سورة الأنفال

مدنية ، وهي خمس وسبعون آية . قيل  إلا سبع آيات من قوله { وإذ يمكر بك الذين كفروا } إلى آخر سبع آيات ، فإنها نزلت بمكة . والأصح أنها نزلت بالمدينة ، وإن كانت الواقعة بمكة .

١

{ يسألونك عن الأنفال } الآية ، قال أهل التفسير  سبب نزول هذه الآية هو أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يوم بدر { من أتى مكان كذا فله من النفل كذا ومن قتل قتيلاً فله كذا ومن أسر أسيراً فله كذا }. ، فلما التقوا تسارع إليه الشبان وأقام الشيوخ ووجوه الناس عند الرايات ، فلما فتح اللّه على المسلمين جاؤوا يطلبون ماجعل لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال الأشياخ  كنا ردءاً لكم ولو انهزمتم لانحزتم إلينا ، فلا تذهبوا بالغنائم دوننا ، وقام أبو اليسر بن عمرو الأنصاري أخو بني سلمة

فقال  يا رسول اللّه إنك وعدت من قتل قتيلاً فله كذا ومن أسر أسيراً فله كذا وإنا قد قتلنا منهم سبعين وأسرنا منهم سبعين ، فقام سعد بن معاذ رضي اللّه عنه

فقال  واللّه يا رسول اللّه ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو ، ولكن كرهنا أن نعري مصافك { فيعطف عليه } خيل من المشركين فيصيبوك ، فأعرض عنهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . وقال سعيد  يا رسول اللّه إن الناس كثير والغنيمة دون ذلك ، فإن تعط هؤلاء { الذين } ذكرت لا يبقى لأصحابك كبير شيء ، فنزلت { يسألونك عن الأنفال } . وقال ابن إسحاق  أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما في العسكر فجمع فاختلف المسلمون فيه ، فقال من جمعه  هو لنا ، قد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نفل كل امرئ ما أصاب ، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو  لولا نحن ما أصبتموه ، وقال الذين كانوا يحرسون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  لقد رأينا أن نقتل العدو وأن نأخذ المتاع ولكنا خفنا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كرة العدو ، وقمنا دونه فما أنتم بأحق به منا . وروى مكحول عن أبي أمامة الباهلي قال  سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال ، قال  فينا معشر أصحاب بدر نزلت ، حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه اللّه من أيدينا ، فجعله إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقسمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيننا عن بواء - يقول على سواء - وكان في ذلك تقوى اللّه وطاعة رسوله وصلاح ذات البين . وقال سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه { لما كان يوم بدر قتل أخي عمير ، وقتلت سعيد بن العاص بن أمية ، وأخذت سيفه ،وكان يسمى ذا الكثيفة ، فأعجبني فجئت به إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ،

فقلت  يا رسول اللّه إن اللّه قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف .

فقال  ليس هذا لي ولا لك ، اذهب فاطرحه في القبض ، فطرحته ورجعت ، وبي مالا يعلمه إلا اللّه من قتل أخي وأخذ سلاحي ، وقلت  عسى أن يعطى هذا السيف من لم يبل بلائي فما جاوزت إلا قليلاً حتى جاءني الرسول ، وقد أنزل اللّه عز وجل  } يسألونك عن الأنفال { ، الآية . فخفت أن يكون قد نزل في شيء ، فلما انتهيت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال  يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي ،وإنه قد صار لي الآن فاذهب فخذه فهو لك } . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال  كانت المغانم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيه شيء ، وما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به فمن حبس منه إبرةً أو سلكاً فهو غلول .

قوله  { يسألونك عن الأنفال } أي  عن حكم الأنفال وعلمها، وهو سؤال استخبار لا سؤال طلب .

وقيل هو سؤال طلب . قاله الضحاك وعكرمة . و

قوله  { عن الأنفال } أي  من الأنفال ، عن بمعنى من .

وقيل  عن صلة أي  يسألونك الأنفال ، وهكذا قراءة ابن مسعود بحذف عن . والأنفال  الغنائم ، واحدها  نفل ، وأصله الزيادة ، يقال  نفلتك وأنفلتك ، أي  زدتك ، سميت الغنائم أنفالاً  لأنها زيادة من اللّه تعالى لهذه الأمة على الخصوص . وأكثر المفسرين على أن الآية في غنائم بدر .

وقال عطاء  هي ما شذ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال، من عبد أو أمة ومتاع فهو للنبي صلى اللّه عليه وسلم يصنع به ما شاء .

قوله تعالى  { قل الأنفال للّه والرسول } { يقسمها كما شاء }

واختلفوا فيه ، فقال مجاهد و عكرمة و السدي  هذه الآية منسوخة ب

قوله عز وجل  { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن للّه خمسه وللرسول } الآية . كانت الغنائم يومئذ للنبي صلى اللّه عليه وسلم فنسخها اللّه عز وجل بالخمس . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم  هي ثابتة غير منسوخة ، ومعنى الآية  قل الأنفال للّه مر الدنيا والآخرة وللرسول يضعها حيث أمره اللّه تعالى ، أي  الحكم فيها للّه ولرسوله ، وقد بين اللّه مصارفها في

قوله عز وجل  { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن للّه خمسه وللرسول } الآية . { فاتقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم } ، أي  اتقوا اللّه بطاعته وأصلحوا الحال بينكم بترك المنازعة والمخالفة ، وتسليم أمر الغنيمة إلى اللّه والرسول صلى اللّه عليه وسلم . { وأطيعوا اللّه ورسوله إن كنتم مؤمنين } .

٢

{ إنما المؤمنون } ، يقول ليس المؤمن الذي يخالف اللّه ورسوله ، إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم ، { الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم } ، خافت وفرقت قلوبهم .

وقيل  إذا خوفوا باللّه انقادوا خوفاً من عقابه . { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } ، تصديقاً ويقيناً . وقال عمير بن حبيب وكانت له صحبة  إن للإيمان زيادةً ونقصاناً ، قيل  فما زيادته ؟ قال  إذا ذكرنا اللّه عز وجل وحمدناه فذلك زيادته ، وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقصانه ، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي  إن للإيمان فرائض وشرائط وشرائع وحدوداً وسنناً فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان . { وعلى ربهم يتوكلون } ، أي  يفوضون إليه أمورهم ويثقون به ولا يرجون غيره ولا يخافون سواه .

٣

{ الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } .

٤

{ أولئك هم المؤمنون حقاً } ، يعني يقيناً .

قال ابن عباس  برئوا من الكفر .

قال مقاتل  حقاً لا شك في إيمانهم . وفيه دليل على أنه ليس لكل أحد أن يصف نفسه بكونه مؤمناً حقاً لأن اللّه تعالى إنما وصف بذلك قوماً مخصوصين على أوصاف مخصوصة ، وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه . وقال ابن أبي نجيح  سأل رجل الحسن

فقال  أمؤمن أنت ؟

فقال  إن كنت تسألني عن الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب ، فأنا بها مؤمن ، وإن كنت تسألني عن

قوله  {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم } الآية ، فلا أدري أمنهم أنا أم لا ؟. وقال علقمة  كنا في سفر فلقينا قوماً فقلنا من القوم ؟ قالوا  نحن المؤمنون حقاً ، فلم ندر ما نجيبهم حتى لقينا عبد اللّه بن مسعود ف

أخبرناه بما قالوا،قال  فما رددتم عليهم ؟ قلنا  لم نرد عليهم شيئاً ، قال أفلا قلتم أمن أهل الجنة أنتم ؟ إن المؤمنون أهل الجنة . وقال سفيان الثوري  من زعم أنه مؤمن حقاً أو عند اللّه ، ثم لم يشهد أنه في الجنة فقد آمن بنصف الآية دون النصف . { لهم درجات عند ربهم } ، قال عطاء  يعني درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم . وقال الربيع بين أنس  سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنةً . { ومغفرة } ، لذنوبهم { ورزق كريم } ، حسن يعني ما أعد لهم في الجنة .

٥

قوله تعالى  { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } ، اختلفوا في الجالب لهذه الكاف التي في قوله { كما أخرجك ربك } قال المبرد  تقديره الأنفال للّه وللرسول وإن كرهوا ، كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن كرهوا.

وقيل  تقديره امض لأمر اللّه في الأنفال وإن كرهوا كما مضيت لأمر اللّه في الخروج من البيت لطلب العير وهم كارهون .

وقال عكرمة  معناه فاتقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم فإن ذلك خير لكم ، كما أن إخراج محمد صلى اللّه عليه وسلم من بيته بالحق خير لكم ، وإن كرهه فريق منكم .

وقال مجاهد  معناه كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره فريق منهم ، كذلك يكرهون القتال ويجادلون فيه .

وقيل  هو راجع إلى

قوله  { لهم درجات عند ربه } ، تقديره  وعد { اللّه } الدرجات لهم حق ينجزه اللّه عز وجل كما أخرجك من بيتك بالحق ، فأنجز الوعد بالنصر والظفر .

وقيل  الكاف بمعنى على ،تقديره  امض على الذي أخرجك ربك . وقال أبو عبيده  هي بمعنى القسم مجازاً ، والذي أخرجك ، لأن (ما ) في موضع الذي ، وجوابه ( يجادلونك ) ، وعليه يقع القسم ، تقديره  يجادلونك واللّه الذي أخرجك ربك من بيتك بالحق .

وقيل  الكاف بمعنى ( إذ ) تقديره  واذكر إذ أخرجك ربك . قيل  المراد بهذا الإخراج هو إخراجه من مكة إلى المدينة . والأكثرون على أن المراد منه إخراجه من المدينة إلى بدر ، أي  كما أمرك ربك بالخروج من بيتك إلى المدينة بالحق قيل  بالوحي لطلب المشركين { وإن فريقا من المؤمنين } ، منهم ، { لكارهون } .

٦

{ يجادلونك في الحق } ، أي  في القتال ،{ بعد ما تبين } ، وذلك أن المؤمنين لما أيقنوا بالقتال كرهوا ذلك ، وقالوا  لم تعلمنا أنا نلقى العدو فنستعد لقتالهم ، وإنما خرجنا للعير ، فذلك جدالهم بعدما تبين لهم أنك لا تضع إلا ما أمرك ، وتبين صدقك في الوعد ، { كأنما يساقون إلى الموت } لشدة كراهيتهم القتال ، { وهم ينظرون } ، فيه تقديم وتأخير ، تقديره  وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون يجادلونك في الحق بعدما تبين . قال ابن زيد  هؤلاء المشركون جادلوه في الحق كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام لكراهيتهم إياه وهم ينظرون .

٧

قوله تعالى  { وإذ يعدكم اللّه إحدى الطائفتين أنها لكم } ، قال ابن عباس وابن الزبير و محمد ابن إسحاق و السدي  أقبل أبو سفيان من الشام في عير لقريش في أربعين راكباً من كفار قريش ، فيهم  عمرو بن العاص ، ومخرمة بن نوفل الزهري ، وفيها تجارة كثيرة ، وهي اللطيمة ، حتى إذا كانوا قريباً من بدر ، فبلغ النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك فندب أصحابه إليه وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدد ، وقال  هذه عير قريش فيها أموالكم فاخرجوا إليها لعل اللّه تعالى أن ينفلكموها ، فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يلقى حرباً . فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي صلى اللّه عليه وسلم استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم ويخبرهم أن محمداً قد عرض لعيرهم في أصحابه ، فخرج ضمضم سريعاً إلى مكة . وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له  يا أخي واللّه لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني وخشيت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة ، فاكتم على ما أحدثك . قال لها  وما رأيت ؟ قالت  رأيت راكباً أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ، ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس ، فصرخ بمثلها ، ثم أخذ صخرة فأرسها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلتها منها قلقة . فقال العباس  واللّه إن هذه لرؤيا رأيت ! فاكتميها ولا تذكريها لأحد . ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وكان له صديقاً فذكرها له واستكتمه إياها ، فذكرها الوليد لأبيه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش . قال العباس  فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة ، فلما رآني أبو جهل قال  يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا ،قال  فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم ، فقال لي أبو جهل  يا بني عبد المطلب متى حدثت هذه النبية فيكم ؟ قلت  وما ذاك ؟ قال  الرؤيا التي رأت عاتكة ؟ قلت  وما رأت ؟ قال  يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال انفروا في ثلاث ، فأن يك ما قالت حقاً فسيكون ، وإن تمض الثلاث ، ولم يكن من ذلك شيء ، نكتب عليكم كتاباً إنكم أكذب أهل بيت في العرب . فقال العباس  واللّه ما كان مني إليه كبير إلا أني حجدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئاً ، ثم تفرقنا فما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت  أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ،ثم لم تكن عندك غيرة لشيء مما سمعت ؟ قال قلت واللّه قد فعلت ما كان مني إليه من كثير ، وايم اللّه لأتعرضن له فإن عاد لأكفينكه. قال  فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه ، قال  فدخلت المسجد فرأيته ، فواللّه إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به ، وكان رجلاً خفيفاً ، حديد الوجه ، حديد اللسان ، حديد النظر ، إذ خرج نحو باب المسجد يشتد . قال  قلت في نفسي  ماله لعنه اللّه ؟ أكل هذا فرقاً مني أشتمه ؟ قال  فإذا هو قد سمع ما لم أسمع ، صوت ضمضم بن عمرو ، وهو يصرخ ببطن الوادي وافقاً على بعيره ، وقد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه وهو يقول  يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث . قال  فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر ، فتجهز الناس سراعاً فلم يتخلف من أشراف قريش أحد إلا أن أبا لهب قد تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة . فلما اجتمعت قريش للمسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة بن الحارث ، فقالوا  نخشى أن يأتونا من خلفنا فكاد ذلك أن يثنيهم ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وكان من أشراف بني بكر ،

فقال  أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه . فخرجوا سراعاً ، وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أصحابه ، في ليال مضت من شهر رمضان ، حتى إذا بلغ وادياً يقال له ذفران ، فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم ، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى إذا كان بالروحاء أخذ عيناً للعوم فأخبره بهم . وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيضاً عيناً له من جهينة حليفاً للأنصار يدعى عبد اللّه بن أريقط فأتاه بخبر القوم وسبقت العير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فنزل جبريل وقال إن اللّه وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشاً ، وكانت الغير أحب إليهم ، فاستشار النبي صلى اللّه عليه وسلم أصحابه في طلب العير وحرب النفير ، فقام أبو بكر فقال فأحسن ، ثم قام عمر فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو

فقال  يا رسول اللّه امض لما أراك اللّه فنحن معك فواللّه ما نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى  اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول  اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد يعني مدينة الحبشة ، لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خيراً ودعا له بخير . ثم قال رسول صلى اللّه عليه وسلم  أشيروا علي أيها الناس ، وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا  يا رسول اللّه إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم . فلما قال ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له سعد بن معاذ  واللّه لكأنك تريدنا يا رسول اللّه ؟ قال  أجل . قال  قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئتنا به هو الحق وأعطيتنا على ذلك { عهوداً ومواثيق } على السمع والطاعة ، فامض يا رسول اللّه لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً إنا لصبر عند الحرب صدق في اللقاء ولعل اللّه تعالى يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة اللّه ، فسر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقول سعد ونشط ذلك ، ثم قال  سيروا على بركة اللّه و أبشروا فإن اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين ، واللّه لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم . قال ثابت عن أنس قال  قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان ، قال و يضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا ، قال فما ماط أحد عن موضع يد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فذلك

قوله تعالى { وإذ يعدكم اللّه إحدى الطائفتين أنها لكم } أي  الفريقين إحداهما أبو سفيان مر العير والأخرى أبو جهل مع النفير . { وتودون } ، أي تريدون { أن غير ذات الشوكة تكون لكم } ، يعني العير التي ليس فيها قتال . والشوكة  الشدة والقوة . ويقال السلاح . { ويريد اللّه أن يحق الحق } أي يظهره ويعليه ، { بكلماته } بأمره إياكم بالقتال .

وقيل { بعداته } التي سبقت من إظهار الدين وإعزازه ، { ويقطع دابر الكافرين } ، أي  يستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد ، يعني  كفار العرب .

٨

{ ليحق الحق } ، ليثبت الإسلام ، { ويبطل الباطل } ، أي  يفني الكفر { ولو كره المجرمون } ، المشركون ، وكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة ليلة من شهر رمضان .

٩

قوله تعالى  { إذ تستغيثون ربكم } ، تستجيرون به من عدوكم وتطلبون منه الغوث والنصر . روي عن ابن عباس قال  قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه  لما كان يوم بدر نظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المشركين ، وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، دخل العريش هو وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه ، واستقبل القبلة ومد يده فجعل يهتف بربه عز وجل  { اللّهم أنجز لي ما وعدتني ، اللّهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض } ،فما زال يهتف بربه عز وجل ماداً يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه وقال  يا نبي اللّه كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك . فأنزل اللّه عز وجل { إذ تستغيثون ربكم } { فاستجاب لكم أني ممدكم } ، مرسل إليكم مدداً وردءاً لكم ، { بألف من الملائكة مردفين } ، قرأ أهل المدينة ويعقوب ( مردفين ) مفتح الدال ، أي  أردف اللّه المسلمين وجاء بهم مدداً . وقرأ الآخرون بكسر الدال ، أي  متتابعين بعضهم في إثر بعض ، يقال أردفته بمعنى تبعته . يروى أنه نزل جبريل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة في { صورة } الرجال على خيل بلق عليهم ثياب بيض وعلى رؤوسهم عمائم بيض ، قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم . وروي {أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ناشد ربه عز وجل وقال أبو بكر إن اللّه منجز لك ما وعدك فخفق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خفقة وهو في العريش ثم انتبه ،

فقال  يا أبا بكر أتاك نصر اللّه ، هذا جبريل آخذ بعنان فرس يقوده على ثناياه النقع } .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبداللّه النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا إبراهيم بن موسى ، ثنا عبد الوهاب ، ثنا خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس  أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يوم بدر  { هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب } . وقال عبداللّه بن عباس رضي اللّه عنهما  كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض ويوم حنين عمائم خضر ، ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام ، وكانوا يكونون فيما سواه عدداً ومدداً . وروي عن أبي أسيد بن مالك بن ربيعة قد شهد بدراً أنه قال بعدما ذهب بصره  لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة .

١٠

قوله تعالى  { وما جعله اللّه } ، يعني  الإمداد بالملائكة ، { إلا بشرى} ، أي  بشارة { ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند اللّه إن اللّه عزيز حكيم } .

١١

{ إذ يغشيكم النعاس } ، قرأ ابن كثير و أبو عمرو  ( يغشاكم ) بفتح الياء ،( النعاس ) رفع على أن الفعل له ،ك

قوله تعالى في سورة آل عمران{ أمنةً نعاساً يغشى طائفةً منكم } ( آل عمران - ١٥٤ ) ، وقرأ أهل المدينة ( يغشيكم ) بضم الياء وكسر الشين مخففاً ، ( النعاس ) نصب ،ك

قوله تعالى  { كأنما أغشيت وجوههم } وقرأ آخرون بضم الياء وكسر الشيد مشدداً ، ( النعاس ) نصب ،على أن الفعل للّه عز وجل ،ك

قوله تعالى { فغشاها ما غشى } ( النجم - ٥٤ ) ، والنعاس  النوم الخفيف . { أمنةً } أمناً { منه } ، مصدر أمنت أمناً وأمنةً وأماناً . قال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه  النعاس في القتال أمنة من اللّه وفي الصلاة وسوسة من الشيطان . { وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به } ، وذلك أن المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب أعفر ، تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب ، وسبقهم المشركون إلى ماء بدر وأصبح المسلمون بعضهم محدثين وبعضهم مجنبين ، وأصابهم الظمأ ، ووسوس إليهم الشيطان ، وقال  تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبي اللّه وأنكم أولياء اللّه وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون محدثين ومجنبين ، فكيف ترجون أن تظهروا عليهم ؟ فأرسل اللّه عز وجل عليهم مطراً سال منه الوادي فشرب المؤمنون واغتسلوا ، وتوضؤوا وسقوا الركاب ، وملؤوا الأسقية ، وأطفأ الغبار ، ولبد الأرض حتى ثبتت عليه الأقدام ، وزالت عنهم وسوسة الشيطان ، وطابت أنفسهم ، فذلك

قوله تعالى  { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } من الأحداث والجنابة . { ويذهب عنكم رجز الشيطان } وسوسته ، { وليربط على قلوبكم } باليقين والصبر { ويثبت به الأقدام } حتى لا تسوخ في الرمل بتلبيد الأرض .

وقيل  يثبت به الأقدام بالصبر وقوة القلب .

١٢

{إذ يوحي ربك إلى الملائكة } ، الذين أمد بهم المؤمنين ،{ أني معكم } ، بالعون والنصر ، { فثبتوا الذين آمنوا} ، أي  قووا قلوبهم قيل  ذلك التثبيت حضورهم معهم القتال ومعونتهم ، أي  ثبتوهم بقتالكم معهم المشركين . و

قال مقاتل  أي  بشروهم بالنصر ،وكان الملك يمشي أمام الصف في صورة الرجل ويقول  أبشروا فإن اللّه ناصركم . { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } ، قال عطاء  يريد الخوف من أوليائي ، { فاضربوا فوق الأعناق } ، قيل  هذا خطاب مر المؤمنين .

وقيل  هذا خطاب مر الملائكة ،وهو متصل بقوله { فثبتوا الذين آمنوا } ، و

قوله  { فوق الأعناق } ، قال عكرمة  يعني الرؤوس لأنها فوق الأعناق .

وقال الضحاك  معناه فاضربوا الأعناق ، وفوق صلة كما قال تعالى  { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } ( محمد -٤ )

وقيل  معناه فاضربوا على الأعناق . فوق بمعنى  على . { واضربوا منهم كل بنان } ، قال عطية  يعني كل مفصل . وقال ابن عباس و ابن جريج و الضحاك  يعني الأطراف . والبنان جمع بنانة ، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين . قال ابن الأنباري  ما كانت الملائكة تعلم كيف يقتل الآدميون ، فعلمهم اللّه عز وجل .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القادر الجرجاني ، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ،أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن حجاج ، ثنا زهير بن حرب ، ثنا عمرو بن يونس الحنفي ،ثنا عكرمة بن عمار ، ثنا أبو زميل هو سماك الحنفي ثنا عبد اللّه بن عباس قال { بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه ، إذا سمع ضربة السوط فوقه ، وصوت الفارس يقول  أقدم حيزوم ، إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً ، فنظر إليه فإذا هو قد حطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع ، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

فقال  صدقت ، ذلك من مدد السماء الثالثة . فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين} . وروي عن أبي داود المازني وكان شهد بدراً قال  إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت أنه قد قتله غيرى . وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال  واللّه ، لقد رأيتنا يوم بدر ، وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك ، فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف . وقال عكرمة ، قال أبو رافع مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب رضي اللّه عنه ، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، وأسلمت أم الفضل وأسلمت ، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم ، وكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه ، وكان أبو لهب عدو اللّه قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة ، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر كبته اللّه وأخزاه ، ووجدنا في أنفسنا قوةً وعزاً وكنت رجلاً ضعيفاً وكنت أعمل القداح وأنحتها في حجرة زمزم ، فو اللّه إني لجالس أنحت القداح ، وعندي أم الفضل جالسة ، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة ، فكان ظهره إلى ظهري ، فبينما هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم ، فقال أبو لهب  إلي بابن أخي فعندك الخبر ، فجلس إليه والناس قيام عليه ، قال  يابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس ؟ قال  لا شيء واللّه إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا وايم اللّه مر ذلك ما لمت الناس ، لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض ، لا واللّه ما تليق شيئاً ولا يقوم لها شيء ، قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي ، ثم قلت  تلك واللّه الملائكة ، قال فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة ، فثاورته ، فاحتملني فضرب بي الأرض ، ثم برك علي يضربني ، وكنت رجلاً ضعيفاً فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة ، فأخذته فضربته به ضربةً فقلت به رأسه شجة منكرة ، وقالت  تستضعفه أن غاب عنه سيده ؟ فقام مولياً ذليلاً فواللّه ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه اللّه بالعدسة فقتلته . وروى مقسم عن ابن عباس قال { كان الذي أسر العباس أبو اليسر ، كعب بن عمرو أخو بني سلمة ، وكان أبو اليسر رجلاً مجموعاً ، وكان العباس رجلاً جسيماً ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأبي اليسر ، كيف أسرت العباس ؟قال  يا رسول اللّه لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده ، هيئته كذا وكذا ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  لقد أعانك عليه ملك كريم } .

١٣

{ ذلك بأنهم شاقوا اللّه } ، خالفوا اللّه ، { ورسوله ، ومن يشاقق اللّه ورسوله فإن اللّه شديد العقاب } .

١٤

{ ذلكم } ، أي  هذا العذاب والضرب الذي عجلته لكم أيها الكفار ببدر ، { فذوقوه } عاجلاً ، { وأن للكافرين } ، أي  واعلموا وأيقنوا أن للكافرين آجلاً في المعاد ، { عذاب النار } . وروى عكرمة عن ابن عباس قال  {قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين فرغ من بدر عليك بالعير ليس دونها شيء ،فناداه العباس وهو أسير في وثاقه لا يصلح،فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمه؟ قال  لأن اللّه تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك }.

١٥

قوله عز وجل  { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } ، أي مجتمعين متزاحمين بعضكم إلى بعض ، والتزاحف  التداني في القتال  والزحف مصدر ،لذلك لم يجمع ، كقولهم قوم عدل ورضاً . قال الليث  الزحف جماعة يزحفون إلى عدو لهم بمرة ،فهم الزحف والجمع  الزحوف . { فلا تولوهم الأدبار } ، يقول  فلا تولوهم ظهوركم ، أي تنهزموا فإن المنهزم يولي دبره .

١٦

{ ومن يولهم يومئذ دبره } ، ظهره ، { إلا متحرفاً لقتال } ، أي  منعطفاً يرى من نفسه الانهزام ، وقصده طلب الغرة وهو يريد الكرة ، { أو متحيزاً إلى فئة } ، أي  منضماً صائراً إلى جماعة من المؤمنين { يريد } العود إلى القتال . ومعنى الآية النهي عن الانهزام من الكفار والتولي عنهم ،إلا على نية التحرف للقتال والانضمام إلى جماعة من المسلمين ليستعين بهم ويعودون إلى القتال ، فمن ولى ظهره لا على هذه النية لحقه الوعيد ،كما قال تعالى { فقد باء بغضب من اللّه ومأواه جهنم وبئس المصير } ،

واختلف العلماء في هذه الآية فقال أبو سعيد الخدري  هذا في أهل بدر خاصة ، ما كان يجوز لهم الانهزام لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان معهم ، ولم يكن لهم فئة يتحيزون إليها دون النبي صلى اللّه عليه وسلم ، متحيزاً إلى فئة فلا يكون فراره كبيرة ، وهو قول الحسن و قتادة و الضحاك . قال يزيد بن أبي حبيب  أوجب اللّه النار لمن فر يوم بدر ،فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال  { إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا اللّه عنهم } ( آل عمران - ١٥٥ )، ثم كان يوم حنين بعده فقال { ثم وليتم مدبرين } ( التوبة - ٢٥ ) { ثم يتوب اللّه من بعد ذلك على من يشاء } ( التوبة - ٢٧ ) . وقال عبد اللّه بن عمر { كنا في جيش بعثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فحاص الناس حيصة فانهزمنا ، فقلنا  يا رسول اللّه نحن { الفرارون } ،قال  بل أنتم الكرارون ، أنا فئة المسلمين } . وقال محمد بن سيرين  لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر

فقال  لو انحاز إلى كنا له فئة فأنا فئة كل مسلم . وقال بعضهم  حكم الآية عام في حق كل من ولىمنهزماً . جاء في الحديث  من الكبائر الفرار من الزحف . وقال عطاء بن أبي رباح  هذه الآية منسوخة ب

قوله عز وجل  { الآن خفف اللّه عنكم } ( الأنفال - ٦٦ ) فليس لقوم أن يفروا من { مثلهم } فنسخت تلك إلا في هذه العدة وعلى هذا أكثر أهل العلم أن المسلمين إذا كانوا على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا أو أن يولوا ظهورهم وينحازوا عنهم ،

قال ابن عباس  من فر من ثلاثة فلم يفر ، ومن اثنين فقد فر .

١٧

قوله تعالى  { فلم تقتلوهم ولكن اللّه قتلهم } ،

قال مجاهد  سبب هذه الآية أنهم لما انصرفوا عن القتال كان الرجل يقول  أنا قتلت فلاناً ويقول الآخر مثله ، فنزلت الآية . ومعناه  فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم ولكن اللّه قتلهم { بنصره } إياكم وتقويته لكم .

وقيل  لكن اللّه قتلهم بإمداد الملائكة . { وما رميت إذ رميت ولكن اللّه رمى } ، قال أهل التفسير و المغازي { ندب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس ، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً ، ووردت عليهم روايا قريش ،وفيهم أسلم ، غلام أسود لبني الحجاج ، وأبو يسار ، غلام لبني العاص بن سعيد ، فأتوا بهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال لهما  أين قريش ؟ قالا  هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى - والكثيب  العقنقل - فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لهما  كم القوم ؟ قالا  كثير ، قال  ما عدتهم ؟ قالا  لا ندري ، قال  كم ينحرون كل يوم ؟ قالا  يوماً عشرة ويوماً تسعة ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  القوم ما بين التسعمائة إلى الألف ، ثم قال لهما  فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا  عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو البختري ابن هشام ، وحكيم بن حزام ،والحارث بن عامر ، وطعيمة بن عدي ، والنضر بن الحارث ، وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ،ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه مكة قد ألقيت إليكم أفلاذ كبدها ، فلما أقبلت قريش ورآها رسول اللّه تصوب من العقنقل ، وهو الكثيب الذي جاؤوا منه إلى الوادي ، قال لهم  هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها { تحادك } وتكذب رسولك ، اللّهم فنصرك الذي وعدتني ، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له  خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلما التقى الجمعان تناول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كفاً من حصىً عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم ، وقال  شاهت الوجوه ، فلم يبق منهم مشرك إلا دخل في عينيه وفمه ومنخريه منها شيء ، فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم } . وقال قتادة ،و ابن زيد  {ذكر لنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاث حصيات فرمى بحصاة في ميمنة القوم وبحصاة في ميسرة القوم وبحصاة بين أظهرهم ، وقال  شاهت الوجوه فانهزموا }، فذلك

قوله تعالى  { وما رميت إذ رميت ولكن اللّه رمى } ، إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يرمي كفاً من الحصا إلى وجوه جيش فلا يبقى فيهم عين إلا ويصيبها منه شيء .

وقيل  معنى الآية وما بلغت إذ رميت ولكن اللّه بلغ .

وقيل  وما رميت بالرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء ولكن اللّه رمى بالرعب في قلوبهم حتى انهزموا ، { وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً } ، أي  ولينعم على المؤمنين نعمةً عظيمةً بالنصر والغنيمة ،{ إن اللّه سميع } لدعائكم ، { عليم } بنياتكم .

١٨

{ذلكم } الذي ذكرت من القتل والرمي والبلاء الحسن ، { وأن اللّه } ، قيل  فيه إضمار ، أي  { واعلموا } أن اللّه { موهن }، مضعف ، { كيد الكافرين } . قرأ ابن كثير و نافع وأهل البصرة  ( موهن ) بالتشديد والتنوين ، ( كيد ) نصب ، وقرأ الآخرون ( موهن ) بالتخفيف والتنوين إلا حفصاً ، فإنه يضيفه فلا ينون ويخفض ( كيد ) .

١٩

قوله تعالى  { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } ، وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر لما التقى الناس  اللّه أقطعنا للرحم وآتانا بما لم نعرف فأحنه الغداة ، فكان هو المستفتح على نفسه .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال  قال عبد الرحمن بن عوف  إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان ، حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما ،إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه  يا عم أرني أبا جهل ،

فقلت  يا بن أخي وما تصنع به ؟

فقال  عاهدت اللّه عز وجل إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه . فقال لي الآخر سراً من صاحبه مثله ، فما سرني أني بين رجلين بمكانهما ،فأشرت لهما إليه ، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه ، وهما ابنا عفراء . و

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا محمد بن المثنى ، ثنا ابن أبي عدي ، عن سليمان التيمي عن أنس رضي اللّه عنه ، قال  {قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم  من ينظر لنا ما صنع أبو جهل ؟ قال  فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد ، قال  فأخذ بلحيته

فقال  أنت أبو جهل ؟

فقال  وهل فوق رجل قتله قومه أو قتلتموه} . قال محمد بن إسحاق حدثني عبد اللّه بن أبي بكر قال  قال معاذ بن عمرو بن الجموح{ لما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوه أمر بأبي جهل بن هشام أن يلتمس في القتلى ،

فقال  اللّهم لا يعجزنك ،قال فلما سمعتها جعلته من شأني فعمدت نحوه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه . قال  وضربني ابنه عكرمة على عاتقي ، فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي ، وأجهضني القتال عنه ، فلقد قاتلت عامة يومي ، وإني لأسحبها خلفي ،فلما آذتني جعلت عليه قدمي ، ثم تمطيت به حتى طرحتها ، ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ بن عفراء ، فضربه حتى أثبته ، فتركه وبه رمق ، فمر عبد اللّه بن مسعود { بأبي جهل } قال عبد اللّه بن مسعود  وجدته بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على عنقه ، ثم قلت  هل أخزاك اللّه يا عدو اللّه ؟ قال  وبماذا أخزاني ، أعمد من رجل قتلتموه ، أخبرني لمن الدائرة ؟ قلت  للّه ولرسوله} . وروي عن ابن مسعود أنه قال  {قال لي أبو جهل لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقىً صعباً ، ثم احتززت رأسه ، ثم جئت به إلىرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

فقلت  يا رسول اللّه هذا رأس أبي جهل ،

فقال  آللّه الذي لا إله غيره ؟ قلت  نعم ،والذي لا إله غيره ،ثم ألقيته بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فحمد اللّه عز وجل } . وقال السيدي و الكلبي  كان المشركون حين خرجوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا  اللّهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين ففيه نزلت  { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } أي  إن تستنصروا فقد جاءكم النصر .

وقال عكرمة  قال المشركون واللّه لا نعرف ماجاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق ،

فأنزل اللّه عز وجل  { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } أي  إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء . وقال أبي بن كعب  هذا خطاب لأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال اللّه تعالى للمسلمين  { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } أي  إن تستنصروا فقد جاءكم الفتح والنصر .

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي ، أنا أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد ، ثنا عبد الرحيم بن منيب ، ثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن خباب رضي اللّه عنه قال شكونا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا ألا تدعو اللّه لنا ، ألا تستنصر لنا ؟ فجلس محماراً لونه أو وجهه فقال لنا { قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل ، ويحفر له في الأرض ثم يجاء بالمنشار فيجعل فوق رأسه ثم يجعل بفرقتين ما يصرف ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب ، ما يصرفه عن دينه ، واللّه ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب منكم من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا اللّه ، ولكنكم تعجلون .}

قوله  { وإن تنتهوا } ، يقول للكفار  إن تنتهوا عن الكفر باللّه وقتال نبيه صلى اللّه عليه وسلم ، { فهو خير لكم وإن تعودوا } ، لحربه وقتاله ، { نعد } بمثل الواقعة التي وقعت بكم يوم بدر .

وقيل  وإن تعودوا إلى الدعاء والاستفتاح نعد للفتح لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، { ولن تغني عنكم فئتكم } ، جماعتكم { شيئا ولو كثرت وأن اللّه مع المؤمنين } ، قرأ أهل المدينةو ابن عامر و حفص ( وأن اللّه ) بفتح الهمزة ، أي  ولأن اللّه مع المؤمنين ، كذلك { لن تغني عنكم فئتكم شيئاً } ،

وقيل  هو عطف على

قوله  { ذلكم وأن اللّه موهن كيد الكافرين } ، وقرأ آخرون  ( وإن اللّه ) بكسر الألف على الابتداء .

٢٠

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه ورسوله ولا تولوا عنه } ، أي  لا تعرضوا عنه ، { وأنتم تسمعون } ، القرآن ومواعظه .

٢١

{ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } ، أي  يقولون بألسنتهم سمعنا بآذاننا وهم لا يسمعون ،أي لا يتعظون ولا ينتفعون بسماعهم فكأنهم لم يسمعوا .

٢٢

قوله تعالى { إن شر الدواب عند اللّه } ، أي  شر من دب على وجه الأرض { من خلق اللّه } { الصم البكم } ، عن الحق فلا يسمعونه ولا يقولونه ، { الذين لا يعقلون } أمر اللّه عز وجل ، سماهم { دواب } لقلة انتفاعهم بعقولهم ،كما قال تعالى  { أولئك كالأنعام بل هم أضل } ( الأعراف - ١٧٩ )

قال ابن عباس  هم نفر من بني عبد الدار بني قصي ، كانوا يقولون نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد ، فقتلوا جميعاً بأحد ، وكانوا أصحاب اللواء لم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة .

٢٣

{ ولو علم اللّه فيهم خيراً لأسمعهم } ، أي  لأسمعهم سماع التفهم والقبول ، { ولو أسمعهم } بعد أن علم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك ، { لتولوا وهم معرضون } ، لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره .

وقيل  إنهم كانوا يقولون للنبي صلى اللّه عليه وسلم  أحيي لنا قصياً فإنه كان شيخاً مباركاً حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن بك ، فقال اللّه عز وجل  { ولو أسمعهم } كلام قصي { لتولوا وهم معرضون } .

٢٤

قوله تعالى  { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول } ، يقول أجيبوها بالطاعة ، ‌{ إذا دعاكم } ، الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، { لما يحييكم } ، أي  إلى ما يحييكم .

قال السدي  هو الإيمان ، لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان . و

قال قتادة  هو القرآن فيه الحياة وبه النجاة والعصمة في الدارين .

وقال مجاهد  هو الحق . وقال ابن إسحاق  هو الجهاد أعزكم اللّه به بعد الذل . وقال القتيبي  بل الشهادة قال اللّه تعالى في الشهداء { بل أحياء عند ربهم يرزقون } ( آل عمران - ١٦٩ ) وروينا {أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مر على أبي بن كعب ، رضي اللّه عنه ، وهو يصلي ، فدعاه فعجل أبي في صلاته ، ثم جاء فقال رسول اللّه  ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك ؟ قال  كنت في الصلاة ، قال  أليس يقول اللّه عز وجل  } يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم { ؟ {

فقال لا جرم يا رسول اللّه لا تدعوني إلا أجبت وإن كنت مصلياً } .}

قوله تعالى  { واعلموا أن اللّه يحول بين المرء وقلبه } ، قال سعيد بن جبير و عطاء  يحول بين المؤمن والكفر ، وبين الكافر والإيمان .

وقال الضحاك  يحول بين الكافر والطاعة ، ويحول بين المؤمن والمعصية .

وقال مجاهد  يحول بين المرء وقلبه فلا يعقل ولا يدري ما يعمل . و

قال السدي  يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه .

وقيل  هو أن القوم لما دعوا إلى القتال في حالة الضعف ساءت ظنونهم واختلجت صدورهم فقيل لهم  قاتلوا في سبيل اللّه واعلموا أن اللّه يحول بين المرء وقلبه فيبدل الخوف أمناً والجبن جرأةً . { وأنه إليه تحشرون } ، فيجزيكم بأعمالكم .

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي ، أنا أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان، عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال كان رسول اللّه يكثر أن يقول  { يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، قالوا يا رسول اللّه آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا ؟ قال  القلوب بي أصبعين من أصابع اللّه يقلبها } .

٢٥

{ واتقوا فتنةً } ، اختباراً وبلاءً { لا تصيبن } ،

قوله  ( لا تصيبن ) ليس بجزاء محض ،ولو كان جزاءً لم تدخل فيه النون ، لكنه { نفي } ، وفيه طرف من الجزاء ك

قوله تعالى  { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده } ( النمل - ١٨ ) وتقديره واتقوا فتنة إن لم تتقوها أصابتكم ، فهو كقول القائل  انزل عن الدابة لا تطرحنك ، فهذا جواب الأمر بلفظ النهي ، معناه إن تنزل لا تطرحك . قال المفسرون  نزلت هذه الآية في أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعناه  اتقوا فتنة تصيب الظالم وغير الظالم . قال الحسن  نزلت في علي وعمار و طلحة و الزبير رضي اللّه عنهم . قال الزبير  لقد قرأنا هذه الآية وما أرانا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها ، يعني ما كان يوم الجمل . وقال السدي و مقاتل و الضحاك و قتادة  هذا في قوم مخصوصين من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصابتهم الفتنة يوم الجمل . و

قال ابن عباس  أمر اللّه عز وجل المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم اللّه بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم .

أخبرنا محمد بن عبد اللّه بن أبي توبة ، أنا أبو طاهر الحارثي ، أنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنا عبد اللّه بن محمود ، أنا إبراهيم بن عبد اللّه الخلال ، ثنا عبد اللّه بن المبارك ، عن سيف بن أبي سليمان ، قال سمعت عدي بن عدي الكندي يقول  حدثني مولىً لنا أنه سمع جدي يقول  سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول  { إن اللّه لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه ، فإذا فعوا ذلك عذب اللّه العامة والخاصة} . وقال ابن زيد  أراد بالفتنة افتراق الكلمة ومخالفة بعضهم بعضاً .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة قال  قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  { ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، من تشرف لها تستشرفه ، فمن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به } قوله { لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } ، يعني  العذاب ، { واعلموا أن اللّه شديد العقاب } .

٢٦

قوله تعالى  { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض } ، يقول  واذكروا يا معشر المهاجرين إذ أنتم قليل في العدد ، مستضعفون في أرض مكة ، في ابتداء الإسلام ، { تخافون أن يتخطفكم الناس } ،يذهب بكم الناس ، يعني  كفار مكة .

وقال عكرمة  كفار العرب  وقال وهب  فارس والروم ، { فآواكم } ، إلى المدينة ، { وأيدكم بنصره } ،أي  قواكم يوم بدر بالأنصار .

وقال الكلبي  قواكم يوم بدر بالملائكة ، { ورزقكم من الطيبات } ، يعني  الغنائم ، أحلها لكم ولم يحلها لأحد قبلكم ، { لعلكم تشكرون } .

٢٧

{ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا اللّه والرسول } ،

قال السدي  كانوا يسمعون الشيء من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيفشونه ، حتى يبلغ المشركين . وقال الزهري و الكلبي  نزلت الآية في أبي لبابة ، هارون بن عبد المنذر الأنصاري ، من بني عوف بن مالك ، وذلك {أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة ، فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير ،على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات و أريحاء من أرض الشام ، فأبى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فأبوا وقالوا  أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر ، وكان مناصحاً لهم ، لأن ماله وولده وعياله كانت عندهم ، فبعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وآتاهم ، فقالوا له  يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقة أنه الذبح ،فلا تفعلوا ، قال أبو لبابة  واللّه ما زالت قدماي في مكانهما حتى عرفت أني قد خنت اللّه ورسوله ثم انطلق على وجهه ولم يأت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال  واللّه لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب اللّه علي فلما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خبره قال  أما لو جاءني لاستغفرت له فأما إذ فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب اللّه عليه ، فمكث سبعة أيام ، لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خر مغشياً عليه ثم تاب اللّه عليه ، فقيل له  يا أبا لبابة قد تيب عليك ،

فقال  لا واللّه لا أحل نفسي حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو الذي يحلني ، فجاءه فحله بيده ، ثم قال أبو لبابة  يا رسول اللّه إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كله ، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم  لا يجزيك الثلث فتصدق به فنزلت فيه } لا تخونوا اللّه والرسول {} . { وتخونوا أماناتكم } ، أي  [ ولا تخونوا أماناتكم ] ، { وأنتم تعلمون } ، أنها أمانة .

وقيل  وأنتم تعلمون أن ما فعلتم ، من الإشارة إلى الحلق ،خيانة

قال السدي  إذا خانوا اللّه والرسول فقد خانوا أماناتهم . و

قال ابن عباس  لا تخونوا اللّه بترك فرائضه والرسول بترك سنته وتخونوا أمانتكم .

قال ابن عباس  هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض اللّه ، والأعمال التي ائتمن اللّه عليها .

قال قتادة  اعلموا أن دين اللّه أمانة فأدوا إلى اللّه عز وجل ما ائتمنكم عليه من فرائض وحدوده ،ومن كانت عليه أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها .

٢٨

{ واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } ، قيل  هذا أيضا في أبي لبابة ، وذلك أن أمواله وأولاده كانوا في بني قريظة ، فقال ما قال خوفاً عليهم .

وقيل  هذا في جميع الناس .

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه المليحي - إملاءً - و

أخبرنا أبو بكر محمد بن محمد بن الحسن الطوسي ، قالا  حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفراييني أنا محمد بن محمد بن [ رزمويه ] حدثنا يحيى بن محمد بن غالب ، حدثنا يحيى بن يحيى ،حدثنا عبد اللّه بن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة {أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أتي بصبي فقبله وقال  أما إنهم مبخلة مجبنة وإنهم لمن ريحان اللّه عز وجل } . { وأن اللّه عنده أجر عظيم } ، لمن نصح للّه ولرسوله وأدى أمانته .

٢٩

قوله عز وجل  { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا اللّه } ، بطاعته وترك معصيته ، { يجعل لكم فرقاناً } ،

قال مجاهد  مخرجاً في الدنيا والآخرة . وقال مقاتل بن حيان  مخرجاً في الدين من الشبهات .

وقال عكرمة  نجاة أي يفرق بينكم وبين ما تخافون .

وقال الضحاك  بياناً . وقال ابن إسحاق  فصلاً بين الحق والباطل يظهر اللّه به حقكم ويطفئ باطل من خالفكم . والفرقان مصدر كالرجحان والنقصان . { ويكفر عنكم سيئاتكم } ، يمح عنكم ما سلف من ذنوبكم ، { ويغفر لكم واللّه ذو الفضل العظيم } .

٣٠

قوله تعالى  { وإذ يمكر بك الذين كفروا } ، هذه الآية معطوفة [ على قوله ] { واذكروا إذ أنتم قليل } ، واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا ، وإذا قالوا اللّهم ، لأن هذه السورة مدنية وهذا المكر والقول إنما كانا بمكة، ولكن اللّه ذكرهم بالمدينة ك

قوله تعالى { إلا تنصروه فقد نصره اللّه } ( التوبة - ٤٠ ) وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من أهل التفسير أن قريشاً فرقوا لما أسلمت الأنصار أن يتفاقم أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة ، ليتشاوروا في أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكانت رؤوسهم  عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، وأبو سفيان ، وطعيمة بن عدي ، وشيبة بن ربيعة ، والنضر بن الحارث ، وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود ، وحكيم بن حزام ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وأمية بن خلف ، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ ، فلما رأوه قالوا  من أنت ؟ قال  شيخ من نجد ، سمعت باجتماعكم ، فأردت أن تأخذوا محمداً وتحبسوه في بيت ، وتشدوا وثاقه ، وتسدوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه ، وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك فيه ، كما هلك من كان قبله من الشعراء . قال  فصرخ عدو اللّه الشيخ النجدي وقال  بئس الرأي رأيتم واللّه لئن حبستموه في بيت فخرج أمره من وراء الباب الذي غلقتم دونه إلى أصحابه فيوشك أن يثبوا عليكم ويقاتلوكم ويأخذوه من أيديكم ، قالوا  صدق الشيخ ، فقال هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي  أما أنا فأرى أن تحملوه على بعير تخرجوه من أظهركم فلا يضركم ما صنع ولا أين وقع وإذا غاب عنكم واسترحتم منه ، فقال إبليس  ما هذا لكم برأي تعتمدون عليه ، تعمدون إلى رجل قد أفسد أحلامكم فتخرجوه إلى غيركم فيفسدهم ألم تروا إلى حلاوة منطقه و حلاوة لسانه وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه ؟ واللّه لئن فعلتم ذلك ليذهبن وليستميل قلوب قوم ثم يسير بهم إليكم فيخرجكم من بلادكم ، قالوا صدق الشيخ  فقال أبو جهل واللّه لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شاباً نسيباً وسيطاً فتياً ثم يعطى كل فتى منهم سيفاً صارماً ، ثم يضربوه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها ، وأنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدي قريش ديته ، فقال إبليس  صدق هذا الفتى ، وهو أجودكم رأياً ، القول ما قال لا أرى رأياً غيره فتفرقوا على قول أبي جهل وهم مجمعون له . فأتى جبريل النبي صلى اللّه عليه وسلم وأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه ، وأذن اللّه له عند ذلك بالخروج إلى المدينة ، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام في مضجعه وقال له  تسيح ببردتي هذه فإنه لن يخلص إليك منهم أمر تكرهه ، ثم خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخذ قبضة من تراب فأخذ اللّه أبصارهم عنه فجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يقرأ { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } إلى قوله { فهم لا يبصرون } ( سورة يس - ٨ ٩ ) ومضى إلى الغار من ثور هو وأبو بكر ، وخلف علياً بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي قبلها وكانت الودائع تودع عنده صلى اللّه عليه وسلم لصدقه وأمانته ، وبات المشركون يحرسون علياً في فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحسبون أنه النبي صلى اللّه عليه وسلم فلما أصبحوا ثاروا إليه فرأوا علياً رضي اللّه عنه ، فقالوا  أين صاحبك ؟ قال  لا أدري ، فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا  لو دخله لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاثاً ،ثم قدم المدينة ، ذلك

قوله تعالى  { وإذ يمكر بك الذين كفروا } . { ليثبتوك } ، ليحبسوك ويسجنوك ويوثقوك ، { أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر اللّه } ، قال الضحاك  يصنعون ويصنع اللّه ، والمكر والتدبير وهو من اللّه التدبير بالحق .

وقيل  يجازيهم جزاء المكر { واللّه خير الماكرين } .

٣١

{ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا } ، يعني النضر بن الحارث ، { قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا } ، وذلك أنه كان يختلف تاجراً إلى فارس والحيرة فيسمع أخبار رستم و اسفنديار ، و أحاديث العجم ويمر باليهود والنصارى فيراهم يقرؤون في التوراة والإنجيل ويركعون ويسجدون ، فجاء إلى مكة فوجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلي ويقرأ القرآن فقال النضر  قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ،{ إن هذا إلا أساطير الأولين } ، أخبار الأمم الماضية وأسماؤهم وما سطر الأولون في كتبهم . والأساطير  جمع أسطورة ، وهي المكتوبة ، من قولهم سطرت أي كتبت .

٣٢

قوله تعالى  { وإذ قالوا اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك } ، الآية نزلت في النضر بن الحارث من بني عبد الدار .

قال ابن عباس  لما قص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شأن القرون الماضية ،قال النضر  لو شئت لقلت مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين - أي  ما هذا إلا ما سطره الأولون في كتبهم - فقال له عثمان بن مظعون رضي اللّه عنه  اتق اللّه فإن محمداً يقول الحق ، قال  فأنا أقول الحق ، قال عثمان  فإن محمداً يقول لا إله إلا اللّه ، قال وأنا أقول لا إله إلا اللّه ، ولكن هذه بنات اللّه ، يعني الأصنام ، ثم قال  اللّهم إن كان هذا الذي يقول محمد هو الحق من عندك - ( والحق ) نصب خبر كان ، وهو عماد وصلة _ { فأمطر علينا حجارةً من السماء } ، كما أمطرتها على قوم لوط ، { أو ائتنا بعذاب أليم } ، أي  ببعض ما عذبت به الأمم ، وفيه نزل  { سأل سائل بعذاب واقع } . ( المعارج - ١ ) .

وقال عطاء  لقد نزل في النضر بن الحارث بضع عشرة آية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر . قال سعيد بن جبير  قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر ثلاثةً صبراً من قريش  طعيمة بن عدي ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث . وروى أنس رضي اللّه عنه أن الذي قاله أبو جهل .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا محمد بن النضر ، ثنا عبيد اللّه بن معاذ ، ثنا أبي ، ثنا شعبة ، عن عبد الحميد صاحب الزيادي ، سمع أنس بن مالك قال  قال أبو جهل  اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فنزلت  

٣٣

{ وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون * وما لهم أن لا يعذبهم اللّه } .

قوله تعالى  { وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم } ، اختلفوا في معنى هذه الآية ، فقال محمد بن إسحاق  هذا حكاية عن المشركين أنهم قالوها وهي متصلة بالآية الأولى، وذلك أنهم كانوا يقولون إن اللّه لا يعذبنا ونحن نستغفره ، ولا يعذب أمة ونبيها معها ، فقال اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم يذكر جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم  { وإذ قالوا اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الآية ، وقالوا { وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون } ثم قال رداً عليهم { وما لهم أن لا يعذبهم اللّه }؟ وإن كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون { وهم يصدون عن المسجد الحرام } . وقال الآخرون  هذا كلام مستأنف يقول اللّه عز وجل إخباراً عن نفسه  { وما كان اللّه ليعذبهم }

واختلفوا في تأويلها، فقال الضحاك وجماعة  تأويلها وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم مقيم بين أظهرهم ، قالوا أنزلت هذه الآية على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو مقيم في مكة ، ثم خرج من بين أظهرهم وبقيت بها بقية من المسلمين يستغفرون ،

فأنزل اللّه تعالى  { وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون } ، ثم خرج أولئك من بينهم فعذبوا، وأذن اللّه في فتح مكة ، فهو العذاب الذي وعدهم . قال ابن عباس رضي اللّه تعال عنهما  لم يعذب اللّه قرية حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا ويلحق بحيث أمر .

فقال  { وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون } يعني المسلمين فلما خرجوا

قال اللّه تعالى  { وما لهم أن لا يعذبهم اللّه } فعذبهم اللّه يوم بدر . وقال أبو موسى الأشعري  كان فيكم أمانان { وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم } ، { وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون } فأما النبي صلى اللّه عليه وسلم فقد مضى والاستغفار كائن فيكم إلى يوم القيامة . وقال بعضهم  هذا الاستغفار راجع إلى المشركين وذلك أنهم كانوا يقولون بعد الطواف  غفرانك غفرانك . وقال يزيد بن رومان  قالت قريش إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء ، فلما أمسوا ندموا على ما قالوا ، فقالوا غفرانك اللّهم ، فقال اللّه عز وجل { وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون } . وقال قتادة و السدي معناه  وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون ، أي  لو استغفروا، ولكنهم لم يكونوا يستغفرون ، ولو أنهم أقروا بالذنب ، واستغفروا ، لكانوا مؤمنين .

وقيل  هذا دعاء إلى الإسلام والاستغفار بهذه الكلمة ، كالرجل يقول لغيره لا أعاقبك وأنت تطيعني ، أي أطعني حتى لا أعاقبك . وقال مجاهد و عكرمة  وهم يستغفرون أي يسلمون ،يقول  لو أسلموا لم عذبوا . وروى الوالبي عن ابن عباس  أي وفيهم من سبق له من اللّه أن يسلم ويؤمن ويستغفر ، وذلك مثل  أبي سفيان ،وصفوان بن أمية ،وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم بن حزام وغيرهم . وروى عبد الوهاب عن مجاهد  وهم يستغفرون أي وفي أصلابهم من يستغفر .

٣٤

قوله تعالى  { وما لهم أن لا يعذبهم اللّه } أي  وما يمنعهم من أن يعذبوا، يريد بعد خروجك من بينهم ، { وهم يصدون عن المسجد الحرام } ،أي  يمنعون المؤمنين من الطواف بالبيت .

وقيل  أراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال ، وأراد بقوله { وما لهم أن لا يعذبهم اللّه } أي  بالسيف .

وقيل  أراد بالأول عذاب الدنيا ، وبهذه الآية عذاب الآخرة .

وقال الحسن  الآية الأولى وهي قوله { وما كان اللّه ليعذبهم } منسوخة ب

قوله تعالى  { وما لهم أن لا يعذبهم اللّه } . { وما كانوا أولياءه } ، قال الحسن  كان المشركون يقولون نحن أولياء المسجد الحرام ، فرد اللّه عليهم ب

قوله  { وما كانوا أولياءه } أي  أولياء البيت ، { إن أولياؤه } أي  ليس أولياء البيت ، { إلا المتقون } ، يعني  المؤمنين الذين يتقون الشرك ، { ولكن أكثرهم لا يعلمون } .

٣٥

قوله تعالى  { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً و تصديةً } ، قال ابن عباس والحسن  المكاء  الصفير ، وهو في اللغة اسم طائر أبيض ، يكون بالحجاز له صفير ،كأنه قال  إلا صوت مكاء ، والتصدية التصفيق .

قال ابن عباس  كانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون .

قال مجاهد  كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبي صلى اللّه عليه وسلم في الطواف ،ويستهزؤون به ، ويدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون . فالمكاء  جعل الأصابع في الشدق . والتصدية  الصفير ، ومنه الصدى الذي يسمعه المصوت في الجبل . قال جعفر بن ربيعة  سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن قوله عز وجل { إلا مكاء وتصدية } فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيراً .

قال مقاتل  كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا صلى في المسجد قام رجلان عن يمينه فيصفران ورجلان عن شمال فيصفقان ليخلطوا على النبي صلى اللّه عليه وسلم صلاته ، وهم من بني عبد الدار . قال سعيد بن جبير  التصدية صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام ، وعن الدين ، والصلاة . وهو على هذا التأويل  التصددة بدالين ، فقلبت إحدى الدالين ياءً ، كما يقال تظنيت من الظن ، وتقضي البازي إذا البازي كسر ، أي تقضض البازي . قال ابن الأنباري  إنما سماه صلاة لأنهم أمروا بالصلاة في المسجد فجعلوا ذلك صلاتهم . { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } .

٣٦

قوله تعالى  { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل اللّه } ، أي  ليصرفوا عن دين اللّه . قال الكلبي و مقاتل  نزلت في المطيعين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً  أبو جهل بن هشام ، وعتبة ، وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وأبو البختري بن هشام ،والنضر بن الحارث ، وحكيم بن حزام ، وأبي بن خلف ، وزمعة بن الأسود ، والحارث بن عامر بن نوفل ، والعباس بن عبد المطلب ، وكلهم من قريش ، كان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر . وقال الحكم بن عيينة  نزلت في أبي سفيان أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية .

قال اللّه تعالى  { فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرةً } ، يريد  ما أنفقوا في الدنيا يصير حسرة عليهم في الآخرة ،{ ثم يغلبون } ، لا يظفرون ، { والذين كفروا } ، منهم { إلى جهنم يحشرون } ، خص الكفار لأن منهم من أسلم .

٣٧

{ ليميز اللّه الخبيث } [ في سبيل الشيطان ] { من الطيب } ، يعني  الكافر من المؤمن فينزل المؤمن الجنان والكافر النيران .

وقال الكلبي  العمل الخبيث من العمل الصالح الطيب ،فيثيب على الأعمال الصالحة الجنة ، وعلى الأعمال الخبيثة النار .

وقيل  يعني  الإنفاق الخبيث في سبيل الشيطان من الإنفاق الطيب في سبيل اللّه . { ويجعل الخبيث بعضه على بعض } ، أي  فوق بعض ، { فيركمه جميعاً } ، أي  يجمعه . ومنه السحاب المركوم ، وهو المتجمع الكثيف ، فيجعله في جهنم { أولئك هم الخاسرون } ، رده إلى

قوله  { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم } { أولئك هم الخاسرون } الذين خسرت تجارتهم لأنهم اشتروا بأموالهم عذاب الآخرة .

٣٨

{ قل للذين كفروا إن ينتهوا } ، عن الشرك { يغفر لهم ما قد سلف } ، أي  ما مضى من ذنوبهم قبل الإسلام ، { وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين } ، في نصر اللّه أنبياءه وإهلاك أعدائه . قال يحيى بن معاذ الرازي  توحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر ، أرجو أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب .

٣٩

{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةً } أي  شرك . قال الربيع حتى لا يفتن مؤمن عن دينه { ويكون الدين كله للّه } ، أي  ويكون الدين خالصاً للّه لا شرك فيه، { فإن انتهوا } ، عن الكفر ، { فإن اللّه بما يعملون بصير } ، قرأ يعقوب ( تعملون) بالتاء ، وقرأ الآخرون بالياء .

٤٠

{ وإن تولوا } ، عن الإيمان وعادوا إلى قتال أهله ، { فاعلموا أن اللّه مولاكم } ، ناصركم ومعينكم ، { نعم المولى ونعم النصير } .

٤١

قوله تعالى { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن للّه خمسه } الآية . الغنيمة والفيء  اسمان لمال يصيبه المسلمون من أموال الكفار . فذهب جماعة إلى أنهما واحد ، وذهب قوم إلى أنهما مختلفان  فالغنيمة  ما أصابه المسلمون منهم عنوة بقتال ، والفيء ما كان عن صلح بغير قتال . فذكر اللّه عز وجل في هذه الآية حكم الغنيمة فقال { فأن للّه خمسه وللرسول } . فذهب أكثر المفسرين والفقهاء إلى أن

قوله  { للّه } افتتاح كلام على سبيل التبرك وإضافة هذا المال إلى نفسه لشرفه ، وليس المراد منه أن سهماً من الغنيمة للّه مفرداً ، فإن الدنيا والآخرة كلها للّه عز وجل . وهو قول الحسن و قتادة و عطاء و إبراهيم و الشعبي ، قالوا سهم اللّه وسهم الرسول واحد . والغنيمة تقسم خمسة أخماس ، أربعة أخماسها لمن قاتل عليها ، والخمس لخمسة أصناف كم ذكر اللّه عز وجل ، { وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } . وقال بعضهم  يقسم الخمس على ستة أسهم ،وهو قول أبي العالية ، سهم للّه  فيصرف إلى الكعبة . والأول أصح ، أن خمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم ، سهم كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، في حياته و واليوم هو لمصالح المسلمين وما فيه قوة الإسلام ، وهو قول الشافعي رحمه اللّه . وروى الأعمش عن إبراهيم قال  كان أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما يجعلان سهم النبي صلى اللّه عليه وسلم في الكراع والسلاح . و

قال قتادة  هو للخليفة بعده . وقال بعضهم  سهم رسول اللّه تعالى صلى اللّه عليه وسلم مردود في الخمس والخمس لأربعة أصناف .

قوله  { ولذي القربى } أراد أن سهماً من الخمس لذوي القربى وهم أقارب النبي صلى اللّه عليه وسلم ،

واختلفوا فيهم ، فقال قوم  جميع قريش .

وقال قوم  هم الذين لا تحل لهم الصدقة . وقال مجاهد وعلي بن الحسين  هم بنو هاشم . وقال الشافعي  هم بنو هاشم وبنو المطلب وليس لبني عبد شمس ولا لبني نوفل منه شيء ، وإن كانوا إخوة ،والدليل عليه ما  

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع أنا الشافعي ، أنا مطرف بن مازن عن معمر بن راشد ، عن ابن شهاب ، أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال { لما قسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبين المطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان فقلنا  يا رسول اللّه هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك اللّه منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا أو منعتنا ، وإنما قرابتنا وقرأبتهم واحدة ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  إنما بنو هاشم وبن المطلب شيء واحد هكذا وشبك بين أصابعه } .

واختلف أهل العلم في سهم ذوي القربى هل هو ثابت اليوم ؟ . فذهب أكثرهم أنه ثابت ، وهو قول مالك و الشافعي . وذهب أصحاب الرأي إلى أنه غير ثابت ، وقالوا  سهم رسول اللّه وسهم ذوي القربى مردودان في الخمس ، وخمس الغنيمة لثلاث أصناف اليتامى والمساكين وابن السبيل . وقال بعضهم  يعطى للفقراء منهم دون الأغنياء . والكتاب والسنة يدلان على ثبوته ، والخلفاء بعد الرسول صلى اللّه عليه وسلم كانوا يعطونه ، ولا يفضل فقير على غني لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مر كثرة ماله ، فألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة ، غير أنه يعطى القريب والبعيد . وقال  يفضل الذكر على الأنثى فيعطى الرجل سهمين والأنثى سهماً واحداً .

قوله  { واليتامى } وهو جمع اليتيم ، واليتيم الذي له سهم في الخمس هو الصغير المسلم ، الذي لا أب له ، إذا كان فقيراً ، و { المساكين } هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين ، { وابن السبيل } هو المسافر البعيد عن ماله ، فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدوا الوقعة ، للفارس منهم ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم واحد ، لما  

أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن ، أنا عبد اللّه بن يوسف أنا أبو سعيد بن الأعرابي ثنا سعدان بن نصر ثنا أبو معاوية عن عبيد اللّه بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم  سهماً له وسهمين لفرسه ، وهذا قول أكثر العلماء وإليه ذهب الثوري ، و الأوزاعي ، و مالك ، و ابن المبارك ، و الشافعي و أحمد و إسحاق . و قال أبو حنيفة رضي اللّه عنه  للفارس سهمان ، وللراجل سهم واحد . ويرضخ للعبيد والنسوان والصبيان إذا حضروا القتال ، ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقول . عند أبي حنيفة  يتخير الإمام في العقار  بين أن يقسمه بينهم ، وبين أن يجعله وفقاً على المصالح . وظاهر الآية لا يفرق بين العقار و المنقول . ومن قتل مشركاً في القتال يستحق سلبه من رأس الغنيمة ، لما روي عن أبي قتادة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ثوم حنين  { من قتل قتيلاً له عليه بينة له سلبه } . والسلب  كل ما يكون من المقتول من ملبوس وسلاح ، وفرسه الذي هو راكبه . ويجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش من الغنيمة ، لزيادة عناء وبلاء يكون منهم في الحرب . يخصهم به من بين سائر الجيش ويجعله أسوة الجماعة في سهمان الغنيمة  

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا يحيى بن بكير ، ثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سالم عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة ، سوى قسم عامة الجيش . وروي عن حبيب بن مسلمة الفهري ، قال  شهدت النبي صلى اللّه عليه وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة .

واختلفوا في النفل من أين يعطى ؟ فقال قوم  من خمس الخمس ، سهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وبه قال الشافعي ، وهذا معنى النبي صلى اللّه عليه وسلم  { مالي مما أفاء اللّه عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم } .

وقال قوم  هو من الأربعة الأخماس بعد إفراز الخمس كسهام الغزاة ، وهو قول أحمد و إسحاق . وذهب بعضهم إلى أن النفل من رأس الغنيمة قبل الخمس كالسلب للقاتل . وأما الفيء  وهو ما أصابه المسلمين من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب ، بأن صالحهم على مال يؤدونه ، ومال الجزية ، وما يؤخذ من أموالهم إذا دخلوا دار الإسلام للتجارة ، أو يموت واحد منهم في دار الإسلام ولا وارث له ، فهذا كله فيء . ومال الفيء كان خالصاً لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حياته ، قال عمر رضي اللّه عنه  إن اللّه قد خص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في هذا الفيء بشء لم يعطه أحداً غيره ، ثم قرأ  { وما أفاء اللّه على رسوله منهم } إلى

قوله  { قدير } ( الحشر - ٦ ) ، وكانت هذه خالصة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان ينفق على أهله وعياله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال اللّه عز وجل .

واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال قوم  هو للأئمة بعده . و للشافعي فيه قولان  أحدهما ، للمقاتلة الذين أثبتت أساميهم في ديوان الجهاد ، لأنهم القائمون مقام النبي صلى اللّه عليه وسلم في إرهاب العدو .

والقول الثاني  أنه لمصالح المسلمين ، ويبدأ بالمقاتلة فيعطون منه كفايتهم ، ثم بالأهم فالأهم من المصالح .

واختلف أهل العلم في تخميس الفيء  فذهب الشافعي إلى أنه يخمس خمسه لأهل الغنيمة ، على خمسة أسهم . وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصال . وذهب الأكثرون  إلى أن الفيء لا يخمس ، بل مصرف جميعه واحد ، ولجميع المسلمين فيه حق  

أخبرنا أبو سعيد عبد اللّه بن أحمد الطاهري ، أنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أنا محمد بن زكريا العذافري ، أنا إسحاق الدبري ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان  أنه سمع عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول  ( ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق ، إلا ما ملكت أيمانكم ) . و

أخبرنا أبو سعيد الطاهري أنبأنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز أنبأنا محمد بن زكريا العذافري أنبأنا أبو إسحاق الدبري ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب عن عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس بن الحدثان قال  قرأ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } حتى بلغ { عليم حكيم } ( التوبة - ٦٠ )

فقال  هذه لهؤلاء ثم قرأ  { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن للّه خمسه }حتى بلغ { وابن السبيل } ، ثم قال  هذه لهؤلاء ، ثم قرأ { ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى } حتى بلغ { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا } ( الحشر - ٧-٩ ) ثم قال  هذه استوعبت المسلمين عامة ، فلئن عشت ، فيأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه منها ، لم يعرق فيها جبينه .

قوله تعالى  { إن كنتم آمنتم باللّه } ، قيل  أراد { اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن للّه خمسه وللرسول } يأمر فيه بما يريد ، فاقبلوه أن كنتم آمنتم باللّه { وما أنزلنا على عبدنا } ، أي  إن كنتم آمنتم باللّه وبما أنزلنا على عبدنا ، يعني  قوله { يسألونك عن الأنفال } { يوم الفرقان } ، يعني يوم بدر ، فرق اللّه بين الحق والباطل وهو { يوم التقى الجمعان } ، حزب اللّه وحزب الشيطان ، وكان يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان ، { واللّه على كل شيء قدير } ، على نصركم مع قلتكم وكثرتهم .

٤٢

{ إذ أنتم } ، أي  إذ أنتم نزول يا معشر المسلمين ، { بالعدوة الدنيا } ، أي  بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة ، والدنيا . تأنيث الأدنى ، { وهم } ، يعني عدوكم من المشركين ، { بالعدوة القصوى } بشفير الوادي الأقصى من المدينة ، والقصوى تأنيث الأقصى . قرأ ابن كثير وأهل البصرة ( بالعدوة ) بكسر العين فيهما ، والباقون بضمهما ، وهما لغتان كالكسوة والكسوة والرشوة والرشوة . { والركب } ، يعني  العير يريد أبا سفيان وأصحابه ، { أسفل منكم } ، أي  في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر ، على ثلاثة أميال من بدر ، { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } ، وذلك أن المسلمين خرجوا ليأخذوا العير وخرج الكفار ليمنعوها ، فالتقوا على غير ميعاد ، قال تعالى  { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } ، لقلتكم وكثرة عدوكم ، { ولكن } اللّه جمعكم على غير ميعاد ، { ليقضي اللّه أمراً كان مفعولا } ، من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه ، { ليهلك من هلك عن بينة } أي ليموت من يموت على بينة رآها وعبرة عاينها وحجة قامت عليه { ويحيا من حي عن بينة } ، ويعيش من يعيش على بينة لوعده  { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } ( الإسراء - ١٥ ) . وقال محمد بن إسحاق  معناه ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه ، ويؤمن من آمن على مثل ذلك ، فالهلاك هو الكفر ، والحياة هي الإيمان . قوال قتادة  ليضل من ضل عن بينة ، ويهدى من اهتدى على بينة . قرأ أهل الحجاز وأبو بكر ويعقوب  ( حيي) بيائين ، مثل( خشي ) وقرأ الآخرون  بياء واحدة مشددة ، لأنه مكتوب بياء واحدة . { وإن اللّه لسميع } ، لدعائكم ، { عليم } ، بنياتكم .

٤٣

قوله تعالى  { إذ يريكهم اللّه } يريك يا محمد المشركين ، { في منامك } ، أي  نومك .

وقال الحسن  في منامك أي في عينك ، لأن العين موضع النوم ، { قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم } ، لجبنتم { ولتنازعتم } ، أي  اختلفتم { في الأمر } ، أي  في الأحجام والإقدام ، { ولكن اللّه سلم } ، أي سلمكم من المخالفة والفشل ، { إنه عليم بذات الصدور } .

قال ابن عباس  علم ما في صدوركم من الحب للّه عز وجل  

٤٤

{ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً } ،

قال مقاتل  وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم رأى في المنام أن العدو قليل قبل لقاء العدو ، وأخبر أصحابه بما رأى ، فلما التقوا ببدر قلل اللّه المشركين في أعين المؤمنين . قال ابن مسعود رضي اللّه عنه  لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين ؟ قال  أراهم مائة ، فأسرنا رجلاً فقلنا كم كنتم ؟ قال  ألفاً . { ويقللكم } ، يا معشر المؤمنين { في أعينهم } ،

قال السدي  قال ناس من المشركين  إن العير قد انصرفت فارجعوا ، فقال أبو جهل  الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه ؟ فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم ، إنما محمد وأصحابه أكلة جزور ، فلا تقتلوهم ، واربطوهم بالحبال - يقوله من القدرة التي في نفسه -  

قال الكلبي  استقل بعضهم بعضاً ليجترؤا على القتال ، فقلل المشركين في أعين المؤمنين لكي لا يحبنوا ،وقلل المؤمنين في أعين المشركين لكي لا يهربوا ، { ليقضي اللّه أمراً } من إعلاء الإسلام وإعزاز أهله وإذلال الشرك وأهله . { كان مفعولا } كائنا ً ، { وإلى اللّه ترجع الأمور } .

٤٥

قوله تعالى  { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً } أي  جماعة كافرة { فاثبتوا } ، لقتالهم ، { واذكروا اللّه كثيراً } ، أي  ادعوا اللّه بالنصر والظفر بهم ، { لعلكم تفلحون } ، أي  كونوا على رجاء الفلاح .

٤٦

قوله تعالى  { وأطيعوا اللّه ورسوله ولا تنازعوا } ، لا تختلفوا ، { فتفشلوا } ، أي  تجبنوا وتضعفوا ، { وتذهب ريحكم } ،

قال مجاهد  نصرتكم . و

قال السدي  جراءتكم وجدكم . وقال مقاتل بن حيان  حدتكم . وقال النضر بن شميل قوتكم .

وقال الأخفش  دولتكم . والريح هاهنا كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد ، تقول العرب  هبت ريح فلان إذا أقبل أمره على ما يريد . قال قتادة و ابن زيد  هو ريح النصر لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها اللّه عز وجل تضرب وجوه العدو . ومنه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم  { ونصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور } . وعن النعمان بن مقرن قال  شهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب الريح وينزل النصر .

قوله عز وجل  { واصبروا إن اللّه مع الصابرين } .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا عبد اللّه بن محمد ، ثنا معاوية بن عمرو ، ثنا أبو إسحاق ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد اللّه وكان كاتباً له قال  كتب إليه عبد اللّه بن أبي أوفى فقرأته أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو ، انتظر حتى مالت الشمس ، ثم قام في الناس

فقال  { يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا اللّه العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ، ثم قال اللّهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم } .

٤٧

قوله تعالى  { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً } ، فخراً وأشراً ، { ورئاء الناس } ، قال الزجاج  البطر الطغيان في النعمة وترك شكرها ، والرياء  إظهار الجميل ليرى وإبطان القبيح ، { ويصدون عن سبيل اللّه واللّه بما يعملون محيط} ، نزلت في المشركين حين أقبلوا إلى بدر ولهم بغي وفخر ، فال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  { اللّهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تجادلك وتكذب رسولك ، اللّه فنصرك الذي وعدتني } ، قالوا  لما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم فقد نجاها اللّه ، فارجعوا، فقال أبو جهل  واللّه لا نرجع حتى نرد بدراً ، وكان بدر موسماً من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام ، فنقيم بها ثلاثاً فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان ،وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً ، فوافوها فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان ، فنهى اللّه عباده المؤمنين أن يكونا مثلهم وأمرهم بإخلاص النية والحسبة فينصر دينه ومؤازرة نبيه صلى اللّه عليه وسلم .

٤٨

قوله تعالى  { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } ، وكان تزيينه أن قريشاً لما اجتمعت للسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب ، فكاد ذلك أن يثنيهم فجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته ، فتبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، { وقال } ، لهم { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } ، أي  مجير لكم من كنانة ، { فلما تراءت الفئتان } ، أي التقى الجمعان رأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء علم أنه لا طاقة له بهم ، { نكص على عقبيه } ، قال الضحاك  ولى مدبراً . وقال النضر بن شميل  رجع القهقري على قفاه هارباً .

قال الكلبي  لما التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن مالك آخذاً بيد الحارث بن هشام ، فنكص على عقبيه ، فقال له الحارث  أفراراً من غير قتال ؟ فجعل يمسكه فدفع في صدره وانطلق وانهزم الناس ، فلما قدموا مكة قالوا هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة ،

فقال  بلغني أنكم تقولون  إني هزمت الناس ، فواللّه ما شعرت بمسيركم ، حتى بلغني هزيمتكم ! فقالوا  أما أتيتنا في يوم كذا ؟ فحلف لهم . فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان . قال الحسن في

قوله  { وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون } ،قال  رأى إبليس جبريل معتجراً ببرد يمشي بين يدي النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وفي يده اللجام يقود الفرس ، ما ركب . و

قال قتادة  كان إبليس يقول  إني أرى ما لا ترون وصدق . وقال { إني أخاف اللّه } ، وكذب واللّه ما به مخافة اللّه ، ولكن علم أنه لا قوة به ولا منعة فأوردهم وأسلمهم ، وذلك عادة عدو اللّه لمن أطاعه ، إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم .

وقال عطاء  إني أخاف اللّه أن يهلكني فيمن يهلك .

وقال الكلبي  خاف أن يأخذه جبريل عليه السلام ويعرف حاله فلا يطيعوه .

وقيل  معناه إني أخاف اللّه أي أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه كان على ثقة من أمره . { واللّه شديد العقاب } . قيل  معناه إني أخاف اللّه عليكم واللّه شديد العقاب .

وقيل  انقطع الكلام عند قوله أخاف اللّه ثم يقول اللّه  واللّه شديد العقاب .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك عن إبراهيم بن أبي عليه ، عن طلحة بين عبيد اللّه بن كريز أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال  { ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة ،وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز اللّه تعالى عن الذنوب العظام ، إلا ما كان من يوم بدر . فقيل  وما رأى يوم بدر ؟ قال  أما إنه قد رأى جبريل عليه السلام وهو يزع الملائكة } . هذا حديث مرسل .

٤٩

قوله تعالى  { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } ، شك ونفاق ، { غر هؤلاء دينهم } ، يعن  غر المؤمنين دينهم ، هؤلاء قوم كانوا مستضعفين بمكة قد أسلموا، وحبسهم أقرباؤهم من الهجرة ، فلما خرجت قريش إلى بدر ، أخرجوهم كرهاً ، فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وارتدوا ، وقالوا  غر هؤلاء دينهم ، فقتلوا جميعاً ، منهم  قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان ، والحرث بن زمعة بن الأسود بن المطلب ، وعلي بن أمية بن خلف الجمحي ، والعاص بن منبه بن الحجاج ،

قال اللّه تعالى  { ومن يتوكل على اللّه } ، أي  ومن يسلم أمره إلى اللّه ويثق به ، { فإن اللّه عزيز }، قوي يفعل بأعدائه ما يشاء ، { حكيم } .

٥٠

{ ولو ترى } ، يا محمد ، { إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون } ، أي  يقبضون أرواحهم . اختلفوا فيه ، قيل  هذا عند الموت ، تضرب الملائكة وجوه الكفار وأدبارهم بسياط النار .

وقيل  أراد الذين قتلوا من المشركين ببدر كانت الملائكة يضربون ،{ وجوههم وأدبارهم } ، قال سعيد بن جبير و مجاهد  يريد أستاههم ، ولكن اللّه حيي يكني .

قال ابن عباس  كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربت الملائكة وجوههم بالسيوف ، وإذا ولوا أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم . وقال ابن جريج  يريد ما أقبل منهم وما أدبر ، أي  يضربون أجسادهم كلها ، والمراد بالتوفي  القتل . { وذوقوا عذاب الحريق } ، أي  وتقول الملائكة  ذوقوا عذاب الحريق .

وقيل  كان مر الملائكة مقامع من حديد يضربون بها الكفار ، فتلتهب النار في جراحاتهم ، فذلك

قوله تعالى  { وذوقوا عذاب الحريق } .

وقال الحسن  هذا يوم القيامة تقول لهم خزنة جهنم  ذوقوا عذاب الحريق . وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما يقولون لهم ذلك بعد الموت .

٥١

{ ذلك } ، أي  ذلك الضرب الذي وقع بكم ،{ بما قدمت أيديكم } ، أي  بما كسبت أيديكم ،{ وأن اللّه ليس بظلام للعبيد } .

٥٢

{ كدأب آل فرعون } ، كفعل آل فرعون وصنيعهم وعادتهم ، معناه  أن عادة هؤلاء في كفرهم كعادة آل فرعون .

قال ابن عباس  هو أن آل فرعون أيقنوا أن موسى نبي من اللّه فكذبوه، كذلك هؤلاء جاءهم محمد صلى اللّه عليه وسلم بالصدق فكذبوه ، فأنزل اللّه بهم عقوبة كما أنزل بآل فرعون . { والذين من قبلهم } ، أي  { كفروا بآيات اللّه فأخذهم اللّه بذنوبهم إن اللّه قوي شديد العقاب } .

٥٣

{ ذلك بأن اللّه لم يك مغيراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ، أراد  أن اللّه تعالى لا يغير ما أنعم على قوم حتى يغيروا هم ما بهم ، بالكفران وترك الشكر ، فإذا فعلوا ذلك غير اللّه ما بهم ، فسلبهم النعمة . و

قال السدي  نعمة اللّه محمد صلى اللّه عليه وسلم أنعم اللّه به على قريش وأهل مكة ، فكذبوه وكفروا به فنقله اللّه إلى الأنصار ، { وأن اللّه سميع عليم } .

٥٤

{ كدأب آل فرعون } ، كصنع آل فرعون ، { والذين من قبلهم } ، من كفار الأمم ، { كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم } ، أهلكنا بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالمسخ وبعضهم بالريح وبعضهم بالغرق ، فكذلك أهلكنا كفار بدر بالسيف ، لما كذبوا بآيات ربهم ، { وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين } ، يعني  الأولين والآخرين .

٥٥

{ إن شر الدواب عند اللّه الذين كفروا فهم لا يؤمنون } ، قال الكلبي و قاتل  يعني يهود بني قريظة ، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه .

٥٦

{ الذين عاهدت منهم } ، يعني عاهدتهم

وقيل  أي  عاهدت معهم .

وقيل أدخل ( من ) لأن معناه أخذت منهم العهد ، { ثم ينقضون عهدهم في كل مرة } ، وهم بنو قريظة ،نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأعانوا المشركين بالسلاح على قتال النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، ثم قالوا  نسينا وأخطأنا فعاهدهم الثانية ، فنقضوا العهد ومالؤوا الكفار على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة ، فوافقهم على مخالفة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، { وهم لا يتقون } ، لا يخافون اللّه تعالى في نقض العهد .

٥٧

{ فإما تثقفنهم } ، تجدنهم ، { في الحرب } ،

قال مقاتل  إن أدركتهم في الحرب وأسرتهم ، { فشرد بهم من خلفهم } ،

قال ابن عباس  فنكل بهم من وراءهم . وقال سعيد بن جبير  أنذر بهم من خلفهم . وأصل التشريد  التفريق والتبديد ، معناه فرق بهم جمع كل ناقض ، أي  افعل بهؤلاء الذي نقضوا عهدك و جاؤوا لحربك فعلاً من القتل والتنكيل ، يفرق منك ويخافك من خلفهم من أهل مكة واليمن ،{ لعلهم يذكرون } ، يتذكرون ويعتبرون فلا ينقضون العهد .

٥٨

{ وإما تخافن } أي  تعلمن يا محمد ، { من قوم } ، معاهدين ، { خيانةً } ، نقض عهد بما يظهر لكم منهم من آثار الغدر كما ظهر من قريظة والنضير ، { فانبذ إليهم } ، فاطرح إليهم عهدهم ، { على سواء } ، يقول أعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواءً ، فلا [ يتهموا ] أنك نقضت العهد بنصب الحرب معهم ،{ إن اللّه لا يحب الخائنين } .

أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أنا أبو سهل محمد بن عمر بن طرفة السجزي ، أنا أبو سليمان الخطابي أنا أبو بكر محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق بن داسة التمار ، ثنا أبو داود سليما بن الأشعث السجستاني ، ثنا حفص بن عمر النمري ، ثنا شعبة عن أبي الفيض عن [ سليم ] بن عامر عن رجل من حمير قال  كان بين معاوية و بين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم ،حتى إذا انقضى العهد غزاهم ، فجاء رجل على فرس وهو يقول  اللّه أكبر اللّه أكبر ، وفاء لا غدر ،فنظر فإذا هو عمرو بن عبسة ، فأرسل إليه معاوية فسأله

فقال  سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول { من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء } . فرجع معاوية رضي اللّه عنه .

٥٩

قوله عز وجل  { ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا } ، قرأ أبو جعفر و ابن عامر و حمزة و حفص ( يحسبن ) بالياء ، وقرأ آخرون بالتاء ، ( سبقوا ) أي  فاتوا ،نزلت في الذين انهزموا يوم بدر من المشركين . فمن قرأ بالياء يقول ( لا يحسبن الذين كفروا ) أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا ، ومن قرأ بالتاء فعلى الخطاب ، قرأ ابن عامر  { إنهم لا يعجزون } . بفتح الألف ، أي  لأنهم لا يعجزون ، ولا يفوتونني . وقرأ الآخرون بكسر الألف على الابتداء .

٦٠

قوله تعالى  { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } ، الإعداد  اتخاذ الشيء لوقت الحاجة . { من قوة } ، أي  من الآلات التي تكون لكم قوة عليهم من الخيل و السلاح .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، عن مسلم بن الحجاج ثنا هارون بن معروف ثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي علي ، ثمامة بن شفي أنه سمع عقبة بن عامر يقول  سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول، وهو على المنبر  { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي } . وبهذا الإسناد قال  سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول { ستفتح عليكم الروم ويكفيكم اللّه عز وجل فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه } .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو نعيم ، ثنا عبد الرحمن بن الغسيل ، عن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه قال  قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا  { إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل } .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، ثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، ثنا حميد بن زنجويه ، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، ثنا هشام الدستوائي عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي نجيح السلمي قال  حاصرنا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم الطائف فسمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول  { من بلغ بسهم في سبيل اللّه فهو له درجة في الجنة } ، قال فبلغت يومئذ ستة عشر سهماً . وسمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول { من رمى بسهم في سبيل اللّه فهو عدل محرر } .

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي ، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، ثنا أحمد بن منصور الرمادي ، ثنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن يحيى بن كثير ، عن زيد بن سلام ، عن عبد اللّه بن زيد الأزرق عن عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال  { إن اللّه يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة صانعه ، والممد به ، والرامي به في سبيل اللّه } . وروي عن خالد بن زيد عن عقبة بن عامر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال  { إن اللّه يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير ، والرامي به ومنبله ، وارموا واركبوا ، وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ، كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق . ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فأنه نعمة تركها أو قال كفرها } .

قوله  { ومن رباط الخيل } ، يعني  ربطها واقتناؤها للغزو . قال عكرمة  القوة الحصون ومن رباط الخيل الإناث . وروي عن خالد بن الوليد أنه كان لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها . وعن أبي محيريز قال  كان الصحابة رضي اللّه عنهم يستحبون ذكور الخيل عن الصفوف وإناث الخيل عند البيات والغارات .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ،ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو نعيم ، ثنا زكريا عن عامر ، ثنا عروة البارقي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال  { الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، الأجر والمغنم } .

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا علي بن حفص ، ثنا ابن المبارك ، ثنا طلحة بن أبي سعيد قال  سمعت سعيداً المقبري يحدث أنه سمع أبا هريرة يقول قال النبي صلى اللّه عليه وسلم  { من احتبس فرساً في سبيل اللّه إيماناً باللّه وتصديقاً بوعده ، فأن شبعه ،وريه ، وروثه ، وبوله في ميزانه يوم القيامة } .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال  { الخيل ثلاثة  لرجل أجر ، ولرجل ستر ،وهي لرجل وزر ، فأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل اللّه ، فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها من ذلك المرج أو الروضة كان له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفاً أو شرفين ، كانت آثارها وأوراثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ، ولم يرد أن يسقيها كان ذلك له حسنات ، فهي لذلك الرجل أجر ، وأما التي هي له ستر  فرجل ربطها تغنياً وتعففاً ، ثم لم ينس حق اللّه في ظهورها ولا رقابها ، فيه له ستر ، وأما التي هي له وزر  فرجل ربطها فخراً ورياءً ، ونواءً لأهل الإسلام ، فهي على ذلك وزر } و{سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الحمر

فقال  ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة  } فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره { } . { ترهبون به } ، تخوفون { عدو اللّه ، وعدوكم وآخرين } ، أي  وترهبون آخرين ، { من دونهم لا تعلمونهم اللّه يعلمهم } ، قال مجاهد و مقاتل و قتادة  هم بنو قريظة . وقال السدي  هم أهل فارس . وقال الحسن و ابن زيد  هم المنافقون ، لا تعلمونهم ، لأنهم معكم يقولون  لا إله إلا اللّه .

وقيل  هم كفار الجن . { وما تنفقوا من شيء في سبيل اللّه يوف إليكم} ، يوف لكم أجره ،{ وأنتم لا تظلمون } ، لا تنقص أجوركم .

٦١

قوله تعالى  { وإن جنحوا للسلم } ، أي  مالوا إلى الصلح ، { فاجنح لها } ، أي  مل إليها وصالحهم . روي عن قتادة و الحسن  أن هذه الآية منسوخة ب

قوله تعالى  { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ( براء - ٥ ) { وتوكل على اللّه } ! ثق باللّه ،{ إنه هو السميع العليم } .

٦٢

{ وإن يريدوا أن يخدعوك } ، يغدروا بك .

قال مجاهد  يعني بني قريظة . { فإن حسبك اللّه } ، كافيك اللّه ، { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } ، أي  بالأنصار .

٦٣

{ وألف بين قلوبهم } ، أي  بين الأوس والخزرج ، كانت بينهم إحن وثارات في الجاهلية ، فصيرهم اللّه إخواناً بعد أن كانوا أعداء ، { لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن اللّه ألف بينهم . إنه عزيز حكيم } .

٦٤

قوله تعالى  { يا أيها النبي حسبك اللّه ومن اتبعك من المؤمنين } ، قال سعيد بن جبير  أسلم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ، ثم أسلم عمر بن الخطاب فتم به الأربعون ، فنزلت هذه الآية .

واختلفوا في محل ( من ) فقال أكثر المفسرين محله خفض ، عطفاً على الكاف في

قوله  { حسبك اللّه } وحسب من اتبعك ، وقال بعضهم  هو رفع عطفاً على اسم اللّه معناه  حسبك اللّه ومتبعوك من المؤمنين .

٦٥

قوله تعالى  { يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال } ، أي  حثهم على القتال . { إن يكن منكم عشرون } ، رجلاً ، { صابرون } ، محتسبون ، { يغلبوا مائتين } ، من عدوهم يقهروهم ، { وإن يكن منكم مائة } ، صابرة محتسبة ، { يغلبوا ألفاً من الذين كفروا } ، ذلك { بأنهم قوم لا يفقهون } ، أي  إن المشركين يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب ، ولا يثبتون إذا صدقتموهم القتال ، خشية أن يقتلوا . وهذا خبر بمعنى الأمر ، وكان هذا يوم بدر فرض اللّه على الرجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين ، فثقلت على المؤمنين ، فخفف اللّه عنهم ، فنزل  

٦٦

{ الآن خفف اللّه عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً } ، أي  ضعفاً في الواحد عن قتال العشرة وفي المائة عن قتال الألف، وقرأ أبو جعفر  ( ضعفاء )بفتح العين والمد على الجمع ، وقرأ الآخرون بسكون العين ، { فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } ، من الكفار ، { وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن اللّه واللّه مع الصابرين } ، فرد من العشرة إلى الاثنين ، فإن كان المسلمون على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا . وقال سفيان قال ابن شبرمة  وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا . قرأ أهل الكوفة  ( وإن يكن منكم مائة ) ، بالياء فيهما وافق أهل البصرة في الأول والباقون بالتاء فيهما . وقرأ عاصم و حمزة ( ضعفاً ) بفتح الضاد هاهنا وفي سورة الروم ، والباقون بضمها .

٦٧

وقوله تعالى  { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } ، قرأ أبو جعفر وأهل البصرة ( تكون ) بالتاء والباقون بالياء ، وقرأ أبو جعفر  ( أسارى ) ، والآخرون ( أسرى ) . وروى الأعمش عن عمر بن مرة عن أبي عبيد عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال { لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  ما تقولون في هؤلاء ؟ فقال أبو بكر  يا رسول اللّه قومك وأهلك فاستبقهم واستأن بهم ، لعل اللّه أن يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية ، تكون لنا قوة على الكفار ، وقال عمر رضي اللّه عنه  يا رسول اللّه كذبوك وأخرجوك قدمهم نضرب أعناقهم ، مكن علياً من عقيل فيضرب عنقه ، ومكني من فلان - نسيب لعمر - فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر، وقال عبد اللّه بن رواحه  يا رسول اللّه انظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرم عليهم ناراً . فقال له العباس  قطعت رحمك . فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يجبهم ، ثم دخل ، فقال ناس  يأخذ بقول أبي بكر ، وقال ناس  يأخذ بقول عمر ، وقال ناس  يأخذ بقول ابن رواحه ، ثم خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

فقال  إن اللّه تعالى ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، يشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من ا لحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال  }فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم { ( إبراهيم - ٣٦ ) ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى حيث قال  } إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم { ( المائدة - ١١٨ ) ، وإن مثلك يا عمر مثل نوح حيث قال  } رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً { ( نوح - ٢٦ ) ، ومثل موسى قال } ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم { ( يونس - ٨٨ ) ، ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  أنتم اليوم عالة فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق قال عبد اللّه بن مسعود إلا سهيل بن بيضاء فأني سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم ، حتى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  إلا سهيل بن بيضاء . }

قال ابن عباس  قال عمر بن الخطاب فهوي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت ، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر قاعدين [ يبكيان ] قلت  يا رسول اللّه أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاءً بكيت وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما ؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، لشجرة قريبة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،وأنزل اللّه تعالى  { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } إلى

قوله  { فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً } ( الأنفال - ٦٧ - ٦٩ ) فأحل اللّه الغنيمة لهم . ب

قوله  { له أسرى } جمع أسير مثل قتلى جمع قتيل .

قوله  { حتى يثخن في الأرض } ، أي  يبالغ في قتال المشركين وأسرهم ، { تريدون } ، أيها المؤمنون { عرض الدنيا } بأخذكم الفداء ، { واللّه يريد الآخرة } ، يريد لكم ثواب الآخرة بقهركم المشركين ونصر دين اللّه عز وجل ، { واللّه عزيز حكيم } . وكان الفداء لكل أسير أربعين أوقية ، والأوقية أربعون درهما . قال ابن عباس رضي اللّه عنهما  كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ،فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل اللّه في الأسارى { فإما مناً بعد وإما فداءً } ، ( محمد - ٤ ) فجعل اللّه عز وجل نبيه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استعبدوهم ، وإن شاؤوا فادوهم ، وإن شاؤوا أعتقوهم .

٦٨

قوله تعالى  { لولا كتاب من اللّه سبق } ،

قال ابن عباس  كانت الغنائم حراماً على الأنبياء والأمم فكانوا إذا أصابوا شيئاً من الغنائم [ جعلوه ] للقربان ، فكانت تنزل نار من السماء فتأكله ، فلما كان يوم بدر أسرع المؤمنون في الغنائم وأخذوا الفداء ،

فأنزل اللّه عز وجل  { لولا كتاب من اللّه سبق } يعني لولا قضاء من اللّه سبق في اللوح المحفوظ بأنه يحل لكم الغنائم . وقال الحسن و مجاهد و سعيد بن جبير  لولا كتاب من اللّه سبق أنه لا يعذب أحداً ممن شهد بدراً مع النبي صلى اللّه عليه وسلم . وقال ابن جريج  لولا كتاب من اللّه سبق أنه لا يضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ، وأنه لا يأخذ قوماً فعلوا أشياء بجهالة  { لمسكم } ، لنالكم وأصابكم ، { فيما أخذتم } من الفداء قبل أن تؤمروا به ، { عذاب عظيم } . قال ابن إسحاق  لم يكن من المؤمنين أحد ممن أحضر إلا حب الغنائم إلا عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقتل الأسرى ، وسعد بن معاذ قال  يا رسول اللّه كان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  { لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ } .

٦٩

ف

قال اللّه تعالى  { فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا اللّه إن اللّه غفور رحيم } ، روي أنه لما نزلت الآية الأولى كف أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيديهم عما أخذوا من الفداء فنزل  { فكلوا مما غنمتم } الآية . وروينا عن جابر رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال  { أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي } .

أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أنا أبو طاهر الزيادي ، أنا محمد بن الحسين القطان ، ثنا أحمد بن يوسف السلمي ، ثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن همام ، ثنا أبو هريرة قال  قال رسول اللّه  { لم تحل الغنائم لأحد من قبلنا ، وذلك بأن اللّه رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا } .

٧٠

قوله تعالى  { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى } ، قرأ أبو عمرو و أبو جعفر  ( من الأسارى ) بالألف ، والباقون بلا ألف . { نزلت في العباس بن عبد المطلب رضي اللّه عنه وكان أسر يوم بدر ، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا طعام أهل بدر ، وكان يوم بدر نوبته ، وكان خرج بعشرين أوقية من الذهب ليطعم بها الناس ، فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا [ وبقيت ] العشرون أوقية معه ،فأخذت منه في الحرب ، فكلم النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يحتسب العشرين أوقية من فدائه فأبى وقال  أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا أتركه لك . وكلف فداء ابني أخيه عقيل ابن أبي طالب ونوفل بن الحارث ، فقال العباس  يا محمد تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت ؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم  فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها  إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا ، فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد اللّه ولعبيد اللّه وللفضل وقثم ، يعني نبيه ، فقال له العباس  وما يدريك ؟ قال  أخبرني به ربي عز وجل ، قال العباس  أشهد أنك صادق ! وأن لا إله إلا اللّه وأنك عبده ورسوله ، ولم يطلع عليه أحد إلا اللّه عز وجل }، فذلك

قوله تعالى  { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى } الذين أخذتم منهم الفداء ، { إن يعلم اللّه في قلوبكم خيراً } ، أي إيماناً ، { يؤتكم خيراً مما أخذ منكم } من الفداء ، { ويغفر لكم } ، ذنوبكم { واللّه غفور رحيم } [ قال العباس رضي اللّه عنه ] فأبدلني اللّه عنها عشرين عبداً كلهم تاجر يضرب بمال كثير وأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان عشرين أوقية ، وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة ، وأنا أنتظر المغفرة من ربي عز وجل .

٧١

قوله عز وجل { وإن يريدوا خيانتك } ، يعني الأسارى ، { فقد خانوا اللّه من قبل فأمكن منهم } ، ببدر ، { واللّه عليم حكيم } ، قال ابن جريج  أراد بالخيانة الكفر ، أي  إن كفروا بك فقد كفروا باللّه من قبل فأمكن منهم المؤمنين ببدر حتى قتلوهم وأسروهم ، وهذا تهديد لهم إن عادوا إلى قتال المؤمنين ومعاداتهم .

٧٢

قوله تعالى  { إن الذين آمنوا وهاجروا } ، أي  هجروا قومهم وديارهم ، يعني المهاجرين. ‌{ وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه والذين آووا } رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمهاجرين معه ، أي  أسكنوهم منازلهم ، { ونصروا } أي  ونصروهم على أعدائهم وهم الأنصار رضي اللّه عنهم ، { أولئك بعضهم أولياء بعض } ، دون أقربائهم من الكفار . قيل  في العون والنصرة . و

قال ابن عباس  في الميراث وكانوا يتوارثون بالهجرة ، فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون ذوي الأرحام ، وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة وانقطعت الهجرة ، وتوارثوا بالأرحام حيث ما كانوا ، وصار ذلك منسوخاً ب

قوله عز وجل  { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه } ( الأحزاب - ٦ ) ، { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء } ، يعني الميراث ، { حتى يهاجروا } ، قرأ حمزة  ( ولايتهم ) بكسر الواو ، والباقون بالفتح ، وهما واحد كالدلالة والدلالة . { وإن استنصروكم في الدين } ، أي  استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا ، { فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق }، عهد فلا تنصروهم عليهم ، { واللّه بما تعملون بصير } .

٧٣

{ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } ، في العون والنصر .و

قال ابن عباس  في الميراث ، أي  يرث المشركون بعضهم من بعض ، { إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض } ،

قال ابن عباس  إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به وقال ابن جريج  إلا تعاونوا وتناصروا . وقال ابن إسحاق  جعل اللّه المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون من سواهم ، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض ، ثم قال  { إلا تفعلوه } ، وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمن { تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } ، فالفتنة في الأرض قوة الكفر ، والفساد الكبير ضعف الإسلام .

٧٤

{ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا } لا مرية ولا ريب في إيمانهم . قيل  حققوا إيمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في الدين ، { لهم مغفرة ورزق كريم } في الجنة . فإن قيل  أي معنى في تكرار هذه الآية ؟ قيل  المهاجرون كانوا على طبقات  فكان بعضهم أهل الهجرة الأولى ، وهم الذين هاجروا قبل الحديبية ، وبعضهم أهل الهجرة الثانية ،وهم الذين هاجروا بعد صلح الحديبية قبل فتح مكة ، وكان بعضهم ذا هجرتين هجرة الحبشة والهجرة إلى المدينة ، فالمراد من الآية الأولى الهجرة الأولى ، ومن الثانية الهجرة الثانية .

٧٥

قوله  { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } أي  معكم ، يريد  أنتم منهم وهم منكم ، { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } ، وهذا نسخ التوارث بالهجرة ورد الميراث إلى ذوي الأرحام . قوله { في كتاب اللّه } أي  في حكم اللّه عز وجل .

وقيل  أراد بكتاب اللّه القرآن ، يعني  القسمة التي بينها في سورة النساء ، { إن اللّه بكل شيء عليم }.

﴿ ٠