سورة الحجر

مكية

١

{الر} قيل معناه أنا اللّه أرى، {تلك آيات الكتاب}، أي هذه آيات الكتاب، { وقرأن} أي وآيات قرآن، {مبين}، أي بين الحلال من الحرام والحق من الباطل. فإن قيل لم ذكر الكتاب ثم قال {وقرأن مبين} وكلاهما واحد؟ قلنا قد قيل كل واحد يفيد فائدة أخرى، فإن الكتاب ما يكتب، والقرآن ما يجمع بعضه إلى بعض.

وقيل المراد بالكتاب التوراة والإنجيل، وبالقرآن هذا الكتاب.

٢

{ربما} قرأ أبو جعفر ونافع وعاصم بتخفيف الباء والباقون بتشديدها، وهما لغتان، ورب للتقليل وكم للتكثير، ورب تدخل على الاسم، وربما على الفعل، يقال رب رجل جاءني، وربما جاءني رجل، وأدخل ما هاهنا للفعل بعدها. {يود}، يتمنى، {الذين كفروا لو كانوا مسلمين}.

واختلفوا في الحال التي يتمنى الكافر فيها الإسلام. قال الضحاك حالة المعاينة.

وقيل يوم القيامة. والمشهور أنه حين يخرج اللّه المؤمنين من النار. وروي عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال {إذا اجتمع أهل النار في النار، ومعهم من شاء اللّه من أهل القبلة، قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة ألستم مسلمين؟ قالوا بلى، قالوا فما أغنى عنكم إسلامكم وأنتم معنا في النار؟ قالوا كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فيغضب اللّه تعالى لهم [بفضل رحمته]، فيأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار فيخرجون منها، فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}. فإن قيل كيف قال ربما وهي للتقليل وهذا التمني يكثر من الكفار؟ قلنا قد تذكر ربما للتكثير، أو أراد أن شغلهم بالعذاب لا يفرغهم للندامة إنما يخطر ذلك ببالهم أحيانا.

٣

{ذرهم}، يا محمد، يعني الذين كفروا، {يأكلوا} في الدنيا، {ويتمتعوا}، من لذاتهم {ويلههم}، يشغلهم، {الأمل}، عن الأخذ بحظهم من الإيمان والطاعة، {فسوف يعلمون}، إذا وردوا القيامة وذاقوا وبال ما صنعوا، وهذا تهديد ووعيد. وقال بعض أهل العلم {ذرهم} تهديد،

وقوله {فسوف يعلمون} تهديد آخر، فمتى يهنأ العيش بين تهديدين. والآية نسختها آية القتال.

٤

{وما أهلكنا من قرية}، أي من أهل قرية، {إلا ولها كتاب معلوم}، أي أجل مضروب لا يتقدم عليه، ولا يأتيهم العذاب حتى يبلغوه، ولا يتأخر عنهم.

٥

{ما تسبق من أمة أجلها} من صلة، {وما يستأخرون}، أي الموت لا يتقدم ولا يتأخر،

وقيل العذاب المضروب.

٦

{وقالوا} يعني مشركي مكة، {يا أيها الذي نزل عليه الذكر}، أي القرآن، وأرادوا به محمدا صلى اللّه عليه وسلم، {إنك لمجنون}، وذكروا تنزيل الذكر على سبيل الاستهزاء.

٧

{لو ما}، هلا {تأتينا بالملائكة}، شاهدين لك بالصدق على ما تقول، {إن كنت من الصادقين}، إنك نبي.

٨

{ما ننزل الملائكة}، قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر بنونين {الملائكة} نصب، وقرأ أبو بكر بالتاء وضمها وفتح الزاي {الملائكة} رفع وقرأ الباقون بالتاء وفتحها وفتح الزاي {الملائكة} رفع. {إلا بالحق} أي بالعذاب ولو نزلت يعني الملائكة لعجلوا بالعذاب، {وما كانوا إذاً منظرين} أي مؤخرين، وقد كان الكفار يطلبون إنزال الملائكة عيانا فأجابهم اللّه تعالى بهذا. ومعناه إنهم لو نزلوا عيانا لزال عن الكفار الإمهال وعذبوا في الحال.

٩

{إنا نحن نزلنا الذكر}، يعني القرآن، {وإنا له لحافظون}، أي تحفظ القرآن من الشياطين أن يزيدوا فيه، أو ينقصوا منه، أو يبدلوا، قال اللّه تعالى {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} (فصلت-٤٢) والباطل هو إبليس، لا يقدر أن يزيد فيه ما ليس منه ولا أن ينقص منه ما هو منه.

وقيل الهاء في له راجعة إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم أي إنا لمحمد لحافظون ممن أراده بسوء كما قال جل ذكره {واللّه يعصمك من الناس} (المائدة-٦٧).

١٠

قوله تعالى {ولقد أرسلنا من قبلك}، أي رسلا، {في شيع الأولين}، أي في الأمم والقرون الماضية. والشيعة هم القوم المجتمعون المتفقه كلمتهم.

١١

{ وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون }، كما فعلوا بك، ذكره تسلية للنبي صلى اللّه عليه وسلم.

١٢

{كذلك نسلكه}، أي كما سلكنا الكفر والتكذيب والاستهزاء بالرسل في قلوب شيع الأولين، كذلك نسلكه ندخله، {في قلوب المجرمين}، يعني مشركي مكة قومك. وفيه رد على القدرية.

١٣

{لا يؤمنون به}، يعني لا يؤمنون بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبالقرآن، {وقد خلت}، مضت، {سنة الأولين}، أي وقائع اللّه تعالى بالإهلاك فيمن كذب الرسل من الأمم الخالية يخوف أهل مكة.

١٤

{ولو فتحنا عليهم}، يعني على الذين يقولون لو ما تأتينا بالملائكة، {باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون} أي فظلت الملائكة يعرجون فيها، وهم يرونها عيانا، هذا قول الأكثرين.

وقال الحسن معناه فظل هؤلاء الكفار يعرجون فيها أي يصعدون. والأول أصح.

١٥

{لقالوا إنما سكرت}، سدت، {أبصارنا}، قاله ابن عباس.

وقال الحسن سحرت. وقال قتادة أخذت.

وقال الكلبي عميت. وقرأ ابن كثير {سكرت}بالتخفيف، أي حبست ومنعت النظر كما يسكر النهر لحبس الماء. {بل نحن قوم مسحورون}، أي عمل فينا السحر فسحرنا محمد - صلى اللّه عليه وسلم -.

١٦

قوله عز وجل {ولقد جعلنا في السماء بروجا}، والبروج هي النجوم الكبار، مأخوذة من الظهور، يقال تبرجت المرأة أي ظهرت. وأراد بها المنازل التى تنزلها الشمس، والقمر، والكواكب السيارة، وهى اثنا عشر برجا الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. وقال عطية هي قصور في السماء عليها الحرس. {وزيناها}، أي السماء بالشمس والقمر والنجوم {للناظرين}.

١٧

{وحفظناها من كل شيطان رجيم}، مرجوم.

وقيل ملعون. قال ابن عباس كانت الشياطين لا يحجبون عن السموات وكانوا يدخلونها، ويأتون بأخبارها فيلقون على الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد صلى اللّه عليه وسلم منعوا من السموات أجمع، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب، فلما منعوا من تلك المقاعد ذكروا ذلك لإبليس فقال لقد حدث في الأرض حدث، قال فبعثهم فوجدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتلو القرآن، فقالوا هذا واللّه ما حدث.

١٨

{إلا من استرق السمع}، لكم من استراق السمع، {فأتبعه شهاب مبين}، والشهاب الشعلة من النار. وذلك أن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء الدنيا، ويسترقون السمع من الملائكة، فيرمون بالكواكب فلا تخطئ أبدا، فمنهم من تقتله ومنهم من تحرق وجهه أو جنبه أو يده أو حيث يشاء اللّه، ومنهم من تخبله فيصير غولا يضل الناس في البوادي.

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، قال سمعت عكرمة يقول سمعت أبا هريرة يقول إن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال {إذا قضى اللّه الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال الحق، وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض - ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع أحدهم الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبه فقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء}.

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن أبي مريم، حدثنا الليث، حدثنا ابن جعفر، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي اللّه عنها زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم أنها سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول {إن الملائكة تنزل في العنان، وهو السحاب، فتذكر الأمر الذى قضى في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم}. وقال يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق إن أول من فزع للرمي بالنجوم هذا الحي من ثقيف وإنهم جاؤوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج، وكان أهدى العرب، فقالوا له ألم تر ما حدث في السماء من القذف بالنجوم؟ قال بلى، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس من معايشهم هي التي يرمى بها فهي - طي الدنيا وهلاك الخلق الذي فيها، وإن كانت نجوما غيرها وهي اللّه ثابتة على حالها فهذا الأمر أراده اللّه تعالى بهذا الخلق. قال معمر قلت للزهري أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال نعم، قلت أفرأيت

قوله تعالى {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} الآية. (الجن -٦)؟ قال غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال ابن قتيبة إن الرجم كان قبل مبعثه - صلى اللّه عليه وسلم - ولكن لم يكن مثله في شدة الحراسة بعد مبعثه.

وقيل إن النجم يتقض فيرمي الشياطين ثم يعود إلى مكانه، واللّه أعلم.

١٩

قوله تعالى {والأرض مددناها}، بسطناها على وجه الماء، يقال إنها مسيرة خمسمائة سنة في مثلها دحيت من تحت الكعبة، {وألقينا فيها رواسي}، جبالا ثوابت، وقد كانت الأرض تميد إلى أن أرساها اللّه بالجبال، {وأنبتنا فيها}، أي في الأرض، {من كل شيء موزون}، مقدر معلوم.

وقيل يعني في الجبال، وهي جواهر من الذهب والفضة والحديد والنحاس وغيرها، حتى الزرنيخ والكحل كل ذلك يوزن وزنا. وقال ابن زيد هي الأشياء التي توزن وزناً.

٢٠

{وجعلنا لكم فيها معايش}، جمع معيشة، قيل أراد بها المطاعم والمشارب والملابس وهي ما يعيش به الآدمي في الدنيا، {ومن لستم له برازقين}، أي جعلنا فيها من لستم له برازقين من الدواب والأنعام، أي جعلناها لكم وكفيناكم رزقها و{من} في الآية بمعنى ما ك

قوله تعالى {فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين} (النور-٤٥).

وقيل {من} في موضعها، لأنه أراد المماليك مع الدواب.

وقيل {من} في محل الخفض عطفا على الكاف والميم في {لكم}.

٢١

{وإن من شيء}، أي وما من شيء، {إلا عندنا خزائنه}، أي مفاتيح خزائنه.

وقيل أرد به المطر. {وما ننزله إلا بقدر معلوم}، لكل أرض حد مقدر،

ويقال لا تنزل من السماء قطرة إلا ومعها ملك يسوقها حيث يريد اللّه عز وجل ويشاء. وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال في العرش مثال جميع ما خلق اللّه في البر والبحر، وهو تأويل

قوله تعالى {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه}.

٢٢

{وأرسلنا الرياح لواقح} أي حوامل، لأنها تحمل الماء إلى السحاب، وهو جمع لاقحة، يقال ناقة لاقحة إذا حملت الولد. قال ابن مسعود يرسل اللّه الريح فتحل الماء فيمر به السحاب، فيدر كما تدر اللقحة ثم تمطر. وقال أبو عبيدة أراد باللواقح الملاقح واحدتها ملقحة، لأنها تلقح الأشجار. قال عبيد بن عمير يبعث اللّه الريح المبشرة فتقم الأرض قما، ثم يبعث اللّه المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث اللّه المؤلفة السحاب بعضه إلى بعض فتجعله ركاما، ثم يبعث اللواقح فتلقح الشجر. وقال أبو بكر بن عياش لا تقطر قطرة من السحاب إلا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيه، فالصبا تهيجه، والشمال تجمعه، والجنوب تذره، والدبور تفرقه. وفى الخبر أن اللقح رياح الجنوب. وفى بعض الآثار ما هبت ريح الجنوب إلا وبعث عينا غدقة. وأما الريح العقيم فإنها تأتي بالعذاب ولا تلقح.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب،

أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم،

أخبرنا الربيع،

أخبرنا الشافعي،

أخبرنا من لا أتهم بحديثه، حدثنا العلاء بن راشد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال ما هبت ريح قط إلا جثا النبي صلى اللّه عليه وسلم على ركبتيه، وقال اللّهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا، اللّهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا، قال ابن عباس في كتاب اللّه عز وجل {إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً} (القمر-١٩) {إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} (الذاريات-٤١)، وقال {وأرسلنا الرياح لواقح} (الحجر-٢٢)، وقال {أن يرسل الرياح مبشرات} (الروم-٤٦) قوله {فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه}، أي جعلنا المطر لكم سقيا، يقال أسقى فلان فلانا إذا جعل له سقيا، وسقاه إذا أعطاه ما يشرب. وتقول العرب سقيت الرجل ماء ولبنا إذا كان لسقيه فإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه ودوابه تقول أسقيته. {وما أنتم له بخازنين}، يعني المطر في خزائننا لا في خزائنكم. وقال سفيان بمانعين.

٢٣

{ وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون }، بأن نميت جميع الخلائق. فلا يبقى حي سوانا. والوارث من صفات اللّه عز وجل. قيل الباقي بعد فناء الخلق.

وقيل معناه إن مصير الخلق إليه.

٢٤

{ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين}، قال ابن عباس أراد بالمستقدمين الأموات وبالمستأخرين الأحياء. قال الشعبي الأولين والآخرين. وقال عكرمة المستقدمون من خلق اللّه والمستأخرين من لم يخلق اللّه. قال مجاهد المستقدمون القرون الأولى والمستأخرين أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم.

وقال الحسن المستقدمون في الطاعة والخير، والمستأخرون المبطئون عنها.

وقيل المستقدمون في الصفوف في الصلاة والمستأخرون فيها. وذلك أن النساء كن يخرجن إلى صلاة الجماعة فيقفن خلف الرجال، فربما كان من الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى آخر صفوف الرجال، ومن النساء من كانت في قلبها ريبة فتتقدم إلى أول صفوف النساء لتقرب من الرجال. فنزلت هذه الآية. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم {خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها}. وقال الأوزاعي أراد المصلين في أول الوقت والمؤخرين إلى آخره. وقال مقاتل أراد بالمستقدمين والمستأخرين في صف القتال. وقال ابن عيينة أراد من يسلم ومن لا يسلم.

٢٥

{وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم}، على ما علم منهم.

وقيل يميت الكل، ثم يحشرهم، الأولين والآخرين.

أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن،

أخبرنا أبو سعيد الصيرفي، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر رضي اللّه عنه قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم {من مات على شيء بعثه اللّه عليه}.

٢٦

قوله تعالى {ولقد خلقنا الإنسان}، يعني آدم عليه السلام، سمي إنسانا لظهوره وإدراك البصر إياه.

وقيل من النسيان لأنه عهد إليه فنسي. {من صلصال}، وهو الطين اليابس الذي إذا نقرته سمعت له صلصلة، أي صوتا. قال ابن عباس هو الطين الحر، الذي نضب عنه الماء تشقق، فإذا حرك تقعقع. وقال مجاهد هو الطين المنتن. واختاره الكسائي، وقال هو من صل اللحم وأصل، إذا أنتن. {من حمإ}، والحمأ الطين الأسود، {مسنون} أي متغير. قال مجاهد وقتادة هو المنتن المتغير. وقال أبو عبيدة هو المصبوب. تقول العرب سننت الماء أي صببته. قال ابن عباس هو التراب المبتل المنتن، جعل صلصالا كالفخار. وفي بعض الآثار إن اللّه عز وجل خمر طينة آدم وتركه حتى صار متغيرا أسود، ثم خلق منه آدم عليه السلام.

٢٧

{والجان خلقناه من قبل}، قال ابن عباس هو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر. وقال قتادة هو إبليس خلق قبل آدم.

ويقال الجان أو الجن، وإبليس أبو الشياطين. وفى الجن مسلمون وكافرون، ويحيون ويموتون، وأما الشياطين، فليس منهم مسلمون، ويموتون إذا مات إبليس. وذكر وهب إن من الجن من يولد لهم ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين، ومن الجن من هم بمنزلة الريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون. {من نار السموم}، والسموم ريح حارة تدخل مسام الإنسان فتقتله.

ويقال السموم بالنهار والحرور بالليل. وعن الكلبي عن أبي صالح  السموم نار لا دخان لها، والصواعق تكوم منها وهي نار بين السماء وبين الحجاب، فإذا أحدث اللّه أمر أخرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت، فالهدة التي تسمعون فى خرق ذلك الحجاب.

وقيل نار السموم لهب النار.

وقيل من نار السموم أي من نار جهنم. وعن الضحاك عن ابن عباس قال كان إبليس من حي الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم، وخلقت الجن كذلك ذكروا في القرآن من مارج من نار، فأما الملائكة فإنهم خلقوا من النور.

٢٨

قوله تعالى { وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا }، أي سأخلق بشرا، {من صلصال من حمإ مسنون}.

٢٩

{فإذا سويته}، عدلت صورته، وأتممت خلقه، {ونفخت فيه من روحي}، فصار بشرا حيا، والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان، وأضافه إلى نفسه تشريفا، {فقعوا له ساجدين}، سجود تحية لا سجود عبادة.

٣٠

{فسجد الملائكة}، الذين أمروا بالسجود، {كلهم أجمعون}. فإن قيل لم قال {كلهم أجمعون} وقد حصل المقصود بقوله فسجد الملائكة؟ قلنا زعم الخليل وسيبويه أنه ذكر ذلك تأكيدا. وذكر المبرد أن قوله {فسجد الملائكة} كان من المحتمل أنه سجد بعضهم فذكر {كلهم} ليزول هذا الإشكال، ثم كان يحتمل أنهم سجدوا في أوقات مختلفة فزال ذلك الإشكال بقوله {أجمعون}، وروى عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنه إن اللّه عز وجل قال لجماعة من الملائكة اسجدوا لآدم فلم يفعلوا فأرسل اللّه عليهم نارا فأحرقتهم، ثم قال لجماعة أخرى اسجدوا لآدم فسجدوا.

٣١

{إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين}.

٣٢

{ قال يا إبليس ما لك أن لا تكون مع الساجدين }.

٣٣

{ قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون }، أراد أنا أفضل منه لأنه طيني، وأنا ناري، والنار تأكل الطين.

٣٤

{قال فاخرج منها} أي من الجنة {فإنك رجيم}، طريد.

٣٥

{وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين}، قيل إن أهل السموات يلعنون إبليس كما يلعنه أهل الأرض، فهو ملعون في السماء والأرض.

٣٦

{قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون}، أراد الخبيث أن لا يموت.

٣٧

{ قال فإنك من المنظرين } .

٣٨

{ قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم }، أي الوقت الذى يموت فيه الخلائق، وهو النفخة الأولى.

ويقال إن مدة موت إبليس أربعون سنة وهي ما بين النفختين.

ويقال لم تكن إجابة اللّه تعالى إياه في الإمهال إكراما له، بل كانت زيادة في بلائه وشقائه.

٣٩

{قال رب بما أغويتني}، أضللتني.

وقيل خيبتني من رحمتك، {لأزينن لهم في الأرض}، حب الدنيا ومعاصيك، {ولأغوينهم}، أي لأضلنهم، {أجمعين}.

٤٠

{إلا عبادك منهم المخلصين}، المؤمنين الذى أخلصوا لك الطاعة والتوحيد، ومن فتح اللام، أي من أخلصته بتوحيدك واصطفيته.

٤١

{قال}، اللّه تعالى، {هذا صراط علي مستقيم}، قال الحسن معناه صراط إلي مستقيم. وقال مجاهد الحق يرجع إلى اللّه تعالى، وعليه طريقه، ولا يعوج عليه شيء. وقال الأخفش يعني علي الدلالة على الصراط المستقيم. قال الكسائي هذا على التهديد والوعيد كما يقول الرجل لمن يخاصمه طريقك علي، أي لا تفلت مني، كما قال عز وجل {إن ربك لبالمرصاد} (الفجر-١٤).

وقيل معناه على استقامة بالبيان والبرهان والتوفيق والهداية. وقرأ ابن سيرين، وقتادة، ويعقوب علي، من العلو أي رفيع، وعبر بعضهم عنه رفيع أن ينال مستقيم أن يمال.

٤٢

{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} ، أي قوة. قال أهل المعاني يعني على قلوبهم. وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية فقال معناه ليس لك عليهم سلطان تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي، وهؤلاء ثنية اللّه الذين هداهم واجتباهم. {إلا من اتبعك من الغاوين}.

٤٣

{وإن جهنم لموعدهم أجمعين } ، يعني موعد إبليس ومن تبعه.

٤٤

{لها سبعة أبواب}، أطباق. قال علي رضي اللّه عنه تدرون كيف أبواب النار؟ هكذا، ووضع [شعبة] إحدى يديه على الأخرى، أي سبعة أبواب بعضها فوق بعض وإن اللّه وضع الجنان على العرض ووضع النيران بعضها فوق بعض. قال ابن جريج النار سبع دركات أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. {لكل باب منهم جزء مقسوم}، أي لكل دركة قوم يسكنونها. وقال الضحاك في الدركة الأولى أهل التوحيد الذين أدخلوا النار، يعذبون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون، وفى الثانية النصارى، وفى الثالثة اليهود، وفى الرابعة الصابئون، وفى الخامسة المجوس، وفى السادسة أهل الشرك، وفى السابعة المنافقون، فذلك

قوله تعالى {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} (النساء-١٤٥). وروي عن ابن عمر رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمتي أو قال على أمة محمد}.

٤٥

قوله تعالى {إن المتقين في جنات وعيون}، أي في بساتين وأنهار.

٤٦

{ادخلوها} أي يقال لهم ادخلوا الجنة، {بسلام}، أي بسلامة {آمنين}، من الموت والخروج والآفات.

٤٧

{ونزعنا}، أخرجنا، { ما في صدورهم من غل }، هو الشحناء والعداوة والحقد والحسد، {إخواناً}، نصب على الحال، {على سرر} جمع سرير {متقابلين}، يقابل بعضهم بعضا، لا ينظر أحد منهم إلى قفا صاحبه. وفى بعض الأخبار إن المؤمن في الجنة إذا ود أني يلقى أخاه المؤمن سار سرير كل واحد منها إلى صاحبه فيلتقيان ويتحدثان.

٤٨

{لا يمسهم}، لا يصيبهم، {فيها نصب}، أي تعب، {وما هم منها بمخرجين}، هذه أنص آية في القرآن على الخلود.

٤٩

قوله تعالى {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم}، قال ابن عباس يعني لمن تاب منهم. وروى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم{ خرج يوما على نفر من أصحابه وهم يضحكون، فقال أتضحكون وبين أيديكم النار، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية، وقال يقول لك ربك يا محمد لم تقنط عبادي من رحمتي}.

٥٠

{ وأن عذابي هو العذاب الأليم } قال قتادة بلغنا أن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال {لو يعلم العبد قدر عفو اللّه لما تورع عن حرام، ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه}.

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمروا بن أبي عمرو، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول {إن اللّه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند اللّه من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند اللّه من العذاب لم يأمن من النار}.

٥١

{ونبئهم عن ضيف إبراهيم} أي عن أضيافه. والضيف اسم يقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، وهم الملائكة الذين أرسلهم اللّه تعالى ليبشروا إبراهيم عليه السلام بالولد، ويهلكوا قوم لوط.

٥٢

{إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال}، إبراهيم {إنا منكم وجلون}، خائفون لأنهم لم يأكلوا طعامه.

٥٣

{قالوا لا توجل} لا تخف، {إنا نبشرك بغلام عليم}، أي غلام في صغره، عليم في كبره، يعني إسحاق، فتعجب إبراهيم عليه السلام من كبره وكبر امرأته.

٥٤

{قال أبشرتموني}، أي بالولد {على أن مسني الكبر}، أي على حال الكبر، قاله على طريق التعجب، {فبم تبشرون}، فبأي شيء تبشرون؟ قرأ نافع بكسر النون وتخفيفها أي تبشرون، وقرأ ابن كثير بتشديد النون أي تبشرونني، أدغمت نون الجمع في نون الإضافة، وقرأ الآخرون بفتح النون وتخفيفها.

٥٥

{قالوا بشرناك بالحق} أي بالصدق، {فلا تكن من القانطين}.

٥٦

{قال ومن يقنط}، قرأ أبو عمروو الكسائي ويعقوب بكسر النون، والآخرون بفتحها، وهما لغتان قنط يقنط، وقنط يقنط، أي من ييأس، {من رحمة ربه إلا الضالون}، أي الخاسرون، والقنوط من رحمة اللّه كبيرة كالأمن من مكره.

٥٧

{قال} إبراهيم لهم {فما خطبكم}، ما شأنكم، {أيها المرسلون}؟

٥٨

{قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين}، مشركين.

٥٩

{إلا آل لوط}، أتباعه وأهل دينه، {إنا لمنجوهم أجمعين}، خفف الجيم حمزة و الكسائي، وشدد الباقون.

٦٠

{إلا امرأته}، أي امرأة لوط، {قدرنا}، قضينا، {إنها لمن الغابرين}، الباقين في العذاب، والاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، فاستثنى امرأة لوط من الناجين فكانت ملحقة بالهالكين. قرأ أبو بكر {قدرنا} هاهنا وفى سورة النمل بتخفيف الدال، والباقون بتشديدها.

٦١

{فلما جاء آل لوط المرسلون}.

٦٢

{قال}، لوط لهم، {إنكم قوم منكرون} أي أنا لا أعرفكم.

٦٣

{قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون}، أي يشكون أنه نازل بهم، وهو العذاب، لأنه كان يوعدهم بالعذاب ولا يصدقونه.

٦٤

{وأتيناك بالحق}، باليقين.

وقيل بالعذاب، {وإنا لصادقون}.

٦٥

{فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم} أي سر خلفهم، {ولا يلتفت منكم أحد}، حتى لا يرتاعوا من العذاب إذا نزل بقومهم.

وقيل جعل اللّه ذلك علامة لمن ينجو من آل لوط. {وامضوا حيث تؤمرون}، قال ابن عباس يعني الشام، وقال مقاتل يعني زغر.

وقيل الأردن.

٦٦

{ وقضينا إليه ذلك الأمر }، أي فرغنا إلى آل لوط من ذلك الأمر، أي أحكمنا الأمر الذي أمرنا في قوم لوط، و

أخبرناه {أن دابر هؤلاء}، يدل عليه قراءة عبد اللّه وقلنا له إن دابر هؤلاء، يعني أصلهم، {مقطوع}، مستأصل، {مصبحين}، إذا دخلوا في الصبح.

٦٧

{وجاء أهل المدينة}، يعني سدوم، {يستبشرون}، بأضياف لوط، أي يبشر بعضهم بعضا، طمعا في ركوب الفاحشة منهم.

٦٨

{قال}، لوط لقومه، {إن هؤلاء ضيفي}، وحق على الرجل إكرام ضيفه، {فلا تفضحون} فيهم.

٦٩

{واتقوا اللّه ولا تخزون}، ولا تخجلون.

٧٠

{ قالوا أولم ننهك عن العالمين }، أي ألم ننهك عن أن تضيف أحدا من العالمين.

وقيل ألم ننهك أن تدخل الغرباء المدينة، فإنا نركب منهم الفاحشة.

٧١

{قال هؤلاء بناتي} أزوجهن إياكم إن أسلمتم، فأتوا الحلال ودعوا الحرام، {إن كنتم فاعلين}، ما آمركم به.

وقيل أراد بالبنات نساء قومه لأن النبي كالوالد لأمته.

٧٢

قال اللّه تعالى {لعمرك}، يا محمد أي وحياتك، {إنهم لفي سكرتهم}، حيرتهم وضلالتهم، {يعمهون}، يترددون. قال قتادة يلعبون. روي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال ما خلق اللّه نفسا أكرم عليه من محمد صلى اللّه عليه وسلم، وما أقسم اللّه تعالى بحياة أحد إلا بحياته.

٧٣

{ فأخذتهم الصيحة مشرقين }، أي حين أضاءت الشمس، فكان ابتداء العذاب حين أصبحوا، وتمامه حين أشرقوا.

٧٤

{فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل}.

٧٥

{إن في ذلك لآيات للمتوسمين}، قال ابن عباس للناظرين. وقال مجاهد للمتفرسين. وقال قتادة للمعتبرين. وقال مقاتل للمتفكرين.

٧٦

{وإنها} يعني قرى قوم لوط، {لبسبيل مقيم}، أي بطريق واضح. وقال مجاهد بطريق معلم، ليس يخفى ولا زائل.

٧٧

{إن في ذلك لآية للمؤمنين}.

٧٨

{وإن كان}، وقد كان {أصحاب الأيكة}، الغيضة، {لظالمين}، لكافرين، واللام للتأكيد، وهم قوم شعيب عليه السلام، كانوا أصحاب غياض وشجر ملتف، وكان عامة شجرهم الدوم، وهو المقل.

٧٩

{فانتقمنا منهم}، بالعذاب، وذلك أن اللّه سلط عليهم الحر سبعة أيام فبعث اللّه سحابة فالتجؤوا إليها يلتمسون الروح، فبعث اللّه عليهم منها نارا فأحرقتهم، فذلك

قوله تعالى {فأخذهم عذاب يوم الظلة} (الشعراء-١٨٩). {وإنهما} يعني مدينتي قوم لوط وأصحاب الأيكة {لبإمام مبين}، بطريق واضح مستبين.

٨٠

قوله تعالى {ولقد كذب أصحاب الحجر}، وهي مدينة ثمود قوم صالح، وهي بين المدينة والشام، {المرسلين}، أراد صالحا وحده.

٨١

{ وآتيناهم آياتنا }، يعني الناقة وولدها والبئر، فالآيات في الناقة، خروجها من الصخرة، وكبرها، وقرب ولادها، وغزراة لبنها، {فكانوا عنها معرضين}.

٨٢

{وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين}، من الخراب ووقوع الجبل عليهم.

٨٣

{فأخذتهم الصيحة}، يعني صيحة العذاب، {مصبحين}،أي داخلين في وقت الصبح.

٨٤

{فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون}، من الشرك والأعمال الخبيثة.

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد اللّه بن أبي توبة، أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث،

أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي، حدثنا عبد اللّه بن محمود، أنبأنا إبراهيم بن عبد اللّه الخلال، حدثنا عبد اللّه بن المبارك عن معمر، عن الزهري،

أخبرنا سالم بن عبد اللّه، عن أبيه، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه لما مر بالحجر قال {لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم، قال وتقنع بردائه وهو على الرحل}. وقال عبد الرزاق عن معمر ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى اجتاز الوادي.

٨٥

قوله تعالى { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة }، يعني القيامة { لآتية } ، يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، {فاصفح الصفح الجميل}، فأعرض عنهم واعف عفوا حسنا. نسختها آية القتال.

٨٦

{إن ربك هو الخلاق العليم } [ بخلقه ].

٨٧

قوله تعالى {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني}، قال عمر وعلي هي فاتحة الكتاب. وهو قوم قتادة وعطاء والحسن وسعيد بن جبير.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم، حدثنا ابن أبي ذئب حدثنا سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم}. وعن ابن مسعود قال في السبع المثاني هي فاتحة الكتاب، والقرآن العظيم هو سائر القرآن.

واختلفوا في أن الفاتحة لم سميت مثاني؟ قال ابن عباس والحسن وقتادة لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة.

وقيل لأنها مقسومة بين اللّه وبين العبد نصفين، نصفها ثناء ونصفها دعاء كما روي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يقول اللّه عز وجل {قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين}. قال الحسين بن الفضل سميت مثاني لأنها نزلت مرتين مرة بمكة، ومرة بالمدينة، كل مرة معها سبعون ألف ملك. وقال مجاهد سميت مثاني لأن اللّه تعالى استثناها وادخرها لهذه الأمة فما أعطاها غيرهم. وقال أبو زيد البلخي سميت مثاني لأنها تثني أهل الشر عن الفسق، مكن قول العرب ثنيت عناني.

وقيل لأن أولها ثناء. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس  إن السبع المثاني هي السبع الطوال، أولها سورة البقرة، وآخرها الأنفال مع التوبة.

وقال بعضهم سورة يونس بدل الأنفال.

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، حدثنا أبو محمد الحسن ابن أحمد المخلدي

أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد وعبد اللّه بن محمد بن مسلم قالا أنبأنا هلال بن العلاء، حدثنا حجاج بن محمد عن أيوب بن عتبة، عن يحيى بن كثير، عن شداد ابن عبد اللّه، عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال {إن اللّه تعالى أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل وأعطاني مكان الزبور المثاني، وفضلني ربي بالمفصل}. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال أوتي النبي صلى اللّه عليه وسلم السبع الطوال، وأعطي موسى ستا فلما ألقى الألواح رفع ثنتان وبقي أربع.

قال ابن عباس  وإنما سميت السبع الطوال مثاني لأن الفرائض والحدود والأمثال والخبر والعبر ثنيت فيها. وقال طاووس القرآن كله مثاني قال اللّه تعالى {اللّه نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني} (الزمر-٢٣٤). وسمي القرآن مثاني لأن الأنبياء والقصص ثنيت فيه. وعلى هذا القول المراد بالسبع سبع أسباع القرآن، فيكون تقديره على هذا وهي القرآن العظيم.

وقيل الواو مقحمة، مجازه ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم.

٨٨

قوله تعالى {لا تمدن عينيك}، يا محمد، {إلى ما متعنا به أزواجاً}، أصنافا، {منهم} أي من الكفار متمنيا لها نهى اللّه تعالى رسوله صلى اللّه عليه وسلم عن الرغبة في الدنيا ومزاحمة أهلها عليها. {ولا تحزن عليهم}، أي لا تغنم على ما فاتك من مشاركتهم في الدنيا.

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد ابن العنزي، حدثنا عيسى بن نصر، أنبأنا عبد اللّه بن المبارك،

أخبرنا جهم بن أوس، قال سمعت عبد اللّه بن مريم - مر به عبد اللّه بن رستم في موكبه، فقال لابن أبي مريم إني لاشتهي مجالستك وحديثك، فلما مضى قال ابن مريم - سمعت أبا هريرة رضي اللّه عنه يقول قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {لا تغبطن فاجرا بنعمته، فإنك لا تدري ما هو لاق بعد موته، إن له عند اللّه قاتلا لا يموت }، فبلغ ذلك وهب بن منبه فأرسل إليه وهب أبا داود الأعور ، قال يا أبا فلان ما قاتلا لا يموت؟ قال ابن أبي مريم النار.

أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفري السرخسي،

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد ابن الفضل الفقيه، حدثنا أبو الحسن بن إسحاق، حدثنا إبراهيم بن عبد اللّه العبسي،

أخبرنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه - قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة اللّه عليكم}.

وقيل هذه الآية متصلة بما قبلها لما من اللّه تعالى عليه بالقرآن نهاه عن الرغبة في الدنيا. روي أن سفيان بن عيينة - رحمه اللّه - تأول قول النبي صلى اللّه عليه وسلم  {ليس منا من لم يتغن بالقرآن } أي لم يستغن بالقرآن. فتأول هذه الآية.

قوله تعالى {واخفض جناحك}، لين جناحك {للمؤمنين}، وارفق بهم، والجناحان لابن آدم جانباه.

٨٩

{وقل إني أنا النذير المبين}.

٩٠

{كما أنزلنا على المقتسمين} قال الفراء مجازه أنذرتكم عذابا كعذاب المقتسمين. حكي عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما - أنه قال هم اليهود والنصارى.

٩١

{الذين جعلوا القرآن عضين}، جزؤوه فجعلوه أعضاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. وقال مجاهد هم اليهود والنصارى قسموا كتابهم ففرقوه وبدلوه.

وقيل { المقتسمين } قوم اقتسموا القرآن. فقال بعضهم سحر.

وقال بعضهم شعر.

وقال بعضهم كذب،

وقال بعضهم أساطير الأولين.

وقيل الاقتسام هو أنهم فرقوا القول في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا ساحر كاهن شاعر. وقال مقاتل كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا عقاب مكة وطرقها، وقعدوا على أنقابها يقولون لم جاء من الحجاج لا تغتروا بهذا الرجل الخارج الذى يدعي النبوة منا. وتقول طائفة منهم إنه مجنون، وطائفة إنه كاهن، وطائفة إنه شاعر، والوليد قاعد على باب المسجد نصبوه حكما فإذا سئل عنه قال صدق أولئك يعني المقتسمين.

وقوله {عضين} قيل هو جمع عضو مأخوذ من قولهم عضيت الشيء تعضية، إذا فرقته. ومعناه أنهم جعلوا القرآن أعضاء، فقال بعضهم سحر.

وقال بعضهم كهانة.

وقال بعضهم أساطير الأولين.

وقيل هو جمع عضة. يقال عضة وعضين مثل برة وبرين وعزة وعزين، وأصلها عضهة ذهبت هاؤها الأصلية، كما نقصوا من الشفة وأصلها شفهة، بدليل أنك تقول في التصغير شفيهة، والمراد بالعضة الكذب والبهتان.

وقيل المراد بالعضين العضه، وهو السحر، يريد أنهم سموا القرآن سحراً.

٩٢

{فوربك لنسألنهم أجمعين}، يوم القيامة.

٩٣

{عما كانوا يعملون} في الدنيا، قال محمد بن إسماعيل قال عدة من أهل العلم عن قوله لا إله إلا اللّه. فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبن

قوله تعالى {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} (الرحمن-٣٩). قال ابن عباس لا يسألهم هل عملتم، لأنه أعلم بهم منهم، ولكن يقول عملتم كذا وكذا؟ واعتمده قطرب فقال السؤال ضربان، سؤال استعلام، وسؤال توبيخ، ف

قوله تعالى {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} (الرحمن-٣٩)، يعني استعلاما.

وقوله {لنسألنهم أجمعين} يعني توبيخا وتقريعا. وقال عكرمة عن ابن عباس في الآيتين إن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف يسألون في بعض المواقف، ولا يسألون في بعضها. نظيره

قوله تعالى {هذا يوم لا ينطقون} (المرسلات-٣٥)، وقال في آية أخرى {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} (الزمر-٣١).

٩٤

قوله تعالى {فاصدع بما تؤمر}، قال ابن عباس أظهره. ويروى عنه أمضه. وقال الضحاك أعلم. وقال الأخفش افرق، أي افرق بالقرآن بين الحق والباطل. وقال سيبويه اقض بما تؤمر، وأصل الصدع الفصل، والفرق أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم في هذه الآية بإظهار الدعوة. وروي عن عبد اللّه بن عبيده قال كان مستخفيا حتى نزلت هذه الآية فخرج هو وأصحابه. {وأعرض عن المشركين}، نسختها آية القتال.

٩٥

{إنا كفيناك المستهزئين}، يقول اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم فاصدع بأمر اللّه، ولا تخف أحدا غير اللّه عز وجل، فإن اللّه كافيك من عاداك كما كفاك المستهزئين، وهم خمسة نفر من رؤساء قريش الوليد بن المخزومي - وكان رأسهم - والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد المطلب ابن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن زمعة، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد دعا عليه فقال اللّهم أعم بصره واثكله بولده، والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، والحارث بن قيس ابن الطلاطلة فأتى جبريل محمدا صلى اللّه عليه وسلم، والمستهزؤون يطوفون بالبيت، فقام جبريل وقام النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى جنبه، فمر به الوليد بن المغيره فقال جبريل يا محمد كيف تجد هذا فقال بئس عبد اللّه، فقال قد كفيته، وأومأ إلى ساق الوليد، فمر برجل من خزاعة نبال يريش نبلا له وعليه برد يمان، وهو يجر إزاره، فتعلقت شظية من نبل بإزاره فمنعه الكبر أن يطاطئ رأسه فينزعها، وجعلت تضرب ساقه، فخدشته، فمرض منها فمات. ومر به العاص بن وائل فقال جبريل كيف تجد هذا يا محمد؟ قال بئس عبد اللّه، فأشار جبريل إلى أخمص رجليه، وقال قد كفيته، فخرج على راحلته ومعه ابنان له يتنزه فنزل شعبا من تلك الشعاب فوطئ على شبرقة فدخلت منها شوكة في أخمص رجله، فقال لدغت لدغت، فطلبوا فلم يجدوا شيئا، وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير، فمات مكانه. ومر به الأسود بن المطلب، فقال جبريل كيف تجد هذا؟ قال عبد سوء، فأشار بيده إلى عينيه، وقال قد كفيته فعمي. قال ابن عباس رماه جبريل بورقة خضراء فذهب بصره ووجعت عيناه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتى هلك. وفى رواية الكلبي أتاه جبريل وهو قاعد في أصل شجرة ومعه غلا له فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك، فاستغاث بغلامه، فقال غلامه لا أرى أحداً يصنع بك شيئاً غير نفسك، حتى مات، وهو يقول قتلني رب محمد. ومر به الأسود بن عبد يغوث، فقال جبريل كيف تجد هذا يا محمد؟ قال بئس عبد اللّه على أنه ابن خالي. فقال قد كفيته، وأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات حينا. وفى رواية للكلبي أنه خرج من أهله فأصابه السموم فاسود حتى عاد حبشيا، فأتى أهله فلم يعرفوه، وأغلقوا دونه الباب حتى مات، وهو يقول قتلني رب محمد. ومر به الحارث بن قيس فقال جبريل كيف تجد هذا يا محمد، فقال عبد سوء فأومأ إلى رأسه وقال قد كفيته فامتخط قيحا فقتله.

٩٦

وقال ابن عباس أنه أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فلم يزل يشرب عليه من الماء حتى أنقد بطنه فمات، فذلك

قوله تعالى {إنا كفيناك المستهزئين}، بك وبالقرآن {الذين يجعلون مع اللّه إلها آخر فسوف يعلمون}

٩٧

وقيل استهزاؤهم واقتسامهم هو أن اللّه عز وجل لما أنزل في القرآن سورة البقرة، وسورة النحل، وسورة النمل، وسورة العنكبوت، كانوا يجتمعون ويقولون استهزاء هذا في سورة البقرة، ويقول هذا في سورة النحل، ويقول هذا في سورة العنكبوت،

فأنزل اللّه تعالى {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون }

٩٨

{ فسبح بحمد ربك }،قال ابن عباس فصل بأمر ربك {وكن من الساجدين} ، من المصلين المتواضعين. وقال الضحاك {فسبح بحمد ربك} قل سبحان اللّه وبحمده {وكن من الساجدين} المصلين. وروي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة.

٩٩

{واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}، أي الموت الموقن به، وهذا معنى ما ذكر في سورة مريم {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا}.

أخبرنا المطهر بن علي الفارسي،

أخبرنا محمد بن إبراهيم الصالحي،

أخبرنا عبد اللّه بن محمد بن جعفر أبو الشيخ الحافظ، حدثنا أمية بن محمد الصواف البصري، حدثنا محمد بن يحيى الأزدي، حدثنا أبي والهيثم بن خارجة قالا حدثنا إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم، عن أبي مسلم الخولاني عن جبير بن نفير رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}. وروي عن عمر رضي اللّه عنه قال نظر النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلا وعليه أهاب كبش قد تنطق به، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {انظروا إلى هذا الذى قد نور اللّه قلبه لقد رأيته بين أبويه بغذيانه بأطيب الطعام والشراب، ولقد رأيت عليه حلة شراها، أو شريت له، بمائتي درهم، فدعاه حب اللّه ورسوله إلى ما ترونه}. واللّه أعلم.

﴿ ٠