سورة الأنعام

مكية، وهي مائة وخمس وستون آية، نزلت بمكة [جملة] ليلاً معها سبعون أفل ملك قد سدوا ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم { سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم وخر ساجداً } . وروي مرفوعاً { من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره } . وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما نزلت سورة الأنعام بمكة، إلا قوله { وما قدروا اللّه حق قدره } إلى آخر ثلاث آيات, و

قوله تعالى { قل تعالوا أتل }، إلى قوله { لعلكم تتقون }، فهذه الست آيات مدنيات .

١

{ الحمد للّه الذي خلق السموات والأرض }، قال كعب الأحبار هذه الآية أول آية في التوراة، وآخر آية في التوراة . قوله { الحمد للّه الذي لم يتخذ ولداً } الآية (الإسراء-١١١) . قال ابن عباس رضي اللّه عنهما افتتح اللّه الخلق بالحمد، فقال { الحمد للّه الذي خلق السموات والأرض }، وختمه بالحمد فقال { وقضي بينهم بالحق }، أي بين الخلائق، {

وقيل الحمد للّه رب العالمين } [الزمر-٧٥]. قوله { الحمد للّه } حمد اللّه نفسه تعليماً لعباده، أي احمدوا اللّه الذي خلق السموات والأرض،خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد، وفيهما العبر والمنافع للعباد، { وجعل الظلمات والنور }، والجعل بمعنى الخلق، قال الواقدي  كل ما في القرآن من الظلمات والنور فهو الكفر والإيمان، إلا في هذه الآية فإنه يريد بهما الليل والنهار.

وقال الحسن وجعل الظلمات والنور يعني الكفر والإيمان،

وقيل أراد بالظلمات الجهل وبالنور العلم . وقال قتادة يعني الجنة والنار .

وقيل معناه خلق اللّه السموات والأرض، وقد جعل الظلمات والنور، لأنه قد خلق الظلمة والنور قبل السموات ولأرض .

قال قتادة  خلق اللّه السموات قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار، وروي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { إن اللّه تعالى خلق الخلق في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأة ضل }. { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون }، أي ثم الذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يعدلون، أي يشركون، وأصله من مساواة الشيء بالشيء، ومنه العدل، أي يعدلون باللّه غير اللّه تعالى، يقال عدلت هذا بهذا إذا ساويته، وبه قال النضر بن شميل ، الباء بمعنى عن، أي عن ربهم يعدلون، أي يميلون وينحرفون من العدول، قال اللّه تعالى { عيناً يشرب بها عباد اللّه } أي منها .

وقيل تحت قوله { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } معنى لطيف، وهو مثل قول القائل أنعمت عليكم بكذا وتفضلت عليكم بكذا، ثم تكفرون بنعمتي .

٢

قوله عز وجل { هو الذي خلقكم من طين}، يعني آدم عليه السلام، خاطبهم به إذ كانوا من ولده. قال السدي بعث اللّه تعالى جبريل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها، فقالت الأرض إني أعوذ باللّه منك أن تنقص مني، فرجع جبريل ولم يأخذ وقال يا رب إنها عاذت بك، فبعث ميكائيل، فاستعاذت فرجع، فبعث ملك الموت فعاذت منه باللّه، فقال وأنا أعوذ باللّه أن أخالف أمره، فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء، فلذلك اختلفت ألوان بني آدم، ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر، فلذا اختلفت أخلاقهم فقال اللّه تعالى لملك الموت رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها، لا جرم أجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك . وروي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال (خلق اللّه آدم عليه السلام من تراب وجعله طيناً، ثم تركه حتى كان حماً مسنوناً ثم خلقه وصوره وتركه حتى كان صلصالاً كالفخار، ثم نفخ فيه روحه ). قوله عز وجل { ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده }، قال الحسن و وقتادة و الضحاك  الأجل الأول من الولادة إلى الموت،والآجل الثاني من الموت إلى البعث، وهو البرزخ، وروي ذلك عن ابن عباس، وقال لكل أحد أجلان أجل إلى الموت وأجل من الموت إلى البعث، فإن كان براً تقياً وصولاً للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر، وإن كان فاجراً قاطعاً للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث، وقال مجاهد و سعيد بن جبير  الأجل الأول أجل الدنيا، والأجل الثاني أجل الآخرة، وقال عطية عن ابن عباس رضي اللّه عنهما { ثم قضى أجلاً }يعني النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع عند اليقظة، { وأجل مسمى عنده }، يعني أجل الموت،

وقيل هما واحد معناه مسمىً عنده، لا يعلمه غيرة، { ثم أنتم تمترون }، تشكون في البعث .

٣

قوله عز وجل { وهو اللّه في السموات وفي الأرض }، يعني وهو إله السموات والأرض، كقوله { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله }،

وقيل هو المعبود في السموات والأرض وقال محمد بن جرير  معناه هو اللّه في السموات يعلم سركم وجهركم في الأرض، [وقال الزجاج فيه تقديم وتأخير تقديره وهو اللّه، {يعلم سركم وجهركم }، في السموات والأرض]، {ويعلم ما تكسبون }، تعملون من الخير والشر .

٤

{ وما تأتيهم }، يعني أهل مكة،{ من آية من آيات ربهم }، مثل انشقاق القمر وغيره،

وقال عطاء  يريد من آيات القرآن، {إلا كانوا عنها معرضين }، لها تاركين بها مكذبين .

٥

{ فقد كذبوا بالحق }، بالقرآن،

وقيل بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، {لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون }، أي أخبار استهزائهم وجزاؤه، أي سيعلمون عاقبةاستهزائهم إذا عذبوا.

٦

قوله عز وجل { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن }،يعني الأمم الماضية، والقرن الجماعة من الناس، وجمعه قرون،

وقيل القرن مدة من الزمان، يقال ثمانون سنه،

وقيل ستون سنة،

وقيل أربعون سنة

وقيل ثلاثون سنة،

ويقال مائة سنة، لما روي {أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لعبد اللّه بن بسر المازني إنك تعيش قرناً فعاش مائة سنة }. فيكون معناه على هذه الأقاويل من أهل قرن، { مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم }، أي أعطيناهم ما لم نعطكم،

وقال ابن عباس أمهلناهم في العمر مثل قوم نوح وعاد وثمود،يقال مكنته ومكنت له، { وأرسلنا السماء عليهم مدراراً } يعني المطر، مفعال ، من الدر، قال ابن عباس مدراراً أي متتابعاً في أوقات الحاجات،

وقوله { ما لم نمكن لكم } من خطاب التلوين، رجع من الخبر من قوله { ألم يروا } إلى خطاب، كقوله { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم }(يونس،٢٢) . وقال هل البصرة أخبر عنهم بقوله { ألم يروا } وفيهم محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، ثم خاطبهم معهم، والعرب تقول قلت لعبد اللّه ما كرمه،وقلت، لعبد اللّه ما أكرمك،{ وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا } خلقنا وابتدأنا، { من بعدهم قرناً آخرين } .

٧

قوله عز وجل  { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس } الآية، قال الكلبي و مقابل  نزلت في النضر بن الحارث وعبد اللّه بن أبي أمية ونوفل بن خويلد، قالوا يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند اللّه ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند اللّه وأنك رسوله، فأنزل اللّه عز وجل { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس }مكتوباً من عندي، { فلمسوه بأيديهم }، أي عاينوه ومسوه بأيديهم وذكر اللمس ولم يذكر المعاينة لأن اللمس أبلغ في إيقاع العلم من [ الرؤية] فإن السحر يجري على المرئي ولا يجري على الملموس، { لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين }، معناه لا ينفع معهم شيء لما سبق فيهم من علمي .

٨

{ وقالوا لولا أنزل عليه }، على محمد صلى اللّه عليه وسلم، { ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر }،أي لوجب العذاب، وفرغ من الأمر، وهذا سنه اللّه في الكفار أنهم متى اقترحوا آية فأنزلت ثم لم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب، { ثم لا ينظرون }، أي لا يؤجلون ولا يمهلون، وقال قتادة ، لو أنزلنا ملكاً ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب ولم يؤخروا طرفة عين، وقال مجاهد لقضي الأمر أي لقامت القيامة،

وقال الضحاك  لو أتاهم ملك في صورته لماتوا .

٩

{ ولو جعلناه ملكاً }، [يعني لو أرسلنا إليهم ملكاً]، { لجعلناه رجلاً }،يعني في صورة [رجل ]آدمي، لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة، وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى اللّه عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، وجاء الملكان إلى داود في صورة رجلين . قوله عز وجل { وللبسنا عليهم ما يلبسون }، أي خلطنا عليهم ما يخلطون وشبهنا عليهم فلا يدرون أملك هو أم آدمي،

وقيل معناه شبهوا على ضعفائهم فشبه عليهم، وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال هم أهل الكتاب فرقوا دينهم وحرفوا الكلم عن مواضعه، فلبس اللّه عليهم ما لبسوا على أنفسهم وقرأ الزهري {وللبسنا } بالتشديد على التكرير والتأكيد .

١٠

{ ولقد استهزئ برسل من قبلك }، كما استهزئ بك يا محمد يعزي نبيه صلى اللّه عليه وسلم، { فحاق }، قال الربيع [بن أنس] فنزل،

وقال عطاء  حل،

وقال الضحاك  أحاط، { بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } ، أي جزاء استهزائهم من العذاب والنقمة .

١١

{ قل }، يا محمد لهؤلاء المكذبين المستهزئين، ‌{ سيروا في الأرض }، معتبرين، يحتمل هذا السير بالعقول والفكر، ويحتمل السير بالأقدام، { ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين }،أي آخر أمرهم وكيف أورثهم الكفر والتكذيب الهلاك، فحذر كفار مكة عذاب الأمم الخالية .

١٢

قوله عز وجل { قل لمن ما في السموات والأرض }، فإن أجابوك وإلا فـ { قل }، أنت، {للّه}، أمره بالجواب عقيب السؤال ليكون أبلغ في التأثير وآكد في الحجة، { كتب }، أي قضى،{ على نفسه الرحمة }، هذا استعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال عليه وإخباره بأنه رحيم بالعباد لا يعجل بالعقوبة، ويقبل الإنابة والتوبة .

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي

أخبرنا أبو طاهر الزيادي

أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال ثنا أبو هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { لما قضى اللّه الخلق كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي } . وروي أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة (إن رحمتي [سبقت]غضبي .

أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد اللّه بن علي الكركاني أنا أبو طاهر الزيادي أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا عبد الرحمن المروزي

أخبرنا عبد اللّه بن المبارك أنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {إن للّه مائة رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تتعاطف الوحوش على أولادها، وأخر اللّه تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة } .

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا ابن أبي مريم ثنا أبو غسان حدثني زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنهم قال { قدم على النبي صلى اللّه عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها، تسعى إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى اللّه عليه وسلم أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقلنا لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال اللّه أرحم بعباده من هذه بولدها} . قوله عز وجل { ليجمعنكم }، اللام فيه لام القسم والنون نون التأكيد مجازة واللّه ليجمعنكم، { إلى يوم القيامة }، أي في يوم القيامة،

وقيل معناه ليجمعنكم في قبوركم إلى يوم القيامة، { لا ريب فيه الذين خسروا }، غبنوا، { أنفسهم فهم لا يؤمنون }.

١٣

{ وله ما سكن في الليل والنهار }، أي استقر، قيل أراد ما سكن وما تحرك، كقوله { سرابيل تقيكم الحر } أي الحر والبرد،

وقيل إنما خص السكون بالذكر لأن النعمة فيه أكثر، قال محمد بن جرير  كل ما طلعت عليه الشمس وغربت فهو من ساكن الليل، والمراد منه جميع ما في الأرض.

وقيل معناه ما يمر عليه الليل والنار، { وهو السميع }، لأصواتكم، { العليم } بأسرارهم .

١٤

قوله تعالى { قل أغير اللّه أتخذ ولياً } ؟وهذا حين دعا إلى دين آبائه، فقال تعالى قل يا محمد أغير اللّه أتخذ ولياً،[رباً ومعبوداً وناصراً ومعيناً]؟ {فاطر السموات والأرض } ، أي خالقهما ومبدعهما ومبتديهما، { وهو يطعم ولا يطعم }، أي  وهو يرزق ولا يرزق، كما قال (ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ). { قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم }، يعني من هذه الأمة، والإسلام بمعنى الاستسلام لأمر اللّه،

وقيل أسلم أخلص، { ولا تكونن }، يعني

وقيل لي ولا تكونن، { من المشركين }.

١٥

{ قل إني أخاف إن عصيت ربي }، [فعبدت غيره] {عذاب يوم عظيم } يعني عذاب يوم القيامة .

١٦

{ من يصرف عنه }، يعني من يصرف العذاب عنه،قرأ حمزة و الكسائي وأبو بكر عن عاصم و يعقوب { يصرف } بفتح الياء وكسر الراء، أي من يصرف اللّه عنه العذاب، لقوله { فقد رحمه } وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الراء، { يومئذ }، يعني يوم القيامة، { فقد رحمه وذلك الفوز المبين }، أي النجاة البينة .

١٧

قوله عز وجل { وإن يمسسك اللّه بضر } بشدة وبلية، { فلا كاشف له }، لا رافع،{ إلا هو وإن يمسسك بخير }، عافية ونعمة، ‌{فهو على كل شيء قدير }، من الخير والضر .

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو عبد اللّه السلمي أنا أبو العباس الأصم أنا أحمد بن شيبان الرملي أنا عبد اللّه بن ميمون القداح أنا شهاب بن خراش ، [ هو ابن عبد اللّه] عن عبد الملك بن عمير عن ابن عباس قال {أهدي للنبي صلى اللّه عليه وسلم بغلة، أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر، ثم أردفني خلفه،ثم سار بي ملياً ثم التفت إلي فقال يا غلام، فقلت لبيك يا رسول اللّه، قال احفظ اللّه يحفظك، احفظ اللّه تجده أمامك، تعرف إلى اللّه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل اللّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه، قد مضى القلم بما هو كائن، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه اللّه تعالى لك لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يضروك بما لم يكتب اللّه تعالى عليك، ما قدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين، فافعل فإن لم تستطع فاصبر على ما تكره خيراً كثيراً واعلم أن النصر مع الصبر، وأن مع الكرب الفرج، وأن مع العسر يسرا}.

١٨

{ وهو القاهر فوق عباده }، القاهر الغالب، وفي القهر زيادة معنى على القدرة وهي منع غيره عن بلوغ المراد،

وقيل هو المنفرد بالتدبير الذي يجبر الخلق على مراده، فوق عباده هو صفة الاستعلاء الذي تفرد به اللّه عز وجل. { وهو الحكيم }، في أمره { الخبير}، بأعمال عباده .

١٩

قوله عز وجل { قل أي شيء أكبر شهادة } ؟ الآية،

قال الكلبي  أتى أهل مكة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا أرنا من يشهد أنك رسول اللّه فإنا لا نرى أحداً يصدقك، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر،

فأنزل اللّه تعالى { قل أي شيء أكبر }، أعظم، { شهادة } ؟ فإن أجابوك، وإلا { قل اللّه } وهو { شهيد بيني وبينكم }، على ما أقول، ويشهد لي بالحق وعليكم بالباطل، { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به }، لأخوفكم به يا أهل مكة، { ومن بلغ }، يعني ومن بلغه القرآن من العجم وغيرهم من الأمم إلى يوم القيامة . حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد بن الحنفي أنا محمد بن بشر بن محمد المزني أنا أبو بكر محمد بن الحسن بن بشرالنقاش أنا شعيب الحراني أنا يحيى بن عبد اللّه بن الضحاك البابلي أنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية عن أبي كبشة [السلولي] عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعدة من النار }.

أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب

أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبوالعباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن مسعودعن أبيه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { نضر اللّه عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها .فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل للّه، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم } .

قال مقاتل  من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له، وقال محمد بن كعب القرظي  من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً صلى اللّه عليه وسلم وسمع منه، { أإنكم لتشهدون أن مع اللّه آلهة أخرى } ؟ولم يقل أخر لأن الجمع يلحقه التأنيث،كقوله عز وجل { وللّه الأسماء الحسنى فادعوه بها }(الأعراف،١٨٠)،وقال { فما بال القرون الأولى }.(طه،٥١) { قل}، يا محمد إن شهدتم أنتم، فـ { لا أشهد }، أنا أن معه إلهاً، { قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون }.

٢٠

قوله عز وجل { الذين آتيناهم الكتاب }، يعني التوراة والإنجيل، { يعرفونه }، يعني محمداً صلى اللّه عليه وسلم بنعته وصفته، { كما يعرفون أبناءهم }، من بين الصبيان.{ الذين خسروا أنفسهم }، غبنوا أنفسهم { فهم لا يؤمنون }، وذلك أن اللّه جعل لكل آدمي منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار، وإذا كان يوم القيامة جعل اللّه للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة، ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار،وذلك الخسران .

٢١

قوله عز وجل { ومن أظلم }، أكفر،{ ممن افترى }، اختلق، { على اللّه كذباً }، فأشرك به غيره، { أو كذب بآياته }، يعني القرآن، { إنه لا يفلح الظالمون }، الكافرون .

٢٢

{ ويوم نحشرهم جميعاً }، أي العابدين والمعبودين، يعني يوم القيامة، قرأ يعقوب { يحشرهم } هاهنا، وفي سبأ بالياء، ووافق حفص في سبأ، وقرأ الآخرون بالنون،{ ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون }، أنها تشفع لكم عند ربكم.

٢٣

{ ثم لم تكن فتنتهم }، قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب { يكن } بالياء لأن الفتنة بمعنى الافتتان، فجاز تذكيره، وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث الفتنة، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم { فتنتهم } بالرفع جعلوه أسم كان، وقرأ الآخرون بالنصب، فجعلوا الاسم قوله { أن قالوا } وفتنتهم الخبر، ومعنى قوله { فتنتهم } أي قولهم وجوابهم،وقال ابن عباس و قتادة  معذرتهم والفتنة التجربة، فلما كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم قيل فتنة . قال الزجاج في قوله { ثم لم تكن فتنتهم } معنى لطيف وذلك مثل الرجل يفتتن بمحبوب ثم يصيبه فيه [محنة] فيتبرأ من محبوبه، فيقال لم تكن فتنت إلا هذا، كذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام ولما رأوا العذاب تبرأوا منها، يقول اللّه عز وجل { ثم لم تكن فتنتهم } في محبتهم الأصنام، { إلا أن قالوا واللّه ربنا ما كنا مشركين }،قرأ حمزة و الكسائي { ربنا } بالنصب على نداء المضاف، وقرأ الآخرون بالخفض على نعت واللّه،

وقيل إنهم إذا رأوا يوم القيامة مغفرة اللّه تعالى وتجاوزه عن أهل التوحيد، قال بعضهم لبعض تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجوا من أهل التوحيد، فيقولون واللّه ربنا ما كنا مشركين، فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم بالكفر.

٢٤

فقال عز وجل { انظر كيف كذبوا على أنفسهم }، باعتذارهم بالباطل وتبريهم عن الشرك، { وضل عنهم } زال وذهب عنهم { ما كانوا يفترون } من الأصنام، وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها، فبطل كله في ذلك اليوم.

٢٥

قوله عز وجل{ ومنهم من يستمع إليك } الآية،

قال الكلبي  اجتمع أبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف والحارث بن عامر، يستمعون القرآن فقالوا للنضر يا أبا قتيلة ما يقول محمد ؟ قال ما أدري ما يقول إلا أني أراه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون وأخبارها. فقال أبو سفيان إني أرى بعض ما يقول حقاً، فقال أبو جهل كلا، لا نقر بشيء من هذا، وفي رواية للموت أهون علينا من هذا، فأنزل اللّه عز وجل { ومنهم من يستمع إليك } وإلى كلامك، { وجعلنا على قلوبهم أكنة } ، أغطية، جمع كنان، كالأعنة جمع عنان، { أن يفقهوه }، أن يعلموه، قيل معناه أن لا يفقهوه،

وقيل كراهة أن يفقهوه، { وفي آذانهم وقرأ }، صمماً وثقلاً، هذا دليل على أن اللّه تعالى يقلب القلوب فيشرح بعضها للّهدى، ويجعل بعضها في أكنة فلا تفقه كلام اللّه ولا تؤمن، { وإن يروا كل آية }، من المعجزات والدلالات، { لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين }، يعني أحاديثهم وأقاصيصهم، والأساطير جمع أسطورة، وإسطارة.

وقيل هي الترهات والأباطيل، وأصلها من سطرت، أي كتبت .

٢٦

{ وهم ينهون عنه } أي ينهون الناس عن اتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم { وينأون عنه }، أي يتباعدون عنه بأنفسهم، نزلت في كفار مكة، قال محمد بن الحنفية و السدي و الضحاك ، و

قال قتادة  ينهون عن القرآن وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم ويتباعدون عنه . وقال ابن عباس و مقاتل  نزلت في أبي طالب كان ينهى الناس عن أذى النبي صلى اللّه عليه وسلم ويمنعهم وينأى عن الإيمان به، أي يبعد، حتى روي أنه اجتمع إليه رؤوس المشركين وقالوا خذ شاباً من أصبحنا وجهاً، وادفع إلينا محمداً،فقال أبو طالب ما أنصفتموني أدفع إليكم ولدي لتقتلوه وأربي ولدكم ؟ وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دعاه إلى الإيمان، فقال لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك، ولكن أذب عنك ما حييت .وقال فيه أبياتاً ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر بذاك منك عيونا ودعوتني وعرفت أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثم أمينا وعرضت ديناً قد علمت بأنه من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار سبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا { وإن يهلكون }، ما يهلكون، { إلا أنفسهم } أي لا يرجع وبال فعلهم إلا إليهم، وأوزار الذين يصدونهم عليهم، { وما يشعرون }

٢٧

قوله عز وجل { ولو ترى إذ وقفوا على النار } يعني في النار،ك

قوله تعالى { على ملك سليمان } أي في ملك سليمان،

وقيل عرضوا على النار، وجواب { لو } محذوف معناه لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبا، { فقالوا يا ليتنا نرد }،يعني إلى الدنيا، { ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين }، قراءة العامة كلها بالرفع على معنى يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب، ونكون من المؤمنين، وقرأ حمزة و حفص و يعقوب { ولا نكذب بآيات ربنا ونكون } بنصب الباء والنون على جواب التمني، أي ليت ردنا وقع، وأن لا نكذب ونكون، والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصب بالفاء، وقرأ ابن عامر { نكذب } بالرفع و { نكون } بالنصب لأنهم تمنوا أن يكونوا من المؤمنين، وأخبروا عن أنفسهم أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردوا إلى الدنيا .

٢٨

{ بل بدا لهم } قوله { بل }تحته رد لقولهم، أي ليس الأمر على ما قالوا إنهم لو ردوا لآمنوا، بل بدا لهم ظهر لهم، { ما كانوا يخفون }، يسرون، { من قبل }، في الدنيا من كفرهم ومعاصيهم،

وقيل ما كانوا يخفون وهو قولهم { واللّه ربنا ما كنا مشركين }(الأنعام،٢٣)، فأخفوا شركهم وكتموا حتى شهدت عليهم جوارحهم بما كتموا وستروا، لأنهم كانوا لا يخفون كفرهم في الدنيا، إلا أن تجعل الآية في المنافقين، وقال المبرد  بل بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون، وقال النضر بن شميل  بل بدا عنهم . ثم قال { ولو ردوا } إلى الدنيا { لعادوا لما }، يعني إلى ما { نهوا عنه }، من الكفر،{ وإنهم لكاذبون } ، في قولهم، لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا وكنا من المؤمنين .

٢٩

{ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين }، هذا إخبار عن إنكارهم البعث، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، هذا من قولهم لو ردوا لقالوه .

٣٠

قوله عز وجل { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم }، أي على حكمه وقضائه ومسألته،

وقيل عرضوا على ربهم، { قال }، لهم

وقيل تقول لهم الخزنة بأمر اللّه، { أليس هذا بالحق } ؟ يعني أليس هذا البعث والعذاب بالحق ؟ { قالوا بلى وربنا }، إنه حق، قال ابن عباس هذا في موقف، وقولهم واللّه ربنا ما كنا مشركين في موقف آخر، وللقيامة مواقف ففي موقف يقرون،وفي موقف ينكرون. { قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون }

٣١

{ قد خسر الذين كذبوا بلقاء اللّه }، أي خسروا أنفسهم بتكذيبهم المصير إلى اللّه بالبعث بعد الموت، { حتى إذا جاءتهم الساعة }، أي القيامة { بغتةً }، أي فجأة، { قالوا يا حسرتنا }، ندامتنا، [ذكر]على وجه النداء للمبالغة، وقال سيبويه  كأنه يقول أيتها الحسرة هذا أوانك، { على ما فرطنا }، أي قصرنا { فيها }، أي في الطاعة،

وقيل تركنا في الدنيا من عمل الآخرة. قال محمد بن جرير  الهاء راجعة إلى الصفقة، وذلك أنه لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الآخرة بالدنيا قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها، أي في الصفقة[فترك ذكر الصفقة]اكتفاءً بقوله { قد خسر } لأن الخسران إنما يكون في صفقة بيع، والحسرة شدة الندم، حتى يتحسر النادم، كما يتحسر الذي تقوم به دابته في السفر البعيد، { وهم يحملون أوزارهم }، أثقالهم وآثامهم، { على ظهورهم }، قال السدي وغيره إن المؤمن إذ أخرج من قبره استقبله أحسن شيء صورةً وأطيبه ريحاً فيقول له هل تعرفني ؟ فيقول لا، فيقول أنا عملك الصالح فاركبني ، فقد طالما ركبتك في الدنيا، فذلك قوله عز وجل { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً }(مريم،٨٥) أي ركباناً، وأما الكافر فيستقبله أقبح شيء صورةً وأنتنه ريحاً، فيقول هل تعرفني ؟ فيقول لا. فيقول أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك،فهذا معنى قوله { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم }، {ألا ساء ما يزرون }، يحملون قال ابن عباس بئس الحمل حملوا .

٣٢

{ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو }، باطل وغرور لا بقاء لها { وللدار الآخرة }، قرأ ابن عامر { ولدار الآخرة } مضافا أضاف الدار إلى الآخرة ، ويضاف الشيء إلى نفسه عند اختلاف اللفظين ، كقوله { وحب الحصيد }، وقولهم ربيع الأول ومسجد الجامع، سميت الدنيا لدنوها،

وقيل لدناءتها وسميت الآخرة لأنها بعد الدنيا، {خير للذين يتقون } الشرك، { أفلا تعقلون }، أن الآخرة أفضل من الدنيا، قرأ أهل المدينة وابن عامر و يعقوب { أفلا تعقلون } بالتاء ها هنا وفي الأعراف وسورة ويس، ووافق أبو بكر في سورة يوسف، ووافق حفص إلا في سورة يس، وقرأ الآخرون بالياء فيهن .

٣٣

قوله عز وجل { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون }،

قال السدي  التقي الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام ، فقال الأخنس لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس ها هنا أحد يسمع كلامك غيري، فقال أبو جهل واللّه إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والساقية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش ؟ فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية . وقال ناجية بن كعب  قال أبو جهل للنبي صلى اللّه عليه وسلم لا نتهمك ولا نكذبك، ولكنا نكذب الذي جئت به،

فأنزل اللّه تعالى { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } بأنك كاذب، { فإنهم لا يكذبونك }، قرأ نافع و الكسائي بالتخفيف، وقرأ الآخرون بالتشديد من التكذيب، ولتكذيب هو أن تنسبه إلى الكذب، وتقول له كذبت، والإكذاب هو أن تجده كاذباً، تقول العرب أجدبت الأرض وأخصبتها إذا وجدت جدبة ومخصبة، { ولكن الظالمين بآيات اللّه يجحدون }، يقول إنهم لا يكذبون في السر لأنهم قد عرفوا صدقك فيما مضى، وإنما يكذبون وحيي ويجحدون آياتي، كما قال { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } (النمل،٩٤).

٣٤

{ ولقد كذبت رسل من قبلك }، كذبهم قومهم كما كذبتك قريش، { فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } بتعذيب من كذبهم، { ولا مبدل لكلمات اللّه }، لا ناقض لما حكم به، وقد حكم في كتابه بنصر أنبيائة عليهم السلام، فقال { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } (الصافات، ١٧١-١٧٢)، وقال { إنا لننصر رسلنا } (غافر،٥١) وقال {كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي}(المجادلة،٢١)، وقال الحسن بن الفضل  لا خلف [لعداته] { ولقد جاءك من نبإ المرسلين }، و { من }صلة كما تقول أصابنا مطر .

٣٥

{ وإن كان كبر عليك إعراضهم } أي عظم عليك وشق أن أعرضوا عن الإيمان بك، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحرص على إيمان قومه أشد الحرص ، وكانوا إذ سألوا آية أحب أن يريهم اللّه تعالى ذلك طمعاً في إيمانهم، فقال اللّه عز وجل { فإن استطعت أن تبتغي نفقاً }، تطلب وتتخذ نفقاً سرباً{ في الأرض }، ومنه نافقاء اليربوع، وهو أحد جحريه فيذهب فيه، { أو سلماً }، أي درجاً ومصعداً، { في السماء }، فتصعد فيه، { فتأتيهم بآية }، فافعل، {ولو شاء اللّه لجمعهم على الهدى }، فآمنوا كلهم، { فلا تكونن من الجاهلين }، أي بهذا الحرف، وهو قوله { ولو شاء اللّه لجمعهم على الهدى }، وأن من يكفر لسابق علم اللّه فيه .

٣٦

{ إنما يستجيب الذين يسمعون }، يعني المؤمنين الذين يسمعون الذكر فيتبعونه وينتفعون به دون من ختم اللّه على سمعه، { والموتى }، يعني الكفار، {يبعثهم اللّه ثم إليه يرجعون }، فيجزيهم بأعمالهم .

٣٧

قوله عز وجل  { وقالوا }، يعني رؤساء قريش، { لولا }، هلا، { نزل عليه آية من ربه قل إن اللّه قادر على أن ينزل آيةً ولكن أكثرهم لا يعلمون }، ما عليهم في إنزالها .

٣٨

قوله عز وجل { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه }، قيد الطيران بالجناح تأكيداً كما يقال نظرت بعيني وأخذت بيدي، {إلا أمم أمثالكم }،

قال مجاهد  أصناف مصنفة تعرف بأسمائها يريد أن كل جنس من الحيوان أمة، فالطير أمة، والدواب أمة، والسباع أمة، تعرف بأسمائها مثل بني آدم، يعرفون بأسمائهم، يقال الإنس والناس .

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا المبارك هو ابن فضالة عن الحسن عن عبد اللّه بن مغفل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال {لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم } .

وقيل أمم أمثالكم يفقه بعضهم عن بعض،

وقيل أمم أمثالكم في الخلق والموت والبعث،

وقال عطاء  أمم أمثالكم في التوحيد والمعرفة، وقال أبن قتيبة أمم أمثالكم في الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك . { ما فرطنا في الكتاب }، أي في اللوح المحفوظ، { من شيء ثم إلى ربهم يحشرون }، قال ابن عباس و الضحاك  حشرها موتها، وقال أبو هريرة يحشر اللّه الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير، وكل شيء فيأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول كوني تراباً فحينئذ يتمنى الكافر ويقول { يا ليتني كنت تراباً } .

أخبرنا أبو عبد اللّه محمد بن الفضل الخرقي أنا أبوالحسن الطيسفوني

أخبرنا عبد اللّه بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { لتردن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء }.

٣٩

قوله عز وجل { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم }، لا يسمعون الخير ولا يتكلمون به، { في الظلمات } ، في ضلالات الكفر، { من يشإ اللّه يضللّه ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم }، وهو الإسلام .

٤٠

قوله تعالى { قل أرأيتكم }، هل رأيتم ؟ والكاف فيه للتأكيد،وقال الفراء  العرب تقول أرأيتك، وهم يريدون

أخبرنا، كما تقول أرأيتك إن فعلت كذا ماذا تفعل ؟أي أخبرني، وقرأ أهل المدينة ( أرأيتكم، وأرايتم، وأرايت) بتليين الهمزة الثانية، و الكسائي بحذفها، قال ابن عباس قل يا محمد لهؤلاء المشركين أرأيتكم، { إن أتاكم عذاب اللّه }، قبل الموت، { أو أتتكم الساعة }، يعني القيامة، { أغير اللّه تدعون }، في صرف العذاب عنكم، { إن كنتم صادقين }،وأراد أن الكفار يدعون اللّه في أحوال الاضطرار كما أخبر اللّه عنهم { وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا اللّه مخلصين له الدين } (لقمان،٣٢) .

٤١

ثم قال { بل إياه تدعون }، أي تدعون اللّه ولا تدعون غيرة، {فيكشف ما تدعون إليه إن شاء }، قيد الإجابة بالمشيئة [والأمور كلها بمشيئته]، { وتنسون }، وتتركون، { ما تشركون } .

٤٢

{ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء }، بالشدة والجوع، { والضراء }، المرض والزمانة، { لعلهم يتضرعون } أي يتوبون ويخضعون،والتضرع السؤال بالتذلل .

٤٣

{ فلولا }، فهلا، { إذ جاءهم بأسنا }، عذابنا، { تضرعوا }، فآمنوا فكشف عنهم، أخبر اللّه عز وجل إنه قد أرسل إلى قوم بلغوا من القسوة إلى أنهم أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا، فذلك قوله { ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون }، من الكفر والمعاصي .

٤٤

{ فلما نسوا ما ذكروا به }، تركوا ما وعظوا وأمروا به، { فتحنا عليهم أبواب كل شيء }، قرأ أبو جعفر. { فتحنا } بالتشديد،في كل القرآن، وقرأ ابن عامر كذلك إذا كان عقيبه جمعاً،والباقون بالتخفيف وهذا فتح استدراج ومكر، أي بدلنا مكان البلاء والشدة الرخاء والصحة، { حتى إذا فرحوا بما أوتوا }، وهذا فرح بطر مثل فرح قارون بما أصاب من الدنيا، {أخذناهم بغتة }، فجأة آمن ما كانوا، وأعجب ما كانت الدنيا إليهم { فإذا هم مبلسون }، آيسون من كل خير، وقال أبو عبيدة المبلس النادم الحزين، وأصل الإبلاس الإطراق من الحزن والندم، وروى عقبة بن عامر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { إذا رأيت اللّه يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته، فإنما ذلك استدراج }، ثم تلا { فلما نسوا ما ذكروا به } الآية .

٤٥

{ فقطع دابر القوم الذين ظلموا }، أي آخرهم [الذين بدبرهم، يقال دبر فلان القوم يدبرهم دبراً ودبوراً إذا كان آخرهم]ومعناه أنهم استؤصلوا بالعذاب فلم يبق منهم باقية، { والحمد للّه رب العالمين }، حمد اللّه نفسه على أن قطع دابرهم لأنه نعمة على الرسل، فذكر الحمد للّه تعليماً لهم ولمن آمن بهم، أن يحمدوا اللّه على كفايته شر الظالمين، وليحمد محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ربهم إذا أهلك المكذبين .

٤٦

قوله تعالى { قل أرأيتم }، أيها المشركون، { إن أخذ اللّه سمعكم }، حتى لا تسمعوا شيئاً أصلاً { وأبصاركم }، حتى لا تبصروا شيئاً، { وختم على قلوبكم }، حتى لا تفقهوا شيئاً ولا تعرفوا مما تعرفون من أمور الدنيا، { من إله غير اللّه يأتيكم به }، ولم يقل بها مع أنه ذكر أشياء ، قيل  معناه يأتيكم بما أخذ منكم،

وقيل الكناية ترجع إلى السمع الذي ذكر أولاً ويندرج غيره تحته، ك

قوله تعالى { واللّه ورسوله أحق أن يرضوه } (التوبة،٦٢). فالهاء راجعة إلى اللّه، ورضى الرسول يندرج في رضى اللّه تعالى، { انظر كيف نصرف الآيات } أي نبين لهم العلامات الدالة على التوحيد والنبوة، { ثم هم يصدفون }، يعرضون عنها مكذبين .

٤٧

{ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب اللّه بغتة }، فجأة، { أو جهرةً }، معاينة ترونه عند نزوله ، قال ابن عباس و والحسن  ليلاً أو نهاراً،{ هل يهلك إلا القوم الظالمون } المشركون.

٤٨

قوله عز وجل { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح }، العمل، { فلا خوف عليهم }، حين يخاف أهل النار، { ولا هم يحزنون }، إذا حزنوا.

٤٩

{ والذين كذبوا بآياتنا يمسهم }، يصيبهم، { العذاب بما كانوا يفسقون }، يكفرون.

٥٠

{ قل لا أقول لكم عندي خزائن اللّه }، نزل حين اقترحوا الآيات فأمره أن يقول لهم { لا أقول لكم عندي خزائن اللّه }، أي خزائن رزقه فأعطيكم ما تريدون، { ولا أعلم الغيب }، فأخبركم بما غاب مما مضى ومما سيكون، { ولا أقول لكم إني ملك }، قال ذلك لأن الملك يقدر على مالا يقدر عليه الآدمي ويشاهد ما لا يشاهده الآدمي، يريد لا أقول لكم شيئاً من ذلك فتنكرون قولي وتجحدون أمري، { إن أتبع إلا ما يوحى إلي }، أي ما آتيكم به فمن وحي اللّه تعالى، وذلك غير مستحيل في العقل مع قيام الدليل والحجج البالغة، { قل هل يستوي الأعمى والبصير } ؟

قال قتادة  الكافر والمؤمن،

وقال مجاهد  الضال والمهتدي

وقيل الجاهل والعالم، { أفلا تتفكرون }، أي أنهما لا يستويان .

٥١

قوله عز وجل { وأنذر به } خوف به أي القرآن، { الذين يخافون أن يحشروا }، يجمعوا ويبعثوا، { إلى ربهم }،

وقيل يخافون أي يعملون، لأن خوفهم إنما كان من علمهم، { ليس لهم من دونه }، من دون اللّه، { ولي }، قريب ينفعهم، { ولا شفيع }، يشفع لهم، { لعلهم يتقون }،فينتهون عما نهوا عنه، وإنما نفى الشفاعة لغيرة-مع أن الأنبياء والأولياء يشفعون- لأنهم لا يشفعون إلا بإذنه.

٥٢

{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } ، قرأ ابن عامر{ بالغداة } بضم الغين وسكون الدال وواو بعدها، ها هنا وفي سورة الكهف وقرأ الآخرون بفتح الغين والدال وألف بعدها. قال سلمان وخباب بن الأرت فينا نزلت هذه الآية،{ جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري وذويهم من المؤلفة قلوبهم، فوجدوا النبي صلى اللّه عليه وسلم قاعداً مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقروهم، فأتوه فقالوا يا رسول اللّه لو جلست في صدر المجلس ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم، وكان عليهم جباب صوف لم يكن عليهم غيرها،لجالسناك وأخذنا عنك، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لهم ما أنا بطارد المؤمنين قالوا فإنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال نعم، قالوا اكتب لنا عليك بذلك كتاباً، قال فدعا بالصحيفة ودعا علياً ليكتب، قالوا ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل بقوله } ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه {، إلى قوله } بالشاكرين { فألقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصحيفة من يده، ثم دعانا فأثبته، وهو يقول } سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة {، فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل اللّه عز وجل } واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه { (الكهف، ٢٨)، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقعد معنا بعد وندنو منه حتى كادت ركبنا تمس ركبته، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم، وقال لنا الحمد للّه الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات}.

وقال الكلبي  قالوا له اجعل لنا يوماً ولهم يوماً، فقال لا أفعل، قالوا فاجعل المجلس واحداً فأقبل إلينا وول ظهرك عليهم،

فأنزل اللّه تعالى هذه الأية { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي }.

قال مجاهد  قالت قريش لولا بلال وابن أم عبد لبايعنا محمداً، فأنزل اللّه هذه الآية { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي }، قال ابن عباس يعني يعبدون ربهم بالغداة والعشي، يعني صلاة الصبح وصلاة العصر، ويروي عنه أن المراد منه الصلوات الخمس، وذلك أن أناساً من الفقراء كانوا مع النبي عليه الصلاة والسلام، فقال ناس من الأشراف إذا صلينا فأخر هؤلاء فليصلوا خلفنا، فنزلت الآية، وقال مجاهد صليت الصبح مع سعيد بن المسيب، فلما سلم الإمام ابتدر الناس القاص، فقال سعيد ما أسرع الناس إلى هذا المجلس !

قال مجاهد  فقلت يتأولون

قوله تعالى { يدعون ربهم بالغداة والعشي }، قال أفي هذا هو، إنما ذلك في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن، وقال إبراهيم النخعي  يعني يذكرون ربهم،

وقيل المراد منه حقيقة الدعاء، { يريدون وجهه } أي يريدون اللّه بطاعتهم قال ابن عباس رضي اللّه عنهما يطلبون ثواب اللّه فقال { ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء }، أي لا تكلف أمرهم ولا يتكلفون أمرك،

وقيل ليس رزقهم عليك فتملهم { فتطردهم }، ولا رزقك عليهم، قوله { فتطردهم }، جواب لقوله { ما عليك من حسابهم من شيء }

وقوله { فتكون من الظالمين }، جواب لقوله { ولا تطرد } أحدهما جواب النفي والآخر جواب النهي .

٥٣

قوله عز وجل { وكذلك فتنا }، أي ابتلينا، {بعضهم ببعض }، أراد ابتلاء الغني بالفقير والشريف بالوضيع، وذلك أن الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد سبقه بالإيمان امتنع من الإسلام بسببه فكان فتنة له فذلك قوله { ليقولوا أهؤلاء من اللّه عليهم من بيننا }، فقال اللّه تعالى {أليس اللّه بأعلم بالشاكرين }، فهو جواب لقولهم { أهؤلاء من اللّه عليهم من بيننا } فهو استفهام بمعنى التقرير، أي اللّه أعلم بمن شكر الإسلام إذ هداه اللّه عز وجل.

أخبرنا الإمام ابو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو العباس عبد اللّه بن محمد بن هارون الطيسفوني أنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو بن بسطام ثنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي أنا مسدد أنا جعفر بن سليمان عن المعلي بن زياد عن العلاء بن بشير المزني عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال { جلست في نفر من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري، وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقام علينا، فلما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سكت القارئ، فسلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال ما كنتم تصنعون ؟قلنا يا رسول اللّه كان قارئ يقرأ علينا فكنا نستمع إلى كتاب اللّه تعالى، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحمد للّه الذي جعل من أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم قال ثم جلس وسطنا ليعدل نفسه فينا ثم قال بيده هكذا فتحلقوا، وبرزت وجوههم له، قال فما رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عرف منهم أحداً غيري، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة }.

٥٤

قوله عز وجل { إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم }، قال عكرمة  نزلت في الذين نهى اللّه عز وجل نبيه عن طردهم، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام.

وقال عطاء  نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسالم وأبي عبيدة ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سلمة بن عبد الأسد رضي اللّه عنهم أجمعين . { كتب ربكم على نفسه الرحمة }، أي قضى على نفسه الرحمة، {أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة }،

قال مجاهد  لا يعلم حلالاً من حرام فمن جهالته ركب الذنب،

وقيل جاهل بما يورثه ذلك الذنب،

وقيل جهالة من حيث أنه آثر المعصية على الطاعة والعاجل القليل على الآجل الكثير، { ثم تاب من بعده }، رجع عن ذنبه، { وأصلح }، عمله،

وقيل أخلص توبته، { فأنه غفور رحيم }، قرأ ابن عامر و عاصم و يعقوب { أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } بفتح الألف فيهما بدلاً من الرحمة، أي كتب على نفسه أنه من عمل منكم، ثم جعل الثانية بدلاً عن الأولى، ك

قوله تعالى { أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون }، (المؤمنون،٣٥)، وفتح أهل المدينة الأولى منهما وكسروا الثانية على الاستئناف، وكسرهما الآخرون على الاستئناف.

٥٥

{ وكذلك نفصل الآيات }، أي وهكذا،

وقيل معناه وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا وإعلامنا على المشركين كذلك نفصل الآيات، أي نميز ونبين لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل، { ولتستبين سبيل المجرمين }، أي طريق المجرمين، وقرأ أهل المدينة { ولتستبين }بالتاء،{ سبيل } نصب على خطاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، أي ولتعرف يا محمد سبيل المجرمين، يقال استبنت الشيء وتبينته إذا عرفته، وقرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر { ولتستبين } بالياء { سبيل } بالرفع، وقرأ الآخرون { ولتستبين }بالتاء { سبيل } رفع، أي ليظهر ويتضح والسبيل، يذكر ويؤنث، فدليل التذكير

قوله تعالى { وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً }(الأعراف ،١٤٦)،ودليل التأنيث

قوله تعالى { لم تصدون عن سبيل اللّه من آمن تبغونها عوجاً } (آل عمران، ٩٩).

٥٦

قوله عز وجل { قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون اللّه قل لا أتبع أهواءكم }، في عبادة الأوثان وطرد الفقراء،{ قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين }، يعني إن فعلت ذلك فقد تركت سبيل الحق وسلكت غير طريق الهدى.

٥٧

{ قل إني على بينة }، أي على بيان وبصيرة وبرهان، { من ربي وكذبتم به }،أي ما جئت به، { ما عندي ما تستعجلون به }، قيل أراد به استعجالهم العذاب،كانوا يقولون { إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة }(الأنفال، ٣٢) الآية، قيل أراد به القيامة، قال اللّه تعالى { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } (الشورى،١٨)، { إن الحكم إلا للّه يقص الحق }، قرأ أهل الحجاز و عاصم يقص بضم القاف والصاد مشدداً أي يقول الحق، لأنه في جميع المصاحف بغير ياء،ولأنه قال الحق ولم يقل بالحق، وقرأ الآخرون { يقضي } بسكون القاف والضاد مكسورة، من قضيت، أي يحكم بالحق بدليل أنه قال { وهو خير الفاصلين }، والفصل يكون في القضاء وإنما حذفوا الياء لاستثقال الألف واللام، ك

قوله تعالى { صال الجحيم} ونحوها،ولم يقل بالحق لأن الحق صفة المصدر، كأنه قال يقضي القضاء الحق.

٥٨

{ قل لو أن عندي }، وبيدي، { ما تستعجلون به }، من العذاب، { لقضي الأمر بيني وبينكم }،أي فرغ من العذاب [وأهلكتم]، أي لعجلته حتى أتخلص منكم، { واللّه أعلم بالظالمين }.

٥٩

قوله عز وجل { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو }،مفاتح الغيب خزائنه، جمع مفتح.

واختلفوا في مفاتح الغيب،

أخبرنا أبو عبد اللّه محمد بن الفضل الخرقي أنا أبوالحسن الطيسفوني أنا عبد اللّه بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا عبد اللّه بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول قال رسول اللّه {مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا اللّه، لا يعلم ما تغيض الأرحام أحد إلا اللّه تعالى، [ولا يعلم ما في الغد إلا اللّه عز وجل]، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا اللّه، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا اللّه }. وكما قال اللّه تعالى { إن اللّه عنده علم الساعة وينزل الغيث }. وقال الضحاك و مقاتل  مفاتح الغيب خزائن الأرض، وعلم نزول العذاب.

وقال عطاء  ما غاب عنكم من الثواب والعقاب.

وقيل انقضاء الآجال،

وقيل أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم،

وقيل هي ما لم يكن بعد أنه يكون أم لا يكون، وما يكون كيف يكون، ومالا يكون أن لو كان كيف يكون ؟ وقال ابن مسعود) أوتي نبيكم علم كل شيء إلا علم مفاتيح الغيب). { ويعلم ما في البر والبحر }،

قال مجاهد  البر المفاوز والقفار، والبحر القرى والأمصار، لا يحدث فيهما شيء إلا يعلمه،

وقيل هو البر والبحر المعروف، { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها }، يريد ساقطة وثابتة، يعني يعلم عدد ما يسقط من ورق الشجر وما يبقى عليه،

وقيل يعلم كم انقلبت ظهراً لبطن إلى أن سقطت على الأرض، { ولا حبة في ظلمات الأرض }، قيل هو الحب المعروف في بطون الأرض،

وقيل هو تحت الصخرة في أسفل الأرضين { ولا رطب ولا يابس }، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما الرطب الماس، واليابس البادية،

وقال عطاء  يريد ما ينبت ومالا ينبت،

وقيل ولا حي ولا ميت،

وقيل هو عبارة عن كل شيء، { إلا في كتاب مبين }، يعني أن الكل مكتوب في اللوح المحفوظ .

٦٠

قوله تعالى { وهو الذي يتوفاكم بالليل }، أي يقبض أرواحكم إذا نمتم بالليل، { ويعلم ما جرحتم }، كسبتم، ‌{ بالنهار ثم يبعثكم فيه }، أي يوقظكم في النهار، { ليقضى أجل مسمىً }، يعني أجل الحياة إلى الممات، يريد استيفاء العمر على التمام، { ثم إليه مرجعكم }، في الآخرة، { ثم ينبئكم }، يخبركم، { بما كنتم تعملون }.

٦١

قوله عز وجل { وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظةً } يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم، وهو جمع حافظ، نظيره { وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين }(الانفطار،١١)، { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته }، قرأ حمزة (توفيه)و(استهويه) بالياء وأمالهما، { رسلنا } يعني أعوان ملك الموت يقبضونه فيدفعونه إلى ملك الموت فيقبض روحه، كما قال { قل يتوفاكم ملك الموت }،

وقيل الأعوان يتوفونه بأمر ملك الموت، فكأن ملك الموت توفاه لأنهم يصدرون عن أمره،

وقيل أراد بالرسل ملك الموت وحده، فذكر الواحد بلفظ الجمع، وجاء في الأخبار أن اللّه تعالى جعل الدنيا بين يدي ملك الموت كالمائدة الصغيرة فيقبض من هاهنا ومن هاهنا فإذا كثرت الأرواح يدعوا الأرواح فتجيب له، { وهم لا يفرطون }‌، أي لا يقصرون .

٦٢

{ ثم ردوا إلى اللّه مولاهم الحق }، يعني الملائكة،

وقيل يعني العباد يردون بالموت إلى اللّه مولاهم الحق، فإن قيل الآية في المؤمنين والكفار جميعاً وقد قال في آية أخرى { وأن الكافرين لا مولى لهم }(محمد،١١)،فكيف وجه الجمع ؟ فقيل المولى في تلك الآية بمعنى الناصر ولا ناصر للكفار، والمولى ها هنا بمعنى الملك الذي يتولى أمورهم، واللّه عز وجل مالك الكل ومتولي الأمور،

وقيل أراد هنا المؤمنين خاصة يردون إلى مولاهم، والكفار فيه تبع، { ألا له الحكم }، أي القضاء دون خلقة، { وهو أسرع الحاسبين }، أي إذا حاسب فحسابه سريع لأنه لا يحتاج إلى فكرة وروية وعقد يد.

٦٣

قوله عز وجل { قل من ينجيكم }، قرأ يعقوب بالتخفيف، وقرأ العامة بالتشديد، { من ظلمات البر والبحر }، أي من شدائدهما وأهوالهما، كانوا إذا سافروا في البر والبحر فضلوا الطريق وخافوا الهلاك، دعوا اللّه مخلصين له الدين فينجيهم، فذلك

قوله تعالى { تدعونه تضرعاً وخفيةً }، أي علانية وسراً، قرأ أبو بكر عن عاصم { وخفيةً } بكسر الخاء هاهنا وفي الأعراف، وقرأ الآخرون بضمها وهما لغتان، { لئن أنجانا }، أي يقولون لئن أنجيتنا، وقرأ أهل الكوفة لئن أنجانا اللّه، { من هذه }، يعني من هذه الظلمات، { لنكونن من الشاكرين }، والشكر هو معرفة النعمة مع القيام بحقها .

٦٤

{ قل اللّه ينجيكم منها }، قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر { ينجيكم }بالتشديد، مثل

قوله تعالى { قل من ينجيكم }، وقرأ الآخرون هذا بالتخفيف، { ومن كل كرب }، والكرب غاية الغم الذي يأخذ بالنفس،{ ثم أنتم تشركون }، يريد أنهم يقرون أن الذي يدعونه عند الشدة هو الذي ينجيهم ثم تشركون معه الأصنام التي قد علموا أنها لا تضر ولا تنفع .

٦٥

قوله عز وجل { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم }، قال الحسن و قتادة  نزلت الآية في أهل الإيمان . وقال قوم نزلت في المشركين. قوله { عذاباً من فوقكم }، يعني الصيحة والحجارة والريح والطوفان،كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح، { أو من تحت أرجلكم }، يعني الرجفة والخسف كما فعل بقوم شعيب وقارون. وعن ابن عباس و مجاهد  { عذابا من فوقكم } السلاطين الظلمة ، ومن تحت أرجلكم العبيد السوء

وقال الضحاك  من فوقكم من قبل كباركم أو من تحت أرجلكم أي من أسفل منكم ، { أو يلبسكم شيعا } أي  يخلطكم فرقا ويبث فيكم الأهواء المختلفة ، { ويذيق بعضكم بأس بعض } يعني  السيوف المختلفة ، يقتل بعضكم بعضا .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو النعمان أنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر قال { لما نزلت هذه الآية } قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم { قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعوذ بوجهك ، قال } أو من تحت أرجلكم {، قال أعوذ بوجهك قال } أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض { قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذا أهون أو هذا أيسر } .

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا أبو جعفر محمد بن علي دحيم الشيباني

أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة أنا يعلي بن عبيد الطنافسي أنا عثمان بن حكيم عن عامر بن سعد بن وقاص عن أبيه، قال أقبلنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية فدخل فصلى ركعتين وصلينا معه فناجى ربه طويلاً ثم قال { سألت ربي ثلاثاً سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها }.

أخبرنا الأمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا السيد أبوالحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن دلوية الدقاق ثنا محمد بن إسماعيل البخاري ثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني أخي عن سليمان بن بلال عن عبيد اللّه بن عمر عن عبد اللّه بن عبد الرحمن الأنصاري أن عبد اللّه بن عمر جاءهم ثم قال (إن النبي صلى اللّه عليه وسلم دعا في مسجد فسأل اللّه ثلاثاً فأعطاه اثنين ومنعه واحدة، سأله أن لا يسلط على أمته عدواً من غيرهم يظهر عليهم فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يهلكهم بالسنين فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأس بعضهم على بعض، فمنعه ذلك). قوله عز وجل { انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون } .

٦٦

{ وكذب به قومك }،أي بالقرآن،

وقيل بالعذاب، { وهو الحق قل لست عليكم بوكيل }، برقيب،

وقيل بمسلط ألزمكم الإسلام شئتم أو أبيتم، إنما أنا رسول .

٦٧

{ لكل نبإ }،خبر من أخبار القرون، { مستقر }، حقيقة ومنتهى ينتهي إليه فيتبين صدقه من كذبه وحقه من باطله إما في الدنيا وإما في الآخرة، { وسوف تعلمون }، وقال مقاتل لكل خبر يخبره اللّه وقت [وقته]ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير، وقال الكلبي [لكل]قول وفعل حقيقة، إما في الدنيا وإما في الآخرة وسوف تعلمون ما كان في الدنيا فستعرفونه وما كان في الآخرة فسوف يبدو لكم .

٦٨

قوله عز وجل { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا }، يعني في القرآن بالاستهزاء { فأعرض عنهم }، فاتركهم [ولا تجالسهم]، { حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك }، قرأ أبن عامر بفتح النون وتشديد السين وقرأ الآخرون بسكون النون وتخفيف السين،{ الشيطان }، نهينا، { فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين }، يعني إذا جلست معهم ناسياً فقم من عندهم بعدما تذكرت.

٦٩

{ وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء }، روي عن ابن عباس أنه قال لما نزلت هذه الآية { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم }، قال المسلمون كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبداً ؟ وفي رواية قال المسلمون فإنا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم، فأنزل اللّه عز وجل { وما على الذين يتقون }، الخوض،{ من حسابهم }، أي من آثام الخائضين { من شيء ولكن ذكرى }، أي ذكروهم وعظوهم بالقرآن، والذكر والذكرى واحد، يريد ذكروهم ذكرى، فتكون في محل النصب، { لعلهم يتقون }، الخوض إذا وعظتموهم فرخص في مجالستهم على الوعظ لعله يمنعهم ذلك من الخوض،

وقيل لعلهم يستحيون.

٧٠

قوله عز وجل { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً }، يعني الكفار الذين إذا سمعوا آيات اللّه استهزؤوا بها وتلاعبوا عند ذكرها،

وقيل إن اللّه تعالى جعل لكل قوم عيداً فاتخذ كل قوم دينهم -أي عيدهم-لعباً ولهواً، وعيد المسلمين الصلاة والتكبير وفعل الخير مثل الجمعة والفطر والنحر، { وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به }، أي وعظ بالقرآن، { أن تبسل }، أي لأن لا تبسل، أي لا تسلم، { نفس }، للّهلاك، { بما كسبت }، قاله مجاهد و عكرمة و السدي ،

وقال ابن عباس تهلك و

قال قتادة  أن تحبس،

وقال الضحاك  تحرق، وقال ابن زيد  تؤخذ، ومعناه ذكرهم ليؤمنوا، كيلا تهلك نفس بما كسبت، قال الأخفش  تبسل تجازى،

وقيل تفضح، وقال الفراء ترتهن، وأصل الإبسال التحريم، والبسل الحرام، ثم جعل نعتاً لكل شدة تتقى وتترك { ليس لها }، أي لتلك النفس، { من دون اللّه ولي، }، قريب، { ولا شفيع }، يشفع لها في الآخرة، { وإن تعدل كل عدل }، أي تفد كل فداء، { لا يؤخذ منها }، { أولئك الذين أبسلوا }،أسلموا للّهلاك، { بما كسبوا، لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون }.

٧١

{ قل أندعوا من دون اللّه ما لا ينفعنا }، إن عبدناه،{ ولا يضرنا }، إن تركناه،يعني الأصنام ليس إليها نفع ولا ضر، { ونرد على أعقابنا }، إلى الشرك [مرتدين]،{ بعد إذ هدانا اللّه كالذي استهوته الشياطين في الأرض }، أي يكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين، أي أضلته، { حيران }، قال ابن عباس كالذي استهوته الغيلان في المهامه فأضلوه فهو حائر بائر، والحيران المتردد في الأمر، لا يهتدي إلى مخرج منه، { له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا }، هذا مثل ضربه اللّه تعالى لمن يدعو إلى الآلهة ولمن يدعوا إلى اللّه تعالى، كمثل رجل في رفقة ضل به الغول عن الطريق يدعوه أصحابه من أهل الرفقة هلم إلى الطريق، ويدعوه الغول [هلم]، فيبقى حيران لا يدري أين يذهب،فإن أجاب الغول انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة، وإن أجاب من يدعوه إلى الطريق اهتدى. { قل إن هدى اللّه هو الهدى }، يزجر عن عبادة الأصنام، كأنه يقول لا تفعل ذلك فإن الهدى هدى اللّه، لا هدى غيره، { وأمرنا لنسلم }، أي أن نسلم، { لرب العالمين }، والعرب تقول أمرتك لتفعل وأن تفعل وبأن تفعل.

٧٢

{ وأن أقيموا الصلاة واتقوه }، أي وأمرنا بإقامة الصلاة والتقوى، { وهو الذي إليه تحشرون } أي تجمعون في الموقف للحساب.

٧٣

{ وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق }، قيل الباء بمعنى اللام، أي إظهاراً للحق لأنه جعل صنعه دليلاً على وحدانيته، { ويوم يقول كن فيكون }، قيل هو راجع إلى خلق السموات والأرض والخلق، بمعنى القضاء والتقدير، أي كل شيء قضاه وقدره قال له كن، فيكون.

وقيل يرجع إلى القيامة،يدل على سرعة أمر البعث والساعة،كأنه قال ويوم يقول للخلق موتوا فيموتون، وقوموا فيقومون، { قوله الحق }، أي الصدق الواقع لا محالة، يريد أن ما وعده حق كائن، { وله الملك يوم ينفخ في الصور }، يعني ملك الملوك يومئذ زائل، كقوله { مالك يوم الدين }، وكما قال { والأمر يومئذ للّه }، والأمر له في كل وقت، ولكن لا أمر في ذلك اليوم لأحد مع أمر اللّه، والصور قرن ينفخ فيه،

قال مجاهد  كهيئة البوق،

وقيل هو بلغة أهل اليمن، وقال أبوعبيدة الصور هو الصور وهو جمع الصورة، وهو قول الحسن ، والأول أصح. والدليل عليه ما

أخبرنا محمد بن عبد اللّه[بن أبي توبة أنا أبو طاهر المحاربي أنا محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد اللّه]بن محمود أنا إبراهيم بن عبد اللّه الخلال أنا عبد اللّه بن المبارك عن سليمان التيمي عن أسلم عن بشر بن شغاف عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال {جاء أعرابي إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ما الصور ؟ قال قرن ينفخ فيه }.

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنا أبو عبد اللّه بن محمد بن عبد اللّه الصفار أنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي أنا أبو حذيفة أنا سفيان عن الأعمش عن عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { كيف أنعم وصاحب الصور قد التقمه، وأصغى سمعه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر ؟ فقالوا يا رسول اللّه وما تأمرنا ؟ قال قولوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل} . وقال أبو العلاء عن عطية  متى يؤمر بالنفخ فينفخ. { عالم الغيب والشهادة }، يعلم ما غاب عن العباد وما يشاهدونه، لا يغيب عن علمه شيء، { وهو الحكيم الخبير }.

٧٤

قوله عز وجل { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر}، قرأ يعقوب { آزر }بالرفع، يعني { آزر }، والقراءة المعروفة بالنصب، وهو أسم أعجمي لا ينصرف في موضع الخفض. قال محمد بن إسحاق و الضحاك و الكلبي  آزر اسم أبي إبراهيم وهو تارخ أيضاً مثل إسرائيل ويعقوب وكان من كوثى قرية من سواد الكوفة، وقال مقاتل بن حيان وغيرة آزر لقب لأبي إبراهيم، واسمه تارخ. وقال سليمان التيمي  هو سب وعيب، ومعناه في كلامهم المعوج،

وقيل معناه الشيخ الهم بالفارسية، وقال سعيد بن المسيب و مجاهد  آزر اسم صنم، فعلى هذا يكون في محل النصب تقديره أتتخذ آزر إلهاً، قوله { أصناماً آلهةً }، دون اللّه، { إني أراك وقومك في ضلال مبين } .

٧٥

{ وكذلك نري إبراهيم }، أي كما أريناه البصيرة في دينه، والحق في خلاف قومه، نريه { ملكوت السموات والأرض }، والملكوت الملك، زيدت فيه التاء للمبالغة، كالجبروت والرحموت والرهبوت، قال ابن عباس يعني خلق السموات والأرض،

وقال مجاهد  و سعيد بن جبير  يعني آيات السموات والأرض، وذلك أنه أقيم على صخر وكشف له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين ونظر إلى مكانه في الجنة، فذلك

قوله تعالى { وآتيناه أجره في الدنيا } يعني أريناه مكانه في الجنة. وروي عن سلمان رضي اللّه عنه، ورفعه بعضهم [عن علي رضي اللّه عنه]لما أري إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلاً على فاحشة فدعا عليه فهلك، ثم أبصر آخر فدعا عليه فهلك، ثم أبصر آخر فأراد أن يدعوا عليه فقال له الرب عز وجل ( يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة، فلا تدعون على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال إما أن يتوب فأتوب عليه، وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني، وإما أن يبعث إلي فإن شئت عفوت عنه، وإن شئت عاقبته) وفي رواية (وإما أن يتولى فإن جهنم من ورائه ). و

قال قتادة  ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار. { وليكون من الموقنين }،عطف على المعنى،ومعناه نريه ملكوت السموات والأرض، ليستدل به وليكون من الموقنين.

٧٦

{ فلما جن عليه الليل رأى كوكباً }،الآية، قال أهل التفسير ولد إبراهيم عليه السلام في زمن نمرود بن كنعان، وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس إلى عبادته، وكان له كهان ومنجمون، فقالوا له إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه، يقال إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء عليهم السلام. و

قال السدي  رأى نمرود في منامة كأن كوكبا طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء، ففزع من ذلك فزعاً شديداً، فدعا السحرة والكهنة فسألهم عن ذلك، فقالوا هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة، فيكون هلاكك وهلاك ملكك وأهل بيتك على يديه، قالوا فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته في تلك السنة، وأمر بعزل الرجال عن النساء، وجعل على كل عشرة رجال رجلاً فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها، لأنهم كانوا لا يجامعون في الحيض، فإذا طهرت حال بينهما، فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فواقعها ، فحملت بإبراهيم عليه السلام. وقال محمد بن إسحق  بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقرية، فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم عليه السلام، فإنه لم يعلم بحبلها لأنها كانت جارية حديثة السن، لم يعرف الحبل في بطنها .و

قال السدي  خرج نمرود بالرجال إلى المعسكر ونحاهم عن النساء تخوفاً من ذلك المولود أن يكون فمكث بذلك ما شاء اللّه ثم بدت له حاجة إلى المدينة، فلم يأتمن عليها أحداً من قومه إلا آزر، فبعث إليه ودعاه وقال له إن لي حاجة أحببت أن أوصيك بها ولا أبعثك إلا لثقتي بك ،فأقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك، فقال آزر أنا أشح على ديني من ذلك ، فأوصاه بحاجته، فدخل المدينة وقضى حاجته، ثم قال لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما نظر إلى أم إبراهيم عليه السلام لم يتمالك حتى وقعها ، فحملت بإبراهيم عليه السلام . وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما لما حملت أم إبراهيم قال الكهان لنمرود إن الغلام الذي

أخبرناك به قد حملته أمه الليلة، فأمر نمرود بذبح الغلمان،فلما دنت ولادة أم إبراهيم عليه السلام وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها، فوضعته في نهر يابس ثم لفته في خرقة ووضعته في حلفاء، فرجعت فأخبرت زوجها بأنها ولدت، وأن الولد في موضع كذا فانطلق أبوه فأخذه من ذلك المكان وحفر له سرباً عند نهر، فواراه فيه وسد عليه بابه بصخرة مخافة السباع، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه . وقال محمد بن إسحاق  لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلاً إلى مغارة كانت قريبة منها فولدت فيها إبراهيم عليه السلام وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود، ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها ثم كانت تطالعه لتنظر ما فعل فتجده حياً يمص إبهامه . قال أبو روق  وقالت أم إبراهيم ذات يوم لأنظرن إلى أصابعه، فوجدته يمص من أصبع ماءً، ومن أصبع لبناً، ومن أصبع عسلاً، ومن أصبع تمراً، ومن أصبع سمناً. وقال محمد بن إسحاق  كان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل ؟ فقالت ولدت غلاماً فمات، فصدقها فسكت عنها، وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهراً حتى قال لأمه أخرجيني فأخرجته عشاءً فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض، وقال إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي الذي مالي إله غيره، ثم نظر إلى السماء فرأى كوكباً فقال هذا ربي، ثم أتبعه ببصره لينظر إليه حتى غاب، فلما أفل، قال لا أحب الآفلين، ثم رأى القمر بازغاً قال هذا ربي وأتبعه ببصره حتى غاب، ثم طلعت الشمس هكذا إلى آخره، ثم رجع إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهه وعرف ربه وبرئ من دين قومه إلا أنه لم ينادهم بذلك، فأخبره أنه ابنه وأخبرته أم إبراهيم أنه ابنه، وأخبرته بما كانت صنعت في شأنه فسر آزر بذلك وفرح فرحاً شديداً.

وقيل إنه كان في السرب سبع سنين،

وقيل ثلاث عشرة سنة،

وقيل سبع عشرة سنة، قالوا فلما شب إبراهيم عليه السلام، وهو في السرب قال لأمه من ربي ؟ قالت أنا، قال فمن ربك ؟ قالت أبوك، قال فمن رب أبي ؟ قالت نمرود، قال فمن ربه ؟ قالت له اسكت فسكت، ثم رجعت إلى زوجها فقالت أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك، ثم أخبرته بما قال، فأتاه أبوه آزر، فقال له إبراهيم عليه السلام يا أبتاه من ربي ؟ قال أمك، قال فمن رب أمي ؟ قال أنا قال فمن ربك ؟ قال نمرود قال فمن رب نمرود ؟ فلطمه لطمة وقال له اسكت فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فأبصر كوكباً، قال هذا ربي. ويقال إنه قال لأبويه أخرجاني فأخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس، فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم، فسأل أباه ما هذه ؟ فقال إبل وخيل وغنم، فقال ما لهذه بد من أن يكون لها رب وخالق، ثم نظر فإذا المشتري قد طلع،

ويقال الزهرة، وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فتأخر طلوع القمر فيها، فرأى الكوكب قبل القمر، فذلك قوله عز وجل{ فلما جن عليه الليل } أي دخل ، يقال جن الليل وأجن الليل، وجنه الليل، وأجن عليه الليل يجن جنوناً وجناناً إذا أظلم وغطى كل شيء، وجنون الليل سواده، { رأى كوكباً } قرأ أبو عمرو { رأى } بفتح الراء وكسر الألف، ويكسرهما ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر، وفتحهما الآخرون. { قال هذا ربي }.

واختلفوا في قوله ذلك فأجراه بعضهم على الظاهر، وقالوا كان إبراهيم عليه السلام مسترشداً طالباً للتوحيد حتى وفقه اللّه تعالى وآتاه رشده فلم يضره ذلك في حال الاستدلال، وأيضاً كان ذلك في حال طفوليته قبل قيام الحجة عليه، فلم يكن كفراً. وأنكر الآخرون هذا القول، وقالوا لا يجوز أن يكون للّه رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو للّه موحد وبه عارف، ومن كل معبود سواه برئ وكيف يتوهم هذا على من عصمة اللّه وطهره وآتاه رشده من قبل وأخبر عنه فقال { إذ جاء ربه بقلب سليم }(الصافات،٨٤)وقال { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض }، أفتراه أراه الملكوت ليوقن فلما أيقن رأى كوكباً قال هذا ربي معتقداً ؟ فهذا مالا يكون أبداً. ثم قالوا فيه أربعة أوجه من التأويل أحدها أن إبراهيم عليه السلام أراد أن يستدرج القوم بهذا القول ويعرفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموه، وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها، ويرون أن الأمور كلها إليها فأراهم أنه معظم ما عظموه وملتمس الهدى من حيث ما التمسوه، فلما أفل أراهم النقص الداخل على النجوم ليثبت خطأ ما يدعون، ومثل هذا مثل الحواري الذي ورد على قوم يعبدون الصنم، فأظهر تعظيمه فأكرموه حتى صدروا في كثر من الأمور عن رأيه إلى أن دهمهم عدو فشاوروه في أمره، فقال الرأي أن ندعو هذا الصنم حتى يكشف عنا ما قد أظلنا، فاجتمعوا حوله يتضرعون فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يدفع دعاهم إلى أن يدعوا اللّه فدعوه فصرف عنهم ما كانوا يحذرون، فأسلموا. والوجه الثاني من التأويل أنه قال على وجه الاستفهام تقديره أهذا ربي ؟ ك

قوله تعالى { أفإن مت فهم الخالدون } (الأنبياء،٣٤) ؟ أي أفهم الخالدون ؟ وذكره على وجه التوبيخ منكراً لفعلهم، يعني ومثل هذا يكون رباً، أي ليس هذا ربي . والوجه الثالث أنه على وجه الاحتجاج عليهم، يقول هذا ربي بزعمكم ؟ فلما غاب قال لو كان إلهاً لما غاب، كما قال [{ ذق إنك أنت العزيز الكريم } (الدخان، ٤٩)، أي عند نفسك وبزعمك، وكما أخبر عن موسى أنه قال ]{ وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه }(طه ،٩٧) يريد إلهك بزعمك . والوجه الرابع فيه إضمار وتقديره يقولون هذا ربي، كقوله { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا }، (البقرة،١٢٧) أي يقولون ربنا تقبل منا. { فلما أفل قال لا أحب الأفلين }، ومالا يدوم .

٧٧

{ فلما رأى القمر بازغاً }، طالعاً ، { قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي } ، قيل  لئن لم يثبتني على الهدى، ليس أنه لم يكن مهتدياً ، والأنبياء لم يزالوا يسألون اللّه تعالى الثبات على الإيمان، وكان إبراهيم يقول {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} (إبراهيم،٣٥)، { لأكونن من القوم الضالين }، أي عن الهدى.

٧٨

{ فلما رأى الشمس بازغةً قال هذا ربي هذا أكبر }، أي أكبر من الكواكب والقمر، ولم يقل هذه مع أن الشمس مؤنثة لأنه أراد هذا الطالع، أو رده إلى المعنى، وهو الضياء والنور، لأنه رآه أضوأ من النجوم والقمر، { فلما أفلت }، غربت، { قال يا قوم إني بريء مما تشركون }.

٧٩

{ إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين }.

٨٠

قوله عز وجل { وحاجه قومه قال أتحاجوني في اللّه وقد هدان }، ولما رجع إبراهيم عليه السلام إلى أبيه، وصار من الشباب بحالة سقط عنه طمع الذباحين، وضمه آزر إلى نفسه جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليبيعها، فيذهب بها [إبراهيم عليه السلام] وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه، فلا يشتريها أحد، فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر [فضرب] فيه رؤوسها، وقال اشربي، استهزاءً بقومه، وبما هم فيه من الضلال، حتى فشا استهزاؤه بها في قومه [وأهل] قريته، فحاجه أي خاصمه وجادله قومه في دينه، { قال أتحاجوني في اللّه }، قرأ أهل المدينة وابن عامر بتخفيف النون، وقرأ الآخرون بتشديدها إدغاماً لاحدى النونين في الأخرى، ومن خفف حذف إحدى النونين تخفيفاً يقول أتجادلونني في توحيد اللّه، وقد هداني للتوحيد والحق ؟ { ولا أخاف ما تشركون به} وذلك أنهم قالوا له  إحذر الأصنام فإنا نخاف أن تمسك بسوء من خبل أوجنون لعيبك إياها ، فقال لهم ولا أخاف ما تشركون به، { إلا أن يشاء ربي شيئاً }، وليس هذا باستثناء عن الأول بل هو استثناء منقطع، معناه لكن إن يشأ ربي شيئاً سوءً، فيكون ما شاء، { وسع ربي كل شيء علماً }، أي أحاط علمه بكل شيء، { أفلا تتذكرون } .

٨١

{ وكيف أخاف ما أشركتم }، يعني الأصنام، وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع، { ولا تخافون أنكم أشركتم باللّه ما لم ينزل به عليكم سلطاناً }، حجة وبرهاناً، وهو القاهر القادر على كل شيء، { فأي الفريقين أحق }، أولى، { بالأمن}، أنا وأهل ديني أم أنتم ؟ { إن كنتم تعلمون }.

٨٢

{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم }، لم يخلطوا.إيمانهم بشرك، { أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا إسحاق ثنا عيسى بن يونس أنا الأعمش أنا إبراهيم عن علقمة عن عبد اللّه قال {لما نزلت } الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم {شق ذلك على المسلمين فقالوا يا رسول اللّه فأينا لا يظلم نفسه ؟ فقال ليس ذلك إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان لابنه وهو يعظه } يا بني لا تشرك باللّه إن الشرك لظلم عظيم { ؟ (لقمان،١٣)}

٨٣

قوله عز وجل { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } حتى خصمهم وغلبهم بالحجة،

قال مجاهد  هي قوله { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن }،

وقيل أراد به الحجاج الذي حاج نمرود على ما سبق في سورة البقرة. { نرفع درجات من نشاء }، بالعلم قرأ أهل الكوفة و يعقوب (درجات) بالتنوين هاهنا وفي سورة يوسف، أي نرفع درجات من نشاء بالعلم والفهم والفضيلة والعقل، كما رفعنا درجات إبراهيم حتى اهتدى وحاج قومه في التوحيد، { إن ربك حكيم عليم }.

٨٤

{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا }، وفقنا وأرشدنا. و { ونوحاً هدينا من قبل }، أي من قبل إبراهيم، { ومن ذريته }، أي ومن ذرية نوح عليه السلام، ولم يرد من ذرية إبراهيم لأنه ذكر في جملتهم يونس ولوطاً ولم يكونا من ذرية إبراهيم { داود }، يعني داود بن أيشا، { وسليمان }، يعني ابنه، { ويعقوب }، وهو أيوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم { ويوسف }، هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، { وموسى }، وهو موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب. { وهارون }، هو أخو موسى أكبر منه بسنة { وكذلك }، أي وكما جزينا إبراهيم على توحيده بأن رفعنا درجته ووهبنا له أولاداً أنبياء أتقياء كذلك، { نجزي المحسنين }، على إحسانهم، وليس ذكرهم على ترتيب أزمانهم .

٨٥

{ وزكريا }، وهو زكريا بن اذن، { ويحيى }،وهو ابنه، { وعيسى }، وهو ابن مريم بنت عمران، { وإلياس }، اختلفوا فيه، قال ابن مسعود هو إدريس، وله اسمان مثل يعقوب وإسرائيل، والصحيح أنه غيره، لأن اللّه تعالى ذكره في ولد نوح، وإدريس جد أبي نوح وهو إلياس ياسين بن فنحاص بن عيزار بن هارون بن عمران { كل من الصالحين }.

٨٦

{ وإسماعيل }، وهو ولد إبراهيم، { واليسع }، وهو ابن أخطوب بن العجوز، وقرأ حمزة و الكسائي { واليسع } ، بتشديد اللام وسكون الياء هنا وفي ص { ويونس }، وهو يونس بن متى، { ولوطاً }، وهو لوط بن هاران بن أخي إبراهيم، { وكلاً فضلنا على العالمين }، أي عالمي زمانهم .

٨٧

{ ومن آبائهم }، من فيه للتبعيض، لأن آباء بعضهم كانوا مشركين، { وذرياتهم }، أي ومن ذرياتهم. وأراد به ذرية بعضهم لأن عيسى ويحيى لم يكن لهما ولد، وكان في ذرية بعضهم من كان كافراً، { وإخوانهم واجتبيناهم }، اخترناهم واصطفيناهم، { وهديناهم }، أرشدناهم { إلى صراط مستقيم }.

٨٨

{ ذلك هدى اللّه }، دين اللّه، { يهدي به }، يرشد به، { من يشاء من عباده، ولو أشركوا }، أي هؤلاء الذين سميناهم، { لحبط }، لبطل وذهب، { عنهم ما كانوا يعملون }.

٨٩

{ أولئك الذين آتيناهم الكتاب }، أي الكتب المنزلة عليهم، { والحكم }، يعني العلم والفقه، { والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء }، الكفار يعني أهل مكة، { فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين }، يعني الأنصار وأهل المدينة، قاله ابن عباس و مجاهد ، و

قال قتادة  فإن يكفر بها هؤلاء الكفار فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين، يعني الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم هاهنا، وقال أبو رجاء العطاري  معناه فإن يكفر بها أهل الأرض فقد وكلنا بها أهل السماء، وهم الملائكة، ليسوا بها بكافرين.

٩٠

{ أولئك الذين هدى اللّه }، أي هداهم اللّه، { فبهداهم}، فبسنتهم وسيرتهم ، { اقتده }، الهاء فيها هاء الوقف، وحذف حمزة و الكسائي الهاء في الوصل، والباقون بإثباتها وصلاً ووقفاً، وقرأ ابن عامر { اقتده } باشباع الهاء كسراً { قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو }، ما هو، {إلا ذكرى }، أي تذكرة وعطية، { للعالمين }.

٩١

قوله تعالى { وما قدروا اللّه حق قدره }، أي ما عظموه حق عظمته،

وقيل ما وصفوه حق صفته، { إذ قالوا ما أنزل اللّه على بشر من شيء }، قال سعيد بن جبير { جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى اللّه عليه وسلم بمكة، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن اللّه يبغض الحبر السمين وكان حبراً سميناً فغضب، وقال واللّه ما أنزل اللّه على بشر من شيء}. و

قال السدي  نزلت في فنحاص بن عازوراء، وهو قائل هذه المقالة. وفي القصة أن مالك بن الصيف لما سمعت اليهود منه تلك المقالة عتبوا عليه، وقالوا أليس أن اللّه أنزل التوراة على موسى ؟ فلم قلت ما أنزل اللّه على بشر من شيء ؟فقال مالك بن الصيف أغضبني محمد فقلت ذلك، فقالوا له وأنت إذا غضبت تقول[على اللّه] غير الحق فنزعوه عن الحبرية، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف. وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما قالت اليهود يا محمد أنزل اللّه عليك كتاباً ؟قال نعم، قالوا واللّه ما أنزل اللّه من السماء كتاباً، فأنزل اللّه { وما قدروا اللّه حق قدره إذ قالوا ما أنزل اللّه على بشر من شيء }، فقال اللّه تعالى { قل }، لهم، { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس }، يعني التوراة، { تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً }، أي تكتبون عنه دفاتر وكتباً مقطعة تبدونها، أي تبدون ما تحبون وتخفون كثيراً من نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم وآية الرجم. قرأ ابن كثير وأبو عمر { يجعلون } { تبدونها } { وتخفون }، بالياء جميعاً، ل

قوله تعالى { وما قدروا اللّه حق قدره }، وقرأ الآخرون بالتاء، ل

قوله تعالى { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى }. وقوله { وعلمتم ما لم تعلموا }، [الأكثرون على أنها خطاب لليهود، يقول علمتم على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم ما لم تعلموا] { أنتم ولا آباؤكم }، قال الحسن  جعل لهم علم ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم فضيعوه ولم ينتفعوا به .

وقال مجاهد  هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علمهم على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم { قل اللّه }، هذا راجع إلى قوله { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى }، فإن أجابوك وإلا فقل أنت اللّه، أي قل أنزله اللّه ، { ثم ذرهم في خوضهم يلعبون }

٩٢

{ وهذا كتاب أنزلناه مبارك }، أي القرآن كتاب مبارك أنزلناه { مصدق الذي بين يديه ولتنذر}، يا محمد، قرأ أبو بكر عن عاصم { ولينذر } بالياء أي ولينذر الكتاب، { أم القرى }،يعني مكة سميت أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها، فهي أصل الأرض كلها كالأم أصل النسل، وأراد أهل أم القرى { ومن حولها }، أي أهل الأرض كلها شرقاً وغرباً { والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به }، بالكتاب، { وهم على صلاتهم }، يعني الصلوات الخمس، { يحافظون }، يداومون، يعني المؤمنين.

٩٣

قوله عز وجل { ومن أظلم ممن افترى }، أي اختلق { على اللّه كذباً }، فزعم أن اللّه تعالى بعثه نبياً، { أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء }،

قال قتادة { نزلت في مسيلمة الكذاب الحنفي،وكان يسجع ويتكهن، فادعى النبوة وزعم أن اللّه أوحى إليه، وكان قد أرسل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رسولين، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لهما أتشهدان أن مسيلمة نبي ؟ قالا نعم، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما }.

أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنا أبو هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { بينما أنا نائم إذ أتيت خزائن الأرض فوضع في يدي سواران من ذهب، فكبرا علي وأهماني فأوحي إلى أن انفخهما، فنفختهما فذهبا، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة } أراد بصاحب صنعاء الأسود العنسي وبصاحب اليمامة مسيلمة الكذاب.

قوله تعالى { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل اللّه }، قيل نزلت في عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح وكان قد أسلم وكان يكتب للنبي صلى اللّه عليه وسلم وكان إذا أملى عليه سميعاً بصيراً، كتب عليماً حكيماً، وإذا قال عليماً حكيماً، كتب غفوراً رحيماً، فلما نزلت { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين }(المؤمنون،١٢)أملاها عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعجب عبد اللّه من تفصيل خلق الإنسان، فقال تبارك اللّه أحسن الخالقين، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم اكتبها فهكذا نزلت،فشك عبد اللّه، وقال لئن كان محمد صادقاً فقد أوحى إلي كما أوحي إليه، فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، ثم رجع عبد اللّه إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى اللّه عليه وسلم بمر الظهران .

وقال ابن عباس قوله { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل اللّه }، يريد المستهزئين، وهو جراب لقولهم { لو نشاء لقلنا مثل هذا }. قوله عز وجل { ولو ترى }، يا محمد، { إذ الظالمون في غمرات الموت }،سكراته وهي جمع غمرة،وغمرة كل شيء معظمة، وأصلها الشيء الذي [يعم ]الأشياء فيغطيها، ثم وضعت في موضع الشدائد والمكاره، { والملائكة باسطوا أيديهم }، بالعذاب والضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم،

وقيل بقبض الأرواح، { أخرجوا }، أي يقولون أخرجوا، { أنفسكم }، أي أرواحكم كرهاً، لأن نفس المؤمن تنشط للقاء ربها، والجواب محذوف،يعني لو تراهم في هذه الحال لرأيت عجباً، { اليوم تجزون عذاب الهون }، أي الهوان، { بما كنتم تقولون على اللّه غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون }، تتعظمون عن الإيمان بالقرآن ولا تصدقونه.

٩٤

{ ولقد جئتمونا فرادى }، هذا خبر من اللّه أنه يقول للكفار يوم القيامة ولقد جئتمونا فرادى وحداناً، لا مال معكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم، وفرادى جمع فردان، مثل سكران وسكارى، وكسلان وكسالى، وقرأ الأعرج فردى بغير ألف مثل سكرى، { كما خلقناكم أول مرة }، عراةً حفاةً غرلاً، { وتركتم } خلفتم { ما خولناكم }، أعطيناكم من الأموال والأولاد والخدم، { وراء ظهوركم }،خلف ظهوركم، في الدنيا، { وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء }، وذلك أن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام لأنهم شركاء اللّه وشفعاؤهم عنده، { لقد تقطع بينكم }، قرأ أهل المدينة و الكسائي و حفص عن عاصم بنصب النون، أي لقد تقطع[وصلكم]وذلك مثل قوله { وتقطعت بهم الأسباب } (البقرة،١٦٦)، أي الوصلات، والبين من الأضداد يكون وصلاً ويكون هجراً، {وضل عنكم ما كنتم تزعمون }

٩٥

قوله عز وجل { إن اللّه فالق الحب والنوى }، الفلق الشق، قال الحسن و قتادة و السدي  معناه يشق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة فيخرجها منها، والحب جمع الحبة، وهي اسم لجميع البزور والحبوب من البر والشعير والذرة، وكل ما لم يكن له نوى، [وقال الزجاج  يشق الحبة اليابسة والنواة اليابسة فيخرج منها أوراقاً خضراً .

وقال مجاهد  يعني الشقين اللذين فيهما، أي يشق الحب عن النبات ويخرجه منه ويشق النوى عن النخل ويخرجها منه]. والنوى جمع النواة، وهي كل ما لم يكن حباً، كالتمر والمشمش والخوخ ونحوها.

وقال الضحاك  فالق الحب والنوى يعني خالق الحب والنوى، { يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم اللّه فأنى تؤفكون }، تصرفون عن الحق.

٩٦

{ فالق الإصباح }، شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل وكاشفه [وهو أول ما يبدو من النهار يريد مبدئ الصبح وموضحه.

وقال الضحاك  خالق النهار، والإصباح مصدر كالإقبال والإدبار، وهو الإضاءة وأراد به الصبح . { وجعل الليل سكناً }، يسكن فيه خلقه، وقرأ أهل الكوفة { وجعل }، على الماضي، { الليل }، نصب إتباعاً للمصحف، وقرأ إبراهيم النخعي { فالق الإصباح } { وجعل الليل سكناً }،{ والشمس والقمر حسباناً }، أي جعل الشمس والقمر بحسبان معلوم لا يجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما، والحسبان مصدر كالحساب، { ذلك تقدير العزيز العليم }.

٩٧

قوله عز وجل { وهو الذي جعل لكم النجوم } أي خلقها لكم، { لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر }. واللّه تعالى خلق النجوم لفوائد أحدها هذا وهو أن [راكب البحر]والسائر في القفار يهتدي بها في الليالي إلى مقاصده .

والثاني أنها زينة للسماء كما قال { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح }(الملك،٥). ومنها رمي الشياطين، كما قال { وجعلناها رجوماً للشياطين }، (الملك،٥) { قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون }.

٩٨

{ وهو الذي أنشأكم }، خلقكم وابتدأكم، {من نفس واحدة }، يعني آدم عليه السلام، {فمستقر ومستودع }، قرأ ابن كثير وأهل الصرة { فمستقر } بكسر القاف، يعني فمنكم مستقر ومنكم مستودع، وقرأ الآخرون بفتح القاف، أي فلكم مستقر ومستودع.

واختلفوا في المستقر والمستودع، قال عبد اللّه بن مسعود فمستقر في الرحم إلى أن يولد، ومستودع في القبر إلى أن يبعث. وقال سعيد بن جبير و عطاء  فمستقر في أرحام الأمهات ومستودع في أصلاب الآباء، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس قال سعيد بن جبير قال لي ابن عباس هل تزوجت قلت  لا، قال إنه ما كان من مستودع في ظهرك فيستخرجه اللّه عز وجل . وروي أبي أنه قال مستقر في أصلاب الآباء، ومستودع في أرحام الأمهات.

وقيل مستقر في الرحم ومستودع فوق الأرض، قال اللّه تعالى { ونقر في الأرحام ما نشاء } ( الحج،٥). وقال مجاهد مستقر على وجه ظهر الأرض في الدنيا ومستودع عند اللّه في الآخرة، ويدل عليه

قوله تعالى { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } (البقرة،٣٦).

وقال الحسن  المستقر في القبور والمستودع في الدنيا، وكان يقول يا بن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك.

وقيل المستودع القبر والمستقر الجنة والنار، لقوله عز وجل في صفة الجنة والنار { حسنت مستقراً } (الفرقان،٧٦) و { ساءت مستقراً } (الفرقان،٦٦)،{ قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون }.

٩٩

{ وهو الذي أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به }،أي بالماء، { نبات كل شيء فأخرجنا منه }، أي من الماء،

وقيل من النبات، { خضراً }، يعني أخضر، مثل العور والأعور، يعني ما كان رطباً أخضر مما ينبت من القمح والشعير ونحوهما، { نخرج منه حباً متراكباً }، أي متراكماً بعضه على بعض، مثل سنابل البر والشعير والأرز وسائر الحبوب، { ومن النخل من طلعها }، والطلع أول ما يخرج من ثمر النخل، { قنوان } جمع قنو وهو العذق، مثل صنو وصنوان، ولا نظير لهما في الكلام، { دانية }، أي قريبة المتناول ينالها القائم والقاعد،

وقال مجاهد  متدلية،

وقال الضحاك  قصار ملتزقة بالأرض، وفيه اختصار معناه ومن النخل ما قنوانها دانية ومنها ما هي بعيدة، فاكتفى بذكر القريبة عن البعيدة لسبقه إلى الأفهام، ك

قوله تعالى {سرابيل تقيكم الحر } (النمل،٨١)يعني الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما { وجنات من أعناب }، أي وأخرجنا من جنات، وقرأ الأعمش عن عاصم { وجنات } بالرفع نسقاً على قوله { قنوان } وعامة القراء على خلافه، { والزيتون والرمان }، يعني وشجر الزيتون[وشجر]الرمان، { مشتبهاً وغير متشابه }، قال قتادة معناه مشتبهاً ورقها مختلفاً ثمرها، لأن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان،

وقيل مشتبه في المنظر مختلف في الطعم، { انظروا إلى ثمره }، قرأ حمزة و الكسائي بضم الثاء والميم، هذا وما بعده وفي (يس)على جمع الثمار، وقرأ الآخرون [بفتحها]على جمع الثمرة، مثل بقرة وبقر، { إذا أثمر وينعه }، ونضجه وإدراكه، { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون }.

١٠٠

قوله عز وجل { وجعلوا للّه شركاء الجن }، يعني الكافرين جعلوا للّه الجن شركاء، { وخلقهم }، يعني  وهو خلق الجن. قال الكلبي نزلت في الزنادقة، أثبتوا الشركة لإبليس في الخلق، فقالوا [اللّه خالق] النور والناس والدواب والأنعام، وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب، وهذا كقوله { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً }، (الصافات،١٥٨) وإبليس من الجنة، { وخرقوا }، قرأ أهل المدينة { وخرقوا }، بتشديد الراء على التكثير، وقرأ الآخرون بالتخفيف، أي اختلقوا { له بنين وبنات بغير علم }، وذلك مثل قول اليهود عزير ابن اللّه، وقول النصارى المسيح ابن اللّه، وقول كفار العرب الملائكة بنات اللّه، ثم نزه نفسه فقال { سبحانه وتعالى عما يصفون }.

١٠١

{ بديع السموات والأرض }، أي مبدعهما لا على مثال سبق، { أنى يكون له ولد }، أي كيف يكون له ولد ؟ { ولم تكن له صاحبة }، زوجة، { وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم }.

١٠٢

{ ذلكم اللّه ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه }، فأطيعوه، { وهو على كل شيء وكيل }، بالحفظ له وبالتدبير فيه، { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار }، الآية. يتمسك أهل الاعتزال بظاهر هذه الآية في نفي رؤية اللّه عز وجل عياناً . ومذهب أهل السنة إثبات رؤية اللّه عز وجل عياناً جاء به القرآن والسنة، وقال اللّه تعالى { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة }، (القيامة،٢٣)، وقال { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } (المطففين،١٥)، قال مالك رضي اللّه عنه لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير اللّه الكفار بالحجاب، و{قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم } للذين أحسنوا الحسنى وزيادة {(يونس،٢٦)، وفسره بالنظر إلى وجه اللّه عز وجل }.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا يوسف بن موسى ثنا عاصم بن يوسف اليربوعي أنا أبو شهاب عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد اللّه قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم { إنكم سترون ربكم عياناً }.

١٠٣

وأما قوله { لا تدركه الأبصار }، فاعلم أن الإدراك غير الرؤية لأن الإدراك هو الوقوف على كنه الشيء والإحاطة به، والرؤية المعاينة، وقد تكون الرؤية بلا إدراك، قال اللّه تعالى في قصة موسى { فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون* قال كلا }(سورة الشعراء،٦١)، وقال { لا تخاف دركاً ولا تخشى }(سورة طه،٧٧)، فنفى الإدراك مع إثبات الرؤية، فاللّه عز وجل يجوز أن يرى من غير إدراك وأحاطة كما يعرف في الدنيا ولا يحاط به، قال اللّه تعالى { ولا يحيطون به علماً }(سورة طه،١١٠)فنفى الإحاطة مع ثبوت العلم، قال سعيد بن المسيب  لا تحيط به الأبصار،

وقال عطاء  كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به، وقال ابن عباس و مقاتل  لا تدركه الأبصار في الدنيا، وهو يرى في الآخرة،

قوله تعالى { وهو يدرك الأبصار }، لا يخفى عليه شيء ولا يفوته، { وهو اللطيف الخبير }، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما اللطيف بأوليائه[الخبير بهم، وقال الأزهري معنى { اللطيف }] الرفيق بعباده،

وقيل اللطيف الموصل الشيء باللين والرفق،

وقيل اللطيف الذي ينسي العباد ذنوبهم لئلا يخجلوا، واصل اللطف دقة النظر في الأشياء.

١٠٤

قوله عز وجل { قد جاءكم بصائر من ربكم }، يعني الحجج البينة التي تبصرون بها الهدى من الضلالة والحق من الباطل، { فمن أبصر فلنفسه }، أي فمن عرفها وآمن بها فلنفسه عمل، ونفعه له، { ومن عمي فعليها }، أي من عمي عنها فلم يعرفها ولم يصدقها فعليها، أي فبنفسه ضر، ووبال العمى عليه، { وما أنا عليكم بحفيظ }، برقيب أحصي عليكم أعمالكم، إنما أنا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شيء من أفعالكم.

١٠٥

{ وكذلك نصرف الآيات }، نفصلها ونبينها في كل في كل وجه، { وليقولوا }، قيل معناه لئلا يقولوا، { درست }،

وقيل هذه اللام لام العاقبة أي عاقبة أمرهم أن يقولوا درست، أي قرأت على غيرك،

وقيل قرأت كتب أهل الكتاب، ك

قوله تعالى { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً }، القصص،٨)، ومعلوم أنهم لم يلتقطوه لذلك، ولكن أراد أن عاقبة أمرهم أن كان عدواً لهم . قال ابن عباس وليقولوا يعني أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن درست، أي تعلمت من يسار وجبر كانا عبدين من سبي الروم، ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند اللّه، من قولهم درست الكتاب أدرس درساً ودراسة . وقال الفراء  يقولون تعلمت من يهود، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (دارست) بالألف [أي قارأت أهل الكتاب من المدارسة بين اثنين، تقول ]قرأت عليهم وقرأوا عليك، وقرأ ابن عامر و يعقوب  (درست) بفتح السين وسكون التاء، أي هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة، قد درست وانمحت، من قولهم درست الأثر يدرس دروسا. { ولنبينه لقوم يعلمون }، قال ابن عباس يريد أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد،

وقيل يعني أن تصريف الآيات ليشقى به قوم ويسعد به آخرون، فمن قال درست فهو شقي ومن تبين له الحق فهو سعيد.

١٠٦

{ اتبع ما أوحي إليك من ربك }، يعني القرآن اعمل به، { لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين }، فلا تجادلهم .

١٠٧

{ ولو شاء اللّه ما أشركوا }، أي لو شاء لجعلهم مؤمنين، { وما جعلناك عليهم حفيظاً }، رقيباً قال عطاء  وما جعلناك عليهم حفيظاً تمنعهم مني، أي لم تبعث لتحفظ المشركين عن العذاب إنما بعثت مبلغاً. { وما أنت عليهم بوكيل }.

١٠٨

قوله عز وجل { ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه } الآية،قال ابن عباس لما نزلت { إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم } (الأنبياء،٩٨)قال المشركون يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك، فنهاهم اللّه تعالى أن يسبوا أوثانهم. و

قال قتادة  كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فنهاهم اللّه عز وجل عن ذلك، لئلا يسبوا اللّه فإنهم قوم جهلة. و

قال السدي { لما حضرت أبا طالب الوفاة قالت قريش انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته، فتقول العرب كان يمنعه عمه فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة[بن أبي معيط وعمرو بن العاص، والأسود بن]البختري إلى أبي طالب، فقالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمداً قد آذانا وآلهتنا، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا، ولندعنه وإلهه، فدعاه فقال هؤلاء قومك يقولون نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك، فقد أنصفك قومك فاقبل منهم، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم ؟ قال أبو جهل نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها، فما هي ؟ قال قولوا لا إله إلا اللّه ، فأبوا ونفروا، فقال أبو طالب قل غيرها يابن أخي، فقال يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ، فقالوا لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك و لنشتمن من يأمرك، فأنزل اللّه عز وجل } ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه {}، يعني الأوثان، { فيسبوا اللّه عدواً }، أي اعتداء وظلماً، { بغير علم }. وقرأ يعقوب { عدواً } بضم العين والدال وتشديد الواو، {فلما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه لا تسبوا ربكم ، فأمسك المسلمون عن سب آلهتهم }. فظاهر الآية، وإن كان نهياً عن سب الأصنام، فحقيقته النهي عن سب اللّه، لأنه سبب لذلك . { كذلك زينا لكل أمة عملهم }،[أي كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأوثان وطاعة الشيطان بالحرمان والخذلان، كذلك زينا لكل أمة عملهم]من الخير والشر والطاعة والمعصية، { ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم }، ويجازيهم، { بما كانوا يعملون }.

١٠٩

قوله عز وجل { وأقسموا باللّه جهد أيمانهم } الآية. قال محمد بن كعب القرظي و الكلبي  {قالت قريش يا محمد إنك تخبرنا أن موسى كان معه عصىً يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً، وتخبرنا أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى فأتنا من الآيات حتى نصدقك، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أي شيء تحبون ؟ قالوا تجعل لنا الصفا ذهباً أو ابعث لنا بعض أمواتنا حتى نسأله عنك أحق ما تقول أم باطل، أو أرنا الملائكة يشهدون لك، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني ؟ قالوا نعم واللّه لئن فعلت لنتبعنك أجمعين، وسأل المسلمون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو اللّه أن يجعل الصفا ذهباً فجاءه جبريل عليه السلام، فقال له اختر ما شئت إن شئت أصبح ذهباً ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بل يتوب تائبهم ، فأنزل اللّه عز وجل } وأقسموا باللّه جهد أيمانهم {}، أي حلفوا باللّه جهد أيمانهم، أي بجهد أيمانهم، يعني أوكد ما قدروا عليه من الأيمان وأشدها. قال الكلبي و مقاتل  إذا حلف الرجل باللّه، فهو جهد يمينه . { لئن جاءتهم آية }، كما جاءت من قبلهم من الأمم { ليؤمنن بها قل }، يا محمد، { إنما الآيات عند اللّه }، واللّه قادر على إنزالها، { وما يشعركم }، وما يدريكم.

واختلفوا في المخاطبين بقوله { وما يشعركم }، فقال بعضهم الخطاب للمشركين الذين أقسموا.

وقال بعضهم الخطاب للمؤمنين . و

قوله تعالى { أنها إذا جاءت لا يؤمنون }، قرأ ابن كثير وأهل البصرة و أبو بكر عن عاصم { إنها } بكسر الألف على الابتداء، وقالوا تم الكلام عند قوله { وما يشعركم }، فمن جعل الخطاب للمشركين قال معناه وما يشعركم أيها [المشركون] أنها لو جاءت آمنتم ؟ ومن جعل الخطاب للمؤمنين قال معناه وما يشعركم أيها المؤمنون أنها لو جاءت آمنوا ؟ لأن المسلمين كانوا يسألون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يدعو اللّه تعالى حتى يريهم ما اقترحوا حتى يؤمنوا فخاطبهم بقوله { وما يشعركم }، ثم ابتدأ فقال جل ذكره { أنها إذا جاءت لا يؤمنون }، وهذا في قوم مخصوصين [حكم اللّه عليهم بأنهم لا يؤمنون]،وقرأ الآخرون { أنها } بفتح الألف وجعلوا الخطاب للمؤمنين

واختلفوا في قوله { لا يؤمنون }، فقال الكسائي  { لا } صلة، ومعنى الآية وما يشعركم أيها المؤمنون أن الآيات إذا جاءت المشركين يؤمنون ؟ ك

قوله تعالى { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون }(الأنبياء،٩٥)، أي يرجعون

وقيل إنها بمعنى لعل، وكذلك هو في قراءة أبي، تقول العرب اذهب إلى السوق إنك تشتري شيئاً، أي لعلك، وقال عدي بن زيد أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد أي لعل منيتي،

وقيل فيه حذف وتقديره وما يشعركم أنها إذا جاءت[يؤمنون أو لا يؤمنون ؟ وقرأ ابن عامر و حمزة { لا تؤمنون } بالتاء على الخطاب للكفار واعتبروا بقراءة أبي إذا جاءتكم] لا تؤمنون، وقرأ الآخرون بالياء على الخبر، دليلها قراءة الأعمش أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون.

١١٠

{ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة }، قال ابن عباس يعني ونحول بينهم وبين الإيمان، فلو جئناهم بالآيات التي سألوا ما أمنوا بها كما لم يؤمنوا به أول مرة، أي كما لم يؤمنوا بما قبلها من الآيات من انشقاق القمر وغيره،

وقيل كما لم يؤمنوا به أول مرة، يعني معجزات موسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام، ك

قوله تعالى { أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل }، (القصص،٤٨)، وفي الآية محذوف تقديره فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس المرة الأولى دار الدنيا، يعني لو ردوا من الآخرة إلى الدنيا نقلب أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان كما لم يؤمنوا في الدنيا قبل مماتهم، كما قال { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه }(الأنعام،٢٨){ ونذرهم في طغيانهم يعمهون } ، قال عطاء نخذلهم وندعهم في ضلالتهم يتمادون.

١١١

{ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة }، فرأوهم عياناً { وكلمهم الموتى }، بإحيائنا إياهم فشهدوا لك بالنبوة كما سألوا، { وحشرنا }، وجمعنا، { عليهم كل شيء قبلاً }، قرأ أهل المدينة و ابن عامر { قبلاً } بكسر القاف وفتح الباء، أي معاينة، وقرأ الآخرون بضم القاف والباء، هو جمع قبيل، وهو الكفيل، مثل رغيف ورغف، وقضيب وقضب،أي ضمناء وكفلاء،

وقيل هوجمع قبيل وهو القبيلة، أي فوجاً فوجاً.

وقيل هو بمعنى المقابلة والمواجة من قولهم أتيتك قبلاً لا دبراً إذا أتاه من قبل وجهه، { ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه }، ذلك، { ولكن أكثرهم يجهلون }.

١١٢

{ وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً }، أي أعداء فيه تعزية للنبي صلى اللّه عليه وسلم، يعني كما ابتليناك بهؤلاء القوم، فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك أعداء، ثم فسرهم فقال { شياطين الإنس والجن }، قال عكرمة و الضحاك و السدي و الكلبي  معناه شياطين الإنس التي مع الإنس، وشياطين الجن التي مع الجن، وليس للإنس شياطين، وذلك أن إبليس قسم جنده فريقين فبعث فريقاً منهم إلى الإنس وفريقاً منهم إلى الجن، وكلا الفريقين أعداء للنبي صلى اللّه عليه وسلم ولأوليائه، وهم الذين يلتقون في كل حين، فيقول [شيطان]الإنس [لشيطان]الجن أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثله، وتقول شياطين الجن لشياطين الإنس كذلك، فذلك وحي بعضهم إلى بعض. قال قتادة و مجاهد و الحسن  إن من الإنس شياطين كما أن من الجن شياطين، والشيطان العاتي المتمرد من كل شيء، قالوا إن الشيطان إذا أعياه المؤمن وعجز من إغوائه ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليفتنه، يدل عليه ما روي عن أبي ذر قال { قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هل تعوذت باللّه من شياطين الجن والإنس ؟فقلت يا رسول اللّه وهل للإنس من شياطين ؟ قال نعم هم شر من شياطين الجن }. وقال مالك بن دينار إن شياطين الإنس أشد علي من شياطين الجن، وذلك أني إذا تعوذت باللّه ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً.

قوله تعالى { يوحي بعضهم إلى بعض }، أي يلقي، { زخرف القول }، وهو قول مموه مزين بالباطل لا معنى تحته، { غروراً }، يعني هؤلاء الشياطين يزينون الأعمال القبيحة لبني آدم، يغرونهم غروراً، والغرور القول الباطل، {ولو شاء ربك ما فعلوه }، أي ما ألقاه الشيطان من الوسوسة [في القلوب]، { فذرهم وما يفترون }

١١٣

{ ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة }، أي تميل إليه، والصغو الميل، يقال صغو فلان معك، أي ميله، والفعل منه صغى يصغي، صغاً، وصغى يصغى، ويصغو صغواً، والهاء في { إليه } راجعة إلى زخرف القول، { وليرضوه وليقترفوا }، ليكتسبوا، { ما هم مقترفون }، يقال اقترف فلان مالاً أي اكتسبه، وقال تعالى { ومن يقترف حسنةً }(الشورى،٢٣)، وقال الزجاج  أي ليعملوا من الذنوب ما هم عاملون.

١١٤

قوله عز وجل { أفغير اللّه}، فيه إضمار أي قل لهم يا محمد أفغير اللّه، { أبتغي }، أطلب { حكماً }، قاضياً بيني وبينكم، وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى اللّه عليه وسلم اجعل بيننا وبينك حكماً فأجابهم به، { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً }، مبيناً فيه أمره ونهيه، يعني القرآن،

وقيل مفصلاً أي خمساً خمساً وعشراً عشراً، كما قال { لنثبت به فؤادك }(الفرقان،٣٢) { والذين آتيناهم الكتاب }، يعني علماء اليهود والنصارى الذين آتيناهم التوراة والإنجيل،

وقيل هم مؤمنو أهل الكتاب،

وقال عطاء  هم رؤوس أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، والمراد بالكتاب هو القرآن، { يعلمون أنه منزل }، يعني القرآن، قرأ ابن عامر [وحفص] { منزل}، بالتشديد من التنزيل لأنه أنزل نجوماً متفرقة، وقرأ الآخرون بالتخفيف من الإنزال، ل

قوله تعالى { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب }، { من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين } ، من الشاكين أنهم يعلمون ذلك .

١١٥

قوله عز وجل { وتمت كلمة ربك }، قرأ أهل الكوفة و يعقوب { كلمة } على التوحيد، وقرأ الآخرون (كلمات) بالجمع، وأراد بالكلمات أمره ونهيه ووعده ووعيده، { صدقاً وعدلاً }، أي صدعاً في الوعد والوعيد، وعدلاً في الأمر والنهي، قال قتادة و مقاتل  صدقاً فيما وعد وعدلاً فيما حكم، { لا مبدل لكلماته }، قال ابن عباس لا راد لقضائه ولا مغير لحكمه ولا خلف لوعده، { وهو السميع العليم }، قيل أراد بالكلمات القرآن لا مبدل له، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون .

١١٦

{ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل اللّه }، عن دين اللّه، وذلك أن أكثر أهل الأرض كانوا على الضلالة،

وقيل أراد أنهم جادلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين في أكل الميتة ، وقالوا  أتأكلون ما تقتلون ولا تأكلون ما قتله اللّه عز وجل ؟ فقال { وإن تطع أكثر من في الأرض } أي وإن تطعهم في أكل الميتة يضلوك عن سبيل اللّه، { إن يتبعون إلا الظن }، يريد أن دينهم الذي هم عليه ظن[وهوىً]لم يأخذوه عن بصيرة، { وإن هم إلا يخرصون } يكذبون.

١١٧

{ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله }، قيل موضع (من)نصب بنزع حرف الصفة، أي بمن يضل، عن سبيله، { وهو أعلم بالمهتدين }، أخبر أنه أعلم بالفريقين الضالين والمعتدين فيجازي كلاً بما يستحقه.

١١٨

قوله عز وجل { فكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه }، أي كلوا مما ذبح على اسم اللّه، { إن كنتم بآياته مؤمنين }، وذلك أنهم كانوا يحرمون أصنافاً من النعم ويحلون الأموات، فقيل لهم أحلوا ما أحل اللّه وحرموا ما حرم اللّه .

١١٩

ثم قال { وما لكم }، يعني أي شيء لكم، { أن لا تأكلوا }،وما يمنعكم من أن تأكلوا { مما ذكر اسم اللّه عليه }، من الذبائح، { وقد فصل لكم ما حرم عليكم }، قرأ أهل المدينة و يعقوب و حفص { فصل } و { حرم } بالفتح فيهما أي فصل ما حرمه عليكم، لقوله { اسم اللّه } وقرأ ابن كثير و ابن عامر و أبو عمرو بضم الفاء والحاء وكسر الصاد والراء على غير تسمية الفاعل، لقوله { ذكر }، وقرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر { فصل }بالفتح و{ حرم } بالضم، وأراد بتفصيل المحرمات ما ذكر في

قوله تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم }(المائدة، ٣).{ إلا ما اضطررتم إليه }، من هذه الأشياء فإنه حلال لكم عند الاضطرار، { وإن كثيراً ليضلون }، قرأ أهل الكوفة بضم الياء وكذلك قوله { ليضلوا }في سورة يونس، ل

قوله تعالى { يضلوك عن سبيل اللّه }،

وقيل أراد به عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين الذين اتخذوا البحائر والسوائب، وقرأ الآخرون بالفتح لقوله { من يضل }، { بأهوائهم بغير علم }، حين امتنعوا من أكل ما ذكر اسم اللّه عليه ودعوا إلى أكل الميتة. { إن ربك هو أعلم بالمعتدين }، الذين يجاوزون الحلال إلى الحرام .

١٢٠

{ وذروا ظاهر الإثم وباطنه }،يعني الذنوب كلها لأنها لا تخلو من هذين الوجهين،

قال قتادة  علانيته وسره،

وقال مجاهد  ظاهر الإثم ما يعمله بالجوارح من الذنوب، وباطنه ما ينويه ويقصده بقلبه كالمصر على الذنب القاصد له.

وقال الكلبي  ظاهرة الزنا وباطنه المخالة، وأكثر المفسرين على أن ظاهر الإثم الإعلان بالزنا، وهم أصحاب الروايات، وباطنه الاستسرار به، وذلك أن العرب كانوا يحبون الزنا فكان الشريف منهم يتشرف، فيسر به، وغير الشريف فلا يبالي به فيظهره، فحرمهما اللّه عز وجل، وقال سعيد بن جبير  ظاهر الإثم نكاح المحارم وباطنه الزنا . وقال ابن زيد  ظاهر الإثم التجرد من الثياب والتعري في[الطواف]والباطن الزنا، وروى حبان عن الكلبي  ظاهر الإثم طواف الرجال بالبيت نهاراً عراة، وباطنه طواف النساء بالليل عراة، { إن الذين يكسبون الإثم سيجزون }، في الآخرة، { بما كانوا يقترفون }،[يكتسبون في الدنيا].

١٢١

قوله عز جل { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه } قال ابن عباس رضي اللّه عنهما الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها.

وقال عطاء  الآية في تحريم الذبائح التي كانوا يذبحونها على اسم الأصنام .

واختلف أهل العلم في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم اللّه عليها فذهب قوم إلى تحريمها سواء ترك التسمية عامداً أو ناسياً، وهو قول ابن سيرين و الشعبي ، واحتجوا بظاهر هذه الآية . وذهب قوم إلى تحليلها، يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول مالك و الشافعي و أحمد رضوان اللّه عليهم أجمعين . وذهب قوم إلى أنه إن ترك التسمية عامداً لا يحل، وإن تركها ناسياً يحل، حكى الخرقي من أصحاب أحمد  أن هذا مذهبه، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي. من أباحها قال المراد من الآية الميتات أو ما ذبح على غير اسم اللّه بدليل أنه قال { وإنه لفسق }، والفسق في ذكر اسم غير اللّه كما قال في آخر السورة { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم } إلى قوله { أو فسقاً أهل لغير اللّه به }. واحتج من أباحها بما

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي

أخبرنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا يوسف بن موسى ثنا أبو خالد الأحمر قال سمعت هشام بن عروة يحدث عن أبيه عن عائشة رضي اللّه عنها، قالت،قالوا {يا رسول اللّه إن هنا أقواماً حديث عهدهم بشرك يأتونا بلحمان لا ندري يذكرون اسم اللّه عليها أم لا ؟ قال اذكروا أنتم اسم اللّه وكلوا }. ولو كانت التسمية شرطاً للإباحة لكان الشك في وجودها مانعاً من أكلها كالشك في أصل [الذبح].

قوله تعالى { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم }، أراد أن الشياطين ليوسوسون إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوكم، وذلك أن المشركين قالوا يا محمد

أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها ؟ فقال اللّه قتلها، قالوا أفتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتله الكلب والصقر حلال، وما قتله اللّه حرام ؟ فأنزل اللّه هذه الآية، { وإن أطعتموهم }، في أكل الميتة، { إنكم لمشركون } ، قال الزجاج  وفيه دليل على أن من أحل شيئاً مما حرم اللّه أو حرم ما أحل اللّه فهو مشرك.

١٢٢

قوله عز وجل { أو من كان ميتاً فأحييناه }، قرأ نافع { ميتاً }، (ولحم أخيه ميتاً)(الحجرات،١٢)و(الأرض الميتة أحييناها)(سورة يس،٣٣) بالتشديد فيهن، والآخرون بالتخفيف { فأحييناه }، أي كان ضالاً فهديناه، كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان، { وجعلنا له نوراً }، يستضيء به، { يمشي به في الناس }، على قصد السبيل، قيل النور هو الإسلام، ل

قوله تعالى { يخرجهم من الظلمات إلى النور }(البقرة، ٢٥٧)، و

قال قتادة  هو كتاب اللّه بينه من اللّه مع المؤمن، بها يعمل وبها يأخذ وإليها ينتهي، { كمن مثله في الظلمات }، المثل صلة،أي كمن هو في الظلمات، { ليس بخارج منها }، يعني في ظلمة الكفر. قيل نزلت هذه الآية في رجلين بأعيانهما، ثم اختلفوا فيهما، قال ابن عباس جعلنا له نوراً، يريد حمزة بن عبد المطلب، كمن مثله في الظلمات يريد أبا جهل بن هشام، وذلك أن أبا جهل رمى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بفرث، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس، وحمزة لم يؤمن بعد، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه، ويقول يا أبا يعلي أما ترى ما جاء به ؟ سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا، فقال حمزة ومن أسفه منكم ؟تعبدون الحجارة من دون اللّه، أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فأنزل اللّه هذه الآية.

وقال الضحاك  نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل. وقال عكرمة و الكلبي  نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل. { كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون }، من الكفر والمعصية. قال ابن عباس يريد زين لهم الشيطان عبادة الأصنام .

١٢٣

قوله عز وجل { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها }، أي كما أن فساق مكة أكابرها، كذلك جعلنا فساق كل [قرية]أكابرها، أي عظماءها، جمع أكبر، مثل أفضل وأفاضل، وأسود وأساود، وذلك سنة اللّه تعالى أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم، كما قال في قصة نوح عليه السلام { أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } (الشعراء،١١١)، وجعل فساقهم أكابرهم، { ليمكروا فيها }، وذلك أنهم أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعة نفر ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، يقولون لكل من يقدم إياك وهذا الرجل فإنه كاهن ساحر كذاب.{ وما يمكرون إلا بأنفسهم }،لأن وبال مكرهم يعود عليهم { وما يشعرون }، أنه كذلك.

١٢٤

قوله تعالى { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه }، يعني مثل ما أوتي رسل اللّه من النبوة، وذلك أن الوليد بن المغيرة قال لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً،

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. و

قال مقاتل  نزلت في أبي جهل، وذلك أنه قال زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إنا صرنا كفرسي رهان، قالوا منا نبي يوحى إليه، واللّه لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فأنزل اللّه عز وجل { وإذا جاءتهم آية }، حجة على صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم قالوا يعني أبا جهل، { لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه }، يعني محمداً صلى اللّه عليه وسلم . ثم قال اللّه تعالى { اللّه أعلم حيث يجعل رسالته }، قرأ ابن كثير و حفص رسالته على التوحيد، وقرأ الآخرون رسالاته بالجمع، يعني اللّه أعلم بمن هو أحق بالرسالة، { سيصيب الذين أجرموا صغار }، ذل وهوان { عند اللّه }، أي من عند اللّه، { وعذاب شديد بما كانوا يمكرون }،قيل صغار في الدنيا وعذاب شديد في الآخرة .

١٢٥

قوله عز وجل { فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام }، أي يفتح قلبه وينوره حتى يقبل الإسلام، ولما نزلت هذه الآية{ سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن شرح الصدر، فقال نور يقذفه اللّه في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح ، قيل لذلك [أمارة؟]قال نعم، الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت }.

قوله تعالى { ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً }، قرأ ابن كثير { ضيقاً }، بالتخفيف هاهنا وفي الفرقان، والباقون بالتشديد، وهما لغتان مثل هين وهين ولين ولين،{ حرجاً }، قرأ أهل المدينة وأبو بكر بكسر الراء والباقون بفتحها، وهما لغتان أيضا مثل الدنف والدنف، وقال سيبويه الحرج بالفتح المصدر[كالطلب، ومعناه ذا حرج]، وبالكسر الاسم، وهو أشد الضيق،يعني يجعل قلبه ضيقاً حتى لا يدخله الإيمان.

وقال الكلبي  ليس للخير فيه منفذ.

وقال ابن عباس إذا سمع ذكر اللّه اشمأز قلبه، وإذا ذكر شيئاً من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك . وقرأ عمر ابن الخطاب رضي اللّه عنه هذه الآية، فسأل أعرابياً من كنانة ما الحرجة فيكم ؟ قال الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء، فقال عمر رضي اللّه عنه كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير. { كأنما يصعد في السماء} ، قرأ ابن كثير  { يصعد }، بالتخفيف، وقرأ أبو بكر عن عاصم { يصعد }بالألف، أي يتصاعد، وقرأ الآخرون { يصعد }،بتشديد الصاد والعين، أي يتصعد،يعني يشق عليه الإيمان كما يشق عليه صعود السماء، وأصل الصعود المشقة، ومنه

قوله تعالى { سأرهقه صعوداً } أي عقبة شاقة، { كذلك يجعل اللّه الرجس على الذين لا يؤمنون }، قال ابن عباس الرجس هوا لشيطان، أي يسلط عليه.

و

قال الكلبي  هو المأثم، وقال مجاهد الرجس ما لا خير فيه.

وقال عطاء  الرجس العذاب مثل الرجس .

وقيل هو النجس. روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال {[اللّهم إني]أعوذ بك من الرجس النجس } .وقال الزجاج  الرجس اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة .

١٢٦

قوله عز وجل { وهذا صراط ربك مستقيماً }،[أي هذا الذي بينا.

وقيل هذا الذي أنت عليه يا محمد طريق ربك ودينه الذي ارتضاه لنفسه مستقيماً]لا عوج فيه وهو الاسلام. { قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون }.

١٢٧

{ لهم دار السلام عند ربهم }، يعني الجنة قال أكثر المفسرين السلام هو اللّه وداره الجنة،

وقيل السلام هو السلامة، [أي لهم دار السلامة]من الآفات، وهي الجنة. وسميت دار السلام لأن كل من دخلها سلم من البلايا والرزايا .

وقيل سميت بذلك لأن جميع حالاتها مقرونة بالسلام، يقال في الابتداء { ادخلوها بسلام آمنين } (الحجر، ٤٦)، { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم }(الرعد،٢٣)، وقال { لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما } (الواقعة ،٢٦)،وقال { تحيتهم فيها سلام } (إبراهيم ،٢٣) { سلام قولاً من رب رحيم } (يس،٥٨) { وهو وليهم بما كانوا يعملون }، قال [الحسين]بن الفضل  يتولاهم في الدنيا بالتوفيق وفي الآخرة بالجزاء.

١٢٨

قوله عز وجل { ويوم يحشرهم }، قرأ حفص  { يحشرهم }، بالياء، {جميعاً }، يعني الجن والإنس يجمعهم في موقف القيامة فيقول { يا معشر الجن }، والمراد بالجن الشياطين، {قد استكثرتم من الإنس }، أي استكثرتم من الإنس بالإضلال والإغواء أي أضللتم كثيراً، { وقال أولياؤهم من الإنس }، يعني أولياء الشياطين الذين أطاعوهم من الإنس، { ربنا استمتع بعضنا ببعض }

قال الكلبي  استمتاع الإنس بالجن هو أن الرجل كان إذا سافر ونزل بأرض قفر وخاف على نفسه من الجن قال أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فيبيت في جوارهم، وأما استمتاع الجن بالإنس هو أنهم قالوا قد سدنا الإنس مع الجن، حتى عاذوا بنا فيزدادون شرفاً في قومهم وعظماً في أنفسهم، وهذا ك

قوله تعالى { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } (الجن،٦).

وقيل استمتاع الإنس بالجن ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزيينهم لهم الأمور التي يهوونها، وتسهيل سبيلها عليهم، واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي. قال محمد بن كعب  هو طاعة بعضهم بعضاً وموافقة بعضهم [لبعض]. { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا }، يعني القيامة والبعث، { قال } اللّه تعالى { النار مثواكم }، مقامكم، { خالدين فيها إلا ما شاء اللّه }. اختلفوا في هذا الاستثناء كما اختلفوا في قوله { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك } (هود،١٠٧). قيل أراد إلا قدر مدة ما بين بعثهم إلى دخولهم جهنم، يعني هم خالدون في النار إلا هذا المقدار .

وقيل الاستثناء يرجع إلى العذاب، وهو قوله { النار مثواكم }، أي خالدون في النار سوى ما شاء اللّه من أنواع العذاب.

وقال ابن عباس الاستثناء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم اللّه أنهم يسلمون فيخرجون من النار و{ ما } بمعنى (من) على هذا التأويل، { إن ربك حكيم عليم }، قيل عليم بالذي استثناه وبما في قلوبهم من البر والتقوى.

١٢٩

{ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون }، [قيل أي] كما خذلنا عصاة الجن والإنس حتى استمتع بعضهم ببعض نولي بعض الظالمين بعضاً، أي نسلط بعضهم على بعض، فنأخذ من الظالم بالظالم، كما جاء ( من أعان ظالماً سلطه اللّه عليه ). و

قال قتادة  نجعل بعضهم أولياء بعض، فالمؤمن ولي المؤمن [أين كان]، والكافر ولي الكافر حيث كان. وروي عم معمر عن قتادة  نتبع بعضهم بعضاً في النار، من الموالاة.

وقيل معناه نولي ظلمة الإنس ظلمة الجن، ونولي ظلمة الجن ظلمة الإنس، أي نكل بعضهم إلى بعض، ك

قوله تعالى { نوله ما تولى} (النساء،١١٥)، وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في تفسيرها هو أن اللّه تعالى إذا أراد بقوم خيراً ولى أمرهم خيارهم، وإذا أراد بقوم شراً ولى أمرهم شرارهم.

١٣٠

قوله عز وجل { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم }، اختلفوا في أن الجن هل أرسل إليهم منهم [رسول] ؟ فسئل الضحاك عنه ، فقال بلى ألم تسمع اللّه يقول { ألم يأتكم رسل منكم }، يعني بذلك رسلاً من الإنس ورسلاً من الجن .

قال الكلبي  كانت الرسل من قبل أن يبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم يبعثون إلى الجن وإلى الإنس جميعا.

قال مجاهد  الرسل من الإنس، والنذر من الجن، ثم قرأ { ولوا إلى قومهم منذرين }(الأحقاف،٢٩)، وهم قوم يسمعون كلام الرسل فيبلغون الجن ما سمعوا، وليس للجن رسل، فعلى هذا قوله { رسل منكم }ينصرف إلى أحد الصنفين وهم الإنس، كما قال تعالى { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان }(الرحمن،٢٢)، وإنما يخرج من الملح دون العذاب، قال { وجعل القمر فيهن نوراً }(نوح،١٦)، وإنما هو في سماء واحدة. { يقصون عليكم }، أي يقرؤون عليكم، { آياتي }، كتبي { وينذرونكم لقاء يومكم هذا }، وهو يوم القيامة، { قالوا شهدنا على أنفسنا }، أنهم قد بلغوا،

قال مقاتل  وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر. قال اللّه عز وجل { وغرتهم الحياة الدنيا }، حتى لم يؤمنوا، { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين }.

١٣١

{ ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم }، أي ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل وعذاب من كذبهم، لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم، [أي لم يكن مهلكهم بظلم]، أي بشرك من أشرك،{ وأهلها غافلون }، لم ينذروا حتى نبعث إليهم رسلاً ينذروهم .

وقال الكلبي  لم يهلكهم بذنوبهم من قبل أن يأتيهم الرسل.

وقيل معناه لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل فيكون قد ظلمهم، وذلك أن اللّه تعالى أجرى السنة أن لا يأخذ أحداً إلا بعد وجود الذنب، وإنما يكون مذنباً إذا أمر فلم يأتمر ونهى فلم ينته، يكون ذلك بعد إنذار الرسل.

١٣٢

{ ولكل درجات مما عملوا }، يعني في الثواب والعقاب على قدر أعمالهم في الدنيا، فمنهم من هو أشد عذاباً ومنهم من هو أجزل ثواباً، { وما ربك بغافل عما يعملون }، قرأ ابن عامر تعملون بالتاء والباقون بالياء.

١٣٣

{ وربك الغني }، عن خلقه، { ذو الرحمة }، قال ابن عباس [ذو الرحمة] بأوليائه وأهل طاعته،

وقال الكلبي  بخلقه ذو التجاوز، { إن يشأ يذهبكم }، يهلككم، وعيد لأهل مكة، { ويستخلف }، [يخلق] وينشئ، { من بعدكم ما يشاء }خلقاً غيركم أمثل وأطوع.{ كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين }، أي آبائهم الماضين قرناً بعد قرن.

١٣٤

{ إنما توعدون }، أي ما توعدون من مجيء الساعة والحشر، { لآت }، كائن { وما أنتم بمعجزين }، أي بفائتين، يعني يدرككم حيث ما كنتم .

١٣٥

{ قل } يا محمد { يا قوم اعملوا على مكانتكم }، قرأ أبو بكر عن عاصم { مكانتكم } بالجمع حيث كان أي تمكنكم، قال عطاء  على حالاتكم التي أنتم عليها. قال الزجاج  اعملوا على ما أنتم عليه. يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة على مكانتك يا فلان، أي اثبت على ما أنت عليه، وهذا أمر وعيد على المبالغة يقول قل لهم اعملوا على ما أنتم عاملون، { إني عامل }، ما أمرني به ربي عز وجل، { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار}، أي الجنة، قرأ حمزة و الكسائي  يكون بالياء هنا وفي القصص، وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث العاقبة، { إنه لا يفلح الظالمون }، قال ابن عباس معناه لا يسعد من كفر بي وأشرك. قال الضحاك  لا يفوز.

١٣٦

قوله عز وجل { وجعلوا للّه مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً } الآية، كان المشركون يجعلون للّه من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيباً، وللأوثان نصيباً فما جعلوه للّه صرفوه إلى الضيفان والمساكين ، وما جعلوه للأصنام أنفقوه على الأصنام وخدمها، فإن سقط شيء مما جعلوه للّه تعالى في نصيب الأوثان تركوه وقالوا إن اللّه غنى عن هذا، وإن سقط شيء من[ نصيب] الأصنام فيما جعلوه للّه ردوه إلى الأوثان، وقالوا إنها محتاجة، وكان إذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه للّه لم يبالوا به، وإذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوا للأصنام جبروه بما جعلوه للّه، فذلك

قوله تعالى { وجعلوا للّه مما ذرأ }، خلق { من الحرث والأنعام نصيباً }، وفيه اختصار مجازه وجعلوا للّه نصيباً ولشركائهم نصيباً. { فقالوا هذا للّه بزعمهم }، قرأ الكسائي (بزعمهم)بضم الزاي، والباقون بفتحها، وهما لغتان، وهو القول من غير حقيقة . { وهذا لشركائنا }، يعني  الأوثان ، { فما كان لشركائهم فلا يصل إلى اللّه وما كان للّه فهو يصل إلى شركائهم } ومعناه ما قلنا أنهم [كانوا يتمون ما جعلوه للأوثان مما جعلوه للّه، ولا] يتمون ما جعلوه للّه مما جعلوه للأوثان. وقال قتادة كانوا إذا أصابتهم سنة استعانوا بما جزؤوا للّه وأكلوا منه ووفروا ما جزؤوا لشركائهم ولم يأكلوا منه [شيئاً]، { ساء ما يحكمون }، أي بئس ما [يصنعون].

١٣٧

{ وكذلك زين لكثير من المشركين }، أي كما زين لهم تحريم الحرث والأنعام كذلك زين لكثير من المشركين، { قتل أولادهم شركاؤهم }، قال مجاهد شركاؤهم، أي شياطينهم زينوا وحسنوا لهم وأد البنات خيفة العيلة، سميت الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية اللّه وأضيف الشركاء إليهم لأنهم اتخذوها .

وقال الكلبي  شركاؤهم سدنة آلهتهم الذين كانوا يزينون للكفار قتل الأولاد، فكان الرجل منهم يحلف لئن ولد له كذا غلاماً لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب علىأبه عبد اللّه. وقرأ ابن عامر (زين) بضم الزاي وكسر الياء، (قتل) رفع (أولادهم)نصب، (شركائهم) بالخفض على التقديم، كأنه قال زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم، فصل بين الفعل وفاعله بالمفعول به، وهم الأولاد، كما قال الشاعر فزججتــه متمكنــا ً زج القلوص أبي مزاده أي زج أبي مزادة القلوص، فأضيف الفعل وهو القتل إلى الشركاء، وإن لم يتولوا ذلك لأنهم هم الذين زينوا ذلك ودعوا إليه، فكأنهم فعلوه. قوله عز وجل { ليردوهم }، ليهلكوهم، { وليلبسوا عليهم }، ليخلطوا عليهم، { دينهم }، قال ابن عباس ليدخلوا عليهم الشك في دينهم، وكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه بلبس الشياطين. { ولو شاء اللّه ما فعلوه }، أي لو شاء اللّه لعصمهم حتى ما فعلوا ذلك من تحريم الحرث والأنعام وقتل الأولاد، { فذرهم } ، يا محمد، { وما يفترون }، يختلقون من الكذب، فإن اللّه تعالى لهم بالمرصاد.

١٣٨

{ وقالوا } يعني المشركين، {هذه أنعام وحرث حجر }، أي حرام ، يعني ما جعلوا للّه ولآلهتهم من الحرث والأنعام على ما مضى ذكره .

وقال مجاهد  يعني بالأنعام البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، { لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم }، يعنون الرجال دون النساء، { وأنعام حرمت ظهورها }، هي الحوامي كانوا لا يركبونها، { وأنعام لا يذكرون اسم اللّه عليها }، أي يذبحونها باسم الأصنام لا باسم اللّه، وقال أبو وائل  معناه لا يحجون عليها ولا يركبونها لفعل الخير. { افتراءً عليه } يعني أنهم يفعلون ذلك ويزعمون أن اللّه أمرهم به افتراءً عليه { سيجزيهم بما كانوا يفترون }.

١٣٩

{ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا }، أي نسائنا .قال ابن عباس و قتادة و الشعبي  أراد أجنة البحائر والسوائب، فما ولد منها حياً فهو خالص للرجال دون النساء، وما ولد ميتاً أكله الرجال والنساء جميعاً. وأدخل الهاء في { خالصة } للتأكيد كالخاصة والعامة، كقولهم نسابة وعلامة، وقال الفراء  أدخلت الهاء لتأنيث الأنعام لأن ما في بطونها مثلها فأنثت بتأنيثها . وقال الكسائي  خالص وخالصة واحد، مثل وعظ وموعظة. { وإن يكن ميتةً }، قرأ ابن عامر [ وأبو جعفر ] { تكن } بالتاء { ميتة } رفع، ذكر الفعل بعلامة التأنيث، لأن الميتة في اللفظ مؤنثة. وقرأ أبو بكر عن عاصم { تكن } بالتاء { ميتة }نصب، أي وإن تكن الأجنة ميتة، وقرأ ابن كثير  { وإن يكن } بالياء { ميتة } رفع، لأن المراد بالميتة الميت، أي وإن يقع ما في البطون ميتاً، وقرأ الآخرون { وإن يكن } بالياء { ميتة }نصب، رده إلى { ما } أي وإن يكن ما في البطون ميتة، [يدل عليه أنه قال] { فهم فيه شركاء }، ولم يقل فيها، وأراد أن الرجال والنساء فيه شركاء. { سيجزيهم وصفهم }، أي بوصفهم، أو على وصفهم الكذب على اللّه تعالى { إنه حكيم عليم }.

١٤٠

{ قد خسر الذين قتلوا أولادهم }، قرأ ابن عامر و ابن كثير { قتلوا } بتشديد التاء على التكثير، وقرأ الآخرون بالتخفيف. { سفهاً }، جهلاً. { بغير علم }، نزلت في ربيعة ومضر وبعض العرب من غيرهم، كانوا يدفنون البنات أحياء مخافة السبي والفقر، وكان بنو كنانة لا يفعلون ذلك. { وحرموا ما رزقهم اللّه }، يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، { افتراءً على اللّه }،حيث قالوا إن اللّه أمرهم بها، { قد ضلوا وما كانوا مهتدين }.

١٤١

قوله تعالى { وهو الذي أنشأ }، ابتدع. { جنات }، بساتين، { معروشات وغير معروشات } ، أي مسموكات مرفوعات وغير مرفوعات.

وقال ابن عباس معروشات ما انبسط على وجه الأرض وانتشر مما يعرش، مثل الكرم والقرع والبطيخ وغيرها، وغير معروشات ما قام على ساق وبسق، مثل النخل والزرع وسائر الأشجار .

وقال الضحاك  كلاهما، الكرم خاصة، منها ما عرش ومنها ما لم يعرش. { والنخل والزرع }، أي وأنشأ النخل والزرع، { مختلفاً أكله }، ثمره وطعمه منها الحلو والحامض والجيد والرديء، { والزيتون والرمان متشابهاً }، في المنظر، { وغير متشابه }، في المطعم مثل الرمانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف، { كلوا من ثمره إذا أثمر }، هذا أمر إباحة. { وآتوا حقه يوم حصاده }، قرأ أهل البصرة و ابن عامر و عاصم { حصاده } بفتح الحاء، وقرأ الآخرون بكسرها ومعناهما واحد، كالصرام والصرام والجزاز والجزاز.

واختلفوا في هذا الحق فقال ابن عباس و طاووس و الحسن و جابر بن زيد و سعيد بن المسيب  إنها الزكاة المفروضة من العشر ونصف العشر. وقال علي ابن الحسين و عطاء و مجاهد و حماد و الحكم  هو حق في المال سوى الزكاة، أمر بإتيانه، لأن الآية مكية وفرضت الزكاة بالمدينة. قال إبراهيم هو الضغث. وقال الربيع  لقاط السنبل.

وقال مجاهد  كانوا [يعلقون] العذق عند الصرام فيأكل منه من مر. وقال يزيد بن الأصم كان أهل المدينة إذا صرموا يجيؤون بالعذق فيعلقونه في جانب المسجد، فيجيء المسكين فيضربه بعصاه فيسقط منه فيأخذه. وقال سعيد بن جبير  كان هذا حقاً يؤمر بإتيانه في ابتداء الإسلام فصار منسوخاً بإيجاب العشر. وقال مقسم عن ابن عباس نسخت الزكاة كل نفقة في القرآن. { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين }، قيل أراد بالإسراف إعطاء الكل. قال ابن عباس في رواية الكلبي  إن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئاً فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية .

قال السدي  لا تسرفوا أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء. قال الزجاج  على هذا إذا أعطى الإنسان كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئاً فقد أسرف، لأنه قد جاء في الخبر (أبدأ بمن تعول). وقال سعيد بن المسيب  معناه لا تمنعوا الصدقة .فتأويل الآية على هذا لا تتجاوز الحد في البخل والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة . و

قال مقاتل  لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام. وقال الزهري  لا تنفقوا في المعصية.

وقال مجاهد  الإسراف ما قصرت به عن حق اللّه عز وجل، وقال لو كان أبو قبيس ذهباً لرجل فأنفقه في طاعة اللّه لم يكن مسرفاً ولو أنفق درهماً أو مداً في معصية اللّه كان مسرفاً. وقال إياس بن معاوية  ما جاوزت به أمر اللّه فهو سرف وإسراف. وروى ابن وهب عن أبي زيد ، قال الخطاب للسلاطين، يقول لا تأخذوا فوق حقكم .

١٤٢

قوله عز وجل { ومن الأنعام }، أي وأنشأ من الأنعام {حمولةً }، وهي كل ما يحمل عليها من الإبل { وفرشاً }، هي الصغار من الإبل التي لا تحمل { كلوا مما رزقكم اللّه ولا تتبعوا خطوات الشيطان }، لا تسلكوا طريقه وآثاره في تحريم الحرث والأنعام، { إنه لكم عدو مبين }.

١٤٣

ثم بين الحمولة والفرش فقال { ثمانية أزواج }، نصبها على البدل من الحمولة والفرش، أي وأنشأ من الأنعام ثمانية أزواج أصناف، { من الضأن اثنين }ن أي الذكر والأنثى، [فالذكر زوج والأنثى] زوج، والعرب تسمي الواحد زوجاً إذا كان لا ينفك عن الآخر، والضأن النعاج، وهي ذوات الصوف من الغنم، والواحد ضائن والأنثى ضائنة، والجمع ضوائن، { ومن المعز اثنين }، قرأ ابن كثير وابن عامر وأهل البصرة { من المعز } بفتح العين، والباقون بسكونها، والمعز والمعزى جمع لا واحد له من لفظه، وهي ذوات الشعر من الغنم، وجمع الماعز معيز، وجمع الماعزة مواعز، { قل } يا محمد { آلذكرين حرم }، اللّه عليكم، يعني ذكر الضأن والمعز، { أم الأنثيين }، يعني أنثى الصأن والمعز، { أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين }، منهما، فإنها لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى، { نبئوني }، أخبروني { بعلم }، قال الزجاج  فسروا ما حرمتم بعلم، { إن كنتم صادقين }أن اللّه تعالى حرم ذلك .

١٤٤

{ ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين }، وذلك أنهم كانوا يقولون هذه أنعام وحرث حجر، وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وكانوا يحرمون بعضها على الرجال والنساء، وبعضها على النساء دون الرجال، فلما قام الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبي صلى اللّه عليه وسلم، وكان خطيبهم مالك بن عوف أبو الأحوص الجشمي، فقال { يا محمد [بلغنا] أنك تحرم أشياء مما كان آباؤنا يفعلونه، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنكم قد حرمتم أصنافاً من الغنم على غير أصل، وإنما خلق اللّه هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها، فمن أين جاء هذا التحريم ؟ من قبل الذكر أم من قبل الأنثى ؟فسكت مالك ابن عوف وتحير فلم يتكلم} .فلو قال جاء التحريم بسبب الذكور وجب أن يحرم جميع الذكور، وإن قال بسبب الأنوثة وجب أن يحرم جميع الإناث، وإن كان باشتمال الرحم عليه فينبغي أن يحرم الكل، لأن الرحم لا يشتمل إلا على ذكر أو أنثى، فأما تخصيص التحريم بالولد الخامس أو لسابع أو البعض فمن أين ؟ ويروى {أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لمالك يا مالك ما لك لا تتكلم ؟ قال له مالك بل تكلم وأسمع منك }. { أم كنتم شهداء }، حضوراً { إذ وصاكم اللّه بهذا فمن أظلم ممن افترى على اللّه كذباً ليضل الناس بغير علم }، قيل أراد به عمرو بن لحي ومن جاء بعده على طريقه، { إن اللّه لا يهدي القوم الظالمين }.

١٤٥

ثم بين أن التحريم والتحليل يكون بالوحي والتنزيل، فقال { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما }. وروي أنهم قالوا فما المحرم إذاً فنزل { قل } يا محمد { لا أجد في ما أوحي إلي محرما }، أي شيئاً محرماً، { على طاعم يطعمه }، آكل يأكله، { إلا أن يكون ميتةً }، قرأ ابن عامر وأبو جعفر (تكون بالتاء )، { ميتة } رفع أي إلا أن تقع ميتة، وقرأ ابن كثير و حمزة { تكون } بالتاء، { ميتة } نصب على تقدير اسم مؤنث، أي إلا أن تكون النفس، أو الجثة ميتة، وقرأ الباقون (يكون) بالياء (ميتة) نصب، يعني إلا أن يكون[المطعوم] ميتة، { أو دماً مسفوحاً }، أي مهراقاً سائلاً، قال ابن عباس يريد ما خرج من الحيوان، وهن أحياء وما خرج من الأرواح وما يخرج من الأوداج عند الذبح، ولا يدخل فيه الكبد والطحال، لأنهما جامدان، وقد جاء الشرع بإباحتهما، ولا ما اختلط باللحم من الدم، لأنه غير سائل. قال عمران بن حدير  سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم، وعن القدر يرى فيهما حمرة الدم ؟ فقال لا بأس به، إنما نهى عن الدم المسفوح. وقال إبراهيم  لا بأس بالدم في عرق أو مخ، إلا المسفوح الذي تعمد ذلك .

وقال عكرمة  لولا هذه الآية لاتبع المسلمون من العروق ما يتبع اليهود. { أو لحم خنزير فإنه رجس } حرام، { أو فسقاً أهل لغير اللّه به }، وهو ما ذبح على غير اسم اللّه تعالى. فذهب بعض أهل العلم إلى أن التحريم مقصور على هذه الأشياء. يروى ذلك عن عائشة وابن عباس قالوا ويدخل في الميتة المنخنقة والموقوذة، وما ذكر في أول سورة المائدة . وأكثر العلماء على أن التحريم لا يختص بهذه الأشياء، والمحرم بنص الكتاب ما ذكر هنا، ذلك معنى

قوله تعالى { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما }، وقد حرمت السنة أشياء يجب القول بها. منها ما

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ثنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ، قال ثنا عبيد اللّه بن معاذ العنبري

أخبرنا أبي أنا شعبة عن الحكم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال { نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير}.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ثنا زاهر بن أحمد ثنا أبو إسحاق الهاشمي ثنا أبو مصعب عن مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن أبي سفيان الحضرمي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { أكل كل ذي ناب من السباع حرام } . والأصل عند الشافعي  أن ما لم يرد فيه نص تحريم أو تحليل، فإن كان مما أمر الشرع بقتله-كما قال (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم )، أو نهى عن قتله، كما روي أنه نهى عن قتل النحلة والنملة - فهو حرام، وما سوى ذلك فالمرجع فيه إلى الأغلب منهم فهو حرام، لأن اللّه تعالى خاطبهم بقوله { قل أحل لكم الطيبات }، فثبت أن ما استطابوه فهو حلال. { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم }، أباح أكل هذه المحرمات عند الاضطرار في غير العدوان .

١٤٦

قوله عز وجل { وعلى الذين هادوا }، يعني اليهود، { حرمنا كل ذي ظفر }، وهو ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير مثل البعير والنعامة والأوز والبط، قال القتيبي  هو كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من [الدواب] وحكاه عن بعض المفسرين، وقال سمي الحافر ظفراً على الاستعارة . { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } يعني شحوم الجوف، وهي الثروب، وشحم الكليتين، { إلا ما حملت ظهورهما }، أي إلا ما علق بالظر والجنب من داخل بطونهما، { أو الحوايا }، وهي المباعر، واحدتها حاوية وحوية، أي ما حملته الحوايا من الشحم.{ أو ما اختلط بعظم }، يعني شحم الإلية، هذا كله داخل في الاستثناء، والتحريم مختص بالثرب وشحم الكلية.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا قتيبة أنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة { إن اللّه ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول اللّه أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال لا، هو حرام. ثم قال رسول اللّه عند ذلك  قاتل اللّه اليهود إن اللّه عز وجل لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه } . { ذلك جزيناهم }، أي ذلك التحريم عقوبة لهم { ببغيهم}، أي بظلمهم من قتلهم الأنبياء وصدهم عن سبيل اللّه وأخذهم الربا واستحلال أموال الناس بالباطل، { وإنا لصادقون }، في الأخبار عما حرمنا عليهم وعن بغيهم .

١٤٧

{ فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة }، بتأخير العذاب عنكم، { ولا يرد بأسه }،[عذابه]{ عن القوم المجرمين }، إذا جاء وقته .

١٤٨

{ سيقول الذين أشركوا }، لما لزمتهم الحجة وتيقنوا بطلان ما كانوا عليه من الشرك باللّه وتحريم ما لم يحرمه اللّه[قالوا] { لو شاء اللّه ما أشركنا ولا آباؤنا }، من قبل، { ولا حرمنا من شيء }، من البحائر والسوائب وغيرهما، أرادوا أن يجعلوا قوله { لو شاء اللّه ما أشركنا }، حجةً لهم على إقامتهم على الشرك، وقالوا إن اللّه تعالى قادر على أن يحول بيننا وبين ما نحن عليه حتى لا نفعله،فلولا أنه رضي بما نحن عليه وأراده منا وأمرنا به لحال بيننا وبين ذلك ، فقال اللّه تعالى تكذيباً لهم { كذلك كذب الذين من قبلهم }، من كفار الأمم الخالية { حتى ذاقوا بأسنا }، عذابنا . ويستدل أهل القدر بهذه الآية، يقولون إنهم لما قالوا لو شاء اللّه ما أشركنا كذبهم اللّه ورد عليهم، فقال { كذلك كذب الذين من قبلهم }. قلنا التكذيب ليس في قولهم { لو شاء اللّه ما أشركنا }، بل ذلك القول صدق ولكن في قولهم إن اللّه تعالى أمرنا بها ورضي بما نحن عليه، كما أخبر عنهم في سورة الأعراف(الآية ٢٨) { وإذا فعلوا فاحشةً قالوا وجدنا عليها آباءنا واللّه أمرنا بها }، فالرد عليهم في هذا كما قال تعالى { قل إن اللّه لا يأمر بالفحشاء }. والدليل على أن التكذيب ورد فيما قلنا لا في قولهم { لو شاء اللّه ما أشركنا }، قوله { كذلك كذب الذين من قبلهم }، بالتشديد ولو كان ذلك خبراً من اللّه عز وجل عن كذبهم في قولهم { لو شاء اللّه ما أشركنا }، لقال كذب الذين [من قبلهم]بالتخفيف فكان ينسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب، وقال الحسن بن الفضل  لو ذكروا هذه المقالة تعظيماً وإجلالاً للّه عز وجل، ومعرفة منهم به لما عابهم بذلك، لأن اللّه تعالى قال { ولو شاء اللّه ما أشركوا } وقال { ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه }، (الأنعام،١١١)، والمؤمنون يقولون ذلك، ولكنهم قالوه تكذيباً وتخرصاً وجدلاً من غير معرفة باللّه وبما يقولون، نظيره قوله عز وجل { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } (الزخرف،٢٠)، قال اللّه تعالى {ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون }(الأنعام، ١١٦).

وقيل في معنى الآية إنهم كانوا يقولون الحق بهذه الكلمة إلا أنهم كانوا يعدونه عذراً لأنفسهم ويجعلونه حجة لأنفسهم في ترك الإيمان، ورد عليهم في هذا لأن أمر اللّه بمعزل عن مشيئته وإرادته، فإنه مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد، وعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته، فإن مشيئته لا تكون عذراً لأحد . { قل هل عندكم من علم }، أي كتاب وحجة من اللّه، { فتخرجوه لنا }، حتى يظهر ما تدعون على اللّه تعالى من الشرك أو تحريم ما حرمتم، { إن تتبعون }، ما تتبعون فيما أنتم عليه، { إلا الظن }، من غير علم ويقين، { وإن أنتم إلا تخرصون }، تكذبون

١٤٩

{ قل فللّه الحجة البالغة }، التامة على خلقه بالكتاب[والرسول] والبيان، { فلو شاء لهداكم أجمعين}، فهذا يدل على أنه لم يشأ إيمان الكافر، ولو شاء لهداه .

١٥٠

{ قل هلم }، يقال للواحد والاثنين والجمع، { شهداءكم الذين يشهدون }، أي ائتوا بشهدائكم الذين يشهدون، { أن اللّه حرم هذا }، هذا راجع إلى ما تقدم من تحريمهم الأشياء على أنفسهم ودعواهم أن اللّه أمرهم به، { فإن شهدوا }، كاذبين { فلا تشهد }، أنت، { معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون }، أي يشركون.

١٥١

قوله عز وجل { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا }، وذلك أنهم سألوا وقالوا أي شيء الذي حرم اللّه تعالى ؟ فقال عز وجل {قل تعالوا أتل } أقرأ ما حرم ربكم عليكم حقاً يقيناً لا ظناً ولا كذباً كما تزعمون . فإن قيل ما معنا قوله { حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا } والمحرم هو الشرك لا ترك الشرك ؟ قيل موضع { أن } رفع، معناه هو أن لا تشركوا،

وقيل محله نصب،

واختلفوا في وجه انتصابه، قيل معناه حرم عليكم أن تشركوا به، و{ لا } صلة ك

قوله تعالى { ما منعك أن لا تسجد } (الأعراف،١٢)، أي منعك أن تسجد.

وقيل تم الكلام عند قوله { حرم ربكم } ثم قال عليكم أن لا تشركوا به شيئاً على الإغراء .قال الزجاج  يجوز أن يكون هذا محمولاً على المعنى، أي أتل عليكم تحريم الشرك، وجائز أن يكون على معنى أوصيكم ألا تشركوا به شيئاً { وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق }، فقر، { نحن نرزقكم وإياهم }، أي لا تئدوا بناتكم خشية العيلة، فإني رازقكم وإياهم، { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن }،[ما ظهر يعني العلانية، وما بطن] يعني السر . وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأساً في السر فحرم اللّه تعالى الزنا في العلانية والسر.

وقال الضحاك  ما ظهر الخمر، وما بطن الزنا. { ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه إلا بالحق }، حرم اللّه تعالى قتل المؤمن والمعاهد إلا بالحق، إلا بما يبيح قتله من ردة أو قصاص أو زنا يوجب الرجم .

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي ثنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري ثنا حاجب بن أحمد الطوسي ثنا محمد بن حماد ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد اللّه بن مرة عن مسروق عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال، قال رسولا اللّه صلى اللّه عليه وسلم { لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينة المفارق للجماعة }. { ذلكم } الذي ذكرت { وصاكم به }، أمركم به، { لعلكم تعقلون }.

١٥٢

{ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن }، يعني بما فيه صلاحه وتثميره .

وقال مجاهد  هو التجارة فيه.

وقال الضحاك  هو أن يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئاً، { حتى يبلغ أشده }، قال الشعبي ومالك الأشد الحلم، حتى يكتب له الحسنات[وتكتب عليه] السيئات.

قال أبو العالية  حتى يعقل وتجتمع قوته.

وقال الكلبي  الأشد ما بين الثمانية عشر سنة إلى ثلاثين سنة.

وقيل إلى أربعين سنة.

وقيل إلى ستين سنة.

وقال الضحاك  عشرون سنة. و

قال السدي  ثلاثون سنة.

و

قال مجاهد  الأشد ثلاث وثلاثون سنة . والأشد جمع شد، مثل قد وأقد، وهو استحكام قوة شبابه وسنه، ومنه شد النهار وهو ارتفاعه .

وقيل بلوغ الأشد أن يؤنس رشده بعد البلوغ . وتقدير الآية ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن على الأبد حتى يبلغ أشده، فادفعوا إليه ماله إن كان رشيداً . { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط }، بالعدل، { لا نكلف نفساً إلا وسعها }، أي طاقتها في إيفاء الكيل والميزان، أي لم يكلف المعطي أكثر مما وجب عليه، ولم يكلف صاحب الحق الرضا بأقل من حقه، حتى لا تضيق نفسه عنه، بل أمر كل واحد منهما بما يسعه مما لا حرج عليه فيه. { وإذا قلتم فاعدلوا }، فاصدقوا في الحكم والشهادة، { ولو كان ذا قربى }، أي ولو كان المحكوم والمشهود عليه ذا قرابة، { وبعهد اللّه أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون }، تتعظون، قرأ حمزة و الكسائي و حفص تذكرون [خفيفة] الذال، كل القرآن، والآخرون بتشديدها . قال ابن عباس هذه الآيات محكمات في جميع الكتب، لم ينسخهن شيء وهن محرمات على بني آدم كلهم، وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار.

١٥٣

{ وأن هذا }، أي هذا الذي وصيتكم به في هاتين الآيتين، { صراطي }، طريقي وديني، { مستقيماً }، مستوياً، قويماً، { فاتبعوه}، قرأ حمزة و الكسائي و (إن) بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الآخرون بفتح الألف، قال الفراء  والمعنى وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيماً. وقرأ ابن عامر و يعقوب  بسكون النون. { ولا تتبعوا السبل }، أي الطرق المختلفة التي عدا هذا الطريق، مثل اليهودية والنصرانية وسائر الملل،

وقيل الأهواء والبدع، { فتفرق }، فتميل، { بكم }، وتشتت، { عن سبيله }، عن طريقة ودينه الذي ارتضى، وبه أوصى، { ذلكم }، الذي ذكرت، { وصاكم به لعلكم تتقون }.

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي المعروف بـ أبي بكر بن أبي الهيثم أنا الحاكم أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي ثنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد ثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد اللّه قال { خط لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطاً ثم قال هذا سبيل اللّه، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ } وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه { الآية}.

١٥٤

{ ثم آتينا موسى الكتاب }، فإن قيل لم قال (ثم آتينا) وحرف (ثم) للتعقيب وإيتاء موسى الكتاب كان قبل مجيء القرآن ؟ قيل معناه ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب، فدخل (ثم) لتأخير الخبر لا لتأخير النزول. { تماماً على الذي أحسن }، اختلفوا فيه، قيل تماماً على المحسنين من قومه، فتكون (الذي ) بمعنى من، أي على من أحسن من قومه، وكان بينهم محسن ومسيء، يدل عليه قراءة ابن مسعود ( على الذين احسنوا )، وقال أبو عبيدة معناه على كل من أحسن، أي أتممنا فضيلة موسى بالكتاب على المحسنين، يعني أظهرنا فضله عليهم، والمحسنون هم الأنبياء والمؤمنون،

وقيل ( الذي أحسن ) هو موسى، و( الذي )بمعنى ما، أي على ما أحسن موسى، تقديره آتيناه الكتاب، يعني التوراة، إتماماً عليه للنعمة، لإحسانه في الطاعة والعبادة، وتبليغ الرسالة وأداء الأمر .

وقيل الإحسان بمعنى العلم ، وأحسن بمعنى علم، ومعناه تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والحكمة، أي آتيناه الكتاب زيادة على ذلك .

وقيل معناه تماماً مني على إحساني إلى موسى. { وتفصيلاً }، بياناً { لكل شيء }، يحتاج إليه من شرائع الدين، { وهدىً ورحمةً }، هذا في صفة التوراة، { لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون }، قال ابن عباس كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب.

١٥٥

{ وهذا }، يعني القرآن، { كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه }، واعملوا بما فيه، { واتقوا }، وأطيعوا، { لعلكم ترحمون }.

١٥٦

{ أن تقولوا }، يعني لئلا تقولوا ، ك

قوله تعالى { يبين اللّه لكم أن تضلوا }، (النساء،١٧٦)، أي لئلا تضلوا

وقيل معناه أنزلناه كراهة { أن تقولوا }، قال الكسائي  معناه اتقوا أن تقولوا يا أهل مكة، { إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا }، يعني اليهود والنصارى، { وإن كنا }، وقد كنا، { عن دراستهم }، قراءتهم، { لغافلين }، لا نعلم ما هي، معناه أنزلنا عليكم القرآن لئلا تقولوا إن الكتاب أنزل على من قبلنا بلسانهم ولغتهم فلم نعرف ما فيه وغفلنا عن دراسته، فتجعلونه عذراً لأنفسكم .

١٥٧

{ أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم }، وقد كان جماعة من الكفار قالوا ذلك لو أنا أنزل علينا ما أنزل على اليهود والنصارى لكنا خيراً منهم، قال اللّه تعالى { فقد جاءكم بينة من ربكم }،حجة واضحة بلغة تعرفونها، { وهدىً }، بيان { ورحمة }، ونعمة لمن اتبعه، { فمن أظلم ممن كذب بآيات اللّه وصدف }، أعرض، { عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب }، شدة العذاب، { بما كانوا يصدفون }،[يعرضون].

١٥٨

قوله تعالى { هل ينظرون }، أي هل ينتظرون بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن، { إلا أن تأتيهم الملائكة }، لقبض أرواحهم،

وقيل بالعذاب، قرأ حمزة و الكسائي ( يأتيهم ) بالياء ها هنا وفي النحل، والباقون بالتاء، { أو يأتي ربك }، بلا كيف، لفصل القضاء بين خلقه في موقف القيامة، { أو يأتي بعض آيات ربك }، يعني طلوع الشمس من مغربها، عليه أكثر المفسرين ورواه أبو سعيد الخدري مرفوعا.{ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل }، أي لا ينفعهم الإيمان عند ظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان، { أو كسبت في إيمانها خيراً }، يريد لا يقبل إيمان كافر ولا توبة فاسق { قل انتظروا }، يا أهل مكة، { إنا منتظرون }، بكم العذاب.

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ثنا أحمد بن يوسف السلمي ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن همام بن منبه ثنا أبو هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعين ، وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً } .

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي

أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا محمد بن حماد ثنا أبو معاوية الأعمش عن عمر بن مرة عن عبيدة عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { يدا اللّه بسطان لمسيء الليل ليتوب بالنهار، ولمسيء النهار ليتوب بالليل، حتى تطلع الشمس من مغربها }.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ثنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان

أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني أنا حميد بن زنجويه أنا النضر بن شميل أنا هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب اللّه عليه }.

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو منصور السمعاني أنا أبو جعفر الرياني أنا حميد بن زنجويه أنا أحمد بن عبد اللّه أنا حماد بن زيد أنا عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال أتيت صفوان بن عسال المرادي فذكر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { أن اللّه عز وجل جعل بالمغرب باباً مسيرة عرضه سبعون عاماً للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله }، وذلك قول اللّه تعالى { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل }. وروى أبو حازم عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها }.

١٥٩

قوله عز وجل { إن الذين فرقوا دينهم }، قرأ حمزة و الكسائي فارقوا ، بالألف ها هنا وفي سورة الروم، أي خرجوا من دينهم وتركوه وقرأ الآخرون (فرقوا) مشدداً، أي جعلوا دين اللّه وهو واحد-دين إبراهيم عليه السلام الحنفية-أدياناً مختلفة، فتهود قوم وتنصر قوم، يدل عليه قوله عز وجل {وكانوا شيعا"}، أي صاروا فرقاً مختلفة وهم اليهود والنصارى في قول مجاهد و قتادة و السدي .

وقيل هم أصحاب البدع والشبهات من هذه الأمة. وروي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لعائشة { يا عائشة إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً هم أصحاب البدع والشبهات من هذه الأمة } . حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد بن زياد الحنفي أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن محمد الأنصاري أنا أبو عبد اللّه محمد بن عقيل بن الأزهري بن عقيل الفقيه البلخي أنا الرمادي أحمد بن منصور أنا الضحاك بن مخلد أنا ثور بن يزيد ثنا خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية قال {صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصبح فوعظنا موعظةً بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، وقال قائل يا رسول اللّه كأنها موعظة مودع فأوصنا فقال أوصيكم بتقوى اللّه والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة }. وروى عن عبد اللّه بن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {إن بني إسرائيل تفرقت على اثنين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا واحدة ، قالوا من هي يا رسول اللّه ؟ قال ما أنا عليه وأصحابي }. قال عبد اللّه بن مسعود ( فإن أحسن الحديث كتاب اللّه، وأحسن الهدي هدي محمد صلى اللّه عليه وسلم،وشر الأمور محدثاتها) .ورواه جابر مرفوعاً إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . قوله عز وجل { لست منهم في شيء }، قيل لست من قتالهم في شيء، نسختها آية القتال، وهذا على قول من يقول المراد في الآية اليهود والنصارى،ومن قال أراد بالآية أهل الأهواء قال المراد من قوله (لست منهم في شيء) أي أنت منهم بريء وهم منك برآء، تقول العرب إن فعلت كذا فلست مني ولست منك أي كل واحد منا بريء من صاحبه، { إنما أمرهم إلى اللّه }، يعني في الجزاء والمكافآت، { ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون }، إذا وردوا للقيامة.

١٦٠

قوله عز وجل { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها }، أي له عشر حسنات أمثالها، وقرأ يعقوب (عشر) منون، (أمثالها) بالرفع. { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون }.

أخبرنا حسان به سعيد المنيعي ثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ثنا أبو بكر محمد بن الحسن القطان ثنا محمد بن يوسف القطان ثنا محمد بن يوسف السليمي ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه ثنا أبو هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى اللّه عز وجل }. و

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ثنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ثنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا وكيع ثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { يقول اللّه تبارك وتعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة بمثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً ومن لقيني بقراب الأرض خطيئةً لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة }. قال ابن عمر الآية في غير الصدقات من الحسنات، فإما الصدقات تضاعف سبعمائة ضعف.

١٦١

قوله عز وجل { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً }، قرأ أهل الكوفة والشام (قيماً) بكسر القاف وفتح الياء خفيفةً، وقرأ الآخرون بفتح القاف وكسر الياء مشدداً ومعناهما واحد وهو القويم المستقيم، وانتصابه على معنى هداني ديناً قيماً، { ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين }.

١٦٢

{ قل إن صلاتي ونسكي } ، قيل أراد بالنسك الذبيحة في الحج والعمرة، وقال مقاتل نسكي حجي،

وقيل ديني، { ومحياي ومماتي }، أي حياتي ووفاتي، { للّه رب العالمين }، أي هو يحييني ويميتني،

وقيل محياي بالعمل الصالح ومماتي إذا مت على الإيمان للّه رب العاملين،

وقيل طاعتي في حياتي للّه وجزائي بعد مماتي من اللّه رب العالمين. قرأ أهل المدينة (ومحياي) بسكون الياء و(مماتي) بفتحها، وقرأءة العامة (محياي) بفتح الياء لئلا يجتمع ساكنان .

١٦٣

قوله تعالى { لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين }،

قال قتادة  وأنا أول المسلمين من هذه الأمة.

١٦٤

{ قل أغير اللّه أبغي رباً }، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما سيداً وإلهاً { وهو رب كل شيء }، وذلك أن الكفار كانوا يقولون للنبي صلى اللّه عليه وسلم ارجع إلى ديننا. قال ابن عباس كان الوليد بن المغيرة يقول اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم، فقال اللّه تعالى { ولا تكسب كل نفس إلا عليها }، لا تجني كل نفس إلا ما كان من إثمه على الجاني، { ولا تزر وازرة وزر أخرى }، أي لا تحمل نفس حمل أخرى، أي لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، { ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون }.

١٦٥

{ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض }، يعني أهلك أهل القرون الماضية وأورثكم الأرض يا أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم من بعدهم،فجعلكم خلائف منهم فيها تخلفونهم فيها وتعمرونها بعدهم، والخلائف جمع خليفة كالوصائف جمع وصيفة، وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة لأنه يخلفه. { ورفع بعضكم فوق بعض درجات }، أي خالف بين أحوالكم فجعل بعضكم فوق بعض في الخلق والرزق والمعاش والقوة والفضل، { ليبلوكم في ما آتاكم }، ليختبركم فيما رزقكم، يعني يبتلي الغني والفقير والشريف والوضيع والحر والعبد، ليظهر منكم ما يكون عليه من الثواب والعقاب، { إن ربك سريع العقاب }، لأن ما هو آت فهو سريع قريب، قيل هو الهلاك في الدنيا، { وإنه لغفور رحيم }، قال عطاء  سريع العقاب لأعدائه غفور لأوليائه رحيم بهم.

﴿ ٠