سورة الأنبياء١{ اقترب للناس }، قيل اللان بمعنى من، أي اقترب من الناس حسابهم، أي وقت محاسبة اللّه إياهم على أعمالهم، يعني يوم القيامة، نزلت في منكري البعث، { وهم في غفلة معرضون }، عن التأهب له. ٢{ ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث }، يعني ما يحدث اللّه من تنزيل شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم به. قال مقاتل يحدث اللّه الأمر [بعد الأمر]. وقيل الذكر المحدث ما قاله النبي صلى اللّه عليه وسلم وبينه من السنن والمواعظ سوى ما القرآن، وأضافه إلى الرب عز وجل لأنه قال بأمر الرب، { إلا استمعوه وهم يلعبون }، أي استمعوه لاعبين لا يعتبرون ولا يتعظون. ٣{ لاهيةً }، ساهيةً غافلة، { قلوبهم }، معرضةً عن ذكر اللّه، وقوله { لاهية }، نعت تقدم الاسم، ومن حق النعت أن يتبع الاسم في الإعراب، وإذا تقدم النعت الاسم فله حالتان فصل ووصل، في الفصل النصب ك قوله تعالى { خشعاً أبصارهم } (القمر ٧)، { ودانيةً عليهم ظلالها } (الإنسان ١١)، و { لاهية قلوبهم }، وفي الوصل حالة ما قبله من الإعراب كقوله، { أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها } (النساء ٧٥)، { وأسروا النجوى الذين ظلموا }، أي أشركوا، قوله { وأسروا } فعل تقدم الجمع وكان حقه وأسر، قال الكسائي فيه تقديم وتأخير، أراد والذين ظلموا أسروا النجوى. وقيل رفع على البدل من الضمير في أسروا. قال المبرد هذا كقولك إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبد اللّه، على البدل مما في انطلقوا ثم بين سرهم الذي تناجوا به فقال { هل هذا إلا بشر مثلكم }، أنكروا إرسال البشر وطلبوا إرسال الملائكة. { أفتأتون السحر }، أي تحضرون السحر وتقبلونه، { وأنتم تبصرون }، تعلمون أنه سحر. ٤{ قل }، لهم يا محمد، { ربي يعلم القول في السماء والأرض }، قرأ حمزةو و الكسائي وحفص ((قال ربي))، على الخبر عن محمد صلى اللّه عليه وسلم، { يعلم القول في السماء والأرض } أي لا يخفى عليه شيء، { وهو السميع }، لأقوالهم، { العليم }، بأفعالهم. ٥{ بل قالوا أضغاث أحلام }، أباطيلها [وأقاويلها] وأهاويلها رآها في النوم، { بل افتراه }، اختلقه، { بل هو شاعر }، يعني أن المشركين اقتسموا القول فيه وفيما يقوله، قال بعضهم أضغاث أحلام، وقال بعضهم بل هو فرية، وقال بعضهم بل محمد شاعر وما جاءكم به شعر. { فليأتنا } محمد { بآية }، إن كان صادقاً { كما أرسل الأولون }، من الرسل بالآيات. ٦قال اللّه تعالى مجيباً لهم { ما آمنت قبلهم }، قبل مشركي مكة، { من قرية }، أي من أهل قرية أتتهم الآيات، { أهلكناها }، أهلكناهم بالتكذيب، { أفهم يؤمنون }؟، إن جاءتهم آية، معناه أن أولئك لم يؤمنوا بالآيات لما أتتهم أفيؤمن هؤلاء؟. ٧قوله عز وجل { وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم }، هذا جواب لقولهم { هل هذا إلا بشر مثلكم } يعني إنا لم نرسل الملائكة إلى الأولين إنما أرسلنا رجالاً نوحي إليهم، { فاسألوا أهل الذكر }، يعني أهل التوراة والإنجيل، يريد علماء أهل الكتاب، فإنهم لا ينكرون أن الرسل كانوا بشراً، وإن أنكروا نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم، وأمر المشركين بمسألتهم لأنهم إلى تصديق من لم يؤمن بالنبي صلى اللّه عليه وسلم أقرب منهم إلى تصديق من آمن به. وقال ابن زيد أراد بالذكر القرآن أراد فسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن، { إن كنتم لا تعلمون }. ٨{ وما جعلناهم }، أي الرسل، { جسداً }، ولم يقل أجساداً لأنه اسم الجنس، { لا يأكلون الطعام }، هذا رد لقولهم { مال هذا الرسول يأكل الطعام } (الفرقان ٧)، يقول لم نجعل الرسل ملائكةً بل جعلناهم بشراً يأكلون الطعام، { وما كانوا خالدين }، في الدنيا. ٩{ ثم صدقناهم الوعد }، الذي وعدناهم بإهلاك أعدائهم، { فأنجيناهم ومن نشاء }، أي أنجينا المؤمنين الذين صدقوهم، { وأهلكنا المسرفين }، أي المشركين المكذبين، وكل مشرك مسرف على نفسه. ١٠{ لقد أنزلنا إليكم كتاباً }، يا معشر قريش، { فيه ذكركم }، أي شرفكم، كما قال { وإنه لذكر لك ولقومك } (الزخرف-٤٤)، وهو شرف لمن آمن به. قال مجاهد فيه حديثكم. وقال الحسن فيه ذكركم أي ما تحتاجون إليه من أمر دينكم، { أفلا تعقلون }. ١١{ وكم قصمنا }، أهلكنا، والقصم الكسر، { من قرية كانت ظالمةً }، أي كافرة، يعني أهلها، { وأنشأنا بعدها }، أي أحدثنا بعد هلاك أهلها، { قوماً آخرين }. ١٢{ فلما أحسوا بأسنا }، أي [رأوا] عذابنا بحاسة البصر، { إذا هم منها يركضون }، أي يسرعون هاربين. ١٣{ لا تركضوا }، أي قيل لهم لا تركضوا لا تهربوا، { وارجعوا إلى ما أترفتم فيه }، أي نعمتم به، { ومساكنكم لعلكم تسألون }، قال ابن عباس عن قتل نبيكم. و قال قتادة من دنياكم شيئاً، نزلت هذه الآية في أهل حصورا، وهي قرية باليمن وكان أهلها العرب، فبعث اللّه إليهم نبياً يدعوهم إلى اللّه فكذبوه وقتلوه، فسلط اللّه عليهم بختنصر، حتى قتلهم وسباهم، فلما استمر فيهم القتل ندموا وهربوا وانهزموا، فقالت الملائكة لهم استهزاءً لا تركضوا وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم لعلكم تسألون. قال قتادة لعلكم تسئلون شيئاً من دنياكم، فتعطون من شئتم وتمنعون من شئتم، فإنكم أهل ثروة ونعمة، يقولون ذلك استهزاءً بهم، فاتبعهم بختنصر وأخذتهم السيوف، ونادى مناد من جو السماء يا ثارات الأنبياء، فلما رأوا ذلك أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم. ١٤{ قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين }. ١٥{ فما زالت تلك دعواهم }، أي تلك الكلمة وهي قولهم يا ويلنا، دعاؤهم يدعون بها ويرددونها. { حتى جعلناهم حصيدا }، بالسيوف كما يحصد الزرع، { خامدين } ميتين. ١٦قوله عز وجل { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين }، أي عبثاً وباطلاً. ١٧{ لو أردنا أن نتخذ لهواً }، اختلفوا في اللّهو، قال ابن عباس في رواية عطاء اللّهو المرأة، وهو قول الحسن و قتادة ، وقال في رواية الكلبي اللّهو الولد، وهو قول السدي ، وهو في المرأة أظهر لأن الوطء يسمى لهواً في اللغة، والمرأة محل الوطء { لاتخذناه من لدنا }، أي من عندنا من الحور العين لا من عندكم من أهل الأرض. وقيل معناه لو كان جائزاً ذلك في صفته لم يتخذه بحيث يظهر لهم ويستر ذلك حتى لا يطلعوا عليه. وتأويل الآية أن النصارى لما قالوا في المسيح وأمه ما قالوا رد اللّه عليهم بهذا وقال { لاتخذناه من لدنا } لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده، لا عند غيره { إن كنا فاعلين }، قال قتادة و مقاتل و ابن جريج { إن } للنفي، أي ما كنا فاعلين. وقيل { إن كنا فاعلين } للشرط أي إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا، ولكنا لم نفعله لأنه لا يليق بالربوبية. ١٨{ بل }، أي دع ذلك الذي قالوا فإنه كذب وباطل، { نقذف }، نرمي ونسلط، { بالحق }، بالإيمان، { على الباطل }، على الكفر، وقيل الحق قول اللّه، أنه لا ولد له، والباطل قولهم اتخذ اللّه ولداً، { فيدمغه }، فيهلكه، وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، { فإذا هو زاهق }، ذاهب، والمعنى أنا نبطل كذبهم بما نبين من الحق حتى يضمحل ويذهب، ثم أوعدهم على كذبهم فقال { ولكم الويل }، يا معشر الكفار، { مما تصفون }، اللّه بما لا يليق به من الصاحبة والولد. وقال مجاهد مما تكذبون. ١٩{ وله من في السموات والأرض }، عبيداً وملكاً، { ومن عنده }، يعني الملائكة، { لا يستكبرون عن عبادته }، لا يأنفون عن عبادته ولا يتعظون عنها، { ولا يستحسرون }، لا يعيون، يقال حسر واستحسر إذا تعب وأعيا. و قال السدي لا يتعظون عن العبادة. ٢٠{ يسبحون الليل والنهار لا يفترون }، لا يضعفون ولا يسأمون، قال كعب الأحبار التسبيح لهم كالنفس لبني آدم. ٢١{ أم اتخذوا آلهة } استفهام بمعنى الجحد، أي لم يتخذوا، { من الأرض }، يعني الأصنام من الخشب والحجارة، وهما من الأرض، { هم ينشرون }، يحيون الأموات، ولا يستحق الإلهية إلا من يقدر على الإحياء والإيجاد من العدم والإنعام بأبلغ وجوه النعم. ٢٢{ لو كان فيهما }، أي في السماء والأرض، { آلهة إلا اللّه }، أي غير اللّه { لفسدتا }، لخربتا وهلك من فيهما بوجود التمانع من الآلهة لأن كل أمر صدر عن اثنين فأكثر لم يجر على النظام، ثم نزه نفسه فقال { فسبحان اللّه رب العرش عما يصفون }، أي عما يصفه به المشركون من الشريك والولد. ٢٣{ لا يسأل عما يفعل }، ويحكم على خلقه لأنه الرب { وهم يسألون } أي الخلق يسئلون، عن أفعالهم وأعمالهم لأنهم عبيد. ٢٤{ أم اتخذوا من دونه آلهةً }، استفهام إنكار وتوبيخ، { قل هاتوا برهانكم }، أي حجتكم على ذلك، ثم قال مستأنفاً، { هذا }، يعني القرآن. { ذكر من معي }، فيه خبر من معي على ديني ومن يتبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. { وذكر }، خبر، { من قبلي }، من الأمم السالفة ما فعل بهم في الدنيا وما يفعل بهم في الآخرة. وعن ابن عباس في رواية عطاء ذكر من معي القرآن، وذكر من قبلي التوراة والإنجيل، ومعناه راجعوا القرآن والتوراة والإنجيل وسائر الكتب هل تجدون فيها أن اللّه اتخذ ولداً، { بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون }. ٢٥{ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه }، قرأ حمزة و الكسائي وحفص عن عاصم نوحي إليه بالنون وكسر الحاء على التعظيم، لقوله { وما أرسلنا }، وقرأ الآخرون بالياء وفتح الحاء على الفعل المجهول، { أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }، وحدون. ٢٦قوله عز وجل { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً }، نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات اللّه، { سبحانه }، نزه نفسه عما قالوا، { بل عباد }، أي هم عباد، يعني الملائكة، { مكرمون }. ٢٧{ لا يسبقونه بالقول }، لا يتقدمونه بالقول ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم به، { وهم بأمره يعملون }، معناه أنهم لا يخالفونه قولاً ولا عملاً. ٢٨{ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم }، أي ما عملوا وما هم عاملون. وقيل ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى }، قال ابن عباس أي لمن قال لا إله إلا اللّه، وقال مجاهد أي لمن رضى عنه، { وهم من خشيته مشفقون }، خائفون لا يأمنون مكره. ٢٩{ ومن يقل منهم إني إله من دونه }، قال قتادة عنى به إبليس حيث دعا إلى عبادة نفسه وأمر بطاعة نفسه، فإن أحداً من الملائكة لم يقل إني إله من دون اللّه { فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين }، الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها. ٣٠{ أولم ير الذين كفروا }، قرأ ابن كثير { ألم ير } [بغير واو]، وكذلك هو في مصاحفهم، معناه ألم يعلم الذين كفروا، { أن السموات والأرض كانتا رتقاً } قال ابن عباس رضي اللّه عنهما و عطاء و قتادة كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين { ففتقناهما }، فصلنا بينهما بالهواء، والرتق في اللغة السد، والفتق الشق. قال كعب خلق اللّه السموات والأرض بعضها على بعض، ثم خلق ريحاً فوسطها ففتحها بها. قال مجاهد و السدي كانت السماوات مرتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرض كانتا مرتقة طبقة واحدة فجعلها سبع أرضين. قال عكرمة و عطية كانت السماء رتقاً لا تمطر والأرض رتقاً لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات. وإنما قال { رتقاً } على التوحيد وهو من نعت السماوات والأرض لأنه مصدر وضع موضع الإسم، مثل الزور والصوم ونحوهما. { وجعلنا }، [وخلقنا] { من الماء كل شيء حي }، أي وأحيينا بالماء الذي ينزل من السماء كل شيء حي أي من الحيوان ويدخل فيه النبات والشجر، يعني أنه سبب لحياة كل شيء والمفسرون يقولون [يعني] أن كل شيء حي فهو مخلوق من الماء. ك قوله تعالى { واللّه خلق كل دابة من ماء } (النور-٤٥)، قال أبو العالية يعني النطفة، فإن قيل قد خلق اللّه بعض ما هو حي من غير الماء؟ قيل هذا على وجه التكثير، يعني أن أكثر الأحياء في الأرض مخلوقة من الماء أو بقاؤه بالماء، { أفلا يؤمنون }. ٣١{ وجعلنا في الأرض رواسي }، جبالاً ثوابت، { أن تميد بهم }، [يعني كي لا تميد بهم]، { وجعلنا فيها }، في الرواسي { فجاجاً }، طرقاً ومسالك، والفج الطريق الواسع بين الجبلين، أي جعلنا بين الجبال طرقاً حتى يهتدوا إلى مقاصدهم، { سبلاً }، تفسير للفجاج، { لعلهم يهتدون }. ٣٢{ وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً }، من أن تسقط، دليله قوله تعالى { ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه } (الحج-٦٥)، وقيل محفوظاً من الشياطين بالشهب، دليله قوله تعالى { وحفظناها من كل شيطان رجيم } (الحجر-١٧)، { وهم }، يعني الكفار، { عن آياتها }، ما خلق اللّه فيها من الشمس والقمر والنجوم وغيرهما، { معرضون }، لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. ٣٣{ وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون }، يجرون ويسيرون بسرعو كالسابح في الماء، وإنما قال { يسبحون }، ولم يقل يسبح على ما يقال لما لا يعقل، لأنه ذكر عنها فعل العقلاء من الجري والسبح، فذكر على ما يعقل. والفلك مدار النجوم الذي يضمها، والفلك في كلام العرب كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك، ومنه فلك المغزل. وقال الحسن الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل يريد أن الذي يجري فيه النجوم مستدير كاستدارة الطاحونة. وقال بعضهم الفلك السماء الذي فيه ذلك فيه ذلك الكوكب، فكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيه، وهو معنى قول قتادة . وقال الكلبي الفلك استدارة السماء. وقال آخرون الفلك موج مكفوف دون السماء يجري فيه الشمس والقمر والنجوم. ٣٤قوله عز وجل { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد }، دوام البقاء في الدنيا، { أفإن مت فهم الخالدون }، أي أفهم الخالدون إن مت؟ نزلت هذه الآية حين قالوا نتربص بمحمد ريب المنون. ٣٥{ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم }، نختبركم { بالشر والخير }، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، وقيل بما تحبون وما تكرهون، { فتنةً }، ابتلاءً لننظر كيف شكركم فيما تحبون، وصبركم فيما تكرهون، { وإلينا ترجعون }. ٣٦{ وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك }، [ما يتخذونك]، { إلا هزواً }، [سخرياً]، قال السدي نزلت في أبي جهل مر به النبي صلى اللّه عليه وسلم فضحك، وقال هذا نبي بني عبد مناف، { أهذا الذي }، أي يقول بعضهم لبعض أهذا الذي، { يذكر آلهتكم }، أي يعيبها، يقال فلان يذكر فلاناً أي يعيبه، وفلان أي يعيبه، وفلان يذكر اللّه أي يعظمه ويجله، { وهم بذكر الرحمن هم كافرون }، وذلك أنهم كانوا يقولون لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة، { وهم } الثانية صلة. ٣٧قوله عز وجل { خلق الإنسان من عجل }، اختلفوا فيه، فقال قوم معناه أن بنيته وخلقته من العجلة وعليها طبع، كما قال { وكان الإنسان عجولاً} (الإسراء ١١). قال سعيد بن جبير و السدي لما دخلت الروح في رأس آدم وعينه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخلت جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلاً إلى ثمار الجنة، فوقع فقيل { خلق الإنسان من عجل }، والمراد بالإنسان آدم وأورث أولاده العجلة، والعرب تقول للذي يكثر في الشيء خلقت منه، كما تقول العرب خلقت في لعب، وخلقت في غضب، يراد المبالغة في وصفه بذلك، يدل على هذا قوله تعالى { وكان الإنسان عجولا }. وقال قوم معناه خلق الإنسان يعني آدم من تعجيل في خلق اللّه إياه، لأن خلقه كان بعد [خلق] كل شيء في آخر النهار يوم الجمعة، فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس. قال مجاهد فلما أحيا الروح رأسه قال يارب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس. وقيل بسرعة وتعجيل على غير ترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة والعلقة والمضغة وغيرها. وقال قوم من عجل، أي من طين، قال الشاعر والنبع في الصخرة الصماء منبتة والنخل ينبت بين الماء والعجل { سأريكم آياتي فلا تستعجلون }، [نزل هذا في المشركين] كانوا يستعجلون العذاب ويقولون أمطر علينا حجارة من السماء، وقيل نزلت في النضر بن الحارث، فقال تعالى { سأريكم آياتي }، أي مواعيدي فلا تستعجلون، أي فلا تطلبوا العذاب من قبل وقته، فأراهم يوم بدر، وقيل كانوا يستعجلون القيامة. ٣٨{ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين }، ٣٩فقال تعالى { لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون }، لا يدفعون { عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم }، قيل ولا عن ظهورهم السياط، { ولا هم ينصرون }، يمنعون من العذاب، وجواب لو في قوله { لو يعلم الذين } محذوف معناه ولو علموا لما أقاموا على كفرهم، ولما استعجلوا، ولا قالوا متى هذا الوعد؟. ٤٠{ بل تأتيهم }، يعني الساعة { بغتة }، فجأة، { فتبهتهم }، أي تحيرهم، يقال فلان مبهوت أي متحير، { فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون }، يمهلون. ٤١{ ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق }، نزل، { بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون }، أي جزاء استهزائهم. ٤٢{ قل من يكلؤكم }، يحفظكم، { بالليل والنهار من الرحمن }، إن أنزل بكم عذابه، وقال ابن عباس من يمنعكم من عذاب الرحمن، { بل هم عن ذكر ربهم }، عن القرآن ومواعظ اللّه، { معرضون }. ٤٣{ أم لهم }، أم صلة فيه، وفي أمثاله { آلهة تمنعهم من دوننا }، فيه تقديم وتأخير، تقديره أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم، ثم وصف الآلهة بالضعف، فقال تعالى { لا يستطيعون نصر أنفسهم }، منع أنفسهم، فكيف ينصرون عابديهم، { ولا هم منا يصحبون }، قال ابن عباس يمنعون. وقال عطية عنه يجارون، تقول العرب أنا لك جار وصاحب من فلان، أي مجير منه. وقال مجاهد ينصرون. و قال قتادة ولا يصحبون من اللّه بخير. ٤٤{ بل متعنا هؤلاء }، الكفار، { وآباءهم }، في الدنيا أي أمهلناهم. وقيل أعطيناهم النعمة، { حتى طال عليهم العمر }، أي امتد بهم الزمان فاغتروا. { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها }، يعني ما ننقص من أطراف المشركين ونزيد في أطراف المؤمنين، يريد ظهور النبي صلى اللّه عليه وسلم وفتحه ديار الشرك أرضاً فأرضاً، { أفهم الغالبون }، أم نحن. ٤٥{ قل إنما أنذركم بالوحي }، أي أخوفكم بالقرآن، { ولا يسمع الصم الدعاء }، قرأ ابن عامر بالتاء وضمها وكسر الميم، ((الصم)) نصب، جعل الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم، وقرأ الآخرون بالياء وفتحها وفتح الميم، ((الصم)) رفع، { إذا ما ينذرون }، يخوفون. ٤٦{ ولئن مستهم }، أصابتهم، { نفحة }، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما طرف. وقيل قليل. قال ابن جريج نصيب، من قولهم نفح فلان لفلان من ماله أي أعطاه حظاً منه. وقيل ضربة من قولهم نفحت الدابة برجلها أي ضربت، { من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين }، أي بإهلاكنا إنا كنا مشركين، دعوا على أنفسهم بالويل بعدما أقروا بالشرك. ٤٧{ ونضع الموازين القسط }، أي ذوات القسط، والقسط العدل، { ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً }، لا ينقص من ثواب حسناته ولا يزاد على سيآته، وفي الأخبار إن الميزان له لسان وكفتان. روى أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب، فغشي عليه، ثم أفاق فقال يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ فقال يا داود إني [إذا] رضيت على عبدي ملأتها بتمرة. { وإن كان مثقال حبة من خردل }، قرأ أهل المدينة { مثقال } برفع اللام هاهنا وفي سورة لقمان، أي وإن وقع مثقال حبة، ونصبها الآخرون على معنى وإن كان ذلك الشيء مثقال حبة أي زنة حبة من خردل، { أتينا بها }، أحضرناها لنجازي بها. { وكفى بنا حاسبين }، قال السدي محصين، والحسب معناه العد، وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما عالمين حافظين، لأن من حسب شيئاً علمه وحفظه. ٤٨قوله عز وجل { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان }، يعني الكتاب المفق بين الحق والباطل، وهو التوراة. وقال ابن زيد الفرقان النصر على الأعداء، كما قال اللّه تعالى { وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان } (الأنفال ٤١)، يعني يوم بدر، لأنه قال { وضياءً }، أدخل الواو فيه أي آتينا موسى النصر والضياء وهو التوراة. ومن قال المراد بالفرقان التوراة، قال الواو في قوله { وضياءً }، زائدة مقحمة، معناه آتيناه التوراة ضياء، وقيل هو صفة أخرى للتوراة، { وذكراً }، تذكيراً، { للمتقين }. ٤٩{ الذين يخشون ربهم بالغيب }، أي يخافونه ولم يروه، { وهم من الساعة مشفقون }، خائفون. ٥٠{ وهذا ذكر مبارك أنزلناه }، يعني القرآن وهو ذكر لمن يذكر به، مبارك يتبرك به ويطلب منه الخير، { أفأنتم }، يا أهل مكة، { له منكرون }، جاحدون، وهذا استفهام توبيخ وتعيير. ٥١قوله عز وجل { ولقد آتينا إبراهيم رشده }، قال القرظي أي صلاحة، { من قبل }، أي من قبل موسى وهارون، وقال المفسرون رشده، أي هداه من قبل أي من قبل البلوغ، وهو حين حرج من السرب وهو صغير، يريد هديناه صغيراً كما قال تعالى ليحيى عليه السلام { وآتيناه الحكم صبياً } (مريم ١٢)، { وكنا به عالمين }، أنه أهل للّهداية والنبوة. ٥٢{ إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل }، أي الصور، يعني الأصنام { التي أنتم لها عاكفون }، أي على عبادتها مقيمون. ٥٣{ قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين }، فاقتدينا بهم. ٥٤{ قال } إبراهيم، { لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين }، خطأ بين بعبادتكم إياها. ٥٥{ قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين }، يعنون أجاد أنت فيما تقول أم [أنت من اللاعبين؟]. ٥٦{ قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن }، خلقهن، { وأنا على ذلكم من الشاهدين }، أي على أنه الإله الذي لا يستحق العبادة غيره. وقيل من الشاهدين على أنه خالق السموات والأرض. ٥٧{ وتاللّه لأكيدن أصنامكم }، لأمكرن بها، { بعد أن تولوا مدبرين }، أي بعد أن تدبروا منطلقين إلى عيدكم. قال مجاهد و قتادة إنما قال إبراهيم هذا سراً من قومه ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد فأفشاه عليه، وقال إنا سمعنا فتىً يذكرهم يقال له إبراهيم. قال السدي كان لهم في كل سنة مجمع وعيد وكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها، ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، فخرج معهم إبراهيم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه، وقال إني سقيم، يقول أشتكي رجلي فلما مضوا نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس، { وتاللّه لأكيدن أصنامكم } فسمعوها منه، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهن في بهو عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه، والأصنام بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاماً فوضعوه بين يدي الآلهة، وقالوا إذا رجعنا وقد بركت الآلهة في طعامنا أكلنا، فلما نظر إليهم إبراهيم وإلى ما بين أيديهم من الطعام، قال لهم علىطريق الاستهزاء ألا تأكلون؟، فلما لم تجبه قال ما لكم لا تنطقون؟. فراغ عليهم ضرباً باليمين، وجعل يكسرهن في يده حتى إذا لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه ثم خرج، فذلك قوله عز وجل. ٥٨{ فجعلهم جذاذاً }، قرأ الكسائي { جذاذاً } بكسر الجيم أي كسراً وقطعاً جمع جذيذ، وهو الهشيم مثل خفيف وخفاف، وقرأ الآخرون بضمه، مثل الحطام والرفات، { إلا كبيراً لهم }، فإنه لم يكسره ووضع الفأس على عنقه، وقيل ربطه بيده وكانت اثنين وسبعين صنماً بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من حديد ورصاص وسبة وخشب وحجر، وكان الصنم الكبير من الذهب مكللاً بالجواهر في عينيه ياقوتتان تتقدان. قوله تعالى { لعلهم إليه يرجعون }، قيل معناه لعلهم يرجعون إلى دينه وإلى ما يدعوهم إليه إذا علموا ضعف الآلهة وعجزها، وقيل لعلهم إليه يرجعون فيسألونه، فلما رجع القوم من عيدهم إلى بيت آلهتهم ورأوا أصنامهم جذاذاً. ٥٩{ قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين }، أي من المجرمين. ٦٠{ قالوا } يعني الذين سمعوا قول إبراهيم { وتاللّه لأكيدن أصنامكم }، { سمعنا فتىً يذكرهم }، يعيبهم ويسبهم، { يقال له إبراهيم }، هو الذي نظن صنع هذا، فبلغ ذلك نمرود الجبار وأشراف قومه. ٦١{ قالوا فاتوا به على أعين الناس }، قال نمرود يقول جيئوا ظاهراً بمرأى من الناس، { لعلهم يشهدون }، عليه أنه الذي فعله، كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، قال الحسن و قتادة و السدي ، وقال محمد بن إسحاق { لعلهم يشهدون } أي يحضرون عقابه وما يصنع به فلما أتوا به، ٦٢{ قالوا }، له، { أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم }؟. ٦٣{ قال }، إبراهيم، { بل فعله كبيرهم هذا }، غضب من أن تعبدوا معه هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرهن، وأراد بذلك إبراهيم إقامة الحجة عليهم، فذلك قوله { فاسألوهم إن كانوا ينطقون }، حتى يخبروا منفعل ذلك بهم. قال القتيبي معناه بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون على سبيل الشرط، فجعل النطق شرطاً للفعل، أي إن قدروا على النطق قدروا على الفعل، فأراهم عجزهم عن النطق، وفي [ضمنه أنا فعلت،. وروي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله { بل فعله } ويقول معناه [فعله] من فعله، والأول أصح لما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، اثنتان منهن في ذات اللّه، قوله } إني سقيم { (الصافات ٨٩)، وقوله } بل فعله كبيرهم {، وقوله لسارة (هذه أختي ) . وقيل في قوله } إني سقيم { }أي سأسقم، وقيل سقم القلب أي مغتم بضلالتكم، وقوله لسارة هذه أختي أي في الدين، وهذه التأويلات لنفي الكذب عن إبراهيم، والأولى هو الأول للحديث فيه، ويجوز أن يكون اللّه عز وجل أذن له في ذلك لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم، كما أذن ليوسف حتى أمر مناديه فقال لإخوته { أيتها العير إنكم لسارقون } (يوسف ٧٠). ولم يكونوا سرقوا. ٦٤{ فرجعوا إلى أنفسهم }، أي فتفكروا بقلوبهم، ورجعوا إلى عقولهم، { فقالوا }، ما نراه إلا كما قال { إنكم أنتم الظالمون }، يعني بعبادتكم من لا يتكلم. وقيل أنتم الظالمون هذا الرجل في سؤالكم إياه وهذه آلهتكم حاضرة فاسئلوها. ٦٥{ ثم نكسوا على رؤوسهم }، قال أهل التفسير أجرى اللّه الحق على لسانهم في القول الأول، ثم أدركتهم الشقاوة، فهو معنى قوله { ثم نكسوا على رؤوسهم } أي ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم، يقال نكس المريض إذا رجع إلى حاله الأول، وقالوا { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون }، فكيف نسألهم؟ فلما اتجهت الحجة لإبراهيم عليه السلام، ٦٦{ قال }، لهم، { أفتعبدون من دون اللّه ما لا ينفعكم شيئاً }، إن عبدتموه، { ولا يضركم }، إن تركتم عبادته. ٦٧{ أف لكم }، أي تباً وقذراً لكم، { ولما تعبدون من دون اللّه أفلا تعقلون }، أي أليس لكم عقل تعرفون هذا، فلما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب. ٦٨{ قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين }، أي إن كنتم ناصرين لها. قال ابن عمر رضي اللّه عنهما إن الذي قال هذا رجل من الأكراد. وقيل اسمه ((هيزن)) فخسف اللّه به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقيل قاله نمرود، فلما أجمع نمرود وقومه على إحراق إبراهيم عليه السلام، حبسوه في بيت، وبنوا له بنياناً كالحظيرة. وقيل بنوا أتوناً بقرية يقال لها ((كوثى)) ثم جمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب مدة حتى كان الرجل يمرض فيقول لئن عافاني اللّه لأجمعن حطباً لإبراهيم، وكانت المرأة تنذر في بعض ما تطلب لئن أصابته لتحبطن في نار إبراهيم، وكان الرجل يوصي بشراء الحطب وإلقائه فيه، وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها، فتلقيه فيه احتساباً في دينها. قال ابن إسحاق كانوا يجمعون الحطب شهراً فلما جمعوا ما أرادوا في كل ناحية من الحطب فاشتعلت النار واشتدت حتى أن كان الطير ليمر بها فيحترق من شدة وهجها، فأوقدوا عليها سبعة أيام. روي أنهم لم يعلموا كيف يلقونه فيها فجاء إبليس فعلمهم عمل المنجنيق فعملوا، ثم عمدوا إلى إبراهيم فرفعوه على رأس البنيان وقيدوه ثم وضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين صيحة واحدة، أي ربنا إبراهيم خليلك يلقى في النار وليس في أرضك أحد يعبدك غيره فآذن لنا في نصرته، فقال اللّه عز وجل إنه خليلي ليس لي خليل غيره، وأنا إلهه وليس له إله غيري، فإن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه، فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه فقال إن أردت أخمدت النار، وأتاه خازن الرياح فقال إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم لا حاجة لي إليكم حسبي اللّه ونعم الوكيل. وروي عن أبي كعب أن إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك، ثم رموا به في المنجنيق إلى النار، واستقبله جبريل فقال يا إبراهيم لك حاجة؟ فقال أما إليك فلا، قال جبريل فاسأل ربك، فقال إبراهيم حسبي من سؤالي علمه بحالي. قال كعب الأحبار جعل كل شيء يطفيء عنه النار إلا الوزغ فإنه كان ينفخ في النار. أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبيد اللّه بن موسى و ابن سلام عنه أخبرنا ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير عن سعيد بن المسيب عن أم شريك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم{ أمر بقتل الوزغ، وقال كان ينفخ النار على إبراهيم }. ٦٩قال تعالى { قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم }، قال ابن عباس لو لم يقل سلاماً لمات إبراهيم من بردها، ومن المعروف في الآثار أنه لم يبق يومئذ نار في الأرض إلا طفئت، فلم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم، ولو لم يقل وسلاماً على إبراهيم بقيت ذات برد أبداً. قال السدي فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس. قال كعب ما أحرقت النار في إبراهيم إلا وثاقه، قالوا وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام. قال المنهال بن عمرو قال إبراهيم ما كنت أياماً قط أنعم مني من الأيام التي كنت فيها في النار. قال ابن يسار وبعث اللّه عز وجل ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنب إبراهيم يؤنسه، قالوا وبعث اللّه جبريل بقميص من حرير الجنة وطنفسة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه، وقال جبريل يا إبراهيم إن ربك يقول أما علمت أن النار لا تضر أحبائي. ثم نظر نمرود وأشرف على إبراهيم من صرح له فرآه جالساً في روضة والملك قاعد إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب، فناداه يا إبراهيم كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى، يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال نعم، قال هل تخشى إن أقمت فيها أن تضرك؟ قال لا، قال فقم فاخرج منها، فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها، فلما خرج إليه قال له يا إبراهيم من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قاعداً إلى جنبك؟ قال ذلك ملك الظل أرسله إلي ربي ليؤنسني فيها، فقال نمرود يا إبراهيم إني مقرب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده إني ذابح له أربعة آلاف بقرة، فقال له إبراهيم إذاً لا يقبل اللّه منك ما كنت على دينك حتى تفارقه إلى ديني، فقال لا أستطيع ترك ملكي. ولكن سوف أذبحها له فذبحها له نمرود ثم كف عن إبراهيم، ومنعه اللّه منه. قال شعيب الجبائي ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة. ٧٠قوله عز وجل { وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين }، قيل معناه أنهم خسروا السعي والنفقة ولم يحصل لهم مرادهم. وقيل معناه إن اللّه عز وجل أرسل على نمرود وعلى قومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم، ودخلت واحدة في دماغه فأهلكته. ٧١قوله عز وجل { ونجيناه ولوطاً }سورة الأنبياء من نمرود وقومه من أرض العراق، { إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين }، يعني الشام بارك اللّه فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار، ومنها بعث أكثر الأنبياء. وقال أبي بن كعب سماها مباركة لأنه ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي هي ببيت المقدس. أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر، عن قتادة ، أن عمر بن الخطاب قال لكعب ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقبره، فقال كعب غني وجدت في كتاب اللّه المنزل يا أمير المؤمنين أن الشام كنز اللّه من أرضه، وبها كنزه من عباده. أخبرنا أبو سعيد عبد اللّه بن أحمد الطاهري سورة الأنبياء أخبرنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق الديري ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول { إنها ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم }. وقال محمد بن إسحاق استجاب لإبراهيم رجال قومه حين رأوا ما صنع اللّه به من جعل النار عليه برداً وسلاماً على خوف من نمرود وملئهم وآمن به لوط، وكان ابن أخيه وهو لوط بن هاران ابن تارخ، وهاران هو أخو إبراهيم وكان لهما أخ ثالث يقال له ناخور بن تارخ، وآمنت به أيضاً سارة وهي بنت عمه وهي سارة بنت هاران الأكبر، عم إبراهيم فخرج من كوثى من أرض العراق مهاجراً إلى ربه، ومعه لوط وسارة، كما قال اللّه تعالى { فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي } ( العنكبوت ٢٦)، فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه، حتى نزل حران فمكث بها ما شاء اللّه، ثم خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر، ثم خرج من مصر إلى الشام، فنزل السبع من أرض فلسطين، وهي برية الشام، ونزل لوط بالمؤتفكة وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة، وأقرب، فبعثه اللّه نبياً فذلك قوله تعالى { ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين }. ٧٢{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلةً }، قال مجاهد و عطاء معنى النافلة العطية وهما جميعاً منعطاء اللّه نافلة يعني عطاء، قال الحسن و الضحاك فضلاً. وعن ابن عباس وأبي بن كعب وأبي زيد و قتادة رضي اللّه عنهم النافلة هو يعقوب لأن اللّه عز وجل أعطاه إسحاق بدعائه حيث قال { هب لي من الصالحين } (الصافات ١٠٠)، وزاد يعقوب [ولد الولد]، والنافلة الزيادة، { وكلاً جعلنا صالحين }، يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب. ٧٣{ وجعلناهم أئمة }، يقتدى بهم في الخير، { يهدون بأمرنا }، يدعون الناس إلى ديننا، { وأوحينا إليهم فعل الخيرات }، العمل بالشرائع، { وإقام الصلاة }، يعني المحافظة عليها، { وإيتاء الزكاة }، إعطاءها، { وكانوا لنا عابدين }، موحدين. ٧٤{ ولوطاً آتيناه }، أي وآتينا لوطاً، وقيل واذكر لوطاً آتيناه، { حكماً }، يعني الفصل بين الخصوم بالحق، { وعلماً }، { ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث }، يعني سدوماً وكان أهلها يأتون الذكران في أدبارهم ويتضارطون في أنديتهم مع أشياء أخر، كانوا يعملون من المنكرات، { إنهم كانوا قوم سوء فاسقين }. ٧٥{ وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين }. ٧٦{ ونوحاً إذ نادى }، دعا، { من قبل }، أي من قبل إبراهيم ولوط، { فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم }، قال ابن عباس من الغرق وتكذيب قومه. وقيل لأنه كان أطول الأنبياء عمراً وأشدهم بلاء، والكرب أشد الغم. ٧٧{ ونصرناه }، منعناه، { من القوم الذين كذبوا بآياتنا }، أن يصلوا إليه بسوء. وقال أبو عبيدة أي على القوم، { إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين }. ٧٨قوله عز وجل { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث }، اختلفوا في الحرث، قال ابن مسعود وابن عباس رضي اللّه عنهم وأكثر المفسرين كان الحرث كرماً قد تدلت عناقيده. و قال قتادة كان زرعاً، { إذ نفشت فيه غنم القوم }، أي رعته ليلاً فأفسدته، والنفش الرعي بالليل والهمل بالنهار وهما الرعي بلا راع، { وكنا لحكمهم شاهدين }، أي كان ذلك بعلمنا ومرأى منا لا يخفى علينا علمه. قال الفراء جمع اثنين، فقال لحكمهم وهو يريد داود وسليمان لأن الإثنين جمع وهو مثل قوله { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } (النساء ١١)، وهو يريد أخوين. قال ابن عباس و قتادة و الزهري وذلك أن رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاب الزرع إن هذا انفلتت غنمه ليلاً ووقعت في حرثي فأفسدته فلم يبق منه شيء، فأعطاه داود رقاب الغنم بالحرث، فخرجا فمرا على سليمان فقال كيف قضى بينكما فأخبراه فقال سليمان لو وليت أمرهما لقضيت بغير هذا. وروى أنه قال غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر بذلك داود فدعاه فقال كيف تقضي؟ ويروى أنه قال بحق النبوة والأبوة إلا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين، قال ادفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه، فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى أهله، وأخذ صاحب الغنم غنمه، فقال داود القضاء ما قضيت وحكم بذلك. وقيل إن سليمان يوم حكم كان ابن إحدى عشرة سنة، وأما حكم الإسلام [في هذه المسألة] أن ما أفسدت الماشية المرسلة بالنهار من مال الغير فلا ضمان على ربها، وما أفسدت بالليل ضمنه ربها لأن في عرف الناس أن أصحاب الزرع يحفظونه بالنهار، والمواشي تسرح بالنهار وترد بالليل إلى المراح. أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك، عن ابن شهاب ، عن حرام بن سعد بن محيصة {أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضمانه على أهلها }، وذهب أصحاب الرأى إلى أن المالك إذا لم يكن معها فلا ضمان عليه فيما أتلفت ماشيته ليلاً كان أو نهاراً. ٧٩قوله عز وجل { ففهمناها سليمان }، أي علمناه القضية وألهمناها سليمان، { وكلاً }، يعني داود وسليمان، { آتينا حكماً وعلماً }، قال الحسن لولا هذه الآية لرايت الحكام قد هلكوا ولكن اللّه حمد بصوابه وأثنى على هذا باجتهاده. واختلف العلماء في أن حكم داود كان بالاجتهاد أم بالنصن وكذلك حكم سليمان. فقال بعضهم فعلاً بالاجتهاد. وقالوا يجوز الاجتهاد للأنبياء ليدركوا ثواب المجتهدين إلا أن داود أخطأ وأصاب سليمان. وقالوا يجوز الخطأ على الأنبياء إلا أنهم لا يقرون عليه، فأما العلماء فلهم الاجتهاد في الحوادث إذا لم يجدوا فيها نص كتاب أو سنة، وإذا أخطأوا فلا إثم عليهم، [فإنه موضوع عنهم]، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا عبد العزيز بن محمد ، عن يزيد بن عبد اللّه بن الهادي ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن بشر بن سعيد ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول { إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر }. وقال قوم إن داود وسليمان حكما بالوحي، وكان حكم سليمان ناسخاً لحكم داود، وهذا القائل يقول لا يجوز للأنبياء الحكم بالاجتهاد لأنهم مستغنون عن الاجتهاد بالوحي، وقالوا لا يجوز الخطأ على الأنبياء، واحتج من ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب بظاهر الآية وبالخبر حيث وعد الثواب للمجتهد على الخطأ، وهو قول أصحاب الرأي، وذهب جماعة إلى أنه ليس كل مجتهد مصيباً بل إذا اختلف اجتهاد مجتهدين في حادثة كان الحق مع واحد لا بعينه، ولو كان كل واحد مصيباً لم يكن للتقسيم معنى، وقوله عليه السلام { إذا اجتهد فأخطأ فله أجر }، لم يرد به أنه يؤجر على الخطأ بل يؤجر على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة، والإثم في الخطأ عنه موضوع إذا لم يأل جهده. أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرنا أبو الزناد ، عن عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال { كانت امرأتان معهما ابناهما فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت صاحبتها إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى إ نما ذهب بابنك فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان وأخبرتاه فقال ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك اللّه هو ابنها فقضى به للصغرى }. قوله عز وجل { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير }، أي وسخرنا الجبال والطير يسبحن مع داود إذا سبح، قال ابن عباس كان يفهم تسبيح الحجر والشجر. قال وهب كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح وكذلك الطير. و قال قتادة يسبحن أي يصلين معه إذا صلى. وقيل كان داود إذا فتر يسمعه اللّه تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه. { وكنا فاعلين }، يعني ما ذكر من التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير. ٨٠{ وعلمناه صنعة لبوس لكم }، والمراد باللبوس هنا الدروع لأنها تلبس، وهو في اللغة اسم لكل ما يلبس ويستعمل في الأسلحة كلها، وهو بمعنى الملبوس كالجلوس والركوب، قال قتادة أول من صنع الدروع وسردها وحلقها داود وكانت من قبل صفائح، والدرع يجمع الخفة والحصانة، { لتحصنكم }، لتجرزكم وتمنعكم، { من بأسكم }، أي حرب عدوكم، قال السدي من وقع السلاح فيكم، قرأ أبو جعفر وابن عامر وحفص عن عاصم و يعقوب { لتحصنكم } بالتاء، يعني الصنعة، وقرأ أبو بكر عن عاصم بالنون لقوله { وعلمناه }، وقرأ الآخرون بالياء، جعلوا الفعل للبوس، وقيل ليحصنكم اللّه عز وجل، { فهل أنتم شاكرون }، يقول لداود وأهل بيته. وقيل يقول لأهل مكة فهل أنتم شاكرون نعمي بطاعة الرسول. ٨١قوله عز وجل { ولسليمان الريح عاصفةً }، أي وسخرنا لسليمان الريح، وهي هواء متحرك، وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه، ويظهر للحس بحركته، والريح يذكر ويؤنث، عاصفة شديدة الهبوب، فإن قيل قد قال في موضع آخر تجري بأمره رخاءً والرخاء اللين؟ قيل كانت الريح تحت أمره إن أراد أن تشتد اشتدت، وإن أراد أن تلين لانت، { تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها }، يعني الشام، وذلك أنها كانت تجري لسليمان وأصحابه حيث شاء سليمان، ثم تعود إلى منزله بالشام، { وكنا بكل شيء }، علمناه، { عالمين }، بصحة التدبير فيه علمنا أن ما يعطى سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه عز وجل. قال وهب بن منبه كان سليمان عليه السلام إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره، وكان امرءاً غزاءً قل ما يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله، كان فيما يزعمون إذا أراد الغزو أمر بمعسكره فضرب بخشب من الأرض ثم نصب له على الخشب ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب، فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصفة من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته حتى إذا استقلت به أمر الرخاء فمر به شهراً في روحته وشهراً في غدوته إلى حيث أراد، وكانت تمر بعسكره الريح الرخاء وبالمزرعة فما تحركها، ولا تثير تراباً ولا تؤذي طائراً. قال وهب ذكر لي أن منزلاً بناحية دجلة مكتوب فيه [كتبه] بعض صحابة سليمان إما من الجن وإما من الإنس نحن نزلناه وما بنيناه مبنياً وجدناه، غدونا من اصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إن شاء اللّه فبائتون بالشام. قال مقاتل نسجت الشياطين لسليمان بساطاً فرسخاً في فرسخ ذهباً في إبريسم، وكان يوضع له منبر من الذهب في وسط البساط فيقعد عليه، وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة، يقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها لا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح. وعن سعيد بن جبير قال كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي فيجلس الإنس فيما يليه ثم يليهم الجن ثم تظلهم الطير ثم تحملهم الريح. وقال الحسن لما شغلت الخيل نبي اللّه سليمان عليه السلام حتى فاتته صلاة العصر غضب للّه عز وجل فعقر الخيل فأبدله اللّه مكانها خيراً منها، وأسرع الريح تجري بأمره كيف يشاء، فكان يغدو من إيلياء فيقيل باصطخر، ثم يروح منها فيكون رواحها بكابل. وقال ابن زيد كان له مركب من خشب وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه الجن والإنس، تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب، وإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به وبهم، يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر ويمسي عند قوم بينه وبينهم شهر، لا يدري القوم إلا وقد أظلهم معه الجيوش. [وروى أن سليمان سار من أرض العراق غادياً فقال بمدينة مرو، وصلى العصر بمدينة بلخ، تحمله وجنوده الريح، وتظلهم الطير، ثم سار من مدينة بلخ متخلالً بلاد الترك، ثم جاءهم إلى بلاد الصين يغدو على مسيرة شهر ويروح على مثل ذلك، ثم عطف يمنة عن مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى على أرض القندهار، وخرج منها إلى أرض مكران وكرمان، ثم جاوزها حتى أتى أرض فارس فنزلها أياماً وغدا منها فقال بكسكر ثم راح إلى الشام وكان مستقره بمدينة تدمر، وكان أمر الشياطين، قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر، وفي ذلك يقول النابغة ألا سليمان إذ قال المليك له قم في البرية فاحددها عن الفند وجيش الجن أني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد] ٨٢قوله عز وجل { ومن الشياطين }، أي وسخرنا له من الشياطين، { من يغوصون له }، أي يدخلون تحت الماء فيخرجون له من قعر البحر الجواهر، { ويعملون عملاً دون ذلك }، أي دون الغوص، وهو ما ذكر اللّه عز وجل { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل } (سبأ ١٣) الآية. { وكنا لهم حافظين }، حتى لا يخرجوا من أمره. وقال الزجاج معناه حفظناهم من أن يفسدوا ما عملوا. وفي القصة أن سليمان كان إذا بعث شيطاناً مع إنسان ليعمل له عملاً، قال له إذا فرغ من عمله قبل الليل أشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل، وكان من عادة الشياطين أنهم إذا فرغوا من العمل ولم يشتغلوا بعمل آخر خربوا ما عملوا وأفسدوه. ٨٣قوله عز وجل { وأيوب إذ نادى ربه }، أي دعا ربه، قال وهب بن منبه كان أيوب عليه السلام رجلاً من الروم وهو أيوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيسى بن إسحق بن إبراهيم، وكانت أمه من أولاد لوط بن هاران، وكان اللّه قد اصطفاه ونبأه وبسط عليه الدنيا، وكانت له البثنية من أرض الشام، كلها سهلها وجبلها، وكان له فيها من أصناف المال كله، من البقر والإبل والغنم والخيل والحمر ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدة والكثرة، وكان له خمسمائة فدان، يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد ومال، ويحمل آلة كل فدان أتان لكل أتان ولد من اثنين وثلاثو أربعة وخمسة، وفوق ذلك، وكان اللّه عز وجل أعطاه أهلاً وولداً من رجال ونساء، وكان براً تقياً رحيماً بالمساكين، يطعم المساكين ويكفل الأرامل والأيتام، ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل، وكان شاكراً لأنعم اللّه مؤدياً لحق اللّه، قد امتنع من عدو اللّه إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من الغرة والغفلة والتشاغل عن أمر اللّه بما هو فيه من الدنيا، وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وصدقوه رجل من أهل اليمن يقال له اليقن، ورجلان من أهل بلدة يقال لأحدهما يلدد والآخر صافر وكانوا كهولاً، وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات، وكان يقف فيهن حيث ما أراد حتى رفع اللّه عيسى فحجب عن أربع سموات، فلما بعث محمد صلى اللّه عليه وسلم حجب من الثلاث الباقية، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، وذلك حين ذكره اللّه وأثنى عليه، فأدركه البغي والحسد، فصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاً كان يقفه، فقال إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب فوجدته عبداً أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك، ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك، ولخرج من طاعتك، قال اللّه تعالى انطلق فقد سلطتك على ماله فانقض عدو اللّه إبليس حتى وقع إلى الأرض، ثم جمع عفاريت الجن ومردة الشياطين، وقال لهم ماذا عندكم من القوة؟ فإني قد سلطت على مال أيوب، وهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال، فقال عفريت من الشياطين أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من نار وأحرقت كل شيء آتي عليه، قال له إبليس فأت الإبل ورعاءها، فأتى الإبل حين وضعت رؤوسها وثبتت في مراعيها، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منها أحد إلا احترق فأحرق الإبل ورعاءها، حتى أتى على آخرها، ثم جاء عدو اللّه إبليس في صورة قبيحة على قعود إلى أيوب فوجده قائماً يصلي، فقال يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فأحرقتها ومن فيها غيري، فقال أيوب الحمد للّه الذي أعطاها وهو أخذها، وقديماً ما وطنت مالي ونفسي على الفناء، فقال إبليس فإن ربك أرسل عليها ناراً من السماء فاحترقت فتركت الناس مبهوتين يتعجبون منها، منهم من يقول ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان إلا في غرور، ومنهم من يقول لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئاً لمنع [وليه]، ومنهم من يقول بل هو الذي فعل ليشمت به عدوه ويفجع صديقه. قال أيوب الحمد للّه حين أعطاني وحين نزع مني، عرياناً خرجت من بطن أمي، وعرياناً أعود في التراب، وعرياناً أحشر إلى اللّه، ليس لك أن تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته منك، اللّه أولى بك وبما أعطاك، ولو علم اللّه فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيداً، ولكنه علم منك شراً فأخرك، فرجع إبليس إلى أصحابه [خائباً] خاسئاً ذليلاً فقال لهم ماذا عندكم من القوة؟ فإني لم أكلم قلبه، قال عفريت عندي من القوة ما شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت مهجة نفسه، قال إبليس فأتي الغنم ورعاتها، فانطلق حتى توسطها ثم صاح صيحة فتجثمت أمواتاً عن آخرها ومات رعاؤها، ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب وهو يصلي، فقال له مثل القول الأول، فرد عليه أيوب مثل الرد الأول ثم رجع إبليس إلى أصحابه فقال ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب، فقال عفريت عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحاً عاصفاً تنسف كل شيء تأتي عليه، قال فأت الفدادين والحرث فانطلق ولم يشعروا حتى هبت ريح عاصف، فنسفت كل شيء من ذلك حتى كأنه لم يكن، ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الحرث إلى أيوب وهو قائم يصلي، فقال له مثل القول الأول، فرد عليه أيوب مثل رده الأول كلما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد اللّه وأحسن الثناء عليه، ورضي منه بالقضاء، ووطن نفسه بالصبر على البلاء، حتى لم يبق له مال. فلما رأى إبليس أنه قد أفني ماله صعد [إلى السماء] فقال إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بولده فأنت معطيه المال فهل مسلطي على ولده، فإنها المصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال، قال اللّه تعالى انطلق فقد سلطتك على ولده، فانقض عدو اللّه حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده، ثم جعل يناطح جدره بعضها ببعض ويرميهم بالخشب والجندل، حتى إذا مثل بهم كل مثلة رفع القصر فقلبه فصاروا منكسين، وانطلق إلى أيوب متمثلاً والجندل، حتى إذا مثل بهم كل مثلة رفع القصر فقلبه فصاروا منكسين، وانطلق إلى أيوب متمثلاً بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مخدوش الوجه يسيل دمه ودماغه فأخبره، وقال لو رأيت بنيك كيف عذبوا وقلبوا فكانوا منكسين على رؤوسهم تسيل دماؤهم ودماغهم، ولو رأيت كيف شقت بطونهم وتناثرت أمعاؤهم لقطع قلبك، فلم يزل يقول هذا ونحوه حتى رق أيوب فبكي وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه، وقال ليت أمي لم تلدني، فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعاً بالذي كان من جزع أيوب مسروراً به، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر، وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته فسبقت توبته إلى اللّه وهو أعلم، فوقف إبليس ذليلاً فقال يا إلهي إنما هون على أيوب المال والولد أنه يرى منك أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد فهل أنت مسلطي على جسده؟ فقال اللّه عز وجل انطلق فقد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه، وكان اللّه عز وجل أعلم به لم يسلطه عليه إلا رحمة له ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين، وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم، ليتأسوا به في الصبر ورجاءً للثواب، فانقض عدو اللّه سريعاً فوجد أيوب ساجداً فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل وجوهه فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها [جميع] جسده، فخرج من قرنه إلى قدمه تآليل مثل آليات الغنم فيه حكة فحك بأظفاره حتى سقطت كلها ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة، فلم يزل يحكها حتى نغل لحمه، وتقطع وتغير وأنتن، وأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة، وجعلوا له عريشاً، فرفضه خلق اللّه كلهم غير امرأته، وهي رحمة بنت أفراثيم بن يوسف بن يعقوب كانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه، فلما رأى الثلاثة من أصحابه وهم يقن ويلدد وصافر ما ابتلاه اللّه به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه، فلما طال به البلاء انطلقوا إليه فبكتوه ولاموه وقالوا له تب إلى اللّه منالذنب الذي عوقبت به، قال وحضره معهم فتى حديث السن قد آمن به وصدقه، فقال لهم إنكم تكلمتم أيها الكهول، وكنتم أحق بالكلام مني لأسنانكم، ولكن قد تركتم من القول أحسن من الذي قلتم، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمم أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم؟ ألم تعلموا أن أيوب نبي اللّه وخيرته من خلقه وصفوته من أهل الأرض إلى يومكم هذا، ثم لم تعلموا ولم يطلعكم اللّه من أمره على أنه قد سخط عليه شيئاً من أمره منذ آتاه اللّه ما آتاه إلى يومكم هذا، ولا على أنه نزع منه شيئاً من الكرامة التي أكرمه بها، ولا أن أيوب قال على اللّه غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن اللّه يبتلي المؤمنين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس بلاؤه لأولئك بدليل على سخطه عليهم ولا لهوانه لهم، ولكنها كرامة وخيرة لهم، ولو كان أيوب ليس من اللّه بهذه المنزلة إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحليم أن [يعذل] أخاه عند البلاء، ولا يعيره بالمصيبة، ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين، ولكنه يرحمه ويبكي معه، ويستغفر له، ويحزن لحزنه، ويدله على مراشد أمره، وليس بحليم ولا رشيد من جهل هذا، فاللّه اللّه أيها الكهول وقد كان في عظمة اللّه وجلاله، وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم، ويكسر قلوبكم، ألم تعلموا أن للّه عباداً أسكتتهم خشيته من غير عي ولا بكم، وأنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون باللّه، ولكنهم إذا ذكروا عظمة اللّه انقطعت ألسنتهم، واقشعرت جلودهم، وانكسرت قلوبهم، وطاشت عقولهم إعظاماً وإجلالاً للّه عز وجل، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى اللّه عز وجل بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأبرار برءاء، ومع المقصرين والمفرطين، وأنهم لأكياس أقوياء، فقال أيوب إن اللّه عز وجل يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى نبتت في القلب يظهرها اللّه على اللسان، وليست تكون الحكمة من قبل السن والشيبة ولا طول التجربة، وإذا جعل اللّه العبد حكيماً في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء وهم يرون من اللّه سبحانه عليه نور الكرامة، ثم أعرض عنهم أيوب وأقبل على ربه مستغيثاً به متضرعاً إليه، فقال رب لأي شيء خلقتني ليتني إذ كرهتني لم تخلقني يا ليتني قد عرفت الذنب الذي أذنبت، والعمل الذي عملت، فصرفت وجهك الكريم عني، لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي الكرام، فالموت كان أجمل بي ألم أكن للغريب داراً، وللمسكين قراراً، ولليتيم ولياً، وللأرملة قيماً، إلهي أنا عبدك إن أحسنت فالمن لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني عرضاً، وللفتنة نصباً، وقد وقع على بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله، فكيف يحمله ضعفي وإن قضاءك هو الذي أذلني، وإن سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي بما كان ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني فهو يراني ولا أراه ويسمعني ولا أسمعه، لا نظر إلي فرحمني، ولا دنا مني ولا أدناني فأدلي بعذري وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي، فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب أليم، ثم نودي يا أيوب إن اللّه عز وجل يقول ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريباً قم فأدل بعذرك، وتكلم ببراءتك، وخاصم عن نفسك، واشدد إزرك، وقم مقام جبار يخاصم جباراً إن استطعت، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي، لقد منتك نفسك يا أيوب أمراً ما تبلغ بمثل قوتك، أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها، هل كنت معي تمد بأطرافها؟ هل علمت بأي مقدار قدرتها أم على أي شيء وضعت أكنافها؟ أبطاعتك حمل الماء الأرض أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاءً؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفاً في الهواء لا تعلق بسبب من فوقها ولا يقلها دعم من تحتها؟ هل تبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسير نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ أين أنت مني يوم نبعث الأنهار وسكرت البحار، أسلطانك حبس أمواج البحار على حدودها؟ أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال؟ هل تدري من أي شيء أرسيتها؟ وبأي مثقال وزنتها؟ أم هل لك من ذراع تطيق حملها؟ أم هل تدري من أين الماء الذي أنزلت من السماء؟ أم هل تدري من أي شيء أنشيء السحاب؟ أم هل تدري أين خزائن الثلج؟ أم أين جبال البرد أن أين خزانة الليل بالنهار [وخزانة النهار بالليل]؟ وأين خزانة الريح؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار؟ ومن جعل العقول في أجواف الرجال؟ ومن شق الأسماع والأبصار؟ ومن ذلت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته؟ وقسم الأرزاق بحكمته؟ في كلام كثير من آثار قدرته ذكرها لأيوب، فقال أيوب صغر شأني وكل لساني وعقلي ورائي وضعفت قوتي عن هذا الأمر الذي تعرض لي يا إلهي، قد علمت أن كل الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من ذلك وأعجب لو شئت عملت، لا يعجزك شيء ولا يخفى عليك خافية إذ لقيني البلاء، يا إلهي فتكلمت ولم أملك لساني وكان البلا ء هو الذي أنطقني، فليت الأرض انشقت لي فذهبت فيها ولم أتكلم بشيء يسخط ربي، وليتني مت بغمي في أشد بلائي قبل ذلك، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني، وسكت حين سكت لترحمني، كلمة زلت مني فلن أعود، قد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني، وألصقت بالتراب خدي، أعوذ بك اليوم منك واستجيرك من جهد البلاء فأجرني، وأستغيث بك من عقابك فأغثني، وأستعين بك على أمري فأعني، وأتوكل عليك فاكفني، وأعتصم بك فاعصمني، وأستغفرك فاغفر لي، فلن أعود لشيء تكرهه مني، قال اللّه تعالى يا أيوب نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي فقد غفرت لك، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك آية، وتكون عبرة لأهل البلاء وعزاء للصابرين، فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك وقرب عن أصحابك قرباناً فاستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك، فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها فأذهب اللّه عنه كل ما كان به من البلاء، ثم خرج فجلس فأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه فلم تجده فقامت كالوالهة متلددة، ثم قالت يا عبد اللّه هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان هاهنا؟ قال لها هل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت نعم ومالي لا أعرفه، فتبسم وقال أنا هو فعرفته بضحكه فاعتنقته. قال ابن عباس فوالذي نفس عبد اللّه بيده ما فارقته من عناقه حتى مر بهما كل مال لهما وولد، فذلك قوله تعالى { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر }، واختلفوا في وقت ندائه والسبب الذي قال لأجله أني مسني الضر، وفي مدة بلائه. روى ابن شهاب عن أنس يرفعه أن أيوب لبث في بلائه ثماني عشرة سنة. وقال وهب لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين لم يزد يوماً. وقال كعب كان أيوب في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبع أيام. وقال الحسن مكث أيوب مطروحاً على كناسة في مزبلة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهراً تختلف فيه الدواب لا يقربه أحد غير رحمة صبرت معه بصدق وتأتيه بطعام وتحمد اللّه معه إذا حمد، وأيوب على ذلك لا يفتر عن ذكر اللّه والصبر على ابتلائه، فصرخ إبليس صرخة جمع فيها حنوده من أقطار الأرض، فلما اجتمعوا إليه قالوا ما حزنك؟ قال أعياني هذا العبد الذي لم أدع له مالاً ولا ولداً فلم يزد إلا صبراً، ثم سلطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة لا يقربه إلا امرأته، فاستعنت بكم لتعينوني عليه، فقالوا له أين مكرك الذي أهلكت به من مضى؟ قال بطل ذلك كله في أيوب فأشيروا على قالوا نشير عليك، من أين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال من قبل امرأته قالوا فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها وليس لأحد أن يقربه غيرها، قال أصبتم، فانطلق حتى أتى امرأته وهي تصدق فتمثل لها في صورة رجل فقال أين بعلك يا أمة اللّه؟ قالت هو ذاك يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده، فلما سمعها طمع أن تكون كلمة جزع فوسوس إليها وذكرها ما كانت فيه من النعم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه وما هو فيه من الضر وأن ذلك لا ينقطع عنهم أبداً، قال الحسن فصرخت فلما صرخت علم أن قد جزعت فأتاها بسخلة وقال ليذبح هذه لي أيوب ويبرأ، فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك، أين المال، أين الولد، أين الصديق، أين لونك الحسن، أين جسمك [الحسن]، اذبح هذه السخلة واسترح، قال أيوب أتاك عدو اللّه فنفخ فيك ويلك أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والصحة من أعطانيه؟ قالت اللّه، قال فكم متعنا به؟ قالت ثمانين سنة، قال فمنذ مك ابتلانا؟ قالت منذ سبع سنين وأشهر، قال ويلك ما أنصفت ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة، واللّه لئن شفاني اللّه لأجلدنك مائة جلدة آمرتيني أن أذبح لغير اللّه طعامك وشرابك الذي أتيتني به علي حرام [أو حرام علي] أن أذوق شيئاً مما تأتيني به بعد إذ قلت لي هذا، فاغربي عني، فلا أراك فطردها فذهبت، فلما نظر أيوب وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خر ساجداً وقال رب { أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين }، فقيل له ارفع رأسك فقد استجيب لك اركض برجلك فركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها فلم يبق عليه من دائه شيء ظاهر إلا سقط وعاد إليه شبابه وجماله أحسن ما كان، ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج فقام صحيحاً وكسي حلة، قال فجعل يلتفت فلا يرى شيئاً مما كان له من أهل ومال إل وقد أضعفه اللّه حتى واللّه ذكر لنا أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب فجعل يضمه بيده، فأوحى اللّه إليه يا أيوب ألم أغنك؟ قال بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها، قال فخرج حتى جلس على مكان مشرف، ثم إن امرأته قالت أرأيتك إن كان طردني إلى من أكله؟ أدعه يموت جوعاً ويضيع فتأكله السباع لأرجعن إليه فلا كناسة ترى ولا تلك الحالة التي كانت، وإذا الأمور قد تغيرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وذلك بعين أيوب، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأله عنه، فدعاها أيوب فقال ما تريدين يا أمة اللّه؟ فبكت وقالت أردت ذلك المبتلي الذي كان منبوذاً على الكناسة لا أدري أضاع أم ما فعل، فقال أيوب ما كان منك فبكت، وقالت بعلي، قال فهل تعرفينه إذا رأيتيه؟ فقالت هل يخفى على أحد رآه؟ ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه، ثم قالت أما أنه أشبه خلق اللّه بك إذ كان صحيحاً، قال فإني أنا أيوب الذي أمرتني أن أذبح لإبليس، وإني أطعت اللّه عصيت الشيطان ودعوت اللّه سبحانه فرد على ما ترين. وقال وهب لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين فلما غلب أيوب إبليس ولم يستطع منه شيئاً اعترض امرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس [من] مراكب الناس له عظم وبهاء وكمال، فقال لها أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى؟ قالت نعم، قال فهل تعرفيني؟ قالت لا قال أنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت لأنه عبد. إله السماء وتركني فأغضبني، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان لكما من مال وولد، فإنه عندي ثم أراها إياهم ببطن الوادي الذي لقيها فيه، قال وهب وقد سمعت أنه إنما قال لها لو أن صاحبك ولم يسم اللّه عليه لعوفي مما به من البلاء، واللّه أعلم. وفي بعض الكتب إن إبليس قال لها اسجدي لي سجدة حتى أرد عليك المال والأولاد وأعافي زوجك، فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها [وما أراها] قال لقد أتاك عدو اللّه ليفتنك عن دينك، ثمك أقسم [إن عافاهاللّه] ليضربنها مائة جلدة، وقال عند ذلك مسني الضر من طمع إبليس في سجود حرمتي له، ودعائه إياها وإياي إلى الكفر، ثم إن اللّه عز وجل رحم [رحمة] امرأة أيوب بصبرها معه على البلاء، وخفف عليها وأراد أن يبر يمين أيوب، فأمره أن يأخذ ضغثاً يشتمل على مائة عود صغار فيضربها به ضربة واحدة كما قال اللّه تعالى { وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث } (ص ٤٤)، وروى أن إبليس اتخذ تابوتاً وجعل فيه أدوية وقعد على طريق امرأته يداوي الناس فمرت به امرأة أيوب فقال [ياشيخ] إن لي مريضاً أفتداويه؟ قال نعم [واللّه] لا أريد شيئاً إلا أن يقول إذا شفيته أنت شفيتني، فذكرت ذلك لأيوب فقال هو إبليس قد خدعك، وحلف إن شفاه اللّه أن يضربها مائة جلدة. وقا ل وهب وغيره كانت امرأة أيوب تعمل للناس وتجيئه بقوته، فلما طال عليه البلاء وسئمها الناس فلم يستعملها أحد التمست له يوماً من الأيام ما تطعمه فما وجدت شيئاً فجزت قرناً من رأسها، فباعته رغيف فأتته به، فقال لها أين قرنك؟ فأخبرته فحينئذ قال { مسني الضر }. وقال قوم إنما قال ذلك حين قصدت الدود إلى قلبه ولسانه فخشي أن يفتر عن الذكر والفكر. وقال حبيب بن أبي ثابت لم يدع اللّه بالكشف عنه حتى ظهرت له ثلاثة أشياء أحدها قدم عليه صديقان حين بلغهما خبره فجاءا إليه ولم يبق له إلا عيناه ورأيا أمراً عظيماً فقالا لو كان لك عند اللّه منزلة ما أصابك هذا. والثاني أن امرأته طلبت طعاماً فلم تجد ما تطعمه فباعت ذؤابتها وحملت إليه طعاماً. والثالث قول إبليس إني أداويه على أن يقول أنت شفيتني. وقيل إن إبليس وسوس إليه أن امرأتك زنت فقطعت ذؤابتها فحينئذ عيل صبره، فدعا وحلف ليضربنها مائة جلدة. وقيل معناه مسني الضر من شماتة الأعداء. حتى روى أنه قيل له [بعدما عوفي] ما كان أشد عليك في بلائك قال شماتة الأعداء. وقيل قال ذلك حين وقعت دودة من فخذه فردها إلى موضعها. وقال كلي قد جعلني اللّه طعامك فعضته عضة زاد ألمها على جميع ما قاسى من عض الديدان. فإن قيل إن اللّه سماه صابراً وقد أظهر الشكوى والجزع، بقوله { أني مسني الضر }، و { مسني الشيطان بنصب } (ص ٤١)، قيل ليس هذا شكاية إنما دعاء بدليل قوله تعالى { فاستجبنا له }، على أن الجزع إنما هو في الشكوى إلى الخلق فأما الشكوى إلى اللّه عز وجل فلا يكون جزعاً ولا ترك صبر كما قال يعقوب { إنما أشكو بثي وحزني إلى اللّه } (يوسف ٨٦). قال سفيان بن عيينة وكذلك من أظهر الشكوى إلى الناس وهو راض بقضاء اللّه لا يكون ذلك جزعاً كما روي {أن جبريل دخل على النبي صلى اللّه عليه وسلم في مرضه فقال كيف تجدك؟ قال أجدني مغموماً وأجدني مكروباً }. { وقال لعائشة حين قالت وارأساه، بل أنا وارأساه }. ٨٤قوله عز وجل { فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر }، وذلك أنه قال اركض برجلك فركض برجله فنبعت عين [ماء]، فأمره أن يغتسل منها ففعل فذهب كل داء كان بظاهره، ثم مشى أربعين خطوة فأمره أن يضرب برجله الأرض مرة أخرى ففعل فنبعت عين ماء بارد، فأمره فشرب منها فذهب كل ذاء كان بباطنه كأصح ما يكون فنبعت عين ماء بارد، فأمره فشرب منها فذهب كل داء كان بباطنه فصار كأصح ما يكون من الرجال وأجملهم. { وآتيناه أهله ومثلهم معهم }، واختلفوا في ذلك، فقال ابن مسعود و قتادة ، وابن عباس، و الحسن ، وأكثر المفسرين رد اللّه عز وجل إليه أهله وأولاده بأعيانهم أحياهم اللّه له وأعطاه مثلهم معهم، وهو ظاهر القرآن. قال الحسن آتاه اللّه المثل من نسل ماله الذي رده اللّه [إليه وأهله]، يدل عليه ما روى الضحاك وابن عباس أن اللّه عز وجل رد إلى المرأة شبابها فولدت له ستة وعشرين ذكراً. قال وهب كان له سبع بنات وثلاثة بنين. وقال ابن يسار كان له سبع بنين وسبع بنات. وروى عن أنس يرفعه أنه كان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث اللّه عز وجل سحابتين فأفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاض. وروى أن اللّه تعالى بعث إليه ملكاً وقال إن ربك يقرئك السلام بصبرك فأخرج إلى أندرك، فخرج إليه فأرسل اللّه عليه جراداً من ذهب فطارت واحدة فابعها وردها إلى أندره، فقال له الملك أما يكفيك ما في أندرك؟ فقال هذه بركة من بركات ربي ولا أشبع من بركته. أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أخبرنا محمد بن الحسين القطان ، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن همام بن منبه ، قال أخبرنا أبو هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { بينا أيوب يغتسل عرياناً خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربه [يا أيوب] ألم أكن أغنيك عما ترى؟ قال بلى يارب وعزتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك }. وقال قوم آتى اللّه أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا فأما الذين هلكوا فإنهم لم يردوا عليه في الدنيا. قال عكرمة قيل لأيوب إن أهلك لك في الآخرة فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا وإن شئت كانوا لك في الآخرة، وآتيناك مثلهم في الدنيا فقال يكونون لي في الآخرة، وأوتى مثلهم في الدنيا، فعلى هذا يكون معنى الآية وآتيناه أهله في الآخرة ومثلهم معهم في الدنيا وأراد بالأهل الأولاد، { رحمة من عندنا }، أي نعمة من عندنا، { وذكرى للعابدين }، أي عظة وعبرة لهم. ٨٥قوله عز وجل { وإسماعيل }، يعني ابن إبراهيم، { وإدريس }، وهو أخنوخ، { وذا الكفل كل من الصابرين }، على أمر اللّه، واختلفوا في ذا الكفل. قال عطاء إن نبياً من أنبياء بني إسرائيل أوحى اللّه إليه أني أريد قبض روحك فاعرض ملكك على بني إسرائيل فمن تكفل لك أنه يصلي بالليل لا يفتر، ويصوم بالنهار ولا يفطر، ويقضي بين الناس ولا يغضب، فادفع ملكك إليه ففعل ذلك، فقام شاب فقال أنا أتكفل لك بهذا فتكفل، ووفى به فشكر اللّه له ونبأه فسمي ذا الكفل. وقال مجاهد لما كبر اليسع قال [لو] أني أستخلف رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل، قال فجمع الناس فقال من يتقبل مني بثلاث أستخلفه يصوم النهار ويقوم الليل، ولا يغضب، فقام رجل تزدريه العين، فقال أنا فرده ذلك اليوم، وقال مثلها اليوم الآخر فسكت الناس، وقام ذلك الرجل فقال أنا، فاستخلفه فأتاه إبليس في صورة شيخ ضعيف حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام بالليل [والنهار] إلا تلك النومة فدق الباب، فقال من هذا؟ قال شيخ كبير مظلوم، فقام ففتح الباب فقال إن بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني، وفعلوا وفعلوا فجعل يطول حتى حضر الرواح، وذهبت القائلة، فقال إذا رحت فائتني [فإني] آخذ حقك، فانطلق وراح، فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ فلم يره، فقام يبتغيه فلما كان الغد جلس يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه أتاه فدق الباب، فقال من هذا؟ فقال الشيخ المظلوم ففتح [له الباب] فقال ألم أقل لك إذا قعدت فائتني؟ فقال إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك وإذا قمت جحدوني، قال فانطلق فإذا رحت فائتني، ففاتته القائلة وراح فجعل ينظر فلا يراه فشق عليه النعاس، فقال لبعض أهله لا تدعن أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام فإنه قد شق علي النوم، فلما كان تلك الساعة جاء فلم يأذن له الرجل، فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها، فإذا هو في البيت يدق الباب من داخل، فاستيقظ فقال يافلان ألم آمرك =، فقال أما من قبلي فلم تؤت فانظر من أين أتيت، فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه، وإذا الرجل معه في البيت، فقال أتنام والخصوم ببابك؟ فعرفه فقال أعدو اللّه؟ قال نعم أعييتني ففعلت ما ترى لأغضبك فعصمك اللّه، فسمي ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به. وقيل إن إبليس جاءه وقال إن لي غريماً يمطلني فأحب أن تقوم معي وتستوفي حقي منه، فانطلق معه حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب. وروى أنه اعتذر إليه. وقال إن صاحبي هرب. وقيل إن ذا الكفل رجل كفل أن يصلي كل ليلة مائة ركعة إلى أن يقبضه اللّه فوفى به. واختلفوا في أنه كان نبياً، فقال بعضهم كان نبياً. وقيل هو إلياس. وقيل زكريا. وقال أبو موسى لم يكن نبياً ولكن عبداً صالحاً. ٨٦{ وأدخلناهم في رحمتنا }، يعني ما أنعم اللّه عليهم من النبوة وصيرهم إليه في الجنة من الثواب، { إنهم من الصالحين }. ٨٧قوله عز وجل { وذا النون }، أي اذكر صاحب الحوت وهو يونس بن متى، { إذ ذهب مغاضباً }، اختلفوا في معناه فقال الضحاك مغاضباً لقومه، وهو رواية العوفي وغيره عن ابن عباس، قال كان يونس وقومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك فسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطاً ونصف، فأوحى اللّه إلى شعياء النبي أن سر إلى حزقيا الملك، وقل له حتى يوجه نبياً قوياً فإني ألقي [الرعب] في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل، فقال له الملك فمن ترى، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء، فقال يونس إنه قوي أمين فدعا الملك يونس فأمره أن يخرج، فقال له يونس هل أمرك اللّه بإخراجي. قال لا، قال فهل سماني لك؟ قال لا، قال فهاهنا غيري أنبياء أقوياء، فألحوا عليه فخرج من بينهم مغاضباً للنبي وللملك، ولقومه فأتى بحر الروم فركبه. وقال عروة بن الزبير و سعيد بن جبير وجماعة ذهب عن قومه مغاضباً لربه إذ كشف عن قومه العذاب بعدما أوعدهم، وكره أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما أوعدهم، واستحيا منهم، ولم يعلم السبب الذي رفع العذاب، وكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده، وأنه يسمى كذاباً لا كراهية لحكم اللّه تعالى. وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أن يقتلوا من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد، فغضب، والمغاضبة ها هنا كالمفاعلة التي تكون من واحد، كالمسافرة والمعاقبة، فمعنى قوله مغاضباً أي غضبان. وقال الحسن إنما غاضب ربه عز وجل من أجل أنه أمره بالمسير إلى قومه لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه، فسأل ربه أن ينظره ليتأهب للشخوص إليهم، فقيل له إن الأمر أسرع من ذلك حتى سأل أن ينظر إلى أن يأخذ نعلاً يلبسها فلم ينظر، وكان في خلقه ضيق [فذهب مغاضباً]. وعن ابن عباس، فأتى جبريل يونس فقال انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم، قال ألتمس دابة قال الأمر أعجل من ذلك، فغضب فانطلق إلى السفينة. وقال وهب بن منبه إن يونس بن متى كان عبداً صالحاً وكان في خلقه ضيق، فلما حمل عليه أثقال النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل فقذفها من يده، وخرج هارباً منها، فلذلك أخرجه اللّه من أوزلي العزم من الرسل مقال لنبيه [محمد صلى اللّه عليه وسلم] { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } (الأحقاف ٣٥)، وقال { ولا تكن كصاحب الحوت } (القلم ٤٨). قوله عز وجل { فظن أن لن نقدر عليه }، أي لن نقضي بالعقوبة، قاله مجاهد و قتادة و الضحاك و الكلبي ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس يقال قدر اللّه الشيء تقديراً وقدر يقدر قدراً بمعنى واحد، ومنه قوله { نحن قدرنا بينكم الموت } (الواقعة ٦٠) في قراءة من قرأها بالتخفيف، دليل هذا التأويل قراءة عمر بن عبد العزيز و الزهري { فظن أن لن نقدر عليه }، بالتشديد، وقال عطاء وكثير من العلماء معناه فظن أن لن نضيق عليه الحبس، من قوله تعالى { اللّه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } (الرعد ٢٦)، أي يضيق. وقال ابن زيد هو استفهام معناه أفظن أنه يعجز ربه، فلا يقدر عليه. وقرأ يعقوب يقدر [بضم الياء] على المجهول خفيف. وعن الحسن قال بلغني أن يونس لما أصاب الذنب انطلق مغاضباً لربه واستزله الشيطان حتى ظن أن لن نقدر عليه، وكان له سلف وعبادة فأبي اللّه أن يدعه للشيطان، فقذفه في بطن الحوت فمكث فيه أربعين من بين يوم وليلة. وقال عطاء سبعة أيام [ وقيل ثلاثة أيام]. وقيل إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة. وقيل بلغ به تخوم الأرض السابعة فتاب إلى ربه تعالى في بطن الحوت، وراجع نفسه فقال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، حين عصيتك وما صنعت من شيء فلن أعبد غيرك فأخرجه اللّه من بطن الحوت برحمته، والتأويلات المتقدمة أولى بحال الأنبياء أنه ذهب مغاضباً لقومه أو للملك، { فنادى في الظلمات }، أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطت الحوت، { أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين }. وروي عن أبي هريرة مرفوعاً أوحى اللّه إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً، فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر، فلما انتهى به إلى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه ما هذا؟ فأوحى اللّه إليه أن هذا تسبيح دواب البحر، قال فسبح وهو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا ياربنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة، وفي رواية صوتاً معروفاً من مكان مجهول، فقال ذاك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت، فقالوا العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال نعم فشفعوا له، عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل، كما قال اللّه تعالى { فنبذناه بالعراء وهو سقيم } (الصافات ١٤٥). ٨٨فذلك قوله تعالى { فاستجبنا له }، يعني أجبناه، { ونجيناه من الغم }، من تلك الظلمات، { وكذلك ننجي المؤمنين }، من كل كرب إذا دعونا واستغاثوا بنا، قرأ ابن عامر وعاصم برواية أبي بكر { نجي } بنون واحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء لأنها مكتوبة في المصحف بنون واحدة، واختلف النحاة في هذه القراءة، فذهب أكثرهم إلى أنها لحن لأنه لو كان على ما لم يسم فاعله لم تسكن الياء ورفع المؤمنون، ومنهم من صوبها، وذكر الفراء أن لها وجهاً آخر وهو إضمار المصدر، أي نجا النجاء المؤمنين، ونصب المؤمنين كقولك ضرب الضرب زيداً، ثم تقول ضرب زيداً بالنصب على إضمار المصدر، وسكن الياء في { نجي } كما يسكنون في بقي ونحوها، قال القتيبي من قرأ بنون واحدة والتشديد فإنما أراد ننجي من التنجية إلا أنه أدغم وحذف نوناً طلباً للخفة ولم يرضه النحويون لبعد مخرج النون من الجيم، والإدغام يكون عند قرب المخرج، وقرأءة العامة { ننجي } بنونين من الإنجاء، وإنما كتبت بنون واحدة لأن النون الثانية كانت ساكنة والساكن غير ظاهر على اللسان فحذفت كما فعلوا في إلا حذفوا النون من إن لخفائها، واختلفوا في أن رسالة يونس متى كانت؟ فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس كانت بعد أن أخرجه اللّه من بطن الحوت، بدليل أن اللّه عز وجل ذكره في سورة الصافات، { فنبذناه بالعراء }(الصافات ١٤٥)، ثم ذكر بعده { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } (الصافات ١٤٧)، وقال الآخرون إنها كانت من قبل بدليل قوله تعالى { وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك المشحون } (الصافات ١٣٩-١٤٠). ٨٩قوله عز وجل { وزكريا إذ نادى ربه }، دعا ربه، { رب لا تذرني فرداً }، وحيداً لا ولد لي وارزقني وارثاً، { وأنت خير الوارثين }، ثناء على اللّه بأنه الباقي بعد فناء الخلق وأنه أفضل من بقي حياً. ٩٠{ فاستجبنا له ووهبنا له يحيى }، ولداً { وأصلحنا له زوجه }، أي جعلناها ولوداً بعد ما كانت عقيماً، قال أكثر المفسرين، وقال بعضهم كانت سيئة الخلق فأصلحها له بأن رزقها حسن الخلق. { إنهم }، يعني الأنبياء الذين سماهم في هذه السورة، { كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً }، طمعاً، { ورهباً }، خوفاً، رغباً في رحمة اللّه، ورهباً من عذاب اللّه، { وكانوا لنا خاشعين }، أي متواضعين، قال قتادة ذللاً لأمر اللّه. قال مجاهد الخشوع هو الخوف اللازم في القلب. ٩١{ والتي أحصنت فرجها }، حفظت من الحرام، وأراد مريم بنت عمران، { فنفخنا فيها من روحنا }، أي أمرنا جبرائيل حتى نفخ في جيب درعها، وأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها، وأضاف الروح إليه تشريفاً لعيسى عليه السلام، { وجعلناها وابنها آية للعالمين }، أي دلالة على كمال قدرتنا على خلق ولد من غير أب، ولم يقل آيتيتن وهما آيتان لأن معنى الكلام وجعلنا شأنهما وأمرهما آية ولأن الآية كانت فيهما واحدة، وهي أنها أتت به من غير فحل. ٩٢قوله عز وجلك { إن هذه أمتكم }، أي ملتكم ودينكم، { أمة واحدة }، أي ديناً واحداً وهو الإسلام، فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان، وأصل الأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد فجعلت الشريعة أمة واحدة لاجتماع أهلها على مقصد واحد، ونصب أمة على القطع. { وأنا ربكم فاعبدون }. ٩٣{ وتقطعوا أمرهم بينهم }، أي اختلفوا في الدين فصاروا فرقاً وأحزاباً، قال الكلبي [فرقوا دينهم بينهم] يلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم بعضاً، والتقطع هاهنا بمعنى التقطيع، { كل إلينا راجعون }، فنجزيهم بأعمالهم. ٩٤{ فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه }، لا يجحد ولا يبطل سعيه بل يشكر ويثاب عليه، { وإنا له كاتبون }، لعمله حافظون، وقيل معنى الشكر من اللّه المجازاة. ٩٥{ وحرام على قرية }، قرأ حزة و الكسائي وأبو بكر { وحرم }، يكسر الحاء بلا ألف، وقرأ الباقون بالألف { حرام } وهما لغتان مثل حل وحلال. قال ابن عباس معنى الآية وحرام على قرية أي أهل قرية، { أهلكناها }، أن يرجعوا بعد الهلاك، فعلى هذا تكون { لا } صلة، ةقال آخرون الحرام بمعنى الواجب، فعلى هذا تكون { لا } ثابتاً معناه واجب على أهل قرية أهلكناهم { أنهم لا يرجعون }، إلى الدنيا. وقال الزجاج معناه وحرام على أهل قرية أهلكناهم أي حكمنا بهلاكهم أن تتقبل أعمالهم لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون، والدليل على هذا المعنى أنه قال في الآية التي قبلها { فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه } أي يتقبل عمله، ثم ذكر هذه الآية عقيبه وبين أن الكافر لا يتقبل عمله. ٩٦قوله عز وجل { حتى إذا فتحت }، قرأ ابن عامر و أبو جعفر و يعقوب { فتحت } بالتشديد على التكثير، وقرأ الآخرون بالتخفيف، { يأجوج ومأجوج }، يريد فتح السد عن يأجوج ومأجوج، { وهم من كل حدب }، أي نشز وتل، والحدب المكان المرتفع، { ينسلون }، يسرعون النزول من الآكام والتلال كنسلان الذئب، وهو سرعة مشيه، واختلفوا في هذه الكناية، فقال قوم عنى بهم يأجوج ومأجوج بدليل ما روينا عن النواس بن سمعان عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال { ويبعث اللّه يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون } وقال قوم أراد جميع الخلق يعني أنهم يخرجون من قبورهم، ويدل عليه قراءة مجاهد وهم من كل جدث بالجيم والثاء كما قال { فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون } (يونس ٥١). أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن حجاج ، أخبرنا أبو خيثمة زهير بن حرب ، أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن فرات القزاز ، عن أبي الطفيل ، عن حذيفة بن أسيد الغفاري ، قال {اطلع النبي صلى اللّه عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال ما تذكرون؟ قالوا نذكر الساعة، قال إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف خسف بالمغرف وخسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم }. ٩٧قوله عز وجل { واقترب الوعد الحق }، يعني القيامة، قال الفراء وجماعة الواو في قوله واقترب [مقحمة فمعناه حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب] الوعد الحق، كما قال اللّه تعالى { فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه } (الصافات ١٠٣) أي ناديناه، والدليل عليه ما روي عن حذيفة قال لو أن رجلاً اقتنى فلواً بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة. وقال قوم لا يجوز طرح الوا، وجعلوا جواب حتى إذا فتحت في قوله ياويلنا، فيكون مجاز الآية. حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد الحق، قالوا ياويلنا قد كنا في غفلة من هذا. قوله { فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا }، وفي قوله ((هى)) ثلاثة أوجه أحدها أنها كناية عن الإبصار. ثم أظهر الإبصار بياناً، معناه فإذا الأبصار شاخصة أبصار الذين كفروا. والثاني أن ((هى)) تكون عماداً كقوله { فإنها لا تعمى الأبصار } (الحج ٤٦). والثالث أن يكون تمام الكلام عند قوله ((هى))، على معنى فإذا هي بارزة يعني من قربها كأنها حاضرة، ثم ابتدأ { شاخصة أبصار الذين كفروا }، على تقديم الخبر على الابتداء، مجازها أبصار الذين كفروا شاخصة. قال الكلبي شخصت أبصار الكفار فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم وهوله، يقولون، { يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا }، اليوم، { بل كنا ظالمين }، بوضعنا العبادة في غير موضعها. ٩٨{ إنكم } أيها المشركون { وما تعبدون من دون اللّه }، يعني الأصنام، { حصب جهنم }، أي وقودها. وقال مجاهد و قتادة حطبها، والحصب في لغة أهل اليمن الحطب وقال عكرمة هو الحطب بلغة الحبشة. قال الضحاك يعني يرمون بهم في النار كما يرمي بالحصباء. وأصل الحصب الرمي، قال اللّه عز وجل { أرسلنا عليهم حاصباً } (القمر ٣٤) أي ريحاً ترميهم بحجارة، وقرأ علي ابن أبي طالب حطب جهنم، { أنتم لها واردون }، أي فيها داخلون. ٩٩{ لو كان هؤلاء }، يعني الأصنام، { آلهة } على الحقيقة، { ما وردوها }، أي ما دخل عابدوها النار، { وكل فيها خالدون }، يعني العابد والمعبودين. ١٠٠{ لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون }، قال ابن مسعود في هذه الآية إذا بقى في النار من يخلد فيها في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى [ثم تلك التوابيت في توابيت أخر] عليها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئاً ولا يرى أحد منهم أن في النار أحداً يعذب غيره، ثم استثنى فقال ١٠١{ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى }، قال بعض أهل العلم إن هاهنا بمعنى إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى، يعني السعادة والعدة الجميلة بالجنة، { أولئك عنها مبعدون }، قيل الآية عامة في كل من سبقت لهم من اللّه السعادة. وقال أكثر المفسرين عنى بذلك كل من عبد من دون اللّه وهو للّه طائع ولعبادة من يعبده كاره، وذلك {أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليه } إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم {، الآيات الثلاثة، ثم قام فأقبل عبد اللّه الزبعري السهمي فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال عبد اللّه أما واللّه لو وجدته لخصمته، فدعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال له ابن الزبعري أنت قلت }إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم{؟ قال نعم، قال أليست اليهود تعبد عزيراً والنصارى تعبد المسيح، وبنو مليح يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم بل هم يعبدون الشياطين فأنزل اللّه عز وجل } إن الذين سبقت لهم منا الحسنى {}، يعني عزيراً والمسيح والملائكة، { أولئك عنها مبعدون }، وأنزل في ابن الزبعري { ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون } (الزخرف ٥٨)، وزعم جماعة أن المراد من الآية الأصنام، لأن اللّه تعالى قال { وما تعبدون من دون اللّه }، ولو أراد به الملائكة والناس لقال ومن تعبدون من دون اللّه. ١٠٢{ لا يسمعون حسيسها }، يعني صوتها وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم في الجنة، والحس والحسيس الصوت الخفي { وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون }، مقيمون كما قال { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } (الزخرف ٧١). ١٠٣{ لا يحزنهم الفزع الأكبر }، قال ابن عباس الفزع الأكبر النفخة الأخيرة بدليل قوله عز وجل { ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض } (النمل ٨٧)، قال الحسن حتى يؤمر بالعبد إلى النار. وقال ابن جريج حين يذبح الموت وينادى يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. وقال سعيد بن جبير و الضحاك هو أن تطبق عليهم جهنم وذلك بعد أن يخرج اللّه منها من يريد أن يخرجه. { وتتلقاهم الملائكة }، أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنؤونهم، ويقولون { هذا يومكم الذي كنتم توعدون }. ١٠٤{ يوم نطوي السماء }، قرأ أبو جعفر يطوى بالتاء وضمها وفتح الواو، { والسماء }، رفع على المجهول، وقرأ العامة بالنون وفتحها وكسر الواو، { والسماء }، نصب، { كطي السجل للكتب }، قرأ حمزة و الكسائي وحفص عن عاصم للكتب على الجمع، وقرأ الآخرون للكتاب على الواحد، واختلفوا في السجل، ف قال السدي السجل ملك يكتب أعمال العباد، واللام زائدة، أي كطي السجل الكتب كقوله { ردف لكم } (النمل ٧٢)، اللام فيه زائدة، وقال ابن عباس و مجاهد والأكثرون السجل الصحيفة للكتب أي لأجل ما كتب معناه كطي الصحيفة على مكتوبها، والسجل اسم مشتق من المساجلة وهي المكاتبة، والطي هو الدرج الذي هو ضد النشر، { كما بدأنا أول خلق نعيده }، أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلاً كذلك نعيدهم يوم القيامة، نظيره قوله تعالى { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } (الأنعام ٩٤)، وروي عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { إنكم محشورون حفاة عراة غرلا }، ثم قرأ { كما بدأنا أول خلق نعيده }، { وعدا علينا إنا كنا فاعلين }، يعني الإعادة والبعث. ١٠٥قوله عز وجل { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر }، قال سعيد بن جبير و مجاهد الزبور جميع الكتب المنزلة، والذكر أم الكتاب الذي عنده، والمعنى من بعد ما كتب ذكره في اللوح المحفوظ. وقال ابن عباس و الضحاك الزبور التوراة والذكر الكتب المنزلة من بعد التوراة. وقال الشعبي الزبور كتاب داود، [والذكر التوراة. وقيل الزبور زبور داود] والذكر القرآن، وبعد بمعنى قبل، ك قوله تعالى { وكان وراءهم ملك } (الكهف ٧٩) أي أمامهم، { والأرض بعد ذلك دحاها } (النازعات ٣٠) قبله، { أن الأرض }، يعني أرض الجنة، { يرثها عبادي الصالحون }، قال مجاهد يعني أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم دليله قوله تعالى { وقالوا الحمد للّه الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض } (الزمر ٧٤)، وقال ابن عباس أراد أن أراضي الكفار يفتحها المسلمون وهذا حكم من اللّه بإظهار الدين وإعزاز المسلمين. وقيل أراد بالأرض الأرض المقدسة. ١٠٦{ إن في هذا }، أي في القرآن، { لبلاغاً }، وصولاً إلى البغية، أي من اتبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجوه من الثواب. وقيل بلاغاً أي كفاية. يقال في هذا الشيء بلاغ وبلغة أي كفاية، والقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر، { لقوم عابدين }، أي المؤمنين الذين يعبدون اللّه، وقال ابن عباس عالمين. وقال كعب الأحبار هم أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان. ١٠٧{ وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين }، قال ابن زيد يعني رحمة للمؤمنين خاصة فهو رحمة لهم. [ وقال ابن عباس هو عام في حق من آمن ومن لم يؤمن فمن آمن فهو رحمة له] في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن فهو رحمة له في الدنيا بتأخير العذاب عنهم ورفع المسخ والخسف والاستئصال عنهم، وقد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم { إنما أنا رحمة مهداة }. ١٠٨{ قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون }، أي أسلموا. ١٠٩{ فإن تولوا فقل آذنتكم }، أي أعلمتكم بالحرب وأن لا صلح بيننا، { على سواء }، أي إنذار بين يستوي في علمه لا استيذاناً به دونكم لتتأهبوا لما يراد بكم، أي آذنتكم على وجه نستوي نحن وأنتم في العلم به، وقيل لتستووا في الإيمان، { وإن أدري }، أي وما أعلم. { أقريب أم بعيد ما توعدون }، يعني القيامة. ١١٠{ إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون }. ١١١{ وإن أدري لعله }، أي لعل تأخير العذاب عنكم كناية عن غير مذكور، { فتنة }، اختبار، { لكم }، ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم، { ومتاع إلى حين }، أي تتمتعون إلى انقضاء آجالكم. ١١٢{ قال رب احكم بالحق }، قرأ حفص عن عاصم { قال رب احكم }، والآخرون { قال رب احكم } افصل بيني وبين من كذبني بالحق، فإن قيل كيف قال احم بالحق واللّه لا يحكم إلا بالحق؟ قيل الحق هاهنا بمعنى العذاب كأنه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر، نظيره قوله تعالى { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } (الأعراف ٨٩)، وقال أهل المعاني معناه رب احكم بحكمك الحق فحذف الحكم وأقيم الحق مقامه، واللّه تعالى يحكم بالحق طلب أو لم يطلب، ومعنى الطلب ظهور الرغبة من الطالب في حكمه الحق، {و ربنا الرحمن المستعان على ما تصفون }، من الكذب والباطل. |
﴿ ٠ ﴾