفخاذهما،

وقال مجاهد  جعلا في جب ملئت ناراً، وقال عمر بن سعد منكوسان يضربان بسياط من الحديد. وروي أن رجلاً قصد هاروت وماروت لتعلم السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما، مزرقة أعينهما، مسودة جلودهما، ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلا أربع أصابع وهما يعذبان بالعطش، فلما رأى ذلك هاله مكانهما فقال لا إله اللّه، فلما سمعا كلامه قالا له من أنت؟ قال رجل من الناس، قالا من أي أمة أنت؟ قال من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم قالا إنه نبي الساعة وقد دنا انقضاء عذابنا.

قوله تعالى { وما يعلمان من أحد } أي أحداً، و ((من)) صلة { حتى } ينصحاه أولاً و { يقولا إنما نحن فتنة } ابتلاء ومحنة { فلا تكفر } أي لا تتعلم السحر فتعمل به فتكفر، وأصل الفتنة الاختبار والامتحان، من قولهم فتنت الذهب والفضة إذا أذبتهما بالنار، ليتميز الجيد من الرديء، وإنما وحد الفتنة وهما اثنان، لأن الفتنة مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع،

وقيل إنهما يقولان (( إنما نحن فتنة فلا تكفر )) سبع مرات. قال عطاء و السدي  فإن أبى إلا التعلم قالا له ائت هذا الرماد (وأقبل عليه) فيخرج منه نور ساطع في السماء فذلك نور المعرفة، وينزل شيء أسود شبه الدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب اللّه تعالى،

قال مجاهد  إن هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ويختلف فيما بينهما شيطان في كل مسألة اختلافة واحدة، { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } وهو أن (يؤخذ) كل واحد عن صاحبه، ويبغض كل واحد إلى صاحبه قال اللّه تعالى { وما هم } قيل أي السحرة

وقيل الشياطين { بضارين به } أي بالسحر { من أحد } أي أحداً، { إلا بإذن اللّه } أي بعلمه وتكوينه، فالساحر يسحر واللّه يكون. قال سفيان الثوري  معناه إلا بقضائه وقدرته ومشيئته، { ويتعلمون ما يضرهم } يعني أن السحر يضرهم { ولا ينفعهم، ولقد علموا } يعني اليهود { لمن اشتراه } أي اختار السحر { ما له في الآخرة من خلاق } أي في الجنة من نصيب { ولبئس ما شروا به } باعوا به { أنفسهم } حظ أنفسهم، حيث اختاروا السحر والكفر على الدين والحق { لو كانوا يعلمون } فإن قيل أليس قد قال { ولقد علموا لمن اشتراه } فما معنى

قوله تعالى { لو كانوا يعلمون } بعدما أخبر أنهم علموا؟ قيل أراد بقوله { ولقد علموا } يعني الشياطين وقوله { لو كانوا يعلمون } يعني اليهود،

وقيل كلاهما في اليهود يعني لكنهم لما يعملوا بما علموا فكأنهم لم يعلموا.

١٠٣

{ ولو أنهم آمنوا } بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآن { واتقوا } اليهودية والسحر { لمثوبة من عند اللّه خير } لكان ثواب اللّه إياهم خيراً لهم { لو كانوا يعلمون }.

١٠٤

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } وذلك أن المسلمين كانوا يقولون راعنا يا رسول اللّه، من المراعاة أي أرعنا سمعك، أي فرغ سمعك لكلامنا، يقال أرعى إلى الشيء، ورعاه، وراعاه، أي أصغى إليه واستمعه، وكانت هذه اللفظة (شيئاً) قبيحاً بلغة اليهود،

وقيل وكان معناها عندهم اسمع لا سمعت.

وقيل هي من الرعونة إذا أرادوا أن يحمقوا إنساناً قالوا له راعنا بمعنى يا أحمق‍ فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين قالوا فيما بينهم كنا نسب محمداً سراً، فأعلنوا به الآن، فكانوا يأتونه ويقولون راعنا يا محمد، ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها، وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود لئن سمعتها من أحدكم يقولها لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأضربن عنقه، فقالوا أو لستم تقولونها؟

فأنزل اللّه تعالى { لا تقولوا راعنا } كيلا يجد اليهود بذلك سبيلا إلى شتم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { وقولوا انظرنا } أي انظر إلينا

وقيل انتظرنا وتأن بنا، يقال نظرت فلاناً وانتظرته، ومنه

قوله تعالى { انظرونا نقتبس من نوركم } (١٣-الحديد)

قال مجاهد  معناها (فهمناه) { واسمعوا } ما تؤمرون به وأطيعوا { وللكافرين } يعني اليهود { عذاب أليم }.

١٠٥

قوله تعالى { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب } وذلك أن المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفاؤهم من اليهود آمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم قالوا ما هذا الذي تدعوننا إليه بخير مما نحنه فيه ولوددنا لو كان خيراً، فأنزل اللّه تكذيباً لهم { ما يود الذين } أي ما يحب ويتمنى الذين كفروا من أهل الكتاب يعني اليهود { ولا المشركين } جره بالنسق على من { أن ينزل عليكم من خير من ربكم } أي خير ونبوة، ومن صلة { واللّه يختص برحمته } بنبوته { من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم } والفضل ابتداء إحسان بلا علة.

وقيل المراد بالرحمة الإسلام والهداية

وقيل معنى الآية إن اللّه تعالى بعث الأنبياء من ولد إسحاق فلما بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم من ولد إسماعيل لم يقع ذلك بود اليهود ومحبتهم، (فنزلت الآية) وأما المشركون فإنما لم تقع بودهم لأنه جاء بتضليلهم وعيب آلهتهم.

١٠٦

قوله عز وجل { ما ننسخ من آية أو ننسها } وذلك أن المشركين قالوا إن محمداً ما يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلاف ما يقوله غلا من تلقاء نفسه يقول [ اليوم قولا ويرجع عنه غداً كما أحبر اللّه ( ١٠١- النحل ) وأنزل { ما ننسخ من آية أو ننسها } فبين وجه الحكمة من النسخ بهذه الآية . والنسخ في اللغة شيئان

أحدهما  بمعنى التحويل والنقل ومنه نسخ الكتاب وهو أن يحول من كتاب إلى كتاب فعلى هذا الوجه كل القرآن منسوخ لأنه نسخ من اللوح المحفوظ.

والثاني يكون بمعنى الرفع يقال نسخت الشمس الظل أي ذهبت به وأبطلته. فعلى هذا يكون بعض القرآن ناسخاً وبعضه منسوخاً وهو المراد من الآية وهذا على وجوه أحدهما أن يثبت الخط وينسخ الحكم مثل آية الوصية للأقارب . وآية عدة الوفاة بالحول وآية التخفيف في القتال وآية الممتحنة ونحوها ، وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما في

قوله تعالى { ما ننسخ من آية } ما نثبت خطها ونبدل حكمها مثل آية الرجم ، ومنها أن ترفع تلاوتهأصلاً عن المصحف وعن القلوب كما روي عن أبي أمامه بن سهل بن حنيف  أن قوماً من الصحابة رضي اللّه عنهم قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم اللّه الرحمن الرحيم فغدوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبروه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { تلك سورة رفعت تلاوتها وأحكامها }

وقيل  كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة ، فرفع أكثرها تلاوة وحكماً ، ثم من نسخ الحكم ما يرفع ويقام غيره مقامه، كما أن القبلة نسخت من بيت المقدس إلى الكعبة ، والوصية للأقارب نسخت بالميراث وعدة الوفاة نسخت من الحول إلى أربعة أشهر وعشر ، ومصابرة الواحدة العشر في القتال نسخت بمصابرة الاثنين ، ومنها ما يرفع ولا يقام غيره مقامه ، كامتحان النساء . والنسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي دون الأخبار. وأما معنى الآية فقوله { ما ننسخ من آية } قراءة العامة بفتح النون وكسر السين من النسخ ، أي نرفعها ، وقرأ ابن عامر بضم النون وكسر السين من الإنساخ وله وجهان  

أحدهما  ان نجعله كالمنسوخ .

والثاني  أن نجعله نسخة له [ يقال  نسخت الكتاب أي كتبته، و أنسخه غيري إذا جعلته نسخة له ] { أو ننسها } أي ننسها على قلبك. وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما ، نتركها لا ننسخها، قال اللّه تعالى{ نسوا اللّه فنسيهم} (٦٧- التوبة) أي تركوه فتركهم

وقيل { ننسها } أي  نأمر بتركها ، يقال  أنسيت الشيء إذا أمرت بتركه، فيكون النسخ الأول من رفع الحكم واقامة غيره مقامه، والإنساء يكون ناسخاً من غير اقامة غيره مقامه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أو ننسأها بفتح النون الأول والسين مهموزاً أي نؤخرها فلا نبدلها يقال نسأ اللّه في أجله وأنسأ اللّه أجله، وفي معناه قولاه

أحدهما  نرفع تلاوتها ونؤخر حكمها كما فعل في آية الرجم فعلى هذا يكون النسخ الأول بمعنى رفع التلاوة والحكم ،

والقول الثاني  قال سعيد بن المسيب و عطاء  أما ما نسخ من آية فهو ما قد نزل من القرآن جعلاه من النسحة أو ننسأها أي نؤخرها ونتركها في اللوح المحفوظ ولا تنزل. { نأت بخير منها } أي بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم، لا أن آية خير من آية، لأن كلام اللّه واحد وكله خير { أو مثلها } في المنفعة والثواب فكل ما نسخ إلى الأيسر فهو أسهل في العمل وما نسخ إلى الأشق فهو في الثواب أكثر { ألم تعلم أن اللّه على كل شيء قدير }؟ من النسخ والتبديل، لفظه استفهام، ومعناه تقرير، أي إنك تعلم.

١٠٧

{ ألم تعلم أن اللّه له ملك السموات والأرض وما لكم } يا معشر الكفار عند نزول العذاب { من دون اللّه } مما سوى اللّه { من ولي } قريب وصديق

وقيل من وال وهو القيم بالأمور { ولا نصير } ناصر يمنعكم من العذاب.

١٠٨

قوله { أم تريدون أن تسألوا رسولكم } نزلت في اليهود حين قالوا يا محمد ائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة فقال اللّه تعالى { أم تريدون } يعني أتريدون فالميم صلة

وقيل بل تريدون أن تسألوا رسولكم محمداً صلى اللّه عليه وسلم { كما سئل موسى من قبل } سأله قومه أرنا اللّه جهرة

وقيل إنهم سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا لن نؤمن لك حتى تأتي باللّه والملائكة قبيلا، كما أن موسى سأله قومه فقالوا أرنا اللّه جهرة، ففيه منعهم عن السؤالات المقبوحة بعد ظهور الدلائل والبراهين { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } يستبدل الكفر بالإيمان { فقد ضل سواء السبيل } أخطأ وسط الطريق

وقيل قصد السبيل.

١٠٩

قوله تعالى { ود كثير من أهل الكتاب } الآية نزلت في نفر من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد لو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم فقال لهم عمار كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا شديد، قال شديد، قال فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ما عشت. فقالت اليهود أما هذا فقد صبأ وقال حذيفة أما أنا فقد رضيت باللّه رباً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخواناً، ثم أتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبراه بذلك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { قد أصبتما الخير وأفلحتما }

فأنزل اللّه تعالى { ود كثير من أهل الكتاب } أي تمنى وأراد كثير من أهل الكتاب من اليهود { لو يردونكم } يا معشر المؤمنين { من بعد إيمانكم كفاراً حسداً } نصب على المصدر، أي يحسدونكم حسداً { من عند أنفسهم } أي من تلقاء أنفسهم ولم يأمرهم اللّه بذلك، { من بعد ما تبين لهم الحق } في التوراة أن قول محمد صلى اللّه عليه وسلم صدق ودينه حق { فاعفوا } فاتركوا { واصفحوا } وتجاوزوا، فالعفو المحو، والصفح الاعراض، وكان هذا قبل آية القتال { حتى يأتي اللّه بأمره } بعذابه القتل والسبي لبني قريظة، والجلاء والنفي لبني النضير، قاله ابن عباس رضي اللّه عنهما. و

قال قتادة  هو أمره بقتالهم في قوله { قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر } إلى قوله {وهم صاغرون } (٢٩-التوبة) وقال ابن كيسان  بعلمه وحكمه فيهم حكم لبعضهم بالإسلام ولبعضهم بالقتل والسبي والجزية { إن اللّه على كل شيء قدير }.

١١٠

{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا } (تسلفوا) { لأنفسكم من خير } طاعة وعمل صالح { تجدوه عند اللّه }

وقيل أراد بالخير المال ك

قوله تعالى { إن ترك خيراً } (١٨٠-البقرة) وأراد من زكاة وصدقه { تجدوه عند اللّه } حتى الثمرة واللقمة مثل أحد { إن اللّه بما تعملون بصير }.

١١١

قوله { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً } أي يهودياً ، قال الفراء  حذف الياء الزائدة ورجع إلى الفعل من اليهودية ،

وقال الأخفش  الهود  جمع هائد ، مثل عائد وعود ، وحائل وحول ، { أو نصارى } وذلك أن اليهود قالوا  لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً ولا دين إلا دين اليهودية ، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً ولا دين إلا دين النصرانية .

وقيل  نزلت في وفد نجران وكانوا نصارى اجتمعوا في مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع اليهود فكذب بعضهم ،

قال اللّه تعالى  { تلك أمانيهم } أي شهواتهم الباطلة التي تمنوها على اللّه بغير الحق { قل } يامحمد { هاتوا } أصله آتوا { برهانكم } حجتكم على ما زعمتم { إن كنتم صادقين }

١١٢

ثم قال رداً عليهم { بلى من أسلم وجهه } أي ليس الامر كما قالوا ، بل الحكم للإسلام وإنما يدخل الجنة من أسلم وجهه { للّه } أي اخلص دينه للّه

وقيل  أخلص عبادته للّه

وقيل  خضع وتواضع للّه ، وأصل الإسلام  الإستسلام والخضوع ، وخص الوجه لأنه إذا جاد بوجهه في السجود لم يبخل بسائر جوارحه { وهو محسن } في عمله ،

وقيل  مؤمن

وقيل  مخلص { فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } .

١١٣

وقوله { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء } نزلت في يهود المدينة ونصارى أهل نجران وذلك أن وفد اهل نجران لما قدموا على النبي صلى اللّه عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود  فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت لهم اليهود ، ما أنتم على شئ من الدين ، وكفروا بعيسى والإنجيل ، وقالت لهم النصارى ، ما أنتم على شئ من الدين ، وكفروا بموسى والتوراة

فانزل اللّه تعالى { وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب } وكلا الفريقين يقرأون الكتاب قيل  معناه ليس في كتبهم هذا الإختلاف فدل تلاوتهم الكتاب ومخالفتهم ما فيه على كونهم على الباطل { كذلك قال الذين لا يعلمون } يعني  آباءهم الذين مضوا { مثل قولهم }

قال مجاهد  يعني  عوام النصارى ، و

قال مقاتل  يعني مشركي العرب ، كذلك قالوا في نبيهم محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه  إنهم ليسوا على شيء من الدين .

وقال عطاء  امم كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام قالوا لنبيهم  إنه ليس على شيء { فاللّه يحكم بينهم يوم القيامة } يقضي بين الحق والمبطل { فيما كانوا فيه يختلفون } من الدين .

١١٤

قوله { ومن أظلم ممن منع مساجد اللّه أن يذكر } الآية نزلت في طيطوس بن اسبيسبانوس الرومي وأصحابه، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا ذراريهم، وحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير، فكان خراباً إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه. وقال قتادة و السدي  هو بختنصر وأصحابه غزوا اليهود وخربوا بيت المقدس وأعانهم على ذلك النصارى، طيطوس الرومي وأصحابه من أهل الروم،

قال السدي  من أجل أنهم قتلوا يحيى بن زكريا، و

قال قتادة  حملهم بعض اليهود على معاونة بختنصر البابلي (المجوسي) فأنزل اللاه تعالى (ومن أظلم) أي أكفر وأعتى { ممن منع مساجد اللّه } يعني بيت المقدس ومحاريبه. { أن يذكر فيها اسمه وسعى } عمل { في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين } وذلك أن بيت المقدس موضع حج النصارى ومحل زيارتهم، وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما لم يدخلها يعني بيت المقدس بعد عمارتها رومي إلا خائفاً لو علم به لقتل.

وقال قتادة و مقاتل  لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكر لو قدر عليه لعوقب،

قال السدي  أخيفوا بالجزية.

وقيل هذا خبر بمعنى الأمر، أي أجهضوهم بالجهاد حتى لا يدخلها أحد (منهم) إلا خائفاً من القتل والسبي أي ما ينبغي { لهم في الدنيا خزي } عذاب وهوان،

قال قتادة  هو القتل للحربي والجزية للذمي، قال مقاتل و الكلبي تفتح مدائنهم الثلاثة قسطنطينية، ورومية، وعمورية، { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } وهو النار، وقال عطاء وعبد الرحمن بن زيد نزلت في مشركي مكة، وأراد بالمساجد المسجد الحرام منعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه من حجه والصلاة فيه عام الحديبية، وإذا منعوا من أن يعمره بذكر فقد سعوا في خرابه { أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين } يعني أهل مكة يقول أفتحها عليكم حتى تدخلوها وتكونوا أولى بها منهم، ففتحها عليهم وأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم منادياً ينادي (( ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك )) فهذا خوفهم، وثبت في الشرع أن لا يمكن مشرك من دخول الحرم، { لهم في الدنيا خزي } الذل والهوان والقتل والسبي والنفي.

١١٥

قوله عز وجل { وللّه المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه اللّه } قال ابن عباس رضي اللّه عنهما خرج نفر من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفر قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة، فتحروا القبلة وصلوا فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا وأنهم مخطئون في تحريهم فلما قدموا سألوا رسول اللّه عن ذلك فنزلت هذه الآية. وقال عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما نزلت في المسافر يصلي التطوع حيث ما توجهت به راحلته.

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أنا زاهر بن أحمد الفقيه السرخسي أنا أبو اسحاق ابراهيم ابن عبد الصمد الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد اللّه بن دينار عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما قال (( كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلي على راحلته في السفر حيث ما توجهت به)). قال عكرمة  نزلت في تحويل القبلة،

قال أبو العالية  لما صرفت القبلة إلى الكعبة عيرت اليهود المؤمنين وقالوا ليست لهم قبلة معلومة فتارة يستقبلون هكذا وتارة هكذا،

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وقال مجاهد و الحسن  لما نزلت { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } (٦٠-غافر) قالوا أين ندعوه فأنزل اللّه عز وجل { وللّه المشرق والمغرب } ملكاً وخلقاً { فأينما تولوا فثم وجه اللّه } يعني أينما تحولوا وجوهكم فثم أي هناك (رحمة) اللّه، قال الكلبي فثم اللّه يعلم ويرى والوجه صلة ك

قوله تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } (٨٨-القصص) أي إلا هو، وقال الحسن و مجاهد و قتادة و مقاتل بن حبان  فثم قبلة اللّه، والوجه والوجهة والجهة القبلة،

وقيل رضا اللّه تعالى. { إن اللّه واسع } أي غني يعطي في السعة، قال الفراء  الواسع الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء،

قال الكلبي  واسع المغفرة { عليم } بنياتهم حيثما صلوا ودعوا.

١١٦

قوله تعالى { وقالوا اتخذ اللّه ولداً } قرأ ابن عامر قالوا اتخذ اللّه بغير واو، وقرأ الآخرون بالواو [وقالوا اتخذ اللّه ولداً] نزلت في يهود المدينة حيث قالوا { عزير ابن اللّه } وفي نصارى نجران حيث قالوا { المسيح ابن اللّه }، وفي مشركي العرب حيث قالوا الملائكة بنات اللّه { سبحانه } نزه وعظم نفسه.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن اسماعيل أنا أبو اليمان أنما شعيب عن عبد الرحمن بن أبي حسن عن نافع بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { قال اللّه تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً }.

قوله تعالى { بل له ما في السموات والأرض } عبيداً وملكاً { كل له قانتون } قال مجاهد و عطاء و السدي  مطيعون وقال عكرمة و مقاتل  مقرون له بالعبودية، وقال ابن كيسان  قائمون بالشهادة، وأصل القنوت القيام قال النبي صلى اللّه عليه وسلم { أفضل الصلاة طول القنوت }،

واختلفوا في حكم الآية فذهب جماعة إلى أن حكم الآية خاص، و

قال مقاتل  هو راجع 'لى عزير والمسيح والملائكة، وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال هو راجع إلى أهل طاعته دون سائر الناس، وذهب جماعة إلى أن حكم الآية عام في جميع الخلق لأن ((كل)) تقتضي الإحاطة بالشيء بحيث لا يشذ منه شيء، ثم سلكوا في الكفار طريقين ف

قال مجاهد  يسجد ظلالهم للّه على كره منهم قال اللّه تعالى { وظلالهم بالغدو والآصال } (١٥-الرعد) و

قال السدي  هذا يوم القيامة دليله [{ وعنت الوجوه للحي القيوم } (١١١-طه)

وقيل (قانتون) مذللون مسخرون لما خلقوا له].

١١٧

قوله تعالى { بديع السموات والأرض } أي مبدعها ومنشئها من غير مثال سبق { وإذا قضى أمراً } أي قدره،

وقيل أحكمه وقدره [وأتقنه، وأصل القضاء الفراغ، ومنه قيل لمن مات قضي عليه لفراغه من الدنيا، ومنه قضاء اللّه وقدره] لأنه فرغ منه تقديراً وتدبيراً. { فإنما يقول له كن فيكون } قرأ ابن عامر كن فيكون بنصب النون في جميع المواضع إلا في آل عمران { كن فيكون * الحق من ربك } وفي سورة الأنعام { كن فيكون، قوله الحق } وإنما نصبها لأن جواب الأمر بالفاء يكون منصوباً [وافقه الكسائي في النحل ويس]، وقرأ الآخرون بالرفع على معنى فهو يكون، فإن قيل كيف قال (فإنما يقول له كن فيكون) والمعدوم لا يخاطب، قال ابن الأنباري  معناه فإنما يقول له أي لأجل تكوينه، فعلى هذا ذهب معنى الخطاب،

وقيل هو وإن كان معدوماً ولكنه لما قدر وجوده وهو كائن لا محالة كان كالموجود فصح الخطاب.

١١٨

قوله تعالى { وقال الذين لا يعلمون } قال ابن عباس رضي اللّه عنهما اليهود،

وقال مجاهد  النصارى، و

قال قتادة  مشركو العرب { لولا } هلا { يكلمنا اللّه } عياناً بأنك رسوله وكل ما في القرآن (( لولا )) فهو بمعنى هلا، إلا واحداً، وهو قوله { فلولا أنه كان من المسبحين } (١٤٣-الصافات) معناه فلو لم يكن { أو تأتينا آية } دلالة وعلامة على صدقك في ادعائك النبوة. قال اللّه تعالى { كذلك قال الذين من قبلهم } أي كفار الأمم الخالية { مثل قولهم، تشابهت قلوبهم } أي أشبه بعضها بعضاً في الكفر والقسوة وطلب المحال { قد بينا الآيات لقوم يوقنون }.

١١٩

{ إنا أرسلناك بالحق } أي بالصدق كقوله { ويستنبئونك أحق هو؟ } (٥٣-يونس) أي صدق، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما بالقرآن دليله { بل كذبوا بالحق لما جاءهم } (٥-ق) وقال ابن كيسان  بالإسلام وشرائعه، دليله قوله عز وجل { وقل جاء الحق } (٨١-الإسراء) و

قال مقاتل  معناه لم نرسلك عبثاً، وإنما أرسلناك بالحق كما قال { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } (٨٥-الحجر). قوله عز وجل { بشيراً } أي مبشراً لأوليائي وأهل طاعتي بالثواب الكريم { ونذيراً } أي منذراً مخوفاً لأعدائي وأهل معصيتي بالعذاب الأليم، قرأ نافع و يعقوب { ولا تسأل } على النهي قال عطاء عن ابن عباس رضي اللّه عنهما وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ذات يوم { ليت شعري ما فعل أبواي } فنزلت هذه الآية،

وقيل هو على معنى ولا تسأل عن شر فلان فإنه فوق ما تحسب وليس على النهي، وقرأ الآخرون (( ولا تسأل )) بالرفع على النفي بمعنى ولست بمسؤول عنهم كما قال اللّه تعالى { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } (٢٠-آل عمران)، { عن أصحاب الجحيم } والجحيم معظم النار.

١٢٠

قوله عز وجل { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، قل إن هدى اللّه هو الهدى } وذلك أنهم كانوا يسألون النبي صلى اللّه عليه وسلم الهدنة ويطمعونه في أنه إن أمهلهم اتبعوه

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، معناه وإنك إن هادنتهم فلا يرضون بها وإنما يطلبون ذلك تعللا ولا يرضون منك إلا باتباع ملتهم، وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما هذا في القبلة وذلك أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون النبي صلى اللّه عليه وسلم حين كان يصلي إلى قبلتهم فلما صرف اللّه القبلة إلى الكعبة آيسوا في أن يوافقهم على دينهم

فأنزل اللّه تعالى { ولن ترضى عنك اليهود } إلا باليهودية { ولا النصارى } إلا بالنصرانية والملة الطريقة { ولئن اتبعت أهواءهم } قيل الخطاب مع النبي صلى اللّه عليه وسلم والمراد به الأمة كقوله { لئن أشركت ليحبطن عملك } (٦٥-الزمر) { بعد الذي جاءك من العلم } البيان بأن دين اللّه هو الإسلام والقبلة قبلة إبراهيم عليه السلام وهي الكعبة { ما لك من اللّه من ولي ولا نصير }.

١٢١

{ الذين آتيناهم الكتاب } قال ابن عباس رضي اللّه عنهما نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه وكانوا أربعين رجلاً اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا،

وقال الضحاك  هم من آمن من اليهود عبد اللّه بن سلام وسعية بن عمرو وتمام بن يهودا وأسد وأسيد ابنا كعب وابن يامين وعبد اللّه بن صوريا، وقال قتادة و عكرمة  هم أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم

وقيل هم المؤمنون عامة { يتلونه حق تلاوته }

قال الكلبي  يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألهم من الناس، والهاء راجعة إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم، وقال الآخرون هي عائدة إلى الكتاب،

واختلفوا في معناه فقال ابن مسعود رضي اللّه عنه يقرؤونه كما أنزل ولا يحرفونه، ويحلون حلاله ويحرمون حرامه،

وقال الحسن  يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون علم ما أشكل عليهم إلى عالمه،

وقال مجاهد  يتبعونه حق اتباعه. قوله { أولئك يؤمنون به، ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون }.

١٢٢

{ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين }

١٢٣

{ واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون }.

١٢٤

قوله تعالى { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن } قرأ ابن عامر إبراهام بالألف في أكثر المواضع وهو اسم أعجمي ولذلك لا يجر وهو إبراهيم بن تارخ بن ناخور وكان مولده بالسوس من أرض الأهواز

وقيل بابل

وقيل كوفي،

وقيل [لشكر]،

وقيل حران، وكان أبوه نقله إلى أرض بابل أرض نمرود ابن كنعان، ومعنى الابتلاء الاختبار والامتحان والأمر، وابتلاء اللّه العباد ليس ليعلم أحوالهم بالابتلاء، لأنه عالم بهم، ولكن ليعلم العباد أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضاً.

واختلفوا في الكلمات التي ابتلى اللّه بها إبراهيم عليه السلام، فقال عكرمة  وابن عباس رضي اللّه عنهما هي ثلاثون سماهن شرائع الإسلام، ولم يبتل بها أحد فأقامها كلها إلا إبراهيم فكتب له البراءة، فقال تعال { وإبراهيم الذي وفى } (٣٧-النجم) عشر في براءة (( التائبون العابدون )) إلى آخرها، وعشر في الأحزاب { إن المسلمين والمسلمات }، وعشر في سورة المؤمنين في قوله { قد أفلح المؤمنون } الآيات، وقوله { إلا المصلين } في سأل سائل. وقال طاووس عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ابتلاه اللّه بعشرة أشياء وهي الفطرة خمس في الرأس قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وخمس في الجسد تقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء بالماء. وفي الخبر (( أن إبراهيم عليه السلام أول من قص الشارب، وأول من اختتن، وأول من قلم الأظافر، وأول من رأى الشيب،ن فلما رآه قال يا رب ما هذا؟ قال [سمة] الوقار، قال يارب زدني وقاراً ))

قال مجاهد  هي الآيات التي بعدها في قوله عز وجل { إني جاعلك للناس إماماً } (١٢٤-البقرة) إلى آخر القصة، وقال الربيع و قتادة  مناسك الحج،

وقال الحسن  ابتلاه اللّه بسبعة أشياء بالكواكب والقمر والشمس، فأحسن فيها النظر وعلم أن ربه دائم لا يزول، وبالنار فصبر عليها، وبالهجرة وبذبح ابنه وبالختان فصبر عليها، قال سعيد بن جبير  هو قول إبراهيم وإسماعيل إذ يرفعان البيت { ربنا تقبل منا } (١٢٧-البقرة) الآية فرفعاها بسبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه [واللّه أكبر]، قال يمان بن رباب  هن محاجة قومه قال اللّه تعالى { وحاجه قومه } إلى

قوله تعالى - { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم } (٨٣-الأنعام)

وقيل هي قوله { الذي خلقني فهو يهدين } (٧٨-الشعراء) إلى آخر الآيات. { فأتمهن }

قال قتادة  أداهن، قال الضحاك  قام بهن وقال [نعمان] عمل بهن. قال اللّه تعالى { قال إني جاعلك للناس إماماً } يقتدى بك في الخير { قال } إبراهيم { ومن ذريتي } أي ومن أولادي أيضاً فاجعل منهم أئمة يقتدى بهم في الخير { قال } اللّه تعالى { لا ينال } لا يصيب { عهدي الظالمين } قرأ حمزة و حفص بإسكان الياء والباقون بفتحها أي من كان منهم ظالماً لا يصيبه، قال عطاء بن أبي رباح  عهدي رحمتي، و

قال السدي  نبوتي،

وقيل الإمامة،

قال مجاهد  ليس لظالم أن يطاع في ظلمه. ومعنى الآية لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالماً من ولدك،

وقيل أراد بالعهد الأمان من النار، وبالظالم المشرك ك

قوله تعالى { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن } (٨٢-الأنعام).

١٢٥

قال اللّه تعالى { وإذ جعلنا البيت } يعني الكعبة { مثابة للناس } مرجعاً لهم، قال مجاهد و سعيد بن جبير  يأتون إليه من كل جانب ويحجون، وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما معاذاً وملجأ وقال قتادة و عكرمة  مجمعاً { وأمنا } أي مأمناً يأمنون فيه من إيذاء المشركين، فإنهم ما كانوا يتعرضون لأهل مكة ويقولون هم أهل اللّه ويتعرضون لمن حوله كما قال اللّه تعال { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم } (٦٧-العنكبوت).

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن اسماعيل أنا علي بن عبد اللّه أنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاووس عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة { إن هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه فقال العباس يا رسول اللّه إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا الإذخر }.

قوله تعالى { واتخذوا } قرأ نافع و ابن عامر بفتح الخاء على الخبر، وقرأ الباقون بكسر الخاء على الأمر { من مقام إبراهيم مصلى } قال ابن يمان  المسجد كله مقام إبراهيم، وقال إبراهيم النخعي  الحرم كله مقام إبراهيم،

وقيل أراد بمقام إبراهيم جميع مشاهد الحج، مثل عرفة ومزدلفة وسائر المشاهد.

والصحيح أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي في المسجد يصلي إليه الأئمة، وذلك الحجر الذي قام عليه إبراهيك عليه السلام عند بناء البيت،

وقيل كان أثر أصابع رجليه بيناً فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، قال قتادة و مقاتل و السدي  أمروا بالصلاة عند مقام إبراهيم ولم يؤمروا بمسحه وتقبيله.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن اسماعيل أنا مسدد عن يحيى بن حميد عن أنس قال قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه وافقت اللّه في ثلاث - أو وافقني ربي في ثلاث - قلت يا رسول اللّه لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى؟

فأنزل اللّه تعالى { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وقلت يا رسول اللّه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل اللّه عز وجل آية الحجاب، قال وبلغني معاتبة النبي صلى اللّه عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت لهن إن انتهيتن، أو ليبدلنه اللّه خيراً منكن،

فأنزل اللّه تعالى { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن } (٥-التحريم).

ورواه محمد بن اسماعيل أيضاً عن عمرو بن عوف أنا هشيم عن حميد عن أنس رضي اللّه عنه قال قال عمر رضي اللّه عنه وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }. وأما بدء قصة المقام فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال لما أتى إبراهيم عليه السلام بإسماعيل وهاجر ووضعهما بمكة، وأتت على ذلك مدة، ونزلها الجرهميون وتزوج إسماعيل منهم امرأة وماتت هاجر، واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل فقدم إبراهيم مكة، وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته أين صاحبك؟ قالت ذهب للصيد وكان إسماعيل عليه السلام يخرج من الحرم فيصيد، فقال لها إبراهيم هل عندك ضيافة؟ قالت ليس عندي ضيافة، وسألها عن عيشهم؟ فقالت نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه فقال لها إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، فذهب إبراهيم فجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه فقال [لامرأته هل جاءك أحد؟ قالت جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخفة بشأنه قال] فما قال لك؟ قالت قال أقرئي زوجك السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، قال ذلك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث إبراهيم ما شاء اللّه أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيم عليه السلام حتى انتهى إلى باب إسماعيل فقال لامرأته أين صاحبك؟ قالت ذهب يتصيد وهو يجىء الآن إن شاء اللّه فانزل يرحمك اللّه، قال هل عندك ضيافة؟ قالت نعم فجاءت باللبن واللحم، وسألها عن عيشهم؟ فقالت نحن بخير وسعة، فدعا لهما بالبركة ولو جاءت يومئذ بخبز بر أو شعير وتمر لكانت أكثر أرض اللّه براً أو شعيراً أو تمراً، فقالت له انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولت إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدميه عليه، فقال لها إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له قد استقامت عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل، وجد ريح أبيه فقال لامرأته هل جاءك أحد؟ قالت نعم شيخ أحسن الناس وجهاً وأطيبهم ريحاً، وقال لي كذا وكذا وقلت له كذا وكذا، وغسلت رأسه وهذا موضع قدميه فقال ذاك إبراهيم النبي أبي، وأنت العتبة أمرني أن أمسكك.

وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال ثم لبث عنهم ما شاء اللّه ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً تحت دومة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد ثم قال يا إسماعيل إن اللّه تعالى أمرني بأمر تعينني عليه؟ قال أعينك قال إن اللّه أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام إبراهيم على حجر المقام وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) وفي الخبر (( الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة ولولا ماسته أيدي المشركين لأضاء ما بين المشرق والمغرب )).

قوله عز وجل { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } أي أمرناهما وأوحينا إليهما، قيل سمي إسماعيل لأن إبراهيم كان يدعو اللّه أن يرزقه ولداً ويقول إسمع يا إيل وإيل هو اللّه فلما رزق سماه اللّه به { أن طهرا بيتي } يعنى الكعبة أضافه إليه تخصيصاً وتفضيلاً أي ابنياه على الطهارة والتوحيد، وقال سعيد بن جبير و عطاء  طهراه من الأوثان والريب وقول الزور،

وقيل بخراه وخلقاه، قرأ أهل المدينة وحفص (بيتي) بفتح الياء هاهنا وفي سورة الحج، وزاد حفص في سورة نوح { للطائفين } الدائرين حوله { والعاكفين } المقيمين المجاورين { والركع } جمع راكع { السجود } جمع ساجد وهم المصلون قال الكلبي و مقاتل  الطائفين هم الغرباء والعاكفين أهل مكة، قال عطاء و مجاهد و عكرمة  الطواف للغرباء أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل.

١٢٦

قوله تعالى { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا } يعني مكة

وقيل الحرم { بلداً آمناً } أي ذا أمن يأمن فيه أهله { وارزق أهله من الثمرات } إنما دعا بذلك لأنه كان بواد غير ذي زرع، وفي القصص أن الطائف كانت من مداين الشام بأردن فلما دعا إبراهيم عليه السلام هذا الدعاء أمر اللّه تعالى جبريل عليه السلام حتى قلعها من أصلها وأدارها حول البيت سبعاً ثم وضعها موضعها الذي هي الآن فيه، فمنها أكثر ثمرات مكة { من آمن منهم باللّه واليوم الآخر } دعاء للمؤمنين خاصة { قال } اللّه تعالى { ومن كفر فأمتعه قليلاً } قرأ ابن عامر فأمتعه خفيفاً بضم الهمزة والباقون مشدداً ومعناهما واحد قليلاً أي سأرزق الكافر أيضاً قليلاً إلى منتهى أجله وذلك أن اللّه تعالى وعد الرزق للخلق كافة مؤمنهم وكافرهم، وإنما قيده بالقلة لأن متاع الدنيا قليل { ثم أضطره } أي ألجئه في الآخرة { إلى عذاب النار، وبئس المصير } أي المرجع يصير إليه

قال مجاهد  وجد عند المقام كتاب فيه أن اللّه ذو بكة صنعتها يوم خلقت الشمس والقمر، وحرمتها يوم خلقت السموات والأرض، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، مبارك لها في اللحم والماء.

١٢٧

قوله عز وجل { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } قال الرواة إن اللّه تعالى خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام، وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها فلما أهبط اللّه آ دم عليه السلام إلى الأرض استوحش، فشكا إلى اللّه تعالى فأنزل اللّه البيت المعمور من ياقوته من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر، باب شرقي وباب غربي فوضعه على موضع البيت وقال يا آدم إني أهبط لك بيتاً تطوف به كما يطاف حول عرشي، تصلي عنده كما يصلي عند عرشي وأنزل الحجر وكان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشياً وقيض اللّه ملكاً يدله على البيت فحج البيت وأقام المناسك، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أيام الطوفان، فرفعه اللّه تعالى إلى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، وبعث جبريل عليه السلام حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق، فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم، ثم إن اللّه تعالى أمر إبراهيم بعدما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيت يذكر فيه، فسأل اللّه عز وجل أن يبين له موضعه، فبعث اللّه السكينة لتدله على موضع البيت، وهي ريح خجوج لها رأسان شبه الحية فأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فتبعها إبراهيم حتى أتيا مكة فتطورت السكينة على موضع البيت كتطوي الحجفة هذا قول علي والحسن.

وقال ابن عباس بعث اللّه تعالى سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وافق مكة ووقفت على موضع البيت فنودي منها إبراهيم أن ابن على ظلها لا تزد ولا تنقص،

وقيل أرسل اللّه جبريل ليدله على موضع البيت ك

قوله تعالى { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت } فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت فكان إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجر، فذلك

قوله تعالى { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } يعني أسسه واحدتها قاعدة.

وقال الكسائي  جدر البيت،

وقال ابن عباس إنما بني البيت من خمسة أجبل، طور سيناء وطور زيتا ولبنان وهو جبل بالشام، والجودي وهو جبل بالجزيرة وبنيا قواعده من حراء وهو جبل بمكة فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل ائتني بحجر حسن يكون للناس علماً فأتاه بحجر فقال ائتني بأحسن من هذا فمضى إسماعيل يطلبه فصاح أبو قبيس يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها، فأخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه

وقيل إن اللّه تعالى بنى في السماء بيتاً وهو البيت المعمور ويسمى الضراح وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره ومثاله،

وقيل أول من بنى الكعبة آدم واندرس في زمن الطوفان ثم أظهره اللّه لإبراهيم حتى بناه. قوله { ربنا تقبل منا } فيه إضمار أي ويقولان ربنا تقبل منا بناءنا { إنك أنت السميع } لدعائنا { العليم } بنياتنا.

١٢٨

{ ربنا واجعلنا مسلمين لك } موحدين مطيعين مخلصين خاضعين لك. { ومن ذريتنا } أي أولادنا { أمة } جماعة والأمة أتباع الأنبياء { مسلمة لك } خاضعة لك. { وأرنا } علمنا وعرفنا، قرأ ابن كثير ساكنة الراء و أبو عمرو بالاختلاس والباقون بكسرها ووافق ابن عامر و أبو بكر في الاسكان في حم السجدة، وأصله أرئنا فحذفت الهمزة طلباً للخفة ونقلت حركتها إلى الراء ومن سكنها قال ذهبت الهمزة فذهبت حركتها، { مناسكنا } شرائع ديننا وألام حجنا.

وقيل مواضع حجنا،

وقال مجاهد  مذابحنا والنسك الذبيحة،

وقيل متعبداتنا، وأصل النسك العبادة، والناسك العابد فأجاب اللّه تعالى دعاءهما فبعث جبريل فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغ عرفات قال عرفت يا إبراهيم؟ قال نعم فسمى الوقت عرفة والموضع عرفات. { وتب علينا } تجاوز عنا { إنك أنت التواب الرحيم }.

١٢٩

{ ربنا وابعث فيهم } أي في الأمة المسلمة من ذرية إبراهيم وإسماعيل

وقيل من أهل مكة { رسولاً منهم } أي مرسلاً أراد به محمداً صلى اللّه عليه وسلم. حدثنا السيد أبو القاسم علي بن موسى الموسوي حدثنى أبو بكر أحمد بن محمد بن عباس البلخي أنا الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي أنا محمد بن المكي أنا إسحاق بن إبراهيم أنا ابن أخي ابن وهب أنا عمي أنا معاوية عن صالح عن سعيد بن سويد عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { إني عند اللّه مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم بأول أمري، أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام }.

وأراد بدعوة إبراهيم هذا فإنه دعا أن يبعث في بني إسماعيل رسولاً منهم، قال ابن عباس كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وإسماعيل واسحاق ويعقوب ومحمد صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين. { يتلو } يقرأ { عليهم آياتك } كتابك يعني القرآن والآية من القرآن كلام متصل إلى انقطاعه

وقيل هي جماعة حروف يقال خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم { ويعلمهم الكتاب } يعني القرآن { والحكمة }

قال مجاهد  فهم القرآن، و

قال مقاتل  مواعظ القرآن وما فيه من الأحكام، قال ابن قتيبية هي العلم والعمل، ولا يكون الرجل حكيماً حتى يجمعهما،

وقيل هي السنة،

وقيل هي الأحكام والقضاء،

وقيل الحكمة الفقه. قال أبو بكر بن دريد  كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة. { ويزكيهم } أي يطهرهم من الشرك والذنوب،

وقيل يأخذ الزكاة من أموالهم،

وقال ابن كيسان  يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا للأنبياء بالبلاغ من التزكية، وهي التعديل { إنك أنت العزيز الحكيم } قال ابن عباس العزيز الذي لا يوجد مثله،

وقال الكلبي  المنتقم بيانه

قوله تعالى { واللّه عزيز ذو انتقام }(٤-آل عمران)

وقيل المنيع الذي لا تناله الأيدي ولا يصل إليه شيء

وقيل القوي، والعزة القوة قال اللّه تعالى { فعززنا بثالث } (١٤-يس) أي قوينا

وقيل الغالب قال اللّه تعالى إخباراً { وعزني في الخطاب } (٢٣-ص) أي غلبني، ويقال في المثل (( من عز بز )) أي من غلب سلب.

١٣٠

قوله تعالى { ومن يرغب عن ملة إبراهيم } وذلك أن عبد اللّه بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما قد علمتما أن اللّه عز وجل قال في التوراة إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فأنزل اللّه عز وجل { من يرغب عن ملة إبراهيم } أي يترك دينه وشريعته يقال رغب في الشيء إذا أراده، ورغب عنه إذا تركه.

وقوله { من } لفظه استفهام معناه التقريع والتوبيخ يعني ما يرغب عن ملة إبراهيم { إلا من سفه نفسه } قال ابن عباس من خسر نفسه،

وقال الكلبي  ضل من قبل نفسه، وقال أبو عبيدة أهلك نفسه، وقال ابن كيسان و الزجاج  معناه جهل نفسه والسفاهة الجهل وضعف الرأي وكل سفيه جاهل، وذلك أن من عبد غيراللّه فقد جهل نفسه. لأنه لم يعرف أن اللّه خلقها، وقد جاء (( من عرف نفسه عرف ربه )

وفي الأخبار  (( إن اللّه تعالى أوحى إلأى داود اعرف نفسك واعرفني، فقال يارب كيف أعرف نفسي؟ وكيف أعرفك؟ فأوحى اللّه تعالى اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء، واعرفني بالقوة والقدرة والبقاء )).

وقال الأخفش  معناه سفه في نفسه، ونفسه على هذا القول نصب بنزع حرف الصفة وقال الفراء نصب على التفسير، وكان الأصل سفهت نفسه فلما أضاف الفعل إلى صاحبها خرجت النفس المفسرة ليعلم موضع السفه، كما يقال ضقت به ذرعاً، أي ضاق ذرعي به. { ولقد اصطفيناه في الدنيا } اخترناه في الدنيا { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } يعني مع الأنبياء في الجنة، وقال الحسين بن الفضل  فيه تقديم وتأخير، تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين.

١٣١

{ إذ قال له ربه أسلم } أي استقم على الإسلام، واثبت عليه لأنه كان مسلماً. قال ابن عباس قال له حين خرج من السرب،

وقال الكلبي  أخلص دينك وعبادتك للّه، وقال عطاء أسلم إلى اللّه عز وجل وفوض أمورك إليه. { قال أسلمت لرب العالمين } أي فوضت، قال ابن عباس وقد حقق ذلك حيث لم يستعن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار.

١٣٢

{ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب } قرأ أهل المدينة والشام (( وأوصى )) بالألف، وكذلك هو في مصاحفهم، وقرأ الباقون (( ووصى )) مشدداً، وهما لغتان مثل أنزل ونزل، معناه ووصى بها إبراهيم بنيه ووصى يعقوب بنيه، قال الكلبي و مقاتل  يعني بكلمة الإخلاص لا إله إلا اللّه، قال أبو عبيدة إن شئت رددت الكناية إلى الملة لأنه ذكر ملة إبراهيم، وإن شئت رددتها إلى الوصية أي وصى إبراهيم بنيه الثمانية إسماعيل وأمه هاجر القبطية، وإسحاق وأمه سارة، وستة أمهم قنطورة بنت يقطن الكنعانية تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة ويعقوب، سمي بذلك لأنه والعيص كانا توأمين فتقدم عيص في الخروج من بطن أمه وخرج يعقوب على أثره آخذاً بعقبه قال ابن عباس،

وقيل سمي يعقوب لكثرة عقبه يعني ووصى أيضاً يعقوب بنيه الاثنى عشر { يا بني } معناه أن يا بني { إن اللّه اصطفى } اختار { لكم الدين } أي دين الإسلام { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } مؤمنون

وقيل مخلصون

وقيل مفوضون والنهي في ظاهر الكلام وقع على الموت، وإنما نهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام، داوموا على الإسلام حتى لا يصادفكم الموت إلا وأنتم مسلمون، وعن الفضيل بن عياض رحمه اللّه أنه قال ( إلا وأنتم مسلمون ) أي محسنون بربكم الظن.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم عبد اللّه ابن محمد بن عبد العزيز البغوي أنا علي بن الجعد أنا أبو جعفر الرازي عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد اللّه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول { لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن باللّه عز وجل }.

١٣٣

{ أم كنتم شهداء } يعني أكنتم شهداء، يريد ما كنتم شهداء حضوراً { إذ حضر يعقوب الموت } أي حين قرب يعقوب من الموت، قيل نزلت في اليهود حين قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية فعلى هذا القول يكون الخطاب لليهود،

وقال الكلبي  لما دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيران، فجمع ولده وخاف عليهم ذلك فقال عز وجل { إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي } قال عطاء إن اللّه تعالى لم يقبض نبياً حتى يخيره بين الحياة والموت فلما خير يعقوب قال أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم، ففعل اللّه ذلك به فجمع ولده وولد ولده، وقال لهم قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي { قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } وكان إسماعيل عماً لهم والعرب تسمى العم أباً كما تسمى الخالة أماً قال النبي صلى اللّه عليه وسلم { عم الرجل صنو أبيه } وقال في عمه العباس (( ردوا علي أبي فإني أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعرة بن مسعود )). وذلك أنهم قتلوه. { إلهاً واحداً } نصب على البدل في قوله إلهك

وقيل نعرفه إلهاً واحداً { ونحن له مسلمون }

١٣٤

{ تلك أمة } جماعة { قد خلت } مضت { لها ما كسبت } من العمل { ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون } يعني يسأل كل عن عمله لا عن عمل غيره.

١٣٥

قوله تعالى { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } قال ابن عباس نزلت في رؤساء يهود المدينة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وأبي ياسر بن أخطب، وفي نصارى أهل نجران السيد والعاقب وأصحابهما، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين اللّه، فقالت اليهود نبينا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وديننا أفضل الأاديان، وكفرت بعيسى عليه السلام والإنجيل وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآن، وقالت النصارى نبينا أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان وكفرت بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآن، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين كونوا علىديننا فلا دين إلا ذلك فقال تعالى { قل } يا محمد { بل ملة إبراهيم } بل نتبع ملة إبراهيم، وقال الكسائي  هو نصب على الإغراء، كأنه يقول اتبعوا ملة إبراهيم،

وقيل معناه بل نكون على ملة إبراهيم فحذف ((على)) فصار منصوباً { حنيفاً } نصب على الحال عند نحاة البصرة، وعند نحاة الكوفة نصب على القطع أراد بل ملة إبراهيم الحنيف فلما سقطت الألف واللام لم يتبع المعرفة النكرة فانقطع منه فنصب.

قال مجاهد الحنيفية اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماماً للناس قال ابن عباس الحنيف المائل كلها إلى دين الإسلام، وأصله من الحنف، وهو ميل وعوج يكون في القدم، وقال سعيد بن جبير  الحنيف هو الحاج المختتن. وقال الضحاك ك إذا كان مع الحنيف المسلم فهو الحاج، وإذا لم يكن مع المسلم فهو المسلم،

قال قتادة  الحنيفية الختان وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وإقامة المناسك. { وما كان من المشركين } ثم علم المؤمنين طريق الإيمان فقال جل ذكره

١٣٦

{ قولوا آمنا باللّه وما أنزل إلينا } يعني القرآن { وما أنزل إلى إبراهيم } وهو عشر صحف { وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } يعني أولاد يعقوب وهم اثنا عشر سبطاً واحدهم سبط سموا بذلك لأنه ولد لكل واحد منهم جماعة وسبط الرجل حافده، ومنه قيل للحسن والحسين رضي اللّه عنهما سبطا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب من بني إسماعيل والشعوب من العجم، وكان في الأسباط أنبياء ولذلك قال وما أنزل إليهم

وقيل هم بنو يعقوب من صلبه صاروا كلهم أنبياء { وما أوتي موسى } يعني التوراة { وعيسى } يعني الإنجيل { وما أوتي } أعطي { النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم }أي نؤمن بالكل لا نفرق بين أحد منهم فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى { ونحن له مسلمون }.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا محمد بن بشار أنا عثمان بن عمر أنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا باللّه الآية }.

١٣٧

قوله تعالى  { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } أي بما آمنتم به ، وكذلك كان يقرؤها ابن عباس ، والمثل صلة ك

قوله تعالى  { ليس كمثله شيء } أي ليس هو كشيء ،

وقيل  معناه فإن آمنوا بجميع ما آمنتم به أي أتوا بإيمان كإيمانكم وتوحيد كتوحيدكم ،

وقيل  معناه فإن آمنوا مثل ما أمنتم به و الباء زائدة ك

قوله تعالى  { وهزي إليك بجذع النخلة } ( ٢٥- مريم ) وقال أبو معاذ النحوي  معناه فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم ، { فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق } أي في خلاف ومنازعة قاله  ابن عباس و عطاء ويقال  شاق مشاقةً إذا خالف كأن كل واحد آخذ في شق غير شق صاحبه ،

قال اللّه تعالى  { لا يجرمنكم شقاقي } ( ٨٩- هود ) أي خلافي ،

وقيل  في عداوة ، دليله  

قوله تعالى  { ذلك بأنهم شاقوا اللّه } (١٣- الأنفال ) أي عادوا اللّه { فسيكفيكهم اللّه } يا محمد أي يكفيك شر اليهود و النصارى وقد كفى بإجلاء بني النضير ، وقتل بني قريظة وضرب الجزية على اليهود و النصارى { وهو السميع } لأقوالهم { العليم } بأحوالهم .

١٣٨

قوله تعالى  { صبغة اللّه }  قال ابن عباس في رواية الكلبي و قتادة و الحسن  دين اللّه ، وإنما سماه صبغة لأنه يظهر أثر الدين على المتدين كما يظهر أثر الصبغ على الثوب ،

وقيل لأن المتدين يلزمه ولا يفارقه ، كالصبغ يلزم الثوب ،

وقال مجاهد  فطرة اللّه ، وهو قريب من الأول ،

وقيل  سنة اللّه ،

وقيل  أراد به الختان لأنه يصبغ صاحبه بالدم ،

قال ابن عباس  هي أن النصارى إذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر يقال له المعمودي وصبغوه به ليطهروه بذلك الماء مكان الختان ، فإذا فعلوا به ذلك قالوا  الآن صار نصرانياً حقاً فأخبر اللّه أن دينه الإسلام لا ما يفعله النصارى ، وهو نصب على الإغراء يعني الزموا دين اللّه ، قال الأخفش هي بدل من قوله ملة إبراهيم { ومن أحسن من اللّه صبغة } ديناً

وقيل  تطهيراً { ونحن له عابدون } مطيعون .

١٣٩

{ قل} يا محمد لليهود و النصارى { أتحاجوننا في اللّه } أي في دين اللّه و المحاجة  المجادلة في اللّه لإظهار الحجة ، وذلك بأنهم قالوا إن الأنبياء كانوا منا وعلى ديننا ، وديننا أقوم فنحن أولى باللّه منكم ف

قال اللّه تعالى  قل أتحاجوننا في اللّه { وهو ربنا وربكم } أي نحن وأنتم سواء في اللّه فإنه ربنا وربكم { ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم } أي لكل واحد جزاء عمله ، فكيف تدعون أنكم أولى باللّه { ونحن له مخلصون } وأنتم به مشركون . قال سعيد بن جبير  الإخلاص أن يخلص العبد دينه وعمله للّه فلا يشرك به في دينه ولا يرائي بعمله . قال الفضيل  ترك العمل لأجل الناس رياء ، و العمل من أجل الناس شرك ، و الإخلاص أن يعافيك اللّه منهما .

١٤٠

قوله تعالى  { أم تقولون } يعني  أتقولون ، صيفة استفهام ومعناه التوبيخ ، وقرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص بالتاء ل

قوله تعالى  { قل أتحاجوننا في اللّه } وقال بعده { قل أأنتم أعلم أم اللّه } وقرأ الآخرون بالياء يعني يقول اليهود و النصارى { إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب و الأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل } يا محمد { أأنتم أعلم } بدينهم { أم اللّه } وقد أخبر اللّه تعالى أن إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً { ومن أظلم ممن كتم } أخفى { شهادة عنده من اللّه } وهي علمهم بأن إبراهيم وبنيه كانوا مسلمين وأن محمداً صلى اللّه عليه وسلم حق ورسول أشهدهم اللّه عليه في كتبهم { وما اللّه بغافل عما تعملون } .

١٤١

{ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون } كرره تأكيداً.

١٤٢

قوله تعالى { سيقول السفهاء } الجهال { من الناس ما ولاهم } صرفهم وحولهم { عن قبلتهم التي كانوا عليها } يعني بيت المقدس والقبلة فعلة من المقابلة نزلت في اليهود ومشركي مكة طعنوا في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة، فقالوا لمشركي مكة قد تردد على محمد أمره فاشتاق إلى مولده وقد توجه نحو بلدكم وهو راجع إلى دينكم فقال اللّه تعالى { قل للّه المشرق والمغرب } ملك له والخلق عبيده. { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }.

١٤٣

{ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } نزلت في رؤساء اليهود، قالوا لمعاذ ابن جبل ما رتك محمد قبلتتنا إلا حسداً، وإن قبلتنا قبلة الأنبياء، ولقد علم محمد أنا عدل بين الناس، فقال معاذ إنا على حق وعدل

فأنزل اللّه تعالى { وكذلك } أي وهكذا،

وقيل الكاف للتشبيه أي كما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناهم { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } مردودة على قوله { ولقد اصطفيناه في الدنيا } (١٣٠-البقرة) أي عدلا خياراً قال اللّه تعالى { قال أوسطهم } (٢٨-القلم) أي خيرهم وأعدلهم وخير الأشياء أوسطها، وقال الكلبي يعني أهل دين وسط بين الغلو والتقصير لأنهما مذمومان في الدين.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو معشر إبراهيم بن محمد بن الحسين الوراق أنا أبو عبد اللّه محمد بن زكريا بن يحيى أنا أبو الصلت أنا حماد بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوماً بعد العصر فما ترك شيئاً إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحيطان، قال {أما أنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا بقي من يومكم هذا، ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها وأخيرها وأكرمها على اللّه تعالى }.

قوله تعالىك { لتكونوا شهداء على الناس } يوم القيامة أن الرسل قد بلغتهم، قال ابن جريج  قلت لعطاء ما معنى

قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس؟ قال أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم شهداء على من يترك الحق من الناس أجمعين { ويكون الرسول } محمد صلى اللّه عليه وسلم { عليكم شهيداً } معدلاً مزكياً لكم، وذلك أن اللّه تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثم يقول لكفار الأمم الماضية { ألم يأتكم نذير } (٨-الملك) فينكرون ويقولون ما جاءنا من بشير وى نذير، فيسأل اللّه تعالى الأنباء عليهم السلام عن ذلك فيقولون كذبوا قد بلغناهم فيسألهم البينة - وهو أعلم بهم - إقامة للحجة، فيؤتى بأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم فيشهدون لهم أنهم قد بلغوا، فتقول الأمم الماضية من أين علموا وإنما أتوا بعدنا؟ فيسأل هذه الأمة فيقولون أرسلت إلينا رسولاً، وأنزلت عليه كتاباً، أخبرتنا فيه تبليغ الرسل وأنت صادق فيما أخبرت، ثم يؤتى بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا إسحاق بن منصور

أخبرنا أبو أسامة قال الأعمش

أخبرنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت؟ فيقول نعم يارب، فيسأل أمته هل بلغكم؟ فيقولون ما جاءنا من نذير، فيقال من شهودك فيقول محمد وأمته فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيجاء بكم فتشهدون ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم} وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً.

قوله تعالى { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } أي تحويلها يعني بيت المقدس، فيكون من باب حذف المضافن ويحتمل أن يكون المفعول الثاني للجعل محذوفاً، على تقدير وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة،

وقيل معناه التي أنت عليها، وهي الكعبة ك

قوله تعالى { كنتم خير أمة } أي أنتم. { إلا لنعلم من يتبع الرسول } فإن قيل ما معنى قوله (( إلا لنعلم )) وهو عالم بالأشياء كلها قبل يتعلق بما يوجد معناه ليعلم العلم الذي يستحق العامل عليه الثواب والعقاب،

وقيل إلا لنعلم أي لنرى ونميز من يتبع الرسول في القبلة { ممن ينقلب على عقبيه } فيرتد وفي الحديث إن القبلة لما حولت ارتد قوم من المسلمين إلى اليهودية، وقالوا رجع محمد إلى دين آبائه، وقال أهل المعاني معناه إلا لعلمنا من يتبع الرسول ممن على عقبيه كأنه سبق في علمه أن تحويل القبلة سبب لهداية قوم وضلالة قوم، وقد يأتي لفظ الاستقبال بمعنى الماضي كما قال اللّه تعالى { فلم تقتلون أنبياء اللّه } (٩١-البقرة) أي فلم قتلتموهم { وإن كانت } أي قد كانت أي تولية الكعبة

وقيل الكناية راجعة إلى القبلة،

وقيل إلى الكعبة قال الزجاج  وإن كانت التحويلة { لكبيرة } ثقيلة شديدة { إلا على الذين هدى اللّه } أي هداهم اللّه، قال سيبويه  (( وإن )) تأكيد يشبه اليمين ولذلك دخلت اللام في جوابها { وما كان اللّه ليضيع إيمانكم } وذلك أن حيي بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس، إن كانت هدى فقد تحولتم عنها وإن كانت ضلالة فقد دنتم اللّه بها، ومن مات منكم عليها فقد مات على الضلالة، فقال المسلمون إنما الهدى ما أمر اللّه به، والضلالة مانهى اللّه عنه. قالوا فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا؟ وكان قد مات قبل أن تحول القبلة من المسلمين أسعد بن زرارة من بني النجار، والبراء بن معرور من بني سلمة، وكانوا من النقباء ورجال آخرون فانطلق عشائرهم إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وقالوا يا رسول اللّه قد صرفك اللّه إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟

فأنزل اللّه تعالى { وما كان اللّه ليضيع إيمانكم } يعني صلاتكم إلى بيت المقدس { إن اللّه بالناس لرؤوف رحيم } قرأ أهل الحجاز و ابن عامر و حفص لرؤوف مشبع على وزن فعول، لأن أكثر اسماء اللّه تعالى على فعول وفعيل، والشكور والرحيم والكريم وغيرها، و أبو جعفر يلين الهمزة وقرأ الآخرون بالاختلاس على وزن فعل قال جرير  ترى للمسلمين عليك حقاً كفعل الواحد الرؤف الرحيم والرأفة أشد الرحمة.

١٤٤

قوله تعالى {قد نرى تقلب وجهك في السماء } هذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدمة في المعنى فإنها رأس القصة، وأمر القبلة أول ما نسخ من أمور الشرع، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه كانوا بمكة إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة أمره اللّه أن يصلي نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم مع ما يجدون من نعته في التوراة فصلى بعد الهجرة ستة عشر أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة لأنها فصلى بعد الهجرة ستة عشر أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام،

وقال مجاهد  كان يحب ذلك لأجل اليهود لأنهم كانوا يقولون يخالفنا محمد صلى اللّه عليه وسلم في ديننا ويتبع قبلتنا، فقال لجبريل عليه السلام وددت لو حولني اللّه إلى الكعبة فإنها قبلة أبي إبراهيم عليه السلام، فقال جبريل إنما انا عبد مثلك وأنت كريم على ربك، فسل أنت ربك فإنك عند اللّه عز وجل بمكان [فرجع] جبريل عليه السلام وجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القبلة

فأنزل اللّه تعالى { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة } فلنحولنك إلى قبلة { ترضاها } أي تحبها وتهواها { فول } أي حول { وجهك شطر المسجد الحرام } أي نحوه وأراد به الكعبة والحرام المحرم { وحيث ما كنتم } من بر أو بحر أو شرق أو غرب { فولوا وجوهكم شطره } عند الصلاة.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

اخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا إسحاق بن نصر

أخبرنا ابن جريج عن عطاء قال سمعت ابن عباس رضي اللّه عنهما قال لما دخل النبي صلى اللّه عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة ( وقال هذه القبلة ).

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد ابن إسماعيل

أخبرنا عمرو بن خالد

أخبرنا زهير

أخبرنا أبو إسحاق عن البراء أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده أو قال أخواله من الأنصار وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد قباء وهم راكعون فقال أشهد باللّه لقد صليت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل المقدس لأنه قبلة أهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك، وقال البراء في حديثه هذا أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم،

فأنزل اللّه تعالى (وما كان اللّه ليضيع إيمانكم). وكان تحويل القبلة في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين، قال مجاهد وغيره نزلت هذه الآية و رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مسجد بني سلمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر، فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين،

وقيل كان التحويل خارج الصلاة بين الصلاتين، وأهل قباء وصل إليهم الخبر في صلاة الصبح.

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي

أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد الفقيه السرخسي

أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي السامري

أخبرنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري عن مالك بن أنس عن عبد اللّه بن دينار أن عبد اللّه بن عمر قال بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت وقال لهم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. فلما تحولت القبلة قالت اليهود يا محمد إلا شيء تبتدعه من تلقاء نفسك فتارة تصلي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره؟ فأنزل اللّه { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه } يعني أمر الكعبة {الحق من ربهم } ثم هددهم فقال { وما اللّه بغافل عما تعملون } قرأ أبو جعفر و ابن عامر و الكسائي بالتاء قال ابن عباس يريد أنكم يا معشر المؤمنين تطلبون مرضاتي وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم وقرأ الباقون بالياء يعني ما أنا بغافل عما يفعل اليهود فأجازيهم في الدنيا والآخرة.

١٤٥

قوله تعالى { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب } يعني اليهود والنصارى قالوا ائتنا بآية على ما تقول، فقال اللّه تعالى { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب } { بكل آية } معجزة { ما تبعوا قبلتك } يعني الكعبة { وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض } لأن اليهود تستقبل بيت المقدس وهو المغرب والنصارى تستقبل المشرق وقبلة المسلمين الكعبة.

أخبرنا أبو عثمان بن إسماعيل الضبي

أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي

أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي

أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي

أخبرنا الحسن بن بكر المروزي

أخبرنا المعلى بن منصور

أخبرنا عبد اللّه بن جعفر المخز,مي عن عثمان الأخنسي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { القبلة ما بين المشرق والمغرب } .

وأراد به في حق أهل المشرق، وأراد بالمشرق مشرق الشتاء في أقصر يوم في السنة، وبالمغرب مغرب الصيف في أطول يوم من السنة، فمن جعل مغرب الصيف في هذا الوقت على يمينه ومشرق الشتاء على يساره كان وجهه إلى القبلة { ولئن اتبعت أهواءهم } مرادهم الخطاب مع النبي صلى اللّه عليه وسلم، والمراد به الأمة، { من بعد ما جاءك من العلم } من الحق في القبلة، { إنك إذاً لمن الظالمين }.

١٤٦

قوله تعالى { الذين آتيناهم الكتاب } يعني مؤمني أهل الكتاب عبد اللّه بن سلام وأصحابه { يعرفونه } يعني يعرفون محمداً صلى اللّه عليه وسلم { كما يعرفون أبناءهم } من بين الصبيان، قال عمر بن الخطاب لعبد اللّه بن سلام إن اللّه قد أنزل على نبيه { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } فكيف هذه المعرفة؟ قال عبد اللّه يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما عرفت ابني ومعرفتي بمحمد صلى اللّه عليه وسلم أشد من معرفتي بابني، فقال عمر كيف ذلك؟ فقال أشهد إنه رسول اللّه حق من اللّه تعالى وقد نعته اللّه في كتابنا ولا أدري ما تصنع النساء، فقال عمر وفقك اللّه يا ابن سلام فقد صدقت { وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق } يعني صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وأمر الكعبة { وهم يعلمون } ثم قال

١٤٧

{ الحق من ربك } أي هذا الحق خبر مبتدأ مضمر

وقيل رفع بإضمار فعل أي جلءك الحق من ربك { فلا تكونن من الممترين } الشاكين.

١٤٨

قوله تعالى { ولكل وجهة } أي لأهل كل ملة قبلة والجهة اسم للمتوجه إليه { هو موليها } أي مستقبلها ومقبل إليها يقال وليته ووليت إليه إذا أقبلت إليه، ووليت عنه إذا أدبرت عنه.

قال مجاهد  هو موليها وجهه، وقال الأخفش ، هو كناية عن اللّه عز وجل يعني اللّه مولي الأمم إلى قبلتهم وقرأ ابن عامر  مولاها، أي المستقبل مصروف إليها { فاستبقوا الخيرات } أي إلى الخيرات، يريد بادروا بالطاعات، والمراد المبادرة إلى القبول { أينما تكونوا } أنتم وأهل الكتاب { يأت بكم اللّه جميعاً } يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم { إن اللّه على كل شيء قدير }.

١٤٩

قوله تعالى { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما اللّه بغافل عما تعملون } قرأ أبو عامر بالياء والباقون بالتاء.

١٥٠

{ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } وإنما كرر لتأكيد النسخ { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا } اختلفوا في تأويل هذه الآية ووجه قوله { إلا } فقال بعضهم معناه حولت القبلة إلى الكعبة { لئلا يكون للناس عليكم حجة } إذا توجهتم إلى غيرها فيقولون ليست لكم قبلة { إلا الذين ظلموا } وهم قريش واليهود فأما قريش فتقول رجع محمد إلى الكعبة، لأنه علم أنها الحق وأنها قبلة آبائه، فكذلك يرجع إلى ديننا، وأما اليهود فتقول لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بأنه حق إلا أنه يعمل برأيه وقال قوم { لئلا يكون للناس عليكم حجة } يعني اليهود وكانت حجتهم على طريق المخاصمة على المؤمنين في صلاتهم إلى بيت المقدس أنهم كانوا يقولون ما درى محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم نحن. وقوله { إلا الذين ظلموا } وهم مشركو مكة، وحجتهم أنهم قالوا - لما صرفت قبلتهم إلى الكعبة إن محمداً قد تحير في دينه وسيعود إلى ملتنا كما عاد إلى قبلتنا، وهذا معنى قول مجاهد و عطاء و قتادة ، وعلى هذين التأويلين يكون الاستثناء صحيحاً، وقوله { إلا الذين ظلموا } يعني لا حجة لأحد عليكم إلا لمشركي قريش فإنهم يحاجونكم فيجتدلونكم ويخاصمونكم بالباطل والظلم والاحتجاج بالباطب يسمى حج كما قال اللّه تعالى { حجتهم داحضة عند ربهم } (١٦-الشورى) وموضع { الذين } خفض كأنه قال سوى الذين ظلموا قاله الكسائي وقال الفراء نصب بالاستثناء.

قوله تعالى { منهم } يعني من الناس

وقيل هذا استثناء منقطع عن الكلام الأول، معناه ولكن الذين ظلموا يجادلونكم بالباطل، كما قال اللّه تعالى { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } (١٥٧-النساء) يعني لكن يتبعون الظن فهو كقول الرجل مالك عندي حق إلا أن تظلم. قال أبو ورق { لئلا يكون للناس } يعني اليهود { عليكم حجة } وذلك أنهم عرفوا أن الكعبة قبلة إبراهيم ووجدوا في التوراة أن محمداً سيحول إليها فحوله اللّه تعالى إليها لئلا يكون لهم حجة فيقولون إن النبي الذي نجده في كتابنا سيحول إليها ولم تحول أنت، فلما حول إليها ذهبت حجتهم { إلا الذين ظلموا } يعني إلا أن يظلموا فيكتموا ما عرفوا من الحق. وقال أبو عبيدة قوله { إلا الذين ظلموا } ليس باستثناء ولكن (( إلا )) في موضع واو العطف يعني والذين ظلموا أيضاً لا يكون لهم حجة كما قال الشاعر وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان معناه والفرقدان أيضاً يتفرقان، فمعنى الآية فتوجهوا إلى الكعبة { لئلا يكون للناس } يعني اليهود { عليكم حجة } فيقولوا لم تركتم الكعبة وهي قبلة إبراهيم وأنتم على دينه ولا الذين ظلموا وهم مشركو مكة فيقولون لم ترك محمد قبلة جده وتحول عنها إلى قبلة اليهود { فلا تخشوهم } في انصرافكم إلى الكعبة وفي تظاهرهم عليكم بالمجادلة فإني وليكم أظهركم عليهم بالحجة والنصرة { واخشوني ولأتم نعمتي عليكم } عطف على قوله { لئلا يكون للناس عليكم حجة } ولكي أتم نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم فتتم لكم الملة الحنيفية، وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه تمام النعمة الموت على الإسلام. قال سعيد بن جبير لا يتم نعمة على المسلم إلا أن يدخله اللّه الجنة { ولعلكم تهتدون } لكي تهتدوا من الضلالة ولعل وعسى من اللّه واجب.

١٥١

قوله تعالى { كما أرسلنا فيكم } هذه الكاف للتشبيه وتحتاج إلى شيء يرجع إليه فقال بعضهم ترجع إلى ما قبلها معناه ولأتم نعمتي عليكم كما أرسلنا رسولاً قال محمد بن جرير  دعا إبراهيم عليه السلام بدعوتين - إحداهما - قال { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } (١٢٨-البقرة) فبعث اللّه الرسول وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم، ووعد إجابة الدعوة الثانية بأن يجعل من ذريته أمة مسلمة، كما أجبت دعوته بأن أهديكم لدينه وأجعلكم مسلمين وأتم نعمتي عليكم ببيان شرائع الملة الحنيفية وقال مجاهد و عطاء و الكلبي  هي متعلقة بما بعدها وهو قوله { فاذكروني أذكركم } معناه كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم فاذكروني وهذه الآية خطاب لأهل مكة والعرب يعني كما أرسلنا فيكم يا معشر العرب. { رسولاً منكم } يعني محمداً صلى اللّه عليه وسلم { يتلو عليكم آياتنا } يعني القرآن { ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة } قيل الحكمة السنة،

وقيل مواعظ القرآن { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } من الأحكام وشرائع الإسلام.

١٥٢

{ فاذكروني أذكركم } قال ابن عباس اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي، وقال سعيد بن جبير اذكروني في النعمة والرخاء، أذكركم في الشدة والبلاء، بيانه { فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } (١٤٤-الصافات).

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا عمر بن حفص

أخبرنا الأعمش قال سمعت أبا صالح عن أبي هريرة قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول اللّه تعالى { أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة }.

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي وثنا أبو بكر محمد بن عبد اللّه بن أبي توبة الكشميهني قال حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان

أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان

أخبرنا أبو عبد الملك الدمشقي

أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن

أخبرنا منذر بن زياد عن صخر بن جويرية عن الحسن عن أنس قال إني سمعت هذا الحديث من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عدد أناملي هذه العشر، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { إن اللّه تعالى يقول يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم، وإن دنوت مني شبراً دنوت منك ذراعاً، وإن دنوت مني ذراعاً دنوت منك باعاً، وإن مشيت إلي هرولت إليك، وإن هرولت إلي سعيت إليك، وإن سألتني أعطيتك، وإن لم تسألني غضبت عليك }.

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا أبو منصور السمعاني

أخبرنا أبو جعفر الرياني

أخبرنا حميد بن زنجويه

أخبرنا يحيى بن عبد اللّه

أخبرنا الأوزاعي

أخبرنا إسماعيل بن عبيد اللّه عن أبي الدرداء عن أبي هريرة قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول اللّه عز وجل { أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه }.

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي

أخبرنا علي بن الجعد

أخبرنا إسماعيل بن عياش

أخبرنا عمرو بن قيس السكوني عن عبد اللّه بن بسر قال جاء أعرابي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول أي الأعمال أفضل؟ قال { أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر اللّه تعالى }.

قوله تعالى { واشكروا لي ولا تكفرون } يعني واشكروا لي بالطاعة ولا تكفروني بالمعصية فإن من أطاع اللّه فقد شكره ومن عصاه فقد كفره.

١٥٣

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن اللّه مع الصابرين } بالعون والنصرة.

١٥٤

{ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه أموات } نزلت في قتلى بدر من المسلمين وكانوا أربعة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار كان الناس يقولون لمن يقتل في سبيل اللّه مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها

فأنزل اللّه تعالى { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه أموات } { بل أحياء ولكن لا تشعرون } كما قال في شهداء أحد { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } (١٦٩-آل عمران) قال الحسن إن الشهداء أحياء عند اللّه تعالى تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشية فيصل إليهم الوجع.

١٥٥

قوله تعالى { ولنبلونكم } أي ولنختبرنكم يا أمة محمد، واللام لجواب القسم تقديره واللّه لبيلونكم والابتلاء من اللّه لإظهار المطيع من العاصي لا ليعلم شيئاً لم يكن عالماً به { بشيء من الخوف } قال ابن عباس يعني خوف العدو { والجوع } يعني القحط { ونقص من الأموال } بالخسران والهلاك { والأنفس } يعني بالقتل والموت

وقيل بالمرض والشيب { والثمرات } يعني الجوائح في الثمار وحكي عن الشافعي أنه قال الخوف خوف اللّه تعالى، والجوع صيام رمضان، ونقص من الأموال أداء الزكاة والصدقات، والأنفس الأمراض، والثمرات موت الأولاد لأن ولد الرجل ثمرة قلبه.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان

أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني

أخبرنا حميد بن زنجويه

أخبرنا الحسن بن موسى

أخبرنا حماد بن سلمة عن أبي سنان قال دفنت ابني سناناً وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأخرجني فقال ألا أبشرك؟ حدثني الضحاك بن عزرب عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { إذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى لملائكته أقبضتم ولد عبدي؟ قالوا نعم، قال أقبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا نعم، فماذا قال عبدي؟ قالوا استرجع وحمدك قال ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد }.

{ وبشر الصابرين } على البلايا والرزايا، ثم وصفهم فقال

١٥٦

{ الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا للّه } عبيداً وملكاً { وإنا إليه راجعون } في الآخرة.

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان

أخبرنا أبو جعفر الرياني

أخبرنا حميد بن زنجويه

اخبرنا محاضر بن المورع

أخبرنا سعد بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح

أخبرنا مولى أم سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم أنها قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول { ما من مصيبة تصيب عبداً فيقول إنا للّه وإنا إليه راجعون، اللّهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا آجره اللّه في مصيبته وأخلف له خيراً منها }، قالت أم سلمة لما توفي أبو سلمة عزم اللّه لي فقلت اللّهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها. فأخلف اللّه لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقال سعيد بن جبير  ما أعطي أحد في المصيبة ما أعطي هذه الأمة يعني الاسترجاع ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام ألا تسمع ل

قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام { يا أسفى على يوسف } (٨٤-يوسف)

١٥٧

{ أولئك } أهل هذه الصفة { عليهم صلوات من ربهم ورحمة } صلوات أي رحمة فإن الصلاة من اللّه الرحمة ورحمة ذكرها اللّه تأكيداً وجميع الصوات، أي رحمة بعد رحمة { وأولئك هم المهتدون } إلى الاسترجاع

وقيل إلى الحق والصواب

وقيل إلى الجنة والثواب، قال عمر رضي اللّه عنه نعم العدلان ونعمت العلاوة، فالعدلان الصلاة والرحمة، والعلاوة الهداية. وقد وردت أخبار في ثواب أهل البلاء وأجر الصابرين منها ما

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي

أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي

أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي

أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن محمد بن اللّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه قال سمعت أبا الحباب سعيد بن يسار يقول سمعت أبا هريرة يقول قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { من يرد اللّه به خيراً يصب منه }.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا عبد اللّه بن محمد

أخبرنا عبد الملك بن عمرو

أخبرنا زهير بن محمد عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر اللّه بها من خطاياه }.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أبو منصور السمعاني

أخبرنا أبو جعفر الرياني

أخبرنا حميد بن زنجويه أنا محمد بن عبيد

أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال جاءت امرأة بها لمم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت يا رسول اللّه ادع اللّه لي أن يشفيني قال { إن شئت دعوت اللّه أن يشفيك وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك } قالت بل أصبر ولا حساب علي.

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي

أخبرنا أبو سعيد خلف بن عبد الرحمن بن أبي نزار

أخبرنا أبو منصور العباس بن الفضل النضروي

أخبرنا أحمد بن نجدة

أخبرنا يحيى بن عبد الحميد الحماني

أخبرنا حماد بن زيد عن عاصم هو ابن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن سعد قال { سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أشد الناس بلاءً قال الأنبياء والأمثل فالأمثل يبتلي اللّه الرجل على حسب دينه فإن الأرض وماله من ذنب }.

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا أبو منصور السمعاني

أخبرنا أبو جعفر الرياني

أخبرنا حميد بن زنجويه

أخبرنا عبد اللّه بن صالح قال حدثني الليث حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن سنان عن أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال { إن عظم الجزاء عند اللّه مع عظم البلاء فإن اللّه إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط }.

أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد اللّه الصالحي

أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري

أخبرنا حاجب ابن أحمد الطوسي

أخبرنا محمد بن يحيى

أخبرنا يزيد بن هارون أحبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى اللّه وما عليه من خطيئة }.

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي

أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد عبد اللّه بن بشران

أخبرنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار

أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي

أخبرنا عبد الرزاق

أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تفيئه ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تستحصد }.

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي

أخبرنا أبو الحسين بن بشران

أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار

أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي

أخبرنا عبد الرزاق

أخبرنا معمر عن أبي إسحق عن العيزار بن حريث عن عمر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { عجب للمؤمن إن أصابه خير حمد اللّه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد اللّه وصبر. فالمؤمن يؤجر في كل أمره حتى يؤجر في اللقمة يرفعها إلى في امرأته }.

١٥٨

قوله تعالى { إن الصفا والمروة من شعائر اللّه } الصفا جمع صفاة وهي الصخور الصلبة الملساء، يقال صفاة وصفا، مثل حصاة وحصى ونواة ونوى، والمروة الحجر الرخو، وجمعها مروات، وجمع الكثير مرو، مثل تمرة وتمرات وتمر. وإنما عنى اللّه بهما الجبلين المعروفين بمكة في طرفي ا لمسعى، ولذلك أدخل فيهما الألف واللام، وشعائر اللّه أعلام دينه، أصلها من الإشعار وهو الإعلام واحدتها شعيرة وكل ما كان معلماً لقربان يتقرب به إلى اللّه تعالى من صلاة ودعاء وذبيحة فهو شعيرة فالمطاف والموقف والنحر كلها شعائر اللّه ومثلها المشاعر، والمراد بالشعائر ها هنا المناسك التي جعلها اللّه أعلاماً لطاعته، فالصفا والمروة منها حتى يطاف بهما جميعاً { فمن حج البيت أو اعتمر } فالحج في اللغة القصد، والعمرة الزيارة، وفي الحج والعمرة المشروعين قصد وزيارة { فلا جناح عليه } أي لا إثم عليه، وأصله من جنح أي مال عن القصد { أن يطوف بهما } أي يدور بهما، وأصله يتطوف أدغمت التاء في الطاء. وسبب نزول هذه الآية أنه كان على الصفا والمروة صنمان أساف ونائلة، وكان أساف على الصفا ونائلة على المروة، وكان أهل الجاهلية يطوفون بين الصفا والمروة تعظيماً للصنمين ويتمسحون بهما، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كان المسلمون يتحرجون عن السعي بين الصفا والمروة لأجل الصنمين فأذن اللّه فيه وأخبر أنه من شعائر اللّه.

واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية ووجوب السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة فذهب جماعة إلى وجوبه وهو قول ابن عامر وجابر وعائشة وبه قال الحسن وإليه ذهب مالك و الشافعي وذهب قوم إلى أنه تطوع وهو قول ابن عباس وبه قال ابن سيرين و مجاهد وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي.

وقال الثوري وأصحاب الرأي على من تركه دم. واحتج من أوجبه بما

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي الخطيب

أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال

أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم

أخبرنا الربيع عن سليمان

أخبرنا الشافعي

أخبرنا عبد اللّه بن مؤمل العائذي عن عمرو بن عبد الرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة قالت أخبرتني بنت أبي تجراة - اسمها حبيبة إحدى نساء بني عبد الدار - قالت دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي حتى لأقول إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول { اسعوا فإن اللّه كتب عليكم السعي }.

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي

أخبرنا زاهر بن أحمد

أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي

أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن هشان بن عروة عن أبيه أنه قال قلت لعائشة زو ج النبي صلى اللّه عليه وسلم أرأيت قول اللّه تعالى { إن الصفا والمروة من شعائر اللّه فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } فما أرى على أحد شيئاً ألا يطوف بهما، قالت عائشة كلا لو كانت كما تقول كانت (( فلا جناح عليه أن يطوف بهما )) إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد

فأنزل اللّه تعالى { إن الصفا والمروة من شعائر اللّه } الآية. قال عاصم  قلت لأنس بن مالك أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟

قال نعم، لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتىأنزل اللّه تعالى { إن الصفا والمروة من شعائر اللّه }

أخبرنا أبو الحسن السرخسي

أخبرنا زاهر بن أحمد

أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي

أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد اللّه أنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين خرج من المسجد وهو يريد الصفا يقول { نبدأ بما بدأ اللّه تعالى به } فبدأ بالصفا. وقال كان إذا وقف على الصفا يكبر ثلاثاً ويقول لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وله الملك وله الحمد وهوعلى كل شيء قدير. يصنع ذلك ثلاث مرات ويدعو ويصنع على المروة مثل ذلك. كان إذا نزل من الصفا مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي يسعى حتى يخرج منه.

قال مجاهد  - رحمه اللّه - حج موسى عليه السلام على جمل أحمر وعليه عباءتان قطوانيتان، فطاف البيت ثم صعد الصفا ودعا ثم هبط إلى السعي وهو يلبي فيقول لبيك اللّهم لبيك. فقال اللّه تعالى لبيك عبدي وأنا معك فخر موسى عليه السلام ساجداً.

قوله تعالى { ومن تطوع خيراً } قرأ حمزة و الكسائي بالياء وتشديد الطاء وجزم العين وكذلك الثانية { فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا } (١٨٤-البقرة) بمعنى يتطوع ووافق يعقوب في الأولى وقرأ الباقون بالتاء وفتح العين على الماضي

وقال مجاهد  معناه فمن تطوع بالطواف بالصفا والمروة. وقال مقاتل و الكلبي  فمن تطوع أي زاد في الطواف بعد الواجب.

وقيل من تطوع بالحج والعمرة بعد أداء الحجة الواجبة عليه وقال الحسن وغيره أراد سائر الأعمال يعني فعل غير المفترض عليه من زكاة وصلاة وطواف وغيرها من أنواع الطاعات { فإن اللّه شاكر } مجاز لعبده بعمله { عليم } بنيته. والشكر من اللّه تعالى أن يعطي لعبده فوق ما يستحق. يشكر اليسير ويعطي الكثير.

١٥٩

قوله تعالى { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب } نزلت في علماء اليهود كتموا صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وآية الرجم وغيرهما من الأحكام التي كانت في التوراة { أولئك يلعنهم اللّه } وأصل اللعن الطرد والبعد { ويلعنهم اللاعنون } أي يسألون اللّه أن يلعنهم ويقولون اللّهم العنهم.

واختلفوا في هؤلاء اللاعنين، قال ابن عباس جميع الخلائق إلا الجن والإنسز و

قال قتادة  هم الملائكة

وقال عطاء  الجن والإنس

وقال الحسن  جميع عباد اللّه. قال ابن مسعود ما تلاعن اثنان من المسلمين إلا رجعت تلك اللعنة على اليهود والنصارى الذين كتموا أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم وصفته

وقال مجاهد  اللاعنون البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر وقالت هذا من شؤم ذنوب بني آدم ثم استثنى

١٦٠

فقال { إلا الذين تابوا } من الكفر { وأصلحوا } أسلموا وأصلحوا الأعمال فيما بينهم وبين ربهم { وبينوا } ما كتموا { فأولئك أتوب عليهم } أتجاووز عنهم وأقبل توبتهم { وأنا التواب } الرجاع بقلوب عبادي المنصرفة عني إلي { الرحيم } بهم بعد إقبالهم علي.

١٦١

{ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة اللّه والملائكة } أي لعنة الملائكة { والناس أجمعين }

قال أبو العالية  هذا يوم القيامة يوقف الكافر فيلعنه اللّه ثم تلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس فإن قيل فقد قال { والناس أجمعين } والملعون هو من جملة الناس فكيف يلعن نفسه؟ قيل يلعن نفسه في القيامة قال اللّه تعالى { ويلعن بعضكم بعضاً } (٢٥-العنكبوت)

وقيل إنهم يلعنون الظالمين والكافرين ومن يلعن الظالمين والكافرين وهو منهم فقد لعن نفسه

١٦٢

{ خالدين فيها } مقيمين في اللعنة

وقيل في النار { لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } لا يمهلون ولا يؤجلون و

قال أبو العالية  لا ينظرون فبعتذروا ك

قوله تعالى { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } (٣٦-المرسلات).

١٦٣

قوله تعالى { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا يا محمد صف لنا ربك وانسبه

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وسورة الإخلاص والواحد الذي لا نظير له ولا شريك له.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أبو منصور السمعاني

أخبرنا أبو جعفر الرياني

أخبرنا حميد بن زنجويه

أخبرنا بكر بن إبراهيم و أبو عاصم عن عبيد اللّه بن أبي زياد عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد أنها قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول { إن في هاتين الآيتين اسم اللّه الأعظم } إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم و اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم . قال أبو الضحى  لما نزلت هذه الآية قال المشركون إن محمداً يقول إن إلهكم إله واحد فليأتنا بآية إن كان من الصادقين

١٦٤

فأنزل اللّه عز وجل { إن في خلق السموات والأرض } ذكر السماوات بلفظ الجمع والأرض بلفظ الواحد لأن كل سماء ليست من جنس واحد بل من جنس آخر، والأرضون كلها من جنس واحد وهو التراب، فالآية في السماوات سمكها وارتفاعها من غير عمد ولا علاقة وما ترى فيها من الشمس والقمر والنجوم، والآية في الأرض مدها وبسطها وسعتها وماترى فيها من الأشجار والأنهار والجبال والبحار والجواهر والنبات.

قوله تعالى { واختلاف الليل والنهار } أي تعاقبهما في الذهاب والمجيء يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر خلفه أي بعده نظيره

قوله تعالى { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة } (٦٢-الفرقان) قال عطاء  أراد اختلافهما في النور والظلمة والزيادة والنقصان. والليل جمع ليلة، والليالي جمع الجمع. والنهار جمعه نهر وقدم الليل على النهار في الذكر لأنه أقدم منه قال اللّه تعالى { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } (٣٧-يس). { والفلك التي تجري في البحر } يعني السفن واحده وجمعه سواء فإذا أريد به الجمع يؤنث وفي الواحد يذكر قال اللّه تعالى في الواحد والتذكير { إذ أبق إلى الفلك المشحون } (١٤٠-الصافات) وقال في الجمع والتأنيث { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة } (٢٢-يونس). { والفلك التي تجري في البحر } الآية في الفلك تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقرة لا ترسب تحت الماء { بما ينفع الناس } يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات والمكاسب وأنواع المطالب { وما أنزل اللّه من السماء من ماء } يعني المطر قيل أراد بالسماء السحاب، يخلق اللّه في السحاب ثم من السحاب ينزل

وقيل أراد به السماء المعروفة يخلق اللّه تعالى الماء في السماء ثم ينزل من السماء إلى السحاب ثم من السحاب ينزل إلى الأرض { فأحيا به } أي الماء { الأرض بعد موتها } أي بعد يبوستها وجدوبتها { وبث فيها } أي فرق فيها { من كل دابة وتصريف الرياح }. قرأ حمزة و الكسائي الريح بغير ألف وقرأ الباقون بالألف وكل ريح في القرآن ليس فيها ألف ولا لام اختلفوا في جمعها وتوحيدها إلا في الذاريات { الريح العقيم } (٤١-الذاريات) اتفقوا على توحيدها وفي الحرف الأول من سورة الروم { الرياح مبشرات } (٤٥٦-الروم) اتفقوا على جمعها، وقرأ أبو جعفر سائرها على الجمع، والقراء مختلفون فيها، والريح يذكر ويؤنث، وتصريفها أنها تتصرف إلى الجنوب والشمال والقبول والدبور والنكباء.

وقيل تصريفها أنها تارة تكون ليناً وتارة تكون عاصفاً وتارة تكون حارة وتارة تكون باردة قال ابن عباس أعظم جنود اللّه الريح والماء وسميت الريح ريحاً لأنها تريح النفوس قال شريح القاضي  ما هبت ريح إلا لشفاء سقيم صحيح والبشارة في ثلاث من الرياح في الصبا والشمال والجنوب أما الدبور فهي الريح العقيم لا بشارة فيها

وقيل الرياح ثمانية أربعة للرحمة وأربعة للعذاب. فأما التي للرحمة المبشرات والناشرات والذاريات والمرسلات وأما التي للعذاب فالعقيم والصرصر في البر والعاصف والقاصف في البحر { والسحاب المسخر } أي الغيم المذلل سمي سحاباً لأنه ينسحب أي يسير في سرعة كأنه يسحب أي يجر { بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون } فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقاً وصانعاً قال وهب بن منبه  ثلاثة لا يدرى من أين تجيء الرعد والبرق والسحاب.

١٦٥

قوله تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون اللّه أنداداً } أي أصناماً يعبدونها { يحبونهم كحب اللّه } أي يحبون آلهتهم كحب المؤمنين اللّه، وقال الزجاج  يحبون الأصنام كما يحبون اللّه لأنهم أشركوها مع اللّه فسووا بين اللّه وبين أوثانهم في المحبة { والذين آمنوا أشد حباً للّه } أي أثبت وأدوم على حبه لأنهم لا يختارون على اللّه ما سواه والمشركون إذا اتخذوا صنماً ثم رأوا أحسن منه طرحوا الأول واختاروا الثاني

قال قتادة  إن الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ويقبل على اللّه تعالى كما أخبر اللّه عز وجل عنهم فقال { فإذا ركبوا في الفلك دعوا اللّه مخلصين له الدين } (٦٥-العنكبوت) والمؤمن لا يعرض عن اللّه في السراء والضراء والشدة والرخاء.

قال سعيد بن جبير  إن اللّه عز وجل يأمر يوم القيامة من أحرق نفسه في الدنيا على رؤية الأصنام أن يدخلوا جهننم مع أصنامهم فلا يدخلون لعلمهم أن عذاب جهنم على الدوام، ثم يقول للمؤمنين وهم بين أيدي الكفار (( إن كنتم أحبائي فادخلوا جهنم )) فيقتحمون فيها فينادي مناد من تحت العرش { والذين آمنوا أشد حباً للّه }

وقيل إنما قال { والذين آمنوا أشد حباً للّه } لأن اللّه تعالى أحبهم أولاً ثم أحبوه ومن شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته أتم قال اللّه تعالى { يحبهم ويحبونه } (٥٤-المائدة).

قوله تعالى { ولو يرى الذين ظلموا } قرأ نافع و ابن عامر و يعقوب ولو ترى بالتاء وقرأ الآخرون بالياء وجواب لو هاهنا محذوف ومثله كثير في القرآن ك

قوله تعالى { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به } الرعد-٣١ يعني لكان هذا القرآن فمن قرأ بالتاء معناه ولو ترى يا محمد الذين ظلموا أنفسهم من شدة العذاب لرأيت أمرأً عظيماً،

وقيل معناه قل يا محمد أيها الظالم لو ترى الذين ظلموا أو أشركوا في شدة العقاب لرأيت أمراً فظيعاً، ومن قرأ بالياء معناه ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم عند رؤية العذاب أو لو رأوا شدة عذاب اللّه وعقوبته حين يرون العذاب لعرفوا مضرة الكفر وأن ما اتخذوا من الأصنام لا ينفعهم.

قوله تعالى { إذ يرون } قرأ ابن عامر بضم الياء والباقون بفتحها { العذاب أن القوة للّه جميعاً وأن اللّه شديد العذاب } أي بأن القوة للّه جميعاً معناه لرأوا معناه لرأوا وأيقنوا أن القوة للّه جميعاً. وقرأ أبو جعفر و يعقوب إن القوة وإن اللّه بكسر الألف على الاستئناف والكلام تام عند قوله { إذ يرون العذاب } مع إضمار الجواب.

١٦٦

{ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب } هذا في يوم القيامة حين يجمع اللّه القادة والأتباع فيتبرأ بعضهم من بعض، هذا قول أكثر المفسرين، و

قال السدي  هم الشياطين يتبرأون من الإنس { وتقطعت بهم } أي عنهم { الأسباب } أي الوصلات التي كانت بينهم في الدنيا نت القرابات والصداقات وصارت مخالتهم عداوة، وقال ابن جريج  الأرحام كما قال اللّه تعالى { فلا أنساب بينهم يومئذ } (١٠١-المؤمنون) و

قال السدي  يعني الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا كما قال اللّه تعالى { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } (٢٣-الفرقان). وأصل السبب ما يوصل به إلى الشيء من ذريعة أو قرابة أو مودة ومنه يقال للحبل سبب وللطريق سبب

١٦٧

{ وقال الذين اتبعوا } يعني الأتباع { لو أن لنا كرة } أي رجعة إلى الدنيا { فنتبرأ منهم } أي من المتبوعين { كما تبرؤوا منا } اليوم { كذلك } أي كما أراهم العذاب كذلك { يريهم اللّه }

وقيل كتبرئ بعضهم من بعض يريهم اللّه { أعمالهم حسرات } ندامات { عليهم } جمع حسرة قيل يريهم اللّه ما ارتكبوا من السيئات فيتحسرون لم عملوا،

وقيل يريهم ما تركوا من الحسنات فيندمون على تضييعها وقال ابن كيسان  إنهم أشركوا باللّه الأوثان رجاء أن تقربهم إلى اللّه عز وجل، فلما عذبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسروا وندموا.

قال السدي  ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا اللّه فيقال لهم تلك مساكنكم لو أطعتم اللّه، ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون ويتحسرون { وما هم بخارجين من النار }.

١٦٨

قوله تعالى { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } نزلت في ثقيف وخزاعه وعامر بن صعصعة وبني مدلج فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فالحلال ما أحله الشرع طيباً، قيل ما يستطاب ويستلذ، والمسلم يستطيب الحلال ويعاف الحرام،

وقيل الطيب الطاهر { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } قرأ أبو جعفر و ابن عامر و الكسائي و حفص و يعقوب بضم الطاء والباقون بسكونها وخطوات الشيطان آثاره وزلاته،

وقيل هي النذر في المعاصي. وقال أبو عبيدة  هي المحقرات من الذنوب. وقال الزجاج  طرقه { إنه لكم عدو مبين } بين العداوة

وقيل مظهر العداوة، وقد أظهر عداوته بإبائه السجود لآدم وغروره إياه حتى أخرجه من الجنة.

١٦٩

وأبان يكون لازماً ومتعدياً ثم ذكر عداوته فقال { إنما يأمركم بالسوء } أي بالإثم وأصل السوء ما يسوء صاحبه وهو مصدر ساء يسوء سوأ ومساءة أي أحزنه، وسوأته فساء أي حزنته فحزن { والفحشاء } المعاصي وما قبح من القول والفعل وهو مصدر كالسراء والضراء. روى باذان عن ابن عباس قال الفحشاء من المعاصي ما يجب فيه الحد والسوء من الذنوب ما لا حد فيه. و

قال السدي  هي الزنا

وقيل هي البخل {أن تقولوا على اللّه ما لا تعلمون } من تحريم الحرث والأنعام.

١٧٠

{ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل اللّه } قيل هذه قصة مستأنفة والهاء والميم في لهم كناية عن غير مذكور. وروي عن ابن عباس قال دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اليهود إلى الإسلام، فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أي ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا خيراً وأعلم منا،

فأنزل اللّه تعالى هذه اآية،

وقيل الآية متصلة بما قبلها وهي نازلة في مشركي العرب وكفار قريش والهاء والميم عائدة إلى قوله { ومن الناس من يتخذ من دون اللّه أنداداً } (١٦٥-البقرة) { قالوا بل نتبع ما ألفينا } أي ما وجدنا { بهذا في آبائنا } من عبادة الأصنام،

وقيل معناه وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل اللّه في تحليل ما حرموه على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة. والهاء والميم عائدة إلى الناس في

قوله تعالى { يا أيها الناس كلوا } { قالوا بل نتبع } قرأ الكسائي  بل نتبع بإدغام اللام في النون. وكذلك يدغم لام هل وبل في التاء والثاء والزاي والسين والصاد والطاء والظاء ووافق حمزة في التاء والثاء والسين { ما ألفينا } ما وجدنا { عليه آباءنا } من التحريم والتحليل. قال تعالى { أو لو كان آباؤهم } أي كيف يتبعون آباءهم وآباؤهم { لا يعقلون شيئاً } والواو في (( أولو )) واو العطف، ويقال لها واو التعجب دخلت عليها ألف الاستفهام للتوبيخ والمعنى أيتبعون آباءهم وإن كانوا جهالاً لا يعقلون شيئاً، لفظه عام ومعناه الخصوص. أي لا يعقلون شيئاً من أمور الدين لأنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا { ولا يهتدون } ثم ضرب اللّه مثلاً فقال جل ذكره

١٧١

{ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع } والنعيق والنعق صوت الراعي بالغنم معناه مثلك يا محمد ومثل الكفار في وعظهم ودعائهم إلى اللّه عز وجل كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم،

وقيل مثل واعظ الكفار وداعيهم معهم كمثل الراعي ينعق بالغنم وهي لا تسمع { إلا دعاء } صوتاً { ونداء } فأضاف المثل إلى الذين كفروا لدلالة الكلام عليه كما في

قوله تعالى { واسأل القرية } (٨٢-يوسف) معناه كما أن البهائم تسمع صوت الراعي ولا تفهم وى تعقل ما يقال لها، كذلك الكافر لا ينتفعبوعظك إنما يسمع صوتك.

وقيل معناه ومثل الذين كفروا في قلة عقلهم وفهمهم عن اللّه وعن رسوله كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفقه من الأمر والنهي إلا الصوت فيكون المعنى للمنعوق به والكلام خارج عن الناعق وهو فاش في كلام العرب يفعلون ذلك ويقلبون الكلام لايضاح المعنى عندهم، يقولون فلان يخافك كخوف الأسد، أي كخوفه الأسد. وقال تعالى { ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة } (٧٦-القصص) وإنما العصبة تنوء بالمفاتيح

وقيل معناه مثل الذين كفروا في دعاء الأصنام التي لاتفقه ولا تعقل كمثل الناعق بالغنم فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في عناء من الدعاء والنداء، كذلك الكافر ليس له من دعاء الآلهة وعبادتها إلا العناء والبلاء كما قال تعالى { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم } (١٤-فاطر).

وقيل معنى الآية ومثل الذين كفروا في دعاء الأوثان كمثل الذي يصيح في جوف الجبال فيسمع صوتاً يقال له الصدى لا يفهم منه شيئاً، فمعنى الآية كمثل الذي ينفق بما لا يسمع منه الناعق إلا دعاء ونداء { صم } يقول العرب لمن يسمع ولا يعقل كأنه أصم { بكم } عن الخير لا يقولونه { عمي } عن الهدى لا يبصرونه { فهم لا يعقلون }.

١٧٢

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات } من حلالات { ما رزقناكم }.

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح

أخبرنا أبو القاسم عبد اللّه بن محمد بن عبد العزيز البغوي

أخبرنا علي بن جعد

أخبرنا فضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { يا أيها الناس إن اللّه طيب لا يقبل إلا الطيب وإن اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً} (٥١-المؤمنون) وقال{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يارب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك }.

{ واشكروا للّه } على نعمه { إن كنتم إياه تعبدون } ثم بين المحرمات

١٧٣

فقال { إنما حرم عليكم الميتة } قرأ أبو جعفر الميتة في كل القرآن بالتشديد والباقون يشددون البعض. والميتة كل ما لم تدرك ذكاته مما يذبح { والدم } أراد بالدم الجاري يدل عليه

قوله تعالى { أو دماً مسفوحاً } (١٤٥-الأنعام) واستثنى الشرع من الميتة السمك والجراد ومن الدم الكبد والطحال فأحلها.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب

أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال

أخبرنا أبو العباس الأصم

أخبرنا الربيع بن سليمان

أخبرنا الشافعي

أخبرنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { أحلت لنا ميتتان ودمان، الميتتان الحوت والجراد، والدمان، أحسبه قال الكبد والطحال } { ولحم الخنزير } أراد به جميع أجزائه فعبر عن ذلك باللحم لأنه معظمه { وما أهل به لغير اللّه } أي ما ذبح للأصنام والطواغيت، وأصل الإهلال رفع الصوت. وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها فجرى ذلك من أمرهم حتى قيل لكل ذابح وإن لم يجهر بالتسمية مهل. وقال الربيع بن أنس وغيره { وما أهل به لغير اللّه } قال ما ذكر عليه اسم غير اللّه. { فمن اضطر } بكسر النون وأخواته قرأ عاصم و حمزة ، ووافق أبو عمرو إلا في اللام والواو مثل { قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمن} (١١٠-الإسراء) ويعقوب إلا في الوا، ووافق ابن عامر في التنوين، والباقون كلهم بالضمن فمن كسر قال لأن الجزم يحرك إلى الكسر، ومن ضم فلضمة أول الفعل نقل حركتها إلى ما قبلها، و أبو جعفر بكسر الطاء ومعناه فمن اضطر إلى أكل ميتة أي أحوج وألجئ إليه { غير } نصب على الحال،

وقيل على الاستثناء وإذا رأيت (غير) يصلح في موضعها (لا) فهي حال، وإذا صلح في موضعها (إلا) فهي استثناء { باغ ولا عاد } أصل البغي قصد الفساد، يقال بغى الجرح يبغي بغياً إذا ترامى إلى الفساد، وأصل العدوان الظلم ومجاوزة الحد يقال عدا عليه عدواً وعدواناً إذا ظلم

واختلفوا في معنى قوله { غير باغ ولا عاد } فقال بعضهم { غير باغ } أي خارج على السلطان، ولا عاد متعد عاص بسفره، بأن خرج لقطع الطريق أو لفساد في الأرض. وهو قول ابن عباس و مجاهد و سعيد بن جبير . وقالوا لا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل الميتة إذا اضطر إليها ولا أن يترخص المسافر حتى يتوب، وبه قال الشافعي رحمه اللّه لأن إباحته له إعانة له على فساده، وذهب جماعة إلى أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل

واختلفوا في تفصيله. فقال الحسن و قتادة { غير باغ } لا تأكله من غير اضطرار { ولا عاد } أي لا يعدو لشبعه.

وقيل { غير باغ } أي غير طالبها وهويجد غيرها { ولا عاد } أي غير متعد ما حد له فما يأكل حتى يشبع ولكن يأكل منها قوتاً مقدار ما يمسك رمقه. وقال مقاتل بن حيان { غير باغ } أي مستحل لها { ولا عاد } أي متزود منها.

وقيل { غير باغ } أي غير مجاوز للقدر الذي أحل له { ولا عاد } أي لا يقصر فيما أبيح له فيدعه قال مسروق  من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار.

واختلف العلماء في مقدار ما يحل للمضطر أكله من الميته، فقال بعضهم مقدار ما يسد رمقه. وهو قول أبو حنيفة رضي اللّه عنه و أحد قولي الشافعي رضي اللّه عنه. والقول الآخر يجوز أن يأكل حتى يشبع وبه قال مالك رحمه اللّه تعالى. وقال سهل بن عبد اللّه { غير باغ } مفارق للجماعة { ولا عاد } مبتدع مخالف للسنة ولم يرخص للمبتدع في تناوله المحرم عند الضرورة { فلا إثم عليه } أي فلا حرج عليه في أكلها { إن اللّه غفور } لمن أكل في حال الاضطرار { رحيم } حيث رخص للعباد في ذلك.

١٧٤

قوله تعالى { إن الذين يكتمون ما أنزل اللّه من الكتاب } (( نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمآكل وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث محمد صلى اللّه عليه وسلم من غيرهم خافوا ذهاب مأكلهم وزوال رياستهم، فعمدوا إلى صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم، فلما نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفاً لصفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يتبعوه ))

فأنزل اللّه تعالى { إن الذين يكتمون ما أنزل اللّه من الكتاب } يعني صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم ونبوته { ويشترون به } أي بالمكتوم { ثمناً قليلاً } أي عوضاً يسيراً يعني المآكل التي يصيبونها من سفلتهم { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } يعني إلا ما يؤديهم إلى النار وهوالرشوة والحرام وثمن الدين، فلما كان يفضي ذلك بهم إلى النار فكأنهم أكلوا النار

وقيل معناه أنه يصير ناراً في بطونهم { ولا يكلمهم اللّه يوم القيامة } أي لا يكلمهم بالرحمة وبما يسرهم إنما يكلمهم بالتوبيخ.

وقيل أراد به أن يكون عليهم غضبان، كما يقال فلان لا يكلم فلاناً إذا كان عليه غضبان { ولا يزكيهم } أي لا يطهرهم من دنس الذنوب { ولهم عذاب أليم }

١٧٥

{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار } قال عطاء و السدي  هو ما استفهام معناه ما الذي صبرهم على النار وأي شيء يصبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل وقال الحسن و قتادة  واللّه ما لهم عليها من صبر ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار قال الكسائي  فما أصبرهم على عمل أهل النار أي ما أدومهم عليه

١٧٦

{ ذلك بأن اللّه نزل الكتاب بالحق } يعني ذلك العذاب بأن اللّه نزل الكتاب بالحق فأنكروه وكفروا به وحينئذ يكون ذلك في محل الرفع وقال بعضهم محله نصب معناه فعلنا ذلك بهم بأن اللّه أي لأن اللّه نزل الكتاب بالحق فاختلفوا فيه

وقيل معناه ذلك أي فعلهم الذي يفعلون من الكفر والاختلاف والاجتراء على اللّه من أجل أن اللّه نزل الكتاب بالحق وهو

قوله تعالى { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم اللّه على قلوبهم } (٧-البقرة) { وإن الذين اختلفوا في الكتاب } فآمنوا ببعض وكفروا ببعض { لفي شقاق بعيد } أي في خلاف وضلال بعيد.

١٧٧

قوله تعالى { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } قرأ حمزة و حفص  ليس البر بنصب الراء، والباقون برفعها، فمن رفعها جعل { البر} اسم ليس ، وخبره قوله أن تولوا ، تقديره ليس البر توليتكم وجوهكم. ومن نصب جعل { أن تولوا } في موضع الرفع على اسم ليس تقديره ليس توليتكم وجوهكم البر كله، كقةله تعالى { ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا } (٢٥- الجاثية). والبر كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة

واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية، فقال قوم عنى بها اليهود والنصارى، وذلك أن اليهود كانت تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس والنصارى قبل المشرق، وزعم كل فريق منهم أن البر في ذلك، فأخبر اللّه تعالى أن البر غير دينهم وعملهم ولكنه ما بينه في هذه الآية وعلى هذا القول قتادة و مقاتل بن حيان . وقال الآخرونك المراد بها المؤمنون وذلك أن الرجل كان في ابتداء الإسلام قبل نزول الفرائض إذا أتى بالشهادتين وصلى الصلاة إلى جهة كانت ثم مات على ذلك وجبت له الجنة. ولما هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونزلت الفرائض وحددت وصرفت القبلة إلى الكعبة أنزل اللّه هذه الآية فقال { ليس البر } أي كله أن تصلوا قبل المشرق والمغرب ولا تعملوا على غير ذلك { ولكن البر } ما ذكر في هذه الآية وعلى هذا القول ابن عباس و مجاهد و عطاء و الضحاك . { ولكن البر } قرأ نافع و ابن عامر ولكن خفيفة النون البر رفع وقرأ الباقون بتشديد النون ونصب البر.

قوله تعالى { من آمن باللّه } جعل من وهي اسم خبر للبر وهو فعل ولا يقال البر زيد

واختلفوا في وجهه قيل لما وقع من في موضع المصدر جعله خبراً للبر كأنه قال ولكن البر الإيمان باللّه والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل وأنشد الفراء  لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ولكنما الفتيان كل فتى ندي فجعل نبات اللحى خبراً للفتى

وقيل فيه إضمار معناه ولكن البر بر من آمن باللّه فاستغنى بذكر الأول عن الثاني كقولهم الجود حاتم أي الجود جود حاتم

وقيل معناه ولكن ذا البر من آمن باللّه ك

قوله تعالى { هم درجات عند اللّه } (١٦٣-آل عمران) أي ذو درجات

وقيل معناه ولكن البار من آمن باللّه ك

قوله تعالى { والعاقبة للتقوى } (١٣٢-طه) أي للمتقي والمراد من البر هاهنا الإيمان والتقوى. { واليوم الآخر والملائكة } كلهم { والكتاب } يعني الكتب المنزلة { والنبيين } أجمع { وآتى المال } أعطى المال { على حبه } اختلفوا في هذه الكناية فقال أكثر أهل التفسير إنها راجعة إلى المال أي أعطى المال في حال صحته ومحبته المال قال ابن مسعود أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا موسى بن إسماعيل

أخبرنا عبد الواحد ثنا عمارة بن القعقاع أنا أبو زرعة

أخبرنا أبو هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال { أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان }.

وقيل هي عائدة على اللّه عز وجل أي على حب اللّه تعالى. { ذوي القربى } أهل القرابة.

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي

أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي

أخبرنا أبو العباس المحبوبي

أخبرنا أبو عيسى الترمذي

أخبرنا قتيبة

أخبرنا سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن عمها سلمان بن عامر يبلغ به النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة }.

قوله تعالى { واليتامى والمساكين وابن السبيل }

قال مجاهد  يعني المسافر المنقطع عن أهله يمر عليك ويقال للمسافر ابن السبيل لملازمته الطريق،

وقيل هو الضيف ينزل بالرجل قال النبي صلى اللّه عليه وسلم { من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه } { والسائلين } يعني الطالبين.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي

أخبرنا زاهر بن أحمد

أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي

أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبي بجيد الأنصاري وهم عبد الرحمن بن بجيد عن جدته وهي أم بجيد أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { ردوا السائل ولو بظلف محرق } وفي رواية قالها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {إن لم تجدي شيئاً إلا ظلفاً محرقاً فادفعيه إليه }

قوله تعالى { وفي الرقاب } يعني المكاتبين قاله أكثر المفسرين،

وقيل عتق النسمة وفك الرقبة

وقيل فداء الأسارى { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } وأعطى الزكاة { والموفون بعهدهم } فيما بينهم وبين اللّه عز وجل وفيما بينهم وبين الناس {إذا عاهدوا } يعني إذا وعدوا أنجزوا، وإذا حلفوا ونذروا أوفوا، وإذا عاهدوا أوفوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا ائتمنوا أدوا،

واختلفوا في رفع قوله والموفون قيل هو عطف على خبر معناه ولكن ذا البر المؤمنون والموفون بعهدهم

وقيل تقديره وهم الموفون كأنه عد أصنافاً ثم قال هم الموفون كذا،

وقيل رفع على الابتداء والخبر يعني وهم الموفون ثم قال { والصابرين } وفي نصبها أربعة أوجه قال أبو عبيدة نصبها على تطاول الكلام ومن شأن العرب أن تغير الإعراب إذا طال الكلام والنسق ومثله في سورة النساء { والمقيمين الصلاة } (سورة المائدة-١٦٢) {والصابئون والنصارى}،

وقيل معناه أعني الصابرين،

وقيل نصبه نسقاً على قوله ذوي القربى أي وآتي الصابرين. وقال الخليل  نصب على المدح والعرب تنصب الكلام على المدح والذم [كأنهم يريدون إفراد الممدوح والمذموم فلا يتبعونه أول الكلام وينصبونه فالمدح ك

قوله تعالى { والمقيمين الصلاة }] (١٦٢-النساء). والذم ك

قوله تعالى { ملعونين أينما ثقفوا } (٦١-الأحزاب).

قوله تعالى { في البأساء } أي الشدةوالفقر { والضراء } المرض والزمانة { وحين البأس } أي القتال والحرب.

أخبرنا المطهر بن علي بن عبد اللّه الفارسي

أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الصالحاني

أخبرنا أبو محمد عبد اللّه بن محمد بن جعفر بن حبان

أخبرنا عبد اللّه بن محمد البغوي

أخبرنا علي بن الجعد

أخبرنا زهير عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال كنا إذا احمر البأس ولقي القوم اتقينا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، يعني إذا اشتد الحرب { أولئك الذين صدقوا } في إيمانهم { وأولئك هم المتقون }.

١٧٨

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص } قال الشعبي و الكلبي و قتادة  نزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل وكانت بينهما قتلى وجراحات لم يأخذها بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام، قال مقاتل بن حيان  كانت بين بني قريظة والنضير، وقال سعيد بن جبير  كانت بين الأوس والخزرج، وقالوا جميعاً كانت لأحد الحيين على الآخر طول في الكثرة والشرف وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور فأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين منهم، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم،

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وأمر بالمساواة فرضوا وأسلموا. قوله { كتب عليكم القصاص } أي فرض عليكم القصاص { في القتلى } والقصاص المساواة والمماثلة في الجراحات والديات، وأصله من قص الأثر إذا اتبعه فالمفعول به يتبع ما فعل به فيفعل مثله. ثم بين المماثلة فقال { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } وجملة الحكم فيه أنه إذا تكافأ الدمان في الأحرار المسلمين أو العبيد من المسلمين أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم قتل من كل صنف منهم الذكر إذا قتل بالذكر وبالأنثى، وتقتل الأنثى إذا قتلت بالأنثى وبالذكر، ولا يقتل مؤمن بكافر ولا حر بعبد، ولا والد بولد، ولا مسلم بذمي، ويقتل الذمي بالمسلم، والعبد بالحر، والولد بالوالد. هذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب

أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال

أخبرنا أبو العباس الأصم

أخبرنا الربيع بن سليمان أنا الشافعي

أخبرنا سفيان بن عيينة عن مطرف عن الشعبي عن أبي جحيفة قال (( سألت علياً رضي اللّه عنه هل عندك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم شيء سوى القرآن؟ فقال لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يؤتي اللّه عبداً فهماً في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت وما في هذه الصحيفة؟ قال العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مؤمن بكافر )).

وروي عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقاد بالولد الوالد }.

وذهب الشعبي و النخعي وأصحاب الرأي إلى أن المسلم يقتل بالذمي، وإلى أن الحر يقتل بالعبد، والحديث حجة لمن لم يوجب القصاص على المسلم بقتل الذمي، وتقتل الجماعة بالواحد. (( روي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل سبعة أو خمسة برجل قتلوه غيلة، وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم جميعاً )) ويجري القصاص في الأطراف كما يجري في النفوس إلا في شيء واحد وهو أن الصحيح السوي يقتل بالمريض الزمن، وفي الأطراف لو قطع يداً شلاء أو ناقصة بأصبع لا تقطع بها الصحيحة الكاملة، وذهب أصحاب الرأي إلى أن القصاص في الأطراف لا يجري إلا بين حرين أو حرتين ولا يجري بين الذكر والأنثى ولا بين العبيد ولا بين الحر والعبد، وعند الآخرين الطرف في القصاص مقيس على النفس.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا عبد اللّه بن منير أنه سمع عبد اللّه بن بكر السهمي

أخبرنا حميد { عن أنس بن النضر أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو، فأبوا فعرضوا الأرش فأبوا فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأبوا إلا القصاص، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر يا رسول اللّه أتكسر ثنية الربيع لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا أنس كتاب اللّه القصاص فرضي القوم فعفوا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه لأبره }.

قوله تعالى { فمن عفي له من أخيه شيء } أي ترك له وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد ورضي بالدية هذا قول أكثر المفسرين، قالوا العفو أن تقبل الدية في قتل العمد وقوله (من أخيه) أي من دم أخيه وأراد بالأخ المقتول والكنايتان في قوله { له } و { من أخيه } ترجعان إلى من وهو القاتل، وقوله شيء دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا يسقط القود لأن شيئاً من الدم قد بطل.

قوله تعالى { فاتباع بالمعروف } أي على الطالب للدية أن يتبع بالمعروف فلا يطالب بأكثر من حقه. { وأداء إليه بإحسان} أي على المطلوب منه أداء الدية بالإحسان من غير مماطلة، أمر كل واحد منهما بالإحسان فيما له وعليه ومذهب أكثر العلماء من الصحابة والتابعين أن ولي الدم إذا عفا عن القصاص على الدية فله أخذ الدية وإن لم يرض به القاتل، وقال قوم لا دية له إلا برضاء القاتل، وهو قول الحسن و النخعي وأصحاب الرأي، وحجة المذهب الأول ما

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب

أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال

أخبرنا أبو العباس الأصم

أخبرنا الربيع

أخبرنا الشافعي

أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا واللّه عاقله فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل }.

قوله تعالى { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } أي ذلك الذي ذكرت من العفو عن القصاص وأخذ الدية تخفيف من ربكم ورحمة، وذلك أن القصاص في النفس والجراح كان حتماً في التوراة على اليهود ولم يكن لهم أخذ الدية، وكان في شرع النصارى الدية ولم يكن لهم القصاص، فخير اللّه تعالى هذه الأمة بين القصاص وبين العفو على الدية تخفيفاً منه ورحمة. { فمن اعتدى بعد ذلك } فقتل الجاني بعد العفو وقبول الدية { فله عذاب أليم } وهو أن يقتل قصاصاً، قال ابن جريج  يتحتم قتله حتى لا يقبل العفو، وفي اية دليل على أن القاتل لا يصير كافراً بالقتل، لأن اللّه تعالى خاطبه بعد القتل بخطاب الإيمان فقال { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص } وقال في آخر الآية { فمن عفي له من أخيه شيء } وأراد به أخوة الإيمان، فلم يقطع الأخوة بينهما بالقتل.

١٧٩

قوله تعالى { ولكم في القصاص حياة } أي بقاء، وذلك أن القاصد للقتل إذا علم أنه علم إذا قتل يقتل يمتنع عن القتل، فيكون بقاؤه وبقاء من هم بقتله،

وقيل في المثل (( القتل قلل القتل ))

وقيل في المثل (( القتل أنفى للقتل )

وقيل معنى الحياة سلامته من قصاص الآخرة، فإنه إذا اقتص منه حيي في الآخرة وإذا لم يقتص منه في الدنيا اقتص منه في الآخرة { يا أولي الألباب لعلكم تتقون } أي تنتهون عن القتل مخافة القود.

١٨٠

قوله تعالى { كتب عليكم } أي فرض عليكم { إذا حضر أحدكم الموت } أي جاءه أسباب الموت وآثاره من العلل والأمراض { إن ترك خيراً } أي مالاً نظيره

قوله تعالى { وما تنفقوا من خير } (٢٧٢-البقرة) { الوصية للوالدين والأقربين } كانت الوصية فريضة في ابتداء الإسلام للوالدين والأقربين على من مات وله مال ثم نسخت بآية الميراث.

أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد القاضي

أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي

أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر

أخبرنا محمد بن أحمد الوليد

أخبرنا الهيثم بن جميل

أخبرنا حماد بن سلمة عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنمعن عمرو بن خارجة قال { كنت آخذاً بزمام ناقة النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال إن اللّه قد أعطى كل ذي حق حقه ولا وصية لوارث } فذهب جماعة إلى أن وجوبها صار منسوخاً في حق الأقارب الذين يرثون وبقي وجوبها في حق الذين لا يرثون من الوالدين والأقارب، وهو قول ابن عباس و طاووس و قتادة و الحسن قال طاووس  من أوصى لقوم سماهم ذوي قرابته محتاجين انتزعت منهم وردت إلى ذوي قرابته، وذهب الأكثرون إلى أن الوجوب صار منسوخاً في حق الكافة وهي حتمية في حق الذين لا يرثون.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي

أخبرنا طاهر بن أحمد

أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي

أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { ما من حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا وصيته مكتوبة عند رأسه }.

قوله تعالى { بالمعروف } يريد يوصي بالمعروف ولا يزيد على الثلث ولا يوصي للغني ويدع الفقير، قال ابن مسعود الوصية للأخل فالأخل أي الأحوج فالأحوج.

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي

أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري

أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن رحيم الشيباني

أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزه

أخبرنا عبيد اللّه بن موسى و أبو نعيم عن سفيان الثوري عن سعيد بن إبراهيم عن عامر بن سعيد عن سعد بن مالك قال{ جاءني النبي صلى اللّه عليه وسلم يعودني فقلت يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أوصي بمالي كله؟ قال لا قلت فالشطر؟ قال لا، قلت فالثلث؟ قال الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس بأيديهم }.

وعن ابن مليكة أن رجلاً قال لعائشة رضي اللّه عنها إني أريد أن أوصي، قالت كم مالك؟ قال ثلاثة آلاف. قالت كم عيالك؟ قال أربعة، قالت إنما قال اللّه { إن ترك خيراً } وإن هذا شيء يسير فاترك لعيالك. وقال علي رضي اللّه عنه لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث فمن أوصى بالثلث فلم يترك. وقال الحسن البصري رضي اللّه عنه يوصي بالسدس أو الخمس أو الربع، وقال الشعبي إنما كانوا يوصون بالخمس أو الربع.

قوله تعالى { حقاً } نصب على المصدر

وقيل على المفعول أي جعل الوصية حقاً { على المتقين } المؤمنين.

١٨١

قوله تعالى { فمن بدله } أي غير الوصية في الأوصياء أو الأولياء أو الشهود { بعد ما سمعه } أي بعد ما سمع قول الموصي، ولذلك ذكر الكناية مع كون الوصية مؤنثة،

وقيل الكناية راجعة إلى الإيصاء ك

قوله تعالى { فمن جاءه موعظة من ربه } (٢٧٥-البقرة) رد الكناية إلى الوعظ { فإنما إثمه على الذين يبدلونه } والميت بريء منه { إن اللّه سميع } لما أوصى به الموصي { عليم } بتبديل المبدل، أو سميع لوصيته عليم بنيته.

١٨٢

قوله تعالى { فمن خاف } أي علم، كقوله تعالى { فإن خفتم أن لا يقيما حدود اللّه } (٢٢٩-البقرة) أي علمتم { من موص } قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر و يعقوب بفتح الواو وتشديد الصاد، كقوله تعالى { ما وصى به نوحاً } (١٣-الشورى) { ووصينا الإنسان } (٨-العنكبوت) وقرأ الآخرون بسكون الواو وتخفيف الصاد، كقوله تعالى { يوصيكم اللّه في أولادكم } (١١-النساء) { من بعد وصية يوصي بها أو دين } (١٢-النساء) { جنفاً } أي جوراً وعدولاً عن الحق، والجنف الميل

{ أو إثماً } أي ظلماً، قال السدي و عكرمة و الربيع  الجنف الخطأ والإثم العمد { فأصلح بينهم فلا إثم عليه }

واختلفوا في معنى الآية،

قال مجاهد  معناها أن الرجل إذا حضر مريضاً وهو يوصي فرآه يميل إما بتقصير أو إسراف، أو وضع الوصية في غير موضعها فلا حرج على من حضره أن يأمره بالعدل وينهاه عن الجنف فينظر للموصى وللورثة، وقال آخرون إنه أراد به أنه إذا أخطأ الميت في وصيته أو جار متعمداً فلا حرج على وليه أو وصيه أو والي أمور المسلمين أن يصلح بعد موته بين ورثته وبين الموصى لهم، ويرد الوصية إلى العدل والحق، فلا إثم عليه أي فلا حرج عليه { إن اللّه غفور رحيم } وقال طاووس  جنفة توليجة، وهو أن يوصي لبني بنيه يريد ابنه ولولد ابنته ولزوج ابنته يريد بذلك ابنته.

قال الكلبي  كان الأولياء والأوصياء يمضون وصية الميت بعد نزول

قوله تعالى { فمن بدله بعد ما سمعه } الآية وإن استغرق المال كله ولم يبق شيء، ثم نسخها

قوله تعالى { فمن خاف من موص جنفاً } الآية، قال ابن زيد  فعجز الموصي أن يوصي للوالدين والأقربين كما أمر اللّه تعالى، وعجز الموصي أن يصلح فانتزع اللّه تعالى ذلك منهم ففرض الفرائض. روي عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة اللّه ستين سنة، ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار } ثم قرأ أبو هريرة ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) إلى قوله ( غير مضار ).

١٨٣

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } أي فرض وأوجب، والصوم والصيام في اللغة الإمساك يقال صام النهار إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة، لأن الشمس إذا بلغت كبد السماء وقفت وأمسكت عن السير سويعة ومنه قال تعالى { فقولي إني نذرت للرحمن صوماً } (٢٦-مريم) أي صمتاً لأنه إمساك عن الكلام، وفي الشريعة الصوم هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع مع النية في وقت مخصوص { كما كتب على الذين من قبلكم } من الأنبياء والأمم،

واختلفوا في هذا التشبيه فقال سعيد ابن جبير  كان صوم من قبلنا من العتمة إلى الليلة القابلة كما كان في ابتداء الإسلام. وقال جماعة من أهل العلم أراد أن صيام رمضان كان واجباً على النصارى كما فرض علينا، فربما كان يقع في الحر الشديد والبرد الشديد، وكان يشق عليهم في أسفارهم ويضرهم في معايشهم، فاجتمع رأي علماؤهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السنة بين الشتاء والصيف،فجعلوه في الربيع وزادوا فيه عشرة أيام كفارة لما صنعوا فصار أربعين، ثم إن ملكهم اشتكى فمه فجعل للّه عليه إن هو برئ من وجعه أن يزيد في صومهم. أسبوعاً فبرئ فزاد فيه أسبوعاً ثم مات ذلك الملك ووليهم ملك آخر فقال أتموه خمسين يوماً، وقال مجاهد ك أصابهم موتان، فقالوا زيدوا فيصيامكم فزادوا عشراً قبل وعشراً بعد، قال الشعبي  لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه، فيقال من شعبان ويقال من رمضان، وذلك أن النصارى فرض عليهم شهر رمضان فصاموا قبل الثلاثين يوماً وبعدها يوماً، ثم لم يزل القرن الآخر يستن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوماً، فذلك

قوله تعالى { كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } يعني بالصوم لأن الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات،

وقيل لعلكم تحذرون عن الشهوات من الأكل والشرب والجماع { أياماً معدودات } قيل كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجباً، وصوم يوم عاشوراء فصاموا كذلك من الربيع إلى شهر رمضان سبعة عشر شهراً، ثم نسخ بصوم رمضان قال ابن عباس أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة والصوم،

ويقال نزل صوم شهر رمضان قبل بدر بشهر وأيام، قال محمد بن إسحاق كانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشر ليلة خلت من شهر رمضان على رأس ثمانية عشر شهراً من الهجرة. حدثنا أبو الحسن الشيرازي

أخبرنا زاهر بن أحمد

أخبرنا أبو إسحق الهاشمي

أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت (( كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية، فلما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه )).

١٨٤

وقيل المراد من قوله { أياماً معدودات } شهر رمضان وهي غير منسوخة ونصب أياماً على الظرف، أي في أيام معدودات،

وقيل على التفسير،

وقيل على هو خبر ما لم يسم فاعله { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة } أي فأفطر فعدة { من أيام أخر } أي فعليه عدة، والعدد والعدة واحد { من أيام أخر } أي غير أيام مرضه وسفره، وأخر في موضع خفض لكنها لا تنصرف فلذلك نصبت.

قوله تعالى { وعلى الذين يطيقونه } اختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها فذهب أكثرهم إلى أن الآية منسوخة، وهو قول ابن عمر وسلمة بن الأكوع وغيرهما، وذلك أنهم كانوا في ابتداء الإسلام نخيرين بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويفدوا، خيرهم اللّه تعالى لئلا يشق عليهم لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم، ثم نسخ التخيير ونزلت العزيمة ب

قوله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } و

قال قتادة  هي خاصة في حق الشيخ الكبير الذي يطيق الصوم، ولكن يشق عليه رخص له في أن يفطر ويفدي ثم نسخ.

وقال الحسن  هذا في المريض الذي به ما يقع عليه اسم المرض وهو مستطيع للصوم خير بين أن يصوم وبين أن يفطر ويفدي، ثم نسخ ب

قوله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه }. وثبتت الرخصة للذين لا يطيقون، وذهب جماعة إلى أن الآية محكمة غير منسوخة، ومعناه وعلى الذين كانوا يطيقونه في حال الشباب فعجزوا عنه بعد الكبر فعليهم الفدية بدل الصوم، وقرأ ابن عباس { وعلى الذين يطيقونه } بضم الياء وفتح الطاء وتخفيفها وفتح الواو وتشديدها، أي يكلفون الصوم وتأويله على الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصوم، والمريض الذي لا يرجى زوال مرضه فهم يكلفون الصوم ولا يطيقونه، فلهم أن يفطروا ويطعموا مكان كل يوم مسكيناً وهو قول سعيد بن جبير ، وجعل الآية محكمة.

قوله تعالى { فدية طعام مسكين } قرأ أهل المدينة والشام مضافاً، وكذلك في المائدة { كفارة طعام } أضاف الفدية إلى الطعام، وإن كان واحداً لاختلاف اللفظين، ك

قوله تعالى { وحب الحصيد } (٩-ق) وقولهم مسجد الجامع وربيع الأول، وقرأ الآخرون فدية وكفارة منونة، طعام رفع وقرأ مساكين بالجمع هنا أهل المدينة والشام، والآخرون على التوحيد، فمن جمع نصب النون ومن حد خفض النون ونونها، والفدية الجزاء، ويجب أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً مداً من الطعام بمد النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهو رطل وثلث من غالب قوت البلد، هذا قول فقهاء الحجاز، وقال بعض فقهاء أهل العراق عليه لكل مسكين نصف صاع لكل يوم يفطر،

وقال بعضهم نصف صاع من القمح أو صاع من غيره، وقال بعض الفقهاء ما كان المفطر يتقوته يومه الذي أفطره،

وقال ابن عباس يعطي كل مسكين عشاءه وسحوره. { فمن تطوع خيراً فهو خير له } أي زاد على مسكين واحد فأطعم مكان كل يوم مسكينين فأكثر، قاله مجاهد و عطاء و طاووس ،

وقيل من زاد على القدر الواجب عليه فأعطى صاعاً وعليه مد فهو خير له. { وأن تصوموا خير لكم } فمن ذهب إلى النسخ قال معناه الصوم خير له من الفدية،

وقيل هذا في الشيخ الكبير لو تكلف الصوم وإن شق عليه خبر له من أن يفطر ويفدي { إن كنتم تعلمون } واعلم أنه لا رخصة لمؤمن مكلف في إفطار رمضان إلا لثلاثة أحدهم يجب عليه القضاء والكفارة، والثاني عليه القضاء دون الكفارة، والثالث عليه الكفارة دون القضاء أما الذي عليه القضاء والكفارة فالحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما فإنهما تفطران وتقضيان وعليهما مع القضاء الفدية، وهذا قول ابن عمر وابن عباس، وبه قال مجاهد وإليه ذهب الشافعي رحمه اللّه، وقال قوم لا فدية عليهما، وبه قال الحسن و عطاء و إبراهيم النخعي و الزهري وإليه ذهب الأوزاعي و الثوري وأصحاب الرأي، وأما الذي عليه القضاء دون الكفارة فالمريض والمسافر والحائض والنفساء. وأما الذي عليه الكفارة دون القضاء فالشيخ الكبير والمريض الذي لا يرجى زوال مرضه ثم بين اللّه تعالى أيام الصيام

١٨٥

فقال { شهر رمضان } رقعه على معنى هو شهر رمضان، وقال الكسائي  كتب عليكم شهر رمضان وسمي الشهر شهراً لشهرته، وأما رمضان فقد

قال مجاهد  هو اسم من أسماء اللّه تعالى، يقال شهر رمضان كما يقال شهر اللّه، والصحيح أنه اسم للشهر سمي به من الرمضاء وهي الحجارة المحماة وهم كانوا يصومونه في الحر الشديد فكانت ترمض فيه الحجارة في الحرارة.

قوله تعالى { الذي أنزل فيه القرآن } سمي القرآن قرآناً لأنه يجمع السور والآي والحروف وجمع فيه القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد. وأصل القرء الجمع وقد يحذف الهمز منه فيقال، قريت الماء في الحوض إذا جمعته، وقرأ ابن كثير  القرآن بفتح الراء غير مهموز، وكذلك كان يقرأ الشافعي ويقول ليس هو من القراءة ولكنه اسم لهذا الكتاب كالتوراة والإنجيل، وروي عن مقسم عن ابن عباس أنه سئل عن قوله عز وجل { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن }

وقوله { إنا أنزلناه في ليلة القدر } (١-القدر)،

وقوله { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } (٣-الدخان) وقد نزل في سائر الشهور، وقال عز وجل { وقرأناً فرقناه } (١٠٦-الإسراء) فقال أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نجوماً في ثلاث وعشرين سنة فذلك

قوله تعالى { فلا أقسم بمواقع النجوم } (٧٥-الواقعة) قال داود بن أبي هند قلت للشعبي  { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } أما كان ينزل في سائر الشهور؟ قال بلى، ولكن جبريل كان يعارض محمداً صلى اللّه عليه وسلم في رمضان ما نزل إليه فيحكم اللّه ما يشاء ويثبت ما يشاء، وينسيه ما يشاء. وروي عن أبي ذر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في ثلاث ليال مضين من رمضان، ويروى في أول ليلة من رمضان، وأنزلت توراة موسى عليه السلام في ست ليال مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام في ثلاث عشرة ليلة مضت من رمضان، وأنزل زبور داود في ثمان عشرة مضت من رمضان وأنزل الفرقان على محمد صلى اللّه عليه وسلم في الرابعة والعشرين من شهر رمضان لست بقين بعدها}.

قوله تعالى { هدى للناس } من الضلالة، وهدى في محل نصب على القطع لأن القرآن معرفة وهدى نكرة { وبينات من الهدى } أي دلالات واضحات من الحلال والحرام والحدود والأحكام { والفرقان } أي الفارق بين الحق والباطل.

قوله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } أي فمن كان مقيمأً في الحضر فأدركه الشهر

واختلف أهل العلم فيمن أدركه الشهر وهو مقيم ثم سافر، وروي عن علي رضي اللّه عنه أنه قال لا يجوز له الفطر، وبه قال عبيدة السلماني ل

قوله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } أي الشهر كله وذهب أكثر الصحابة والفقهاء إلى أنه إذا أنشأ السفر في شهر رمضان جاز له أن يفطر، ومعنى الآية فمن شهد منكم الشهر كله فليصمه أي الشهر كله، ومن لم يشهد منكم الشهر كله فليصم ما شهد منه والدليل عليه ما

أخبرنا أبو الحسن السرخسي

أخبرنا زاهر بن أحمد

أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي

أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد اللّه بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس معه، فكانوا يأخذون بالأحدث فلأحدث من أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

قوله تعالى { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } أباح الفطر لعذر المرض والسفر وأعاد هذا الكلام ليعلم أن هذا الحكم ثابت في الناسخ ثبوته في المنسوخ،

واختلفوا في المرض الذي يبيح الفطر، فذهب أهل الظاهر إلى أن ما يطلق عليه اسم المرض يبيح الفطر وهو قول ابن سيرين . قال طريف بن تمام العطاردي دخلت على محمد بن سيرين . في رمضان، وهو يأكل فقال إنه وجعت أصبعي هذه، وقال الحسن و إبراهيم النخعي هو المرض الذي تجوز معه الصلاة قاعداً. وذهب الأكثرون إلى أنه مرض يخاف معه من الصوم زيادة علة غير محتملة، وفي الجملة أته إذا أجهده الصوم أفطر وإن لم يجهده فهو كالصحيح. وأما السفر، فالفطر فيه مباح والصوم جائز عند عامة أهل العلم إلا ما روي عن ابن عباس وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعلي بن الحسين أنهم قالوا لا يجوز الصوم في السفر ومن صام فعليه القضاء، واحتجوا بقول النبي صلى اللّه عليه وسلم { ليس من البر الصوم في السفر } وذلك عند الآخرين في حق من يجهده الصوم فالأولى له أن يفطر، والدليل عليه ما

أخبرنا به عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أحمد ابن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا آدم

أخبرنا شعبة

أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الأنصاري قال سمعت محمد بن عمرو بن الحسن بن علي عن جابر بن عبد اللّه قال { كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فقال ما هذا؟ قالوا هذا صائم، فقال ليس من البر الصوم في السفر }.

والدليل على جواز الصوم ما حدثنا الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري

أخبرنا أبو نعيم الاسفراييني

أخبرنا أبو عوانه

أخبرنا أبو أمية

أخبرنا عبد اللّه القواريري

أخبرنا حماد بن زيد

أخبرنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال { كنا نسافر مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم}.

واختلفوا في أفضل الأمرين، فقالت طائفة الفطر في السفر أفضل من الصوم، روي ذلك عن ابن عمر وإليه ذهب سعيد بن المسيب و الشعبي ، وذهب قوم إلى أن الصوم أفضل وروي ذلك عن معاذ بن جبل وأنس وبه قال إبراهيم النخعي و سعيد بن جبير ، وقالت طائفة أفضل الأمرين أيسرهما عليه ل

قوله تعالى { يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وهو قول مجاهد و قتادة وعمر بن عبد العزيز، ومن أصبح مقيماً صائماً ثم سافر في أثناء النهار لا يجوز له أن يفطر ذلك اليوم عند أكثر أهل العلم، وقالت طائفة له أن يفطر، وهو قول الشعبي وبه قال أحمد ، أما المسافر إذا أصبح صائماً فيجوز له أن يفطر بالاتفاق، والدليل عليه ما أخبر عبد الوهاب بن محمد الخطيب

أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال

أخبرنا أبو الهباس الأصم

أخبرنا الربيع

أخبرنا الشافعي

أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر {أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس معه، فقيل له يا رسول اللّه إن الناس قد شق عليهم الصيام فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون فأفطر بعض الناس وصام بعضهم فبلغه أن ناساً صاموا، فقال أولئك العصاة}.

واختلفوا في السفر الذي يبيح الفطر، فقال قوم مسيرة يوم، وذهب جماعة إلى مسيرة يومين، وهو قول الشافعي رحمه اللّه، وذهب جماعة إلى مسيرة ثلاثة أيام، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي.

قوله تعالى { يريد اللّه بكم اليسر } بإباحة الفطر في المرض والسفر { ولا يريد بكم العسر} قرأ أبو جعفر  العسر واليسر ونحوهما بضم السين، وقرأ الآخرون بالسكون. وقال الشعبي  ما خير رجل بين أمرين فاختار أيسرهما إلا كان ذلك أحبهما إلى اللّه عز وجل { ولتكملوا العدة } قرأ أبو بكر بتشديد الميم وقرأ الآخرون بالتخفيف، وهو الاختيار ل

قوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } (٣-المائدة) والواو في

قوله تعالى ولتكملوا العدة واو النسق، واللام لام كي، تقديره ويريد لكي تكملوا العدة، أي لتكملوا العدة، أي لتكملوا عدة أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم في مرضكم وسفركم،

وقال عطاء  { ولتكملوا العدة } أي عدد أيام الشهر.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب

أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال

أخبرنا أبو العباس الأصم

أخبرنا الربيع

أخبرنا الشافعي

أخبرنا مالك عن عبد اللّه بن دينار عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين }.

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي

أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري

أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي

أخبرنا محمد بن يحيى

أخبرنا يزيد بن هارون

أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { لا تقدموا الشهر بصوم يوم ولا يومين إلا أن يوافق ذلك صوماً كان يصومه أحدكم، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا }. { ولتكبروا اللّه } ولتعظموا اللّه { على ما هداكم } أرشدكم إلى ما رضي به من صوم شهر رمضان وخصكم به دون سائر أهل الملل. قال ابن عباس هو تكبيرات ليلة الفطر. وروي عن الشافعي وعن ابن المسيب وعروة وأبي سلمة أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر يجهرون بالتكبير، وشبه ليلة النحر بها إلا من كان حاجاً فذكره التلبية. { ولعلكم تشكرون } اللّه على نعمه، وقد وردت أخبار في فضل شهر رمضان وثواب الصائمين.

أخبرنا أبو عبد اللّه محمد بن الحسني المروزي

أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان

أخبرنا أبو أحمد بن قريش بن سليمان

أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي

أخبرنا أبو القاسم بن سلام حدثني إسماعيل بن جعفر عن أبي سهل نافع بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { إذا دخل رمضان صفدت الشياطين، وفتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار }.

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي

أخبرنا ابو محمد عبد الجبار بن محمد بن الجراح

أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي

أخبرنا ابو عيسى محمد بن عيسى الترمذي

أخبرنا أبو كريب محمد بن العلاء

أخبرنا أبو بكر محمد بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرةقال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  { إذا كان أول ليلة في شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب ، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، وللّه عتقاء من النار وذلك كل ليلة}.

أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نصر بن أحمد الكوفاني الهروي بها

أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر ابن محمد التجيبي المصري بهاالمعروف بابن النحاس قيل له أخبركم أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد العنزي البصري بمكة المعروف بابن الأعرابي ؟

أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني

أخبرنا سفيان ابن عيينة عن الزهري

أخبرنا أبو سلمةبن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه } .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي

أخبرنا أبوسعيد خلف بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي نزار حدثنا الحسين ين أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أسد الصفار

أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي إسحق العنزي

أخبرنا علي بن حجر بن إياس السعدي

أخبرنا يوسف بن زياد عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن سلمان قال خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في آخر يوم من شعبان

فقال  { يا أيها الناس إنه قد أظلكم شهر عظيم - وفي رواية قد أطلكم بالطاء- أطل أشرف، شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل اللّه صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة - أي المساهمة - وشهر يزاد فيه الرزق ومن فطرفيه صائماً كان له مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء قالوا يا رسول اللّه ليس كلنا نجد ما نفطر به الصائم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعطي اللّه هذا الثواب لمن فطر صائماً على مذقة لبن أو تمرة أو شربة من ماء، ومن أشبع صائماً سقاه اللّه عز وجل من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، ومن خفف عن مملوكه فيه غفر اللّه له وأعتقه من النار حتى يدخل الجنة، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا اللّه وتستغفرونه، وأما اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون اللّه الجنة، وتعوذون به من النار }.

أخبرنا الإمام أبوعلي الحسين بن محمد القاضي

أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي

أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر

أخبرنا إبراهيم بن عبد اللّه بن عمر بن بكير الكوفي

أخبرنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { كل عمل بني آدم يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال اللّه تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع الصائم طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، للصائم فرحتان، فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند اللّه من ريح المسك، الصوم جنة، الصوم جنة }.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا سعيد بن أبي مريم

أخبرنا محمد بن مطرف حدثني أبو حازم عن سهل ابن سعد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون }.

أخبرنا محمد بن عبد اللّه بن أبي توبة

أخبرنا أبو طاهر بن أحمد بن الحارث

أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي

أخبرنا عبد اللّه بن محمود

أخبرنا إبراهيم بن عبد اللّه الخلال

أخبرنا عبد اللّه بن المبارك عن راشد بن سعد عن يحيى بن عبد اللّه عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { الصيام والقرآن يشفعان للعبد يقول الصيام أي رب إني منعته الطعام والشراب والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن رب إني منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان }.

١٨٦

قوله تعالى { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، قال قال يهود أهل المدينة يا محمد كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام وإن غلظ كل سماء مثل ذلك، فنزلت هذه الآية،

وقال الضحاك  سأل بعض الصحابة النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟

فأنزل اللّه تعالى { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } وفيه إضمار كأنه قال فقل لهم إني قريب منهم بالعلم لا يخفى على شيء كما قال { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } (١٦-ق).

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا عبد الواحد عن عاصم عن أبي عثمان عن أبي موسى الأشعري قال { لما غزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خيبر أو قال لما توجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى خيبر، أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير اللّه أكبر اللّه أكبر لا إله إلا اللّه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم }.

قوله تعالى { أجيب دعوة الداع إذا دعان } قرأ أهل المدينة غير قالون و أبو عمرو بإثبات الياء فيهما في الوصل، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً، وكذلك اختلف القراء في إثبات الياءات المحذوفة من الخط وحذفها في التلاوة، ويثبت يعقوب جميعها وصلاًووقفاً، واتفقوا على إثبات ما هو مثبت في الخط وصلاً ووقفاً { فليستجيبوا لي } قيل الاستجابة بمعنى الإجابة، أي فليجيبوا لي بالطاعة، والإجابة في اللغة الطاعة وإعطاء ما سئل فالإجابة من اللّه تعالى العطاء، ومن العبد الطاعة،

وقيل فليستجيبوا لي أي ليستدعوا مني الإجابة، وحقيقته فليطيعوني { وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } لكي يهتدوا، فإن قيل فما وجه

قوله تعالى { أجيب دعوة الداع } وقوله { ادعوني أستجب لكم } وقد يدعى كثيراً فلا يجيب؟ قلنا اختلفوا في معنى الآيتين قيل معنى الدعاء ههنا الطاعة، ومعنى الإجابة الثواب،

وقيل معنى الآيتين خاص وإن كان لفظهما عاماً، تقديرهما { أجيب دعوة الداع } إن شئت، كما قال { فيكشف ما تدعون إليه إن شاء } (٤١-الأنعام) أو أجيب دعوة الداعي إن وافق القضاء أو أجيبه إن كانت الإجابة خيراً له أو أجيبه إن لم يسأل محالاً.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان

أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني

أخبرنا حميد بن زنجويه

أخبرنا عبد اللّه بن صالح حدثني معاوية بن صالح أن ربيعة بن زيد حدثه عن أبي إدريس عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { يستجيب اللّه لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل قالوا وما الاستعجال يا رسول اللّه؟ قال يقول قد دعوتك يارب، قد دعوتك يارب، قد دعوتك يارب، فلا أراك تستجيب لي، فيستحسر عند ذلك فيدع الدعاء }.

وقيل هو عام، ومعنى قوله { أجيب } أي اسمع، ويقال ليس في الآية أكثر من إجابة الدعوة، فأما إعطاء المنية فليس بمذكور فيها، وقد يجيب السيد عبده، والوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله فالإجابة كائنة لا محالة عند حصول الدعوة،

وقيل معنى الآية أنه لا يخيب دعاءه، فإن قدر له ما سأل أعطاه، وإن لم يقدره له ادخر له الثواب في الآخرة، أو كف عنه به سوءاً والدليل عليه ما

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا أبو منصور السمعاني

أخبرنا أبو جعفر الرياني

أخبرنا حميد زنجويه

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا بن ثوبان وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نفير عن عبادة بن الصامت رضي اللّه عنه حدثهم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { ما على الأرض رجل مسلم يدعو اللّه تعالى بدعوة إلا آتاه، اللّه إياها أو كف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم }

وقيل إن اللّه تعالى يجيب دعاء المؤمن في الوقت ويؤخر إعطاء مراده ليدعوه فيسمع صوته ويعجل إعطاء من لا يحبه لأنه يبغض صوته،

وقيل إن للدعاء آداباً وشرائط وهي أسباب الإجابة فمن استكملها كان من أهل الإجابة، ومن أخل بها فهو من أهل الاعتداء في الدعاء فلا يستحق الإجابة.

١٨٧

قوله تعالى { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } فالرفث كناية عن الجماع، قال ابن عباس إن اللّه تعالى حيي كريم يكنى كل ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدخول والرفث فإنما عنى به الجماع وقال الزجاج  الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجال من النساء، قال أهل التفسير كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حل له الطعام والشراب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد قبلها، فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والنساء إلىالليلة القابلة، ثم {إن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه واقع أهله بعد ما صلى العشاء فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه إني أعتذر إلى اللّه وإليك من نفسي هذه الخاطئة، إني رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي فجامعت أهلي فهل تجد لي من رخصة؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ما كنت جديراً بذلك يا عمر فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزل في عمر وأصحابه. } أحل لكم {} أي أبيح لكم { ليلة الصيام } أي في ليلة الصيام { الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم } أي سكن لكم { وأنتم لباس لهن } أي سكن لهن دليله.

قوله تعالى { وجعل منها زوجها ليسكن إليها } (١٨٩-الأعراف)

وقيل لا يسكن شيء كسكون أحد الزوجين لى الآخر،

وقيل سمي كل واحد من الزوجين لباساً لتجردهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه، وقال الربيع بن أنس هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن، قال أبو عبيدة وغيره يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك

وقيل اللباس اسم لما يواري الشيء فيجوز أن يكون كل واحد منهما ستراً لصاحبه عما لا يحل كما جاء في الحديث { من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه }. { علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم } أي تخونوها وتظلموها بالمجامعة بعد العشاء، قال البراء لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم،

فأنزل اللّه تعالى{ علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم } { فتاب عليكم } تجاوز عنكم { وعفا عنكم } محا ذنوبكم { فالآن باشروهن } جامعوهن حلالاً، سميت المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة كل واحد منهم لصاحبه، { وابتغوا ما كتب اللّه لكم } أي فاطلبوا ما قضى اللّه لكم،

وقيل ما كتب اللّه لكم في اللوح المحفوظ يعني الولد، قاله أكثر المفسرين،

قال مجاهد  ابتغوا الولد إن لم تلد هذه فهذه و

قال قتادة  وابتغوا الرخصة التي كتب اللّه لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع في اللوح المحفوظ، وقال معاذ بن جبل وابتغوا ما كتب اللّه لكم يعني ليلة القدر. قوله { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض } نزلت في رجل من الأنصار اسمه أبو صرمة ابن قيس بن صرمة،

وقال عكرمة  أبو قيس بن صرمه،

وقال الكلبي  أبو قيس صرمة بن أنس بن أبي صرمة، وذلك أنه ظل نهاره يعمل في أرض له وهو صائم، فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر، وقال لأهله قدمي الطعام فأرادت المرأة أن تطعمه شيئاً سخيناً فأخذت تعمل له سخينة، وكان في الابتداء من صلى العشاء ونام حرم عليه الطعام والشراب، فلما فرغت من طعامه إذ هي به قد نام وكان قد أعيا وكل فأيقظته فكره أن يعصي اللّه ورسوله، فأبى أن يأكل فأصبح صائماً مجهوداً، فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه، فلما أفاق أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له يا أبا قيس مالكأمسيت طليحاً فذكر له ماله فاغتم لذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه عز وجل { وكلوا واشربوا } يعني في ليالي الصوم { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } يعني بياض النهار من سواد الليل، سميا خيطين لأن كل واحد منهما يبدو في الابتداء ممتداً كالخيط.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

اخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا سعيد بن مريم

أخبرنا أبو غسان محمد بن مطرف ثنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال أنزلت { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } ولم ينزل قوله { من الفجر } فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما،

فأنزل اللّه تعالى بعده { من الفجر } فعلموا أنما يعني بهما الليل والنهار.

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا الحجاج بن منهال

أخبرنا هشيم

أخبرنا حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال لما نزلت { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر إليهما وإلى الليل فلا يستبين لي فغدوت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك فقال { إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار }.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي

أخبرنا زاهر بن أحمد

أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي

أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد اللّه بن عمر عن أبيه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { إن بلالاً ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم } قال { كان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت } واعلم أن الفجر فجران كاذب وصادق، فالكاذب يطلع أولاً مستطيلاً كذنب السرحان يصعد إلى السماء فبطلوعه لا يخرج الليل ولا يحرم الطعام والشراب على الصائم، ثم يغيب فيطلع بعده الفجر الصادق مستطيراً ينتشر سريعاً في الأفق، فبطلوعه يدخل النهار ويحرم الطعام والشراب على الصائم.

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي

أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي

أخبرنا أبو العباس المحبوبي

أخبرنا أبو عيسى الترمذي

أخبرنا هناد و يوسف بن عيسى قالا

أخبرنا وكيع عن أبي هلال عن سوادة بن حنظلة عن سمرة بن جندب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق }.

قوله تعالى { ثم أتموا الصيام إلى الليل } فالصائم يحرم عليه الطعام والشراب بطلوع الفجر الصادق ويمتد إلى غروب الشمس فإذا غربت حصل الفطر.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا الحميدي

أخبرنا سفيان

أخبرنا هشام بن عروة قال سمعت أبي يقول سمعت عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه رضي اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم }.

قوله تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } [وقد نويتم الإعتكاف في المساجد وليس المراد عنمباشرتهن في المساجد لأن ذلك ممنوع منه في غير الاعتكاف] والعكوف هو الإقامة على الشيء والاعتكاف في الشرع هو الإقامة في المسجد على عبادة اللّه، وهو سنة ولا يجوز في غير المسجد ويجوز في جميع المساجد.

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا عبد اللّه بن يوسف

أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة ابن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم (( أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه اللّه تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده )) والآية نزلت في نفر من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم كانوا يعتكفون في المسجد، فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها ثم اغتسل، فرجع إلى المسجد فنهوا عن ذلك ليلاً ونهاراً حتى يفرغوا من اعتكافهم، فالجماع حرام في حال الاعتكاف ويفسد به الاعتكاف، أما ما دون الجماع من المباشرات كالقبلة واللمس بالشهوة، فمكروه ولا يفسد به الاعتكاف عند أكثر أهل العلم وهو أظهر قولي الشافعي ، كما لا يبطل به الحج، وقالت طائفة يبطل بها اعتكافه وهو قول مالك ،

وقيل إن أنزل بطل اعتكافه وإن لم ينزل فلا كالصوم، وأما اللمس الذي لا يقصد به التلذذ فلا يفسد به الاعتكاف لما

أخبرنا أبو الحسن السرخسي

أخبرنا زاهر بن أحمد

أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي

أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بني عبد الرحمن عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت (( كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان )).

قوله تعالى { تلك حدود اللّه } يعني تلك الأحكام التي ذكرها في الصيام والاعتكاف، حدود اللّه أي ما منع اللّه عنها،

قال السدي  شروط اللّه، وقال شهر بن حوشب  فرائض اللّه، وأصل الحد في اللغة المنع، ومنه يقال للبواب حداد، لأنه يمنع الناس من الدخول، وحدود اللّه ما منع اللّه من مخالفتها { فلا تقربوها } فلا تأتوها { كذلك } هكذا { يبين اللّه آياته للناس لعلهم يتقون } لكي يتقوها فينجوا من العذاب.

١٨٨

قوله تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } قيل نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عايش لكندي ادعى عليه ربيعة بن عبدان الحضرمي عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أرضاً أنه غلبني عليها، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم للحضرمي ( ألك بينة )؟ قال لا قال ( فلك يمينه ) فانطلق ليحلف فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { أما إن حلف على ماله ليأكله ظلماً ليلقين اللّه وهو عنه معرض } فأنزل اللّه هذه الآية { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل أي من غير الوجه الذي أباحه اللّه، وأصل الباطل الشيء الذاهب، والأكل بالباطل أنواع، قد يكون بطريق الغصب والنهب وقد يكون بطريق اللّهو كاللّهو كالقمار وأجرة المغني ونحوهما، وقد يكون بطريق الرشوة والخيانة { وتدلوا بها إلى الحكام } أي تلقوا أمور تلك الأموال بينكم وبين أربابها إلى الحكام، وأصل الإدلاء إرسال الدلو وإلقاؤه في البئر يقال أدلى دلوه إذا أرسله، ودلاه يدلوه إذا أخرجه قال ابن عباس هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه بينة فيجحد المال ويخاصم فيه إلى الحاكم، وهو يعرف أن الحق عليه وأنه آثم بمنعه، قال مجاهد في هذه الآية لا تخاصم وأنت ظالم،

قال الكلبي  هو أن يقيم شهادة الزور

وقوله { وتدلوا } في محل الجزم بتكرير حرف النهي، معناه ولا تدلوا بها إلى الحكام،

وقيل معناه ولا تأكلوا بالباطل وتنسبونه إلى الحكام،

قال قتادة  لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم فإن قضاءه لا يحل حراماً، وكان شريح القاضي يقول إني لأقضي لك وإني لأظنك ظالماً ولكن لا يسعني إلا أن أقضي بما من البينة وإن قضائي لا يحل لك حراماً.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب

أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال

أخبرنا أبو العباس الأصم

أخبرنا الربيع

أخبرنا الشافعي

أخبرنا مالك بن أنس عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار }.

قوله تعالى { لتأكلوا فريقاً } طائفة { من أموال الناس بالإثم } بالظلم

وقال ابن عباس باليمين الكاذبة يقطع بها مال أخيه { وأنتم تعلمون } أنكم مبطلون.

١٨٩

قوله تعالى { يسألونك عن الأهلة } نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاريين قالا يا رسول اللّه ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يزيد حتى يمتلئ نوراً ثم يعود دقيقاً كما بدأ ولا يكون على حالة واحدة؟

فأنزل اللّه تعالى { يسألونك عن الأهلة } وهي جمع هلال مثل رداء وأردية سمي هلالاً لأن الناس يرفعون أصواتهم بالذكر عند رؤيته من قولهم استهل الصبي إذا صرخ حين يولد وأهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية { قل هي مواقيت للناس والحج } جمع ميقات أي فعلنا ذلك فعلنا ذلك ليعلم ذلك ليعلم الناس أوقات الحج والعمرة والصوم والإفطار وآجال الديون وعدد النساء وغيرها، فلذلك خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها }. قال أهل التفسير كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته ليدخل منه ويخرج أو يتخذ سلماً فيصعد منه ةوإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ولا يخل ولا يخرج من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك براً إلا أن يكون من الحمس وهم قريش وكنانة [ وخزاعة وثقيف وخثعم وبنو عامر بن صعصعة وبنو مضر بن معاوية سموا حمساً لتشددهم في دينهم والحماسة الشدة والصلابة ] {فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم بيتاً لبعض الأنصار، فدخل رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن التابوت على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم دخلت من الباب وأنت محرم؟قال رأيتك دخلت فدخلت على أثرك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إني أحمس فقال الرجل إن كنت أحمسياً فإني أحمسي رضيت بهديك وسمتك ودينك

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية } وقال الزهري  كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء، وكان الرجل يخرج مهلاً بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء فيفتح الجدار من ورائه، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته حتى بلغنا {أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرة فدخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لم فعلت ذلك؟ قال لأني رأيتك دخلت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إني أحمس فقال الأنصاري وأنا أحمس يقول وأنا على دينك

فأنزل اللّه تعالى } وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها{}. قرأ ابن كثير و ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر  والغيوب والجيوب والعيون وشيوخاً بكسر أوائلهن لمكان الياء وقرأ الباقون بالضم على الأصل وقرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي (( جيوبهن )) بكسر الجيم، وقرأ أبو بكر و حمزة (( الغيوب )) بكسر الغين { ولكن البر من اتقى } أي البر بر من اتقى. { وأتوا البيوت من أبوابها } في حال الإحرام { واتقوا اللّه لعلكم تفلحون }.

١٩٠

{ وقاتلوا في سبيل اللّه } أي في طاعة اللّه { الذين يقاتلونكم } كان في ابتداء الإسلام أمر اللّه تعالى رسوله صلى اللّه عليه وسلم بالكف عن قتال المشركين ثم لما هاجر إلى المدينة أمره بقتال من قاتله منهم بهذه الآية، وقال الربيع بن أنس  هذه أول آية نزلت في القتال ثم أمره بقتال المشركين كافة قاتلوا أو لم يقاتلوا بقوله ( فاقتلوا المشركين ) فصارت هذه الآية منسوخة بها،

وقيل نسخ بقوله ( فاقتلوا المشركين ) قريب من سبعين آية وقوله { ولا تعتدوا } أي لا تبدؤهم بالقتال

وقيل هذه الآية محكمة غير منسوخة أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بقتال المقاتلين ومعنى قوله { ولا تعتدوا } أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير والرهبان ولا من ألقى إليكم السلام هذا قول ابن عباس و مجاهد  

أخبرنا أبو الحسن السرخسي

أخبرنا زاهر بن أحمد

أخبرنا أبو بكر بن سهل القهستاني المعروف بأبي تراب

أخبرنا محمد بن عيسى الطرسوسي أنا يحيى بن بكير أنا الليث بن سعد عن جرير بن حازم عن شعبة عن علقمة بن يزيد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال { كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا بعث جيشاً قال اغزوا بسم اللّه، وفي سبيل اللّه، قاتلوا من كفر باللّه، لا تغلوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليداً ولا شيخاً كبيراً } وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس نزلت هذه الآية في صلح الحديبية، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج مع أصحابه للعمرة وكانوا ألفاً وأربعمائة فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون عن البيت الحرام فصالحهم على أن يرجع عامه ذلك على أن يخلوا له مكة عام قابل ثلاثة أيام فيطوف بالبيت فلما كان العام القابل تجهز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لاتفي قريش بما قالوا وأن يصدوهم عن البيت الحرام وكره أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم

فأنزل اللّه تعالى { وقاتلوا في سبيل اللّه } يعني محرمين { الذين يقاتلونكم } يعني قريشاً { ولا تعتدوا } فتبدؤوا بالقتال في الحرم محرمين { إن اللّه لا يحب المعتدين }.

١٩١

قوله تعالى { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } قبل نسخت الآية الأولى بهذه الآية، وأصل الثقافة الحذق والبصر بالأمور، ومعناه واقتلوهم حيث بصرتم مقاتلتهم وتمكنتم من قتلهم { وأخرجوهم من حيث أخرجوكم } وذلك أنهم أخرجوا المسلمين من مكة، فقال أخر جوهم من ديارهم كما أخرجوكم من دياركم { والفتنة أشد من القتل } يعني شركهم باللّه عز وجل أشد وأعظم من قتلكم إياهم في الحرم والإحرام { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } قرأ حمزة و الكسائي  ( ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم ) بغير ألف فيهن من القتل على معنى ولا تقتلوا بعضهم، تقول العرب قتلنا بني فلان وإنما قتلوا بعضهم، وقرأ الباقون بالألف من القتال وكان هذا في ابتداء الإسلام كان لا يحل بدايتهم بالقتال في البلد الحرام، ثم صار منسوخاً ب

قوله تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } هذا قول قتادة ، وقال مقاتل بن حيان قوله { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } أي حيث أدركتموهم في الحل والحرم، صارت هذه الآية منسوخة ب

قوله تعالى { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } أي نسختها آية السيف في براءة فهي ناسخة منسوخة. وقال مجاهد وجماعة هذه الآية محكمة ولا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم { كذلك جزاء الكافرين }

١٩٢

{ فإن انتهوا } عن القتال والكفر { فإن اللّه غفور رحيم } أي غفور لما سلف رحيم بالعباد

١٩٣

{ وقاتلوهم } يعني المشركين { حتى لا تكون فتنة } أي شرك يعني قاتلوهم حتى يسلموا فلا يقبل من الوثني إلا الإسلام فإن أبى قتل { ويكون الدين } أي الطاعة والعبادة (للّه) وحده فلا يعبد شيء دونه. قال نافع  جاء رجل إلى ابن عمر في فتنة ابن الزبير فقال ما يمنعك أن تخرج؟ قال يمنعني أن اللّه تعالى قد حرم دم أخي، قال ألا تسمع ما ذكره اللّه عز وجل { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } (٩-الحجرات) قال يا ابن أخي لأن أعير بهذه الآية ولا أقاتل أحب إلي من أن أعير بالآية التي يقول اللّه عز وجل فيها { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } (٩٣-النساء) قال ألم يقل اللّه { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } قال قد فعلنا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلاً وكان الرجل يفتن في دينه إما يقتلونه أو يعذبونه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة وكان الدين كله للّه، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير اللّه، وعن سعيد بن جبير قال قال رجل لابن عمر كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال هل تدري ما الفتنة؟ كان محمد صلى اللّه عليه وسلم يقاتل المشركين وكان الدخول عليهم فتنة وليس بقتالكم على الملك ( فإن انتهوا ) عن الكفر وأسلموا { فلا عدوان } فلا سبيل ( إلا على الظالمين ) قال ابن عباس يدل عليه

قوله تعالى { أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي } (٢٨-القصص) وقال أهل المعاني العدوان الظلم، أي فإن أسلموا فلا نهب ولا أسر ولا قتل { إلا على الظالمين } الذين بقوا على الشرك وما يفعل بأهل الشرك من هذه الأشياء لا يكون ظلماً، وسماه عدواناً على طريق المجازاة والمقابلة، كما قال ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) وك

قوله تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها } (٤٠-الشورى) وسمي الكافر ظالماً لأنه يضع العبادة في غير موضعها.

١٩٤

قوله تعالى { الشهر الحرام بالشهر الحرام } نزلت في عمرة القضاء وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم خرج معتمراً في ذي القعدة فصده المشركون عن البيت بالحديبيةفصالح أهل مكة على أن ينصرف عامه ذلك ويرجع العام القابل فيقضي عمرته، فانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عامه ذلك ورجع في العام القابل في ذي القعدة وقضى عمرته سنة سبع من الهجرة فذلك معنى

قوله تعالى {الشهر الحرام } يعني ذا القعدة الذي دخلتم فيه مكة وقضيتم فيه عمرتكم سنة سبع{بالشهر الحرام} يعني ذي القعدة الذي صددتم فيه عن البيت سنة ست { والحرمات قصاص} جمع حرمة وإنما جمعها لأنه أراد حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام، والقصاص المساواة والمماثلة وهو أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل،

وقيل هذا في أمر القتال معناه إن بدؤوكم بالقتال في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه ف إنه قصاص بما فعلوا فيه { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } وقاتلوهم { بمثل ما اعتدى عليكم } سمى الجزاء باسم الابتداء على ازدواج الكلام ك

قوله تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها } (٤٠-الشورى) { واتقوا اللّه واعلموا أن اللّه مع المتقين }.

١٩٥

قوله تعالى { وأنفقوا في سبيل اللّه } أراد به الجهاد وكل خير هو في سبيل اللّه، ولكن إطلاقه ينصرف إلى الجهاد { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } قيل الباء في

قوله تعالى { بأيديكم } زائدة، يريد ولا تلقوا أيديكم، أي أنفسكم { إلى التهلكة } عبر عن النفس بالأيدي ك

قوله تعالى { بما كسبت أيديكم } (٣٠-الشورى) أي بما كسبتم،

وقيل الباء في موضعها، وفيه حذف، أي لاتلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة أي الهلاك،

وقيل التهلكة كل شيء يصير عاقبته إلى الهلاك، أي ولا تأخذوا في ذلك،

وقيل التهلكة ما يمكن الاحتراز عنه، والهلاك مالا يمكن الاحتراز عنه، والعرب لا تقول للإنسان ألقى بيده إلا في الشرك،

واختلفوا في تأويل هذه الآية فقال بعضهم هذا في البخل وترك الإنفاق. يقول { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } بترك الإنفاق في سبيل اللّه وهو قول حذيفة و الحسن و قتادة و عكرمة و عطاء .

وقال ابن عباس في هذه الآية أنفق في سبيل اللّه وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص، ولا يقولن أحدكم إني لا أجد شيئاً، وقال السدي بها أنفق في سبيل اللّه ولو عقالاً { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } ولا تقل ليس عندي شيء، وقال سعيد بن المسيب و مقاتل بن حيان  لما أمر اللّه تعالى بالإنفاق قال رجل أمرنا بالنفقة في سبيل اللّه، ولو انفقنا أموالنا بقينا فقراء، فأنزل اللّه هذه الآية، وقال مجاهد فيها لا يمنعنكم من نفقة في حق خيفة العيلة.

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي

أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري

أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني

أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة

أخبرنا أبو غسان

أخبرنا خالد بن عبد اللّه الواسطي

أخبرنا واصل مولى أبي عيينة عن بشار بن أبي سيف عن الوليد بن عبد الرحمن عن عياض بن غضيف قال أتينا أبا عبيدة نعوده قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول { من أنفق نفقة فاضلة في سبيل اللّه فبسبعمائة، ومن أنفق نفقة على أهله فالحسنة بعشر أمثالها }. وقال زيد بن أسلم  كان رجال يخرجون في البعوث بغير نفقة فإما أن يقطع بهم، وإما أن كانوا عيالاً فأمرهم اللّه تعالى بالإنفاق على أنفسهم في سبيل اللّه، ومن لم يكن عنده شيء ينفقه فلا يخرج بغير نفقة ولا قوت فيلقي بيده إلى التهلكة، فالتهلكة أن يهلك من الجوع والعطش أو بالمشي،

وقيل أنزلت الآية في ترك الجهاد، قال أبو أيوب الأنصاري  نزلت فينا معشر الأنصار وذلك أن اللّه تعالى لما أعز دينه ونصر رسوله قلنا فيما بيننا إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا حتى فشا الإسلام ونصر اللّه نبيه فلو رجعنا إلى أهلينا وأموالنا فأقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها،

فأنزل اللّه تعالى { وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فالتهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد، فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل اللّه حتى كان آخر غزوة غزاها بقسطنطينية في زمن معاوية فتوفي هناك ودفن في أصل سور القسطنطينية وهم يستسقون به. وروي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق }. وقال محمد بن سيرين و عبيدة السلماني  الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة اللّه تعالى، قال أبو قلابة  هو الرجل يصيب الذنب فيقول قد هلكت ليس لي توبة فييأس من رحمة اللّه، وينهمك في المعاصي، فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك، قال اللّه تعالى { إنه لا ييأس من روح اللّه إلا القوم الكافرون } (٨٧-يوسف).

قوله تعالى { وأحسنوا } [أي أحسنوا أعمالكم وأخلاقكم وتفضلوا على الفقراء { إن اللّه يحب المحسنين }]

١٩٦

قوله عز وجل { وأتموا الحج والعمرة للّه } قرأ علقمة و إبراهيم النخعي ( وأقيموا الحج والعمرة للّه )

واختلفوا في إتمامها فقال بعضهم هو أن يتمها بمناسكهما وحدودهما وسننهما، وهو قول ابن عباس وعلقمة و إبراهيم النخعي و مجاهد ، وأركان الحج خمسة .. الإحرام والوقوف بعرفة، وطواف الزيارة، والسعي بين الصفا والمروة، وحلق الرأس أو التقصير. وللحج تحللان، وأسباب التحلل ثلاثة رمي جمرة العقبة يوم النحر وطواف الزيارة والحلق، فإذا وجد شيئان من هذه الأشياء الثلاثة حصل التحلل الأول، وبالثلاث حصل التحلل الثاني، وبعد التحلل الأول يستبيح جميع محظورات الإحرام إلا النساء، وبعد الثاني يستبيح الكل، و أركان العمرة أربعة الإحرام، والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والحلق، وقال سعيد بن جبير و طاووس  تمام الحج والعمرة أن تحرم بهما مفردين مستأنفين من دويرة أهلك، ومثله عن ابن مسعود، و

قال قتادة  تمام العمرة أن تعمل في غير أشهر الحج، [فإن كانت في أشهر الحج] ثم أقام حتى حج فهي متعة، وعليه فيها الهدي إن وجده، أو الصيام إن لم يجد الهدي، وتمام الحج أن يؤتى بمناسكه كلها حتى لا يلزم عامله دم بسبب قران ولا متعة

وقال الضحاك  إتمامها أن تكون النفقة حلالاً وينتهي عما نهى اللّه عنه، وقال سفيان الثوري  إتمامها أن تخرج من أهلك لهما، ولا تخرج لتجارة ولا لحاجة. قال عمر بن الخطاب الوفد كثير والحاج قليل، واتفقت الأمة على وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلاً،

واختلفوا في وجوب العمرة فذهب أكثر أهل العلم إلى وجوبها وهو قول عمر وعلي وابن عمر وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال واللّه عن العمرة لقرينة الحج في كتاب اللّه، قال اللّه تعالى { وأتموا الحج والعمرة للّه } وبه قال عطاء و مجاهد و طاووس و قتادة و سعيد بن جبير ، وإليه ذهب الثوري و الشافعي في أصح قوليه، وذهب قوم إلى أنها سنة وهو قول جابر وبه قال الشافعي وإليه ذهب مالك وأهل العراق وتأولوا

قوله تعالى { وأتموا الحج والعمرة للّه } على معنى أتموهما إذا دخلتم فيهما، أما ابتداء الشروع فيها فتطوع، واحتج من لم يوجبهما بما روي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم {أنه سئل عن العمرة أواجبة هي؟ فقال لا وأن تعتمروا خير لكم } والقول الأول أصح ومعنى قوله { وأتموا الحج والعمرة للّه } أي ابتدؤوهما فإذا دخلتم فيهما فأتموهما فهو أمر بالابتداء والإتمام أي أقيموهما ك

قوله تعالى { ثم أتموا الصيام إلى الليل } (١٨٧-البقرة) أي ابتدؤوه وأتموه.

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا أبو منصور السمعاني

أخبرنا أبو جعفر الرياني

أخبرنا حميد بن زنجويه

أخبرنا ابن أبي شيبة

أخبرنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن عاصم عن شقيق عن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحج المبرور جزاء إلا الجنة }

وقال ابن عمر ليس من خلق اللّه أحد إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلاً كما قال اللّه تعالى { وأتموا الحج والعمرة للّه } فمن زاد بعد ذلك فهو خير وتطوع، واتفقت الأمة على أنه يجوز أداء الحج والعمرة على ثلاثة أوجه الإفراد والتمتع والقران، فصورة الإفراد أن يفرد الحج، ثم بعد الفراغ منه يعتمر وصورة التمتع أن يعتمر في أشهر الحج، ثم بعد الفراغ من أعمال العمرة، يحرم بالحج من مكة فيحج في هذا العام، وصورة القران أن يحرم بالحج والعمرة معاً أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل أن يفتتح الطواف فيصير قارناً،

واختلفوا في الأفضل من هذه الوجوه فذهب جماعة إلى أن الإفراد أفضل ثم التمنع ثم القران وهو قول مالك و الشافعي لما

أخبرنا أبو الحسن السرخسي

أخبرنا زاهر بن أحمد

أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي

أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي اللّه عنها أنها قالت خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالحج، فأما من أهل بالعمرة فحل، وأما من أهل بالحج أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب

أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال

أخبرنا أبو العباس الأصم

أخبرنا الربيع

أخبرنا الشافعي

أخبرنا مسلم عن ابن جريج عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي اللّه عنه وهويحدث عن حجة النبي صلى اللّه عليه وسلم قال خرجنا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم لا ننوي إلا الحج، ولا نعرف غيره ولا نعرف العمرة، وروي عن ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أفرد الحج وذهب قوم إلى أن القران أفضل وهو قول الثوري وأصحاب الرأي واحتجوا بما

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي

أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي

أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم

أخبرنا محمد بن هشام بن ملاس النميري

أخبرنا مروان بن معاوية الفزاري

أخبرنا حميد قال قال أنس بن مالك رضي اللّه عنه أهل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال { لبيك بحج وعمرة }. وذهب قوم إلى أن التمتع أفضل، وهو قول أحمد بن حنبل و إسحاق بن راهوية واحتجوا بما

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا يحيى بن بكير

أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم بن عبد اللّه أن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال تمتع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع النبي صلى اللّه عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم مكة قال للناس { من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، وليقصر وليتحلل، ثم ليهل بالحج فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله}، فطاف حين قدم مكة، واستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف ومشى أربعاً، فركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف، فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف، ثم لم يتحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثل ما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أهدى وساق الهدي من الناس. وعن عروة أن عائشة رضي اللّه عنها أخبرته عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال شيخنا الإمام رضي اللّه عنه، قد اختلفت الرواية في إحرام النبي صلى اللّه عليه وسلم كما ذكرنا وذكر الشافعي في كتاب اختلاف الأحاديث كلاماً موجزاً أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان منهم المفرد والقارن والمتمتع وكل كان يأخذ منه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه، فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر بها وأذن فيها ويجوز في لغة العرب إضافة (الشييء) إلى الآمر به، كما يجوز إضافته إلى الفاعل له كما يقال بنى فلان داراً، وأريد أنه أمر ببنائها، وكما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم رجم ماعزاً، وإنما أمر برجمه واختار الشافعي الإفراد لرواية قصة حجة الوداع وآخرها، ولفضل حفظ عائشة رضي اللّه عنها، وقرب ابن عمر من النبي صلى اللّه عليه وسلم.

ومال الشافعي في اختلاف الأحاديث إلى التمتع، وقال ليس شيء من الاختلاف أيسر من هذا وإن كان الغلط فيه قبيحاً من جهة أنه مباح لأن الكتاب ثم السنة ثم مالا أعلم فيه خلافاً على أن التمتع بالعمرة إلى الحج وإفراد الحج والقران، واسع كله وقال من قال إنه أفرد الحج يشبه أن يكون مقيماً على الحج إلا وقد ابتدأ إحرامه بالحج قال الشيخ الإمام رحمه اللّه ومما يدل على أنه كان متمتعاً أن الرواية عن ابن عمر وعائشة متعارضة، وقد روينا عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال تمتع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في [حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وقال ابن شهاب عن عروة أن عائشة أخبرته عن النبي صلى اللّه عليه وسلم] في تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر

وقال ابن عباس قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { هذه عمرة استمتعنا بها }.

وقال سعد بن أبي وقاص في المتعة صنعها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصنعناها معه. قال الشيخ الإمام وما روي عن جابر أنه قال خرجنا لا ننوي إلا الحج - لا ينافي التمتع لأن خروجهم كان لقصد الحج، ثم منهم من قدم العمرة، ومنهم من أهل بالحج إلى أن أمره النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يجعله متعة

قوله تعالى { فإن أحصرتم } اختلف العلماء في الإحصار الذي يبيح للمحرم التحلل من إحرامه فذهب جماعة إلى أن كل مانع يمنعه عن الوصول إلى البيت الحرام والمعنى في إحرامه من عدو أو مرض أو جرح أو ذهاب نفقة أو ضلال راحلة، يبيح له التحلل، وبه قال ابن مسعود وهو قول إبراهيم النخعي و الحسن و مجاهد و عطاء و قتادة وعروة بن الزبير، وإليه ذهب سفيان الثوري وأهل العراق وقالوا لأن الإحصار في كلام العرب هو حبس العلة أو المرض، وقال الكسائي وأبو عبيدة ما كان من مرض أو ذهاب نفقة يقال منه أحصر فهو محصر وما كان من حبس عدو أو سجن يقال منه حصر محصور، وإنما جعل هاهنا حبس العدو إحصاراً قياساً على المرض إذ كان في معناه، واحتجوا بما روي عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل }.

قال عكرمة  فسألت ابن عباس وأبا هريرة فقالا صدق. وذهب جماعة إلى أنه لا يباح له التحلل إلا بحبس العدو وهو قول ابن عباس وقال لا حصر إلا حصر العدو، وروي معناه عن ابن عمر وعبد اللّه بن الزبير وهو قول سعيد بن المسيب و سعيد بن جبير وإليه ذهب الشافعي و أحمد و إسحاق ، وقالوا الحصر والإحصار بمعنى واحد. وقال ثعلب  تقول العرب حصرت الرجل عن حاجته فهو محصور، وأحصره العدو إذا منعه عن السير فهو محصر، واحتجوا بأن نزول هذه الآية في قصة الحديبية وكان ذلك حبساً من جهة العدو ويدل عليه

قوله تعالى في سياق الآية { فإذا أمنتم } والأمن يكون من الخوف، وضعفوا حديث الحجاج بن عمرو بما ثبت عن ابن عباس أنه قال لا حصر إلا حصر العدو، وتأوله بعضهم على أنه غنما يحل بالكسر والعرج إذا كان قد شرط ذلك في عقد الإحرام كما روي أن ضباعة بنت الزبير كانت وجعة فقال لها النبي صلى اللّه عليه وسلم { حجي واشترطي وقولي اللّهم محلي حيث حبستني }.

ثم المحصر يتحلل بذبح الهدي وحلق الرأس، والهدي شاة وهو المراد من

قوله تعالى { فما استيسر من الهدي }، ومحل ذبحه حيث أحصر عند أكثر أهل العلم، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم ذبح الهدي عام الحديبية بها، وذهب قوم إلى أن المحصر يقيم على إحرامه ويبعث بهديه إلى الحرم، ويواعد من يذبحه هناك ثم يحل، وهو قول أهل العراق.

واختلف القول في المحصر إذا لم يجد هدياً ففي قول لا بد له فيتحلل والهدي في ذمته إلى أن يجد، والقول الثاني له بدل، فعلى هذا اختلف القول فيه، ففي قول عليه صوم التمتع، وفي قول تقوم الشاة في فدية الطيب واللبس فإن المحرم إذا احتاج إلى ستر رأسه لحر أو برد أو إلى لبس قميص، أو مرض فاحتاج إلى مداواته بدواء فيه طيب فعل، وعليه الفدية، وفديته على الترتيب والتعديل فعليه ذبح شاة فإن لم يجد يقوم الشاة بدراهم والدراهم يشتري بها طعاماً فيتصدق به، فإن عجز صام عن كل مد يوماً. ثم المحصر إن كان إحرامه بغرض قد استقر عليه فلذلك الغرض في ذمته وإن كان بحج تطوع فهل عليه القضاء؟ اختلفوا فيه فذهب جماعة إلى أنه لا قضاء عليه وهو قول مالك و الشافعي ، وذهب وم إلى أن عليه القضاء، وهو قول مجاهد و الشعبي و النخعي وأصحاب الرأي.

قوله تعالى { فما استيسر من الهدي } [أي فعليه ما تيسر من الهدي] ومحله رفع

وقيل ما في محل النصب أي فاهدي ما استيسر والهدي جمع هدية وهي اسم لكل ما يهدي إلى بيت اللّه تقرباً إليه، وما استيسر من الهدي شاة، قاله علي بن أبي طالب وابن عباس، لأنه أقرب إلى اليسر، وقال الحسن و قتادة  أعلاه بدنة وأوسطه بقرة وأدناه شاة.

قوله تعالى { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } اختلفوافي المحل الذي يحل المحصر ببلوغ هديه إليه فقال بعضهم هو ذبحه بالموضع الذي أحصر فيه سواء كان في الحل أو في الحرم، ومعنى محله حيث يحل ذبحه فيه وأكله.

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا عبد اللّه بن محمد

أخبرنا عبد الرزاق

أخبرنا معمر أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة في قصة الحديبية قال فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه { قوموا فانحروا ثم احلقوا، فواللّه ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة يا نبي اللّه أتحب ذلك فاخرج، ثم لا تكلم أحداً منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج ولم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً }.

وقال بعضهم محل هدي المحصر الحرم، فإن كان حاجاً فمحله يوم النحر، وإن كان معتمراً فمحله يوم يبلغ هديه الحرم

قوله تعالى { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه } معناه لا تحلقوا رؤوسكم في حال الإحرام إلا أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو لأذى في الرأس من هوام أو صداع { ففدية } فيه إضمار، أي فحلق فعليه فدية نزلت في كعب بن عجرة.

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا الحسن بن خلف

أخبرنا إسحاق بن يوسف عن أبي بشر و رقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رآه وقمله يسقط على وجهه فقال أيؤذيك هوامك؟ قال نعم فأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يحلق وهو بالحديبية ولم يبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل اللّه الفدية فأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يطعم فرقاً بين ستة مساكين أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام.

قوله تعالى { ففدية من صيام } أي ثلاثة أيام { أو صدقة } أي ثلاثة آصع على ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع { أو نسك } واحدتها نسيكة أي ذبيحة، أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدناها شاة، أيتها شاء ذبح، فهذه الفدية على التخيير والتقدير، ويتخير بين أن يذبح أو يصوم أو يتصدق، وكل حيث شاء،

قوله تعالى { فإذا أمنتم } أي من خوفكم وبرأتم من مرضكم { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } اختلفوا في هذه المتعة فذهب عبد اللّه بن الزبير إلى أن معناه فمن أحصر حتى فاته الحج ولم يتحلل فقدم مكة يخرج من إحرامه بعمل عمرة واستمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السنة المستقبلة ثم حج فيكون متمتعاً بذلك الإحلال إلى إحرامه الثاني في العام القابل، وقال بعضهم معناه { فإذا أمنتم } وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار ولم تقضوا عمرة، وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة، فاعتمرتم في أشهر الحج ثم حللتم فاستمتعتم بإحلالكم إلى الحج ثم أحرمتم بالحج، فعليكم ما استيسر من الهدي، وهو قول علقمة و إبراهيم النخعي و سعيد بن جبير ، وقال ابن عباس و عطاء وجماعة هو الرجل يقدم معتمراً من أفق من الآفاق في أشهر الحج فقضى عمرته وأقام حلالاً بمكة حتى أنشأ منها الحج فحج من عامه ذلك فيكون مستمتعاً بالإحلال من العمرة إلى إحرامه بالحج، فمعنى التمتع هو الاستمتاع بعد الخروج من العمرة بما كان محظوراً عليه في الإحرام إلى إحرامه بالحج. ولوجوب دم التمتع أربع شروط أحدهما أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، والثاني أن يحج بعد الفراغ من العمرة في هذه السنة، والثالث أن يحرم بالحج في مكة ولا يعود إلى الميقات لإحرامه، الرابع أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، فمتى وجدت هذه الشرائط فعليه ما استيسر من الهدي، وهو دم شاة يذبحه يوم النحر فلو ذبحها قبله بعد ما أحرم بالحج يجوز عند بعض أهل العلم كدماء الجنايات، وذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز قبل يوم النحر كدم الأضحية.

قوله تعالى { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج } أي صوموا ثلاثة أيام، يصوم يوماً قبل التروية ويوم التروية، ويوم عرفة، ولو صام قبله بعدما أحرم بالحج يجوز، ولا يجوز يوم النحر ولا أيام التشريق عند أكثر أهل العلم، وذهب بعضهم وذهب بعضهم لى جواز صوم الثلاث أيام التشريق. يروى ذلك عن عائشة وابن عمر وابن الزبير وهو قول مالك و الأوزاعي و أحمد و إسحاق .

قوله تعالى { سبعة إذا رجعتم } أي صوموا سبعة أيام إذا رجعتم إلى أهليكم وبلدكم، فلو صام السبعة قبل الرجوع إلى أهله لا يجوز، وهو قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس

وقيل يجوز أن يصومها بعد الفراغ من أعمال الحج، وهوالمراد من الرجوع المذكور في الآية.

قوله تعالى { تلك عشرة كاملة } ذكرها على وجه التأكيد وهذا لأن العرب ما كانوا يهتدون إلى الحساب فكانوا يحتاجون إلى فضل شرح وزيادة بيان،

وقيل فيه تقدم وتأخير يعني فصيام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم فهي عشرة كاملة

وقيل كاملة الثواب والأجر،

وقيل كاملة فيما أريد به من إقامة الصوم بدل الهدي

وقيل كاملة بشروطها وحدودها،

وقيل لفظه خبر ومعناه أمر أي فأكملوها ولا تنقصوها { ذلك } أي هذا الحكم { لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام }

واختلفوا في حاضري المسجد الحرام، فذهب قوم إلى أنهم أهل مكة وهو قول مالك ،

وقيل هم أهل الحرم وبه قال طاووس من التابعين وقال ابن جريج  أهل عرفة والرجيع وضجنان ونخلتان، وقال الشافعي رحمه اللّه كل من كان وطنه من مكة على أقل من مسافة القصر فهو من حاضري المسجد الحرام،

وقال عكرمة  هم من دون الميقات،

وقيل هم أهل الميقات فما دونه، وهو قول أصحاب الرأي، ودم القران كدم التمتع والمكي إذا قرن أو تمتع فلا هدي عليه، قال عكرمة  سئل ابن عباس عن متعة الحج فقال أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي }.

فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء ولبسنا الثياب ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا فقد تم حجنا وعلينا الهدي، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن اللّه أنزله في كتابه وسنة نبيه وأباحه للناس من غير أهل مكة قال اللّه تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام }. ومن فاته الحج، وفواته يكون بفوات الوقوف بعرفة حتى يطلع الفجر يوم النحر، فإنه يتحلل بعمل العمرة، وعليه القضاء من قابل والفدية وهي على الترتيب والتقدير كفدية التمتع والقران.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي

أخبرنا زاهر بن أحمد

أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي

أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن سليمان بن يسار أن هناد بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه فقال يا أمير المؤمنين أخطأنا العدد، كنا نظن أن هذا اليوم يوم عرفة، فقال له عمر اذهب إلى مكة فطف أنت ومن معك بالبيت واسعوا بين الصفا والمروة وانحروا هدياً إن كان معكم، ثم احلقوا أو قصروا ثم ارجعوا، فإذا كان عام قابل فحجوا واهدوا فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم. { واتقوا اللّه } في أداء الأوامر { واعلموا أن اللّه شديد العقاب } على ارتكاب المناهي.

١٩٧

قوله تعالى { الحج أشهر معلومات } أي وقت الحج أشهر معلومات وهي شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر، ويروى عن ابن عمر شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وكل واحد من اللفظين صحيح غير مختلف، فمن قال عشر عبر به عن الليالي ومن قال تسع عبر به عن الأيام، فإن آخر أيامها يوم عرفة، وهو يوم التاسع وإنما قال أشهر بلفظ الجمع وهي شهران وبعض الثالث لأنها وقت والعرب تسمي الوقت تاماً بقليله وكثيره فتقول العرب أتيتك يوم الخميس وإنما أتاه في ساعة منه، ويقول زرتك العام، وإنما زاره في بعضه،

وقيل الاثنان فما فوقهما جماعة لأن معنى الجمع ضم الشيء إلى الشيء، فإذا جاز أن يسمى الاثنان جماعة جاز أن يسمى الاثنان وبعض الثالث جماعة وقد ذكر اللّه تعالى الاثنين بلفظ الجمع فقال { فقد صغت قلوبكما } (٤-التحريم) أي قلباكما، وقال عروة بن الزبير وغيره أراد بالأشهر شوالاً وذا القعدة وذا الزيارة بمنى فكانت في حكم الحج { فمن فرض فيهن الحج } أي فمن أوجب على نفسه الحج بالإحرام والتلبية وفيه دليل على أن من أحرم بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد إحرامه بالحج، وهو قول ابن عباس وجابر وبه قال عطاء و طاووس و مجاهد وإليه ذهب الأوزاعي و الشافعي وقال ينعقد إحرامه بالعمرة لأن اللّه تعالى خص هذه الأشهر بغرض الحج فيها فلو انعقد في غيرها لم يكن لهذا التخصيص فائدة، كما أنه علق الصلوات بالمواقيت ثم من أحرم بفرض الصلاة قبل دخول وقته لا ينعقد إحرامه عن الفرض وذهب جماعة إلى أنه ينعقد إحرامه بالحج وهو قول مالك و الثوري و أبي حنيفة رضي اللّه عنهم، وأما العمرة فجميع أيام السنة لها إلا أن يكون متلبساً بالحج، وروي عن أنس أنه كان بمكة فكان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر.

قوله تعالى { فلا رفث ولا فسوق } قرأ ابن كثير وأهل البصرة { فلا رفث ولا فسوق } بالرفع والتنوين فيهما، وقرأ الآخرون بالنصب من غير تنوين ك

قوله تعالى { ولا جدال في الحج } وقرأ أبو جعفر كلها بالرفع والتنوين،

واختلفوا في الرفث قال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر هو الجماع وهو قول الحسن و مجاهد و عمرو بن دينار و قتادة و عكرمة و الربيع و إبراهيم النخعي ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الرفث غشيان النساء والتقبيل والغمز، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام قال حصين بن قيس أخذ ابن عباس رضي اللّه عنه بذنب بعيره فجعل يلويه وهو يحدو ويقول وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا فقلت له أترفث وأنت محرم، فقال إنما الرفث ما قيل عند النساء، قال طاووس  الرفث التعريض للنساء بالجماع وذكره بين أيديهن،

وقال عطاء  الرفث قول الرجل للمرأة في حال الإحرام إذا حللت أصبتك،

وقيل الرفث الفحش والقول القبيح، أما الفسوق قال ابن عباس هو المعاصي كلها وهو قول طاووس و الحسن و سعيد بن جبير و قتادة و الزهري و الربيع و القرظي ، وقال ابن عمر هو ما نهي عنه المحرم في حال الإحرام من قتل الصيد وتقليم الأظافر، وأخذ الأشعار، وما أشبههما وقال إبراهيم و عطاء و مجاهد ، هو السباب بدليل قول النبي صلى اللّه عليه وسلم { سباب المسلم فسوق وقتاله كفر } وقال الضحاك هو التنابز بالألقاب بدليل

قوله تعالى { ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } (١١-الحجرات).

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا آدم

أخبرنا سيار أبو الحكم قال سمعت أبا حازم يقول سمعت أبا هريرة رضي اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول { من حج للّه فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه }.

قوله تعالى { ولا جدال في الحج } قال ابن مسعود وابن عباس الجدال أي يماري صاحبه ويخاصمه حتى يغضبه، وهو قول عمرو بن دينار و سعيد بن جبير و عكرمة و عطاء و قتادة ، وقال القاسم بن محمد  هو أن يقول بعضهم الحج ويقول بعضهم الحج غداً، وقال القرظي  كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء حجنا أتم من حجكم، وقال هؤلاء حجنا أتم من حجكم و

قال مقاتل  هو أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لهم في حجة الوداع وقد أحرموا بالحج { اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي } قالوا كيف نجعله عمرة وقد سمينا الحج؟ فهذا جدالهم، وقال ابن زيد  كانوا يقفون مواقف مختلفة كلهم يزعم أن موقفه موقف إبراهيم يتجادلون فيه،

وقيل هو ما كان عليه أهل الجاهلية كان بعضهم يقف بعرفة وبعضهم بالمزدلفة، وكان بعضهم يحج في ذي القعدة وكان بعضهم يحج في ذي الحجة فكل يقول ما فعلته فهو الصواب، فقال جل ذكره { ولا جدال في الحج } أي استقر أمر الحج على ما فعله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلا اختلاف فيه من بعد، وذلك معنى قول النبي صلى اللّه عليه وسلم { ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض }

قال مجاهد  معناه ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة فأبطل النسيء قال أهل المعاني ظاهر الآية نفي، ومعناها نهى، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا، ك

قوله تعالى { لا ريب فيه } أي لا ترتابوا { وما تفعلوا من خير يعلمه اللّه } أي لا يخفى عليه فيجازيكم به.

قوله تعالى { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } نزلت في ناس من أهل اليمن كانوا يخرجون إلى الحج بغير زاد ويقولون نحن نحج بيت اللّه فلا يطعمنا؟ فإذا قدموا مكة سألوا الناس، وربما يفضي بهم الحال إلى النهب والغصب، فقال اللّه عز وجل { وتزودوا } أي ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم، قال أهل التفسير الكعك والزبيب والسويق والتمر ونحوها { فإن خير الزاد التقوى } من السؤال والنهب { واتقون يا أولي الألباب } يا ذوي العقول.

١٩٨

قوله تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم }

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا علي بن عبد اللّه

أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها

فأنزل اللّه تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } في مواسم الحج، قرأ ابن عباس كذا، وروى عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر إنا قوم نكري في هذا الوجه، يعني إلى مكة، فيزعمون أن لا حج لنا، فقال ألستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون كما يرمون؟ قلت بلى، قال أنت حاج جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم يسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه بشيء حتى نزل جبريل بهذه الآية { ليس عليكم جناح } أي حرج { أن تبتغوا فضلاً } أي رزقاً { من ربكم } يعني بالتجارة في مواسم الحج { فإذا أفضتم } دفعتم، والإفاضة دفع بكثرة وأصله من قول العرب أفاض الرجل ماء أي صبه { من عرفات } هي جمع عرفة، جمع بما حولها وإن كانت بقعة واحدة كقولهم ثوب أخلاق.

واختلفوا في المعنى الذي لأجله سمي الموقف واليوم عرفة فقال عطاء  كان جبريل عليه السلام يري إبراهيم عليه السلام المناسك ويقول عرفت؟ فيقول عرفت فسمي ذلك المكان عرفات واليوم عرفة،

وقال الضحاك  إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض وقع بالهند وحواء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة وتعارفا فسمي اليوم يوم عرفة والموضع عرفات، وقال السدي لما أذن إبراهيم في الناس بالحج وأجابوه بالتلبية وأتاه من أتاه أمره اللّه أن يخرج إلى عرفات ونعتها له فخرج فلما بلغ الجمرة عند القعبة استقبله الشيطان ليرده فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية، فرماه وكبر فطار، فلما نظر إليه لم يعرفه فجاز فسمي ذا المجاز، ثم انطلق حتى وقف بعرفات فعرفها بالنعت فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع، أي قرب إلى جمع، فسمي المزدلفة.

وروي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللّه عنه أن إبراهيم عليه السلام رأى ليلة التروية في منامه أنه يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح روى يومه أجمع أي فكر، أمن اللّه تعالى هذه الرؤيا أم من الشيطان؟ فسمي اليوم يوم التروية، ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانياً فلما أصبح عرف أن ذلك من اللّه تعالى فسمي اليوم يوم عرفة،

وقيل سمي بذلك لأن الناس يعترفون في ذلك اليوم بذنوبهم،

وقيل سمي بذلك من العرف وهو الطيب، وسمي منىً لأنه يمنى فيه الدم أي يصب فيكون فيه الفروث والدماء ولا يكون الموضع طيباً وعرفات طاهرة عنها فتكون طيبة.

قوله تعالى { فاذكروا اللّه } بالدعاء والتلبية { عند المشعر الحرام } وهو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى المحسر، وليس المأزمان ولا المحسر من المشعر، وسمي مشعراً من الشعار وهي العلامة لأنه من معالم الحج، وأصل الحرام من المنع فهو، ممنوع أن يفعل فيه ما لم يؤذن فيه، وسمي المزدلفة جمعاً لأنه يجمع فيه بين صلاتي العشاء، والإفاضة من عرفات تكون بعد غروب الشمس، ومن جمع قبل طلوعها من يوم النحر. قال طاووس كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس ومن مزدلفة بعد أن تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير كيما نغير فأخر اللّه هذه وقدم هذه.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي

أخبرنا زاهر بن أحمد

أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي

أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن موسى بن عقبة عن كريب مولى عبد اللّه بن عباس عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول (( دفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال، ثم توضأ فلم يسبغ الوضوء، فقلت له الصلاة يا رسول اللّه قال فقال الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئاً )).

وقال جابر  { دفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره وهللّه ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس}.

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا زهير بن حرب

أخبرنا وهب بن جرير

أخبرنا أبي عن يونس الأيلي عن الزهري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن أسامة بن زيد كان ردف النبي صلى اللّه عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من مزدلفة إلى منى، قال فكلاهما قال لم يزل النبي صلى اللّه عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة.

قوله تعالى { واذكروه كما هداكم } أي واذكروه بالتوحيد والتعظيم كما ذكركم بالهداية فهداكم لدينه ومناسك حجه { وإن كنتم من قبله لمن الضالين } أي وقد كنتم،

وقيل وما كنتم من قبله إلا من الضالين. ك

قوله تعالى { وإن نظنك لمن الكاذبين } (١٨٦-الشعراء) أي وما نظنك إلا من الكاذبين، والهاء في قوله (( من قبله )) راجعة إلى الهدى،

وقيل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كناية عن غير مذكور.

١٩٩

قوله تعالى { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } قال أهل التفسير، كانت قريش وحلفاؤها ومن دان بدينها، ويتعظمون أن يقفوا بالمزدلفة ويقولون نحن أهل اللّه، وقطان حرمه، فلا نخلف الحرم ولا نخرج منه، ويتعظمون أن يقفوا مع سائر العرب بعرفات، وسائر الناس كانوا يقفون بعرفات، فإذا أفاض الناس من عرفات أفاض الحمس من المزدلفة، فأمرهم اللّه أن يقفوا بعرفات ويفيضوا منها إلى جمع مع سائر الناس، وأخبرهم أنه سنة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وقال بعضهم خاطب به جميع المسلمين. و

قوله تعالى { من حيث أفاض الناس } من جمع إلى منى، وقالوا لأن الإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من جمع، فيكف يسوغ أن يقول فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام ثم أفيضوا من عرفات؟ والأول قول أكثر أهل التفسير. وفي الكلام تقدير وتأخير تقديره فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام.

وقيل ثم بمعنى الواو أي وأفيضوا، ك

قوله تعالى { ثم كان من الذين آمنوا } (١٧-البلد) وأما الناس فهم العرب كلهم غير الحمس.

وقال الكلبي  هم أهل اليمن وربيعة،

وقال الضحاك  الناس هاهنا إبراهيم عليه السلام وحده ك

قوله تعالى { أم يحسدون الناس } (٥٤-النساء) وأراد محمداً صلى اللّه عليه وسلم وحده ويقال هذا الذي يقتدى به ويكون لسان قومه وقال الزهري  الناس هاهنا آدم عليه السلام وحده دليله قراءة سعيد بن جبير ثم أفيضوا من حيث أفاض الناسي بالياء

ويقال هو آدم نسي عهد اللّه حين أكل من الشجرة.

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا عبد اللّه بن يوسف

أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال سئل أسامة وأنا جالس كيف كان يسير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع حين دفع؟ قال كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص، قال هشام والنص فوق العنق.

أخبرنا عبد الواحدالمليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا سعيد بن أبي مريم

أخبرنا إبراهيم بن سويد حدثني عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب قال أخبرني سعيد بن جبير مولى والبة الكوفي حدثني ابن عباس أنه دفع مع النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم عرفة فسمع النبي صلى اللّه عليه وسلم وراءه زجراً شديداً وضرباً للابل فأشار إليهم وقال { يا أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع، } واستغفروا اللّه إن اللّه غفور رحيم.

٢٠٠

قوله تعالى { فإذا قضيتم مناسككم } أي فرغتم من حجكم وذبحتم نسائككم، أي ذبائحكم، يقال نسك الرجل ينسك نسكا إذا ذبح نسيكته، وذلك بعد رمي جمرة العقبة والاستقرار بمنى. { فاذكروا اللّه } بالتكبير والتحميد والثناء عليه { كذكركم آباءكم } وذلك أن العرب كانت إذا فرغت من الحج وقفت عند البيت فذكرت مفاخر آبائها، فأمرهم اللّه تعالى بذكره وقال فاذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم وأحسنت إليكم وإليهم.

قال ابن عباس و عطاء  معناه فاذكروا اللّه كذكر الصبيان الصغار الآباء، وذلك أن الصبي أول ما يتكلم يلهج بذكر أبيه ل بذكر غيره فيقول اللّه فاذكروا اللّه لا غير كذكر الصبي أباه أو اشد، وسئل ابن عباس عن قوله { فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم } فقيل قد يأتي على الرجل اليوم ولا يذكر فيه أباه، قال ابن عباس ليس كذلك ولكن أن تغضب للّه إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما، و

قوله تعالى { أو أشد ذكراً } يعني وأشد ذكراً، وبل أشد، أي وأكثر ذكراً { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا } أراد به المشركين كانوا لا يسألون اللّه تعالى في الحج إلا الدنيا يقولون اللّهم أعطنا غنماً وإبلاً وبقراً وعبيداً، وكان الرجل يقوم فيقول يارب لإن أبي كان عظيم القبة كبير الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته، قال قتادة هذا عبد نيته الدنيا لها أنفق ولها عمل ونصب { وما له في الآخرة من خلاق } من حظ ونصيب

٢٠١

{ ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } يعني المؤمين،

واختلفوا في معنى الحسنتين قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه في الدنيا حسنة امرأة صالحة، وفي الآخرة حسنة الجنة.

أخبرنا أبو القاسم عبد اللّه بن محمد الحنيفي أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الطوسي

أخبرنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاد أنا الحارث بن أبي أسامة أنا أبو عبد الرحمن المقري

أخبرنا حيوة و ابن لهيعة قالا

أخبرنا شرحبيل بن شريك أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يحدث عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { الدنيا كلها متاع وخير متاعها المرأة الصالحة }

وقال الحسن  في الدنيا حسنة العلم والعبادة، وفي الآخرة حسنة، الجنة، وقال السدي و ابن حيان  { في الدنيا حسنة } رزقاً حلالاً وعملاً صالحاً، { وفي الآخرة حسنة } المغفرة والثواب.

أخبرنا أبو بكر بن محمد بن عبد اللّه بن أبي توبة

أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث

أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي

أخبرنا عبد اللّه بن محمود

أخبرنا إبراهيم بن عبد اللّه الخلال ثنا عبد اللّه بن المبارك عن يحيى بن أيوب حدثني عبيد اللّه بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { أغبط أوليائي عندي مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من الصلاة أحسن عبادة ربه، فأطاعه في السر، وكان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافاً، فصبرعلى ذلك، ثم (نفض بيده) فقال عجلت منيته قلت بواكيه قل تراثه }.

وقال قتادة  في الدنيا عافية وفي الآخرة عافية. وقال عوف في هذه الآية من آتاه اللّه الإسلام والقرآن وأهلاً ومالاً فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.

أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد اللّه بن علي الكركاني الطوسي

أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي

أخبرنا أبو الفضل عبدوس بن الحسين بن منصور السمسار

أخبرنا أبو حاتم محمد بن ادريس الحنظلي الرازي

أخبرنا محمد بن عبد اللّه الأنصاري

أخبرنا حميد الطويل عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال { رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلاً قد صار مثل الفرخ فقال هل كنت تدعو اللّه بشيء أو تسأله إياه؟ فقال يا رسول اللّه كنت أقول اللّهم ما كنت معاقبني به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال سبحان اللّه إذن لا تستطيعه ولا تطيقه فهلا قلت اللّهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار }.

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي

أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن أبي إسحاق الحجاجي

أخبرنا أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدعولي

أخبرنا محمد بن مشكان

أخبرنا أبو داود

أخبرنا شعبة عن ثابت عن أنس قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكثر أن يقول { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار }.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي

أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال

أخبرنا أبو العباس الأصم

أخبرنا الربيع بن سليمان

أخبرنا الشافعي

أخبرنا سعيد بن سالم القداح عن ابن جريج عن يحيى بن عبيد مولى السائب عن أبيه عن عبد اللّه بن السائب أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار }.

٢٠٢

قوله تعالى { أولئك لهم نصيب } حظ { مما كسبوا } من الخير والدعاء بالثواب والجزاء { واللّه سريع الحساب } يعني إذا حاسب فحسابه سريع لا يحتاج إلى عقد يد ولا وعي صدر ولا إلى روية ولا فكر. قال الحسن  أسرع من لمح البصر

وقيل معناه إتيان القيامة قريب لأن ما هو كائن لا محالة فهو قريب، قال اللّه تعالى { وما يدريك لعل الساعة قريب } (١٧-الشورى).

٢٠٣

قوله تعالى { واذكروا اللّه } يعني التكبيرات أدبار الصلاة وعند الجمرات يكبر مع كل حصاة وغيرها من الأوقات { في أيام معدودات } الأيام المعدودات هي أيام التشريق، وهي أيام منى ورمي الجمار، سميت معدودات لقلتهن كقوله { دراهم معدودة } (٢٠-يوسف) والأيام المعلومات عشر ذي الحجة آخرهن يوم النحر. هذا قول أكثر أهل العلم وروي عن ابن عباس المعلومات يوم النحر ويومان بعده والمعدودات يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق.

وقال محمد بن كعب  هما شيء واحد وهي أيام التشريق، وروى عن نبيشة الهذلي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر اللّه }. ومن الذكر في أيام التشريق التكبير،

واختلفوا فيه فروي عن عمر و عبد اللّه بن عمر أنهما كانا يكبران بمنى تلك الأيام خلف الصلاة وفي المجلس وعلى الفراش والفسطاط وفي الطريق ويكبر الناس بتكبيرهما ويتأولان هذه الآية. والتكبير أدبار الصلاة مشروع في هذه الأيام في حق الحاج وغير الحاج عند عامة العلماء

واختلفوا في قدره فذهب قوم إلى أنه يبتدأ التكبير عقيب صلاة الصبح من يوم عرفة ويختتم بعد العصر من آخر أيام التشريق، يروى ذلك عن علي رضي اللّه عنه، وبه قال مكحول، وإليه ذهب أبو يوسف رضي اللّه عنه، وذهب قوم إلى أنه يبتدأ التكبير عقيب صلاة الصبح من يوم عرفة ويختتم بعد العصر من يوم النحر، يروى ذلك عن بن مسعود رضي اللّه عنه وبه قال أبو حنيفة ، وقال قوم يبتدأ عقيب صلاة الظهر من يوم النحر ويختتم بعد الصبح من آخر أيام التشريق، يروى ذلك عن ابن عباس وبه قال مالك و الشافعي ، قال الشافعي  لأن الناس فيه تبع للحاج وذكر الحاج قبل هذا الوقت التلبية ويأخذون في التكبير يوم النحر من صلاة الظهر، ولفظ التكبير كان سعيد بن جبير و الحسن يقولان اللّه أكبر اللّه أكبر اللّه أكبر ثلاثاً نسقاً - وهو قول أهل المدينة، وإليه ذهب الشافعي ، وقال وما زاد من ذكر اللّه فهو حسن، وعند أهل العراق يكبر اثنتين يروى ذلك عن ابن مسعود.

قوله تعالى { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } أراد أن من نفر من الحاج في اليوم الثاني من أيام التشريق { فلا إثم عليه } وذلك أن على الحاج أن يبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق ويرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، عند كل جمرة سبع حصيات، ورخص في ترك البيتوتة لرعاء الإبل وأهل سقاية الحاج، ثم كل من رمى اليم الثاني من أيام التشريق وأراد أن ينفر فيدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمى يومها فذلك له واسع ل

قوله تعالى { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } ومن لم ينفر حتى غربت الشمس فعليه أن يبيت حتى يرمي اليوم الثالث ثم ينفر،

قوله تعالى { ومن تأخر فلا إثم عليه } يعني لا إثم على من تعجل فنفر في اليوم الثاني في تعجيله ومن تأخر حتى ينفر في اليوم الثالث { فلا إثم عليه } في تأخره.

وقيل معناه { فمن تعجل } فقد ترخص { فلا إثم عليه } بالترخص { ومن تأخر فلا إثم عليه } بترك الترخص

وقيل معناه رجع مغفوراً له، لا ذنب عليه تعجل أو تأخر، كما روينا من (( حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه )) وهو قول علي وابن مسعود.

قوله تعالى { لمن اتقى } أي لمن اتقى أن يصيب في حجه شيئاً نهاه اللّه عنه كما قال (( من حج فلم يرفث ولم يفسق )) قال ابن مسعود إنما جعلت مغفرة الذموب لمن اتقى اللّه تعالى في حجه، وفي رواية الكلبي عن ابن عباس معناه { لمن اتقى } الصيد لا يحل له أن يقتل صيداً حتى تخلو أيام التشريق، وقال أبو العالية ذهب إثمه إن اتقى فيما بقي من عمره [{ واتقوا اللّه واعلموا أنكم إليه تحشرون } تجمعون في الاخرة فيجزيكم بأعمالكم].

٢٠٤

قوله تعالى { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } قال الكلبي و مقاتل و عطاء  نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة واسمه أبي وسمي الأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان رجلاً حلو الكلام، حلو المنظر، وكان يأتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيجالسه ويظهر الإسلام، ويقول إني لأحبك، ويحلف باللّه على ذلك، وكان منافقاً، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدني مجلسه فنزل

قوله تعالى { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } أي تستحسنه ويعظم في قلبك، ويقال في الاستحسان أعجبني كذا وفي الكراهية والإنكار عجبت من كذا { ويشهد اللّه على ما في قلبه } يعني قول المنافق واللّه إني بك مؤمن ولك محب { وهو ألد الخصام } أي شديد الخصومة، يقال لددت يا هذا وأنت تلد لداً ولدادة، فإذا أردت أنه غلب على خصمه قلت لده يلده لداً، يقال رجل ألد وامرأة لداء وقوم لد، قال اللّه تعالى { وتنذر به قوماً لداً } (٩٧-مريم). قال الزجاج  اشتقاقه من لديدي العنق وهما صفحتاه، وتأويله أنه في وجه أخذ من يمين أو شمال في أبواب الخصومة غلب، والخصام مصدر خاصمه خصاماً ومخاصمة قاله أبو عبيدة. وقال الزجاج  هو جمع خصم يقال خصم وخصام وخصوم مثل بحر وبحار وبحور قال الحسن  ألد الخصام أي كاذب القول،

قال قتادة  شديد القسوة في المعصية، جدل بالباطل يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي اللّه عنها عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { إن أبغض الرجال إلى اللّه تعالى الألد الخصم }

٢٠٥

{ وإذا تولى } أي أدبر وأعرض عنك { سعى في الأرض } أي عمل فيها،

وقيل سار فيها ومشى { ليفسد فيها } قال ابن جريج قطع الرحم وسفك دماء المسلمين { ويهلك الحرث والنسل } وذلك أن الأخنس كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلاً فأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم.

قال مقاتل  خرج إلى الطائف مقتضياً مالاً له على غريم فأحرق له كدساً وعقر له أتاناً، والنسل نسل كل دابة والناس منهم،

وقال الضحاك  { وإذا تولى } أي ملك الأمر وصار والياً { سعى في الأرض }

قال مجاهد  في قوله عز وجل { وإذا تولى سعى في الأرض } قال إذا ولي فعمل بالعدوان والظلم أمسك اللّه المطر وأهلك الحرث والنسل { واللّه لا يحب الفساد } أي لا يرضى بالفساد، قال سعيد بن المسيب  قطع الدرهم من الفساد في الأرض.

٢٠٦

قوله { وإذا قيل له اتق اللّه } أي خف اللّه { أخذته العزة بالإثم } أي حملته العزة وحمية الجاهلية على الفعل بالإثم أي بالظلم، والعزة التكبر والمنعة،

وقيل معناه { أخذته العزة } للإثم الذي في قلبه، فأقام الباء مقام اللام. قوله { فحسبه جهنم } أي كافية { ولبئس المهاد } أي الفراش، قال عبد اللّه بن مسعود إن من أكبر الذنب عند اللّه أن يقال للعبد اتق اللّه، فيقول عليك بنفسك. وروي أنه قيل لعمر بن الخطاب اتق اللّه، فوضع خده على الأرض تواضعاً للّه عز وجل.

٢٠٧

قوله تعالى { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه } أي لطلب رضاء اللّه تعالى { واللّه رؤوف بالعباد } روي عن ابن عباس و الضحاك  أن هذه الآية نزلت في سرية الرجيع وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بالمدينة إنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك يعلموننا دينك، وكان ذلك مكراً منهم، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خبيب بن عدي الأنصاري ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن بكير وعبد اللّه بن طارق بن شهاب البلوي وزيد بن الدثنة وأمر عليهم عاصم ابن ثابت بن أبي الأفلح الأنصاري، قال أبو هريرة بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عشرة عيناً وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري فساروا فنزلوا ببطن مكة والمدينة ومعهم تمر عجوة فأكلوا فمرت عجوز فأبصرت النوى فرجعت إلى قومها بمكة وقالت قد سلك هذا الطريق أهل يثرب من أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم، فركب سبعون رجلاً، منهم معهم الرماح حتى أحاطوا بهم، قال أبو هريرة رضي اللّه عنه ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رام فاقتفوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه فقالوا تمر يثرب، فاتبعوا آثارهم، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد فأحاط بهم القوم فقتلوا مرثداً وخالداً وعبد اللّه بن طارق، ونثر عاصم بن ثابت كنانته وفيها سبعة أسهم فقتل بكل سهم رجلاً من عظماء المشركين ثم قال اللّهم إني حميت دينك صدر النهار فاحك لحمي آخر النهار، ثم أحاط به المشركون فقتلوه، فلما قتلوه أرادوا حز رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشرين في قحفه الخمر فأرسل اللّه رجلاً من الدبر - وهي الزنابير - فحمت عاصماً فلم يقدروا عليه فسمي حمي الدبر فقالوا دعوه حتى تمسي فتذهب عنه فنأخذه فجاءت سحابة سوداء وأمطرت مطراً كالعزالي فيعث اللّه الوادي غديراً فاحتمل عاصماً به فذهب به إلى الجنة وحمل خمسين من المشركين إلى النار وكان عاصم قد أعطى اللّه تعالى عهداً أن لايمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً. وكان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول حين بلغه أن الدبر منعته يقول عجباً لحفظ اللّه المؤمن كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً فمنعه اللّه بعد وفاته كما امتنع عاصم في حياته. وأسر المشركون خبيب بن عدي الأنصاري، وزريد بن الدثنة فذهبوا بهما إلى مكة، فأما خبيب فابتاعه بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف لقتلوه بأبيهم، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيراً حتى أجمعوا على قتله فاستعار من بنات الحارث موسى ليستحد بها فأعارته فدرج بني لها وهي غافلة فما راع المرأة إلا خبيب قد أجلس الصبي على فخذه والموسى بيده، فصاحت المرأة فقال خبيب أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن الغدر ليس من شأننا، فقالت المرأة بعد واللّه ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، واللّه لقد وجدته يوماً يأكل قطفاً من عنب في يده وإنه لموثق بالحديد، وما بمكه من ثمرة، إن كان إلا رزقاً رزقه اللّه خبيباً، ثم إنهم خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل وأرادوا أن يصلبوه فقال لهم خبيب دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فكان خبيب هو أول من سن لكل مسلم قتل صبراً الصلاة، فركع ركعتين، ثم قال لولا أن يحسبوا أن ما بي جزع لزدت، اللّهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً ثم أنشأ يقول فلست أبالي حين أقتل مسلماً على أي شق كان في اللّه مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع فصلبوه حياً فقال اللّهم إنك تعلم أنه ليس أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي، ثم قام أبو سروعة عقبة بن الحرث فقتله.

ويقال كان رجل من المشركين يقال له سلامان، أبو ميسرة، معه رمح فوضعه بين ثديي خبيب فقال له خبيبك اتق اللّه فما زاده ذلك إلا عتواً فطعنه فأنفذه وذلك قوله عز وجل { وإذا قيل له اتق اللّه أخذته العزة بالإثم } يعني سلامان. وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف فبعثه مع مولى له يسمى نسطاس إلى التنعيم ليقتله بأبيه واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له أبو سفيلن حين قدم ليقتل أنشدك اللّه يا زيد أتحب أن محمداً عندنا الآن بمكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال واللّه ما أحب أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم الآن في مكانه الذي هو فيه يصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي. فقال أبو سفيان ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً يحب أصحاب محمد محمداً، ثم قتله النسطاس. فلما بلغ النبي صلى اللّه عليه وسلم هذا الخبر قال لأصحابه أيكم (ينزل) خبيباً عن خشبته وله الجنة؟ فقال الزبير أنا يا رسول اللّه وصاحبي المقداد بن الأسود، فخرجا يمشيان بالليل ويكمنان بالنهار حتى أتيا التنعيم ليلاً وإذا حول الخشبة أربعون رجلاً من المشركين نائمون نشاوى فأنزلاه فإذا هو رطب ينثي لم يتغير منه شيء بعد أربعين يوماً، ويده على جراحته وهي تبض دماً اللون لون دم والريح ريح المسك، فحمله الزبير على فرسه وسارا فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيباً فأخبروا قريشاً فركب منهم سبعون، فلما لحقوهما قذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض فسمي بليع الأرض. فقال الزبير ما جرأكم علينا يا معشر قريش، ثم رفع العمامة عن رأسه وقال أنا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان رابضان يدفعان عن شبليهما فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم، فانصروا إلى مكة، وقدما على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجبريل عنده فقال يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك فنزل في الزبير والمقداد بن الأسود { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه } حين شريا أنفسهما لإنزال خبيب عن خشبته. وقال أكثر المفسرين نزلت في صهيب بن سنان الرومي حين أخذه المشركون في رهط من المؤمنين فعذبوهم، فقال لهم صهيب إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني؟ ففعلوا، وكان شرط عليهم راحلة ونفقة، فأقام بمكة ما شاء اللّه ثم خرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر في رجال، فقال له أبو بكر ربح بيعك يا أبا يحيى، فقال له صهيب وبيعك فلا تتحسر، قال صهيب ما ذاك؟ فقال قد أنزل اللّه فيك، وقرأ عليه هذه الآية. وقال سعيد بن المسيب و عطاء  أقبل صهيب مهاجراً نحو النبي صلى اللّه عليه وسلم فاتبعه نفر من مشركي قريش فنزل عن راحلته ونثل ما كان في كنانته ، ثم قال  يا معشر قريش لقد علمتم أني لمن أرماكم رجلاً واللّه لا أضع سهماً مما في كنانتي إلا في قلب رجل منكم وايم اللّه لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي ثم افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي قالوا  نعم . ففعل ذلك ، فأنزل اللّه هذه الآية .

وقال الحسن  أتدرون فيمن نزلت هذه الآية ؟ نزلت في المسلم يلقى الكافر فيقول له قل لا إله إلا اللّه فيأبى أن يقولها ، فقال المسلم واللّه لأشرين نفسي للّه . فتقدم فقاتل وحده حتى قتل .

وقيل نزلت الآية في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ،

قال ابن عباس  أرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه يقوم فيأمر هذا بتقوى اللّه ، فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم ، قال وأنا أشري نفسي للّه فقاتله فاقتتل الرجلان لذلك ، وكان علي إذا قرأ هذه الآية يقول  اقتتلا ورب الكعبة ، وسمع عمر بن الخطاب إنساناً يقرأ هذه { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه } فقال عمر ( إنا للّه وإنا إليه راجعون ) قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل .

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا عبد الرحمن بن شريح

أخبرنا أبو القاسم البغوي

أخبرنا علي بن الجعد أخبرني حماد بن سلمه عن أبي غالب عن أبي أمامه أن رجلاً قال  يا رسول اللّه أي الجهاد أفضل ؟ قال  { أفضل الجهاد من قال كلمة حق عند سلطان جائر }.

٢٠٨

قوله تعالى  { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } قرأ أهل الحجاز و الكسائي السلم ها هنا بفتح السين وقرأ الباقون بكسرها ، وفي سورة الأنفال { وإن جنحوا للسلم } بالكسر ، وقرأ أبو بكر و الباقون بالفتح ، وفي سورة محمد صلى اللّه عليه وسلم بالكسر حمزة و أبو بكر . نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب عبد اللّه بن سلام النضيري و أصحابه ، وذلك أنهم كانوا يعظمون السبت ويكرهون لحمان الإبل وألبانها بعدما أسلموا وقالوا  يا رسول اللّه إن التوراة كتاب اللّه فدعنا فلنقم بها في صلاتنا بالليل

فأنزل اللّه تعالى { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } أي في الإسلام ، قال مجاهد في أحكام أهل الإسلام و أعمالهم { كافة } أي جميعاً ،

وقيل  ادخلوا في الإسلام إلى منتهى شرائعه كافين عن المجاوزه إلى غيره ، وأصل السلم من الاستسلام و الانقياد ، ولذلك قيل للصلح سلم ، قال حذيفة بن اليمان في هذه الآية  الإسلام ثمانيه أسهم فعد الصلاة ، و الزكاة ، و الصوم ، و الحج ، و العمرة ، و الجهاد ، والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، وقال  قد خاب من لا سهم له . { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } أي آثاره فيما زين لكم من تحريم السبت ولحوم الإبل وغيره { إنه لكم عدو مبين } .

أخبرنا محمد بن الحسن المروزي

أخبرنا أبو العباس الطحان

أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش

أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي

أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام

أخبرنا هشيم

أخبرنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد اللّه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم حين أتاه عمر فقال إنا نسمع أحاديث من يهود فتعجبنا ، أفترى أن نكتب بعضها ؟

فقال  { أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود و النصارى ؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقيه ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي } .

٢٠٩

{ فإن زللتم } أي ضللتم،

وقيل ملتم، يقال زلت قدمه تزل زلاً وزللاً إذا دحضت، قال ابن عباس يعني الشرك،

قال قتادة  قد علم اللّه أنه سيزل زالون من الناس فتقدم في ذلك وأوعد فيه ليكون له به الحجة عليهم { من بعد ما جاءتكم البينات } أي الدلالات الواضحات { فاعلموا أن اللّه عزيز } في نقمته { حكيم } في أمره، فالعزيز هو الغالب الذي لا يفوته شيء، والحكيم ذو الإصابة في الأمر.

٢١٠

قوله تعالى { هل ينظرون } أي هل ينظر التاركون الدخول في السلم والمتبعون خطوات الشيطان يقال نظرته وانتظرته بمعنى واحد، فإذا كان النظر مقروناً بذكر اللّه أو بذكر الوجه أو إلى، لم يكن إلا بمعنى الرؤية { إلا أن يأتيهم اللّه في ظلل } جمع ظلة { من الغمام } وهو السحاب الأبيض الرقيق سمي غماماً لأنه يغم أي يستر،

وقال مجاهد  هو غير السحاب، ولم يكن إلا لبني اسرائيل في تيههم

قال مقاتل  كهيئة الضباب أبيض، قال الحسن  في سترة من الغمام فلا ينظر [إليه] أهل الأرض { والملائكة } قرأ أبوجعفر بالخفض عطفاً على الغمام، تقديره مع الملائكة، تقول العرب أقبل الأمير في العسكر، أي مع المعسكر، وقرأ الباقون بالرفع على معنى إلا أن تأتيهم اللّه والملائكة في ظلل من الغمام، والأولى في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الانسان بظاهرها ويكل علمها إلى اللّه تعالى، ويعتقد أن اللّه عز اسمه منزه عن سمات الحدث، على ذلك مضت أئمة السف وعلماء السنة.

قال الكلبي  هذا هو المكتوم الذي لا يفسر، وكان مكحول و الزهري و الاوزاعي و مالك و ابن المبارك و سفيان الثوري و الليث بن سعد و و أحمد و اسحاق يقولون فيها وفي أمثالها أمروها كما جاءت بلا كيف، قال سفيان بن عيينة  كل ما وصف اللّه به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته، والسكوت عنه، ليس لأحد أن يفسره إلا اللّه تعالى ورسوله.

قوله تعالى { وقضي الأمر } أي وجب العذاب، وفرغ من الحساب، وذلك فصل (اللّه) القضاء بالحق بين الخلق يوم القيامة { وإلى اللّه ترجع الأمور } قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و يعقوب بفتح التاء وكسر الجيم وقرأ الباقون بضم التاء وفتح الجيم.

٢١١

قوله تعالى { سل بني إسرائيل } أي سل يا محمد يهود المدينة { كم آتيناهم } أعطينا آباءهم وأسلافهم { من آية بينة } دلالة واضحة على نبوة موسى عليه السلام، مثل العصا واليد البيضاء، وفلق البحر وغيرها.

وقيل معناها الدلالات التي آتاهم في التوراة والإنجيل على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم. { ومن يبدل } يغير { نعمة اللّه } كتاب اللّه،

وقيل عهد اللّه

وقيل من ينكر الدلالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم { من بعد ما جاءته فإن اللّه شديد العقاب }

٢١٢

{ زين للذين كفروا الحياة الدنيا } الأكثرون على أن المزين هو اللّه تعالى، والتزيين من اللّه تعالى هو أنه خلق الأشياء الحسنة والمناظر العجيبة، فنظر الخلق إليها بأكثر من قدرها فأعجبتهم ففتنوا بها، وقال الزجاج  زين لهم الشيطان، قيل نزلت هذه الآية في مشركي العرب أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعمون بما بسط اللّه لهم في الدنيا من المال ويكذبون بالمعاد { ويسخرون من الذين آمنوا } أي يستهزؤون بالفقراء من المؤمنين. قال ابن عباس أراد بالذين آمنوا عبد اللّه بن مسعود وعمار بن ياسر وصهيباً وبلالاً وخباباً وأمثالهم، و

قال مقاتل  نزلت في المنافقين عبد اللّه بن أبي وأصحابه، كانوا يتنعمون في الدنيا ويسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين ويقولون انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم،

وقال عطاء  نزلت في رؤساء اليهود من بني قريظة والنضير وبني قينقاع سخروا من فقراء المهاجرين فوعدهم اللّه أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال { ويسخرون من الذين آمنوا } لفقرهم { والذين اتقوا } يعني هؤلاء الفقراء { فوقهم يوم القيامة } لأنهم في أعلى عليين وهم في أسفل السافلين.

أخبرنا أبو سعيد عبد اللّه بن أحمد الطاهري

أخبرنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز

أخبرنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري

أخبرنا اسحاق الدبري

أخبرنا معمر عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { وقفت على باب الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين ووقفت على باب النار فرأيت أكثر أهلها النساء وإذا أهل الجد محبوسون إلا من كان منهم من أهل النار فقد أمر به إلى النار }.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليخي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل ثنا اسحاق بن إبراهيم حدثني عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال { مر رجل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس ما رأيك في هذا؟ فقال رجل من أشراف الناس هذا واللّه حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع، قال فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم مر رجل آخر فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما رأيك في هذا؟ فقال يا رسول اللّه إن هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذا خير من ملء الأرض مثل هذا }. { واللّه يرزق من يشاء بغير حساب } قال ابن عباس يعني كثيراً بغير مقدار، لأن كل ما دخل عليه الحساب فهو قليل، يري يوسع على من يشاء ويبسط لمن يشاء من عباده،

وقال الضحاك  يعني من غير تبعة يرزقه في الدنيا ولا يحاسبه في الآخرة،

وقيل هذا يرجع إلى اللّه تعالى، معناه يقتر على من يشاء ويبسط على من يشاء ولا يعطي كل أحد بقدر حاجته بل يعطي الكثير من لا يحتاج إليه ولا يعطي القليل من يحتاج إليه فلا يعترض عليه، ولا يحاسب فيما يرزق ولا يقال لم أعطيت هذا وحرمت هذا؟ ولم أعطيت هذا أكثر مما أعطيت ذاك؟

وقيل معناه لا يخاف نفاذ خزائنه فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها لأن الحساب من المعطي إنما يكون لمن يخاف من نفاذ خزائنه.

٢١٣

قوله تعالى { كان الناس أمة واحدة } على دين واحد،

قال مجاهد  أراد آدم وحده، كان أمة واحدحة، قال سمي الواحد بلفظ الجمع لأنه أصل النسل وأبو البشر، ثم خلق اللّه تعالى حواء ونشر منهما الناس فانتشروا وكانوا مسلمين إلى أن قتل قابيل هابيل فاختلفوا { فبعث اللّه النبيين } قال الحسن و عطاء  كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح أمة واحدة على ملة الكفر أمثال البهائم، فبعث اللّه نوحاً وغيره من النبيين.

وقال قتادة و عكرمة  كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح وكان بينهما عشرة قرون كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى، ثم اختلفوا في زمن نوح فبعث اللّه إليهم نوحاً، فكان أول نبي بعث، ثم بعث بعده النبيين. وقال الكلبي هم أهل سفينة نوح كانوا مؤمنين ثم اختلفوا بعد وفاة نوح. وروي عن ابن عباس قال كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمة واحدة كفاراً كلهم فبعث اللّه إبراهيم وغيره من النبيين،

وقيل كان العرب على دين إبراهيم إلى أن غيره عمرو بن لحي. وروي عن أبي العالية عن أبي كعب قال كان الناس حين ععرضوا على آدم، وأخرجوا من ظهره وأقروا بالعبودية أمة واحدة مسلمين كلهم، ولم يكونوا أمة واحد قط غير ذلك اليوم، ثم اختلفوا بعد آدم نظيره في سورة يونس { وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } { فبعث اللّه النبيين } (١٩-يونس) وجملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر، والمذكورون في القرآن باسك العلم ثمانية وعشرون نبياً { مبشرين } بالثواب من آمن وأطاع { ومنذرين } محذرين بالعقاب من كفر وعصى { وأنزل معهم الكتاب } أي الكتب، تقديره وأنزل مع كل واحد منهم الكتاب { بالحق } بالعدل والصدق { ليحكم بين الناس }

قرأ أبو جعفر { ليحكم } بضم الياء وفتح الكاف هاهنا وفي أول آل عمران وفي النور موضعين لأن الكتاب لا يحكم في الحقيقة إنما (الحكم) به، وقرأءة العامة بفتح الياء وضم الكاف، أي ليحكم الكتاب ذكره على سعة الكلام كقوله تعالى { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } (٢٩-الجاثية).

وقيل معناه ليحكم كل نبي بكتابه { فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه } أي في الكتاب { إلا الذين أوتوه } أي أعطوا الكتاب { من بعد ما جاءتهم البينات } يعني أحكام التوراة والإنجيل، قال الفراء  ولاختلافهم معنيان أحدهما كفر بعضهم بكتاب بعض قال اللّه تعالى { ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض } (١٥٠-النساء) والآخر تحريفهم كتاب اللّه قال اللّه تعالى { يحرفون الكلم عن مواضعه } (٤٦-النساء)

وقيل الآية راجعة إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم وكتابه اختلف فيه أهل الكتاب { من بعد ما جاءتهم البينات } صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم في كتبهم { بغياً } ظلماً وحسداً { بينهم فهدى اللّه الذين آمنوا لما اختلفوا فيه } أي لما اختلفوا فيه { من الحق بإذنه } بعلمه وارادته فيهم. قال ابن زيد في هذه الآية اختلفوا في القبلة فمنهم من يصلي إلى المشرق ومنهم من يصلي إلى المغرب ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا اللّه إلى الكعبة،

واختلفوا في الصيام فهدانا اللّه لشهر رمضان،

واختلفوا في الأيام، فأخذت اليهود السبت والنصارى الأحد، فهدانا اللّه للجمعه

واختلفوا في إبراهيم عليه السلام، فقالت اليهود كان يهودياً، وقالت النصارى كان نصرانياً فهدانا اللّه للحق من ذلك،

واختلفوا في عيس فجعلته اليهود لفرية وجعلته النصارى إلهاً وهدانا اللّه للحق فيه { واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }.

٢١٤

قوله تعالى { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } قال قتادة و السدي  نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد وشدة الخوف والبرد وضيق العيش وأنواع الأذى كما قال اللّه تعالى { وبلغت القلوب الحناجر } (١٠-الأحزاب)

وقيل نزلت في حرب أحد.

وقال عطاء  لما دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه المدينة اشتد عليهم الضر، لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين وآثروا رضا اللّه ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأسر قوم النفاق

فأنزل اللّه تعالى تطييباً لقلوبهم { أم حسبتم } أي أحسبتم، والميم صلة، قاله الفراء ، وقال الزجاج  بل حسبتم، ومعنى الآية أظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة { ولما يأتكم } وما صلة { مثل الذين خلوا } شبه الذين مضوا { من قبلكم } من النبيين والمؤمنين { مستهم البأساء } الفقر والشدة والبلاء { والضراء } المرض والزمانة { وزلزلوا } أي حركوا بأنواع البلايا والرزايا وخوفوا { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر اللّه } ما زال البلاء بهم حتى استبطؤوا النصر. قال اللّه تعالى { ألا إن نصر اللّه قريب } قرأ نافع حتى يقول الرسول بالرفع معناه حتى قال الرسول، وإذا كان الفعل الذي يلي حتى في معنى الماضي ولفظه (لفظ) المستقبل فلك فيه الوجهان الرفع والنصب، فالنصب على ظاهر الكلام، لأن حتى تنصب الفعل المستقبل، والرفع لأن معناه الماضي، وحتى لا تعمل في الماضي.

قوله تعالى ( يسألونك ماذا ينفقون ) نزلت في عمرو بن الجموح، وكان شيخاً كبيراً ذا مال فقال يا رسول اللّه بماذا نتصدق وعلى من ننفق؟

٢١٥

قوله تعالى { يسألونك ماذا ينفقون } نزلت في عمرو بن الجموح ، وكان شيخا كبيرا ذا مال فقال يا رسول اللّه بماذا نتصدق وعلى من ننفق ؟

فأنزل اللّه تعالى { يسألونك ماذا ينفقون } وفي قوله { ماذا } وجهان من الإعراب أحدهما أن يكون محله نصباً بقوله (ينفقون) تقديره أي شيء ينفقون والآخر أن يكون رفعاً بما، ومعناه ما الذي ينفقون { قل ما أنفقتم من خير } أي من مال { فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن اللّه به عليم } يجازيكم به قال أهل التفسير كان هذا قبل فرض الزكاة فنسخت بالزكاة.

٢١٦

قوله تعالى { كتب عليكم القتال } أي فرض عليكم الجهاد،

واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال عطاء  الجهاد تطوع، والمراد من الآية أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دون غيرهم، وإليه ذهب الثوري واحتج من ذهب إلى هذا ب

قوله تعالى { فضل اللّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد اللّه الحسنى } (٩٥-النساء) ولو كان القاعد تاركاً فرضاً لم يكن بعده الحسنى، وجرى بعضهم على ظاهر الآية، وقال الجهاد فرض على كافة المسلمين إلى قيام الساعة.

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي الخوارزمي

أخبرنا أبو اسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي

أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أبي الفراتي

أخبرنا أبو الهيثم بن كليب

أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة

أخبرنا سعيد بن عثمان السعيدي عن عمر بن محمد بن المنكدر عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق }.

وقال قوم، وعليه الجمهور إن الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين مثل صلاة الجنازة ورد السلام، قال الزهري و الأوزاعي  كتب اللّه الجهاد على الناس غزوا أو قعدوا، فمن غزا فيها ونعمت ومن قعد فهو عدة إن استعين به أعان وإن استنفر نفر وإن استغني عنه قعد.

قوله تعالى { وهو كره لكم } أي شاق عليكم قال بعض أهل المعاني هذا الكره منحيث نفور الطبع عنه لما فيه، من مؤنة المال ومشقة النفس وخطر الروح، لا أنهم كرهوا أمر اللّه تعالى، وقال عكرمة ، نسخها

قوله تعالى { سمعنا وأطعنا } يعني أنهم كرهوه ثم احبوه فقالوا { سمعنا وأطعنا }. قال اللّه تعالى { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } لأن في الغزو إحدى الحسنيين إما الظفر والغنيمه وإما الشهادة والجنة { وعسى أن تحبوا شيئاً } يعني القعود عن الغزو { وهو شر لكم } لما فيه من فوات الغنيمة والأجر { واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون }.

٢١٧

قوله تعالى. { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } سبب نزول هذه الآية أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث عبد اللّه بن جحش، وهو ابن عمةالنبي صلى اللّه عليه وسلم أخت أبيه في جمادى الآخرة، قبل قتال بدر بشهرين على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمه إلى المدينة، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين سعد بن أبي وقاص الزهري و عكاشة بن محمص الأسدي و عتبة بن غزوان السلمي و أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة و سهيل بن بيضاء و عامر بن ربيعة وواقد بن عبد اللّه وخالد بن بكير وكتب لأميرهم عبد اللّه بن جحش كتاباً وقال له (( سر على اسم اللّه ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين فإذا نزلت فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ثم امض لما أمرتك ولا تستكرهن أحداً من أصحابك على السير معك )) فسار عبد اللّه يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه بسم اللّه الرحمن الرحيم أما بعد فسر على بركة اللّه بمن معك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فترصد بها عير قريش لعلك تأتينا منها بخبر، فلما نظر في الكتاب قال سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه ذلك، وقال إنه نهاني أن أستكره أحداً منكم، فمن كان يريد الشهادة فلينطلق ومن كره فليرجع، ثم مضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد حتى كان بمعدن فوق الفرع بموضع من الحجاز يقال له بحران آضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما يعتقبانه فتخلفا في طلبه ومضى ببقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف. فبينما هم كذلك إذ مرت عير لقريش تحمل زبيباً وادماً وتجارة والطائف، فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة وعثمان بن عبد اللّه بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد اللّه المخزوميان فلما رأوا أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هابوهم، فقال عبد اللّه بن جحش إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم وليتعرض لهم فحلقوا رأس عكاشة ثم أشرف عليهم فقالوا قوم عمار لا بأس عليكم، فأمنوهم، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة، وكانوا يرون أنه من جمادى وهو من رجب فتشاور القوم وقالوا لئن تركتموهم الليلة ليدخلن الحرم وليمتنعن منكم، فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم، فرمى واقد بن عبد اللّه السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله فكان أول قتيل من المشركين[وهو أول قتيل في الهجرة وأدى النبي صلى اللّه عليه وسلم دية ابن الحضرمي إلى ورثته من قريش. قال مجاهد وغيره لأنه كان بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين قريش عهد، وادع أهل مكة سنين أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه]. واستأسر الحكم وعثمان فكانا أول أسيرين في الإسلام وأفلت نوفل فأعجزهم، واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة، فقالت قريش قد استحل محمد الشهر الحرام فسفك فيه الدماء وأخذ الحرائب وعير بذلك أهل مكة من كان فيها من المسلمين وقالوا يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه! وبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال لابن جحش وأصحابه ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام، ووقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ شيئاً من ذلك، فعظم ذلك على أصحاب السرية، وظنوا أنهم قد هلكوا وسقط في أيديهم، وقالوا يا رسول اللّه إنا قد قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى؟ وأكثر الناس في ذلك،

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العير فعزل منها الخمس، فكان أول خمس في الإسلام، وقسم الباقي بين أصحاب السرية، وكان أول غنيمة في الإسلام وبعث أهل مكة في فداء أسيرهم فقال (( بل نقفهم حتى يقدم سعد وعقبة وإن لم يقدما قتلناهما بهما )) فلما قدما فاداهما، فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة، فقتل يوم بئر معونة شهيداً، وأما عثمان بن عبد اللّه فرجع إلى مكة فمات بها كافراً وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعاً فقتله اللّه، فطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية، فهذا سبب نزول هذه الآية.

قوله تعالى { يسألونك عن الشهر الحرام } يعني رجباً سمي بذلك لتحريم القتال فيه. { قتال فيه } أي عن قتال فيه { قل } يا محمد { قتال فيه كبير } عظيم، تم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال { وصد عن سبيل اللّه } أي فصدكم المسلميين عن الإسلام { وكفر به } أي كفركم باللّه { والمسجد الحرام } أي المسجد الحرام

وقيل صدكم عن المسجد الحرام { وإخراج أهله } أي إخراج أهل المسجد { منه أكبر } وأعظم وزراً { عند اللّه والفتنة } أي الشرك الذي أنتم عليه { أكبر من القتل } أي من قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فلما نزلت هذه الآية كتب عبد اللّه بن أنيس إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكة ومنعهم المسلمين عن البيت الحرام، ثم قال { ولا يزالون } يعني مشركي مكة، وهو فعل لا مصدر له مثل ما عسى { يقاتلونكم } يا معشر المؤمنين { حتى يردوكم } يصرفوكم { عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت } جزم بالنسق { وهو كافر فأولئك حبطت } بطلت { أعمالهم } حسناتهم { في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } فقال أصحاب السرية يا رسول اللّه هل نؤجر على وجهنا هذا، وهل نطمع أن يكون سفرنا هذا غزواً؟

٢١٨

فأنزل اللّه تعالى { إن الذين آمنوا والذين هاجروا } فارقوا عشائرهم ومنمازلهم وأموالهم { وجاهدوا } المشركين { في سبيل اللّه } طاعة للّه، فجعلها جهاداً، { أولئك يرجون رحمة اللّه } أخبر أنهم على رجاء الرحمة { واللّه غفور رحيم }.

٢١٩

قوله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر } الآية، نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل رضي اللّه عنهما ونفر من الأنصار أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا رسول اللّه أفتنا في الخمر أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال؟ فأنزل اللّه هذه الآية. وجملة القول في تحريم الخمر على ما قال المفسرون أن اللّه تعالى أنزل في الخمر أربع آيات نزلت بمكة وهي { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } (٦٧-النحل) فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال يومئذ، ثم نزلت في مسألة عمر ومعاذ بن جبل { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير} فلما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { إن اللّه قد تقدم في تحريم الخمر } فتركها قوم لقوله {إثم كبير} وشربها قوم لقوله{ومنافع للناس } إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف كعاماً فدعا ناساً من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا، وحضرت صلاة المغرب فقدموا بعضهم ليصلي بهم فقرأ { قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون } هكذا إلى آخر السورة بحذف (( لا ))

فأنزل اللّه تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } (٤٣-النساء) فحرم السكر في أوقات الصلاة وشربوها في غير حين الصلاة، حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر، ويشرب بعد صلاة الصبح فيصحو إذا جاء وقت الظهر، واتخذ عتبان بن مالك صنيعاً ودعا رجالاً من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير، فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، ثم إنهم افتخروا عند ذلك (وانتسبوا) وتناشدوا الأشعار، فانشد سعد قصيدة فيها هجاء للأنصار وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير فضرب به رأس سعد فشجه شجة موضحه فانطلق سعد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري فقال عمر اللّهم بين لنا رأيك في الخمر بياناً شافياً،

فأنزل اللّه تعالى تحريم الخمر في سورة المائدة. إلى قوله { فهل أنتم منتهون }. وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام فقال عمر رضي اللّه عنه انتهينا يارب، قال أنس حرمت الخمر ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها وما حرم عليهم شيئاً أشد من الخمر. [ عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال لما نزلت الآية في سورة المائدة حرمت الخمر فخرجنا بالحباب إلى الطريق فصببنا ما فيها فمنا كسر صبه ومنا غسله بالماء والطين، ولقد غودرت أزقة المدينة بعد ذلك حيناً فلما مطرت استبان فيها لون الخمر وفاحت منها ريحها ].

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا يعقوب بن إبراهيم

أخبرنا ابن علية

أخبرنا عبد العزيز بن صهيب قال قال لي أنس بن مالك ما كان لنا خمر غير فضيحتكم وإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل فقال حرمت الخمر. فقالوا أهرق هذه القلال يا أنس قال فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل. عن أنس سميت خمراً لأنهم كانوا يدعونها في الدنان حتى تختمر وتتغير، وعن ابن المسيب  لأنها تركت حتى صفا صفوها، ورسب كدرها،

واختلف الفقهاء في ماهية الخمر، فقال قوم هي عصير العنب أو الرطب الذي اشتد وغلا من غير عمل النار فيه، واتفقت الأئمة على أن هذا الخمر نجس يحد شاربه ويفسق ويكفر مستحلها، وذهب سفيان الثوري و أبو حنيفة وجماعة إلى أن التحريم لا يتعدى هذا ولا يحرم ما يتخذ من غيرهما كالمتخذ من الحنطة والشعير والذرة والعسل والفانيد إلا أن يسكر منه فيحرم، وقالوا إذا طبخ عصير العنب والرطب حتى ذهب نصفه فهو حلال ولكنه يكره، وإن طبخ حتى ذهب ثلثاه قالوا هو حلال مباح شربه إلا أن السكر منه حرام، ويحتجون بما روي أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه كتب إلى بعض عماله أن أرزق المسلمين من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه. ورأى أبو عبيدة ومعاذ شرب الطلاء على الثلث. وقال قوم إذا طبخ العصير أدنى طبخ صار حلالاً، وهو قول اسماعيل بن علية. وذهب أكثر أهل العلم إلى أن كل شراب أسكر كثيره فهو خمر فقليله حرام يحد شاربه. واحتجوا بما

أخبرنا أبو الحسن السرخسي

أخبرنا زاهر بن أحمد

أخبرنا أبو اسحاق الهاشمي

أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم أنها قالت سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن البتع فقال { كل شراب أسكر فهو حرام }.

أخبرنا أبو عبد اللّه بن محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن علي بن عبد اللّه الطيسفوني أنا عبد اللّه بن عمر الجوهري

أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي ابن حجر أنا إسماعيل بن جعفر عن داود ابن بكر بن أبي الفرات عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { ما أسكر كثيره فقليله حرام }.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني أنا عبد الغفار بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا أبو الربيع العتكي

أخبرنا حماد بن زيد حدثنا أيوب بن نافع عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو مدمنها ولم يتب لم يشربها في الآخرة }.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد ابن إسماعيل أنا أحمد بن أبي رجاء أنا يحيى، عن أبي حيان التيمي عن الشعبي عن ابن عمر قال خطب عمر على منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال أنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء من العنب والتمر، والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل )). وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { إن من العنب خمراً، وإن من التمر خمراً، وإن من العسل خمراً، وإن من البر خمراً وإن من الشعير خمراً } فثبت أن الخمر لا يختص بما يتخذ من العنب أو الرطب.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد

أخبرنا أبو اسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال اني وجدت من فلان ريح شراب، وزعم أنه شرب الطلاء، وأنا سائل عما شرب فإن كان يسكر جلدته، فجلده عمر الحد تاماً، وما روى عن عمر وأبي عبيدة ومعاذ في الطلاء فهو طبخ حتى خرج عن أن يكون مسكراً. وسئل ابن عباس عن الباذق فقال سبق محمد فما أسكر فهو حرام.

قوله تعالى { والميسر } يعني القمار، قال ابن عباس كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، والميسر مفعل من قولهم يسر لي الشيء إذا وجب بيسر يسراً وميسراً، ثم قيل للقمار ميسر وللمقامر ياسر ويسر، وكان أصل الميسر في الجزور وذلك أن أهل الثروة من العرب كانوا يشترون جزوراً فينحرونها ويجزؤونها عشرة أجزاء ثم يسهمون عليها بعشرة قداح يقال لها الأزلام والأقلام، لسبعة منها أنصباء وهي الفذ وله نصيب واحد، والتوأم وله نصيبان، والرقيب وله ثلاثة أسهم، والحلس وله أربعة، والنافس وله خمسة، والمسبل وله ستة، والمعلى وله سبعة، وثلاثة منها لا أنصباء لها وهي المنيح والسفيح والوغد، ثم يجعلون القداح في خريطة تسمى الربابة ويضعونها على يدي رجل عدل عندهم يسمى المجيل والنفيض، ثم يجيلها ويخرج قدحاً منها باسم رجل منهم، فأيهم خرج سهمه أخذ نصيبه على قدر ما يخرج، فإن خرج له واحد من الثلاثة التي لا أنصباء لها كان يأخذ شيئاً ويغرم ثمن الجزور كله. وقال بعضهم كان لا يأخذ شيئاً ولا يغرم ويكون ذلك القدح لغواً ثم يدفعون ذلك الجزور إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً، وكانوا يفتخرون بذلك ويذمون من لم يفعل ذلك ويسمونه البرم وهو أصل القمار الذي كانت تفعله العرب. والمراد من الآية أنواع القمار كلها، قال طاووس و عطاء و مجاهد  كل شيء فيه قمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، وروي عن علي رضي اللّه عنه في النرد والشطرنج أنهما من الميسر.

قوله تعالى { قل فيهما إثم كبير } وزر عظيم من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش، قرأ حمزة و الكسائي إثم كثير بالثاء المثلثة وقرأ الباقون بالباء فالإثم في الخمر والميسر ما ذكره اللّه في سورة المائدة. { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر اللّه وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } (٩١-المائدة) { ومنافع للناس } فمنفعة الخمر اللذة عند شربها والفرح واستمراء الطعام وما يصيبون من الربح بالتجارة فيها، ومنفعة الميسر إصابة المال من غير كد ولا تعب وارتفاق الفقراء به. والإثم فيه أنه إذا ذهب ماله من غير عوض ساءه ذلك فعادى صاحبه فقصده بالسوء. { وإثمهما أكبر من نفعهما } قال الضحاك وغيره إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم،

وقيل إثمهما أكبر من نفعهما قبل التحريم وهو ما يحصل من العداوة والبغضاء.

قوله تعالى { ويسألونك ماذا ينفقون } وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حثهم على الصدقة فقالوا ماذا ننفق؟ فقال { قل العفو } قرأ أبو عمرو العفو بالرفع، معناه الذي ينفقون هو العفو. وقرأ الآخرون بالنصب، على معنى قل أنفقوا العفو.

واختلفوا في معنى العفو، فقال قتادة و عطاء و السدي  هو ما فضل عن الحاجة، وكانت الصحابة يكتسبون المال ويمسكون قدر النفقة ويتصدقون بالفضل بحكم هذه الآية، ثم نسخ بآية الزكاة.

وقال مجاهد  معناه التصدق عن ظهر غنى حتى لا يبقى كلاً على الناس. أخذ الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر أنا إبراهيم بن عبد اللّه بن عمر الكوفي أنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول } وقال عمرو بن دينار  الوسط من غير إسراف ولا إقتار قال اللّه تعالى { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } (٦٧-الفرقان) وقال طاووس  ما يسر، والعفو اليسر من كل شيء (ومنه قوله تعالى) { خذ العفو } (١٩٩-الأعراف) أي الميسور من أخلاق الناس.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع بن سليمان

أخبرنا الشافعي أنا سفيان عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال { جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يارسول اللّه عندي دينار قال صلى اللّه عليه وسلم أنفقه على نفسك قال عندي آخر قال أنفقه على ولدك قال عندي آخر قال أنفقه على أهلك قال عندي آخر قال أنفقه على خادمك قال عندي آخر قال أنت أعلم }.

قوله تعالى { كذلك يبين اللّه لكم الآيات } قال الزجاج  إنما قال كذلك على الواحد وهو يخاطب جماعة، لأن الجماعة معناها القبيل كأنه قال كذلك أيها القبيل،

وقيل هو خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم لأن خطابه يشتمل على خطاب الأمة ك

قوله تعالى { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } (١-الطلاق).

قوله تعالى { لعلكم تتفكرون }

٢٢٠

قوله تعالى { في الدنيا والآخرة } قيل معناه يبين اللّه لكم الآيات في أمر النفقة لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى، وقال أكثر المفسرين معناها هكذا يبين اللّه لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة، { لعلكم تتفكرون } في زوال الدنيا وفنائها فتزهدوا فيها وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبوا فيها.

قوله تعالى { ويسألونك عن اليتامى } قال ابن عباس و قتادة  لما نزل

قوله تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } (١٥٢-الأنعام) و

قوله تعالى { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } الآية (١٠-النساء) تحرج المسلمون من أموال اليتامى تحرجاً شديداً حتى عزلوا أموال اليتامى عن أموالهم حتى كان يصنع لليتيم طعام فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد، فاشتد ذلك عليهم فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية { قل إصلاح لهم خير } أي (الإصلاح لأموالهم) من غير أجرة ولا أخذ عوض خير لكم وأعظم أجراً، لما لكم في ذلك من الثواب، وخير لهم، لما في ذلك من توفر أموالهم عليهم،

قال مجاهد  يوسع عليهم من طعام نفسه ولا يوسع من طعام اليتيم { وإن تخالطوهم } هذه إباحة المخالطة أي وإن تشاركوهم في أموالهم وتخلطوها بأموالكم في نفقاتكم ومساكنكم وخدمكم ودوابكم فتصيبوا من أموالهم عوضاً من قيامكم بأمورهم وتكافؤوهم على ما تصيبون من أموالهم { فإخوانكم } أي فهم إخوانكم، والاخوان يعين بعضهم بعضاً ويصيب بعضهم من أموال بعض على وجه الإصلاح والرضا { واللّه يعلم المفسد } لأموالهم { من المصلح } لها يعني الذي يقصد بالمخالظة الخيانة وإفساد أموال اليتيم وأكله بغير حق من الذي يقصد الإصلاح { ولو شاء اللّه لأعنتكم } أي لضيق عليكم وما أباح لكم مخالطتهم،

وقال ابن عباس ولو شاء اللّه لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً لكم، وأصل العنت الشدة والمشقة. ومعناه كلفكم في كل شيء ما يشق عليكم { إن اللّه عزيز } والعزيز الذي يأمر بعزة - سهل على العباد أو شق عليهم { حكيم } فيما صنع من تدبيره وترك الإعنات.

٢٢١

قوله تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } سبب نزول هذه الآية أن أبا مرثد الغنوي بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين سراً، فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها عناق، وكانت خليلته في الجاهلية، فأتته وقالت يا أبا مرثد ألا تخلو؟ فقال لها ويحك يا عناق إن الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك، قالت فهل لك أن تتزوج بي؟ قال نعم، ولكن أرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاستأمره، فقالت أبي تتبرم؟ ثم استغاثت عليه فضربوه ضرباً شديداً، ثم خلوا سبيله، فلما قضى حاجته بمكة وانصرف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعلمه بالذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها وقال يا رسول اللّه أيحل لي أن أتزوجها؟

فأنزل اللّه تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن }.

وقيل الآية منسوخة في حق الكتابيات ب

قوله تعالى { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } (٥-المائدة) فإن قيل كيف أطلقتم اسم الشرك على من لا ينكر إلا نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم؟ قال أبو الحسن ابن فارس لأن من يقول القرآن كلام غير اللّه فقد أشرك مع اللّه وغيره، وقال قتادة و سعيد بن جبير  أراد بالمشركاات الوثنيات، فإن عثمان رضي اللّه عنه تزوج نائلة بنت فرافصة، وكانت نصرانية فأسلمت تحته، وتزوج طلحة بن عبيد اللّه نصرانية، وتزوج حذيفة يهودية [فكتب إليه عمر رضي اللّه عنه خل سبيلها. فكتب إليه أتزعم أنها حرام؟ فقال لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن ].

قوله تعالى { ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم } بجمالها ومالها، نزلت في خنساء وليدة سوداء، كانت لحذيفة بن اليمان، يا خنساء قد ذكرت في الولأ الأعلى، على سوادك ودمامتك فأعتقها وتزوجها، وقال السدي { نزلت في عبد اللّه بن رواحة كانت له أمة سوداء فغضب عليها ولطمها ثم فزع فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم وأخبره بذلك فقال له صلى اللّه عليه وسلم وما هي يا عبد اللّه؟ قال هي تشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه وتصوم رمضان وتحسن الوضوء وتصلي فقال هذه مؤمنة قال عبد اللّه فوالذي بعثك بالحق نبياً لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل ذلك فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا أتنكح أمة؟ وعرضوا عليه حرة مشركة،

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية}

قوله تعالى { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } هذا اجماع لا يجوز للمسلمة أن تنكح المشرك { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم، أولئك } يعني المشركين { يدعون إلى النار } أي إلى الأعمال الموجبة للنار { واللّه يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه } أي بقضائه وإرادته { ويبين آياته للناس } أي أوامره ونواهيه { لعلهم يتذكرون } يتعظون.

٢٢٢

قوله تعالى { ويسألونك عن المحيض }

أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني أنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي أنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمر اللؤلؤي أنا أبو داود سليمان الأشعث السجستاني أنا موسى بن إسماعيل أنا حماد بن سلمة أنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت فسئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك

فأنزل اللّه تعالى { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض } الآية فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح } فقالت اليهود ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئاً من أمرنا إلا حلافنا فيه فجاء أسيد بن حضير و عباد بن بشر إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا رسول اللّه ان اليهود تقول كذا وكذا أفلا ننكحهن في المحيض؟ فتمعر وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا فاستقبللتهما هدية من لبن إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبعث في آثارهما فسقاهما فظننا أنه لم يجد عليهما.

قوله تعالى { ويسألونك عن المحيض } أي عن الحيض وهو مصدر حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً كالسير والمسير، وأصل الحيض الانفجار والسلان وقوله { قل هو أذى } أي قذر، والأذى كل ما يكره من كل شيء { فاعتزلوا النساء في المحيض } أراد بالاعتزال ترك الوطء { ولا تقربوهن } أي لا تجامعوهن، أما الملامسة والمضاجعة معها فجائزة.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا قبيصة أنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي اللّه عنها قالت (( كنت اغتسل أنا والنبي صلى اللّه عليه وسلم من إناء واحد كلانا جنب وكان يأمرني أن أتزر فيباشرني وأنا حائض وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض )).

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا سعد بن حفص أنا شيبان عن يحيى عن أبي سلمة عن زينب بنت أبي سلمة حدثته عن أم سلمة قالت (( حضت وأنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الخميلة فانسللت فخرجت منها فأخذت ثياب حيضي فلبستها فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنفست؟ قلت نعم، فدعاني فأدخلني معه في الخميلة )).

أخبرنا أبو القاسم بن عبد اللّه بن محمد الحنيفي أنا أبو الحارث طاهر بن محمد الطاهري أنا أبو محمد الحسن بن محمد بن حكيم أنا أبو الموجه محمد بن عمرو أنا صدقة أنا وكيع أنا مسعر و سفيان عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة رضي اللّه عنها قالت (( كنت أشرب وأنا حائض فأناوله النبي صلى اللّه عليه وسلم فيضع فاه على موضع في وأتعرق العرق فيتناوله فيضع فاه على موضع في )). فوطء الحائض حرام، ومن فعله يعصي اللّه عز وجل ويعزره الإمام، إن علم منه ذلك،

واختلف أهل العلم في وجوب الكفارة عليه، فذهب أكثرهم إلى أنه لا كفارة عليه فيستغفر اللّه ويتوب إليه. وذهب قوم إلى وجوب الكفارة عليه منهم قتادة و الأوزاعي و أحمد و إسحاق ، لما

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا أبو جعفر الرازي عن عبد الكريم بن أبي المخارق عن مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال رجل جامع امرأته وهي حائض قال { إن كان الدم عبيطاً فليتصدق بدينار، وإن كان صفرة فبنصف دينار }. ويروى هذا موقوفاً عن ابن عباس، ويمنع الحيض جواز الصلاة ووجوبها، ويمنع جواز الصوم، ولا يمنع وجوبه، حتى إذا طهرت يجب عليها قضاء الصوم ولا يجب قضاء الصلاة، وكذلك النفساء.

أخبرنا أبو عثمان بن اسماعيل الضبي أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي أنا علي بن حجر أنا علي بن مسهر عن عبيده بن معتب الضبي عن إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة قالت (( كنا نحيض عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم نطهر فيأمرنا بقضاء الصيام ولا يأمرنا بقضاء الصلاة )). ولا يجوز للحائض الطواف بالبيت ولا الاعتكاف في المسجد، ولا مس المصحف، ولا قراءة القرآن، ولا يجوز للزوج غشيانها.

أخبرنا عمر بن عبد العزيز أنا القاسم بن جعفر أنا أبو علي اللؤلؤي أنا أبو داود أنا مسدد أنا عبد الواحد بن زياد أنا أفلت بن خليفة قال حدثني جسرة بنت دجاجة قالت سمعت عائشة تقول جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال {وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب }.

قوله تعالى { حتى يطهرن } قرأ عاصم برواية أبي بكر و حمزة و الكسائي بتشديد الطاء والهاء يعني حتى يغتسلن، وقرأ الآخرون بسكون الطاء وضم الهاء، فخفف، ومعناه حتى يطهرن من الحيض وينقطع دمهن { فإذا تطهرن } يعني اغتسلن { فاتوهن } أي فجامعوهن { من حيث أمركم اللّه } أي من حيث أمركم أن تعتزلوهن منه، وهو الفرج، قاله مجاهد و قتادة و عكرمة ،

وقال ابن عباس طؤوهن في الفرج ولا تعدوه إلى غيره أي اتقوا الأدبار،

وقيل (من) بمعنى (في) أي في حيث أمركم اللّه تعالى وهو الفرج، ك

قوله تعالى { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } (٩-الجمعة) أي في يوم الجمعة

وقيل { فاتوهن } من الوجه الذي أمركم اللّه أن تأتوهن وهو الطهر، وقال ابن الحنفية من قبل الحلال دون الفجور،

وقيل لا تأتوهن صائمات ولا معتكفات ولا محرمات وأتوهن وغشيانهن لكم حلال، واعلم أنه لا يرتفع تحريم شيء مما منعه الحيض بانقطاع الدم ما لم تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء إلا تحريم الصوم، فإن الحائض إذا انقطع دمها بالليل ونوت الصوم فوقع غسلها بالنهار صح صومها، والطلاق في حال الحيض يكون بدعياً، وإذا طلقها بعد انقطاع الدم قبل الغسل لا يكون بدعياً، وذهب أبو حنيفة رضي اللّه عنه إلى أنه إذا انقطع دمها لأكثر الحيض وهو عدة عشرة أيام يجوز للزوج غشيانها قبل الغسل، وقال مجاهد و طاووس  إذا غسلت فرجها جاز للزوج غشيانها قبل الغسل. وأكثر أهل العلم على التحريم ما لم تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء، لأن اللّه تعالى علق جواز وطئها بشرطين بانقطاع الدم والغسل، فقال (حتى يطهرن) يعني من الحيض (فإذا تطهرن) يعني اغتسلن (فأتوهن) ومن قرأ يطهرن بالتشديد فالمراد من ذلك الغسل ك

قوله تعالى { وإن كنتم جنباً فاطهروا } (٦-المائدة) أي فاغتسلوا فدل على أن قبل الغسل لا يحل الوطء.

قوله تعالى { إن اللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين } قال عطاء و مقاتل بن سليمان و الكلبي  يحب التوابين من الذنوب، ويحب المتطهرين بالماء من الأحداث والنجاسات، وقال مقاتل بن حيان  يحب التوابين من الذنوب والمتطهرين من الشرك، وقال سعيد بن جبير  التوابين من الشرك والمتطهرين من الذنوب، وقال مجاهد التوابين من الذنوب لا يعودون فيها والمتطهرين منها لم يصيبوها، والتواب الذي كلما أذنب تاب، نظيره

قوله تعالى { فإنه كان للأوابين غفوراً } (٢٥-الاسراء).

٢٢٣

قوله تعالى { نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم }

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي

أخبرنا عبد اللّه بن حامد الاصبهاني

أخبرنا محمد بن يعقوب أنا ابن المنادي أنا يونس أنا يعقوب القمي عن جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال جاء عمر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه هلكت، قال وما الذي أهلكك؟ قال حولت رحلي البارحة، فلم يرد عليه شيئاً، فأوحى اللّه إليه { نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم } يقول أدبر وأقبل واتق الدبر والحيضة.

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي

أخبرنا أحمد بن الحسين الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا عبد الرحيم بن منيب أنا ابن عيينة عن ابن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد اللّه يقول  كانت اليهود تقول في الذي يأتي امرأته من دبرها في قبلها  إن الولد يكون أحول ، فنزلت { نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم } . وروى مجاهد عن ابن عباس قال كان من شأن أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة ، وكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ، وكان هذا الحي من قريش يتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار ، فذهب يصنع بها ذلك فأنكرت عليه وقالت إنا كنا نؤتى على حرف فإن شئت فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني ، حتى سرى أمرهما ، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

فأنزل اللّه تعالى { نساؤكم حرث لكم } الآية يعني موضع الولد { فاتوا حرثكم أنى شئتم } مقبلات ومدبرات ومستلقيات وأنى حرف استفهام يكون سؤالاً عن الحال و المحل ، معناه  كيف شئتم وحيث شئتم ، بعد أن يكون في صمام واحد ، وقال عكرمة { أنى شئتم } إنما هو الفرج ، ومثله عن الحسن ،

وقيل { حرث لكم } أي مزرع لكم ومنبت للولد ، بمنزلة الأرض التي تزرع ، وفيه دليل على تحريم الأدبار ، لأن محل الحرث و الزرع هو القبل لا الدبر. وقال سعيد بن المسيب هذا في العزل ، يعني إن شئتم فاعزلوا ، وإن شئتم فلا تعزلوا وسئل ابن عباس عن العزل

فقال  حرثك إن شئت فأعطش ، وإن شئت فأرو ، وروى عنه أنه قال  تستأمر الحرة في العزل ولا تستأمر الجارية ، وبه قال أحمد وكره جماعة العزل وقالوا  هو الوأد الخفي ، وروى عن مالك عن نافع قال كنت أمسك على ابن عمر الصحف فقرأ هذه الآية { نساؤكم حرث لكم } فقال أتدري فيم نزلت هذه الآية ؟ قلت لا قال  نزلت في رجل اتى امرأته في دبرها ، فشق ذلك عليه فنزلت هذه الآية . ويحكى عن مالك إباحة ذلك ، وأنكر ذلك أصحابه ، وروي عن عبد اللّه بن الحسن أنه لقي سالم بن عبد اللّه فقال له يا أبا عمر ما حديث يحدث نافع عن عبد اللّه أنه لم يكن يرى بأساً بإتيان النساء في أدبارهن

فقال  كذب العبد وأخطأ ، إنما قال عبد اللّه  يؤتون في فروجهن من أدبارهن ، و الدليل على تحريم الأدبار ما

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد بن الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال

أخبرنا أبو العباس الأصم أنا الربيع

أخبرنا الشافعي أنا عمر محمد بن علي بن شافع أخبرني عبد اللّه بن علي بن السائب عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح عن خزيمة بن ثابت أن رجلاً سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن اتيان النساء في أدبارهن فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم { في أي الخرمتين أو في أي الخرزتين أو في أي الخصفتين أمن دبرها في قبلها فنعم أو من دبرها في دبرها فلا ، فإن اللّه لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن }.

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو اسحاق الثعلبي أنا عبد اللّه الحسين بن محمد الحافظ أنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي

أخبرنا محمد بن عبد اللّه بن سليمان الحضرمي أنا عبد اللّه بن أبان أنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن مسلم بن خالد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال  قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  { ملعون من أتى امرأته في دبرها }.

قوله تعالى  { وقدموا لأنفسكم } قال عطاء  التسمية عند الجماع قال مجاهد { وقدموا لأنفسكم } يعني إذا أتى أهله فليدع .

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن اسماعيل أنا عثمان بن أبي شيبة أنا جرير عن منصور عن سالم عن كريب عن ابن عباس قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم { لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال  بسم اللّه اللّهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً } .

وقيل قدموا لأنفسكم يعني  طلب الولد .

أخبرنا أبو عبد اللّه محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن علي بن عبد اللّه الطيسفوني

أخبرنا عبد اللّه بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال  { إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة  صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له }،

وقيل  هو التزوج بالعفائف ليكون الولد صالحاً .

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن اسماعيل أنا مسدد أنا يحيى عن عبيد اللّه حدثني سعيد ابن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال  { تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها و لجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك }

وقيل معنى الآية تقديم الأفراط .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي

أخبرنا زاهر بن أحمد

أخبرنا أبو اسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم } وقال الكلبي و السدي  وقدموا لأنفسكم يعني الخير و العمل الصالح بدليل سياق الآية { واتقوا اللّه واعلموا أنكم ملاقوه } صائرون إليه فيجزيكم بأعمالكم { وبشر المؤمنين } .

٢٢٤

قوله تعالى  { ولا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم } نزلت في عبد اللّه بن رواحة ، كان بينه وبين ختنه عى أخته بشير بن النعمان الأنصاري شيء ، فحلف عبد اللّه أن لا يدخل عليه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين خصمه ، وإذا قيل له فيه قال  قد حلفت باللّه أن لا أفعل ، فلا يحل لي إلا أن تبر يميني ، فأنزل اللّه هذه الآية .

وقال ابن جريج  نزلت في أبي بكر الصديق حين حلف أن لا ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفك ، و العرضة  أصلها الشدة و القوة ومنه قيل للدابة التي تتخذ للسفر عرضة ، لقوتها عليه ، ثم قيل لكل ما يصلح لشيء هو عرضة له حتى قالوا للمرأة هي عرضة النكاح إذا صلحت له و العرضة كل ما يعترض فيمنع عن الشيء ومعنى الآية { لا تجعلوا } الحلف باللّه سبباً مانعاً لكم من البر و التقوى يدعى أحدكم إلى صلة رحم أو بر فيقول حلفت باللّه أن لا أفعله ، فيعتل بيمينه في ترك البر { أن تبروا } معناه أن لا تبروا كقوله تعالى { يبين اللّه لكم أن تضلوا } ( ١٧٦- النساء ) أي لئلا تضلوا { وتتقوا وتصلحوا بين الناس و اللّه سميع عليم } .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو اسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { من حلف بيمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير }.

٢٢٥

قوله تعالى { لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم } اللغو كل مطرح من الكلام لا يعتد به،

واختلف أهل العلم في اللغو في اليمين المذكورة في الآية فقال قوم هو ما يسبق إلى اللسان على عجلة لصلة الكلام، من غير عقد وقصد، كقول القائل لا واللّه وبلى واللّه وكلا واللّه.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال

أخبرنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت لغو اليمين قول الانسان لا واللّه وبلى واللّه، ورفعه بعضهم وإلى هذا ذهب الشعبي و عكرمة وبه قال الشافعي . ويروى عن عائشة أيمان اللغو ما كانت في الهزل والمراء والخصومة والحديث الذي لا يعقد عليه القلب، وقال قوم هو أن يحلف على شيء يرى أنه صادق فيه ثم يتبين له خلاف ذلك وهو قول الحسن و الزهري و إبراهيم النخعي و قتادة و مكحول ، وبه قال أبو حنيفة رضي اللّه عنه، وقالوا لا كفارة فيه ولا إثم عليه، وقال علي هو اليمين على الغضب، وبه قال طاووس وقال سعيد بن جبير  هو اليمين في المعصية لا يؤاخذه اللّه بالحنث فيها، بل يحنث ويكفر.

وقال مسروق  ليس عليه كفارة أيكفر خطوات الشيطان؟ وقال الشعبي في الرجل يحلف على المعصية كفارته أن يتوب منها وكل يمين لا يحل لك أن تفي بها فليس فيها كفارة ولو أمرته بالكفارة لأمرته أن يتم على قوله وقال زيد بن أسلم هو دعاء الرجل على نفسه تقول لإنسان أعمى اللّه بصري إن لم أفعل كذا وكذا [أخرجني اللّه من مالي إن لم آتك غداً، ويقول هو كافر إن فعل كذا]. فهذا كله لغو لا يئاخذه اللّه به ولو آخذهم به لعجل لهم العقوبة { ولو يعجل اللّه للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم } (١١-يونس)، وقال { ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير } (١١-الإسراء).

قوله تعالى { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } أي عزمتم وقصدتم إلى اليمين، وكسب القلب العقد والنية { واللّه غفور رحيم } واعلم أن اليمين لا تنعقد إلا باللّه أو باسم من أسمائه، أو بصفة من صفاته فاليمين باللّه أن يقول والذي أعبده، والذي أصلي له، والذي نفسي بيده، ونحو ذلك، واليمين بأسمائه كقوله واللّه والرحمن ونحوه، واليمين بصفاته كقوله وعزة اللّه وعظمة اللّه وجلال اللّه وقدرة اللّه ونحوها، فإذا حلف بشيء منها على أمر في المستقبل فحنث يجب عليه الكفارة وإذا حلف على أمر ماض أنه كان ولم يكن أو على أنه لم يكن وقد كان، إن كان عالماً به حالة ما حلف فهو اليمين الغموس، وهو من الكبائر، وتجب فيه الكفارة عند بعض أهل العلم، عالماً كان أو جاهلاً، وبه قال الشافعي ، ولا تجب عند بعضهم وهو قول أصحاب الرأي وقالوا إن كان عالماً فهو كبيرة ولا كفارة لها كما في سائر الكبائر وإن كان جاهلاً فهو يمين اللغو عندهم ومن حلف بغير اللّه مثل أن قال والكعبة وبيت اللّه ونبي اللّه، أو حلف بابيه ونحو ذلك، فلا يكون يميناً، فلا تجب عليه الكفارة إذا حلف، وهي يمين مكروهة، قال الشافعي  وأخشى أن يكون معصية.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد اللّه بن عمر {أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف باللّه أو ليصمت }.

٢٢٦

قوله تعالى { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } يؤلون أي يحلفون، والألية اليمين والمراد من الآية اليمين على ترك وطء المرأة،

قال قتادة  كان الإيلاء طلاقاً لأهل الجاهلية، وقال سعيد بن المسيب  كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يحب امرأته ولا يريد أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها أبداً، فيتركها لا أيماً ولا ذات بعل، وكانوا عليه في ابتداء الإسلام، فضرب اللّه له أجلاً في الإسلام،

واختلف أهل العلم فيه فذهب أكثرهم إلى أنه إن حلف أن لا يقرب زو جته أبداً أو سمى مدة أكثر من أربعة أشهر، يكون مولياً، فلا يتعرض له قبل مضي أربعة أشهر، وبعد مضيها يوقف ويؤمر بالفئ أو بالطلاق بعد مطالبة المرأة، والفئ هو الرجوع عما قاله بالوطء، إن قدر عليه، وإن لم يقدر فبالقول، فإن لم يفء ولم يطلق طلق عليه السلطان واحدة، وذهب إلى الوقوف بعد مضي المدة عمر وعثمان وعلي و أبو الدرداء و ابن عمر ، قال سليمان بن يسار  أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم كلهم يقول بوقف المولي. وإليه ذهب سعيد بن جبير و سليمان بن يسار و مجاهد ، وبه قال مالك و الشافعي و أحمد و إسحاق وقال بعض أهل العلم إذا مضت أربعة أشهر تقع عليه طلقة بائنة، وهو قول ابن عباس وابن مسعود وبه قال سفيان الثوري وأصحاب الرأي. وقال سعيد بن المسيب و الزهري  تقع طلقة رجعية، ولو حلف أن لا يطأ أقل من أربعة أشهر لا يكون مولياً، بل هو حالف، فإذا وطئها قبل مضي تلك المدة تجب عليه كفارة اليمين، ولو حلف أن لا يطأها أربعة أشهر لا يكون مولياً عند من يقول بالوقف بعد مضي المدة، لأن بقاء المدة شرط للوقف وثبوت المطالبة بالفيء أو الطلاق، وقد مضت المدة. وعند من لا يقول بالوقف يكون مولياً، ويقع الطلاق بمضي المدة. ومدة الإيلاء أربعة أشهر في حق الحر والعبد جميعاً عن الشافعي رحمه اللّه، لأنها ضربت لمعنى يرجع إلى الطبع، وهو قلة صبر المراة عن الزوج، فيستوي فيه الحر والعبد كمدة العنة. وعند مالك رحمه اللّه و أبي حنيفة رحمه اللّه تنتصف مدة العنة بالرق، غير أن عند أبي حنيفة تتصف برق المرأة، وعند مالك برق الزوج، كما قالا في الطلاق.

قوله تعالى { تربص أربعة أشهر } أي انتظار أربعة اشهر، والتربص التثبت والتوقف { فإن فاؤوا } رجعوا عن اليمين بالوطء { فإن اللّه غفور رحيم } وإذا وطئ خرج عن الإيلاء وتجب عليه كفارة اليمين عند أكثر أهل العلم، وقال الحسن و إبراهيم النخعي و قتادة  لا كفارة عليه لأن اللّه تعالى وعد بالمغفرة فقال { فإن اللّه غفور رحيم } وذلك عند الأكثرين في إسقاط العقوبة لا في الكفارة، ولو قال لزوجته إن قربتك فعبدي حر أو صرت طالقاً، أو للّه علي عتق رقبة أو صوم أو صلاة فهو مول لأن المولي من يلزمه أمر بالوطء، ويوقف بعد مضي المدة فإن فاء يقع الطلاق أو العتق المعلق به، وإن التزم في الذمة تلزمه كفارة اليمين في قول، وفي قول يلزمه ما التزم في ذمته من الاعتاق والصلاة والصوم

٢٢٧

{ وإن عزموا الطلاق } أي حققوه بالإيقاع { فإن اللّه سميع } لقولهم { عليم } بنياتهم، وفيه دليل على أنها لا تطلق بعد مضي المدة ما لم يطلقها زوجها، لأنه شرط فيه العزم، وقال { فإن اللّه سميع عليم } فدل على أنه يقتضي مسموعاً والقول هو الذي يسمع.

٢٢٨

قوله تعالى { والمطلقات } أي المخليات من حبال أزواجهن { يتربصن } ينتظرن { بأنفسهن ثلاثة قروء } فلا يتزوجن، والقروء جمع قرء، وجمعه القليل أقرؤ والجمع الكثير أقراء،

واختلف أهل العلم في القروء فذهب جماعة إلى أنها الحيض وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وبه قال الحسن و مجاهد وإليه ذهب الأوزاعي و الثوري وأصحاب الرأي واحتجوا بان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال للمستحاضة { دعي الصلاة أيام أقرائك } وإنما تدع الصلاة أيام حيضها. وذهب جماعة إلى أنها الأطهار وهو قول زيد بن ثابت وعبد اللّه بن عمر وعائشة، وهو قول الفقهاء السبعة و الزهري وبه قال ربيعة و مالك و الشافعي ، واحتجوا بأن ابن عمر رضي اللّه عنه لما طلق امرأته وهي حائض قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لعمر { مره فليراجعها حتى تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر اللّه أن يطلق لها النساء }.

فأخبر أن زمان العدة هو الطهر، ومن جهة اللغة قول الشاعر ففي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عزائكا مورثة مالاً، وفي الحي رفعةً لما ضاع فيها من قروء نسائكا وأراد به أنه كان يخرج إلى الغزو ولم يغش نساءه فتضيع أقراؤهن وإنما تضيع بالسفر زمان الطهر لازمان الحيضة، وفائدة الخلاف تظهر في أن المعتدة إذا شرعت في الحيضة الثالثة تنقضي عدتها على قول من يجعلها أطهاراً وتحسب بقية الطهر الذي وقع فيه الطلاق قرءاً، قالت عائشة رضي اللّه عنها إذا طعنت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها. ومن ذهب إلى أن الأقراء هي الحيض يقول لا تنقصني عدتها ما لم تطهر من الحيضة الثالثة، وهذا الاختلاف من حيث أن اسم القرء يقع على الطهر والحيض جميعاً، يقال أقرأت المرأة إذا حاضت وأقرأت إذا طهرت، فهي مقرئ،

واختلفوا في أصله فقال أبو عمرو بن العلاء و أبو عبيدة  هو الوقت لمجيء الشيء وذهابه، يقال رجع فلان لقرئه ولقارئه أي لوقته الذي يرجع فيه وهذا قارئ الرياح أي وقت هبوبها، قال مالك بن الحارث الهذلي كرهت العقر عقر بني شليل إذا هبت لقارئها الرياح أي لوقتها، والقرء يصلح للوجهين، لأن الحيض يأتي لوقت، والطهر مثله،

وقيل هو من القرأ وهو الحبس والجمع، تقول العرب ما قرأت الناقة سلاً قط أي لم تضم رحمها على ولد ومنه قريت الماء في المقراة وهي الحوض أي جمعته، بترك همزها، فالقرء هاهنا احتباس الدم واجتماعه، فعلى هذا يكون الترجيح فيه للطهر لأنه يحبس الدم ويجمعه، والحيض يرخيه ويرسله، وجملة الحكم في العدد أن المرأة إذا كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل، سواء وقعت الفرقة بينها وبين الزوج بالطلاق أو بالموت ل

قوله تعالى { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } (٤-الطلاق) فإن لم تكن حاملاً نظر إن وقعت الفرقة بينهما بموت الزوج فعليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر، سواء مات الزوج قبل الدخول أو بعده، وسواء كانت المرأة ممن تحيض، أو لاتحيض لقول اللّه تعالى { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } (٢٣٤-البقرة) وان وقعت الفرقة بينهما في الحياة نظر فإن كان الطلاق قبل الدخول بها، فلا عدة عليها، لقول اللّه تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } (٤٩-الأحزاب). وإن كان بعد الدخول نظر إن كانت المرأة ممن لم تحض قط أو بلغت في الكبر سن الآيسات فعدتها ثلاثة أشهر لقول اللّه تعالى { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } (٤-الطلاق). وإن كانت ممن تحيض فعدتها ثلاثة أقراء ل

قوله تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وقوله { يتربصن بأنفسهن } لفظه خبر ومعناه أمر، وعدة الأمة ان كانت حاملاً بوضع الحمل كالحرة، وإن كانت حائلاً ففي الوفاة عدتها شهران وخمس ليال، وفي الطلاق، إن كانت ممن تحيض فعدتها قرءان، وإن كانت ممن لا تحيض فشهر ونصف

وقيل شهران كالقرأين في حق من تحيض. قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ينكح العبد امرأتين ويطلق طلقتين وتعتد الأمة بحيضتين، فإن لم تكن تحيض فشهرين أو شهراً ونصفاً. وقوله عز وجل { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهن } قال عكرمة  يعني الحيض وهو أن يريد الرجل مراجعتها فتقول قد حضت الثالثة وقال ابن عباس و قتادة  يعني الحمل، ومعنى الآية لا يحل للمرأة كتمان ما خلق اللّه في رحمها من الحيض و الحمل لتبطل حق الزوج من الرجعة والولد { إن كن يؤمن باللّه واليوم الآخر } معناه أن هذا من فعل المؤمنات وإن كانت المؤمنة والكافرة في هذا الحكم سواء كما تقول، أد حقي إن كنت مؤمناً، يعني أداء الحقوق من فعل المؤمنين. { وبعولتهن } يعني أزواجهن جمع بعل، كالفحولة جمع فحل، سمي الزوج بعلاً لقيامه بأمور زوجته وأصل البعل السيد والمالك { أحق بردهن } أولى برجعتهن إليهم { في ذلك } أي في حال العدة { إن أرادوا إصلاحا } أي إن أرادوا بالرجعة الصلاح وحسن العشرة لا الإضرار كما كانوا يفعلونه في الجاهلية كان الرجل يطلق امرأته فإذا قرب انقضاء عدتها، راجعها ثم تركها مدة، ثم طلقها ثم إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم بعد مدة طلقها يقصد بذلك تطويل العدة عليها { ولهن } أي للنساء على الأزواج مثل الذي عليهن للأزواج بالمعروف قال ابن عباس في معناه اني أحب أن أتزين لامرأتي كما تحب امرأتي أن تتزين لي لأن اللّه تعالى قال { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف }.

أخبرنا أبو عبد اللّه محمد بن الحسن المروزي

أخبرنا أبو سهل محمد بن عمر بن طرفة السجزي أنا أبو سليمان الخطابي

أخبرنا أبو بكر بن داسة أنا أبو داود السجستاني أنا موسى بن اسماعيل أنا حماد أنا أبو قزعة سويد بن حجير الباهلي عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال قلت يا رسول اللّه ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال { أن تطعمها إذا طعمت، وأن تكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت }.

أخبرنا اسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني

أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي أنا أبو اسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا أبو بكر بن أبي شيبة أنا حاتم بن اسماعيل المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه قال دخلنا على جابر بن عبد اللّه فقلت أخبرني عن حجة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسرد قصة حجة الوداع إلى ان ذكر خطبته يوم عرفة قال { فاتقوا اللّه في النساء، فإنهن عوان عندكم، فإنكم أخذتموهن بأمانة اللّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده كتاب اللّه، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بأصبعيه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللّهم اشهد اللّهم اشهد ثلاث مرات}.

أخبرنا أحمد الصالحي أنا أحمد بن الحسن الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا محمد بن يحيى أنا يعلى بن عبيد أنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائكم }.

قوله تعالى { وللرجال عليهن درجة } قال ابن عباس بما ساق إليها من المهر وأنفق عليها من المال، وقال قتادة  بالجهاد،

وقيل بالعقل،

وقيل بالشهادة،

وقيل بالميراث،

وقيل بالدية

وقيل بالطلاق، لأن الطلاق بيد الرجال،

وقيل بالرجعة، وقال سفيان و زيد بن أسلم  بالإمارة وقال القتيبي وللرجال عليهن درجة معناه فضيلة في الحق { واللّه عزيز حكيم }.

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي

أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنا أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه الصفار

أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي أنا أبو حذيفة أنا سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان أن معاذ بن جبل خرج في غزاة بعثه النبي صلى اللّه عليه وسلم فيها ثم رجع فرأى رجالاً يسجدج بعضهم لبعض فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم { لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها }.

٢٢٩

قوله تعالى { الطلاق مرتان } روي عن عروة بن الزبير قال كان الناس في الابتداء يطلقون من غير حصر ولا عدد، وكان الرجل يطلق امرأته، فإذا قاربت انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها كذلك ثم راجعها يقصد مضارتها فنزلت هذه الآية { الطلاق مرتان } يعني الطلاق الذي يملك الرجعة عقبيه مرتان، فإذا طلق ثلاثاً فلا تحل له إلا بعد نكاح زوج آخر.

قوله تعالى { فإمساك بمعروف } قيل أراد بالإمساك الرجعة بعد الثانية، والصحيح أن المراد منه الإمساك بعد الرجعة، يعني إذا راجعها بعد الرجعة الثانية فعليه أن يمسكها بالمعروف كل ما يعرف في الشرع، من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة { أو تسريح بإحسان } هو أن يتركها بعد الطلاق حتى تنقضي عدتها

وقيل الطلقة الثالثة.

قوله تعالى { أو تسريح بإحسان } وصريح اللفظ الذي يقع به الطلاق من غير نية ثلاثة الطلاق والفراق والسراح، وعند أبي حنيفة الصريح هو لفظ الطلاق فحسب، وجملة الحكم فيه أن الحر إذا طلق زوجته طلقة أو طلقتين بعد الدخول بها يجوز له مراجعتها بغير رضاها ما دامت في العدة، وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها، أو طلقها قبل الدخول بها أو خالعها فلا تحل له إلا بنكاح جديد بإذنها، وإذن وليها فإن طلقها ثلاثاً فلا تحل له، ما لم تنكح زوجاً غيره، وأما العبد إذا كانت تحته امرأة، فطلقها طلقتين فإنها لا تحل له إلا بعد نكاح زوج آخر.

واختلف أهل العلم فيما إذا كان أحد الزوجين رقيقاً، فذهب أكثرهم إلى أنه يعتبر عدد الطلاق بالزوج، فالحر يملك على زوجته الأمة ثلاث طلقات، والعبد لا يملك على زوجته الحرة إلا طلقتين، قال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه الطلاق بالرجال والعدة بالنساء، يعني يعتبر في عدد الطلاق حال الرجل وفي قدر العدة حال المرأة، وهو قول عثمان وزيد بن ثابت وابن عباس رضي اللّه عنهم، وبه قال عطاء و سعيد بن المسيب وإليه ذهب مالك و الشافعي و أحمد و اسحاق ، وذهب قوم إلى أن الاعتبار بالمرأة في عدد الطلاق فيملك العبد على زوجته الحرة ثلاث طلقات ولا يملك الحر على زوجته الأمة إلا طلقتين وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي.

قوله تعالى { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن } أعطيتموهن { شيئاً } من المهور وغيرها ثم استثنى الخلع فقال { إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود اللّه } نزلت في جميلة بنت عبد اللّه بن أبي أوفى

ويقال {حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها فكان بينهما كلام فأتت أباها فشكت إليه زوجها وقالت له إنه يسيئ إلي ويضربني فقال ارجعي إلى زوجك فإني أكره للمرأة أن لا تزال رافعة يديها تشكو زوجها قال فرجعت إليه الثانية وبها أثر الضرب فقال لها ارجعي إلى زوجك، فلما رأت أباها لا يشكيها أتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فشكت إليه زوجها وأرته آثاراً بها من ضربه وقالت يا رسول اللّه لا أنا ولا هو، فأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى ثابت فقال مالك ولأهلك؟ فقال والذي بعثك بالحق نبياً ما على وجه الأرض أحب إلى منها غيرك، فقال لها ما تقولين؟ فكرهت أن تكذب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين سألها فقالت صدق يا رسول اللّه ولكن قد خشيت أن يهلكني فأخرجني منه، وقالت يا رسول اللّه ما كنت لأحدثك حديثاً ينزل اللّه عليك خلافه، هو من أكرم الناس محبة لزوجته، ولكني أبغضه فلا أنا ولا هو، قال ثابت قد أعطيتها حديقة فلتردها علي وأخلي سبيلها فقال لها تردين عليه حديقته وتملكين أمرك ؟ قالت نعم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  يا ثابت خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها ففعل}.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا زاهر بن جميل

أخبرنا عبد الوهاب الثقفي أنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت يارسول اللّه إن ثابت ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر بعد الإسلام { أتردين عليه حديقته }؟ قالت نعم، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { اقبل الحديقة وطلقها تطليقة }.

قوله تعالى { إلا أن يخافا } أي يعلما { أن لا يقيما حدود اللّه } قرأ أبو جعفر و حمزة و يعقوب { إلا أن يخافا } بضم الياء أي يعلم ذلك منهما، يعني يعلم القاضي والولي ذلك من الزوجين، بدليل

قوله تعالى { فإن خفتم } فجعل الخوف لغير الزوجين، ولم يقل فإن خافا، وقرأ الآخرون { يخافا } بفتح الياء أي يعلم الزوجان من أنفسهما { أن لا يقيما حدود اللّه } تخاف المرأة أن تعصي اللّه في أمر زوجها، ويخاف الزوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها، فنهى اللّه الرجل أن يأخذ من امرأته شيئاً مما آتاها، إلا أن يكون النشوز من قبلها، فقالت لا أطيع لك أمراً ولا أطالك مضجعاً ونحو ذلك. قال اللّه تعالى { فإن خفتم أن لا يقيما حدود اللّه فلا جناح عليهما فيما افتدت به } أي فيما افتدت به المرأة نفسها منه، قال الفراء  أراد بقوله { عليهما } الزوج دون المرأة، فذكرهما جميعاً لاقترانهما ك

قوله تعالى { نسيا حوتهما } (٦١-الكهف)، وإنما الناسي فتى موسى دون موسى

وقيل أراد أنه لا جناح عليهما جميعاً، لا جناح على المرأة في النشوز إذا خشيت الهلاك والمعصية، ولا فيما افتدت به وأعطت من المال، لأنها ممنوعة من إتلاف المال بغير الحق، ولا على الزوج فيما أخذ منها من المال إذا أعطته طائعة، وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الخلع جائز على أكثر مما أعطاها وقال الزهري  لا يجوز بأكثر مما أعطاها من المهر. وقال سعيد بن المسيب  لا يأخذ منها جميع ما أعطاها بل يترك منه شيئاً، ويجوز الخلع على غير حال النشوز غير أنه لما فيه من قطع الوصلة بلاسبب.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا أبو عبد اللّه بن فنجويه الدينوري أنا عبد اللّه بن محمد بن شيبة أنا أحمد بن جعفر المستملي أنا أبو محمد يحيى بن إسحاق بن شاكر بن أحمد بن خباب أنا عيسى بن يونس أنا عبد اللّه بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { إن من أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق }.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرني ابن فنجويه أنا ابن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان يرفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة }. وقال طاووس  الخلع يختص بحالة خوف النشوز غالباً، وإذا طلق الرجل امرأته بلفظ الطلاق على مال فقبلت وقعت البينونة وانتقص به العدد.

واختلف أهل العلم في الخلع فذهب أكثرهم إلى أنه تطليقة بائنة ينتقص به عدد الطلاق، وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود، وبه قال سعيد بن المسيب و عطاء و الحسن و الشعبي و النخعي ، وإليه ذهب مالك و الثوري و الأوزاعي وأصحاب الرأي وهو أظهر قولي الشافعي ، وذهب قوم إلى أنه فسخ لا ينتقص به عدد الطلاق وهو قول عبد اللّه بن عمر وعبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهم، وبه قال عكرمة و طاووس وإليه ذهب أحمد و إسحاق ، واحتجوا بأن اللّه تعالى ذكر الطلاق مرتين ثم ذكر بعده الخلع، ثم ذكر بعده الطلقة الثالثة فقال، { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } ولو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً، ومن قال بالأول جعل الطلقة الثالثة { أو تسريح بإحسان }.

قوله تعالى { تلك حدود اللّه } أي هذه أوامر اللّه ونواهيه، وحدود اللّه ما منع الشرع من المجاوزة عنه { فلا تعتدوها } فلا تجاوزوها { ومن يتعد حدود اللّه فأولئك هم الظالمون }.

٢٣٠

قوله تعالى { فإن طلقها } يعني الطلقة الثالثة { فلا تحل له من بعد } أي من بعد الطلقة الثالثة { حتى تنكح زوجاً غيره } أي غير المطلق فيجامعهما، والنكاح يتناول الوطء والعقد جميعاً، نزلت في تميمة

وقيل عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك القرظي كانت ابن عمها رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي فطلقها ثلاثاً.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي

أخبرنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين رضي اللّه عنها أنه سمعها تقول {جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت إني كنت عند عند رفاعة فطلقني فبث طلاقي، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة قالت نعم قال لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته }.

وروي أنها لبثت ما شاء اللّه ثم رجعت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت إن زوجي قد مسني فقال لها النبي صلى اللّه عليه وسلم كذبت بقولك الأول فلن نصدقك في الآخر. فلبثت حتى قبض النبي صلى اللّه عليه وسلم فأتت أبا بكر رضي اللّه عنه فقال يا خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أرجع زوجي الأول فإن زوجي الآخر مسني وطلقني فقال لها أبو بكر قد شهدت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين أتيته وقال لك ما قال فلا ترجعي إليه، فلما قبض أبو بكر رضي اللّه عنه، أتت عمر رضي اللّه عنه وقالت له مثل ذلك فقال لها عمر رضي اللّه عنه وقالت له مثل ذلك فقال لها عمر رضي اللّه عنه لئن رجعت له لأرجمنك )).

قوله تعالى { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا } يعني فإن طلقها الزوج الثاني بعد ما جامعها { فلا جناح عليهما } يعني على المرأة وعلى الزوج الأول { أن يتراجعا } يعني بنكاح جديد { إن ظنا } أي علما

وقيل رجوا، لأن أحداً لا يعلم ما هو كائن إلا اللّه عز وجل { أن يقيما حدود اللّه } أي يكون بينهما الصلاح وحسن الصحبة،

وقال مجاهد  معناه إن علما أن نكاحهما على غير الدلسة، وأراد بالدلسة التحليل، وهو مذهب سفيان الثوري و الأوزاعي و مالك و أحمد و إسحاق ، قالوا إذا تزوجت المطلقة ثلاثاً زوجاً آخر ليحللّها للزوج الأول فإن النكاح فاسد، وذهب جماعة إلى أنه إن لم يشرط في النكاح مع الثاني أنه يفارقها فالنكاح صحيح ويحصل به التحليل ولها صداق مثلها، غير أنه يكره إذا كان في عزمها ذلك.

أخبرنا أبو الفرج المظفر بن اسماعيل التميمي

أخبرنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي أنا أبو أحمد عبد اللّه بن عدي الحافظ أنا الحسن بن الفرج

أخبرنا عمرو بن خالد الحراني عن عبيد اللّه بن عبد الكريم هو الجزري عن أبي واصل عن ابن مسعود رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه ((لعن المحلل والمحلل له )) وقال نافع أتى رجل ابن عمر فقال له إن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً، فانطلق أخ له من غيره مؤامرة فتزوجها ليحلها للأول فقال لا، إلا نكاح رغبة، كنا نعد سفاحاً على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، { لعن اللّه المحلل والمحلل له } { وتلك حدود اللّه يبينها لقوم يعلمون } يعني يعلمون ما أمرهم اللّه تعالى به.

 ٢٣١

قوله تعالى { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } الآية، نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها، يقصد بذلك مضارتها.

قوله تعالى { فبلغن أجلهن } أي أشرفن على أن يبن بانقضاء العدة، ولم يرد حقيقة انقضاء العدة، لأن العدة إذا انقضت لم يكن للزوج امساكها، فالبلوغ هاهنا بلوغ مقاربة، وفي

قوله تعالى بعد هذا { فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن } حقيقة انقضاء العدة، والبلوغ يتناول المعنيين، يقال بلغ المدينة إذا قرب منها وإذا دخلها { فأمسكوهن } أي راجعوهن { بمعروف } قيل المراجعة بالمعروف أن يشهد على رجعتها وأن يراجعها بالقول لا بالوطء. { أو سرحوهن بمعروف } أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيكن أملك بأنفسهن { ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا } أي لا تقصدوا بالرجعة المضارة بتطويل الحبس { ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } أي أضر بنفسه بمخالفة أمر اللّه تعالى { ولا تتخذوا آيات اللّه هزواً } قال الكلبي يعني

قوله تعالى (( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان )) وكل من خالف أمر الشرع فهو متخذ آيات اللّه هزواً، قال أبو الدرداء هو أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يقول كنت لاعباً، ويعتق ويقول مثل ذلك [وينكح ويقول مثل ذلك].

أخبرنا أ بو عبد اللّه محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني

أخبرنا عبد اللّه بن عمرو الجوهري

أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني

أخبرنا على بن حجر

أخبرنا اسماعيل بن جعفر عن أبي حبيب ابن أردك عن عطاء بن أبي رباح عن ابن ماهك عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد الطلاق والنكاح والرجعة }. { واذكروا نعمة اللّه عليكم } بالإيمان { وما أنزل عليكم من الكتاب } يعني القرآن { والحكمة } يعني السنة،

وقيل مواعظ القرآن { يعظكم به واتقوا اللّه واعلموا أن اللّه بكل شيء عليم }

٢٣٢

{ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } نزلت في جميلة بنت يسار أخت معقل بن يسار المزني، كانت تحت أبي البداح عاصم بن عدي بن عجلان فطلقها.

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن اسماعيل

أخبرنا أحمد بن أبي عمرو حدثني أبي حدثني إبراهيم عن يونس عن الحسن قال حدثني معقل بن يسار قال زوجت أختاً لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها؟ لا واللّه لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه

فأنزل اللّه تعالى { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } فقلت الآن أفعل يارسول اللّهن قال فزوجتها إياه.

قوله تعالى { فبلغن أجلهن } أي انقضت عدتهن { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } أي لا تمنعوهن عن النكاح، والعضل المنع، وأصله الضيق والشدة، يقال عضلت المرأة إذا نشب ولدها في بطنها فضاق عليه الخروج، والداء العضال الذي لا يطاق، وفي الآية دليل على أن المرأة لا تلي عقد النكاح إذ لو كانت تملك ذلك لم يكن هناك عضل ولا لنهي الولي عن العضل معنى،

وقيل الآية خطاب مع الأزواج لمنعهم من الإضرار لأن ابتداء الآية خطاب معهم، والأول أصح. { إذا تراضوا بينهم بالمعروف } بعقد حلال ومهر جائز { ذلك } أي ذلك الذي ذكر من النهي { يوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه واليوم الآخر } وإنما قال ذلك موحداً، والخطاب للأولياء لأن الأصل في مخاطبة الجمع ذلكم، ثم كثر حتى توهموا أن الكاف من نفس الحرف وليست بكاف خطاب فقالوا ذلك، فإذا قالوا هذا كانت الكاف موحدة منصوبة في الاثنين والجمع والمؤنث والمذكر قيل هو خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم فلذلك وحد ثم رجع إلى خطاب المؤمنين فقال { ذلكم أزكى لكم } أي خير لكم { وأطهر } لقلوبكم من الريبة وذلك أنه إذا كان في نفس كل واحد منهما ما لعلهما أن يكونا بريئين من ذلك فيأثمون { واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون } أي يعلم من حب كل واحد منهما لصاحبه مالا تعلمون أنتم.

٢٣٣

قوله تعالى { والوالدات يرضعن أولادهن } يعني المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن يرضعن، خبر بمعنى الأمر، وهو أمر استحباب لا أمر ايجاب، لأنه لا يجب عليهن الإرضاع إذا كان يوجد من ترضع الولد ل

قوله تعالى في سورة الطلاق { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } (٦-الطلاق) فإن رغبت الأم في الإرضاع فهي أولى من غيرها { حولين كاملين } أي سنتين، وذكر الكمال للتأكيد ك

قوله تعالى { تلك عشرة كاملة } (١٩٦-البقرة)

وقيل إنما قال كاملين لأن العرب قد تسمي بعض الحول حولاً وبعض الشهر شهراً كما قال اللّه تعالى { الحج أشهر معلومات } (١٩٧-البقرة)، وإنما هو شهران وبعض الثالث وقال { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } (٢٠٣-البقرة)، وإنما يتعجل في يوم وبعض يوم، ويقال أقام فلان بموضع كذا حولين وإنما أقام به حولاً وبعض آخر، فبين اللّه تعالى أنهما حولان كاملان، أربعة وعشرون شهراً،

واختلف أهل العلم في هذا الحد، فمنهم من قال هو حد لبعض المولودين، فروى عكرمة وابن عباس رضي اللّه عنهما أنها إذا وضعت لستة أشهر فإنها ترضعه حولين كاملين، وإن وضعته لسبعة أشهر فإنها ترضعه ثلاثة وعشرين شهراً، وإن وضعت لتسعة أشهر فإنها ترضعه أحدا وعشرين شهراً، وإن وضعت لعشرة أشهر فإنها ترضعه عشرين شهراً، كل ذلك تمام ثلاثين شهراً ل

قوله تعالى { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } (١٥-الحقاف). وقال قوم هو حد لكل مولود بأي وقت ولد لا ينقص رضاعه عن حولين إلا باتفاق الأبوين فأيهما أراد الفطام قبل تمام الحولين ليس له ذلك إلا أن يجتمعا عليه ل

قوله تعالى { فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور } وهذا قول ابن جريج و الثوري ورواية الوالبي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما،

وقيل المراد من الآية بيان أن الرضاع الذي تثبت به الحرمة ما يكون في الحولين، فلا يحرم ما يكون بعد الحولين،

قال قتادة  فرض اللّه على الوادات إرضاع حولين كاملين ثم أنزل التخفيف فقال { لمن أراد أن يتم الرضاعة } أي هذا الرضاعة وليس فيما دون ذلك حد محدود وإنما هو على مقدار صلاجح الصبي وما يعيش به { وعلى المولود له } يعني الأب { رزقهن } طعامهن { وكسوتهن } لباسهن { بالمعروف } أي على قدر الميسرة { لا تكلف نفس إلا وسعها } أي طاقتها { لا تضار والدة بولدها } قرأ ابن كثير وأهل البصرة برفع الراء نسقاً على قوله { لا تكلف } وأصله تضارر فأدغمت الراء في الراء، وقرأ الآخرون تضار بنصب الراء، قالوا لما أدغمت الراء في الراء حركت إلى أخف الحركات وهو النصب ومعنى الآية { لا تضار والدة بولدها } فينزع الولد منها إلى غيرها بعد فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه { ولا مولود له بولده } أي لا تلقيه المرأة إلى أبيه بعدما ألفها، تضاره بذلك،

وقيل معناه { لا تضار والدة } فتكره على ارضاعه إذا كرهت إرضاعه، وقبل الصبي من غيرها، لأن ذلك ليس بواجب عليها { ولا مولود له بولده } فيحتمل ان تعطى الأم أكثر مما يجب لها إذا لم يرتضع من غيرها. فعلى هذين القولين أصل الكلمة لا تضارر بفتح الراء الأولى على الفعل المجهول، والوالدة والمولود له مفعولان، ويحتمل أن يكون الفعل لهما وتكون تضار بمعنى تضار بكسر الراء الأولى على تسمية الفاعل والمعنى { لا تضار والدة } فتأبى أن ترضع ولدها ليشق على أبيه { ولا مولود له } أي لا يضار الأب أم الصبي، فينزعه منها ويمنعها من ارضاعه، وعلى هذه الأقوال يرجع الإضرار إلى الوالدين يضار كل واحد منهما صاحبه بسبب الولد، ويجوز أن يكون الضرار راجعاً إلى الصبي، أي لا يضار كل واحد منهما الصبي، فلا ترضعه الأم حتى يموت أو لاينفق الأب أو ينتزعه من الأم حتى يضر بالصبي، فعلى هذا تكون الباء زائدة ومعناه ( لا تضار والدة بولدها ) ولا أب بولده وكل هذه الأقاويل مروية عن المفسرين.

قوله تعالى { وعلى الوارث مثل ذلك } اختلفوا في هذا الوارث، فقال قوم هو وارث الصبي، معناه وعلى وارث الصبي الذي لو مات الصبي وله مال ورثه مثل الذي كان على أبيه في حال حياته، ثم اختلفوا في أي وارث هو من ورثته فقال بعضهم هو عصبة الصبي من الرجال مثل الجد والأخ وابن الأخ والعم وابن العم، وهو قول عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه، وبه قال إبراهيم و الحسن و مجاهد و عطاء وهو مذهب سفيان قالوا إذا لم يكن للصبي ما ينفق عليه أجبرت عصبته الذين يرثونه على أن يسترضعوه،

وقيل هو وارث الصبي من كان من الرجال والنساء وهو قول قتادة وابن أبي ليلى ومذهب أحمد و إسحاق وقالوا يجبر على نفقته كل وارث قدر ميراثه عصبة كانوا أو غيرهم. وقال بعضهم هو من كان ذار حم محرم من ورثة المولود، فمن ليس بمحرم مثل ابن العم والمولى فغير مراد بالآية، وهو قول أبي حنيفة رحمه اللّه، وذهب جماعة إلى أن المراد بالوارث هو الصبي نفسه، الذي هو وارث أبيه المتوفى تكون أجرة رضاعه ونفقته في ماله، فإن لم له مال فعلى الأم، ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان، وهو قول مالك و الشافعي رحمهما اللّه،

وقيل هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر عليه مثل ما كان على الأب من أجرة الرضاع والنفقة والكسوة.

وقيل ليس المراد منه النفقة، بل معناه وعلى الوارث ترك المضارة، وبه قال الشعبي و الزهري { فإن أراد } يعني الوالدين { فصالا } فطاماً قبل الحولين { عن تراض منهما } أي اتفاق من الوالدين { وتشاور } أي يشاورون أهل العلم به حتى يخبروا أن الفطام في ذلك الوقت لا يضر بالولد، والمشاورة اتخراج الرأي { فلا جناح عليهما } أي لا حرج عليهما في الفطام قبل الحولين { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم } أي لأولادكم مراضع غير أمهاتهم إذا أبت أمهاتهم أن يرضعنهم أو تعذر لعلة بهن، أي انقطاع لبن أو أردن النكاح { فلا جناح عليكم إذا سلمتم } إلى أنمهاتهم { ما آتيتم } ما سمستم لهن من أجرة الرضاع بقدر ما أرضعن،

وقيل إذا سلمتم أجور المراضع إليهن بالمعروف، قرأ ابن كثير { ما آتيتم } وفي الروم { وما آتيتم من ربا } (٣٩-الروم) بقصر الألف ومعناه ما فعلتم يقال أتيت جميلاً إذا فعلته، فعلى هذه القراءة يكون التسليم بمعنى الطاعة والانقياد لا بمعنى تسليم الأجرة يعني إذا سلمتم لأمره وانقدتم لحكمه،

وقيل إذا سلمتم للاسترضاع عن تراض واتفاق دون الضرار { واتقوا اللّه واعلموا أن اللّه بما تعملون بصير }.

٢٣٤

قوله تعالى { والذين يتوفون منكم } أي يموتون وتتوفى آجالهم، وتوفى واستوفى بمعنى واحد، ومعنى التوفي أخذ الشيء وافياً { ويذرون أزواجاً } يتركون أزواجاً { يتربصن } ينتظرن { بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } أي يعتددن بترك الزينة والطيب والنقلة على فراق أزواجهن هذه المدة إلا أن يكن حوامل فعدتهن بوضع الحمل، وكانت عدة الوفاة في الابتداء حولاً كاملاً ل

قوله تعالى { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج } (٢٤٠-البقرة) ثم نسخت بأربعة أشهر وعشر. قال ابن أبي نجيح عن مجاهد  كانت هذه العدة يعني أربعة اشهر وعشراً واجبة عند أهل زوجها

فأنزل اللّه تعالى { متاعاً إلى الحول } فجعل لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت وإن شاءت خرجت وهو قول اللّه عز وجل { غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن } (٢٤٠-البقرة) فالعدة كما هي واجبة عليها. وقال عطاء قال ابن عباس رضي اللّه عنهما نسخت هذه الاية عدتها عند أهله وسكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، قال عطاء  ثم جاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها ويجب عليها الإحداد في عدة الوفاة، وهي أن تمتنع من الزينة والطيب فلا يجوز لها تدهين رأسها بأي دهن سواء كان فيه طيب أو لم يكن، ولها تدهين جسدها بدهن لا طيب فيه، فإن كان فيه طيب فلا يجوز، ولا يجوز لها أن تكتحل بكحل فيه طيب أو فيه زينة كالكحل الأسود ولا بأس بالكحل الفارسي الذي لا زينة فيه فإن اضطرت إلى كحل فيه زينة فرخص فيه كثير من أهل العلم منهم سالم بن عبد اللّه و سليمان بن يسار و عطاء و النخعي وبه قال مالك وأصحاب الرأي، وقال الشافعي رحمه اللّه تكتحل به ليلاً وتمسحه بالنهار. قالت أم سلمة دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت علي صبراً فقال { إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار }.

ولا يجوز لها الخضاب ولا لبس الوشي والديباج والحلي ويجوز لها لبس البيض من الثياب ولبس الصوف والوبر، ولا تلبس الثوب المصبوغ للزينة كالأحمر والأخضر الناضر والأصفر، ويجوز ما صبغ لغير زينة كالسواد والكحلي وقال سفيان  لا تلبس المصبوغ بحال.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد اللّه بن أبي بكر عن عمر بن حزم عن حميد بن نافع عن زينب بنت أبي سلمة أنها أخبرته بهذه الأحاديث الثلاثة قالت زينب دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم حين توفى أبوها أبو سفيان بن حرب فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة، خلوق أو غيره، فدهنت به جارية ثم مست بطنها ثم قالت واللّه مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول على المنبر { لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً }.

وقالت زينب ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفى أخوها عبد اللّه فدعت بطيب فمست به ثم قالت واللّه مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول على المنبر { لايحل لامرأة أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً } قالت زينب وسمعت أمي أم سلمة تقول {جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت يا رسول اللّه ان ابنتي توفى عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا ، ثم قال هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول }

قال حميد  فقلت لزينب وما ترمي بالعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً أي بيتاً صغيراً ولبست شر ثيابها ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة، ثم تؤتي بدابة، حمار أو شاة أو طير فتفتض به، أي تمسح فقلما تقتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطي بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعد ذلك ما شاءت من طيب أو غيره، و

قال مالك  تفتض أي تمسح جلدها. وقال سعيد بن المسيب  الحكمة في هذه المدة أن فيها ينفخ الروح في الولد، ويقال إن الولد يرتكض أي يتحرك في البطن لنصف مدة الحمل أربعة أشهر وعشراً قريباً من نصف مدة الحمل، وإنما قال عشراً بلفظ المؤنث لأنه أراد الليالي لأن العرب إذا أبهمت العدد بين الليالي والأيام غلبت عليها الليالي فيقولون صمنا عشراً والصوم لا يكون إلا بالنهار. وقال المبرد  إنما أنث العشر لأنه المدد أي عشر مدد كل مدة يوم وليلة، وإذا كانت المتوفى عنها زوجها حاملاً فعدتها بوضع الحمل عند أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم وروى عن علي وابن عباس رضي اللّه عنهم أنها تنتظر آخر الأجلين من وضع الحمل أو أربعة أشهر وعشراً، وقال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه، أنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى أراد بالقصرى سورة الطلاق { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } (٤-الطلاق) نزلت بعد

قوله تعالى { يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } في سورة البقرة فحمله على النسخ، وعامة الفقهاء خصوا الآية بحديث سبيعة وهو ما

أخبرنا أبو الحسن السرخسي

أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو اسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن المسور بن مخرمة أن سبيعة نفست بعد وفاة زوجها بليال فجاءت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاستأذنته أن تنكح فأذن لها فنكحت.

قوله تعالى { فإذا بلغن أجلهن } أي انقضت عدتهن { فلا جناح عليكم } خطاب للأولياء { فيما فعلن في أنفسهن } أي من اختيار الأزواج دون العقد فإن العقد إلى الولي،

وقيل فيما فعلن من التزين للرجال زينة لا ينكرها الشرع { بالمعروف واللّه بما تعملون خبير } والإحداد واجب على المرأة في عدة الوفاة، أما المعتدة عن الطلاق نظر فإن كانت رجعية فلا إحداد عليها في العدة لأن لها أن تصنع ما يشوق عنها قلب الزوج إليها ليراجعها، وفي البائنة بالخلع والطلقات الثلاثة قولان أحدهما عليها الإحداد كالمتوفى عنها زوجها، وهو قول سعيد بن المسيب ، وبه قال أبو حنيفة ،

والثاني لا إحداد عليها وهو قول عطاء ، وبه قال مالك .

٢٣٥

قوله تعالى { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } أي النساء المعتدات وأصل التعريض هو التلويح بالشيء، والتعريض في الكلام ما يفهم به السامع مراده من غير تصريح والتعريض بالخطبة مباح في العدة وهو أن يقول رب راغب فيك، من يجد مثلك، إنك لجميلة، وإنك لصالحة، وإنك علي لكريمة، وإني فيك لراغب، وإن من غرضي أن أتزوج وإن جمع اللّه بيني وبينك بالحلال أعجبني ولئن تزوجتك لأحسنن إليك، ونحو ذلك من الكلام من غير أن يقول أنكحيني والمرأة تجيبه بمثله إن رغبت فيه، وقال إبراهيم لا بأس أن يهدي لها ويقوم بشغلها في العدة إذا كانت من شأنه. روي أن سكينة بنت حنظلة بانت من زوجها فدخل عليها أبو جعفر محمد بن علي الباقر في عدتها وقال يا بنت حنظلة أنا من قد علمت قرابتي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحق جدي علي وقدمي في الإسلام فقالت سكيني أتخطبني وأنا في العدة وأنت يؤخذ العلم عنك؟ فقال إنما أخبرتك بقرابتي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قد دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أم سلمة وهي في عدة زوجها أبي سلمة فذكر لها منزلته من اللّه عز وجل وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدة تحامله على يده. والتعريض بالخطبة جائز في عدة الوفاة، أما المعتدة عن فرقة الحياة نظر إن كانت ممن لا يحل لمن بانت منه نكاحها كالمطلقة ثلاثاً والمبانة باللعان والرضاع يجوز خطبتها تعريضاً وإن كانت ممن يحل للزوج نكاحها كالمختلعة والمفسوخ نكاحها يجوز خطبتها تعريضاً وتصريحاً. وهل يجوز للغير تعريضا؟ فيه قولان أحدهما يجوز كالمطلقة ثلاثاً، والثاني لا يجوز لأن المعاودة ثابتة لصاحب العدة كالرجعية لا يجوز للغير تعريضها بالخطبة. و

قوله تعالى { من خطبة النساء } الخطبة التماس النكاح وهي مصدر خطب الرجل المرأة يخطب خطبة،

وقال الأخفش  الخطبة الذكر، والخطبة التشهد فيكون معناه فيماعرضتم به من ذكر النساء عندهن، { أو أكننتم} أضمرتم { في أنفسكم } من نكاحهن يقال أكننت الشيء وكننته لغتان، وقال ثعلب  أكننت الشيء أي أخفيته في نفسي وكننته سترته، و

قال السدي  هو أن يدخل فيسلم ويهدي إن شاء ولا يتكلم بشيء { علم اللّه أنكم ستذكرونهن } بقلوبكم { ولكن لا تواعدوهن سراً } اختلفوا في السر المنهي عنه فقال قوم هو الزنا كان الرجل يدخل على المرأة من أجل الزنية وهو يتعرض بالنكاح ويقول لها دعيني فإذا أوفيت عدتك أظهرت نكاحك، هذا قول الحسن و قتادة و إبراهيم و عطاء ورواية عطية عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، قال زيد بن أسلم  أي لا ينكحها سراً فيمسكها فإذا حلت أظهر ذلك.

وقال مجاهد  هو قول الرجل لا تفوتيني بنفسك فإني ناكحك، وقال الشعبي و السدي لا يأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره،

وقال عكرمة  لا ينكحها ولا يخطبها في العدة. قال الشافعي  السر هو الجماع،

وقال الكلبي  أي لاتصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع فيقول آتيك الأربعة والخمسة وأشباه ذلك، ويذكر السر ويراد به الجماع قال امرئ القيس ألا زعمت بسباسة القوم أنني كبرت وألا يحسن السر أمثالي إنما قيل للزنا والجماع سر لأنه يكون في خفاء بين الرجل والمرأة.

قوله تعالى { إلا أن تقولوا قولاً معروفاً } هو ما ذكرنا من التعريض بالخطبة.

قوله تعالى { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } أي لا تحققوا العزم على عقدة النكاح في العدة حتى يبلغ الكتاب أجله أي حتى تنقضي العدة وسماها اللّه كتاباً لأنها فرض من اللّه ك

قوله تعالى { كتب عليكم } أي فرض عليكم { واعلموا أن اللّه يعلم ما في أنفسكم فاحذروه } أي فخافوا اللّه { واعلموا أن اللّه غفور حليم } لا يعجل بالعقوبة.

٢٣٦

قوله تعالى { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } أي ولم تمسوهن ولم تفرضوا،{ نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها مهراً ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت هذه الآية فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم متعها ولو بقلنسوتك }. قرأ حمزة و الكسائي { ما لم تمسوهن } بالألف ههنا وفي الأحزاب على المفاعلة لأن بدن كل واحد منهما يلاقي بدن صاحبه كما قال اللّه تعالى { من قبل أن يتماسا } (٣-المجادلة) وقرأ الباقون { تمسوهن } بلا ألف لأن الغشيان يكون من فعل الرجل دليله

قوله تعالى { ولم يمسسني بشر } (٤٧-آل عمران).

قوله تعالى { أو تفرضوا لهن فريضة } أي توجبوا لهن صداقاً فإن قيل فما الوجه في نفي الجناح عن المطلق قيل الطلاق قطع سبب الوصلة وجاء في الحديث { أبغض الحلال إلى اللّه تعالى الطلاق }. فنفى الجناح عنه إذا كان الفراق أروح من الإمساك،

وقيل معناه لا سبيل للنساء عليكم إن طلقتموهن من قبل المسيس والفرض بصداق ولا نفقة،

وقيل لا جناح عليكم في تطليقهن من قبل المسيس في أي وقت شئتم حائضاً كانت المرأة أو طاهرة لأنه لا سنة ولا بدعة في طلاقهن قبل الدخول بها بخلاف المدخول بها فإنه ل يجوز تطليقها في حال الحيض { ومتعوهن } أي أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به والمتعة والمتاع ما يتبلغ به من الزاد { على الموسع } أي على الغني { قدره وعلى المقتر } أي الفقير { قدره } أي إمكانه وطاقته قرأ أبو جعفر و ابن عامر و الكسائي و حفص قدره بفتح الدال فيهما وقرأ الآخرون بسكونهما وهما لغتان

وقيل القدر بسكون الدال المصدر وبالفتح الاسم، متاعاً نصب على المصدر أي متعوهن { متاعاً بالمعروف } أي بما أمركم اللّه به من غير ظلم { حقاً على المحسنين }، وبيان حكم الآية أن من تزوج امرأة ولم يفرض لها مهراً ثم طلقها قبل المسيس تجب لها المتعة بالاتفاق وإن طلقها بعد الفرض قبل المسيس فلا متعة لها على قول الأكثرين ولها نصف المهر المفروض.

واختلفوا في المطلقة بعد الدخول بها فذهب جماعة إلى أنه لا متعة لها لأنها تستحق المهر وهو قول أصحاب الرأي وذهب جماعة إلى أنها تستحق المتعة ل

قوله تعالى { وللمطلقات متاع بالمعروف } (٢٤١-البقرة) وهو قول عبد اللّه بن عمر وبه قال عطاء و مجاهد و القاسم بن محمد وإليه ذهب الشافعي لأن استحقاقها المهر بمقابلة ما أتلف عليها من منفعة البضع فلها المتعة على وحشة الفراق، فعلى القول الأول لا متعة إلا لواحدة وهي المطلقة قبل الفرض والمسيس، وعلى القول الثاني لكل مطلقة متعة إلا لواحدة وهي المطلقة بعد الفرض قبل المسيس، وقال عبد اللّه بن عمر  لكل مطلقة متعة إلا التي فرض لها ولم يمسها زوجها فحسبها نصف المهر. قال الزهري  متعتان يقضي بإحداهما السلطان ولا يقضي بالأخرى بل تلزمه فيما بينه وبين اللّه تعالى. فأما التي يقضي بها السلطان فهي المطلقة قبل الفرض والمسيس وهو

قوله تعالى { حقاً على المحسنين }، والتي تلزمه فيما بينه وبين اللّه تعالى ولا يقضي بها السلطان فهي المطلقة بعد المسيس وهو

قوله تعالى { حقاً على المتقين }. وذهب الحسن و سعيد بن جبير إلى أن لكل مطلقة متعة سواء كان قبل الفرض والمسيس أو بعد الفرض قبل المسيس ل

قوله تعالى { وللمطلقات متاع بالمعروف } (٢٤١-البقرة) ول

قوله تعالى في سورة الأحزاب { فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا } (٤٩-الأحزاب)، وقالا معنى

قوله تعالى { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } أي أو لم تفرضوا لهن فريضة،

وقال بعضهم المتعة غير واجبة والأمر بها أمر ندب واستحباب. وروي أن رجلاً طلق امرأته وقد دخل بها فخاصمته إلى شريح في المتعة فقال شريح  لا تأب أن تكون من المحسنين ول تأب أن تكون من المتقين ولم يجبره على ذلك.

واختلفوا في قدر المتعة فروي عن ابن عباس أعلاها خادم وأوسطها ثلاثة أثواب، درع وخما وإزار، ودون ذلك وقاية أو شيء من الورق وبه قال الشعبي و الزهري وهذا مذهب الشافعي ، وقال أعلاها على الموسع خادم وأوسطها ثوب وأقلها أقل ما له ثمن، وحسن ثلاثون درهماً، وطلق عبد الرحمن بن عوف امرأته وحممها جارية سوداء أي متعها ومتع الحسن بن علي رضي اللّه عنه امرأة له بعشرة آلاف درهم فقالت (( متاع قليل من حبيب مفارق )). وقال أبو حنيفة رحمه اللّه مبلغها إذا اختلف الزوجان قدر نصف مهر مثلها لا يجاوز والآية تدل على أنه يعتبر حال الزوج في العسر واليسر، ومن حكم الآية أن من تزوج امرأة بالغة برضاها على غير مهر يصح النكاح، وللمرأة مطالبته بأن يفرض لها صداقاً، فإن دخل بها قبل الفرض فلها عليه مهر مثلها وإن طلقها قبل الفرض والدخول فلها المتعة، وإن مات أحدهما قبل الفرض والدخول اختلف أهل العلم في أنها هل تستحق المهر أم لا؟ فذهب جماعة إلى أنه لا مهر لها وهو قول علي وزيد بن ثابت و عبد اللّه ابن عمر وعبد اللّه بن عباس كما لو طلقها قبل الفرض والدخول وذهب قوم إلى أن لها المهر لأن الموت كالدخول في تقرير المسمى كذلك في ايجاب مهر المثل إذا لم يكن في العقد مسمى وهو قول الثوري وأصحاب الرأي واحتجوا بما روي عن علقمة عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات فقال ابن مسعود لها صداق نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بروع بنت واشق امراة منا مثل ما قضيت ففرح ابن مسعود رضي اللّه عنه. وقال الشافعي رحمه اللّه فإن ثبت حديث بروع بنت واشق فلا حجة في قول أحد دون قول النبي صلى اللّه عليه وسلم، وإن لم يثبت فلا مهر لها ولها الميراث، وكان علي يقول في حديث بروع قول أعرابي من أشجع على كتاب اللّه وسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

٢٣٧

قوله تعالى { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } هذا في المطلقة بعد الفرض قبل المسيس فلها نصف المفروض، وإن مات أحدهما قبل المسيس فلها كمال المهر المفروض، والمراد بالمس المذكور في الآية الجماع،

واختلف أهل العلم فيما لو خلا الرجل بامرأته ثم طلقها قبل أن يدخل بها فذهب قوم إلى أنه لا يجب لها إلا نصف الصداق، ولا عدة عليها لأن اللّه تعالى أوجب بالطلاق قبل المسيس نصف المهر، ولم يوجب العدة، وهو قول ابن عباس رضي اللّه عنه وابن مسعود وبه قال الشافعي رحمه اللّه. وقال قوم يجب لها كمال المهر، وعليها العدة، لما روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق، ومثله عن زيد بن ثابت، وحمل بعضهم قول عمر على وجوب تسليم الصداق إليها إذا سلمت نفسها لا على تقدير الصداق،

وقيل هذه الآية ناسخة للآية التي في سورة الأحزاب { فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن } (٤٩-الأحزاب) فقد كان للمطلقة قبل المسيس متاع فنسخت بهذه الآية، وأوجب للمطلقة المفروض لها قبل المسيس نصف المفروض ولا متاع لها. و

قوله تعالى { وقد فرضتم لهن فريضة } أي سميتم لهن مهراً { فنصف ما فرضتم } أي لها نصف المهر المسمى { إلا أن يعفون } يعني النساء أي إلا أن تترك المرأة نصيبها فيعود جميع الصداق إلى الزوج.

قوله تعالى { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } اختلفوا فيه فذهب بعضهم إلى أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، وبه قال ابن عباس رضي اللّه عنه، معناه إلا أن تعفو المرأة بترك نصيبها إلى الزوج إن كانت ثيباً من أهل العفو، أو يعفو وليها فيترك نصيبها إن كانت المرأة بكراً أو غير جائزة الأمر فيجوز عفو وليها وهو قول علقمة و عطاء و الحسن و الزهري و ربيعة ، وذهب بعضهم إلى أنه إنما يجوز عفو الولي إذا كانت المرأة بكراً ثيباً فلا يجوز عفو وليها،

وقال بعضهم الذي بيده النكاح هو الزوج، وهو قول علي، وبه قال سعيد بن المسيب و سعيد بن جبير و الشعبي و شريح و مجاهد و قتادة ، وقالوا لا يجوز لوليها ترك الشيء من الصداق، بكراً كانت أو ثيباً كما لا يجوز له ذلك قبل الطلاق بالاتفاق وكما لا يجوز له أن يهب شيئاً من مالها، وقالوا معنى الآية إلا أن تعفو المرأة بترك نصيبها فيعود جميع الصداق إلى الزوج أو يعفو الزوج بترك نصيبه فيكون لها جميع الصداق، فعلى هذا التأويل وجه الآية الذي بيده عقدة النكاح نكاح نفسه في كل حال قبل الطلاق أو بعده { وأن تعفوا أقرب للتقوى } موضعه رفع بالابتداء أي فالعفو أقرب للتقوى، أي إلى التقوى، والخطاب للرجال والنساء جميعاً لأن المذكر والمؤنث إذا اجتمعا كانت الغلبة للمذكر معناه وعفو بعضكم عن بعض أقرب للتقوى { ولا تنسوا الفضل بينكم } أي أفضال بعضكم على بعض باعطاء الرجل تمام الصداق أو ترك المرأة نصيبها، حثهما جميعاً على الإحسان { إن اللّه بما تعملون بصير }.

٢٣٨

قوله تعالى { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } أي واظبوا وداوموا على الصلوات المكتوبات بمواقيتها وحدودها وإتمام أركانها، ثم خص من بينها الصلاة الوسطى بالمحافظة عليها دلالة على فضلها، والوسطى تأنيث الأوسط، ووسط الشيء خيره وأعدله

واختلف العلماء من الصحابة ومن بعدهم في الصلاة الوسطى فقال قوم هي صلاة الفجر، وهو قول عمر وابن عمر وابن عباس ومعاذ وجابر، وبه قال عطاء و عكرمة و مجاهد ، وإليه مال مالك و الشافعي ، لأن اللّه تعالى قال { وقوموا للّه قانتين } والقنوت طول القيام، وصلاة الصبح مخصومة بطول القيام وبالقنوت لأن اللّه تعالى خصها في آية أخرى من بين الصلوات فقال اللّه { وقرأن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً } (٧٨-الإسراء)، يعني تشهدها ملائكة الليل ةملائكة النهار، فهي مكتوبة في ديوان الليل وديوان النهار، ولأنها بين صلاتي جمع وهي لا تقصر ولا تجمع إلى غيرها. وذهب قوم إلى أنها صلاة الظهر، وهو قول زيد بن ثابت و أبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد، لأنها وسط النهار وهي أوسط صلاة النهار في الطول.

أخبرنا عمر بن عبد العزيز

أخبرنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي أنا أبو علي اللؤلؤي أنا أبو داود أنا محمد بن المثنى أنا محمد بن جعفر أنا شعبة حدثني عمرو بن أبي حكيم قال سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت رضي اللّه عنه قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم منها، فنزلت { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى }. وذهب الأكثرون إلى أنها صلاة العصر رواه جماعة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو قول علي وعبد اللّه بن مسعود وأبي أيوب وأبي هريرة وعائشة رضوان اللّه عليهم وبه قال إبراهيم النخعي و قتادة و الحسن .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي

أخبرنا زاهر بن أحمد

أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك بن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم عن أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين رضي اللّه عنهما أنه قال أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } فلما بلغتها آذنتها فأملت علي { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } (( صلاة العصر )) { وقوموا للّه قانتين } قالت عائشة رضي اللّه عنها سمعتها من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعن حفصة مثل ذلك.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أنا أبو جعفر الرياني أنا حميد بن زنجويه

أخبرنا أبو نعيم أنا سفيان عن عاصم بن النجود عن زر بن جحش قال قلنا لعبيدة سل علياً عن الصلاة الوسطى فسأله فقال كنا نرى أنها صلاة الفجر حتى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول يوم الخندق { شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ اللّه أجوافهم وقبورهم ناراً } ولأنها صلاتي نهار وصلاتي ليل، وقد خصها النبي صلى اللّه عليه وسلم بالتغليظ.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسلم بن إبراهيم أنا هشام أنا يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي المليح قال كنا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم فقال بكروا بصلاة العصر فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله }.

وقال قبيصة بن ذؤيب  هي صلاة المغرب لأنها وسط ليس بأقلها ولا بأكثرها، ولم ينقل عن أحد من السلف أنها صلاة العشاء وإنما ذكرها بعض المتأخرين لأنها بين صلاتين لا تقصران، وقال بعضهم هي احدى الصلوات الخمس لا بعينها، أبهمها اللّه تعالى تحريضاً للعباد على المحافظة على أداء جميعها كما أخفى ليلة القدر في شهر رمضان وساعة إجابة الدعوة في يوم الجمعة وأخفى الاسم الأعظم في الأسماء ليحافظوا على جميعها.

قوله تعالى { وقوموا للّه قانتين } أي مطيعين، قال الشعبي و عطاء و سعيد بن جبير و الحسن و قتادة و طاووس ، والقنوت الطاعة، قال اللّه تعالى { أمة قانتاً } (١٢٠-النحل) أي مطيعاً. وقال الكلبي و مقاتل  لكل أهل دين صلاة يقومون فيها عاصين فقوموا أنتم للّه في صلاتكم مطيعين،

وقيل القنوت السكوت عما لا يجوز التكلم به في الصلاة.

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي أنا أحمد بن منيع أنا هشيم أنا إسماعيل بن أبي خالد عن الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم قال كنا نتكلم خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه إلى جنبه حتى نزلت { وقوموا للّه قانتين } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.

وقال مجاهد  خاشعين، وقال من القنوت طول الركوع وغض البصر والركود وخفض الجناح، كان العلماء إذ قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسياً،

وقيل المراد من القنوت طول القيام.

أخبرنا أبو عثمان الضبي أنا أبو محمد الجراحي أنا أبو العباس المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي أنا ابن أبي عمر أنا سفيان بن عيينة عن أبي الزبير عن جابر قال {قيل للنبي صلى اللّه عليه وسلم أي الصلاة أفضل؟ قال طول القنوت }

وقيل { قانتين } أي داعين. دليله ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال قنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شهراً متتابعاً يدعو على أحياء من سليم على رعل وذكوان وعصية،

وقيل معناه مصلين ل

قوله تعالى { أمن هو قانت آناء الليل } (٩-الزمر) أي مصل.

٢٣٩

قوله تعالى { فإن خفتم فرجالاً } (فرجالاً) أي رجالة يقال راجل ورجال مثل صاحب وصحاب وقائم وقيام ونائم ونيام { أو ركبانا } على دوابهم وهوجمع راكب، معناه إن لم يمكنكم أن تصلوا قانتين موفين للصلاة حقها لخوف فصلوا مشاة على أرجلكم أو ركباناً على ظهور دوابكم، وهذا في حال المقاتلة والمسايفة يصلي حيث كان وجهه راجلاً أو راكباً مستقبل القبلة وغير مستقبلها ويومئ بالركوع والسجود ويجعل السجود أخفض من الركوع، وكذلك إذا قصده سبع أو غشيه سيل يخاف منه على نفسه فعدا أمامه مصلياً بالايماء يجوز. والصلاة في حال الخوف على أقسام فهذه صلاة شدة الخوف وسائر الأقسام سيأتي بيانها في سورة النساء إن شاء اللّه تعالى، ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم، وروى مجاهد عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال فرض اللّه الصلاة على لسان نبيكم صلى اللّه عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة وهو قول عطاء و طاووس و الحسن و مجاهد و قتادة  أن يصلي في حال شدة الخوف ركعة، وقال سعيد بن جبير  إذا كنت في القتال وضرب الناس بعضهم بعضاً فقل (( سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر واذكر اللّه فتلك صلاتك )) { فإذا أمنتم فاذكروا اللّه } أي فصلوا الصلوات الخمس تامة بحقوقها { كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون }.

٢٤٠

قوله تعالى { والذين يتوفون منكم } يا معشر الرجال { ويذرون } أي يتركون { أزواجاً } أي زوجات { وصية لأزواجهم } قرأ أهل البصرة و ابن عامر و حمزة و حفص وصية بالنصب على معنى فليوصوا وصية، وقرأ الباقون بالرفع أي كتب عليكم الوصية { متاعاً إلى الحول } متاعاً نصب على المصدر أي متعوهن متاعاً،

وقيل جعل اللّه ذلك لهن متاعاً، والمتاع نفقة سنة لطعامها وكسوتها وسكنها وما تحتاج إليه { غير إخراج } نصب على الحال،

وقيل بنزع حرف على الصفة أي من غير إخراج، نزلت هذه الآية في رجل من أهل الطائف يقال له حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة وله اولاد ومعه أبواه وامرأته فمات، فأنزل اللّه هذه الآية فأعطى النبي صلى اللّه عليه وسلم والديه وأولاده من ميراثه ولم يعط امرأته شيئاً، وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً كاملاً، وكانت عدة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، وكانت نفقتها وسكناها واجبة في مال زوجها تلك السنة مالم تخرج، ولم يكن لها الميراث، فإن خرجت من بيت زوجها سقطت نفقتها، وكان على الرجل أن يوصي بها فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث، فنسخ اللّه تعالى نفقة الحول بالربع والثمن، ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشر.

قوله تعالى { فإن خرجن } يعني من قبل أنفسهن قبل الحول من غير إخراج الورثة { فلا جناح عليكم } يا أولياء الميت { في ما فعلن في أنفسهن من معروف } يعني التزين للنكاح، وارفع الجناح عن الرجال وجهان أحدهما لا جناح عليكم في قطع النفقة إذا خرجن قبل انقضاء الحول. والآخر لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج لأن مقامها في بيت زوجها حولا غير واجب عليها خيرها اللّه تعالى بين أن تقيم حولاً ولها النفقة والسكنى، وبين أن تخرج فلا نفقة ولا سكنى إلى أن نسخه بأربعة أشهر وعشر. { واللّه عزيز حكيم }

٢٤١

{ وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين } إنما أعاد ذكر المتعة هاهنا لزيادة معنى، وذلك أن في غيرها بيان حكم غير الممسوسة، وفي هذه الآية بيان حكم جميع المطلقات في المتعة،

وقيل إنه لما نزل

قوله تعالى { ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } إلى قوله { حقاً على المحسنين } (٢٣٦-البقرة) قال رجل من المسلمين أن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فقال اللّه تعالى { وللمطلقات متاع } جعل المتعة لهن بلام التمليك فقال { حقاً على المتقين } يعني المؤمنين المتقين الشرك،

٢٤٢

{ كذلك يبين اللّه لكم آياته لعلكم تعقلون }.

٢٤٣

قوله تعالى { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } قال أكثر أهل التفسير كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط بها وقع الطاعون، فخرجت طائفة منها وبقيت طائفة، فهلك أكثر من بقي في القرية وسلم الذين خرجوا، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا أصحابنا كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا لبقينا، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لاوباء بها، فوقع الطاعون من قابل فهرب عامة أهلها، وخرجوا حتى نزلوا وادياً أفيح فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعاً.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد

أخبرنا أبو اسحق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبد اللّه بن عامر بن ربيعة أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه خرج إلى الشام فلما جاء سرع بلغه أن الوباء قد وقع بالشام فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه } فرجع عمر من سرغ، قال الكلبي و مقاتل و الضحاك  إنما فروا من الجهاد وذلك أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم، فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت فاعتلوا وقالوا لملكهم إن الأرض التي تأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء، فأرسل اللّه عليهم الموت فخرجوا من ديارهم فراراً من الموت فلما رأى الملك ذلك قال اللّهم رب يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك، فلما خرجوا قال لهم اللّه تعالى موتوا، عقوبة لهم، فماتوا جميعاً وماتت دوابهم كموت رجل واحد فأتى عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروحت أجسادهم فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم، فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها.

واختلفوا في مبلغ عددهم، قال عطاء الخراساني  كانوا ثلاثة آلاف، وقال وهب  أربعة آلاف وقال مقاتل و الكلبي  ثمانية آلاف، وقال أبو روق  عشرة آلاف، وقالى السدي  بضعة وثلاثون ألفاً، وقال ابن جريج  أربعون ألفاً، وقال عطاء ابن رباح سبعون ألفاً، وأولى الأقاويل قول من قال كانوا زيادة على عشرة آلاف،

لأن اللّه تعالى قال { وهم ألوف } والألوف جمع الكثير وجمعه القليل آلاف، ولا يقال لما دون عشرة آلاف ألوف، قالوا فأتت على ذلك وقد بليت أجسادهم وعريت عظامهم فمر عليهم نبي يقال له حزقيل بن بودى ثالث خلفاء بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام، وذلك أن القيم بأمر بني إسرائيل كان بعد موسى يوشع بن نون ثم كالب بن يوقنا ثم حزقيل وكان يقال له ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزاً فسألت اللّه الولد بعد ما كبرت وعقمت فوهبه اللّه تعالىٰ لها، قال الحسن ومقاتل هو ذو الكفل وسمي حزقيل ذا الكفل لأنه تكفل بسبعين نبياً وأنجاهم من القتل، فلما مر حزقيل على أولئك الموتى وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم متعجباً فأوحى اللّه تعالىٰ إليه تريد أن أريك آية؟ قال نعم فأحياهم اللّه

وقيل دعا حزقيل ربه أن يحييهم فأحياهم. وقال مقاتل و الكلبي  هم كانوا قوم حزقيل أحياهم اللّه بعد ثمانية أيام، وذلك أنه لما أصابهم ذلك خرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى موتى فبكى وقال يارب كنت في قوم يحمدونك ويسبحونك ويقدسونك ويكبرونك ويهللونك فبقيت وحيداً لا قوم لي، فأوحى اللّه تعالى إليه أني جعلت حياتهم إليك، قال حزقيل إحيوا بإذن اللّه فعاشوا.

قال مجاهد  إنهم قالوا حين أحيوا، سبحانك اللّهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهراً طويلاً وسحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوباً إلا عاد دسماً مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما وانها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح،

قال قتادة  مقتهم اللّه على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة لهم ثم بعثوا ليستوفوا مدة آجالهم [ولو جاءت آجالهم] ما بعثوا فذلك

قوله تعالى { ألم تر } أي ألم تعلم بإعلامي إياك، وهو من رؤية القلب. قال أهل المعاني هو تعجيب يقول هل رأيت مثلهم؟ كما تقول ألم تر إلى ما يصنع فلان؟ وكل ما في القرآن أم تر ولم يعاينه النبي صلى اللّه عليه وسلم، فهذا وجهه { إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } جمع ألف

وقيل مؤتلفة قلوبهم جمع آلف مثل قاعد وقعود، والصحيح أن المراد منه العدد { حذر الموت } أي خوف الموت { فقال لهم اللّه موتوا } أمر تحويل كقوله { كونوا قردة خاسئين } (٦٥-البقرة) { ثم أحياهم } بعد موتهم { إن اللّه لذو فضل على الناس } قيل هو على العموم في حق الكافة في الدنيا،

وقيل على الخصوص في حق المؤمنين { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } أما الكفار فلم يشكروا وأما المؤمنون فلم يبلغوا غاية الشكر.

٢٤٤

{ وقاتلوا في سبيل اللّه } أي في طاعة اللّه أعداء اللّه { واعلموا أن اللّه سميع عليم } قال أكثر أهل التفسير هذا خطاب للذين أحيوا أمروا بالقتال في سبيل اللّه فخرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد فأماتهم اللّه ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا،

وقيل الخطاب لهذه الأمة، أمرهم بالجهاد.

٢٤٥

قوله تعالى { من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسناً } القرض اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه، فسمى اللّه تعالى عمل المؤمنين له رجاء ما وعدهم من الثواب قرضاً، لأنهم يعملونه لطلب ثوابه، قال الكسائي  القرض ما اسلفت من عمل صالح أو سيئ، وأصل القرض في اللغة القطع، سمي به عباد اللّه والمحتاجين من خلقه، ك

قوله تعالى { إن الذين يؤذون اللّه ورسوله } (٥٧-الأحزاب) أي يؤذون عباد اللّه، كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { إن اللّه تعالى يقول يوم القيامة يابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يارب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي }.

قوله تعالى { يقرض اللّه } أي ينفق في طاعة اللّه { قرضاً حسناً } قال الحسين بن علي الواقدي  يعني محتسباً، طيبة بها نفسه، وقال ابن المبارك  من مال حلال

وقيل لا يمن به ولا يؤذي { فيضاعفه له } قرأ ابن كثير و أبو جعفر و ابن عامر و يعقوب { فيضاعفه } وبابه بالتشديد، ووافق أبو عمرو فغي سورة الأحزاب وقرأ الآخرون { فيضاعفه } بالألف مخففاً وهما لغتان، ودليل التشديد قوله { أضعافاً كثيرة } لأن التشديد للتكثير، وقرأ ابن عامر و عاصم و يعقوب بنصب الفاء، وكذلك في سورة الحديد على جواب الاستفهام،

وقيل بإضمار أن، وقرأ الآخرون برفع الفاء نسقاً على قوله يقرض { أضعافاً كثيرة } قال السدي هذا التضعيف لا يعلم إلا اللّه عز وجل،

وقيل سبعمائة ضعف { واللّه يقبض ويبسط } قرأ أهل البصرة و جمزة يبسط، هاهنا وفي الأعراف، بسطة، بالسين كنظائرهما، وقرأهما الآخرون بالصاد قيل يقبض بإمساك الرزق والنفس والتقتير ويبسط بالتوسيع

وقيل يقبض بقبول التوبة والصدقة ويبسط بالخلف والثواب،

وقيل هو الإحياء والإماتة فمن أماتة فقد قبضه ومن مد له في عمره فقد بسط له،

وقيل هذا في القلوب، لما أمرهم اللّه تعالى بالصدقة أخبر أنهم لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه، قال يقبض بعض القلوب فلا ينشط بخير ويبسط بعضها فيقدم لنفسه خيراً ككما جاء في الحديث { القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء }الحديث. { وإليه ترجعون } أي إلى اللّه تعودون فيجزيكم بأعمالكم،

قال قتادة  الهاء راجعة إلى التراب كناية عن غير مذكور، أي من التراب خلقهم وإليه يعودون.

٢٤٦

قوله تعالى { ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل } والملأ من القوم وجوههم وأشرافهم، وأصل الملأ الجماعة من الناس ولا واحد له من لفظه، كالقوم والرهط وافبل والخيل والجن وجمعه أملاء { من بعد موسى } أي من بعد موت موسى { إذ قالوا لنبي لهم }

واختلفوا في ذلك النبي فقال قتادة هو يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليه السلام و

قال السدي  اسمه شمعون، وإنما سمي شمعون، لأن أمة دعت اللّه أن يرزقها غلاماً فاستجاب اللّه دعاءها فولدت غلاماً فسمته سمعون تقول سمع اللّه تعالى دعائي والسين تصير شيئاً بالعبرانية، وهو شمعون بن صفية بن علقمة من ولد لاوي بن يعقوب، وقال سائر المفسرين هو اشمويل وهو بالعبرانية اسماعيل بن يال بن علقمة، و

قال مقاتل  هو من نسل هارون،

وقال مجاهد  هو اشمويل وهو بالعبرانية اسماعيل بن يال بن علقمة.

وقال وهب و ابن إسحاق و الكلبي وغيرهم  كان سبب مسألتهم إياه ذلك لما مات موسى عليه السلام خلف بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون، يقيم فيهم التوراة وأمر اللّه تعالى حتى قبضه اللّه تعالى، ثم خلف فيهم كالب كذلك حتى قبضه اللّه تعالى، ثم خلف حزقيل حتى قبضه اللّه، ثم عظمت الأحداث في بني اسرائيل ونسوا عهد اللّه حتى عبدوا الأوثان، فبعث اللّه إليهم إلياس نبياً فدعاهم إلى اللّه تعالى، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة، ثم خلف من بعد إلياس اليسع فكان فيهم ما شاء اللّه ثم قبضه اللّه، وخلف فيهم الخلوف وعظمت الخطايا فظهر لهم عدو يقال له البلشاثا، وهم قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم وسبوا كثيراً من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم اربعين وأربعمائة غلاماً، فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاء وشدة ولم يكن لهم نبي يدير أمرهم، وكان سبط النبوة قد هلكوا، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني اسرائيل في ولدها وجعلت المرأة تدعو اللّه أن يرزقها غلاماً فولدت غلاماً، فسمته اشمويل تقول سمع اللّه تعالى دعائي، فكبر الغلام فأسلمته ليتعلم التوراة في بيت المقدس فكفله شيخ من علمائهم وتبناه، فلما بلغ الغلام أتاه جبريل وهو نائم إلى جنب الشيخ وكان لا يأتمن عليه أحداً فدعاه جبريل بلحن الشيخ يا اشمويل، فقام الغلام فزعاً إلى الشيخ فقال له يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع الغلام فقال يا بني ارجع فنم، فرجع الغلام فنام ثم دعاه الثانية فقال الغلام يا أبت دعوتني؟ فقال ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني (فرجع الغلام فنام) فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك، فإن اللّه عز وجل قد بعثك فيهم نبياً، فلما أتاهم كذبوه وقالوا استعجلت بالنبوة ولم تنلك، وقالوا له إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل اللّه، آية من نبوتك، وإنما كان قوام أمر بني اسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك لأنبيائهم، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنبي يقيم له أمره ويشير عليه برشده ويأتيه بالخبر من ربه، قال وهب بن منبه  ببعث اللّه تعالىاشمويل نبياً فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال، ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان فقالوا لاشمويل { ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل اللّه } جزم على جواب الأمر فلما قالوا ذلك { قال هل عسيتم } استفهام شك. قرأ نافع  عسيتم بكسر السين كل القرآن، وقرأ الباقون بالفتح وهي اللغة الفصيحة بدليل

قوله تعالى { عسى ربكم } { إن كتب } فرض { عليكم القتال } مع ذلك الملك { أن لا تقاتلوا } أن لاتفوا بما تقولوا معه { قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل اللّه } فإن قيل فما وجه دخول أن في هذا الموضع والعرب لا تقول مالك أن لا تفعل وإنما يقال مالك لا تفعل؟ قيل دخول أن وحذفها لغتان صحيحتان فالإثبات ك

قوله تعالى { ما لك أن لا تكون مع الساجدين } (٣٢-الحجر) والحذف ك

قوله تعالى { ما لكم لا تؤمنون باللّه } (٨-الحديد) وقال الكسائي  معناه وما لنا في أن لا نقاتل فحذف (( في )) وقال الفراء  أي وما يمنعنا أن لا نقاتل في سبيل اللّه ك

قوله تعالى { ما منعك أن لا تسجد } (١٢-الأعراف)

وقال الأخفش  ((أن)) هاهنا زائدة معناه وما لنا لا نقاتل في سبيل اللّه { وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } أي أخرج من غلب عليهم من ديارهم، ظاهر الكلام العموم وباطنه الخصوص، لأن الذين قالوا لنبيهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل اللّه كانوا في ديارهم وأوطانهم وإنما أخرج من أسر منهم، ومعنى الآية أنهم قالوا مجيبين لنبيهم إنما كنا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا لا يظهر علينا عدونا، فأما إذا بلغ ذلك منا فنطيع ربنا في الجهاد ونمنع نساءنا وأولادنا. قال اللّه تعالى { فلما كتب عليهم القتال تولوا } أعرضوا عن الجهاد وضيعوا أمر اللّه { إلا قليلاً منهم } وهم الذين عبروا النهر مع طالوت واقتصروا على الغرفة على ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى، { واللّه عليم بالظالمين }.

٢٤٧

{ وقال لهم نبيهم إن اللّه قد بعث لكم طالوت ملكاً } وذلك أن اشمويل سأل اللّه تعالى أن يبعث لهم ملكاً فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس

وقيل له إن صاحبكم الذي يكون ملكاً طوله طول هذه العصا وانظر هذا القرن الذي فيه الدهن فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن فهو ملك بني اسرائيل فادهن به رأسه وملكه علهم، وكان طالوت اسمه بالعبرانية شاول بن قيس من أولاد بنيامين بن يعقوب سمي طالوت لطوله وكان أطول من كل أحد برأسه ومنكبيه، وكان رجلاً دباغاً يعمل الأديم قاله وهب ، و

قال السدي  كان رجلاً سقاء يسقي على حمار له من النيل فضل حماره فخرج في طلبه،

وقيل كان خربندجا، وقال وهب  بل ضلت حمر لأبي طالوت فأرسله وغلاماً له في طلبها فمر ببيت إشمويل فقال الغلام لطالوت لو دخلنا على هذا النبي فسألناه عن أمر الحمر ليرشدنا ويدعو لنا، فدخلا عليه فبينما هما عنده يذكران له شأن الحمر إذ نش الدهن الذي في القرن فقام إشمويل عليه السلام فقاس طالوت بالعصا فكانت طوله، فقال لطالوت قرب رأسك فقربه فدهنه بدهن القدس، ثم قال له انت ملك بني اسرائيل الذي أمرني اللّه تعالى أن أملكك عليهم فقال طالوت أما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل وبيتي أدنى بيوت بني إسرائيل؟.

(قال بلى) قال فبأي آية قال بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره فكان كذلك. ثم قال لبني إسرائيل إن اللّه قد بعث لكم طالوت ملكاً { قالوا أنى يكون له الملك علينا } أي من أين يكون له الملك علينا { ونحن أحق } أولى { بالملك منه } وإنما قالوا ذلك لأنه كان في بني إسرائيل سبطان سبط نبوة وسبط مملكة، فكان سبط النبوة سبط لاوي بن يعقوب ومنه كان موسى وهارون وسبط بنيامين بن يعقوب وكانوا عملوا ذنباً عظيماً، كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق نهاراً فغضب اللّه تعالى عليهم ونزع الملك والنبوة عنهم وكانوا يسمونهه سبط الإثم، فلما قال لهم نبيهم ذلك أنكروا عليه لأنه لم يكن من سبط المملكة ومع ذلك قالوا هو فقير { ولم يؤت سعة من المال، قال إن اللّه اصطفاه } اختاره { عليكم وزاده بسطة } فضيلة وسعة { في العلم والجسم } وذلك أنه كان أعلم بني إسرائيل في وقته

وقيل إنه أتاه الوحي حين أوتي الملك، وقال الكلبي (وزاده بسطة في العلم) بالحرب وفي (الجسم) بالطول

وقيل الجسم بالجمال وكان طالوت أجمل رجل في بني إسرائيل وأعلمهم { واللّه يؤتي ملكه من يشاء واللّه واسع عليم } قيل الواسع ذو السعة وهو الذي يعطي عن غنى، والعليم العالم،

وقيل العالم بما كان والعليم بما يكون فقالوا له فما آية ملكه؟ فقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت

٢٤٨

فذلك قوله تعالى { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت }. وكانت قصة التابوت أن اللّه تعالى أنزل تابوتاً على آدم فيه صورة الأنبياء عليهم السلام، وكان من عود الشمشاذ نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين، فكان عند آدم إلى أن مات ثم بعد ذلك عند شيث ثم توارثها أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم، ثم كان عند إسماعيل لأنه كان أكبر ولده ثم عند يعقوب ثم كان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى فكان موسى يضع فيه التوراة ومتاعاً من متاعه، فكان عنده إلى أن مات موسى عليه السلام، ثم تداولته أنبياء بني إسرائيل إلى وقت إشمويل وكان فيه ذكر اللّه تعالى { فيه سكينة من ربكم } اختلفوا في السكينة ما هي قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ريح هجوج هفافة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان، وعن مجاهد  شيء يشبه الهرة له رأس كرأس الهرة وذنب كذنب الهرة وله جناحان،

وقيل له عينان لهما شعاع وجناحان من زمرد وزبرجد فكانوا إذا سمعوا صوته تيقنوا بالنصر وكانوا إذا خرجوا وضعوا التابوت قدامهم فإذا سار ساروا وإذا وقف وقفوا.

وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال هي طست من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، وعن وهب بن منبه قال هي روح من اللّه يتكلم إذا اختلفوا في شيء تخبرهم ببيان ما يريدون، وقال عطاء بن أبي رباح  هي ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها، وقال قتادة و الكلبي  السكينة فعيلة من السكون أي طمأنينة من ربكم ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا

{ وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون } يعني موسى وهرون أنفسهما كان فيه لوحان من التوراة ورضاض الألواح التي تكسرت وكان فيه عصا موسى ونعلاه وعمامة هرون وعصاه وقفيز من المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل، فكان التابوت عند بني إسرائيل وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم فيستفتحون به على عدوهم فلما عصوا وفسدوا سلط اللّه عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت. وكان السبب في ذلك أنه كان لعيلى العالم الذي ربى إشمويل عليه السلام ابنان شابان وكان عيلى حبرهم وصاحب قربانهم فأحدث ابناه في القربان شيئاً لم يكن فيه وذلك أنه كان لعيلى منوط القربان الذي كانوا ينوطونه به كلابين، فما أخرجا كان للكاهن الذي ينوطه، فجعل ابناه كلاليب وكان النساء يصلين في بيت المقدس فيتشبثان بهن فأوحى اللّه تعالى بهن فأوحى اللّه تعالى إلى إشمويل عليه السلام انطلق إلى عيلى فقل له منعك حب الولد من أن تزجر ابنيك عن أن يحدثا في قرباني وقدسي وأن يععصياني فلأنزعن الكهانة منك ومن ولدك ولأهلكنك وإياهم، فأخبر إشمويل عيلى بذلك ففزع فزعاً شديداً فسار إليهم عدو ممن حولهم فأمر ابنيه أن يخرجا فيقاتلا ذلك العدو فخرجا وأخرجا معهما التابوت فلما تهيؤوا للقتال جعل عيلى يتوقع الخبر ماذا صنعوا فجاءه رجل وهو قاعد على كرسيه وأخبره أن الناس قد انهزموا وأن ابنيك قد قتلا، قال فما فعل التابوت؟ قال ذهب به العدو، فشهق ووقع على قفاه من كرسيه ومات فمرج أمر بني إسرائيل وتفرقوا إلى أن بعث اللّه طالوت ملكاً فسألوه البينة فقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت. وكانت قصة التابوت، أن الذين سبوا التابوت أتوا به قرية من قرى فلسطين يقال لها ازدود وجعلوه في بيت صنم لهم، ووضعوه تحت الصنم الأعظم، فأصبحوا من الغد والصنم تحته فأخذوه ووضعوه فوقه وسمروا قدمي الصنم على التابوت فأصبحوا وقد قطعت يد الصنم ورجلاه وأصبح ملقى تحت التابوت وأصبحت أصنامهم منكسة فأخرجوه من بيت الصنم ووضعوه في ناحية من مدينتهم فأخذ أهل تلك الناحية وجع في أعناقهم حتى هلك أكثرهم فقال بعضهم لبعض أليس قد علمتم أن إله بني اسرائيل لا يقوم له شيء، فأخرجوه إلى قرية كذا فبعث اللّه على أهل تلك القرية فأراً فكانت الفأرة تبيت مع الرجل فيصبح ميتاً قد أكلت ما في جوفه فأخرجوه إلى الصحراء فدفنوه في مخرأة لهم فكان كل من يبرز هناك أخذه الباسور والقولنج فتحيروا، فقالت لهم امرأة كانت عندهم من سبي بني إسرائيل من أولاد الأنبياء لا تزالون ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم فأخرجوه عنكم، فأتوا بعجلة بإشارة تلك المرأة وحملوا عليها التابوت ثم علقوها على ثورين وضربوا جنوبهما فأقبل الثوران يسيران ووكل اللّه تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما فأقبلا حتى وقفا على أرض بني إسرائيل فكسرا نيريهما حبالهما ووضعا التابوت في أرض فيها حصاد بني إسرائيل ورجعا إلى أرضهما فلم يرع بني إسرائيل إلا بالتابوت فكبروا وحمدوا اللّه فذلك

قوله تعالى { تحمله الملائكة } أي تسوقه، وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه هحتى وضعته عند طالوت،

وقال الحسن  كان التابوت مع الملائكة في السماء فلما ولي طالوت الملك حملته الملائكة ووضعته بينهم، وقال قتادة بل كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع بن نون فبقي هناك فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت فأقروا بملكه { إن في ذلك لآية } لعبرة { لكم إن كنتم مؤمنين } قال ابن عباس رضي اللّه عنهما إن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية وأنهنما يخرجان قبل يوم القيامة.

٢٤٩

{ فلما فصل طالوت بالجنود } أي خرج بهم، وأصل الفصل القطع، يعني قطع مستقره شاخصاً إلى غيره فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود ، وهم يومئذ سبعون ألف مقاتل

وقيل ثمانون ألفاً لم يتخلف عنه ألا كبير لهرمه اومريض لمرضه اومعذور لعذره وذللك انهم لما رأو التابوت لم يشكو في النصر، فتسارعو الى الجهاد ، فقال طالوت  لا حاجه لي في كل ما أرى ، لايخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه ولا صاحب تجارة يشتغل بها ولا رجل تزوج إمرأة ولم يبن بها ولا أبتغى إلا الشباب النشيط الفارغ فاجتمع له ثمانون الفاً ممن شرطه وكان في حر شديد فشكوا قلة الماء بينهم وبين عدوهم فقالوا ان المياه قليلة لت لا تحملنا فادع اللة ان يجري لنا نهراً. { قال} طالوت { إن اللّه مبتليكم } مختبركم ليرى طاعتكم ـ وهو أعلم ـ { بنهر } قال ابن عباس و السدي  هو نهر فلسطين ، وقال قتادة .نهر بين الاردن وفلسطين عذب { فمن شرب منه فليس مني} أي ليس من اهل ديني وطاعتي {ومن لم يطعمه } لم يشربه { فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } قرأ أهل الحجاز وأبوعمرو ((غرفة)) بفتح الغين وقرأ الآاخرون بضم الغين وهما لغتان ، قال الكسائي  الغرفة بالضم الذي يحصل في الكف من الماء إذا غرف ، والغرفة  بالفتح الاغتراف فالضم اسم والفتح مصدر { فشربوا منه إلا قليلاً منهم } نصب على الاستثناء واحتلفوا في القليل الذين لم يشربوا،ف

قال السدي  كانوا أربعة آلاف وقال غيره ثلاثمائة وبضعة عشر وهو الصحيح.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي انا محمد بن يوسف انا محمد بن إسماعيل أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد اللّه بن رجاء أنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال كنا أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوزا معه الأ مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة. ويروى ثلاثمائة وثلاثة عشر فلما وصلوا إالنهر وقد ألقي عليهم العطش فشرب منه الكل إلا هذا العدد القليل فمن اغترف غرفة كما أمراللّه قوي قلبه وصح إ يمانه وعبر النهر سالماً وكفته تللك الغرفة الواحد لشربه وحمله وداوبه والذين شربوا وخالفوا أمراللّه اسودت شفاهم وغلبهم العطش فلم يروواوبقوا على شط النهر وجنبوا عن لقاء العدوفلم يجاوزواولم يشهدواالفتح .

وقيل كلهم جاوزاوا لكن لم يحضر القتال إلا الذين لم ييشربوا { فلما جاوزه } يعني النهر { هو} يعني طالوت { والذين آمنوا معه} يعني القليل قالوا يعني الذين شربوا وخالفو أمر اللّه وكانوا أهل شك ونفاق لاطاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما و السدي فانحرفوا ولم يجاوزوا قال الذين يظنون يستيقنون‌ أنهم ملاقوا اللّه وهم الذين ثبتوا مع طالوت { كم من فئة } جماعة وهي جمع لا واحد له من لفظه وجمعه وفئات وفئون في الرفع وفئين في الخفض والنصب { قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه } بقضائه وإرادته {واللّه مع الصابرين } بالنصر والمعونة.

٢٥٠

{ ولما برزوا } يعني طالوت وجنوده يعني المؤمنين { لجالوت وجنوده } المسركين ومعنى برزوا صاروا بالبراز من الأرض وهو ما ظهر واستوى { قالوا ربنا أفرغ علينا } أنزل واصبب { صبراً وثبت أقدامنا } قو قلوبنا { وانصرنا على القوم الكافرين }

٢٥١

{ فهزموهم بإذن اللّه } أي بعلم اللّه تعالى { وقتل داود جالوت } وصفة قتله قال أهل التفسير عبر النهر مع طالوت فيمن عبر إيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابناً له وكان أصغرهم وكان يرمي بالقذافة فقال لأبيه يوماً يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئاً إلا صرعته فقال أبشر يا بني فإن اللّه جعل رزقك في قذافتك، ثم أتاه مرة أخرى فقال يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسداً رابضاً فركبته فأخذت بأذنيه فلم يهجني، فقال أبشر يا بني فإن هذا خير يريده اللّه بك ثم أتاه يوماً آخر فقال يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبح فما يبقى جبل إلا سبح معي، فقال أبشر يا بني فإن هذا خير أعطاكه اللّه تعالى فأرسل جالوت إلى طالوت أن أبرز إلي أو أبرز إلي من يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فشق ذلك على طالوت فنادى في عسكره من قتل جالوت زوجته ابنتي وناصفته ملكي فهاب الناس جالوت فلم يجبه أحد فسأل طالوت نبيهم أن يدعو اللّه تعالى فدعا اللّه في ذلك، فأتى بقرن فيه دهن القدس وتنور من حديد فقيل إن صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذيث يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي الدهن حتى يدهن منه رأسه ولا يسيل على وجهه ويكون على رأسه كهيئة الإكليل ويدخل في هذا التنور فيملؤه ولا يتقلقل فيه، فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم فلم يوافقه منهم أحد فأوحى اللّه إلى نبيهم أن في ولد إيشا من يقتل اللّه به جالوت فدعا طالوت إيشا فقال اعرض علي بنيك فأخرج له اثنى عشر رجلاً أمثال السواري فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئاً فقال لإيشا هل بقي لك ولد غيرهم فقال لا، فقال النبي يارب إنه زعم أن لا ولد له غيرهم، فقال كذب، فقال النبي إن ربي كذبك فقال صدق اللّه يا نبي اللّه إن لي ابناً صغيراً يقال له داود استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته (فخلفته) في الغنم يرعاها وهو في شعب كذا وكذا، وكان داود رجلاً قصيراً مسقاماً مصفاراً أزرق أمعر، فدعاه طالوت،

ويقال بل خرج طالوت إليه فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزريبة التي كان يريح إليها، فوجده يحمل شاتين يجيز بهما السيل ولا يخوض بهما الماء فلما رآه قال هذا هو لا شك فيه، هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم فدعاه ووضع القرن على رأسه ففاض فقال طالوت هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي وأجري خاتمك في ملكي قال نعم قال وهل آنست من نفسك شيئاً تتقوى به على قتله؟ قال نعم، أنا أرعى فيجئ الأسد أو النمر أو الذئب فيأخذ شاه فأقوم إليه فأفتح لحييه عنها وأضرقها إلى قفاه، فرده إلى عسكره، فمر داود عليه السلام في طريقه بحجر آخر فقال احملني فإني حجر موسى الذي قتل بي ملك كذا، فحمله في مخلاته، ثم مر بحجر آخر فقال احملني فإني حجرك الذي تقتل بي جالوت فوضعه في مخلاته، فلما تصافوا للقتال وبرز جالوت وسأل المبارزة انتدب له داود فأعطاه طالوت فرساً ودرعاً وسلاحاً فلبس السلاح وركب الفرس وسار قريباً ثم انصرف إلى الملك فقال من حوله جبن الغلام فجاء فوقف على الملك فقال ما شأنك؟ فقال إن اللّه إن لم ينصرني لم يغن عني هذا السلاح شيئاً، فدعني أقاتل كما أريد، قال فاقعل ما شئت قال نعم، فأخذ داود مخلاته فتقلدها وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت وكان جالوت من أشد الرجال وأقواهم، وكان يهزم الجيوش وحده وكان له بيضة فيها ثلاثمائة رطل حديد فلما نظر إلى داود ألقي في قلبه الرعب فقال له أنت تبرز إلي؟ قال نعم. وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام، قال فأتيني بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب؟ قال نعم أنت شر من الكلب، قال لاجرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض وطير السماء قال داود أو يقسم اللّه لحمك، فقال داود باسم إله إبراهيم

وأخرج حجراً ثم أخرج الآخر وقال باسم إله إسحاق ووضعه في مقلاعه ثم أخرج الثالث وقال باسم إله يعقوب ووضعه في مقلاعه فصارت كلها حجراً واحداً ودور داود المقلاع ورمى به فسخر اللّه له الريح حتى أصاب الحجر أنف البيضة فخالط دماغه وخرج من قفاه وقتل من ورائه ثلاثين رجلاً، وهزم اللّه تعالى الجيش وخر جالوت قتيلاً فأخذه يجره حتى ألقاه بين يدي طالوت، ففرح المسلمون فرحاً شديداً، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين والناس يذكرون داود فجاء داود طالوت وقال أنجز لي ما وعدتني، فقال أتريد ابنة الملك بغير صداق؟ فقال داود ما شرطت على صداقاً وليس لي شيء فقال لا أكلفك إلا ما تطيق أنت رجل جريء وفي حيالنا أعداء لنا غلف فإذا قتلت منهم مائتي رجل وجئتني بغلفهم زوجتك ابنتي فأتاهم فجعل كلما قتل واحداً منهم نظم غلفته في خيط حتى نظم غلفهم فجاء بها إلى طالوت فألقى إليه وقال ادفع إلي امرأتي فزوجه ابنته وأجرى خاتمه في ملكه، فمال الناس إلى داود وأحبوه وأكثروا ذكره، فحسده طالوت وأراد قتله فأخبر بذلك ابنة طالوت رجل يقال له ذو العينين فقالت لداود إنك مقتول في هذه الليلة قال ومن يقتلني؟ قالت أبي قال وهل أجرمت جرماً قالت حدثني من لا يكذب ولا عليك أن تغيب الليلة حتى ننظر مصداق ذلك، فقال لئن كان أراد اللّه ذلك لا أستطيع خروجاً ولكن ائتيني بزق خمر فأتت به فوضعه في مضجعه على السرير وسجاه ودخل تحت السرير فدخل طالوت نصف الليل فقال لها أين بعلك؟ فقالت هو نائم على السرير فضربه بالسيف ضربة فسال الخمر فلما وجد ريح الشراب قال يرحم اللّه داود ما كان أكثر شربه للخمر، وخرج. فلما أصبح علم أنه لم يفعل شيئاً فقال إن رجلاً طلبت منه ما طلبت لخليق أن لا يدعني حتى يدرك مني ثأره فاشتد حجابه وحراسه وأغلق دونه أبوابه، ثم إن داود أتاه ليلة وقد هدأت العيون فأعمى اللّه سبحانه الحجبة وفتح له الأبواب فدخل عليه وهو نائم على فراشه، فوضع سهماً عند رأسه وسهماً عند رجليه سهماً عن يمينه وسهماً عن شماله ثم خرج، فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها فقال يرحم اللّه تعالى داود هو خير مني ظفرت به فقصدت قتله وظفر بي فكف عني ولو شاء لوضع هذا السهم في حلقي وما أنا بالذي آمنه، فلما كانت القابلة أتاه ثانياً وأعمى اللّه الحجاب فدخل عليه وهو نائم فأخذ إبريق طالوت الذي يتوضأ منه وكوزه الذي كان يشرب منه وقطع شعرات من لحيته وشيئاً من هدب ثيابه، ثم خرج وهرب وتوارى، فلما أصبح طالوت ورأى ذلك سلط على داود العيون وطلبه أشد الطلب فلم يقدر عليه، ثم إن طالوت ركب يوماً فوجد داود يمشي في البرية فقال اليوم أقتله فركض على أثره، فاشتد داود وكان إذا فزع لم يدرك، فدخل غاراً فأوحى اللّه تعالى إلى العنكبوت فنسج عليه بيتاً فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال لو كان دخل هاهنا لخرق بناء العنكبوت فتركه ومضى، فانطلق داود وأتى الجبل مع المتعبدين فتعبد فيه فطعن العلماء والعباد على طالوت في شأن داود فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن قتل داود إلا قتله، وأغرى بقتل العلماء فلم يكن يقدر على عالم في بني إسرائيل يطيق قتله إلا قتله، حتى أتي بامرأة تعلم اسم اللّه الأعظم فأمر خبازه بقتلها فرحمها الخباز وقال لعنا نحتاج إلى عالم فتركها فوقع في قلب طالوت التوبة وندم على ما فعل، وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس. وكان كل ليلة يخرج إلى القبور فيبكي وينادي أنشد اللّه عبداً يعلم أن لي توبة إلا أخبرني بها، فلما أكثر عليهم ناداه مناد من القبور يا طالوت أما ترضى أن قتلتنا حتى تؤذينا أمواتاً فازداد بكاء وحزناً فرحمه الخباز فقال مالك أيها الملك؟ قال هل تعلم لي في الأرض عالماً أسأله هل لي من توبة فقال الخباز إنما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء فصاح الديك فتطير منه فقال لا تتركوا في القرية ديكاً إلا ذبحتموه، فلما أراد أن ينام قال لأصحابه إذا صاح الديك فأيقظونا حتى ندلج فقالوا له وهل تركت ديكاً نسمع صوته؟ ولكن هل تركت عالماً في الأرض؟ فازداد حزناً وبكاء فلما رأى الخباز ذلك قال له أرأيتك إن دللتك على عالم لعلك أن تقتله قال لا فتوثق عليه الخباز فأخبره أن المرأة العالمة عنده قال انطلق بي إليها فسألها هل لي من توبة؟ وكانت من أهل بيت يعلم الاسم الأعظم فإذا فنيت رجالهم علمت نساؤهم فلما بلغ طالوت الباب قال الخباز إنها إذا رأتك فزعت فخلفه خلفه ثم دخله عليها فقال لها ألست أعظم الناس منةً عليك أنجيتك من القتل وآويتك، قالت بلى، فإن لي إليك حاجة هذا طالوت يسأل هل لي من توبة؟ فغشي عليها من الفرق فقال لها إنه لا يريد قتلك ولكن يسألك هل له من توبة؟ قالت لا واللّه لا أعلم لطالوت توبة، ولكن هل تعلمون مكان قبر نبي؟ فانطلق بهما إلى قبر إشمويل فصلت ودعت ثم نادت يا صاحب القبر فخرج إشمويل من القبر ينفض رأسه من التراب فلما نظر إليهم ثلاثتهم قال ما لكم أقامت القيامة؟ قالت لا ولكن طالوت يسألك هل له من توبة؟ قال إشمويل يا طالوت ما فعلت بعدي؟ قال لم أدع من الشر إلا فعلته وجئت أطلب التوبة قال كم لك من الولد؟ قال عشرة رجال، قال ما أعلم لك من توبة إلا أن تتخلى من ملكك وتخرج أنت وولدك في سبيل اللّه، ثم تقدم ولدك حتى يقتلوا بين يديك ثم تقاتل أنت حتى آخرهم، ثم رجع إشمويل إلى القبر وسقط ميتاً، ورجع طالوت أحزن ما كان رهبة أن لا يتابعه ولده وقد بكى حتى سقطت أشفار عينيه ونحل جسمه فدخل عليه أولاده فقال لهم أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تفدونني؟ قالوا نعم نفديك بما قدرنا عليه قال فإنها النار إن لم تفعلوا ما أقول لكم قالوا فاعرض علينا فذكر لهم القصة، قالوا وإنك لمقتول قال نعم، قالوا فلا خير لنا في الحياة بعدك قد طابت أنفسنا بالذي سألت، فتجهز بماله وولده فتقدم ولده وكانوا عشرة فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا ثم شد هو بعدهم حتى قتل فجاء قاتله إلى داود ليبشره وقال قتلت عدوك فقال داود قتلت عدوك فقال داود ما أنت بالذي تحيا بعده، فضرب عنقه، وكان ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة وأتى بنو إسرائيل إلى داود وأعطوه خزائن طالوت وملكوه على أنفسهم. قال الكلبي و الضحاك  ملك داود بعد قتل طالوت سبع سنين ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود فذلك

قوله تعالى { وآتاه اللّه الملك والحكمة } يعني النبوة، جمع اللّه لداود بين الملك والنبوة ولم يكن من قبل، بل كان الملك في سبط والحكمة هو العلم مع العمل.

قوله تعالى { وعلمه مما يشاء } قال الكلبي وغيره يعني صنعة الدروع وكان يصنعها ويبيعها وكان لا يأكل إلا من عمل يده،

وقيل منطق الطير (وكلام الحكل) والنمل والكلام الحسن

وقيل هو الزبور

وقيل هو الصوت الطيب والألحان فلم يعط اللّه أحداً من خلقه مثل صوته، وكان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يأخذ بأعناقها وتظله الطير مصيخة له ويركد الماء (الجاري) ويسكن الريح. وروى الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما هو أن اللّه تعالى أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة ورأسها عند صومعته قوتها قوة الحديد ولونها لون النار وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر مدسرة بقضبان الؤلؤ الرطب فلا يحدث في الهواء حدث إلا صلصلت السلسلة، فعلم داود ذلك الحدث، ولا يمسها ذو عاهة إلا برئ، وكانوا يتحاكمون إليها بعد داود عليه السلام إلى أن رفعت، فمن تعدى على صاحبه وأنكر له حقاً أتى السلسلة فمن كان صادقاً مد يده إلى السلسلة فتناولها، ومن كان كاذباً لم ينلها فكانت كذلك إلى أن ظهر بهم المكر والخديعة فبلغنا أن بعض ملوكها أودع رجلاً جوهرة ثمينة فلما استردها أنكر فتحاكما إلى السلسلة، فعمد الذي عنده الجوهرة إلى عكازة فنقرها وضمنها الجوهرة واعتمد عليها حتى حضر السلسلة فقال صاحب الجوهرة رد علي الوديعة

فقال صاحبه ما أعرف لك عندي من وديعة فإن كنت صادقاً فتناول السلسلة، فتناولها بيده فقيل للمنكر قم أنت فتناولها فقال لصاحب الجوهرة خذ عكازي هذه فاحفظها حتى أتناول السلسلة فأخذها عنده قم قام المنكر نحو السلسلة فأخذها فقال الرجل اللّهم إن كنت تعلم أن هذه الوديعة التي يدعيها علي قد وصلت إليه فقرب مني السلسلة فمد يده فتناولها فتعجب القوم وشكوا فيها فأصبحوا وقد رفع اللّه السلسلة.

قوله تعالى { ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض } قرأ أهل المدينة و يعقوب دفاع اللّه بالألف هاهنا وفي سورة الحج، وقرأ الآخرون بغير الألف لأناللّه تعالى لا يغالبه أحد وهو الدافع وحده، ومن قرأ بالألف قال قد يكون الدفاع من واحد مثل قول العرب أحسن اللّه عنك الدفاع، قال ابن عباس و مجاهد  ولولا دفع اللّه بجنود المسلمين لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المؤمنين، وخربوا المساجد والبلاد، وقال سائر المفسرين لولا دفع اللّه بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لهلكت الأرض بمن فيها، ولكن اللّه يدفع بالمؤمن عن الكافر بالصالح عن الفاجر.

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي

أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أنا أبو عبد اللّه بن فنجويه أنا أبو بكر بن خرجة أنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبل أنا أبو حميد الحمصي أنا يحيى بن سعيد العطار أنا حفص بن سليمان عن محمد بن سوقة عن وبرة بن عبد الرحمن عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { إن اللّه عز وجل ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء } ثم قرأ { ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن اللّه ذو فضل على العالمين }

٢٥٢

{ تلك آيات اللّه نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين }.

٢٥٣

{ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم اللّه } أي كلمة اللّه تعالى يعني موسى عليه السلام { ورفع بعضهم درجات } يعني محمداً صلى اللّه عليه وسلم، قال الشيخ الإمام رحمة اللّه عليه وما أوتي نبي آية إلا وقد أوتي نبينا مثل تلك الآية وفضل على غيره بآيات مثل انشقاق القمر، وحنين الجذع على مفارقته، وتسليم الحجر والشجر عليه، وكلام البهائم والشهادة برسالته، ونبع الماء من بين أصابعه، وغير ذلك من المعجزات والآيات التي لا تحصى، وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السماء وأهل الأرض عن الإتيان بمثله.

أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد بن علي الصيرفي ، أنا أبو الحسن محمد بن أحمد المخلدي ،

أخبرنا أبو العباس بن محمد بن إسحاق الثقفي ، أنا قتيبة بن سعيد ، أنا الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عنأبي هريرة رضي اللّه عنه، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه اللّه تعالى إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة }.

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن اسماعيل ، أنا محمد بن سنان ،

أخبرنا هشيم ، أنا سيار ، أنا يزيد الفقير، أنا جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة }.

أخبرنا أبو عبد اللّه بن محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن علي بن عبد اللّه الطيسفوني ، أنا عبد اللّه بن عمر الجوهري ، أنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر ، أنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { فضلت على الأنبياء بست أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون }.

قوله تعالى { وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء اللّه ما اقتتل الذين من بعدهم } أي من بعد الرسل { من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن } ثبت على إيمانه بفضل اللّه { ومنهم من كفر } بخذلانه { ولو شاء اللّه ما اقتتلوا } أعاده تأكيداً { ولكن اللّه يفعل ما يريد } يوفق من يشاء فضلاً، ويخذل من يشاء عدلاً. سال رجل علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه فقال يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر؟ فقال طريق مظلم لا تسلكه، فأعاد السؤال فقال بحر عميق لا تلجه، فأعاد السؤال، فقال سر اللّه في الأرض قد خفي عليك فلا تفتشه.

٢٥٤

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم }

قال السدي  أراد به الزكاة المفروضة وقال غيره أراد به صدقة التطوع والنفقة في الخير { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه } أي لا فداءن سماه بيعاً لأن الفداء شراء نفسه { ولا خلة } لا صداقة { ولا شفاعة } إلا بإذن اللّه، قرأ ابن كثير و نافع وأهل البصرة كلها بالنصب، وكذلك في سورة إبراهيم (الآية ٣١) { لا بيع فيه ولا خلال } وفي سورة الطور (الآية ٢٣) { لا لغو فيها ولا تأثيم } وقرأ الآخرون كلها بالرفع والتنوين { والكافرون هم الظالمون } لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها.

٢٥٥

قوله عز وجل { اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم }

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان

أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني أنا حميد بن زنجويه أنا ابن شيبة أنا عبد الأعلى عن الجريري عن أبي السليل عن عبد اللّه بن رباح الأنصاري عن أبي بن كعب رضي اللّه عنه قال {قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا المنذر أي آية من كتاب اللّه أعظم قلت اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم قال فضرب في صدري ثم قال ليهنك العلم ثم قال والذي نفس محمد بيده إن لهذه الآية لساناً وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش} .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي ، أنا محمد بن يوسف عن محمد بن إسماعيل قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو  

أخبرنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال { وكلني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إني محتاج وعلي عيال ولي شديدة قال فخليت سبيله فأصبحت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت يارسول اللّه شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله قال (( أما إنه قد كذبك وسيعود )) فعرفت أنه سيعود لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال دعني فإني محتاج وعلي عيال ولا أعود، فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك قلت يارسول اللّه شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته وخليت سبيله قال أما إنه كذبك وسيعود فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهذا آخر ثلث مرات إنك تزعم لا تعود ثم تعود قال دعني أعلمك كلمات ينفعك اللّه بها قلت ما هي؟ قال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي } اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم { حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من اللّه حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما فعل أسيرك البارحة قلت يارسول اللّه زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني اللّه بها فخليت سبيله قال ما هي؟ قلت قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية } اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم { وقال لن يزال عليك من اللّه حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص الناس على الخير، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة قلت لا قال ذاك الشيطان }.

أخبرنا عبد الواحد المليحي

أخبرنا أبو منصور السمعاني

أخبرنا أبو جعفر الرياني

أخبرنا حميد بن زنجويه

أخبرنا أبو معاوية عن عبد الرحمن بن أبي بكر هو المليكي عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (من قرأ حين يصبح آية الكرسي وآيتين من أول } حم * تنزيل الكتاب من اللّه العزيز العليم (٢-غافر) حفظ في يومه ذلك حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ في ليلته تلك حتى يصبح ).

قوله تعالى { اللّه } رفع بالإبتداء وخبره في { لا إله إلا هو الحي } الباقي الدائم على الأبد وهو من له الحياة، ةالحياة صفة اللّه تعالى { القيوم } قرأ عمر وابن مسعود (( القيام )) وقرأ علقمة (( القيم )) وكلها لغات بمعنى واحد، قال مجاهد { القيوم } القائم على كل شيء

وقال الكلبي  القائم على كل نفس بما كسبت

وقيل هو القائم بالأمور.

وقال أبو عبيدة الذي لا يزول { لا تأخذه سنة ولا نوم } السنة النعاس وهو النوم الخفيف، والوسنان بين النائم واليقظان يقال منه وسن يسن وسناً وسنة والنوم هو الثقيل المزيل للقوة والعقل، قال المفضل الضبي  السنة في الرأس والنوم في القلب، فالسنة أول النوم وهو النعاس،

وقيل السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب فهو غشية ثقيلة تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء، نفى اللّه تعالى عن نفسه النوم لأنه آفة وهو منزه عن الآفات ولأنه تغير ولا يجوز عليه التغير.

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي

أخبرنا أبو اسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبي

أخبرنا عبد اللّه بن حامد

أخبرنا محمد بن جعفر

أخبرنا علي بن حرب

أخبرنا أبو معاوية

أخبرنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخمس كلمات فقال { إن اللّه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، ولكنه يخفض القسط، ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه }.

ورواه المسعودي عن عمرو بن مرة وقال حجابه النار. { له ما في السموات وما في الأرض } ملكاً وخلقاً { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } بأمره { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } قال مجاهد و عطاء و السدي  { ما بين أيديهم } من أمر الدنيا { وما خلفهم } من أمر الآخرة،

وقال الكلبي  { ما بين أيديهم } يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها { وما خلفهم } الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم، وقال ابن جريج  ما بين أيديهم ما مضى أمامهم وما خلفهم ما يكون بعدهم، و

قال مقاتل  ما بين أيديهم، ما كان قبل خلق الملائكة وما خلفهم أي ما كان بعد خلقهم،

وقيل ما بين أيديهم أي ما قدموه من خير أو وشر وما خلفهم ما هم فاعلوه { ولا يحيطون بشيء من علمه } أي من علم اللّه { إلا بما شاء } أي يطلعهم عليه يعني لا يحيطون بشيء من علم الغيب إلا بما شاء مما أخبر به الرسل كما قال اللّه تعالى { فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول } (٣٦-الجن)

قوله تعالى { وسع كرسيه السموات والأرض } أي ملأ وأحاط به،

واختلفوا في الكرسي فقال الحسن  هو العرش نفسه وقال أبو هريرة رضي اللّه عنه الكرسي موضوع أمام العرش ومعنى قوله { وسع كرسيه السموات والأرض } أي سعته مثل سعة السموات والأرض، وفي الأخبار أن السموات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة. ويروى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن السموات السبع والأرضين السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألأقيت في ترس.

وقال علي و مقاتل  كل قائمة من الكرسي طولها مثل السموات السبع والأرضين السبع، وهو بين يدي العرش، ويحمل الكرسي أربعة أملاك، لكل ملك أربعة وجوه، وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام، ملك على صورة سيد البشر آدم عليه السلام، وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة إلى السنة، وملك على صورة سيد الأنعام وهو الثور وهو يسأل للإنعام الرزق من السنة إلى السنة وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل، وملك على صورة سيد السباع وهو الأسد يسأل للسباع الرزق من السنة إلى السنة، [ وملك على صورة سيد الطير وهو النسر يسأل الرزق للطير من السنة إلى السنة ] وفي بعض الأخبار أن ما بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجاباً من ظلمة وسبعين حجاباً من نور غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام لولا ذلك لاحترق حملة الكرسي من نور حملة العرش. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال أراد بالكرسي علمه وهو قول مجاهد ، ومنه قيل لصحيفة العلم كراسه،

وقيل كرسيه ملكه وسلطانه، والعرب تسمى الملك القديم كرسياً، { ولا يؤوده } أي لا يثقله ولا يشق عليه يقال آدني الشي أي أثقلني { حفظهما } أي حفظ السموات والأرض { وهو العلي } الرفيع فوق خلقه والمتعالى عن الأشياء والأنداد،

وقيل العلي بالملك والسلطنة { العظيم } الكبير الذي لا شيء أعظم منه.

٢٥٦

قوله تعالى { لا إكراه في الدين } قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة - (المقلاة من النساء) لا يعيش لها ولد - وكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهود، فجاء الإسلام وفيهم منهم فلما أجلبت بنو النضير كان فيهم عدد من أولاد الأنصار فأرادت الأنصار استردادهم وقالوا هم أبناؤنا وإخوانن فنزلت هذه الآية { لا إكراه في الدين } فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { خيروا أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فأجلوهم معهم }.

وقال مجاهد  كان ناس مسترضعين في اليهود من الأوس فلما أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بإجلاء بني النضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم لنذهبن معهم ولندينن بدينهم، فمنهم أهلوهم، فنزلت { لا إكراه في الدين }. وقال مسروق  كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام فلزمهما أبوهما وقال لا أدعكما حتى تسلما، فتخاصما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه أيدخل بعضي النار وأنا أنظر

فأنزل اللّه تعالى { لا إكراه في الدين } فخلى سبيلهما. وقال قتادة و عطاء  نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية، وذلك أن العرب كانت أمة أمية لم يكن لهم كتاب فلم يقبل منهم إلا الإسلام، فلما أسلموا طوعاً أو كرهاً أنزل اللّه تعالى { لا إكراه في الدين } فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يقروا بالجزية فمن أعطى منهم الجزية لم يكره على الإسلام،

وقيل كان هذا في الابتداء قبل أن يؤمر بالقتال فصارت منسوخة بآية السيف، وهو قول ابن مسعود رضي اللّه عنهما، { قد تبين الرشد من الغي } أي الإيمان من الكفر والحق من الباطل { فمن يكفر بالطاغوت } يعني الشيطان،

وقيل كل ما عبد من دون اللّه تعالى فهو طاغوت،

وقيل كل ما يطغي الإنسان، فاعول من الطغيان، زيدت التاء فيه بدلاً من لام الفعل، كقولهم حانوت وتابوت، فالتاء فيها مبدلة من هاء التأنيث { ويؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين، والوثقى تأنيث الأوثق

وقيل العروة الوثقى السبب الذي يوصل إلى رضا اللّه تعالى { لا انفصام لها } لا انقطاع لها { واللّه سميع } قيل لدعائك إياهم إلى الإسلام { عليم } بحرصك على إيمانهم.

٢٥٧

قوله تعالى { اللّه ولي الذين آمنوا } ناصرهم ومعينهم،

وقيل متولي أمورهم لا يكلهم إلى غيره،

وقال الحسن  ولي هدايتهم { يخرجهم من الظلمات إلى النور } أي من الكفر إلى الإيمان، قال الواقدي  كل ما في القرآن من الظلمات والنور فالمراد منه الكفر والإيمان غير التي في سورة الأنعام، { وجعل الظلمات والنور } فالمراد منه الليل والنهار، سمي الكفر ظلمه لالتباس طريقه وسمي الإسلام نوراً لوضوح طريقه { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت }

قال مقاتل  يعني كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وسائر رؤوس الضلالة { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } يدعونهم من النور إلى الظلمات، والطاغوت يكون مذكراً ومؤنثاً وواحداً وجمعاً، قال اللّه تعالى في المذكر والواحد { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به } (٦٠-النساء) وقال في المؤنث { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها } (١٧-الزمر) وقال في الجمع { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } فإن قيل قال يخرجونهم من النور وهم كفار لم يكونوا في نور قط؟ قيل هم اليهود كانوا مؤمنين بمحمد صلى اللّه عليه وسلم قبل أن يبعث لما يجدون في كتبهم من نعته، فلما بعث كفروا به،

وقيل هو على العموم في حق جميع الكفار، قالوا منعهم إياهم من الدخول فيه إخراج كما يقول الرجل لأبيه أخرجتني من مالك ولم يكن فيه، كما قال اللّه تعالى إخباراً عن يوسف عليه السلام { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون باللّه } (٣٧-يوسف) ولم يكن قط في ملتهم { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }.

٢٥٨

قوله تعالى { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } معناه هل انتهىإليك يا محمد خبر الذي حاج إبراهيم أي خاصم وجادل، وهو نمرود وهو أول من وضع التاج على رأسه، وتجبر في الأرض وادعى الربوبية؟ { أن آتاه اللّه الملك } أي لأن آتاه اللّه الملك فطغى أي كانت تلك المحاجة من بطر الملك وطغيانه،

قال مجاهد  ملك الأرض أربعة، مؤمنان وكافران فأما المؤمنان فسليمان وذو القرنين، وأما الكافران فنمرود وبختنصر.

واختلفوا في وقت هذه المناظرة،

قال مقاتل  لما كسر إبراهيم الأصنام سجنه نمرود ثم أخرجه ليحرقه بالنار فقال له من ربك الذي تدهونا إليه؟ فقال ربي الذي يحيي ويميت، وقال آخرون كان هذا بعد إلقائه في النار، وذلك أن الناس قحطوا على عهد نمرود وكان الناس يمتارون من عنده الطعام، فكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام سأله من ربك؟ فإن قال أنت، باع منه الطعام، فأتاه إبراهيم فيمن أتاه فقال له نمرود منربك؟ قال ربي الذي يحيي ويميت، فاشتغل بالمحاجة ولم يعطه شيئاً فرجع إبراهيم فمر على كثيب من رمل أعفر فأخذ منه تطييباً لقلوب أهله إذا دخل عليهم، فلما أتى أهله ووضع متاعه نام، فقامت إمرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو أجود طعام ما رآه أحد، فأخذته فصنعت له منه فقربته إليه فقال من أين هذا؟ قالت من الطعام الذي جئت به فعرف أن اللّه رزقه، فحمد اللّه. قال اللّه تعالى { إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت } [وهذا جواب سؤال غير مذكور تقديره قال له من ربك؟ فقال إبراهيم { ربي الذي يحيي ويميت }] قرأ حمزة { ربي الذي يحيي ويميت } بإسكان الياء وكذلك { حرم ربي الفواحش } (٣٣-الأعراف) و { عن آياتي الذين يتكبرون } (١٤٦-الأعراف) و { قل لعبادي الذين } (٣١-إبراهيم) و { آتاني الكتاب } (٣٠-مريم) و { مسني الضر } (٨٣-الأنبياء) و { عبادي الصالحون } (١٠٥-الأنبياء) و { عبادي الشكور } (١٣-سبأ) و { مسني الشيطان } (٤١-صلى اللّه عليه وسلم) و { إن أرادني اللّه } (٣٨-الزمر) و { إن أهلكني اللّه } (٢٨-الملك) اسكن الياء فيهن حمزة ، ووافق ابن عامر و الكسائي في { لعبادي الذين آمنوا } و ابن عامر { آياتي الذين } وفتحها الآخرون، { قال } نمرود { أنا أحيي وأميت }. قرأ أهل المدينة (أنا) بإثبات الألف والمد في الوصل إذا تلتها مفتوحة أو مضمومة والباقون بحذف الألف، ووقفوا جميعا ًبالأف، قال أكثر المفسرين  دعا نمرود برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر فجعل ترك القتل إحياء له، فانتقل إبرهيم إلى حجة أخرى ،لاعجزاً له فأن حجته كانت لازمة لأنه أراد بالأحياء إحياء الميت فكان له أن يقول  فأحي من أمت إن كنت صادقاً فانتقل إلى حجه أخرى أوضح من الأولى { قال إبراهيم فإن اللّه يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } أي تحير ودهش وانقطعت حجته .فإن قيل  كيف بهت وكان يمكنه أن يعارض إبراهيم فيقول له سل أنت ربك حتى يأتي بهأمن المغرب قيل إنما لم يقله لأنه خاف أن لوسأل ذللك دعا أبراهيم ربه فكان زيادة في فضيحته وأنقطاعه، والصحيح أن اللّه صرفه عن تللك المعارضة إظهاراً للحجه عليه أو معجزة لإبراهيم عليه السلام { واللّه لا يهدي القوم الظالمين }.

٢٥٩

قوله تعالى { أو كالذي مر على قرية } وهذه الآية منسوقة على الآية الأولى، تقديره { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم } وإلى الذي مر على قرية

وقيل تقديره هل رأيت الذي حاج إبراهيم في ربه ،وهل رأيت الذي مر على قرية؟

واختلفوا في ذللك المار فقال قتادة و عكرمة و الضحاك  هوعزيز بن شرخياً،وقال وهب بن منبه هو ارميا بن حلقيا ،وكان بن سبط هارون ،وهو الحضر

وقال مجاهد  هو كافر شك البعث واحتلفوا في تللك القرية فقال وهب و عكرمة و قتادة هي بيت المقدس ،وقال الضحاك هي الأرض المقدسة ،

وقال الكلبي هي دير سابر أباد، وقال السدي سلما باذ،

وقيل دير هرقل ،

وقيل هي الأرض التي أهلك اللّه فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف

وقيل هي قرية العنب وهي على فرسخين من بيت المقدس { وهي خاوية } ساقطة يقال  خوي البيت بكسر الواو يخوي خوى مقصوراً، إذا سقط وخوى البيت بالفتح خواءً ممدوداً إذا خلا { على عروشها } سقوفها، واحدها عرش

وقيل كل بناء عرش، ومعناه  أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها . { قال أنى يحيي هذه اللّه بعد موتها } وكان السبب في ذلك على ما روى محمد بن إسحاق بن منبه أن اللّه تعالى بعث إرمياء إلى ناشية بن أموص ملك بني إسرائيل يسدده في ذلك ويأتيه بالخبر من اللّه عز وجل، فعظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي فأوحى اللّه تعالى إلى ارمياء أن ذكر قومك نعمي وعرفهم أحداثهم وادعهم إلي، فقال إرمياء إني ضعيف إن لم تقوني، عاجز إن لم تبلغني، مخذول إن لم تنصرني، فقال اللّه عز وجل

أنا ألهمك، فقام إرمياء فيهم ولم يدر ما يقول فألهمه اللّه في الوقت خطبة بليغة طويلة بين لهم ثواب الطاعة وعقاب المعصية، وقال في آخرها عن اللّه تعالى وإني أحلف بعزتي لأقبضن لهم فتنة بتحير فيها الحكيم، ولأسلطن عليهم جباراً فارسياً ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم، ثم أوحى اللّه تعالى إلى إ رمياء إني مهلك بني إسرائيل بيافث، وبافث من أهل بابل، وهم من ولد بافث بن نوح عليه السلام، فلما سمع إرمياء ذلك صاح وبكى وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه فلما سمع اللّه تضرعه وبكاءه ناداه ياإرمياء اشق عليك ما أوحيت إليك قال نعم يارب أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل مالا أسر به فقال اللّه تعالى وعزتي لا أهلك بني إسرائيل حتى يكون الأمر في ذلك من قبلك، ففرح إرمياء بذلك وطابت نفسه، فقال لا والذي بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بني إسرائيل، ثم أتى الملك فأخبره بذلك وكان ملكاً صالحاً فاستبشر وفرح فقال إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة وإن عفا عنا فبرحمته.

ثم إ نهم لبثوا بعد الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتمادياً في الشر وذلك حين اقترب هلاكهم فقل الوحي، ودعاهم الملك إلى التوبة، فلم يفعلوا، فسلط اللّه عليهم بختنصر، فخرج في ست مائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس، فلما فصل سائراً أتى الملك الخبر، فقال لإرمياء أين ما زعمت أن اللّه أوحى إليك؟ فقال إرمياء إن اللّه لا يخلف الميعاد وأنا به واثق فلما قرب الأجل بعث اللّه إلى إرمياء ملكاً قد تمثل له رجلاً من بني إسرائيل فقال له إرمياء من أنت؟ قال أنا رجل من بني إسرائيل أتيتك أستفتيك في أهل رحمي وصلت أرحامهم ولم آت إليهم إلا حسناً ولا يزيدهم إكرامي إياهم إلا إسخاطاً لي فأفتني فيهم، قال أحسن فبما بينك وبين اللّه وصلهم وأبشر بخير. فانصرف الملك فمكث أياماً ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل فقعد بين يديه فقال أنا الذي أتيتك في شأن أهلي، فقال له إرمياء ما طهرت أخلاقهم لك بعد؟ قال يا نبي اللّه والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى رحمة إلا قدمتها إليهم وأفضل، فقال له النبي إرمياء عليه السلام

ارجع إليهم أسأل اللّه الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم، فقام الملك، فمكث أياماً وقد نزل بختنصر وخنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد ففزع منهم بنو إسرائيل فقال ملكهم لإرمياء يا نبي اللّه أين ما وعدك اللّه. قال إني بربي واثق، ثم أقبل الملك إلى إرمياء وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه عز وجل الذي وعده، فقعد بين يديه فقال أنا الذي أتيتك في شأن أهلي مرتين، فقال النبي ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال الملك يا نبي اللّه كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، فاليوم رأيتهم في عمل لا يرضي اللّه فقال النبي على أي عمل رأيتهم؟ قال على عمل عظيم من سخط اللّه فغضب اللّه وأتيتك لأخبرك، وإني أسألك باللّه الذي بعثك بالحق نبياً إلا ما دعوت اللّه عليهم ليهلكهم، فقال إرمياء

يا مالك السموات والأرض إن كانوا على حق وصواب فأبقهم وإن كانوا على عمل لا ترضاه فأهلكهم، فلما خرجت الكلمة من فم إرمياء، أرسل اللّه صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها، فلما رأى ذلك إرمياء صاح وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه ةقال يا مالك السموات أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي أنه لم يصبهم ما أصابهم إلا بفتياك ودعائك، فاستيقن النبي عليه السلام أنها فتياه وأن ذلك السائل كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فطار إرمياء حتى خالط الوحوش. ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه فيقذفه في بيت المقدس، ففعلوا حتى ملؤوه، ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عندهم صغيرهم وكبيرهم من بني إسرائيل، فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه، فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة، وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق، فثلثاً قتلهم، وثلثاً سباهم، وثلثاً أقرهم بالشام، وكانت هذه الواقعة الأولى التي أنزلها اللّه في بني إسرائيل بظلمهم فلما ولى عنهم بختنصر راجعاً إلى بابل ومعه سبايا بني إسرائيل أقبل إرمياء على حمار له معه عصير عنب في ركوة وسلة تين حتى غشى إيلياء، فلما وقف عليها ورأى خرابها قال

{ أنى يحيي هذه اللّه بعد موتها }؟. وقال الذي قال إن المار كان عزيراً إن بختنصر لما خرب بيت المقدس وقدم بني إسرائيل ببابل كان فيهم عزير زدانيال وسبعة آلاف من أهل بيت داود فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل على شط دجلة فطاف في القرية فلم ير فيها أحداً، وعامة شجرها حامل فأكل من الفاكهة، واعتصر من العنب فشرب منه، وجعل فضل الفاكهة في سلة وفضل العصير في زق فلما رأى خراب القريةوهلاك أهلها قال

{ أنى يحيي هذه اللّه بعد موتها } قالها تعجباً لا شكاً في البعث. رجعنا إلى حديث وهب قال ثم ربط إرمياء حماره بحبل جديد فألقى اللّه تعالى عليه النوم فلما نام نزع اللّه منه الروح مائة عام وأمات حماره، وعصيره وتينه عنده فأعمى اللّه عنه العيون فلم يره أحد، وذلك ضحىً، ومنع اللّه السباع والطير لحمه، فلما مضى من موته سبعون سنة أرسل اللّه ملكاً إلى ملك من ملوك فارس يقال له نوشك فقال إن اللّه يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيلياء حتى يعود أعمر ما كان، فانتدب الملك بألف قهرمان مع كل قهرمان ثلثمائة ألف عامل وجعلوا يعمرونه، فأهلك اللّه بختنصر ببعوضة دخلت دماغه، ونحى اللّه من بقي من بني إسرائيل، ولم يمت ببابل وردهم جميعاً إلى بيت المقدس ونواحيه وعمروها ثلاثين سنة وكثروا حتى عادوا على أحسن ما كانوا عليه فلما مضت المائة أحيا اللّه منه عينيه، وسائر جسده ميت، ثم أحيا جسده وهو ينظر إليه، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه متفرقة بيض، تلوح فسمع صوتاً من السماء أيتها العظام البالية إن اللّه يأمرك أن تجتمعي، فاجتمع بعضها إلى بعض، واتصل بعضها ببعض فنودي إن اللّه يأمرك أن تكتسي لحماً وجلداً، فكانت كذلك ثم نودي إن اللّه يأمرك أن تحيا، فقام بإذن اللّه ونهق، وعمر اللّه إرمياء فهو الذي يرى في الفلوات فذلك

قوله تعالى { فأماته اللّه مائة عام ثم بعثه } أي أحياه { قال كم لبثت } أي كم مكثت؟ يقال لما أحيا اللّه بعث إليه ملكاً فسأله كم لبثت؟ { قال لبثت يوماً } وذلك أن اللّه تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس، فقال لبثت يوماً وهو يرى أن الشمس قد غربت، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال { أو بعض يوم } بل بعض يوم { قال } له الملك { بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك } يعني التين { وشرابك } يعني العصير { لم يتسنه } أي لم يتغير، فكان التين كأنه قطف من ساعته، والعصير كأنه عصر من ساعته. قال الكسائي  كأنه لم تأت عليه السنون. وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب لم يتسن بحذف الهاء في الوصل وكذلك { فبهداهم اقتده } (٩٠-الأنعام) وقرأ الآخرون بالهاء فيهما وصلاً ووقفاً، فمن أسقط الهاء في الوصل جعل الهاء صلة زائدة وقال أصله يتسنى فحذف الياء بالجزم وابدل منه هاء في الوقف وقال أبو عمرو  هم من التسنن بنونين وهو التغير ك

قوله تعالى { من حمإ مسنون } (٢٦-الحج) أي متغير فعوضت من احدى النونين ياء ك

قوله تعالى { ثم ذهب إلى أهله يتمطى } (٣٣-القيامة) أي يتمطط، وكقوله { وقد خاب من دساها } (١٠-الشمس) وأصله دسيتها، وتصغيرها سنيهة والفعل من السانهة وإنما قال لم يتسنه ولم يثنه مع أنه أخبر عن شيئين رد التغيير إلى أقرب اللفظين وهو الشراب واكتفى بذكر أحد المذكورين لأنه في معنى الآحر { وانظر إلى حمارك } فنظر فإذا هو عظام بيض فركب اللّه تعالى العظام بعضها على بعض فكساه اللحم والجلد وأحياه وهو ينظر { ولنجعلك آية للناس } قيل الواو زائدة مقحمة. وقال الفراء  أدخلت الواو فيه دلالة على أنها شرط لفعل بعدها معناه ولنجعلك آية أي عبرة ودلالة على البعث بعد الموت قاله أكثر المفسرين، وقال الضحاك وغيره إنه عاد إلى قريته شاباً وأولاده وأولاد شيوخ وعجائز وهو أسود الرأس واللحية.

قوله تعالى { وانظر إلى العظام كيف ننشزها } قرأ أهل الحجاز والبصرة ننشرها بالراء معناه نحييها يقال أنشر اللّه الميت إنشاراً ونشرة ونشوراً قال اللّه تعالى { ثم إذا شاء أنشره } (٢٢-عبس) وقال في اللازم { وإليه النشور } (١٥-الملك) وقرأ الآخرون بالزاي أي نرفعها من الآرض ونردها إلى مكانها من الجسد ونركب بعضها على بعض، وإنشاز الشيء رفعه وإزعاجه، يقال أنشزته فنشز أي رفعته فارتفع.

واختلفوا في معنى الآية، فقال الأكثرون أراد به عظام حماره، و

قال السدي  إن اللّه تعالى أحيا عزيراً ثم قال له انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه فبعث اللّه تعالى ريحاً فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل وقد ذهبت بها الطير والسباع فاجتمعت فركب بعضها في بعض وهو ينظر، فصار حماراً من عظام ليس فيه لحم ولا دم { ثم نكسوها لحماً } ثم كسا العظام لحماً ودماً فصار حماراً لا روح فيه، ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الخمار فنفخ فيه فقام الحمار ونهق بإذن اللّه. وقال قوم أراد به عظام هذا الرجل، وذلك أن اللّه تعالى لم يمت حماره بل أماته هو فأحيا اللّه عينيه ورأسه، وسائر جسده ميت، ثم قال انظر إلى حمارك فنظر فرأى حماره قائماً كهيئته يوم ربطه حياً لم يطعم ولم يشرب مائة عام ونظر الرمة في عنقه جديدة لم تتغير، وتقدير الآية

{ وانظر إلى حمارك } وانظر إلى عظامك كيف ننشزها وفي الآية تقديم وتأخير، وتقديرهما وانظر إلى حمارك، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ولنجعلك آية للناس. وقال قتادة عن كعب و الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما لما أحيا اللّه تعالى عزيراً بعد ما أماته مائة سنة ركب حماره حتى محلته فأنكره الناس وأنكر الناس ومنازله فانطلق علىوهم حتى أتى منزله فإذا بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت عرفته وعقلته فقال لها عزير يا هذه هذا منزل عزير؟ قالت نعم هذا منزل عزير وبكت وقالت ما رأيت أحداً من كذا وكذا سنة يذكر عزيراً قال فإني أنا عزير، قالت سبحان اللّه فإن عزيراً قد فقدناه من مائة سنة لم نسمع له بذكر قال فإني أنا عزير كان اللّه أماتني مائة سنة ثم بعثني، قالت

فإن عزيراً كان رجلاً مستجاب الدعوة ويدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية، فادع اللّه أن يرد لي بصري حتى أراك فإن كنت عزيراً عرفتك، فدعا ربه ومسح بيده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها وقال قومي بإذن اللّه اللّه تعالى، فأطلق اللّه رجليها فقامت صحيحة، فنظرت إليه فقالت أشهد أنك عزير، فانطلقت إلى بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن لعزير شيخ كبير ابن مائة سنة وثماني عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس، فنادت هذا عزير قد جاءكم، فكذبوها، فقالت أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فرد علي بصري وأطلق رجلي وزعم أن اللّه كان أماته مائة سنة ثم بعثه، فنهض الناس فأقبلوا إليه فقال ولده كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير. وقال السدي و الكلبي  لما رجع عزير إلى قومه وقد أحرق بختنصر التوراة ولم يكن من اللّه عهد بين الخلق، فبكى عزير على التوراة فأتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاهمن ذلك الماء فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل وقد علمه اللّه التوراة وبعثه نبياً، فقال أنا عزير فلم يصدقوه فقال إني عزير قد بعثني اللّه إليكم لأجدد لكم توراتكم قالوا أملها علينا، فأملاها عليهم من ظهر قلبه، فقالوا ما جعل اللّه التوراة في صدر رجل بعد ما ذهبت إلا أنه ابنه، فقالوا عزير ابن اللّه، وستأتي القصة في سورة براءة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى { فلما تبين له } ذلك عياناً { قال أعلم } قرأ حمزة و الكسائي مجزوماً على الأمر على معنى قال اللّه تعالى اعلم، وقرأ الآخرون أعلم بقطع الألف ورفع الميم على الخبر عن عزير أنه قال لما رأى ذلك أعلم { أن اللّه على كل شيء قدير }.

٢٦٠

قوله تعالى { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموت } قال الحسن و قتادة و عطاء الخراساني و ابن جريج  كان سبب هذا السؤال من إبراهيم عليه السلام أنه مر على دابة ميتة، قال ابن جريج  كانت جيفة حمار بساحل البحر، قال عطاء  في بحيرة طبرية، قالوا فرآها وقد توزعتها دواب البحر والبر، فكان إذا مد البحر جاءت الحيتان ودواب البحر فأكلت منها فما وقع منها يصير في البحر، فإذا جزر البحر ورجع جاءت السباع فأكلن منها فما سقط منها يصير ترابأً فإذا ذهبت السباع جاءت الطير فأكلت منها فما سقط منها قطعتها الريح في الهواء، فلما رأى ذلك إبراهيم عليه السلام تعجب منها وقال يارب قد علمت لتجمعنها من بطون السباع وحواصل الطير وأجواف دواب البحر فأرني كيف تحييها لأعاين فأزداد يقيناً، فعاتبه اللّه تعالى { قال أولم تؤمن قال بلى } يارب علمت وآمنت { ولكن ليطمئن قلبي } أي ليسكن قلبي إلى المعاينة والمشاهدة، أراد أن يصير له علم اليقين عين اليقين، لأن الخبر ليس كالمعاينة.

وقيل كان سبب هذا السؤال من إبراهيم أنه لما احتج على نمرود فقال { ربي الذي يحيي ويميت } (٢٥٨-البقرة) قال نمرود أنا أحيى وأميت فقتل أحد الرجلين، وأطلق الآخر، فقال إبراهيم إن اللّه تبارك وتعالى يقصد إلى جسد ميت فيحييه، فقال له نمرود أنت عاينته، فلم يقدر أن يقول نعم فانتقل إلى حجة أخرى، ثم سأل ربه أن يريه إحياء الموتى.

{ قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } بقوة حجتي فإذا قيل أنت عاينته فأقول نعم قد عاينته. وقال سعيد بن جبير لما اتخذ اللّه تعالى إبراهيم خليلاً سأل ملك الموت ربه أن يأذن له فيبشر إبراهيم بذلك فأذن له فأتى إبراهيم ولم يكن في الدار، فدخل داره وكان إ بارهيم عليه السلام أغير الناس إذا خرج أغلق بابه، فلما جاء وجد في داره رجلاً فثار ليأخذه وقال له من أذن لك أن تدخل داري؟ فقال أذن لي رب هذه الدار، فقال إبراهيم صدقت وعرف أنه ملك، فقال من أنت؟ قالت أنا ملك الموت جئت أبشرك بأن اللّه تعالى قد اتخذك خليلاً، فحمد اللّه عز وجلعز وجل، وقال فما علامة ذلك؟ قال أن يجيب اللّه دعءك ويحيى الموتى بسؤالك، فحينئذ قال إبراهيم { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } أنك اتخذتني خليلاً وتجيبني إذا دعوتك.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي ،

أخبرنا محمد بن يوسف

أخبرنا محمد بن اسماعيل ،

أخبرنا أحمدج بن صالح ، أنا ابن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن و سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي اللّه تعالىعنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيى الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، ورحم اللّه لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي }.

وأخرج مسلم بن الحجاج هذا الحديث عن حرملة بن يحيى عن وهب بهذا الاسناد مثله وقال { نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيى الموتى }. حكي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة عن أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني أنه قال على هذا الحديث، لم يشك النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا إبراهيم في أن اللّه قادر على أن يحيي الموتى وإنما شكا في أنه هل يجيبهما إلى ما سألا، وقال أبو سليمان الخطابي  ليس في قوله نحن أحق بالشك من إبراهيم، اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيم، لكن فيه نفي الشك عنهما، يقول إذا لم أشك أنا في قدرة اللّه تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بأن لا يشك، وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس، وكذلك قوله (( لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي )) وفيه الإعلام أن المسألة من إبراهيم عليه السلام لم تعرض من جهة الشك، ولكن من قبل زيادة العلم بالعيان، فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة مالا يفيد الاستدلال،

وقيل لما نزلت هذه الآية قال قوم شك إبراهيم ولم نبينا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذا القول تواضعاً منه وتقديماً لإبراهيم على نفسه. قوله { أولم تؤمن } معناه قد آمنت فلم تسأل؟، شهد له بالإيمان كقول جبريل ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح يعني أنتم كذلك، ولكن ليطمئن قلبي بزيادة اليقين. { قال فخذ أربعة من الطير } قال مجاهد و عطاء و ابن جريج  أخذ طاووساً وديكاً و حمامة غراباً، وحكي عن ابن عباس رضي اللّه عنه ونسراً بدل الحمامة. وقال عطاء الخراساني  أوحى إليه أن خذ بطة خضراء وغراباً أسود وحمامة بيضاء وديكاً أحمر { فصرهن إليك } قرأ أبو جعفر و حمزة { فصرهن إليك } بكسر الصاد أي قطعهن ومزقهن، يقال صار يصير صيراً إذا قطع، وانصار الشيء انصياراً إذا انقطع. قال الفراء  هو مقلوب من صريت أصري صرياً إذا قطعت،وقرأ الآخرون { فصرهن } بضم الصاد ومعناه أملهن إليك ووجههن، يقال صرت الشيء أصوره إذا أملته، ورجل أصور إذا كان مائل العنق،

وقال عطاء  معناه أجمعهن واضممهن إليك يقال صار يصور صوراً إذا اجتمع ومنه قيل لجماعة النحل صور، ومن فسره بالإمالة والضم قال فيه إضمار معناه فصرهن إليك ثم قطعهن فحذفه اكتفاءً بقوله { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً } لأنه يدل عليه، وقال أبو عبيدة  فصرهن معناه قطعهن أيضاً، والصور القطع.

قوله تعالى { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً } قرأ عاصم برواية أبي بكر { جزءاً } مثقالاً مهموزاً، والآخرون بالتخفيف والهمز، وقرأ أبو جعفر مشددة الزاي بلا همزة وأراد به بعض الجبال. قال بعض المفسرين أمر اللّه إبراهيم أن يذبح تلك الطيور وينتف ريشها و يقطعها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها بعضها ببعض ففعل، ثم أمره أن يجعل أجزائها على الجبال.

واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما و قتادة  أمر أن يجعل كل طائر أربعة أجزاء ويجعلها على أربعة أجبل على كل جبل ربعاً من كل طائر

وقيل جبل على جانب الشرق، وجبل على جانب الغرب، وجبل على جانب الشمال، وجبل على جانب الجنوب. وقال ابن جريج و السدي  جزأها سبعة أجزاء ووضعها على سبعة أجبل وأمسك رؤوسهن ثم دعاهن تعالين بإذن اللّه تعالى، فجعلت كل قطرة من دم طائر تطير إلى القطرة الأخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى، وكل عظم يصير إلى العظم الآخر، وكل بضعة تصير إلى الأخرى، وإبراهيم ينظر، حتى لقيت كل جثة بعضها بعضاً في السماء بغير راس ثم أقبلن إلى رؤوسهن سعياً فكلما جاء طائر مال برأسه فإن كان رأسه دنا منه، وإن لك يكن تأخر، حتى التقى كل طائر برأسه فذلك

قوله تعالى { ثم ادعهن يأتينك سعياً } قيل المراد بالسعي الإسراع والعدو،

وقيل المراد به المشي دون الطيران كما قال اللّه تعالى { فاسعوا إلى ذكر اللّه } (٩-الجمعة) أي فامضوا، والحكمة في المشي دون الطيران كونه أبعد من الشبهة لأنها لو طارت يتوهم متوهم أنها غير تلك الطير وأن أرجلها غير سليمة واللّه أعلم.

وقيل السعي بمعنى الطيران { واعلم أن اللّه عزيز حكيم }.

٢٦١

قوله تعالى { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه } فيه إضمار تقديره مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم { كمثل } زارع { حبة } وأراد بسبيل اللّه الجهاد،

وقيل جميع أبواب الخير { أنبتت } أخرجت { سبع سنابل } جمع سنبلة { في كل سنبلة مائة حبة } فإن قيل فما رأينا سنبلة فيها مائة حبة فكيف ضرب المثل به؟ قيل ذلك متصور، غير مستحيل، وما لا يكون مستحيلاً جاز ضرب المثل به وإن لم يوجد، معناه { في كل سنبلة مائة حبة } أي جعل اللّه فيها،

وقيل موجود في الدخن،

وقيل معناه أنها إن بذرت أنبتت مائة حبة، فما حدث من البذر الذي كان فيها كان مضافاً إليها وكذلك تأوله الضحاك فقال كل سنبلة أنبتت مائة حبة { واللّه يضاعف لمن يشاء } قيل معناه يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء،

وقيل معناه يضاعف على هذا ويزيد لمن يشاء ما بين سبع إلى سبعين إلى سبعمائة إلى ما شاء اللّه من الأضعاف مما لا يعلمه إلا اللّه تعالى { واللّه واسع } غني يعطي عن سعة { عليم } بنية من ينفق ماله.

٢٦٢

قوله تعالى { الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه }

قال الكلبي  نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان رضي اللّه عنه وعبد الرحمن بن عوف رضي اللّه تعالى عنهما، {جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه كانت عندي ثمانية آلاف فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم، وأربعة آلاف أقرضتها ربي، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بارك اللّه فيما أمسكت لك وفيما أعطيت }،

وأما عثمان فجهز جيش المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وأحلاسها فنزلت فيهما هذه الآية. وقال عبد الرحمن بن سمرة  جاء عثمان رضي اللّه عنه بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم يدخل فيها يده ويقلبها ويقول { ما ضر ابن عفان بعد اليوم }

فأنزل اللّه تعالى { الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه } في طاعة اللّه { ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً } وهو أن يمن عليه بعطائه فيقول أعطيتك كذا، ويعد نعمه عليه فيكدرها { ولا أذى } هو أن يعيره فيقول إلى كم تسأل وكم تؤذيني؟

وقيل من الأذى هو أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه. وقال سفيان  { مناً ولا أذى } هو أن يقول قد أعطيتك وأعطيت فما شكرت، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم  كان أبي يقول إذا أعطيت رجلاً شيئاً ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه، فحظر اللّه على عباده المن بالصنيعة، واختص به صفة لنفسه، لأن من العباد تعيير. وتكدير ومن اللّه إفضال وتذكير { لهم أجرهم } أي ثوابهم { عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }

٢٦٣

{ قول معروف } أي كلام حسن ورد على السائل جميل،

وقيل عدة حسنة.

وقال الكلبي  دعاء لأخيه بظهر الغيب،

وقال الضحاك  نزلت في إصلاح ذات البين { ومغفرة } أي تستر عليه خلته ولا تهتك عليه ستره، وقال الكلبي و الضحاك  يتجاوز عن ظالمه،

وقيل يتجاوز عن الفقير إذا استطال عليه خلته عند رده { خير من صدقة } يدفعها إليه { يتبعها أذى } أي من وتعيير للسائل أو قول يؤذيه { واللّه غني } أي مستغن عن صدقة العباد { حليم } لا يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بالصدقة.

٢٦٤

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم } أي أجور صدقاتكم { بالمن } على السائل، وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما بالمن على اللّه تعالى { والأذى } لصاحبها ثم ضرب لذلك مثلاً فقال { كالذي ينفق ماله } أي كإبطال الذي ينفق ماله { رئاء الناس } أي نراءاة وسمعة ليروا نفقته ويقولوا إنه كريم سخي { ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر } يريد أن الرياء يبطل الصدقة ولا تكون النفقة مع الرياء من فعل المؤمنين وهذا للمنافقين لأن الكافر معلن بكفره غير مراء { فمثله } أي مثل هذا المرائي { كمثل صفوان } وهو الحجر الأملس، وهو واحد وجمع، فمن جعله جمعاً فواحده صفوانة ومن جعله واحدا فجمعه صفي { عليه } أي على الصفوان { تراب فأصابه وابل } وهو المطر الشديد العظيم القطر { فتركه صلداً } أي أملس، والصلد الحجر الصلب الأملس الذي لا شيء عليه فهذا مثل ضربه اللّه تعالى لنفقة المنافق والمرائي والمؤمن الذي يمن بصدقته ويؤذي الناس في الظاهر أن لهؤلاء أعمالاً كما يرى التراب على هذا الصفوان فإذا كان يوم القيامة بطل كله لأنه لم يكن للّه عز وجل كما أذهب الوابل ما على الصفوان من التراب فتركه صلداً { لا يقدرون على شيء مما كسبوا } أي على ثواب شيء مما كسبوا عملوا في الدنيا { واللّه لا يهدي القوم الكافرين }.

أخبرنا أبو عبد اللّه محمد بن الفضل الخرقي ،

أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني ،

أخبرنا عبد اللّه بن عمر الجوهري ،

أخبرنا أحمد بن علي الكشهميني ،

أخبرنا علي بن حجر ،

أخبرنا اسماعيل بن جعفر ،

أخبرنا عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ، عن عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يارسول اللّه وما الشرك الأصغر؟ قال الرياء يقول اللّه لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء }.

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد اللّه بن أبي توبة

أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد الحارثي

أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي

أخبرنا عبد اللّه بن محمد بن محمود ،

أخبرنا إبراهيم بن عبد اللّه الخلال ،

أخبرنا عبد اللّه بن المبارك عن حيوة بن شريح ، أخبرني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان المدائني أن عقبة بن مسلم حدثه أن شفيا الأصبحي حدثه أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس فقال من هذا؟ قال أبو هريرة، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس فلما سكت وخلا قلت له أنشدك اللّه بحق، لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول { إن اللّه إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل اللّه، ورجل كثير المال، فيقول اللّه للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ فقال بلى يارب قال فماذا عملت فيما علمت ؟ قال كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول اللّه له كذبت وتقول الملائكة له  

كذبت ويقول اللّه تعالى بل أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك ، ويؤتى بصاحب المال فيقول اللّه له  ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال  بلى يا رب ، قال  فما عملت فيما آتيتك ؟ قال  كنت أصل الرحم وأتصدق . فيقول اللّه له  كذبت ، وتقول الملا ئكة  كذبت ويقول اللّه تعالى بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل اللّه فيقول له فيما قتلت؟ فيقول يارب أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول اللّه كذبت وتقول الملائكة كذبت، ويقول اللّه تعالى بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ركبتي فقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق اللّه تسعر بهم النار يوم القيامة }.

٢٦٥

قوله تعالى { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة اللّه } أي طلب رضا اللّه تعالى { وتثبيتاً من أنفسهم }

قال قتادة  احتساباً، وقال الشعبي و الكلبي  تصديقاً من أنفسهم، أي يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم على يقين بالثواب وتصديق بوعد اللّه، يعلمون أن ما أخرجوا خير لهم مما تركوا،

وقيل على يقين بإخلاف اللّه عليهم. وقال عطاء و مجاهد  يثبتون أي يضعون أموالهم، قال الحسن  كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت فإن كان للّه أمضى وإن كان يخالطه شك أمسك، وعلى هذا القول يكون التثبيت بمعنى التثبت، ك

قوله تعالى { وتبتل إليه تبتيلاً } (٨-المزمل) أي تبتلاً، { كمثل جنة } أي بستان قال المبرد و الفراء  إذا كان في البستان نخل فهو جنة وإن كان فيه كرم فهو فردوس { بربوة } قرأ ابن عامر و عاصم بربوة وإلى ربوة في يعلوه الماء ولا يعلو عن الماء، وإنما جعلها بربوة لأن النبات عليها أخحسن وأزكى { أصابها وابل } مطر شديد كثير { فآتت أكلها } ثمرها، قرأ نافع و ابن كثير و أبو عمرو بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتثقيل، وزاد نافع و ابن كثير تخفيف أكله والأكل، وخفف أبو عمرو ورسلنا ورسلكم ورسلهم وسبلنا. { ضعفين } أي أضعفت في الحمل قال عطاء  حملت في السنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين،

وقال عكرمة  حملت في السنة مرتين { فإن لم يصبها وابل فطل } أي فطش، وهو المطر الضعيف الخفيف ويكون دائماً.

قال السدي  هو الندى، وهذا مثل ضربه اللّه تعالى لعمل المؤمن المخلص فيقول كما أن هذه الجنة تريع في كل حال ولا تخلف سواء قل المطر أو كثر، كذلك يضعف اللّه صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمن ولا يؤذي سواء قلت نفقته أو كثرت، وذلك أن الطل إذا كان يدوم عمل الوابل الشديد. { واللّه بما تعملون بصير }

٢٦٦

{ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار } هذه الآية متصلة ب

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } [قوله أيود يعني أيحب أحدكم أن تكون له جنة أي بستان من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار].

{ له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء } أولاد صغار عجزة { فأصابها إعصار } وهو الريح العاصف التي ترتفع إلى السماء كأنها عمود وجمعه أعاصير { فيه نار فاحترقت } هذا مثل ضربه اللّه لعمل المنافق والمرائي يقول عمله في حسنه كحسن الجنة ينتفع به كما ينتفع صاحب الجنة بالجنة، فإذا كبر أو ضعف وصار له أولاد ضعاف وأصاب جنته إعصار فيه نار فاحترقت فصار أحوج ما يكون إليها وضعف عن إصلاحها لكبره وضعف أولاده عن إصلاحها لصغرهم ولم يجد هو ما يعود به على أولاده ولا أولاده ما يعودون به عليه فبقوا جميعاً متحيرين عجزة لا حيلة بأيديهم، كذلك يبطل اللّه عمل هذا المنافق والمرائي حين لا مغيث لهما ولا توبة ولا إقالة. قال عبيد بن عمير  قال عمر رضي اللّه عنه يوماً لأصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم فيمن ترون هذه الآية نزلت { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب }؟ قالوا اللّه أعلم، فغضب عمر رضي اللّه عنه فقال قولوا نعلم أولا نعلم، فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر رضي اللّه عنه ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما ضربت مثلاً لعمل، فقال عمر رضي اللّه عنه أي عمل؟ فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما لعمل المرائي قال عمر رضي اللّه عنه لرجل غني يعمل بطاعة اللّه بعث اللّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله )). { كذلك يبين اللّه لكم الآيات لعلكم تتفكرون }

٢٦٧

{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات } من خيار، قال ابن مسعود رضي اللّه عنه، و مجاهد  من حلالات { ما كسبتم } بالتجارة والصناعة وفيه دلالة على إباحة الكسب وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي،

أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ،

أخبرنا أبو جعفر الرياني ،

أخبرنا حميد بن زنجويه ،

أخبرنا يعلى بن عبيد ،

أخبرنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي اللّه عنه قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه }.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ،

أخبرنا أبو منصور السمعاني ،

أخبرنا أبو جعفر الرياني ،

أخبرنا حميد بن زنجويه ،

أخبرنا عبد اللّه بن صالح ،

أخبرنا أبو معاوية بن صالح عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب أنه حدثه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال { ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وكان داود لا يأكل إلا من عمل يديه }.

أخبرنا أبو القاسم يحيى بن علي بن محمد الكشميهني ،

أخبرنا نجاح بن يزيد المحاربي بالكوفة،

أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني ،

أخبرنا أحمد بن حازم ،

أخبرنا يحيى بن عبيد ،

أخبرنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنهما، قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { لايكتسب عبد مالاً حراماً فيتصدق منه فيقبل اللّه منه، ولا ينفق منه فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن اللّه لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث }.

والزكاة واجبة في مال التجارة عند أكثر أهل العلم، فبعد الحول يقوم العرض فيخرج من قيمتها ربع العشر إذا كان قيمتها عشرين ديناراً أو مائتي درهم، قال سمرة بن جندب  كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع. وعن أبي عمرو بن حماس أن أباه قال مررت بعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه وعلى عنقى أدمة أحملها فقال عمر ألا تؤدي زكاتك يا حماس؟ فقلت ما لي غير هذا وأهب في القرظ، فقال ذاك مال، فضع، فوضعتها فحسبها فأخذ منها الزكاة.

قوله تعالى { ومما أخرجنا لكم من الأرض } قيل هذا بإخراج العشور من الثمار والحبوب واتفق أهل العلم على إيجاب العشر في النخيل والكروم وفيما يقتات من الحبوب إن كان مسقياً بماء السماء أو من نهر يجري الماء إليه من غير مؤنة، وإن كان مسقياً بساقية أو بنضج ففيه نصف العشر.

أخبرنا عبد الواحد المليحي ،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي ،

أخبرنا محمد بن يوسف ،

أخبرنا محمد بن اسماعيل ،

أخبرنا سعيد بن أبي مريم ،

أخبرنا عبد اللّه بن وهب ، أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد اللّه عن أبيه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم { فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وفيما سقى بالنضج نصف العشر }.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ،

أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ،

أخبرنا أبو العباس الأصم

أخبرنا الربيع ،

أخبرنا الشافعي ،

أخبرنا عبد اللّه بن نافع عن محمد بن صالح التمار عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في زكاة الكرم { يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدى زكاته زبيباً كما يؤدى زكاة النخل تمراً }.

واختلف أهل العلم فيما سوى النخل والكروم، وفيما سوى ما يقتات به من الحبوب، فذهب قوم إلى أنه لا عشر في شيء منها، وهو قول ابن أبي ليلى و الشافعي رضي اللّه عنه. وقال الزهري و الأوزاعي و مالك رضي اللّه عنهم يجب في الزيتون، وقال أبو حنيفة رضي اللّه عنه يجب العشر في جميع البقول والخضراوات كالثمار إلا الحشيش والحطب، وكل حب أوجبنا فيه العشر فوقت وجوبه اشتداد الحب ووقت الإخراج بعد الدياسة والتنقية، ولا يجب العشر في شيء منها تبلغ خمسة أوسق عند أكثر أهل العلم، وعند أبي حنيفة رحمه اللّه يجب في كل قليل وكثير منها، واحتج من شرط النصاب بما

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ،

أخبرنا زاهر بن أحمد ،

أخبرنا أبو اسحاق الهاشمي ،

أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن محمد بن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة }. وروى يحيى بن عبادة عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { ليس في حب ولا تمر صدقة حتى تبلغ خمسة أوسق }، وقال قوم الآية في صدقات التطوع.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ،

أخبرنا أبو منصور السمعاني

أخبرنا أبو جعفر الرياني ،

أخبرنا حميد بن زنجويه ،

أخبرنا يحيى بن يحيى

أخبرنا أبو عوانه عن قتادة عن أنس بن مالك رضي اللّه عنهم قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { ما من مؤمن يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة }.

قوله تعالى { ولا تيمموا } قرأ ابن كثير برواية البزي بتشديد التاء في الوصل فيها وفي أخواتها وهي واحد وثلاثون موضعاً في القرآن، لأنه في الأصل تاءان اسقطت احداهما فرد هو الساقطة وأدغم وقرأ الآخرون بالتخفيف ومعناه لا تقصدوا { الخبيث منه تنفقون }. روي عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال كانت الأنصار تخرج إذا كان جذاذ النخل أقناء من التمر والبسر فيعلقونه على حبل بين السطوانتين في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيأكل منه فقراء المهاجرين، فكان الرجل منهم يعمد فيدخل قنو الحشف وهو يظن أنه جائز عنه في كثرة ما يوضع من الأقناء، فنزل فيمن فعل ذلك { ولا تيمموا الخبيث } أي الحشف والرديء، وقال الحسن و مجاهد و الضحاك  كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم ويعزلون الجيد ناحية لأنفسهم،

فأنزل اللّه تعالى { ولا تيمموا الخبيث } الرديء { منه تنفقون } { ولستم بآخذيه } يعني الخبيث

{ إلا أن تغمضوا فيه } الإغماض غض البصر، وأراد هاهنا التجوز والمساهلة، معناه لو كان لأحدكم على رجل حق فجاءه بهذا لم يأخذه إلا وهو يرى أنه قد أغمض له عن حقه وتركه. وقال الحسن و قتادة ك لو وجدتموه يباع في السوق ما أخذتموه بسعر الجيد. وروي عن البراء قال لو أهدي ذلك لكم ما أخذتموه إلا على استحياء من صاحبه وغيظ، فكيف ترضون مالا ترضون لأنفسكم؟ هذا إذا كان المال كله جيداً فليس لع إعطاء الرديء، لأن أهل السهمان شركاؤه فيما عنده، فإن كان كل ماله رديئاً فلا بأس بإعطاء الرديء، { واعلموا أن اللّه غني } عن صدقاتكم { حميد } محمود في أفعاله.

٢٦٨

{ الشيطان يعدكم الفقر } أي يخوفكم بالفقر ، يقال وعدته خيراً ووعدته شراً ، قال اللّه تعالى في الخير { وعدكم اللّه مغانم كثيرة } ( ٢٠- الفتح ) وقال في الشر { النار وعدها اللّه الذين كفروا } ( ٧٢- الحج ) فإذا لم يذكر الخير والشر قلت في الخير  وعدته وفي الشر  أوعدته ، والفقر سوء الحال وقلة ذات اليد ، وأصله من كسر الفقار ، ومعنى الآية  أن الشيطان يخوفكم بالفقر ويقول للرجل أمسك عليك مالك فإنك إذا تصدقت به افتقرت { ويأمركم بالفحشاء } أي بالبخل ومنع الزكاة ،

وقال الكلبي  كل الفحشاء في القرآن فهو الزنا إلا هذا { واللّه يعدكم مغفرة منه } أي لذنوبكم { فضلاً } أي رزقاً وخلفاً { واللّه واسع } غني { عليم } .

أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ،

أخبرنا أبو طاهر الزيادي

أخبرنا محمد بن الحسين القطان

أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي

أخبرنا عبد الرزاق

أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال  حدثنا أبو هريرة رضي اللّه عنه قال  قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { إن اللّه تعالى يقول  ابن آدم أنفق أنفق عليك } وقال  قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  { يمين اللّه ملأى لا تغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فأنه لم ينقص ما في يمينه (قال) وعرشه على الماء وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض } .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي ،

أخبرنا محمد بن يوسف ،

أخبرنا محمد بن إسماعيل ،

أخبرنا عبيد اللّه بن سعيد

أخبرنا عبد اللّه بن نمير

أخبرنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لها  { أنفقي ولا تحصي فيحصي اللّه عليك ولا توعي فيوعي اللّه عليك } .

٢٦٩

قوله تعالى { يؤتي الحكمة من يشاء }

قال السدي  هي النبوة، وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما و قتادة  علم القرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله،

وقال الضحاك  القرآن والفهم فيه، وقال في القرآن مائة وتسع آيات ناسخة ومنسوخة وألف آية حلال وحرام، لا يسع المؤمنين تركهن حتى يتعلموهن، ولا تكونوا كأهل نهروان تأولوا آيات من القرآن في أهل القبلة وإنما أنزلت في أهل الكتاب جهلوا علمها فسفكوا بها الدماء وانتهبوا الأموال وشهدوا علينا بالضلالة، فعليكم بعلم القرآن فإنه من علم فيم أنزل اللّه لم يختلف في شيء منه.

وقال مجاهد  هي القرآن والعلم والفقه، وروى ابن أبي نجيح عنه الإصابة في القول والفعل، وقال إبراهيم النخعي  معرفة معاني الأشياء وفهمها. { ومن يؤت الحكمة } من في محل الرفع على ما لم يسم فاعله، والحكمة خبره، وقرأ يعقوب - يؤت الحكمة - بكسر التاء أي من يؤته اللّه الحكمة، دليله قراءة الأعمش ، ومن يؤته اللّه، حكي عن الحسن { ومن يؤت الحكمة } قال الورع في دين اللّه { فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر } يتعظ { إلا أولو الألباب } ذوو العقول.

٢٧٠

قوله تعالى { وما أنفقتم من نفقة } فيما فرض اللّه عليكم { أو نذرتم من نذر } أي ما أوجبتموه [أنتم] على أنفسكم في طاعة اللّه فوفيتم به { فإن اللّه يعلمه } يحفظه حتى يجازيكم به، وإنما قال يعلمه، ولم يقل يعلمها لأنه رده إلى الآخر منهما ك

قوله تعالى { ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً } (١١٢-النساء)، وإن شئت حملته على ((ما)) كقوله { وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به } (٢٣١-البقرة) ولم يقل بهما { وما للظالمين } الواضعين الصدقة في غير موضعها بالرياء أو يتصدقون من الحرام { من أنصار } من أعوان يدفعون عذاب اللّه عنهم، وهي جمع نصير، مثل شريف وأشراف.

٢٧١

قوله تعالى { إن تبدوا الصدقات } أي تظهروها { فنعما هي} أي  نعمت الخصلة هي و((ما)) في محل الرفع (( وهي )) في محل النصب كما تقول نعم الرجل رجلاً ، فأذا عرفت رفعت،

فقلت  نعم الرجل زيد، وأصله نعم ما فوصلت ، قرأ أ هل المدينة غير ورش وأبوعمرو وابو بكر فنعما بكسرالنون وسكون العين، وقرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي بفتح النون وكسر العين ، وقرأ ابن كثير ونافع برواية ورش يعقوب وحفص بكسرهما، وكلها لغات صحيحة وكذلك في سورة النساء. { وإن تخفوها } تسروها { وتؤتوها الفقراء } أي تؤتوها الفقراء في السر { فهو خير لكم } وأفضل، وكل مقبول إذا كانت النية صادقة ، ولكن صدقه السر أفضل، وفي الحديث {صدقة السر تطفئ غضب الرب}

أخبرنا أبو الحسن السرخي،

أخبرنا زاهر بن أحمد،

أخبرنا ابو اسحق الهاشمي،

اخبرنا أبو مصعب عن مالك عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد الخدري أوعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال  رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لاظل إلا ظله إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة اللّه تعالى ورجل قلبه معلق بالالمسجد إذا خرج منه حتى يعود اليه ، ورجلان تحابا في اللّه اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ، ورجل ذكر اللّه خالياً ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف اللّه ، ورجل تصدق بصدقةفأخفاها حتى لاتعلم شماله ماتنفق يمينه }.

وقيل الآية في صدقه التطوع، أماالزكاة المفروضة فإلاظهار فيها أفضل حتى يقتدي به الناس، كالصلاة المكتوبة في الجماعة أفضل ،والنافلة في البيت [أفضل ]

وقيل الآية في الزكاة المفروضة كان الأحفاء فيها خيراً على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أما في زماننا فالأظهار أفضل حتى لا يساء به الظن .

قوله تعالى  { نكفر عنكم سيئاتكم } قرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر بالنون ورفع الراء أي ونحن نكفر، وقرأ أبن عامر وحفص بالياء ورفع الراء أي ويكفر اللّه ، وقرأ أهل المدينة و حمزة و الكسائي بالنون والجزم نسقاً على الفاء التي في قوله ((فهو خير لكم)) لأن موضعها جزم بالجزاء ، وقوله من سيائتكم، قيل((من )) صلة، تقديره نكفر عنكم سيئاتكم ،

وقيل هو للتحقيق والتبعيض، يعني  الصغائر من الذنوب، {واللّه بما تعملون خبير }.

٢٧٢

{ ليس عليك هداهم } قال الكلبي سبب نزول هذه الآيه أن ناساً من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار في اليهود وكانو ينفقون عليهم قبل أن يسلموا فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم وأردوهم على أن يسلموا ،وقال سعيد بن جبير  كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة ، فلما كثر فقرلء المسلمين ، نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن التصدق على المشركين كي تحملهم الحاجة على الدخول في الأسلام فنزل قوله { ليس عليك هداهم } فتمنعهم الصدقة ليدخلوا الأسلام حاجة منهم إليها، { ولكن اللّه يهدي من يشاء} وأراد به هداية التوفيق، أما هدىالبيان والدعوة فكان إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأعطوهم بعد نزول الآية .

{ وما تنفقوا من خير } أي مال { فلأنفسكم } أي تعملونه لأنفسكم { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه اللّه } وماجحد، لفظه نفي ومعناه نهي ، أي لاتنفقوا إلا ابتغاء وجه اللّه { وما تنفقوا من خير } شرط كألاول ولذلك حذف النون منهما { يوف إليكم } أي يوفر لكم جزاؤه ، ومعناه  يؤدي إليكم ، ولذلك أدخل فيه إلا { وأنتم لا تظلمون } لاتنقصون من ثواب شيئاً، وهذا في صدقة التطوع، أباح اللّه تعالى أن توضع في أهل الإسلام وأهل الذمة، فإما الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها إلا في المسلمين وهم أهل السهمان المذكورون في سورة التوبة.

٢٧٣

قوله تعالى { للفقراء الذين أحصروا في سبيل اللّه } اختلفوا في موضع هذه اللام  قيل هي مرودة على موضع اللام من قوله (( فلأنفسكم )) كأنه قال  وما تنفقوا من خير فللفقراء ، وانما تنفقون لآنفسكم ،

وقيل  معناه الصدقات التى سبق ذكرها ،

وقيل خبره محذوف تقديره  للفقراء الذين صفتهم كذا حق واجب ، وهم فقراء المهاجرين ، كانو نحواً من أربعمائه رجل ، لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولاعشائر ، وكانو في المسجد يتعلمون القرءنويرضخون النوى بالنهار ، وكانو يخرجون في كل سرية يبعثها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهم أصحاب الصفة فحث اللّه تعالى عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به أذا أمسى . { الذين أحصروا في سبيل اللّه } فيه أقاويل ، قال قتادة _وهو أولاها _ حسبوا أنفسهم على الجهاد في سبيل اللّه { لا يستطيعون ضربا في الأرض } لايتفرغون للتجارة وطلب المعا ش وهم أهل الصفة الذين ذكرناهم ،

وقيل  حسبوا أنفسهم على طاعة اللّه

وقيل  معناه حسبهم الفقر والعدم عن الجهاد في سبيل اللّه ، وقال سعيد بن جبير قوم أصابتهم جراحات مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الجهاد في سبيل اللّه فصاروا زمني ، أحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في سبيل اللّه للجهاد وقال ابن زيد  معناه  من كثرة ما جاهدوا صارت الأرض كلها حرباً عليهم فلا يستطيعون ضرباً في الأرض من كثرة أعدائهم ، { يحسبهم } قرأ أبو جعفر وابن عاصم وحمزة  يحسبهم وبابه بفتح السين وقرأ الآخرون بالكسر . {الجاهل } بحالهم { أغنياء من التعفف } أي من السؤال وقناعتهم يظن من لايعرف حالهم أنهم أغنياء والتعفف التفعل من العفة وهي الترك يقال عف عن الشىء إذا تكلف في الأمساك. { تعرفهم بسيماهم } السيماء والسيمياء والسمنة  العلامة التي يعرف بها الشىء

واختلفوا في معناها هاهنا فقال مجاهد هو التخشع والتواضع و

قال السدي  أثر الجهد من الحاجة والفقر ،

وقال الضحاك  صفرة ألوانهم من الجوع والضر

وقيل رثاثة ثيابهم ، { لا يسألون الناس إلحافا } قال عطاء  إذا كان عندهم غداء لايسألون عشاء لايسألون غداء ،

وقيل  لايسألون الناس إلحافاً أصلاً لأنه قال  من التعفف ، والتعفف ترك السؤال ، ولأنه قال تعرفهم بسيماهم ، ولو كانت المسألة من شأنهم لما كانت إلى معرفتهم بالعلامة من حاجة ، فمعنى الآية ليس لهم سؤال فيقع فيه إلحاف ، والألحاف  الإلحاح واللجاج .

أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري ،

أخبرنا أبو سعيد محمد بن أبراهيم بن الإسماعيلي ،

أخبرنا محمد بن يعقوب

أخبرنا محمد بن عبداللّه بن عبد الحكم

أخبرنا أنس بن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير قال  قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم{ لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيأتي بحزمة حطب غلى ظهره فيكف اللّه بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أشياءهم أعطوه أو منعوه}

أخبرنا أبو الحسن السرخسي

أخبرنا زاهر بن أحمد

أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي

أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس ، ترده اللقمه واللقمتان والتمر والتمرتان. قالوا  فمن المسكين يا رسول اللّه ؟ قال الذي لا يجد غنى فيغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولايقوم فيسأل الناس } .

وروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال { من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافأً } .

أخبرنا أبو سعيد عبد اللّه بن أحمد الطاهري

أخبرنا جدي ابو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ،

أخبرنا محمد بن زكريا بن عدافر ،

أخبرنا إسحاق بن أبرهيم بن عباد الدبري ،

أخبرنا عبد الرزاق ،

أخبرنا معمر عن هارون بن رياب ، عن كنانة العدوي قبيصة بن مخارق قال  {إني تحملت بحمالة في قومي فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقلت يا رسوا اللّه إني تحملت بحمالة في قومي وأتيتك لتعينني فيها قال بل نتحملها عنك يا قبيصة ونؤديها إليهم من الصدقة ثم قال  يا قبيصة إن المسألة حرمت إلا في إحدى ثلاث  في رجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فيسأل حتى يصيب قواماً من عيشه ثم يمسك ، وفي رجل أصابته حاجة حتى يشهد له ثلاثة نفر من ذوي الحجى من قومه وأن المسألة قد حلت له فيسأل حتى يصيب القوام من العيش ثم يمسك، وفي رجل تحمل بحمالة فيسأل حتى إذا بلغ أمسك ، وما كان غير ذلك فأنه سحت يأكله صاحبه سحتاً}.

أخبرنا أبوعثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ،

أخبرنا أبو عبد الجبار بن محمد الجراحي

أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ،

أخبرنا أبو عيسى محمد بنى عيسى الترمذي ،

أخبرنا قتيبة ،

أخبرنا شريك عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال  رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أوخدوش أو كدوح قيل يا رسول اللّه وما يغنيه؟ قال خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب }.

قوله تعالى { وما تنفقوا من خير } من مال { فإن اللّه به عليم } وعليه مجاز

٢٧٤

{ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية } روي عن مجاهد عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه كانت عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً وبدرهم علانية.وعن الضحاك عن عباس رضي اللّه عنهم قال لما نزلت { للفقراء الذين أحصروا في سبيل اللّه } بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة إلى أصحاب الصفة وبعث على بن أبي طالب رضي اللّه عنه في جوف الليل بوسق من تمر

فأنزل اللّه تعالى فيهما { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار } الآية عنى بالنهار علانية  صدقة عبد الرحمن بن عوف ، وبالليل سراً  صدقة على رضي اللّه عنه وقال أبو الدرداء و مكحول و الأوزاعي  نزلت في الذين يرتبطون الخيل للجهاد فإنها تعلف ليلاً ونهاراً سراً وعلانية .

أخبرنا عبد الواحد المليحي بن أحمد المليحي ،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف ،

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا ابن المبارك

أخبرنا طلحة بن أبي سعيد قال  

أخبرنا محمد بن إسماعيل ،

أخبرنا علي بن حفص ،

أخبرنا ابن المبارك ،

أخبرنا طلحة بن أبي سعيد قال  سمعت سعيداً المقبري يحدث أنه سمع أبا هريرة رضي اللّه عنه يقول  قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {من احتبس فرساً في سبيل اللّه إيماناً باللّه وتصديقاً بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة}

قوله تعالى  { فلهم أجرهم عند ربهم } قال الأخفش  جعل الخبر بالفاء، لأن (( الذين )) بمعنى (( من )) وجواب من بالفاء بالجزاء، أو معنى الآية من أنفق كذا فله أجره عند ربه { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }.

٢٧٥

قوله تعالى { الذين يأكلون الربا } أي يعاملون به، وإنما خص الأكل لأنه معظم المقصود من المال { لا يقومون } يعني يوم القيامة من قبورهم { إلا كما يقوم الذي يتخبطه } أي يصرعه { الشيطان } أصل الخبط الضرب والوطء، وهو ضرب على غير استواء يقال ناقة خبوط للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائمها { من المس } أي الجنون يقال مس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنوناً، ومعناه أن آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كمثل المضروع.

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم السرخسي ،

أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ،

أخبرنا عبد اللّه بن حامد ،

أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف ،

أخبرنا عبد اللّه بن يحيى ،

أخبرنا يعقوب بن سفيان

أخبرنا إسماعيل بن سالم ،

أخبرنا عباد بن عباد عن أبي هارون العبدي عن أبي سغيد الخدري رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قصة الإسراء قال { فانطلق بي جبريل عليه السلام إلى رجال كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم منضدين على سابلة آل فرعون - وآل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً - قال فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون، فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا، فتميل بهم بطونهم فيصرعون، ثم يقوم أحدهم فيميل أحدهم فيميل به بطنه فيصرع، فلا يستطيعون أن يبرحوا حتى يغشاهم آل فرعون فيردوهم مقبلين ومدبرين، فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة (قال) وآل فرعون يقولون اللّهم لا تقم الساعة أبداً (قال) ويوم القيامة يقال } أدخلوا آل فرعون أشد العذاب { (٤٦-غافر) قلت يا جبريل من هم هؤلاء؟ قال هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس }.

قوله تعالى { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } أي ذلك الذي نزل بهم لقولهم هذا واستحلالهم إياه، وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه فطالبه به فيقوم به فيقول الغريم لصاحب الحق زدني في الأجل حتى أزيدك في المال، فيفعلان ذلك، ويقولون سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أوعند المحل لأجل التأخير فكذبهم اللّه تعالى وقال

{ وأحل اللّه البيع وحرم الربا } واعلم أن الربا في اللغة الزيادة قال اللّه تعالى { وما آتيتم من رباً ليربو في أموال الناس } أي ليكثر { فلا يربو عند اللّه } (٣٩-الروم) وطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام في الجملة، إنما المحرم زيادة على صفة مخصوصة في مال مخصوص بينه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ،

أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ،

أخبرنا أبو العباس الأصم ،

أخبرنا الربيع ،

أخبرنا الشافعي ،

أخبرنا عبد الوهاب عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار ورجل آخر عن عبادة بن الصامت رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء، عيناً بعين، يداً بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر يداً بيد كيف شئتم - ونقص أحدهم الملح أو التمر وزاد أحدهما من زاد وازداد فقد أربى }.

روي هذا الحديث من طرق محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار و عبد اللّه بن عتيك عن عبادة فالنبي صلى اللّه عليه وسلم نص على ستة أشياء. وذهب عامة أهل العلم إلى أن حكم الربا يثبت في هذه الأشياء الست بالأوصاف فيها فيتعدى إلى كل مال توجد فيه تلك الأوصاف، ثم اختلفوا في تلك الأوصاف، فذهب قوم إلى أن المعنى في جميعها واحد وهو النفع وأثبتوا الربا في جميع الأموال، وذهب الأكثرون إلى أن الربا يثبت في الدراهم والدنانير بوصف وفي الأشياء المطعومة بوصف آخر،

واختلفوا في ذلك الوصف فقال قوم ثبت في الدراهم والدنانير بوصف، النقدية، وهو قول مالك و الشافعي ، وقال قوم ثبت بعلة الوزن وهو قول أصحاب الرأي وأثبتوا الربا في جميع الموزونات مثل الحديد والنحاس والقطن ونحوها. وأما الأشياء الأربعة فذهب قوم إلى أن الربا ثبت فيها بعلة الكيل وهو قول أصحاب الرأي، وأثبتوا الربا في جميع المكيلات مطعوماً كان أو غير مطعوم كالجص والنورة ونحوها، وذهب جماعة إلى أن العلة فيها الطعم مع الكيل والوزن، فكل مطعوم وهو مكيل أو موزون يثبت فيه الربا، ولا يثبت فيما ليس بمكيل ولا موزون، وهو قول سعيد بن المسيب ،

وقاله الشافعي رحمه اللّه في القديم، وقال في الجديد يثبت فيها الربا بوصف الطعم، وأثبت الربا في جميع الأشياء المطعومة من الثمار والفواكه والبقول والأدوية مكيلة كانت أو موزونة لما روي عن معمر بن عبد اللّه قال كنت أسمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول { الطعام بالطعام مثلاً بمثل }.

 فجملة مال الربا عند الشافعي ما كان ثمناً أو مطعوماً، والربا نوعان ربا الفضل وربا النساء، فإذا باع مال الربا بجنسه مثلاً بمثل بأن باع أحد النقدين بجنسه أو باع مطعوماً بجنسه كالحنطة بالحنطة ونحوها يثبت فيه كلا نوعي الربا حتى لا يجوز إلا متساويين في معيار الشرع، فإن كان موزوناً كالدراهم والدنانير فيشترط المساواة في الوزن، وإن كان مكيلاً كالحنطة بالحنطة ونحوها والدنانير فيشترط المساواة في الوزن، وإن كان مكيلاً كالحنطة والشعير بيع بجنسه، فيشترط المساواة في الكيل ويشترط التقابض في مجلس العقد، وإذا باع مال الربا بغير جنسه نظر إن باع بما لا يوافقه في وصف الربا مثل أن باع الدراهم بالدنانير أو باع الحنطة بالشعير أو باع مطعوماً بمطعوم آخر من غير جنسه فلا يثبت فيه ربا الفضل حتى يجوز متفاضلاً أو جزافاً ويثبت فيه ربا النساء حتى يشترط التقابض في المجلس، وقول النبي صلى اللّه عليه وسلم { لا تبيعوا الذهب بالذهب - إلى أن قال - إلا سواء بسواء } فيه إيجاب المماثلة وتحريم الفضل عند اتفاق الجنس، وقوله (( عيناً بعين )) فيه تحريم النساء، وقوله يداً بيد كيف شئتم فيه إطلاق التفاضل عند اختلاف الجنس مع إيجاب التقابض في المجلس، هذا في ربا المبايعة. ومن أقرض شيئاً بشرط أن يرد عليه أفضل فهو قرض جر منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا.

قوله تعالى { فمن جاءه موعظة من ربه } تذكير وتخويف، وإنما ذكر الفعل رداً إلى الوعظ { فانتهى } عن أكل الربا { فله ما سلف } أي ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له { وأمره إلى اللّه } بعد النهي إن شاء عصمه حتى يثبت على الإنتهاء، وإن شاء خذله حتى يعود،

وقيل { أمره إلى اللّه } فيما يامره وينهاه ويحل له وحرم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء { ومن عاد } بعد التحريم إلى أكل الربا مستحلاً له { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }.

أخبرنا عبد الواحد المليحي ،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي ،

أخبرنا محمد بن يوسف ،

أخبرنا محمد بن المثنى حدثني غندر،

أخبرنا شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه أنه قال إن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي، ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ،

أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ،

أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي

أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ،

أخبرنا مسلم بن الحجاج ،

أخبرنا زهير بن حرب ،

أخبرنا هشيم

أخبرنا أبو الزبير عن جابر رضي اللّه عنه قال { لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال هم سواء}.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ،

أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو محمد المخلدي ، أنا أبو حامد بن الشرقي

أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي ،

أخبرنا النضر بن محمد ،

أخبرنا عكرمة بن عمار ،

أخبرنا يحيى هو ابن أبي كثير قال حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { الربا سبعون باباً أهونها عند اللّه عز وجل كالذي ينكح أمه }.

٢٧٦

قوله تعالى { يمحق اللّه الربا } أي ينقصه ويهلكه ويذهب ببركته، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما { يمحق اللّه الربا } يعني لا يقبل منه صدقة ولا جهاداً ولا حجاً ولا صلة { ويربي الصدقات } أي يثمرها ويبارك فيها في الدنيا، ويضاعف بها الأجر والثواب في العقبى { واللّه لا يحب كل كفار } بتحريم الربا { أثيم } فاجر بأكله.

٢٧٧

{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }.

٢٧٨

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وذروا ما بقي من الربا } قال عطاء و عكرمة  نزلت في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان رضي اللّه عنهما وكانا قد أسلفا في التمر فلما حضر الجذاذ قال لهما صاحب التمر إن أنتما أخذتما حقكما لا يبقى لي ما يكفي عيالي فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف وأضعف لكما؟ ففعلا، فلما حل الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنهاهما

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما. و

قال السدي  نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير، ناس من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع في خطبته يوم عرفة { ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوعة كلها، وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنها موضوعة كلها }. و

قال مقاتل  نزلت في أربعة إخوة من ثقيف، مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، كانوا يداينون بني المغيرة بن عبد اللّه بن عمير بن مخزوم وكانوا يربون فلما ظهر النبي صلى اللّه عليه وسلم على الطائف أسلم هؤلاء الإخوة فطلبوا رباهم من بني المغيرة، فقال بنو المغيرة واللّه ما نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه اللّه تعالى عن المؤمنين، فاختصموا إلى عتاب بن أسيد وكان عامل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عاى مكة فكتب عتاب بن أسيد إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بقصة الفريقين وكان ذلك مالا عظيماً

فأنزل اللّه تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وذروا ما بقي من الربا }. { إن كنتم مؤمنين }

٢٧٩

{ فإن لم تفعلوا } أي إذا لم تذروا ما بقي من الربا { فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله } قرأ حمزة و عاصم برواية أبي بكر فآذنوا بالمد على وزن آمنوا، أي فأعلموا غيركم أنكم حرب للّه ورسوله، وأصله من الأذن أي أوقعوا في الآذان، وقرأ الآخرون فأذنوا مقصوراً بفتح الذال أي فاعلموا أنتم وأيقنوا بحرب من اللّه ورسوله، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما

يقال لآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب، قال أهل المعاني حرب اللّه النار وحرب رسول اللّه السيف. { وإن تبتم } إن تركتم استحلال الربا ورجعتم عنه { فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون } بطلب الزيادة { ولا تظلمون } بالنقصان عن رأس المال فلما نزلت الآية قال بنو عمرو الثقفي ومن كان يعامل بالربا من غيرهم بل نتوب إلى اللّه، فإنه لا يدان لنا بحرب اللّه ورسوله، فرضوا برأس المال، فشكا بنو المغيرة العسرة وقالوا أخرونا إلى أن تدرك الغلات فأبوا أن يؤخروا

٢٨٠

فأنزل اللّه تعالى { وإن كان ذو عسرة } يعني وإن كان الذي عليه الدين معسراً، رفع الكلام باسم كان ولم يأت لها بخبر وذلك جائز في النكرة، تقول، إن كان رجل صالح فأكرمه،

وقيل (( كان )) بمعنى وقع، وحينئذ لا يحتاج إلى خبر، قرأ أبو جعفر عسرة بضم السين { فنظرة } أمر في صيغة الخبر تقديره فعليه نظرة { إلى ميسرة } قرأ نافع ميسرة بضم السين وقرأ الآخرون بفتحها وقرأ الآخرون بفتحها وقرأ مجاهد ميسرة بضم السين مضافاً ومعناها اليسار والسعة { وأن تصدقوا } أي تتركوا رؤوس أموالكم إلى المعسر { خير لكم إن كنتم تعلمون } قرأ عاصم تصدقوا بتخفيف الصاد والآخرون بتشديدها.

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ،

أخبرنا أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان ،

أخبرنا أبو العباس إسماعيل بن عبد اللّه الميكالي ،

أخبرنا عبد اللّه بن أحمد بن موسى بن عبدان الحافظ ،

أخبرنا أبو طاهر أحمد بن عمرو بن السرح ،

أخبرنا ابن وهب عن جرير عن حازم عن أيوب عن يحيى ابن أبي كثير عن عبد اللّه بن أبي قتادة عن أبيه أنه كان يطلب رجلاً بحق فاختبا منه فقال ما حملك على ذلك قال العسرة، فاستحلفه على ذلك فحلف فدعا بصكه فأعطاه إياه وقال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول { من أنظر معسراً أو وضع عنه أنجاه اللّه من كرب يوم القيامة }.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ،

أخبرنا أبو منصور محمد بن سمعان

أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ،

أخبرنا حميد بن زنجويه ،

أخبرنا عبيد اله بن موسى ،

أخبرنا إسرائيل عن منصور عن ربعي عن أبي مسعود رضي اللّه عنه قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم { إن الملائكة لتلقت روح رجل كان قبلكم فقالوا هل عملت خيراً قط؟ قال لا، قالوا  تذكر، قال لا إلا أني رجل كنت أداين الناس فكنت آمر فتياني أن ينظروا الموسر ويتجاوزا عن المعسر، قال اللّه تبارك وتعالى تجاوزوا عنه }.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ،

أخبرنا أبو منصور السمعاني

أخبرنا أبو جعفر الرياني ،

أخبرنا حميد بن زنجويه ،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه ،

أخبرنا زائدة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن أبي اليسر قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول { من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله }.

فصل في الدين وحسن قضائه وتشديد أمره

أخبرنا عبد الواحد المليحي ،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي ،

أخبرنا محمد بن يوسف ،

أخبرنا محمد بن إسماعيل

أخبرنا أبو الوليد ،

أخبرنا شعبة،

أخبرنا سلمة بن كهيل قال سمعت أبا سلمة بمنى يحدث عن أبي هريرة رضي اللّه عنه{ أن رجلاً تقاضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأغلظ له فهم أصحابه فقال دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً، واشتروا له بعيراً فأعطوه إياه ، قالوا لا نجد إلا أفضل من سنه قال اشتروه فأعطوه إياه فإن خياركم أحسنكم قضاء }.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي

أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي ،

أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ،

أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على ملأ فليتبعه }.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ،

أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ،

أخبرنا أبو العباس الأصم ،

أخبرنا الربيع ،

أخبرنا الشافعي ،

أخبرنا إبراهيم بن سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه }.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ،

أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي ،

أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ،

أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد اللّه بن قتادة الأنصاري عن أبيه أنه قال { جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يارسول اللّه أرأيت إن قتلت في سبيل اللّه صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، يكفر اللّه عن خطاياي؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نعم فلما أدبر ناداه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو أمر به فنودي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كيف قلت؟ فأعاد عليه قوله، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نعم إلا الدين كذلك قال جبريل}.

٢٨١

قوله تعالى { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى اللّه } قرأ أهل البصرة بفتح التاء أي تصبرون إلى اللّه، وقرأ الآخرون بضم التاء وفتح الجيم، أي تردون إلى اللّه تعالى { ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } قال ابن عباس رضي اللّه عنهما هذه آخر آية نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال له جبريل عليه السلام ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة وعاش بعدها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واحداً وعشرين يوماً، وقال ابن جريج  تسع ليال، وقال سعيد بن جبير  سبع ليال، ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول حين زاغت الشمس سنة إحدى عشرة من الهجرة، قال الشعبي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما آخر آية نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آية الربا.

٢٨٢

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى } قال ابن عباس رضي اللّه عنهما لما حرم اللّه الربا أباح السلم وقال أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله اللّه تعالى في كتابه وأذن فيه فيه ثم قال { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه }. قوله { إذا تداينتم } أي تعاملتم بالدين، يقال داينته إذا عاملته بالدين وإنما قال { بدين } بعد قوله تداينتم لأن المداينة قد تكون مجازاة وتكون معاطاة ففقيده بالدين ليعرف المراد من اللفظ،

وقيل ذكره تأكيداً ك

قوله تعالى { ولا طائر يطير بجناحيه } (٣٨-الأنعام) { إلى أجل مسمى } الأجل مدة معلومة الأول والآخر، والأجل يلزم في الثمن في البيع وفي السلم حتى لا يكون لصاحب الحق الطلب قيل محله، وفي القرض لا يلزم الأجل عن أكثر أهل العلم { فاكتبوه } أي اكتبوا الذي تداينتم به، بيعاً كان أو سلماً أو قرضاً.

واختلفوا في هذه الكتابة فقال بعضهم هي واجبة، والأكثرون على أنه أمر استحباب فإن أمر استحباب فإن ترك فلا بأس ك

قوله تعالى { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } (١٠-الجمعة) وقال بعضهم كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن فرضاً ثم نسخ الكل بقوله { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته } وهو قول الشعبي ثم بين كيفية الكتابة فقال جل ذكره { وليكتب بينكم } أي ليكتب كتاب الدين بين الطالب والمطلوب { كاتب بالعدل } أي بالحق من غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم أجل ولا تأخير { ولا يأب } أي لايمتنع { كاتب أن يكتب }

واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب وتحمل الشهادة على الشاهد فذهب قوم إلى وجوبها إذا طولب وهو قول مجاهد، وقال الحسن تجب إذا لم يكن كاتب غيره ، وقال قوم هو على الندب والاستحباب ، وقال الضحاك كانت عزيمة واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها

قوله تعالى { ولا يضار كاتب ولا شهيد } { كما علمه اللّه } أي كما شرعه اللّه وأمره { فليكتب وليملل الذي عليه الحق } يعني  المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه ، والأملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد جاء بهما القرآن ، فالإملال هاهنا ، والإملاء

قوله تعالى  فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً (٥ـالفرقان ) { وليتق اللّه ربه } يعني الملل { ولا يبخس منه شيئا } أي ولاينقص منه أي من الحق الذي عليه شيئاً . { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً } أي جاهلاً بلإملاء قاله مجاهد، وقال الضحاك و السدي طفلاً صغيراً ، وقال الشافعي رحمه اللّه السفيه  المبذر المفسد لماله أو في دينه. قوله { أو ضعيفا } أي شيخاً كبيراً

وقيل هو ضعيف العقل لعته أو جنون { أو لا يستطيع أن يمل هو } لخرس أو عي أو عجمه أو حبس أو غيبة لايمكنه حضور الكاتب أوجهل بما له وعليه { فليملل وليه } أي قيمة { بالعدل } أي بالصدق والحق ،

 وقال ابن عباس رضي اللّه عنه ومقاتل  أراد بالولي صاحب الحق ، يعني إن عجز من عليه الحق من ألاملال فليملل ولي الحق وصاحب الدين بالعدل لأنه أعلم بحقه { واستشهدوا } أي وأشهدوا { شهيدين } أي شاهدين { من رجالكم } يعني الأحرار المسلمين ، دون العبيد والصبيان والكفار ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد { فإن لم يكونا رجلين } أي لم يكن الشاهدان رجلين { فرجل وامرأتان } أي فليشهد رجل وامرأتان . وأجمع الفقهاء على أن شهادة النساء مع الرجال في الأموال حتى تثبت برجل وامرأتين

واختلفوا في غير الأموال فذهب جماعة إلى أنه تجوز شهادتين مع الرجال في غير العقوبات، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي، وذهب جماعة إلى أن غير المال لا يثبت إلا برجلين عدلين وذهب الشافعي رحمه اللّه إلى أن ما يطلع عليه النساء غالباً كالولادة والرضاع والثيوبة والبكارة ونحوها يثبت بشهادة رجل وامرأتين، وبشهادة أربع نسوة، واتفقوا على أن شهادة النساء غير جائزة في العقوبات.

قوله تعالى { ممن ترضون من الشهداء } يعني من كان مرضياً في ديانته وأمانته، وشرائط [قبول] الشهادة سبعة الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والروءة وانتفاء التهمة، فشهادة الكافر مردودة لأن المعروفين بالكذب عند الناس لا تجوز شهادتهم، فالذي يكذب على اللّه تعالى أولى أن يكون مردود الشهادة، وجوز أصحاب الرأي شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، ولا تقبل شهادة العبيد، وأجازها شريح و ابن سيرين وهو قول أنس بن مالك رضي اللّه عنه، ولا قول للمجنون حتى يكون له شهادة، ولا تجوز شهادة الصبيان سئل ابن عباس رضي اللّه عنهما عن ذلك؟ فقال لا تجوز، لأن اللّه تعالى يقول

{ ممن ترضون من الشهداء } والعدالة شرط، وهي أن يكون الشاهد مجتنباً للكبائر غير مصر على الصغائر، والمروءة شرط، وهي ما يتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء، وهي حسن الهيئة والسيرة والعشرة والصناعة، فإن كان الرجل يظهر من نفسه في شيء منها ما يستحي أمثاله من إظهاره في الأغلب يعلم به قلة مروءته وترد شهادته، وانتفاء التهمة شرط حتى لا تقبل شهادة العدو على العدو وإن كان مقبول الشهادة على غيره، لأنه متهم في حق عدوه، ولا تقبل شهادة الرجل لولده ووالده وإن كان مقبول الشهادة عليهما، ولا تقبل شهادة من يجر بشهادته إلى نفسه نفعاً، كالوارث يشهد على رجل بقتل مورثه، أو يدفع عن نفسه بشهادته ضرراً كالمشهود عليه كالمشهود عليه يشهد بجرح من يشهد عليه لتمكن التهمة في شهادته.

أخبرنا أبو عبد اللّه محمد بن الحسن المروزي ،

أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان

أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان ،

أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي ،

أخبرنا أبو عبيد القاسم ابن سلام

أخبرنا مروان الفزاري عن شيخ من أهل الحيرة يقال له يزيد بن زياد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي اللّه عنهما ترفعه (( لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في ولاء ولا قرابة ولا القانع مع أهل البيت )).

قوله تعالى { أن تضل إحداهما } قرأ حمزة إن تضل بكسر الألف { فتذكر } برفع الراء، ومعناه الجزاء والابتداء، وموضع تضل جزم بالجزاء إلا أنه لا يتبين في التضعيف ((فتذكر)) رفع لأن ما بعد فاء الجزاء مبتدأ، وقرأءة العامة بفتح الألف ونصب الراء على الاتصال بالكلام الأول، وتضل محله نصب بأن فتذكر منسوق عليه، ومعنى الآية

فرجل وامراتان كي تذكر { إحداهما الأخرى } ومعنى تضل أي تنسى، يريد إذا نسيت إحداهما شهادتها، تذكرها الأخرى فتقول ألسنا حضرنا مجلس كذا وسمعنا كذا؟ قرأ ابن كثير وأهل البصرة فتذكر مخففاً، وقرأ الباقون مشدداً، وذكر واذكر بمعنى واحد، وهما متعديان من الذكر الذي هو ضد النسيان، وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال هو من الذكر أي تجعل إحداهما الأخرى ذكراً أي تصير شهادتهما كشهادة ذكر، والأول أصح لأنه معطوف على النسيان.

قوله تعالى { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } قيل أراد به إذا ما دعوا لتحمل الشهادة، سماهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء وهو أمر إيجاب عند بعضهم، وقال قوم تجب الإجابة إذا لم يكن غيره فن وجد غيره (فهو مخير) وهو قول الحسن ، وقال قوم هو أمر ندب وهو مخير في جميع الأحوال، وقال بعضهم، هذا في إقامة الشهادة وأدائها فمعنى الآية

{ ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } لأداء الشهادة التي تحملوها، وهو قول مجاهد و عطاء و عكرمة و سعيد بن جبير ، وقال الشعبي  الشاهد بالخيار ما لم يشهد،

وقال الحسن  الآية في الأمرين جميعاً في التحمل والإقامة إذا كان فارغاً. { ولا تسأموا } أي ولا تملوا { أن تكتبوه } والهاء راجعة إلى الحق { صغيراً } كان الحق { أو كبيراً } قليلاً كان أو كثيراً { إلى أجله } إلى محل الحق { ذلكم } أي الكتاب { أقسط } أعدل { عند اللّه } لأنه أمر به، واتباع أمره أعدل من تركه { وأقوم للشهادة } لأن الكتابة تذكر الشهود { وأدنى } وأحرى وأقرب إلى { أن لا ترتابوا } تشكوا في الشهادة { إلا أن تكون تجارة حاضرة } قرأهما عاصم بالنصب على خبر كان وأضمر الاسم، مجازه إلا أن تكون التجارة تجارة (حاضرة)

أو المبايعة تجارة، وقرأ الباقون بالرفع وله وجهان أحدهما أن تجعل الكون بمعنى الوقوع معناه إلا أن تقع تجارة.

والثاني أن تجعل الاسم في التجارة والخبر في الفعل وهو قوله { تديرونها بينكم } تقديره إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم، ومعنى الآية إلا أن تكون تجارة حاضرة يداً بيد تديرونها بينكم ليس فيها أجل{ فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها } يعني التجارة { وأشهدوا إذا تبايعتم } قال الضحاك  هو عزم والإشهاد واجب في صغير الحق وكبيره نقداً أو نسيئاً، وقال أبو سعيد الخدري رضي اللّه عنه الأمر فيه إلى الأمانة ل

قوله تعالى { فإن أمن بعضكم بعضاً } الآية، وقال الآخرون هو أمر ندب.

قوله تعالى { ولا يضار كاتب ولا شهيد } هذا نهي للغائب، وأصله يضارر، فأدغمت إحدى الرائين في الأخرى ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين،

واختلفوا فيه فمنهم من قال أصله يضارر بكسر الراء الأولى، وجعل الفعل للكاتب والشهيد، معناه لا يضار الكاتب فيأبى أن يكتب ولا الشهيد فيأبى أن يشهد، ولا يضار الكاتب فيزيد أو ينقص أو يحرف ما أملي عليه ولا الشهيد فيشهد بما لم يستشهد عليه، وهذا قول طاووس و الحسن و قتادة ، وقال قوم أصله يضارر بفتح الراء على الفعل المجهول وجعلوا الكاتب والشهيد مفعولين ومعناه أن يدعو الرجل الكاتب أو الشاهد وهما على شغل مهم، فيقولان نحن على شغل مهم فاطلب غيرنا فيقول الداعي إن اللّه أمركما أن تجيبا ويلح عليهما فيشغلهما عن حاجتهما فنهي عن ذلك وأمر بطلب غيرهما { وإن تفعلوا } ما نهيتكم عنه من الضرر { فإنه فسوق بكم } أي معصية وخروج عن الأمر { واتقوا اللّه ويعلمكم اللّه واللّه بكل شيء عليم }

٢٨٣

{ وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة } قرأ ابن كثير و أبو عمرو فرهن بضم الهاء والراء، وقرأ الباقون فرهان، وهو جمع رهن مثل بغل وبغال وجبل وجبال، والرهن جمع الرهان جمع الجمع، قاله الفراء و الكسائي ، وقال أبو عبيد وغيره هو جمع الرهن أيضاً مثل سقف وسقف وقال أبو عمرو وإنما قرأنا فرهن ليكون فرقاً بينهما وبين رهان الخيل، وقرأ عكرمة فرهن بضم الراء وسكون الهاء، والتخفيف والتثقيل في الرهن لغتان مثل كتب وكتب ورسل ورسل ومعنى الآية وإن كنتم على سفر ولم تجدوا آلات الكتابة فارتهنوا ممن تداينونه رهوناً لتكون وثيقة لكم بأموالكم، واتفقوا على أن الرهن لا يتم إلا بالقبض، وقوله { فرهان مقبوضة } أي ارتهنوا واقبضوا حتى لو رهن ولم يسلم فلا يجبر الراهن على التسليم فإذا سلم لزم من جهة الراهن حتى لا يجوز له أن يسترجعه ما دام شيء من الحق باقياً، ويجوز في الحضر الرهن مع وجود الكاتب،

وقال مجاهد  لا يجوز الرهن إلا في السفر عند عدم الكاتب لظاهر الآية، وعند الآخرين خرج الكلام في الآية على الأعم الأغلب لا على سبيل الشرط. والدليل عليه ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي ولم يكن ذلك في السفر ولا عند عدم كاتب { فإن أمن بعضكم بعضاً } وفي حرف أبي (( فإن ائتمن )) يعني فإن كان الذي عليه الحق أميناً عند صاحب الحق فلم يرتهن منه شيئاً لحسن ظنه به. { فليؤد الذي اؤتمن أمانته } أي فليقضه على الأمانة { وليتق اللّه ربه } في أداء الحق، ثم رجع إلى خطاب الشهود وقال { ولا تكتموا الشهادة } إذا دعيتم إلى إقامتها نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه فقال { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } أي فاجر قلبه، قيل ما أوعد اللّه على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة، قال { فإنه آثم قلبه } وأراد به مسخ القلب، نعوذ باللّه من ذلك { واللّه بما تعملون } من بيان الشهادة وكتمانها { عليم }.

٢٨٤

{ للّه ما في السموات وما في الأرض } ملكاً [وأهلها له عبيد وهو مالكهم] { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء واللّه على كل شيء قدير } اختلف العلماء في هذه الآية، فقال قوم هي خاصة ثم اختلفوا في وجه [خصوصها] فقال بعضهم هي متصلة بالآية الأولى نزلت في كتمان الشهادة أو تخفوا الكتمان يحاسبكم به اللّه وهو قول الشعبي و عكرمة ،

وقال بعضهم نزلت فيمن يتولى الكافرين دون المؤمنين، يعني وإن تعلنوا ما في أنفسكم من ولاية الكفار أو تسروا يحاسبكم به اللّه، وهو قول مقاتل كما ذكر في سورة آل عمران { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } إلى أن قال { قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه اللّه } (٢٩-آل عمران). وذهب الأكثرون إلى أن الآية عامة ثم اختلفوا فيها فقال قوم هي منسوخة بالآية التي بعدها. والدليل عليه ما

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ،

أخبرنا عبد الغافر بن محمد ،

أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج، حدثني محمد بن المنهال الضرير وأمية بن بسطام العيشي واللفظ له قالا

أخبرنا يزيد بن زريع أنا روح وهو ابن القاسم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال {لما أنزل اللّه على رسوله اللّه صلى اللّه عليه وسلم } للّه ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه { الآية قال اشتد ذلك على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا أي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلمك أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا } سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير { فلما قرأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل اللّه في أثرها } آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير { فلما فعلوا ذلك نسخها اللّه تعالى } لا يكلف اللّه نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا { قال نعم } ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا { قال نعم } ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به { قال نعم } واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين { قال نعم}

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما بمعناه، وقال في كل ذلك قد فعلت، بدل قوله نعم، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وابن عمر رضي اللّه عنهم وإليه ذهب محمد بن سيرين و محمد بن كعب و قتادة و الكلبي .

اخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ،

أخبرنا أبو محمد عبد ا للّه بن يوسف الأصفهاني ،

أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه ،

أخبرنا يعقوب بن يوسف القزويني ،

أخبرنا القاسم بن الحكم العرني ،

أخبرنا مسعر بن كدام عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبسي صلى اللّه عليه وسلم قال { إن اللّه عز وجل تجاوز عن أمتي ما وسوست به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به }. وقال بعضهم الآية غير منسوخة لأن النسخ لا يرد على الأخبار إنما يرد على الأمر والنهي وقوله { يحاسبكم به اللّه } خبر لايرد عليه النسخ، ثم اختلفوا في تأويلها فقال قوم قد أثبت اللّه تعالى للقلب كسباً فقال { بما كسبت قلوبكم } (٢٢٥-البقرة) فليس للّه عبد أسر عملاً أو أعلنه من حركة من جوارحه أو همسة في قلبع إلا يخبره اللّه به ويحاسبه عليه ثم يغفر ما يشاء ويعذب بما يشاء، وهذا معنى قول الحسن يدل عليه

قوله تعالى { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } (٣٦-الإسراء) وقال الآخرون معنى الآية أن اللّه عز وجل يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم أو أخفوه ويعقبهم عليه، غير أن معاقبته على ما أخفوه ويعاقبهم عليه، غير أن معاقبته على ما أخفوه مما لم يعلموه بما يحدث لهم في الدنيا من النوائب والمصائب والأأمور التي يحزنون عليها وهذا قول عائشة رضي اللّه عنها قالت سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن هذه الآية فقال { يا عائشة هذه معاتبة اللّه العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة حتى الشوكة والبضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيروع لها حتى يخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير }.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ،

أخبرنا أبو منصور السمعاني

أخبرنا أبو جعفر الرياني،

أخبرنا حميد بن زنجويه ،

أخبرنا عبد اللّه بن صالح ، حدثني الليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن سنان عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال { إذا أراد اللّه بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد اللّه بعبده الشر بعبده أمسك عليه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامه }.

وقال بعضهم { وإن تبدوا ما في أنفسكم } يعني ما في قلوبكم مما عزمتم عليه { أو تخفوه يحاسبكم به اللّه } ولا تبدوه وأنتم عازمون عليه يحاسبكم به اللّه فأما ما حدثت به أنفسكم مما لم تعزموا عليه فإن ذلك مما لا يكلف اللّه نفساً إلا وسعها ولا يؤاخذكم به، دليله

قوله تعالى { لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } (٢٢٥-البقرة). وقال عبد اللّه بن المبارك  قلت لسفيان أيؤاخذ العبد بالهمة قال إذا كان عزماً أخذ بها،

وقيل معنى المحاسبة الإخبار والتعريف، ومعنى الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم فتعملوا به أو تخفوه مما أضمرتم ونويتم يحاسبكم به اللّه ويجزيكم به ويعرفكم إياه، ثم يغفر للمؤمنين إظهاراً لفضله، ويعذب الكافرين إظهاراً لعدله، وهذا معنى قول الضحاك ، ويروى ذلك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، يدل عليه أنه قال يحاسبكم به اللّه ولم يقل يؤاخذكم به، والمحاسبة غير المؤاخذة والدليل عليه ما

أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي الزراد ،

أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب ، أنا عيسى بن أحمد العسقلاني ، أنا يزيد بن هارون ، أنا همام بن يحيى عن قتادة عن صفوان بن محرز قال كنت آخذاً بيد عبد اللّه بن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنهما فأتاه رجل فقال كيف سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول { إن اللّه تعالى يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه يستره من الناس فيقول أي عبدي أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول نعم أي رب ثم يقول أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال فإني سترتها عليك في الدنيا وقد غفرتها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة اللّه على الظالمين } (١٨-هود).

قوله تعالى { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } رفع الراء والياء أبو جعفر وابن عامر وعاصم ويعقوب وجزمهما الآخرون، فالرفع على الابتداء والجزم على النسق، وروى طاووس عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، فيغفر لمن يشاء الذنب العظيم ويعذب من يشاء على الذنب الصغير، { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } { واللّه على كل شيء قدير } (٢٣٠-الأنبياء).

٢٨٥

قوله تعالى { آمن الرسول } أي صدق { بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن باللّه } يعني كل واحد منهم، ولذلك وحد الفعل و { ملائكته وكتبه ورسله } قرأ حمزة و الكسائي كتابه، على الواحد يعني القرآن،

وقيل معناه الجمع وإن ذكر بلفظ التوحيد ك

قوله تعالى { فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب } (٢١٣-البقرة) وقرأ اآخرون وكتبه بالجمع ك

قوله تعالى { وملائكته وكتبه ورسله } (١٣٦-النساء)، { لا نفرق بين أحد من رسله } فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، وفيه إضمار تقديره يقولون لا نفرق، وقرأ يعقوب لا يفرق بالياء فيكون خبراً عن الرسول، أو معناه لا يفرق الكل وإنما قال (( بين أحد )) ولم يقل بين آحاد لأن الأحد يكون للواحد والجمع قال اللّه تعالى { فما منكم من أحد عنه حاجزين } (٤٧-الحاقة) { وقالوا سمعنا } قولك { وأطعنا } أمرك. روى عن حكيم عن جابر رضي اللّه عنهما أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم حين نزلت هذه الآية، إن اللّه قد اثنى عليك وعلى أمتك فسل تعطه، فسأل بتلقين اللّه تعالى فقال { غفرانك } وهو نصب على المصدر أي اغفر غفرانك، أو نسألك غفرانك { ربنا وإليك المصير * لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها } ظاهر الآية قضاء الحاجة، وفيها إضمار السؤال كأنه قال وقالوا لا تكلفنا إلا وسعنا، وأجاب أي لا يكلف اللّه نفساً إلا وسعها أي طاقتها، والوسع اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه،

واختلفوا في تأويله فذهب ابن عباس رضي اللّه عنه و عطاء وأكثر المفسرين إلى أنه أراد به حديث النفس الذي ذكر في

قوله تعالى { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } كما ذكرنا، وروي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال هم المؤمنون خاصة، وسع عليهم أمر دينهم ولم يكلفهم فيه إلا ما يستطيعون كما قال اللّه تعالى { يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } (١٨٥-البقرة) وقال اللّه تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } (٧٨-الحج)

٢٨٦

وسئل سفيان بن عيينة عن قوله عز وجل { لا يكلف اللّه نفساً إلا وسعها } قال إلا يسرها ولم يكلفها فوق طاقتها، وهذا قول حسن لأن الوسع ما دون الطاقة.

قوله تعالى { لها ما كسبت } أي للنفس ما عملت من الخير، لها أجره وثوابه { وعليها ما اكتسبت } من الشر وعليها وزره { ربنا لا تؤاخذنا } أي لا تعاقبنا { إن نسينا } جعله بعضهم من النسيان الذي هو السهو، قال الكلبي كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً مما أمروا به أو أخطؤوا عجلت لهم العقوبة، فحرم عليهم من شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب، فأمر اللّه المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك،

وقيل هو من النسيان الذي هو الترك ك

قوله تعالى { نسوا اللّه فنسيهم } (٦٧-التوبة).

قوله تعالى { أو أخطأنا } قيل معناه القصد والعمد يقال أخطأ فلان إذا تعمد، قال اللّه تعالى { إن قتلهم كان خطأً كبيراً } (٣١-الإسراء) قال عطاء  إن نسينا أو أخطأنا يعني أن جهلنا أو تعمدنا، وجعله الأكثرون من الخطأ الذي هو الجهل والسهو، لأن ما كان عمداً من الذنب فغير معفو عنه بل هو في مشيئة اللّه، والخطأ معفو عنه قال النبي صلى اللّه عليه وسلم { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه }.

قوله تعالى { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } أي عهداً ثقيلاً لا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقضه وتركه { كما حملته على الذين من قبلنا } يعني اليهود، فلم يقوموا به فعذبتهم، هذا قول مجاهد و عطاء و قتادة و السدي و الكلبي وجماعة يدل عليه

قوله تعالى { وأخذتم على ذلكم إصري } (٨١-آل عمران) أي عهدي،

وقيل معناه لا تشدد ولا تغلظ الأمر علينا كما شددت على من قبلنا من اليهود، وذلك أن اللّه فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها ومن أصاب ذنباً أصبح وذنبه مكتوب على بابه ونحوها من الأثقال والأغلال، وهذا يعني قول عثمان و عطاء و مالك بن أنس و أبي عبيدة وجماعة يدل عليه

قوله تعالى { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } (١٥٧-الأعراف)

وقيل الإصر ذنب لا توب له، معناه أعصمنا من مثله، والأصل في العقل والإحكام.

قوله تعالى { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } أي لا تكلفنا من الأعمال مالا نطيقه

وقيل هو حديث النفس والوسوسة حكي عن مكحول أنه قال هو الغلمة، قيل الغلمة شدة الشهوة، وعن إبراهيم قال هو الحب، وعن محمد بن عبد الوهاب قال العشق وقال ابن جريج  هو مسخ القردة والخنازير

وقيل هو شماتة الأعداء،

وقيل هو الفرقة والقطيعة نعوذ باللّه منها.

قوله تعالى { واعف عنا } أي تجاوز وامح عنا ذنوبنا { واغفر لنا } استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا { وارحمنا } فإننا لا ننال العمل إلا بطاعتك، ولا نترك معصيتك إلا برحمتك { أنت مولانا } ناصرنا وحافظنا وولينا { فانصرنا على القوم الكافرين }.

روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في قوله عز وجل { غفرانك ربنا } قال اللّه تعالى (( قد غفرت لكم )) وفي قوله ل تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال (( لا أوأخذكم )) { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } قال (( لا أحمل عليكم إصراً )) { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال (( لا أحملكم )) { واعف عنا } إلى آخره قال (( قد عفوت عنكم، وغفرت لكم، ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين )) وكان معاذ بن جبل إذا ختم سورة البقرة قال آمين.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ،

أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج ، أنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أنا أبو أسامة حدثني مالك بن مغول عن الزبير بن عدي عن طلحة بن علي بن مصرف عن مرة عن عبد اللّه قال لما أسري برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به فوقها فيقبض منها قال { إذ يغشى السدرة ما يغشى } (١٦-النجم) قال فراش من ذهب قال وأعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثاً  الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك باللّه من أمته شيئاً من المقحمات )) كبائر الذنوب.

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الإسفراييني أنا أبو عوانة يعقوب بن اسحق الحافظ ، أنا يونس و أحمد بن شيبان قالا ثنا سفيان بن عيينة عن منصور عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن أبي مسعود رضي اللّه عنهم قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كفتاه }.

أخبرنا عبد الواحد المليحي ،

أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أنا أبو جعفر الرياني ،

أخبرنا حميد بن زنجويه ، أنا العلاء بن عبد الجبار ، أنا جماد بن سلمة،

أخبرنا الأشعث بن عبد الرحمن الجرمي ، عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن النعمان بن بشير رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { إن اللّه تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا تقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان }.

﴿ ٠