سورة الأحزاب

١

{يا أيها النبي اتق اللّه}، نزلت في أبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي الأعور عمرو بن سفيان السلمي، وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد اللّه بن أبي بن سلول رأس المنافقين بعد قتال أحد، وقد أعطاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، وطعمة بن أبيرق، فقالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم، وعنده عمر بن الخطاب ارفض ذكر آلهتنا، اللات والعزى ومناة، وقل إن لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربك، فشق على النبي صلى اللّه عليه وسلم قولهم، فقال عمر يا رسول اللّه ائذن لنا في قتلهم، فقال إني قد أعطيتهم الأمان، فقال عمر اخرجوا في لعنة اللّه وغضبه، فأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم عمر أن يخرجهم من المدينة

فأنزل اللّه تعالى {يا أيها النبي اتق اللّه}، أي دم على التقوى، كالرجل يقول لغيره وهو قائم قم ها هنا، أي اثبت قائماً.

وقيل الخطاب مع النبي صلى اللّه عليه وسلم والمراد به الأمى. وقال الضحاك معناه اتق اللّه ولا تنقض العهد الذي بينك وبينهم. {ولا تطع الكافرين} من أهل مكة، يعني أبا سفيان، وعكرمة، وأبا الأعور، {والمنافقين}، من أهل المدينة، عبد اللّه بن أبي، وعبد اللّه بن سعد، وطعمة {إن اللّه كان عليماً}، بخلقه، قبل أن خلقهم، {حكيماً} فيما دبره لهم.

٢

{واتبع ما يوحى إليك من ربك إن اللّه كان بما تعملون خبيراً}، قرأ أبو عمرو يعملون خبيراً ويعملون بصيراً بالياء فيهما، وقرأ غيره بالتاء.

٣

{وتوكل على اللّه} ثق باللّه، {وكفى باللّه وكيلاً}، حافظاً لك،

وقيل كفيلاً برزقك.

٤

قوله عز وجل {ما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه}، نزلت في أبي معمر، جميل بن معمر الفهري، وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمع، فقالت قريش ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان، وكان يقول إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلما هزم اللّه المشركين ويوم بدر انهزم أبو معمر فيهم، فلقيه أبو سفيان وإحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فقال له يا أبا معمر ما حال الناس؟ قال انهزموا، قال فما لك إحدى نعليك في يدك الأخرى في رجلك؟ فقال أبو معمر ما شعرت إلا أنهما في رجلي، فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده. وقال الزهري، ومقاتل هذا مثل ضربه اللّه عز وجل للمظاهر من امرأته وللمتنبي ولد غيره، يقول فكما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة للمظاهر أمه حتى تكون أمان، ولا يكون له ولد واحد ابن رجلين. {وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم}، قرأ أهل الشام والكوفة اللائي ها هنا وفي سورة الطلاق بياء بعد الهمزة، وقرأ قالون عن نافع ويعقوب بغير ياء بعد الهمزة، وقرأ الآخرون بتليين الهمزة، وكلها لغات معروفة، تظاهرون قرأ عاصم بالألف وضم التاء وكسر الهاء مخففاً، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء والهاء مخففاً، وقرأ ابن عامر بفتحها وتشديد الظاء، وقرأ الآخرون بفتحها وتشديد الظاء والهاء من غير ألف بينهما. وصورة الظهار أن يقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي. يقول اللّه تعالى ما جعل نساءكم اللائي تقولون لهن هذا في التحريم كأمهاتكم، ولكنه منكر وزور، وفيه كفارة نذكرها إن شاء اللّه تعالى في سورة المجادلة. {وما جعل أدعياءكم} يعني من تبنيتموه {أبناءكم}، فيه نسخ التبني، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يتبنى الرجل فيجعله كالإبن المولود له، يدعوه الناس إليه، ويرث ميراثه، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم أعتق زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وتبناه قبل الوحي، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب، فلما تزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة، قال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عن ذلك، فأنزل اللّه هذه الآية ونسخ التبني، {ذلكم قولكم بأفواهكم}، لا حقيقة له يعني قولهم زيد بن محمد صلى اللّه عليه وسلم وادعاء نسب لا حقيقة له، {واللّه يقول الحق}، أي قوله الحق، {وهو يهدي السبيل}، أي يرشد إلى سبيل الحق.

٥

{ادعوهم لآبائهم}، الذين ولدوهم، {هو أقسط}، أعدل، {عند اللّه}،

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا معلى بن أسد،

أخبرنا عبد العزيز المختار،

أخبرنا موسىة بن عقبة، حدثني سالم {عن عبد اللّه بن عمر أن زيد بن حارثة مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن}. {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند اللّه}، {فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم}، أي فهم إخوانكم، {في الدين ومواليكم}، إن كانوا محررين وليسوا ببنيكم، أي سموهم بأسماء إخوانكم في الدين.

وقيل مواليكم أي أولياءكم في الدين، {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به}، قبل النهي فنسبتموه إلى غير أبيه، {ولكن ما تعمدت قلوبكم} من دعائهم إلى غير آبائهم بعد النبي. وقال قتادة فيما أخطأتم به أن تدعوه لغير أبيه، وهو يظن أنه كذلك. ومحل ما في

قوله تعالى ما تعمدت خفض رداً على ما التي في قوله فيما أخطأتم به مجازه ولكن فيما تعمدت قلوبكم. {وكان اللّه غفوراً رحيماً}،

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا محمد بن بشار،

أخبرنا غندر،

أخبرنا شعبة عن عاصم، قال سمعت أبا عثمان قال سمعت سعداً، وهو أول من رمى بسهم في سبيل اللّه، وأبا بكرة وكان قد تسور حصن الطائف في أناس، فجاءا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالا سمعنا النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول {من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام}.

٦

قوله عز وجل {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}، يعني من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه عليهم ووجوب طاعته عليهم، وقال ابن عباس وعطاء يعني إذا دعاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي صلى اللّه عليه وسلم أولى بهم طاعتهم أنفسهم. وقال ابن زيد النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيما قضى فيهم، كما أنت أولى بعبدك فيما قضيت عليه.

وقيل هو أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه.

وقيل كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يخرج إلى الجهاد فيقول قوم نذهب فنستأذن من آبائنا وأمهاتنا، فنزلت الآية.

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا عبد اللّه بن محمد،

أخبرنا أبو عامر،

أخبرنا فليح، عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال {ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرأوا إن شئتم }النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم{ فأيما مؤمن مات وترك مالاً فليرثه عصبته، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه}. قوله عز وجل {وأزواجه أمهاتهم}، وفي حرف أبي وأزواجه وأمهاتهم وهو أب لهم وهن أمهات المؤمنين في تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأييد، لا في النظر إليهن والخلوة بهن، فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب، قال اللّه تعالى {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب} (الأحزاب-٥٣)، ولا يقال لبناتهن هن أخوات المؤمنين ولا لإخوانهن وأخواتهن هم أخوال المؤمنين وخالاتهم. قال الشافعي تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر، وهي أخت أم المؤمنين، ولم يقل هي خالة المؤمنين.

واختلفوا في أنهن كن أمهات النساء المؤمنات؟ قيل كن أمهات المؤمنين والمؤمنات جميعاً.

وقيل كن أمهات المؤمنين دون النساء، روى الشعبي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة رضي اللّه عنها يا أمه! فقالت لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم، فبان بهذا أن معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهن. قوله عز وجل { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه }، يعني في الميراث، قال قتادة كان المسلمون يتوارثون بالهجرة. قال الكلبي آخى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين الناس، فكان يؤاخي بين رجلين فإذا مات أحدهما ورثه الآخر دون عصبته، حتى نزلت هذه الآية { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه } في حكم اللّه، {من المؤمنين}، الذين آخى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينهم، {والمهاجرين}، يعني ذوي القرابات، بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرث بالإيمان والهجرة، فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة وصارت بالقرابة. قوله {إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً}، أراد بالمعروف الوصية للذين يتولونه من المعاقدين، وذلك أن اللّه لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح أن يوصي الرجل لمن يتولاه بما أحب من ثلثه. وقال مجاهد أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة لحق الإيمان والهجرة.

وقيل أراد بالآية إثبات الميراث بالإيمان والهجرة، يعني وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض، أي لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً، أي إلا أن توصوا لذوي قراباتكم بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة، وهذا قول قتادة وعطاء وعكرمة. {كان ذلك في الكتاب مسطوراً}، أي كان الذي ذكرت من أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في اللوح المحفوظ مسطوراً مكتوباً. وقال القرظي في التوراة.

٧

قوله عز وجل {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم}، على الوافاء بما حملوا وأن يصدق بعضهم بعضاً ويبشر بعضهم ببعض. قال مقاتل أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا اللّه ويدعوا إلى عبادة اللّه ويصدق بعضهم بعضاً وينصحوا لقومهم، {ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم}، خص هؤلاء الخمسة بالذكر من بين النبيين لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولوا العزم من الرسل، وقدم النبي صلى اللّه عليه وسلم بالذكر لما

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي،

أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني الحسين بن محمد الحديثي،

أخبرنا عبد اللّه بن أحمد بن يعقوب المقرئ،

أخبرنا محمد بن محمد بن سليمان الساعدي،

أخبرنا هارون بن محمد بن بكار بن بلال،

أخبرنا أبي،

أخبرنا سعيد -يعني ابن بشير- عن قتادة عن الحسن، عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال {كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث}. قال قتادة وذلك قول اللّه عز وجل {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح}، فبدأ به صلى اللّه عليه وسلم قبلهم. {وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً}، عهداً شديداً على الوفاء بما حملوا.

٨

{ليسأل الصادقين عن صدقهم}، يقول أخذنا ميثاقهم لكي نسأل الصادقين عن صدقهم، يعني النبيين عن تبليغهم الرسالة. والحكمة في سؤالهم، مع علمه أنهم صادقون، تبكيت من أرسلوا إليهم.

وقيل ليسأل الصادقين عن عملهم للّه عز وجل.

وقيل ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم في قلوبهم. {وأعد للكافرين عذاباً أليماً}.

٩

قوله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم}، وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيام الخندق، {إذ جاءتكم جنود}، يعني الأحزاب، وهم قريش، وغطفان، ويهود قريظة، والنضير، {فأرسلنا عليهم ريحاً}، وهي الصبأ، قال عكرمة قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت الشمال إن الحرة لا تسري بالليل، وكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبأ.

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا آدم،

أخبرنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال {نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور}.

قوله تعالى {وجنوداً لم تروها}، وهم الملائكة، ولم تقاتل الملائكة يومئذ، فبعث اللّه عليهم تلك ريحاً باردةً فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول يا بني فلان هلم إلي، فإذا اجتمعوا عنده قال النجاء النجاء، لما بعث اللّه عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال. {وكان اللّه بما تعملون بصيراً}، قال محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير، عن عروة بن الزبير، ومن لا أتهم، عن عبد اللّه بن كعب بن مالك، وعن الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد اللّه بن أبي بكرة بن محمد بن عمرو بن حزم، وعن محمد بن كعب القرظي، وعن غيرهم من علمائنا، دخل حديث بعضهم في بعض أن نفراً من اليهود، منهم سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وهودة بن قيس وأبي عمار الوائلي، في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، فديننا خير أم دينه؟ قالوا بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منهم، قال فهم الذين أنزل اللّه فيهم {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت}، إلى قوله {وكفى بجهنم سعيراً} (النساء ٥١-٥٥). فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول اللّه، فأجمعوا لذلك، ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاؤوا غطفان من قيس غيلان، فدعوهم إلى ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشاً قد بايعوهم على ذلك، فأجابوهم. فخرجت قريش، وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان، وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة، ومسعود بن رخيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع . فلما سمع بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة. وكان الذي أشار على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالخندق سلمان الفارسي، وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يومئذ حر، فقال يا رسول اللّه إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا عليهم فعمل فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أحكموه.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي،

أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي،

أخبرنا عبد اللّه بن حامد الأصبهاني،

أخبرنا محمد بن جعفر الطبري، حدثنا حماد بن الحسن، حدثنا محمد بن خالد بن عثمة، حدثنا كثير بن عبد اللّه، عن عمرو بن عوف، حدثني أبي عن أبيه قال {خط رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، قال فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي وكان رجلاً قوياً، فقال المهاجرون سلمان منا، وقال الأنصار سلمان منا، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم سلمان منا أهل البيت}. قال عمرو بن عوف كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المازني وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً، فحفرنا حتى إذا كنا تحت ذي ناب أخرج اللّه في بطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا وشقت علينا، فقلنا يا سلمان ارق إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن يعدل عنها فإن المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيه بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه، قال فرقى سلمان إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال يا رسول اللّه خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يحيك فيها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك، فإنا لا نحب أن نجاوز خطك، فهبط رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع سلمان الخندق والتسعة على شق الخندق، فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها -يعني المدينة- حتى لكأن مصباحاً في جوب بيت مظلم، فكبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الثانية وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تكبير فتح، وكبر المسلمون، فأخذ بيد سلمان ورقى، فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه لقد رأيت شيئاً ما رأيت مثله قط، فالتفت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى القوم فقال أرأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا نعم يا رسول اللّه، قال ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا، فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد للّه موعد صدق، وعدنا النصر بعد الحصر، فقال المنافقون ألا تعجبون من محمد يعدكم ويمنيكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا؟ قال فنزل القرآن {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا اللّه ورسوله إلا غروراً}، وأنزل اللّه في هذه القصة {قل اللّهم مالك الملك} الآية (آل عمران-٢٦).

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا عبد اللّه بن محمد،

أخبرنا معاوية بن عمرو،

أخبرنا أبو إسحاق، عن حميد قال سمعت أنساً يقول {خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك عنهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع، قال اللّهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة}، فقالوا مجيبين له نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبدا و

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا مسلم بن إبراهيم،

أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء قال كان النبي صلى اللّه عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه -أو اغبر- وهو يقول واللّه لولا اللّه ما اهتدينا ولا تصدقنـا ولا صلينـا فأنـزلـن ســـكينـةً علينـا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغـوا علينــا إذا أرادوا فتنــةً أبيـنـــا ويرفع بها صوته أبينا أبينا. رجعنا إلى حديث ابن إسحاق، قال فلما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة من الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم، ومن تابعهممن بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد، وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم. وأمر بالنساء والذراري فرفعوا في الآطام. وخرج عدو اللّه حيي بن أخطب من بني النضير حتى أتى كعب بن أسد القرظي، صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان قد وادع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على قومه وعاهده على ذلك، فلما سمع كعب بحيي بن أخطب أغلق دونه حصنه، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه حيي يا كعب افتح لي، فقال ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم وإني قد عاهدت محمداً، فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً. قال ويحك افتح لي أكلمك، قال ما أنا بفاعل، قال واللّه إن أغلقت دوني إلا على جشيشتك أن آكل معك منها، فاحفظ الرجل، ففتح له، فقال ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه. قال له كعب بن أسد جئتني واللّه بذل الدهر وبجهام قد هراق ماؤه برعد وبرق، ليس فيه شيء، فدعني ومحمداً وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً، فلم يزل حيي بن أخطب بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له، على أن أعطاه من اللّه عهداً وميثاقاً. لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده وتبرأ مما كان عليه فيما كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فلما انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخبر وإلى المسلمين، بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سعد بن معاذ، أحد بني عبد الأشهل، وهو يومئذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة أحد بني ساعدة، وهو يومئذ سيد الخزرج، ومعهما عبد اللّه بن رواحة أخو بني الحارث بن الخزرج، وخوات بن جبير، أخو بني عمرو بن عوف، فقال انطلقوا حتى تنظروا، أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به جهراً للناس، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم منهم، ونالوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالوا لا عقد بيننا وبين محمد ولا عهد، فتشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه، وكان رجلاً فيه حدة، فقال له سعد بن معاذ دع عنك مشاتمتهم فإن ما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة، ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسلموا عليه وقالوا عضل والقارة، لغدر عضل والقارة بأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللّه أكبر أبشروا يا معشر المسلمين. وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال معتب بن قشير، أخو بني عمرو بن عوف كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط، ما وعدنا اللّه ورسوله إلا غروراً، وحتى قال أوس بن قيظي، أحد بني حارثة بن قيظي يا رسول اللّه إن بيوتنا عورة من العدو، وذلك على ملأ من رجال قومه، فائذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنها خارجة من المدينة. فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأقام المشركون عليه بضعاً وعشرين ليلة قريباً من شهر، ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى. فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى عيينة بن حصن، وإلى الحارث بن عمر، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، فجرى بينه وبينهم الصلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة، فذكر ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، واستشارهما فيه، فقالا يا رسول اللّه أشيء أمرك اللّه به لا بد لنا من العمل به أم امر تحبه فتصنعه، أم شيء تصنعه لنا؟ قال لا، بل شيء أصنعه لكم، واللّه ما أصنع ذلك إلا أني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم، فقال له سعد بن معاذ يا رسول اللّه قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك باللّه وعبادة الأوثان، لا نعبد اللّه ولا نعرفه، وهم لا يطعمون أن يأكلوا منها ثمرةً واحدة إلا قرى أو بيعاً، فحين أكرمنا اللّه بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! مالنا بهذا من حاجة، واللّه لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم اللّه بيننا وبينهم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأنت وذاك. فتناول سعد الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال ليجهدوا علينا. فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون، وعدوهم محاصرهم، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد ود، أخو بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان، ونوفل بن عبد اللّه، وضرار بن الخطاب، مرداس أخو بني محارب بن فهر، قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيلهم ومروا على بني كنانة فقالوا تهيئوا للحرب يا بني كنانة، فستعلمون اليوم من الفرسان، ثم أقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا على الخندق فلما رأوه قالوا واللّه إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها. ثم تيمموا مكاناً من الخندق ضيقاً فضربوا خيولهم فاقتحمت منه، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد أحداً فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه، فلما وقف هو وخيله، قال له علي يا عمرو إنك كنت تعاهد اللّه أن لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذت منه إحداهما، قال أجل، فقال له علي بن أبي طالب فإني أدعوك إلى اللّه وإلى رسوله وإلى الإسلام، قال لا حاجة لي بذلك، قال فغني أدعوك إلى البراز، قال ولم يابن أخي، فواللّه ما أحب أن أقتلك، قال علي ولكني واللّه أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك، فاقتحم على فرسه، فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي، فتناولا وتجاولا، فقتله علي، فخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة، وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم، فمات منه بمكة، ونوفل بن عبد اللّه بن المغيرة المخزومي، وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة، فقال يا معشر العرب قتله أحسن من هذه، فنزل إليه على قتله، فغلب المسلمون على جسده، فسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يبيعهم جسده، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا حاجة لنا في جسده وثمنه، فشانكم به، فخلى بينهم وبينه. قالت عائشة أم المؤمنين كنا يوم الخندق في حصن بني حارثة، وكان من أحرز حصون المدينة، وكانت أم سعد بن معاذ معنا في الحصن، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، فمر سعد بن معاذ وعليه درع مقلصة، قد خرجت منها ذراعه كلها، وفي يده حربة وهو يقال لبث قليلاً يدرك الهيجا حمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل فقالت له أمه الحق يا بني فقد واللّه أجزت، قالت عائشة فقلت لها يا أم سعد واللّه لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي، قالت وخفت عليه حيث أصاب السهم منه، قالت فرمي سعد يومئذ بسهم، وقطع منه الأكحل، رماه خباب بن قيس بن العرقة، أحد بني عامر بن لؤي، فلما أصابه قال خذها وأنا ابن العرقة، فقال سعد عرق اللّه وجهك في النار، ثم قال سعد اللّهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي من أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية. وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه عباد قال كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع، حصن حسان بن ثابت، قالت وكان حسان معناه فيه، مع النساء والصبيان، قالت صفية فمر بنا رجل من اليهود فجعل يطيف بالحصن، وقد حارث بنو قريظة، والصبيان، قالت صفية فمر بنا رجل من اليهود فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة، فقطعت ما بيننا وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم، إذ أتانا آت. قالت فقلت يا حسان، إن هذا اليهودي كما ترى، يطيف بالحصن وإني واللّه ما آمنه أن يدل على عوراتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، فأنزل إليه فاقتله، فقال يغفر اللّه لك يا بنة عبد المطلب، واللّه لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئاً اعتجرت، ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن، فقلت يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل، قال ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب. قالوا أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فيما وصف اللّه تعالى من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم. ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر من غطفان أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهلية، فقال لهم يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا صدقت لست عندنا بمتهم، فقال لهم إن قريشاً وغطفان جاؤوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه، وإن قريشاً وغطفان ليسوا كهيئتهم، البلد بلدكم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان، أموالهم وأولادهم ونساؤهم بعيدة، إن رأوا نهزةً وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم، يكونوا بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمداً، حتى تناجزوه. قالوا لقد أشرت برأي ونصح. ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش يا معشر قريش قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمداً، وقد بلغني أمر رأيت أن حقاً علي أن أبلغكم نصحاً لكم، فاكتموا علي، قالوا نفعل، قال تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين، من قريش وغطفان، رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم؟ فأرسل إليهم أن نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً. ثم خرج حتى أتى غطفان فقال يا معشر غطفان، أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني، قالوا صدقت قال فاكتموا علي، قالوا نفعل، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم، فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان مما صنع لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه، فقال بنو قريظة لهم إن اليوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطوناً رهناً من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان تعلمن واللّه أن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة إنا واللّه لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان إنا واللّه لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً، فأبوا عليهم، وخذل اللّه بينهم، وبعث اللّه عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدروهم وتطرح آنيتهم. فلما انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما اختلف من أمرهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً. روى محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القرظي، وروى غيره عن إبراهيم التميمي، عن أبيه قالا قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة ين اليمان يا أبا عبد اللّه رأيتم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصحبتموه، قال نعم يا بن أخي، قال كيف كنتم تصنعون؟ قال واللّه لقد كنا نجهد، فقال الفتى واللّه لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا ولخدمناه، وفعلنا وفعلنا، فقال حذيفة يا ابن أخي واللّه لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله اللّه الجنة؟ فما قام منا رجل، ثم صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت إلينا فقال مثله فسكت القوم، وما قام منا رجل ثم صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت إلينا فقال من رجل يقوم فينظر ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة، فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا حذيفة، فلم يكن لي بد من القيام إليه حين دعاني، فقلت لبيك يا رسول اللّه، وقمت حتى آتيه، وإن جنبي ليضطربان، فمسح رأسي ووجهي، ثم قال ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ولا تحدثن شيئاً حتى ترجع إلي، ثم قال اللّهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته، فأخذت سهمي، وشددت علي سلاحي، ثم انطلقت أمشي نحوهم كأني أمشي في حمام، فذهبت فدخلت في القوم، وقد أرسل عليهم ريحاً وجنوداً للّه تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً، وأبو سفيان قاعد يصطلي، فأخذت سهماً فوضعته في كبد قوسي فأردت أن أرميه، ولو رميته لأصبته، فذكرت قول النبي صلى اللّه عليه وسلم لا تحدثن حدثاً حتى ترجع إلي، فرددت سهمي في كنانتي. فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود اللّه بهم، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء، قام فقال يا معشر قريش ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه فلينظر من هو، فأخذت بيد جليسي فقلت من أنت، فقال سبحان اللّه أما تعرفني أنا فلان ابن فلان، فإذا هو رجل من هوازن. فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا منهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم. وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم. قال فرجعت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كأني أمشي في حمام فأتيته وهو قائم يصلي، فلما سلم أخبرته الخبر، فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل، قال فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفاء، فأدناني النبي صلى اللّه عليه وسلم منه، وأنامني عند رجليه، وألقى علي طرف ثوبه، وألزق صدري ببطن قد قدميه فلم أزل نائماً حتى أصبحت فلما أصبحت قال قم يا نومان.

١٠

قوله عز وجل { إذ جاءوكم من فوقكم }، أي من فرق الوادي من قبل المشرق، وهم أسد، وغطفان، وعليهم مالك بن عوف النصري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان، ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود بني قريظة، {ومن أسفل منكم}، يعني من بطن الوادي، من قبل المغرب، وهم قريش وكنانة، عليهم أبو سفيان بن حرب في قريش ومن تبعه، وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق. وكان الذي جر غزوة الخندق -فيما قيل- إجلاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بني النضير من ديارهم. {وإذ زاغت الأبصار}، مالت وشخصت من الرعب،

وقيل مالت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها، {وبلغت القلوب الحناجر}، فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع، والحنجرة جوف الحلقوم، وهذا على التمثيل، عبر به عن شدة الخوف، قال الفراء معناه أنهم جنبوا وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته فإذا انتفخت الرئة رفعت القلب إلى الحنجرة، ولهذا يقال للجبان انتفخ سحره. {وتظنون باللّه الظنونا}، أي اختلفت الظنون، فظن المنافقون استئصال محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه رضي اللّه عنهم، وظن المؤمنون النصر والظفر لهم. قرأ أهل المدينة، والشام، وأبو بكر الظنونا والرسولا والسبيلا بإثبات الألف وصلاً ووقفاً، لأنها مثبته في المصاحف، وقرأ أهل البصرة وحمزة بغير الألف في الحالين على الأصل، وقرأ الآخرون بالألف في الوقف دون الوصل لموافقة رؤوس الآي.

١١

{هنالك ابتلي}، أي عند ذلك اختبر المؤمنون، بالحصر والقتال، ليتبين المخلص من المنافق، {وزلزلوا زلزالاً شديداً}، حركوا حركة شديدة.

١٢

{وإذ يقول المنافقون}، معتب بن قشير،

وقيل عبد اللّه بن أبي وأصحابه، {والذين في قلوبهم مرض} شك وضعف اعتقاد {ما وعدنا اللّه ورسوله إلا غروراً}، وهو قول أهل النفاق يعدنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله، هذا واللّه الغرور.

١٣

{وإذ قالت طائفة منهم}، أي من المنافقين، وهم أوس بني قيظي وأصحابه، {يا أهل يثرب}، يعني المدينة، قال أبو عبيدة يثرب اسم أرض، ومدينة الرسول صلى اللّه عليه وسلم في ناحية منها. وفي بعض الأخبار أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى أن تسمى المدينة يثرب، وقال هي طابة، كأنه كره هذه اللفظة. {لا مقام لكم}، قرأ العامة بفتح الميم، أي لا مكان لكم تنزلون وتقيمون فيه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وحفص بضم الميم، أي لا إقامة لكم، {فارجعوا}، إلى منازلكم عن اتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم،

وقيل عن القتال إلى مساكنكم. {ويستأذن فريق منهم النبي}، وهم بنو خارثة وبنو سلمة، {يقولون إن بيوتنا عورة}، أي خالية ضائعة، وهو مما يلي العدو وتخشى عليها السراق. وقرأ أبو رجاء العطاردي عورة بكسر الواو، أي قصير الجدران يسهل دخول السراق عليها، فكذبهم اللّه فقال {وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً}، أي ما يريدون إلا الفرار.

١٤

{ولو دخلت عليهم}، أي لو دخلت عليهم المدينة، يعني هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم، وهم الأحزاب، {من أقطارها}، جوانبها ونواحيها جمع قطر، {ثم سئلوا الفتنة}، أي الشرك، { لأتوها }، لأعطوها، وقرأ أهل الحجاز لأتوها مقصوراً، أي لجاؤوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام، {وما تلبثوا بها}، أي ما احتسبوا عن الفتنة، {إلا يسيراً}، ولأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبةً به أنفسهم، هذا قول أكثر المفسرين. وقال الحسن والفراء وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلاً حتى يهلكوا.

١٥

{ولقد كانوا عاهدوا اللّه من قبل}، أي من قبل غزوة الخندق، {لا يولون الأدبار}، من عدوهم أي لا ينهزمون، قال يزيد بن رومان هم بنو حارثة، هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا اللّه أن لا يعودوا لمثلها. وقال قتادة هم ناس كانوا قد غابوا عن وقعة بدر ورأوا ما أعطى اللّه أهل بدر، من الكرامة والفضيلة، قالوا لئن أشهدنا اللّه قتالاً لنقاتلن، فساق اللّه إليهم ذلك. وقال مقاتل والكلبي هم سبعون رجلاً بايعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة العقبة، وقالوا اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم، قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول اللّه؟ قال لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، قالوا قد فعلنا ذلك. فذلك عهدهم. وهذا القول ليس بمرضي، لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين نفراً، لم يكن فيهم شاك ولا من يقول مثل هذا القول، وإنما الآية في قوم عاهدوا اللّه أن يقاتلوا ولا يفروا، فنقضوا العهد. {وكان عهد اللّه مسؤولاً} عنه.

١٦

{قل}، لهم، {لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل}، الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أو قتل، {وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً}، أي لا تمتعون بعد الفرار إلا مدة آجالكم وهي قليل.

١٧

{قل من ذا الذي يعصمكم من اللّه}، أي يمنعكم من عذابه، {إن أراد بكم سوءاً}، هزيمة، {أو أراد بكم رحمةً}، نصرة، {ولا يجدون لهم من دون اللّه ولياً}، أي قريباً ينفعهم، {ولا نصيراً}، أي ناصراً يمنعهم.

١٨

{قد يعلم اللّه المعوقين منكم}، أي المثبطين للناس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {والقائلين لإخوانهم هلم إلينا}، أي ارجعوا إلينا، ودعوا محمداً، فلا تشهدوا معه الحرب، فإنا نخاف عليكم الهلاك. قال قتادة هؤلاء ناس من المنافقين، كانوا يثبطون أنصار النبي صلى اللّه عليه وسلم، ويقولون لإخوانهم ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحماً لالتهمهم، أي ابتلعهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا الرجل فإنه هالك. وقال مقاتل نزلت في المنافقين، وذلك أن اليهود أرسلت إلى المنافقين، وقالوا ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحداً، وإنا نشفق عليكم، أنتم إخواننا وجيراننا هلموا إلينا، فأقبل عبد اللّه بن أبي وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه، وقالوا لئن قدروا عليكم لم يستبقوا منكم أحداً ما ترجون من محمد؟ ما عنده خير، ما هو إلا أن يقتلنا ها هنا، انطلقوا بنا إلى إخواننا، يعني اليهود، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيماناً واحتساباً. قوله عز وجل {ولا يأتون البأس} ، الحرب، {إلا قليلا"}، رياء وسمعة من من غير احتساب، ولو كان ذلك القليل للّه لكان كثيراً.

١٩

{أشحة عليكم}، بخلاء بالنفقة في سبيل اللّه والنصرة، وقال قتادة بخلاء عند الغنيمة، وصفهم اللّه بالبخل والجبن، فقال {فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم}، في الرؤوس من الخوف والجبن، {كالذي يغشى عليه من الموت}، أي كدوران الذي يغشى عليه من الموت، وذلك أن من قرب من الموت وغشيه أسبابه يذهب عقله ويشخص بصره، فلا يطرف، {فإذا ذهب الخوف سلقوكم}، آذوكم ورموكم في حالة الأمن، {بألسنة حداد}، ذرية، جمع حديد. يقال للخطيب الفصيح الذرب اللسان مسلق ومصلق وسلاق وصلاق. قال ابن عباس سلقوكم أي عضدوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة. وقال قتادة بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة، يقولون أعطونا فإنا قد شهدنا معكم القتال، فلستم أحق بالغنيمة منا، فهم عند الغنيمة أشح قوم وعند البأس أجبن قوم، {أشحةً على الخير} أي عند الغنيمة يشاحون المؤمنين، {أولئك لم يؤمنوا فأحبط اللّه أعمالهم}، قال مقاتل أبطل اللّه جهادهم، {وكان ذلك على اللّه يسيراً}.

٢٠

{يحسبون}، يعني هؤلاء المنافقين، {الأحزاب}، يعني قريشاً وغطفان واليهود، {لم يذهبوا}، لم ينصرفوا عن قتالهم جبناً وفرقاً وقد انصرفوا، {وإن يأت الأحزاب}، أي يرجعوا إليهم للقتال بعد الذهاب، {يودوا لو أنهم بادون في الأعراب}، أي يتمنوا لو كانوا في بادية الأعراب من الخوف والجبن، يقال بدا يبدو بداوةً، إذا خرج إلى البادية، {يسألون عن أنبائكم}، أخباركم وما آل إليه أمركم، وقرأ يعقوب يساءلون مشددة ممدودة، أي يتساءلون، {ولو كانوا}، يعني هؤلاء المنافقين، {فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً}، تعذيراً، أي يقاتلون قليلاً يقيمون به عذرهم، فيقولون قد قاتلنا. قال الكلبي إلا قليلاً أي رمياً بالحجارة. وقال مقاتل إلا رياءً وسمعةً من غير احتساب.

٢١

قوله عز وجل {لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة}، قرأ عاصم أسوة حيث كان، بضم الهمزة، والباقون بكسرها، وهما لغتان، أي قدوة صالحة، وهي فعلة من الائتساء، كالقدوة من الاقتداء، اسم وضع موضع المصدر، أي به اقتداء حسن إن تنصروا دين اللّه وتؤازروا الرسول ولا تتخلفوا عنه، وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذ كسرت رباعيته وجرح وجهه، وقتل عمه وأوذي بضروب الأذى، فواساكم مع ذلك بنفسه، فافعلوا أنتم كذلك أيضاً واستنوا بسنته، {لمن كان يرجو اللّه}، بدل من قوله لكم وهو تخصيص بعد تعميم للمؤمنين، يعني أن الأسوة برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمن كان يرجو اللّه، قال ابن عباس يرجو ثواب اللّه. وقال مقاتل يخشى اللّه، {واليوم الآخر}، أي يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال، {وذكر اللّه كثيراً}، في جميع المواطن على السراء والضراء.

٢٢

ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا}، تسليماً لأمر اللّه وتصديقاً لوعده {هذا ما وعدنا اللّه ورسوله وصدق اللّه ورسوله}، وعد اللّه إياهم ما ذكر في سورة البقرة {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم}، إلى قوله {ألا إن نصر اللّه قريب} (البقرة-٢١٤)، فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء، فلما رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا هذا ما وعدنا اللّه ورسوله وصدق اللّه ورسوله، {وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً}، أي تصديقاً للّه وتسليماً لأمر اللّه.

٢٣

قوله عز وجل {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه}، أي قاموا بما عاهدوا اللّه عليه ووفوا به، {فمنهم من قضى نحبه}، أي فرغ من نذره، ووفى بعهده، فصبر على الجهاد حتى استشهد، والنحب النذر، والنحب الموت أيضاً، قال مقاتل قضى نحبه يعني أجله فقتل على الوفاء، يعني حمزة وأصحابه.

وقيل قضى نحبه أي بذل جهده في الوفاء، بالعهد من قول العرب نحب فلان في سيره يومه وليلته أجمع، إذا مد فلم ينزل، {ومنهم من ينتظر}، الشهادة. وقال محمد بن إسحاق فمنهم من قضى نحبه من استشهد يوم بدر وأحد، ومنهم من ينتظر يعني من بقي بعد هؤلاء من المؤمنين ينتظرون أحد الأمرين، إما الشهادة أو النصر، {وما بدلوا}، عهدهم {تبديلاً}.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا محمد بن سعيد الخزاعي،

أخبرنا عبد الأعلى، عن حميد قال سألت أنساً وحدثني عمرو بن زرارة،

أخبرنا زياد، حدثني حميد الطويل، عن أنس قال غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال يا رسول اللّه غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني اللّه قتال المشركين ليرين اللّه ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال اللّهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين- ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد فما استطعت يا رسول اللّه ما صنع، قال أنس فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس كنا نظن أو نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه}، إلى آخر الآية.

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي،

أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري،

أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي،

أخبرنا محمد بن حماد،

أخبرنا معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن خباب بن الأرت قال {هاجرنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سبيل اللّه نبتغي وجه اللّه فوجب أجرنا على اللّه، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر، قال ومن أينعت له ثمرته فهو يهد بها}.

أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي،

أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن أبي نصر،

أخبرنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي،

أخبرنا محمد بن سليمان الجوهري بأنطاكية،

أخبرنا مسلم بن إبراهيم،

أخبرنا الصلت بن دينار، عن أبي نصرة، عن جابر بن عبد اللّه قال {نظر النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى طلحة بن عبيد اللّه فقال من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي على وجه الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى هذا}.

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا عبد اللّه بن أبي شيبة،

أخبرنا وكيع بن إسماعيل، {عن قيس قال رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد}.

٢٤

قوله عز وجل {ليجزي اللّه الصادقين بصدقهم}، أي جزاء صدقهم، وصدقهم هو الوفاء بالعهد، {ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم}، فيهديهم إلى الإيمان، {إن اللّه كان غفوراً رحيماً}.

٢٥

{ورد اللّه الذين كفروا}، من قريش وغطفان، {بغيظهم}، لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا، {لم ينالوا خيراً}، ظفراً، {وكفى اللّه المؤمنين القتال}، بالملائكة والريح، {وكان اللّه قوياً عزيزاً}، قوياً في ملكه عزيزاً في انتقامه.

٢٦

{وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب}، أي عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين وهم بنو قريظة، {من صياصيهم}، حصونهم ومعاقلهم، واحدها صيصية، ومنه قيل للقرن ولشوكة الديك والحاكة صيصية، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم وانصرف النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنون من الخندق إلى المدينة، ووضعوا السلاح فلما كان الظهر أتى جبريل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معتجراً بعمامة من استبرق على بلغة عليها رحالة وعليها قطيفة من ديباج، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند زينب بنت جحش وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقه، فقال قد وضعت السلاح يا رسول اللّه؟ قال نعم، فقال جبريل عفا اللّه عنك ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم. وروي أنه كان الغبار على وجه جبريل عليه السلام وفرسه فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم يمسح الغبار عن وجهه وعن فرسه، فقال إن اللّه يأمرك بالسير إلى بني قريظة فانهد إليهم، فإني قد قطعت أوتارهم، وفتحت أبوابهم، وتركتهم في زلزال وبلبال، فأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم منادياً فأذن أن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، وقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه برايته إليهم، وابتدرها الناس فسار علي رضي اللّه عنه حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرجع حتى لقي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالطريق، فقال يا رسول اللّه لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث، قال لم، أظنك سمعت لي منهم أذىً؟ قال نعم يا رسول اللّه، قال لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً. فلما دنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حصونهم قال يا إخوان القردة والخنازير هل أخزاكم اللّه وأنزل بكم نقمته؟. قالوا يا أبا القاسم ما كنت جهولاً. ومر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة، فقال هل مر بكم أحد؟ فقالوا نعم يا رسول اللّه مر بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج، فقال عليه السلام ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم. فلما أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم، فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد صلاة العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة} فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم اللّه بذلك ولا عنفهم به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال وحاصرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف اللّه في قلوبهم الرعب. وكان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده. فلما أيقنوا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد يا معشر يهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً فخذوا أيها شئتم، قالوا وما هن؟ قال نتابع هذا الرجل ونصدقه فواللّه لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره، قال فإذا أبيتم هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد رجالاً مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم اللّه بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئاً نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء، فقالوا نقتل هؤلاء المساكين فما خير في العيش بعدهم؟ قال فإن أبيتم هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا أنفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا؟ أما من قد عملت فصابهم من المسخ ما لم يخف عليك؟ فقال ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة في الدهر حازماً؟ قال ثم إنهم بعثوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم، فقالوا يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال نعم، قالوا ماذا يفعل بنا إذا نزلنا؟ فأشار بيده إلى حلقة أنه الذبح، قال أبو لبابة فواللّه ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت اللّه ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال لا أبرح مكاني حتى يتوب اللّه علي مما صنعت، وعاهد اللّه لا يطأ بني قريظة أبداً، ولا يراني اللّه في بلد خنت اللّه ورسوله فيه أبداً، فلما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خبره وأبطأ عليه، قال أما لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذا فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب اللّه عليه، ثم إن اللّه تعالى أنزل توبة أبي لبابة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة، قالت أم سلمة سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يضحك فقلت مما تضحك يا رسول اللّه أضحك اللّه سنك؟ قال تيب على أبي لبابة، فقلت ألا أبشره بذلك يا رسول اللّه؟ فقال بلى إن شئت، فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فقالت يا أبا لبابة أبشر فقد تاب اللّه عليك، قال فثار الناس إليه ليطلقوه فقال لا واللّه حتى يكون رسول اللّه هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خارجاً إلى الصبح أطلقه، ثم قال إن ثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة، وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هذيل ليسوا من قريظة ولا النضير نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي فمر بحرس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعليها محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة، فلما رآه قال من هذا؟ قال عمرو بن سعدي، وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال لا أغدر بمحمد أبداً، فقال محمد بن مسلمة حين عرفه اللّهم لا تحرمني عثرات الكرام ثم خلى سبيله، فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة ثم ذهب فلا يدري أين يذهب من أرض اللّه، فذكر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شأنه، فقال ذاك رجل قد نجاه اللّه بوفائه. وبعض الناس يزعم أنه كان قد أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأصبحت رمته ملقاة لا يدري أين يذهب، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيه تلك المقالة، واللّه أعلم. فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول اللّه فتواثبت الأوس فقالوا يا رسول اللّه إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت، وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه فسألهم إياه عبد اللّه بن أبي بن سلول، فوهبهم له فلما كلمه الأوس قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا بلى، قال فذاك إلى سعد بن معاذ، وكان سعد بن معاذ جعله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في خيمة امرأة من المسلمين يقال لها رفيدة في مسجده، وكانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب، فلما حكمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بني قريظة أتاه قومه فاحتملوه على حمار قد وطأوا له بوسادة من أدم، وكان رجلاً جسيماً ثم أقبلوا معه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال قد آن لسعد أن لا تأخذه في اللّه لومة لائم، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني الأشهل فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن علمته التي سمع منه، فلما انتهى سعد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال قوموا إلى سيدكم فأنزلوه، فقاموا إليه فقالوا يا أبا عمرو إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد ولاك مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد عليكم بذلك عهد اللّه وميثاقه أن الحكم فيها ما حكمت؟ قالوا نعم، قال وعلى من ها هنا في الناحية التي فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو معرض عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إجلالاً له، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نعم، قال سعد فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسعد لقد حكمت فيهم بحكم اللّه من فوق سبعة أرقعة، ثم استنزلوا فحبسهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خندقاً ثم بعث إليهم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالاً وفيهم عدو اللّه حيي بن أخطب وكعب بن أسد رئيس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر لهم يقول كانوا بين ثمانمائة إلى تسعمائة، وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أرسالاً يا كعب ما ترى ما يصنع بنا فقال كعب أفي كل موطن لا تعقلون ألا ترون الداعي لا ينزع وإن من يذهب به منكم لا يرجع، هو واللّه القتل، فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم النبي صلى اللّه عليه وسلم وأتى حيي بن أخطب عدو اللّه عليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة أنملة أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال أما واللّه ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل اللّه يخذل، ثم أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إنه لا بأس بأمر اللّه كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضرب عنقه. وروى عروة بن الزبير عن عائشة رضي اللّه عنها قالت لم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة واحدة قالت واللّه إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهراً وبطناً، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقتل رجالهم بالسيوف إذ هتف هاتف باسمها أين فلانه قالت  أنا واللّه قلت ويلك مالك؟ قالت أقتل، قلت ولم؟ قالت حدث أحدثته، قالت فانطلق بها فضرب عنقها، وكانت عائشة تقول ما أنسى عجباً منها طيب نفس وكثرة ضحك، وقد عرفت أنها تقتل. قال الواقدي وكان اسم تلك المرأة شبابة، امرأة الحكم القرظي كانت قتلت خلاد بن سويد، رمت عليه رحى فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بها فضرب عنقها بخلاد بن سويد، قال وكان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس هنالك. وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أن الزبير بن باطا القرظي، وكان يكنى أبا عبد الرحمن، كان قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بعاث، أخذه فجز ناصيته، ثم خلى سبيله، فجاءه يوم قريظة وهو شيخ كبير فقال يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني؟ قال وهل يجهل مثلي مثلك؟ قال إني أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال إن الكريم يجزي الكريم، قال ثم أتى ثابت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه قد كانت للزبير عندي يد وله علي منة، وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو لك فأتاه فقال له إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد وهب لي دمك، قال شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة، فأتى ثابت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه أهله وماله؟ قال هم لك فأتاه فقال إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعطاني امرأتك وولدك فهم لك قال أهل بيت الحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك، فأتى ثابت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ماله يا رسول اللّه؟ قال هو لك، قال فأتاه فقال إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أعطاني مالك فهو لك، فقال أي ثابت ما فعل اللّه بمن كان وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد، قال قتل، قال فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب؟ قال قتل، قال فما فعل مقدمنا إذا شددنا وحامينا إذا كررنا عزال بن شموئيل؟ قال قتل، قال فما فعل المجلسان يعني بني كعب ابن قريظة وبني عمرو بن قريظة؟ قال ذهبوا وقتلوا، قال فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت إلا ما ألحقتني بالقوم، فواللّه ما في العيش بعد هؤلاء خير، فما انا بصابر للّه فترة دلو نضح حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضرب عنقه، فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله ألقى الأحبة، قال يلقاهم واللّه في نار جهنم خالداً فيها مخلداً أبداً. قالوا وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أمر بقتل من أنبت منهم، ثم قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال

وأخرج منها الخمس، فكان للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان ولفارسه سهم وللراجل ممن ليس له فرس سهم، وكانت الخيل ستة وثلاثين فرساً وكان أول فيء وقع فيه السهمان، ثم بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم بهم خيلاً وسلاحاً، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنانة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، فكانت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى توفي عنها وهي في ملكه، وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحرص عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب، فقالت يا رسول اللّه بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك. وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلا اليهودية، فعزلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ووجد في نفسه بذلك من أمرها، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال إن هذا لثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة، فجاءه فقال يا رسول اللّه قد أسلمت ريحانة، فسره ذلك. فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ، وذلك أنه دعا بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم فقال اللّهم إنك قد علمت أنه لم يكن قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك، اللّهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئاً فأبقني لها وإن كنت قد قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك، فانفجر كلمه فرجعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد، قالت عائشة فحضره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر وعمر فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي، قالت وكانوا كما قال اللّه تعالى {رحماء بينهم} (الفتح-٢٩)، وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة.

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا عبد اللّه بن محمد،

أخبرنا يحيى بن آدم،

أخبرنا إسرائيل، سمعت أبا إسحاق يقول، سمعت سليمان بن صرد يقول، {سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول حين أجلى الأحزاب عنه الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم}.

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا قتيبة،

أخبرنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول {لا إله إلا اللّه وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده}. قال اللّه تعالى في قصة قريظة {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون}، وهم الرجال، يقال كانوا ستمائة، {وتأسرون فريقاً}، وهم النساء والذراري، يقال كانوا سبعمائة وخمسين،

ويقال تسعمائة.

٢٧

{ وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها }، بعد، قال ابن زيد ومقاتل يعني خيبر، قال قتادة كنا نحدث أنها مكة.

وقال الحسن فارس والروم. وقال عكرمة كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. {وكان اللّه على كل شيء قديراً}.

٢٨

قوله عز وجل {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن}، متعة الطلاق، {وأسرحكن سراحاً جميلاً}.

٢٩

{وإن كنتن تردن اللّه ورسوله والدار الآخرة فإن اللّه أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً}، سبب نزول هذه الآية أن نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم سألته شيئاً من عرض الدنيا، وطلبن منه زيادة في النفقة، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فهجرهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وآلى أن لا يقربهن شهراً ولم يخرج إلى أصحابه، فقالوا ما شأنه؟ وكانوا يقولون طلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساءه، فقال عمر لأعلمن لكم شأنه، قال فدخلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت يا رسول اللّه أطلقتهن؟ قال لا، قلت يا رسول اللّه إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون طلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساءه، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال نعم إن شئت، فقمت على باب المسجد وناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساءه، فنزلت هذه الآية {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء-٨٣)، فكنت أنا استنبطت ذاك الأمر، وأنزل اللّه آية التخيير، وكانت تحت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ تسع نسوة خمس من قريش عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة بنت أبي أمية، وسودة بنت زمعة، وغير القرشيات زينب بنت جحش الأسدية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، رضوان اللّه عليهن فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعائشة، وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت اللّه ورسوله والدار الآخرة، فرؤي الفرح في وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتابعتها على ذلك. قال قتادة فلما اخترن اللّه ورسوله شكرهن اللّه على ذلك وقصره عليهن فقال {لا يحل لك النساء من بعد}.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر،

أخبرنا عبد الغفار بن محمد،

أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي،

أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان،

أخبرنا مسلم بن الحجاج،

أخبرنا زهير بن حرب،

أخبرنا روح بن عبادة،

أخبرنا زكي بن إسحاق،

أخبرنا أبو الزبير عن جابر بن عبد اللّه قال دخل أبو بكر يستأذن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال فأذن لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي صلى اللّه عليه وسلم جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً، فقال لأقولن شيئاً أضحك النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال يا رسول اللّه لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال هن حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول لا تسألي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده، ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين، ثم نزلت هذه الآية {يا أيها النبي قل لأزواجك}، حتى بلغ {للمحسنات منكن أجراً عظيماً}، قال فبدأ بعائشة فقال يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك، قالت وما هو يا رسول اللّه؟ فتلا عليها الآية، قالت أفيك يا رسول اللّه أستشير أبوي؟ بل أختار اللّه ورسوله والدار الآخرة، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، قال لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن اللّه لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً.

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي،

أخبرنا أبو الحسين بن بشران،

أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار،

أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي،

أخبرنا عبد الرزاق،

أخبرنا معمر عن الزهري {أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً، قال الزهري فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت فلما مضت تسع وعشرون أعدهن دخل علي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت بدأ بي فقلت يا رسول اللّه إنك أقسمت ألا تدخل علينا شهراً وإنك دخلت في تسع وعشرين أعدهن؟ فقال إن الشهر تسع وعشرون}.

واختلف العلماء في هذا الخيار أنه هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع بنفسه الاختيار أم لا؟ فذهب الحسن، وقتادة، وأكثر أهل العلم إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن، ل

قوله تعالى {فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً}، بدليل أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة لا تعجلي حتى تستشيري أبويك، وفي تفويض للطلاق يكون الجواب على الفور. وذهب قوم إلى أنه كان تفويض الطلاق لو اخترن أنفسهن كان طلاقاً.

واختلف أهل العلم في حكم التخيير فقال عمر، وابن مسعود، وابن عباس إذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء، وإن اختارت نفسها يقع طلقة واحدة، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وابن أبي ليلى، وسفيان، والشافعي، وأصحاب الرأي، إلا عند أصحاب الرأي تقع طلقة بائنة إذا اختارت نفسها، وعند الآخرين رجعية. وقال زيد بن ثابت إذا اختارت الزوج تقع طلقة واحدة، وإذا اختارت نفسها فثلاث، وهو قول الحسن وبه قال مالك. وروي عن علي أيضاً أنها إذا اختارت زوجها تقع طلقة واحدة وإن اختارت نفسها فطلقة بائنة. وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء.

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا عمر بن حفص،

أخبرنا أبي،

أخبرنا الأعمش،

أخبرنا مسلم، عن مسروق، عن {عائشة قالت خيرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاخترنا اللّه ورسوله فلم يعد ذلك علينا شيئاً}.

٣٠

قوله عز وجل {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة}، بمعصية ظاهرة، قيل هو كقوله عز وجل { لئن أشركت ليحبطن عملك } (الزمر-٦٥) لا أن منهن من أتت بفاحشة.

وقال ابن عباس المراد بالفاحشة النشوز وسوء الخلق. {يضاعف لها العذاب ضعفين}، قرأ ابن كثير وابن عامر نضعف بالنون وكسر العين وتشديدها، العذاب نصب، وقرأ الآخرون بالياء وفتح العين العذاب رفع ويشددها أبو جعفر وأهل البصرة، وشدد أبو عمرو هذه وحدها لقوله ضعفين، وقرأ الآخرون يضاعف بالألف وفتح العين، العذاب رفع، وهما لغتان مثل بعد وباعد، قال أبو عمرو وأبو عبيدة ضعفت الشيء إذا جعلته مثليه وضاعفته إذا جعلته أمثاله. {وكان ذلك على اللّه يسيراً}، قال مقاتل كان عذابها على اللّه هيناً وتضعيف عقوبتهن على المعصية لشرفهن كتضعيف عقوبة الحرة على الأمة وتضعيف ثوابهن لرفع منزلتهن، وفيه إشارة إلى أنهن أشرف نساء العالمين.

٣١

{ومن يقنت}، يطع، {منكن للّه ورسوله}، قرأ يعقوب من تأت منكن، وتقنت بالتاء فيهما، وقرأ العامة بالياء لأن من أداة تقوم مقام الإسم يعبر به عن الواحد والجمع والمذكر والمؤمنث، {وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين}، أي مثلي أجر غيرها، قال مقاتل مكان كل حسنة عشرين حسنة. وقرأ حمزة والكسائي يعمل، يؤتها بالياء فيهما نسقاً على قوله ومن يأت، ويقنت وقرأ الآخرون بالتاء، {وأعتدنا لها رزقاً كريماً}، حسناً يعني الجنة.

٣٢

{يا نساء النبي لستن كأحد من النساء}، قال ابن عباس يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي، وثوابكن أعظم لدي، ولم يقل كواحدة، لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، قال اللّه تعالى {لا نفرق بين أحد من رسله} (البقرة-٢٨٥)، وقال { فما منكم من أحد عنه حاجزين } (الحاقة-٤٧). {إن اتقيتن}، اللّه فأطعتنه، {فلا تخضعن بالقول}، لا تلن بالقول للرجال ولا ترققن الكلام، {فيطمع الذي في قلبه مرض}، أي فجوز وشهوة،

وقيل نفاق، والمعنى لا تقلن قولاً يجد منافق أو فاجر به سبيلاً إلى الطمع فيكن. والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع. {وقلن قولاً معروفاً} لوجه الدين والإسلام بتصريح وبيان من غير خضوع.

٣٣

{وقرن في بيوتكن}، قرأ أهل المدينة وعاصم وقرن بفتح القاف، وقرأ الآخرون بكسرها، فمن فتح القاف فمعناه، اقررن أي الزمن بيوتكن، من قولهم قررت بالمكان أقر قراراً، يقال قررت أقر وقررت أقر، وهما لغتان، فحذفت الراء الأولى التي هي عين الفعل لثقل التضعيف ونقلت حركتها إلى القاف كقولهم في ظللت ظلت، قال اللّه تعالى {فظلتم تفكهون} (الواقعة-٦٥)، { ظلت عليه عاكفا } (طه-٩٧). ومن كسر القاف فقد قيل هو من قررت أقر، معناه اقررن -بكسر الراء- فحذفت الأولى ونقفت حركتها إلى القاف كما ذكرنا،

وقيل -وهو الأصح- أنه أمر من الوقار، كقولهم من الوعد عدن، ومن الوصل صلن، أي كن أهل وقار وسكون، من قولهم وقر فلان يقر وقوراً إذا سكن واطمأن. {ولا تبرجن} قال مجاهد وقتادة التبرج هو التكسر والتغنج، وقال ابن أبي نجيح هو التبختر.

وقيل هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال، {تبرج الجاهلية الأولى}. اختلفوا في الجاهلية الأولى. قال الشعبي هي ما بين عيسى ومحمد صلى اللّه عليه وسلم. وقال أبو العالية هي في زمن داود وسليمان عليهما السلام، كانت المرأة تلبس قميصاً من الدر غير مخيط من الجانبين فيرى خلقها فيه.

وقال الكلبي كان ذلك في زمن نمرود الجبار، كانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره وتعرض نفسها على الرجال. وروى عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس، وكانت ألف سنة، وأن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة، وكان نساء السهل صباحاً وفي الرجال دمامة، وأن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل وأجر نفسه منه، فكان يخدمه واتخذ شيئاً مثل الذي يزمر به الرعاء فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله، فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يستمعون إليه، واتخذوا عيداً يجتمعون إليه في السنة، فتبرج النساء للرجال ويتزين الرجال لهن، وإن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوا إليهم فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فيهم، فذلك

قوله تعالى {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى}. وقال قتادة هي ما قبل الإسلام.

وقيل الجاهلية الأولى ما ذكرنا، والجاهلية الأخرى قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان.

وقيل قد تذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى، ك

قوله تعالى {وأنه أهلك عاداً الأولى} (النجم-٥٠)، ولم يكن لها أخرى. قوله عز وجل {وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن اللّه ورسوله إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت}، أراد بالرجس الإثم الذي نهى اللّه النساء عنه، قاله مقاتل

وقال ابن عباس يعني عمل الشيطان وما ليس للّه فيه رضى، وقال قتادة يعني السوء. وقال مجاهد الرجس الشك. وأراد بأهل البيت نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم لأنهن في بيته، وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، وتلا قوله {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات اللّه}، وهو قول عكرمة ومقاتل. وذهب أبو سعيد الخدري، وجماعة من التابعين، منهم مجاهد، وقتادة، وغيرهما إلى أنهم علي وفاطمة والحسن والحسين. حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي،

أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن محمد الأنصاري،

أخبرنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعدي،

أخبرنا أبو همام الوليد بن شجاع،

أخبرنا يحيى بن زكريا بن زائدة،

أخبرنا أبي عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة الحجبية، عن عائشة أم المؤمنين قالت {خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه، ثم جاء حسن فأدخله فيه، ثم جاء حسين فأدخله فيه، ثم قال }إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً{}.

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد الحميدي،

أخبرنا عبد اللّه الحافظ،

أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا الحسن بن مكرم،

أخبرنا عثمان بن عمر، حدثنا عبد الرحمن بن عبد اللّه بن دينار، عن شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أم سلمة قالت {في بيتي أنزلت }إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت{، قالت فأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين، فقال هؤلاء أهل بيتي، قالت فقلت يا رسول اللّه أما أنا من أهل البيت؟ قال بلى إن شاء اللّه}. قال زيد بن أرقم أهل بيته من حرم الصدقة عليه بعده، آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس.

٣٤

قوله عز وجل {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات اللّه}، يعني القرآن، {والحكمة}، قال قتادة يعني السنة. وقال مقاتل أحكام القرآن ومواعظه. {إن اللّه كان لطيفاً خبيراً}، أي لطيفاً بأوليائه خبيراً بجميع خلقه.

٣٥

قوله عز وجل {إن المسلمين والمسلمات}، الآية. وذلك أن أزواج النبي قلن يا رسول اللّه ذكر اللّه الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير، فما فينا خير نذكر به، إنا نخاف أن لا يقبل منا طاعةً، فأنزل اللّه هذه الآية. قال مقاتل قالت أم سلمة بنت أبي أمية ونيسة بنت كعب الأنصارية للنبي صلى اللّه عليه وسلم ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه، نخشى أن لا يكون فيهن خير؟ فنزلت هذه الآية. وروي أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن لا. فأتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت يا رسول اللّه إن النساء لفي خيبة وخسار، قال ومم ذاك؟ قالت لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فأنزل اللّه هذه الآية {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين}، المطيعين، {والقانتات والصادقين}، في إيمانهم وفيما ساءهم وسرهم، {والصادقات والصابرين}، على ما أمر اللّه به، {والصابرات والخاشعين}، المتواضعين، {والخاشعات}،

وقيل أراد به الخشوع في الصلاة، ومن الخشوع أن لا يلتفت، {والمتصدقين}، مما رزقهم اللّه، {والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم}، عما لا يحل، {والحافظات والذاكرين اللّه كثيراً والذاكرات}، قال مجاهد لا يكون العبد من الذاكرين اللّه كثيراً حتى يذكر اللّه قائماً وقاعداً ومضطجعاً. وروينا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال {قد سبق المفردون، قالوا وما المفردون يا رسول اللّه؟ قال الذاكرون اللّه كثيراً والذاكرات}. قال عطاء بن أبي رباح من فوض أمره إلى اللّه عز وجل فهو داخل في قوله {إن المسلمين والمسلمات}، ومن أقر بأن اللّه ربه ومحمداً رسوله، ولم يخالف قلبه لسانه، فهو داخل في قوله {والمؤمنين والمؤمنات}، ومن أطاع اللّه في الفرض، والرسول في السنة فهو داخل في قوله {والقانتين والقانتات}، ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله {والصادقين والصادقات}، ومن صبر على الطاعة، وعن المعصية، وعلى الرزية فهو داخل في قوله {والصابرين والصابرات}، ومن صلى ولم يعرف من عن يمينه وعن يساره فهو داخل في قوله {والخاشعين والخاشعات}، ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله {والمتصدقين والمتصدقات}، ومن صام في كل شهر أيام البيض الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، فهو داخل في قوله {والصائمين والصائمات}، ومن حفظ فرجه عما لا يحل فهو داخل في قوله {والحافظين فروجهم والحافظات}، ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله {والذاكرين اللّه كثيراً والذاكرات}. { أعد اللّه لهم مغفرة وأجرا عظيما }.

٣٦

قوله عز وجل {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}. نزلت الآية في زينب بنت جحش الأسدية وأخيها عبد اللّه بن جحش وأمها أمية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى اللّه عليه وسلم، خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اشترى زيداً في الجاهلية يعكاظ فأعتقه وتبناه، فلما خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زينب رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه فلما علمت أنه يخطبها لزيد أبت وقالت أنا ابنة عمتك يا رسول فلا أرضاه لنفسي، وكانت بيضاء جميلة فيها حدة، وكذلك كره أخوها ذلك، فأنزل اللّه عز وجل {وما كان لمؤمن}، يعني عبد اللّه بن جحش، {ولا مؤمنة} يعني أخته زينب، {إذا قضى اللّه ورسوله أمراً}، أي إذا أراد اللّه ورسوله أمراً وهو نكاح زينب لزيد، {أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}، قرأ أهل الكوفة أن يكون بالياء، للحائل بين التأنيث والفعل، وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث الخيرة من أمرهم، والخيرة الاختيار. والمعنى أن يريد غير ما أراد اللّه أو يمتنع مما أمر اللّه ورسوله به. {ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً}، أخطأ خطأ ظاهراً، فلما سمعا ذلك رضيا بذلك وسلما، وجعلت أمرها بيد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكذلك أخوها، فأنكحها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زيداً، فدخل بها وساق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليها عشرة دنانير، وستين درهماً، وخماراً، ودرعاً، وإزاراً وملحفة، وخمسين مداً من طعام، وثلاثين صاعاً من تمر.

٣٧

قوله تعالى {وإذ تقول للذي أنعم اللّه عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك}، الآية، نزلت في زينب، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما زوج زينب من زيد مكثت عنده حيناً، ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتى زيداً ذات يوم لحاجة، فأبصر زينب قائمة في درع وخمار، وكانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش، فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها، فقال سبحان اللّه مقلب القلوب وانصرف، فلما جاء زيد ذكرت ذلك له، ففطن زيد، فألقي في نفس زيد كراهيتها في الوقت، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال إني أريد أن أفارق صاحبتي، قال ما لك أرابك منها شيء؟ قال لا واللّه يا رسول اللّه ما رأيت منها إلا خيراً، ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم أمسك عليك زوجتك، يعني زينب بنت جحش، {واتق اللّه}، في أمرها ثم طلقها زيد، فذكل قوله عز وجل {وإذ تقول للذي أنعم اللّه عليه}، بالإسلام، {وأنعمت عليه}، بالإعتاق، وهو زيد بن حارثة { أمسك عليك زوجك واتق اللّه } فيها ولا تفارقها، {وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه} أي تسر في نفسك ما اللّه مظهره، أي كان في قلبه لو فارقها فتزوجها.

وقال ابن عباس حبها. وقال قتادة ود أنه طلقها. {وتخشى الناس}، قال ابن عباس والحسن تستحييهم.

وقيل تخاف لائمة الناس أن يقولوا أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها. {واللّه أحق أن تخشاه}، قال عمر، وابن مسعود، وعائشة، ما نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آية هي أشد عليه من هذه الآية. وروي عن مسروق قال قالت عائشة لو كتم النبي صلى اللّه عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية {وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه}. وروى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال سألني علي بن الحسين زين العابدين ما يقول الحسن في قوله {وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه وتخشى الناس واللّه أحق أن تخشاه}؟ قلت يقول لما جاء زيد إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا نبي اللّه إني أريد أن أطلق زينب فأعجبه ذلك، فقال أمسك عليك زوجتك واتق اللّه، فقال علي بن الحسين ليس كذلك، كان اللّه تعالى قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيداً سيطلقها، فلما جاء زيد وقال إني أريد أن أطلقها قال له أمسك عليك زوجك، فعاتبه اللّه وقال لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك؟. وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن اللّه علم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال زوجناكها فلو كان الذي أضمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه اللّه أنها ستكون زوجة له، وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد التي تحتك وفي نكاحك ستكون امرأتي، وهذا قول حسن مرض، وإن كان القول الآخر وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء، لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه في مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المأثم، لأن الود وميل النفس من طبع الشر.

وقوله {أمسك عليك زوجك واتق اللّه} أمر بالمعروف، وهو خشية لا إثم فيه. و

قوله تعالى {واللّه أحق أن تخشاه}، لم يرد به أنه لم يكن يخشى اللّه فيما سبق فإنه عليه السلام قد قال {أنا أخشاكم للّه وأتقاكم له}، ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن اللّه تعالى أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء. قوله عز وجل {فلما قضى زيد منها وطراً}، أي حاجة من نكاحها، {زوجناكها}، وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبنى تحل بعد الدخول بها. قال أنس كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم فتقول زوجكن أهاليكن زوجني اللّه من فوق سبع سموات. وقال الشعبي كانت زينب تقول للنبي صلى اللّه عليه وسلم إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن جدي وجدك واحد، إني أنكحنيك اللّه في السماء، وإن السفير لجبريل عليه السلام.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر،

أخبرنا عبد الغفار بن محمد،

أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي،

أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان،

أخبرنا مسلم بن الحجاج، حدثني محمد بن حاتم بن ميمون،

أخبرنا بهز،

أخبرنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال لما انقضت عدة زينب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لزيد فاذكرها علي، قال فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها، قال فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي، فقلت يا زينب أرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكرك. قالت ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن. قال ولقد رأيتنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم، حتى امتد النهار، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاتبعته فجعل يتتبع حجز نسائه يسلم عليهن، ويقلن يا رسول اللّه كيف وجدت أهلك؟ قال فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبرني. قال فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب.

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا سليمان بن حرب،

أخبرنا حماد، عن ثابت، عن أنس قال { ما أولم النبي صلى اللّه عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة}.

أخبرنا محمد بن عبد اللّه الصالحي،

أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي،

أخبرنا أبو العباس الأصم،

أخبرنا محمد بن هشام بن ملاس النمري،

أخبرنا مروان الفزاري،

أخبرنا حميد عن أنس قال {أولم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين ابتنى بزينب بنت جحش فأشبع المسلمين خبزاً ولحماً}. قوله عز وجل { لكي لا يكون على المؤمنين حرج }، إثم، {في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً}، والأدعياء جمع الدعي، وهو المتبني، يقول زوجناك زينب، وهي امرأة زيد الذي تبنيته، ليعلم أن زوجة المتبنى حلال للمتبنى، وإن كان قد دخل بها المتبنى بخلاف امرأة ابن الصلب فإنها لا تحل للأب. {وكان أمر اللّه مفعولاً}، أي كان قضاء اللّه ماضياً وحكمه نافذاً وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

٣٨

قوله عز وجل {ما كان على النبي من حرج فيما فرض اللّه له}، أي فيما أحل اللّه له، {سنة اللّه}، أي كسنة اللّه ، نصب بنزع الخافض،

وقيل نصب على الإغراء، أي الزموا سنة اللّه، {في الذين خلوا من قبل}، أي في الأنبياء الماضيين أن لا يؤاخذهم بما أحل لهم. قال الكلبي، ومقاتل أراد داود حين جمع بينه وبين المرأة التي هويها فكذلك جمع بين محمد صلى اللّه عليه وسلم وبين زينب.

وقيل أشار بالسنة إلى النكاح فإنه من سنة الأنبياء عليهم السلام.

وقيل إلى كثرة الأزواج مثل داود وسليمان عليهما السلام. {وكان أمر اللّه قدراً مقدوراً}، قضاءً مقضياً كائناً ماضياً.

٣٩

{الذين يبلغون رسالات اللّه}، يعني سنة اللّه في الأنبياء الذين يبلغون رسالات اللّه، {ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا اللّه}، لا يخشون قالة الناس ولائمتهم فيما أحل اللّه لهم وفرض عليهم، {وكفى باللّه حسيباً}، حافظاً لأعمال خلقه ومحاسبهم.

٤٠

ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما تزوج زينب قال الناس إن محمداً تزوج امرأة ابنه فأنزل اللّه عز وجل {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم}، يعني زيد بن حارثة، أي ليس أبا أحد من رجالكم الذين لم يلدهم فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها. فإن قيل أليس أنه كان له أبناء القاسم، والطيب، والطاهر، وإبراهيم، وكذلك الحسن والحسين، فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال للحسن إن ابني هذا سيد؟ قيل هؤلاء كانوا صغاراً لم يكونوا رجالاً. والصحيح ما قلنا إنه أراد أبا أحد من رجالكم. {ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين}، ختم اللّه به النبوة، وقرأ عاصم خاتم بفتح التاء على الإسم، أي آخرهم، وقرأ الآخرون بكسر التاء على الفاعل، لأنه ختم به النبيين فهو خاتمهم. قال ابن عباس يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابناً يكون بعده نبياً. وروي عن عطاء عن ابن عباس أن اللّه تعالى لما حكم أن لا نبي بعده لم يعطه ولداً ذكراً يصير رجلاً، {وكان اللّه بكل شيء عليماً}.

أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني،

أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد الخذاشاهي،

أخبرنا عبد اللّه بن محمد بن مسلم، حدثنا أبكر الجوربذي،

أخبرنا يونس بن عبد الأعلى،

أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس بن زيد، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة قال كان أبو هريرة يقول قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه، ترك منه موضع لبنة فطاف به النطار يتعجبون من حسن بنيانه إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون سواها فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان وختم بي الرسل}.

أخبرنا عبد اللّه بن عبد الصمد الجوزجاني،

أخبرنا علي بن أحمد الخزاعي،

أخبرنا الهيثم بن كليب الشاشي،

أخبرنا أبو عيسى الترمذي،

أخبرنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، وغير واحد قالوا،

أخبرنا سفيان عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {إن لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي، يمحو اللّه بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي}.

٤١

قوله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللّه ذكراً كثيراً}، قال ابن عباس لم يفرض اللّه تعالى على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فإنه لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله، وأمرهم به في كل الأحوال، فقال {فاذكروا اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم} (النساء-١٠٣). وقال {اذكروا اللّه ذكراً كثيراً}، أي بالليل والنهار، في البر والبحر وفي الصحة والسقم، في السر والعلانية. وقال مجاهد الذكر الكثير أن لا تنساه أبداً.

٤٢

{وسبحوه}، أي صلوا له، {بكرة}، يعني صلاة الصبح، {وأصيلاً}، يعني صلاة العصر.

وقال الكلبي وأصيلاً صلاة الظهر والعصر والعشاءين. وقال مجاهد يعني قولوا سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر، ولا حول ولا قوة إلا باللّه، فعبر بالتسبيح عن أخواته.

وقيل المراد من قوله {ذكراً كثيراً} هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب والمحدث.

٤٣

{هو الذي يصلي عليكم وملائكته}، فالصلاة من اللّه الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار للمؤمنين. قال السدي قالت بنو إسرائيل لموسى أيصلي ربنا؟ فكبر هذا الكلام على موسى، فأوحى اللّه إليه أن قل لهم إني أصلي، وأن صلاتي رحمتي، وقد وسعت رحمتي كل شيء.

وقيل الصلاة من اللّه على العبد هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده.

وقيل الثناء عليه. قال أنس لما نزلت {إن اللّه وملائكته يصلون على النبي}، قال أبو بكر ما خصك اللّه يا رسول اللّه بشرف إلا وقد أشركنا فيه، فأنزل اللّه هذه الآية. قوله {ليخرجكم من الظلمات إلى النور}، أي من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، يعني أنه برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى النور، {وكان بالمؤمنين رحيماً}.

٤٤

{تحيتهم}، أي تحية المؤمنين، {يوم يلقونه}، أي يرون اللّه، {سلام}، أي يسلم اللّه عليهم، ويسلمهم من جميع الآفات. وروي عن البراء بن عازب قال تحيتهم يوم يلقونه، يعني يلقون ملك الموت، لا يقبض روح مؤمن إلا يسلم عليه. وعن ابن مسعود قال إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال ربك يقرئك السلام.

وقيل تسلم عليهم الملائكة وتبشرهم حين يخرجون من قبورهم، {وأعد لهم أجراً كريماً} يعني الجنة.

٤٥

قوله عز وجل {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً}، أي شاهداً للرسل بالتبليغ، ومبشراً لمن آمن بالجنة، ونذيراً لمن كذب بآياتنا بالنار.

٤٦

{وداعياً إلى اللّه}، إلى توحيده وطاعته، {بإذنه}، بأمره، {وسراجاً منيراً}، سماه سراجاً لأنه يهتدى به كالسراج يستضاء به في الظلمة.

٤٧

{وبشر المؤمنين بأن لهم من اللّه فضلاً كبيراً}.

٤٨

{ولا تطع الكافرين والمنافقين}، ذكرنا تفسيره في أول السورة، {ودع أذاهم}، قال ابن عباس وقتادة اصبر على أذاهم. وقال الزجاج لا تجازهم عليه. وهذا منسوخ بآية القتال. {وتوكل على اللّه وكفى باللّه وكيلاً}، حافظاً.

٤٩

{يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن}، فيه دليل على أن الطلاق قبل النكاح غير واقع لأن اللّه تعالى رتب الطلاق على النكاح، حتى لو قال لامرأة أجنبية إذا نكحتك فأنت طالق، وقال كل امرأة أنكحها فهي طالق، فنكح، لا يقع الطلاق. وهو قول علي، وابن عباس، وجابر، ومعاذ، وعائشة، وبه قال سعيد بن المسيب، وعروة، وشريح وسعيد بن جبير، والقاسم وطاووس، والحسن، وعكرمة، وعطاء، وسليمان بن يسار، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، وأكثر أهل العلم رضي اللّه عنهم، وبه قال الشافعي. وروي عن ابن مسعود أنه يقع الطلاق، وهو قول إبراهيم النخعي، وأصحاب الرأي. وقال ربيعة، ومالك، والأوزاعي إن عين امرأة يقع، وإن عم فلا يقع. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال كذبوا على ابن مسعود، إن كان قالها فزلة من عالم في الرجل يقول إن تزوجت فلانة فهي طالق، يقول اللّه تعالى { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن }، ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي،

أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي،

أخبرنا الحسين بن محمد الديموري،

أخبرنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي،

أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري بمكة،

أخبرنا الربيع بن سليمان،

أخبرنا أيوب بن سويد،

أخبرنا ابن أبي ذئب عن عطاء، عن جابر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {لا طلاق قبل النكاح}. قوله عز وجل {من قبل أن تمسوهن}، تجامعوهن، {فما لكم عليهن من عدة تعتدونها}، تحصونها بالأقراء والأشهر، {فمتعوهن}، أي أعطوهن ما يستمتعن به. قال ابن عباس هذا إذا لم يكن سمى لها صداقاً فلها المتعة، فإن كان قد فرض لها صداقاً فلها نصف الصداق ولا متعة لها. وقال قتادة هذه الآية منسوخة بقوله {فنصف ما فرضتم} (البقرة-٢٣٧).

وقيل هذا أمر ندب، فالمتعة مستحبة لها مع نصف المهر. وذهب بعضهم إلى أنها تستحق المتعة بكل حال لظاهر الآية. {وسرحوهن سراحاً جميلاً}، خلوا سبيلهن بالمعروف من غير ضرار.

٥٠

قوله عز وجل {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن}، أي مهورهن، {وما ملكت يمينك مما أفاء اللّه عليك}، رد عليك من الكفار بأن تسبي فتملك مثل صفية وجويرية، وقد كانت مارية مما ملكت يمينه فولدت له إبراهيم، {وبنات عمك وبنات عماتك}، يعني نساء قريش، {وبنات خالك وبنات خالاتك}، يعني نساء بني زهرة، {اللاتي هاجرن معك}، إلى المدينة فمن لم تهاجر منهن معه لم يجز له نكاحها. وروى أبو صالح عن أم هانئ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما فتح مكة خطبني فأنزل اللّه هذه الآية فلم أحل له، لأني لم كن من المهاجرات وكنت من الطلقاء، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل. {وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصةً لك من دون المؤمنين}، أي. أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق، فأما غير المؤمنة فلا تحل له إذا وهبت نفسها منه.

واختلفوا في أنه هل كان يحل للنبي صلى اللّه عليه وسلم نكاح اليهودية والنصرانية بالمهر؟ فذهب جماعة إلى أنه كان لا يحل له ذلك، لقوله {وامرأة مؤمنة}، وأول بعضهم الهجرة في قوله {اللاتي هاجرن معك} على الإسلام، أي أسلمن معك. فيدل ذلك على أنه لا يحل له نكاح غير المسلمة، وكان النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مهر، وكان ذلك من خصائصه صلى اللّه عليه وسلم في النكاح ل

قوله تعالى {خالصة لك من دون المؤمنين}، كالزيادة على الأربع، ووجوب تخيير النساء كان من خصائصه ولا مشاركة لأحد معه فيه.

واختلف أهل العلم في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة؟ فذهب أكثرهم إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج، وهو قول سعيد بن المسيب، والزهري، ومجاهد، وعطاء، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي. وذهب قوم إلى أنه ينعقد بلفظ الهبة والتمليك، وهو قول إبراهيم النخعي، وأهل الكوفة. ومن قال لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج اختلفوا في نكاح النبي صلى اللّه عليه وسلم فذهب قوم إلى أنه كان ينعقد بلفظ الهبة، ل

قوله تعالى {خالصة لك من دون المؤمنين}. وذهب آخرون إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج كما في حق الأمة لقوله عز وجل {إن أراد النبي أن يستنكحها}، وكان اختصاصه صلى اللّه عليه وسلم في ترك المهر لا في لفظ النكاح.

واختلفوا في التي وهبت نفسها لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهل كانت عنده امرأة منهن؟. فقال عبد اللّه بن عباس، ومجاهد لم يكن عند النبي صلى اللّه عليه وسلم امرأة وهبت نفسها منه، ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين،

وقوله {إن وهبت نفسها} على طريق الشرط والجزاء. وقال آخرون بل كانت عنده موهوبة،

واختلفوا فيها، فقال الشعبي هي زينب بنت خزيمة الهلالية، يقال لها أم المساكين. وقال قتادة هي ميمونة بنت الحارث. وقال علي بن الحسين، والضحاك ومقاتل هي أم شريك بنت جابر من بني أسد. وقال عروة بن الزبير هي خولة بنت حكيم من بني سليم. قوله عز وجل {قد علمنا ما فرضنا عليهم}، أي أوجبنا على المؤمنين، {في أزواجهم}، من الأحكام أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر، {وما ملكت أيمانهم}، أي ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين، {لكيلا يكون عليك حرج}، وهذا يرجع إلى أول الآية أي أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لك لكي لا يكون عليك حرج وضيق. {وكان اللّه غفوراً رحيما}.

٥١

{ترجي}، أي تؤخر، {من تشاء منهن وتؤوي}، أي تضم، {إليك من تشاء}. اختلف المفسرون في معنى الآية فأشهر الأقاويل أنه في القسم بينهن، وذلك أن التسوية بينهن في القسم كان واجباً عليه، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن. قال أبو رزين، وابن زيد نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي صلى اللّه عليه وسلم وطلب بعضهن زيادة النفقة، فهجرهن النبي صلى اللّه عليه وسلم شهراً حتى نزلت آية التخيير، فأمره اللّه عز وجل أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة، وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا ويمسك من اختارت اللّه ورسوله والدار الآخرة، على أنهن أمهات المؤمنين ولا ينكحن أبداً، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن، ويرجي من يشاء، فيرضين به قسم لهن أو لم يقسم، أو قسم لبعضهن دون بعض، أو فضل بعضهن في النفقة والقسمة، فيكون الأمر في ذلك إليه فيفعل كيف يشاء، وكان ذلك من خصائصه فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط.

واختلفوا في أنه هل أخرج أحداً منهن عن القسم؟ فقال بعضهم لم يخرج أحداً، بل كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم -مع ما جعله اللّه له من ذلك- يسوي بينهن في القسم إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم، وجعلت يومها عائشة.

وقيل أخرج بعضهن. روى جرير عن منصور عن أبي رزين قال لما نزل التخيير أشفقن أن يطلقهن، فقلن يا نبي اللّه اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا، فنزلت هذه الآية، فأرجى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعضهن وآوى إليه بعضهن، وكان ممن آوى إليه عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، فكان يقسم بينهن سواء، وأرجى منهن خمساً أم حبيبة، وميمونة، وسودة، وصفية وجويرية، فكان يقسم لهن ما شاء. وقال مجاهد ترجي من تشاء منهن يعني تعزل من تشاء منهن بغير طلاق، وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد.

وقال ابن عباس تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء.

وقال الحسن تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من نساء أمتك. وقال كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره خطبتها حتى يتركها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها.

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا محمد بن سلام،

أخبرنا ابن فضيل،

أخبرنا هشام عن أبيه قال كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت عائشة أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل؟ فلما نزلت {ترجي من تشاء منهن}، قلت يا رسول اللّه ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. قوله عز وجل {ومن ابتغيت ممن عزلت}، أي طلبت وأردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن عن القسم، {فلا جناح عليك} لا إثم عليك، فأباح اللّه له ترك القسم لهن حتى إنه ليؤخر من يشاء منهن في نوبتها ويطأ من يشاء منهن في غير نوبتها، ويرد إلى فراشه من عزلها تفضيلاً له على سائر الرجال، {ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن}، أي التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن وأطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن إذا علمنم أن ذلك من اللّه عز وجل، {ويرضين بما آتيتهن}، أعطيتهن، {كلهن}، من تقرير وإرجاء وعزل وإيواء، {واللّه يعلم ما في قلوبكم}، من أمر النساء والميل إلى بعضهن، {وكان اللّه عليماً حليماً}.

٥٢

قوله عز وجل {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج}، قرأ أبو عمرو ويعقوب لا تحل بالتاء، وقرأ الآخرون بالياء، من بعد يعني من بعد هؤلاء التسع اللاتي خيرتهن فاخترنك، وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما خيرهن فاخترن اللّه ورسوله شكر اللّه لهن وحرم عليه النساء سواهن ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن، هذا قول ابن عباس وقتادة.

واختلفوا في أنه هل أبيح له النساء من بعد؟ قالت عائشة ما مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أحل له النساء سواهن. وقال أنس مات على التحريم. وقال عكرمة، والضحاك معنى الآية لا يحل لك النساء إلا اللاتي أحللنا لك وهو قوله {إنا أحللنا لك أزواجك} الآية، ثم قال {لا يحل لك النساء من بعد} إلا التي أحللنا لك بالصفة التي تقدم ذكرها.

وقيل لأبي بن كعب لو مات نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم أكان يحل له أن يتزوج؟ قال وما يمنعه من ذلك؟ قيل قوله عز وجل {لا يحل لك النساء من بعد}، قال إنما أحل اللّه له ضرباً من النساء، قال {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك}، ثم قال {لا يحل لك النساء من بعد}. قال أبو صالح أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا عربية، وتزوج من نساء قومه من بنات العم والعمة والخالة إن شاء ثلاثمائة وقال مجاهد معناه لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات بعد المسلمات ولا أن تبدل بهن، يقول ولا أن تبدل بالمسلمات غيرهن من اليهود والنصارى، يقول لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية، إلا ما ملكت يمينك، أحل له ما ملكت يمينه من الكتابيات أن يتسرى بهن. وروي عن الضحاك يعني ولا أن تبدل بهن ولا أن تبدل بأزواجك اللاتي هن في حيالك أزواجاً غيرهن بأن تطلقهن فتنكح غيرهن، فحرم عليه طلاق النساء اللواتي كن عنده إذ جعلهن أمهات المؤمنين، وحرمهن على غيره حين اخترنه، فأما نكاح غيرهن فلم يمنع عنه. وقال ابن زيد في قوله {ولا أن تبدل بهن من أزواج}، كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم، يقول الرجل للرجل بادلني بامرأتك، وأبادلك بامرأتي، تنزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي، فأنزل اللّه {ولا أن تبدل بهن من أزواج}، يعني لا تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجك وتأخذ زوجته، إلا ما ملكت يمينك لا بأس أن تبدل بجاريتك ما شئت، فأما الحرائر فلا. وروي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال {دخل عيينة بن حصن على النبي صلى اللّه عليه وسلم بغير إذن، وعنده عائشة، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم يا عيينة فأين الاستئذان؟ قال يا رسول اللّه ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت، ثم قال من هذه الحميراء إلى جنبك؟ فقال هذه عائشة أم المؤمنين، فقال عيينة أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن اللّه قد حرم ذلك، فلما خرج قالت عائشة من هذا يا رسول اللّه؟ فقال هذا أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه}. قوله عز وجل {ولو أعجبك حسنهن}، يعني ليس لك أن تطلق أحداً من نسائك وتنكح بدلها أخرى ولو أعجك جمالها. قال ابن عباس يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، فلما استشهد جعفر أراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يخطبها فنهى عن ذلك. {إلا ما ملكت يمينك}، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما ملك بعد هؤلاء مارية. {وكان اللّه على كل شيء رقيباً}، حافظاً. وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء. روي عن جابر رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل}.

أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني،

أخبرنا أبو محمد بن محمد بن علي بن شريك الشافعي،

أخبرنا عبد اللّه بن محمد بن مسلم،

أخبرنا أبو بكر الجوربذي، قال

أخبرنا أحمد بن حرب،

أخبرنا أبو معاوية، عن عاصم هو ابن سليمان، عن بكر بن عبد اللّه، {عن المغيرة بن شعبة قال خطبت امرأةً فقال لي النبي صلى اللّه عليه وسلم هل نظرت إليها؟ قلت لا، قال فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما}.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي،

أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي،

أخبرنا عبد اللّه بن حامد،

أخبرنا حامد بن محمد،

أخبرنا بشر بن موسى،

أخبرنا الحميدي،

أخبرنا سفيان،

أخبرنا يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة {أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم انظر إليها فإن في أعين نساء الأنصار شيئاً}، قال الحميدي يعني الصغر.

٥٣

قوله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم}، الآية. قال أكثر المفسرين نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب بنت جحش حين بنى بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا يحيى بن بكير،

أخبرنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني أنس بن مالك أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة، قال وكانت أم هانئ تواظبني على خدمة النبي صلى اللّه عليه وسلم، فخدمته عشر سنين، وتوفي النبي صلى اللّه عليه وسلم وأنا ابن عشرين سنة، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، فكان أول ما أنزل في مبتنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بزينب بنت جحش، أصبح النبي صلى اللّه عليه وسلم بها عروساً فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقي رهط منهم عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فأطالوا المكث، فقام النبي للّه فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا، فمشى النبي صلى اللّه عليه وسلم ومشيت حتى جاء حجرة عائشة، ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه، حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يخرجوا، فرجع النبي صلى اللّه عليه وسلم، ورجعت معه حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة وظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا، فضرب النبي صلى اللّه عليه وسلم بيني وبينه الستر، وأنزل الحجاب. وقال أبو عثمان -واسمه الجعد- عن أنس قال فدخل يعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة، وهو يقول {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} إلى قوله { واللّه لا يستحيي من الحق }. وروي عن ابن عباس أنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتأذى بهم، فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} يقول إلا أن تدعوا، {إلى طعام}، فيؤذن لكم فتأكلونه، {غير ناظرين إناه}، غير منتظرين إدراكه ووقت نضجه، يقال أنى الحميم إذا انتهى حره، وإني أن يفعل ذلك إذا حان، إنى بكسر الهمزة مقصورة، فإذا فتحتها مددت فقلت الإناء، وفيه لغتان إني يأنى، وآن يئين، مثل حان يحين. {ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم}، أكلتم الطعام، {فانتشروا}، تفرقوا واخرجوا من منزله، {ولا مستأنسين لحديث}، ولا طالبين الأنس للحديث، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون طويلاً فنهواً عن ذلك. { إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم واللّه لا يستحيي من الحق }، أي لا يترك تأديبكم وبيان الحق حياءً. { وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب }، أي من وراء ستر، فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم متنقبة كانت أو غير متنقبة، {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} من الريب. وقد صح في سبب نزول آية الحجاب ما

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا يحيى بن بكير،

أخبرنا الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع، وهو صعيد أفيح، وكان عمر يقول للنبي صلى اللّه عليه وسلم احجب نساءك، فلم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر ألا قد عرفناك يا سودة -حرصاً على أن ينزل الحجاب-،

فأنزل اللّه تعالى آية الحجاب.

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الصالحي،

أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري،

أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي،

أخبرنا عبد الرحيم بن منيب،

أخبرنا يزيد بن هارون،

أخبرنا حميد، عن أنس قال {قال عمر وافقني ربي في ثلاث، قلت يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل اللّه }واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى{، وقلت يا رسول اللّه إنه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل اللّه آية الحجاب، قال وبلغني بعض ما آذى به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساؤه، قال فدخلت عليهن استقربهن واحدة واحدة، قلت واللّه لتنتهن أو ليبدلنه اللّه أزواجاً خيراً منكن، حتى أتيت على زينب فقالت يا عمر ما كان في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، قال فخرجت فأنزل اللّه عز وجل } عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن { (التحريم-٥)، إلى آخر الآية}. قوله عز وجل {وما كان لكم أن تؤذوا رسول اللّه}، ليس لكم أذاه في شيء من الأشياء، { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا }، نزلت في رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، قال لئن قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأنكحن عائشة. قال مقاتل بن سليمان هو طلحة بن عبيد اللّه، فأخبر اللّه عز وجل أن ذلك محرم، وقال {إن ذلكم كان عند اللّه عظيماً}، أي ذنباً عظيماً. وروى معمر عن الزهري، أن العالية بنت ظبيان التي طلق النبي صلى اللّه عليه وسلم تزوجت رجلاً وولدت له، وذلك قبل تحريم أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم على الناس.

٥٤

{ إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن اللّه كان بكل شيء عليما }، نزلت فيمن أضمر نكاح عائشة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل قال رجل من الصحابة ما بالنا نمنع من الدخول على بنات أعمامنا؟ فنزلت هذه الآية.

٥٥

ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب ونحن أيضاً نكلمهن من وراء الحجاب؟ فأنزل اللّه {لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن}، أي لا إثم عليهن في ترك الاحتجاب من هؤلاء، {ولا نسائهن}، قيل أراد به النساء المسلمات، حتى لا يجوز للكتابيات الدخول عليهن،

وقيل هو عام في المسلمات والكتابيات، وإنما قال ولا نسائهن لأنهن من أجناسهن، {ولا ما ملكت أيمانهن}.

واختلفوا في أن عبد المرأة هل يكون محرماً لها أم لا؟ فقال قوم يكون محرماً لقوله عز وجل {ولا ما ملكت أيمانهن}. وقال قوم هو كالأجانب، والمراد من الآية الإماء دون العبيد. {واتقين اللّه} أن يراكن غير هؤلاء، {إن اللّه كان على كل شيء}، من أعمال العباد {شهيداً}.

٥٦

قوله عز وجل {إن اللّه وملائكته يصلون على النبي}، قال ابن عباس أراد إن اللّه يرحم النبي، والملائكة يدعون له. وعن ابن عباس أيضاً يصلون يتبركون.

وقيل الصلاة من اللّه الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار. {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه}، ادعوا له بالرحمة، {وسلموا تسليماً}، أي حيوه بتحية الإسلام. وقال أبو العالية صلاة اللّه ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء.

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي،

أخبرنا أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه الحافظ،

أخبرنا أبو بكر أحمد بن سليمان الفقيه ببغداد،

أخبرنا أبو بكر أحمد بن زهير بن حرب،

أخبرنا موسى بن إسماعيل،

أخبرنا أبو سلمة،

أخبرنا عبد الواحد بن زياد،

أخبرنا أبو فروة، حدثني عبد اللّه بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سمع عبد الرحمن بن أبي ليلى، يقول {لقيني كعب بن عجرة قال ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى اللّه عليه وسلم؟ فقلت بلى فاهدها لي، فقال سألنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقلنا يا رسول اللّه كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ قال قولوا اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللّهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد}.

أخبرنا أبو الحسن السرخسي،

أخبرنا زاهر بن أحمد،

أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي،

أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن عبد اللّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمرو بن سليمان الزرقي أنه قال أخبرني أبو حميد الساعي أنهم قالوا {يا رسول اللّه كيف نصلي عليك؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قولوا اللّهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد}.

أخبرنا أبو عمرو ومحمد بن عبد الرحمن النسوي،

أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري،

أخبرنا محمد بن يعقوب،

أخبرنا العباس بن محمد الدوري،

أخبرنا خالد بن مخلد القطواني،

أخبرنا موسى بن يعقوب الزمعي، عن عبد اللّه بن كيسان، أخبرني عبد اللّه بن شداد، عن ابن مسعود قال {قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاةً}.

أخبرنا أبو عبد اللّه بن الفضل الخرقي،

أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد اللّه الطيسفوني،

أخبرنا عبد اللّه بن عمر الجوهري،

أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني،

أخبرنا علي بن حجر،

أخبرنا إسماعيل بن جعفر،

أخبرنا العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال {من صلى علي واحدةً صلى اللّه عليه عشراً}.

أخبرنا أبو بكر بن عبد اللّه بن أبي توبة،

أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث،

أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي،

أخبرنا عبد اللّه بن محمود،

أخبرنا إبراهيم بن عبد اللّه الخلال،

أخبرنا عبد اللّه بن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن سليمان مولى الحسن بن علي، عن عبد اللّه بن أبي طلحة، عن أبيه، {عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه جاء ذات يوم والبشرى في وجهه، فقال إنه جاءني جبريل فقال إن ربك يقول أما يرضيك يا محمد أن لا يصل عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً}.

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح،

أخبرنا أبو القاسم البغوي،

أخبرنا علي بالجعد،

أخبرنا شعبة، عن عاصم هو ابن عبيد اللّه قال سمعت عبد اللّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول {من صلى علي صلاةً صلت عليه الملائكة ما صلى علي فليقل العبد من ذلك أو ليكثر}. حدثنا أبو القاسم يحيى بن علي الكشميهني،

أخبرنا جناح بن يزيد المحاربي بالكوفة،

أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني،

أخبرنا أحمد بن حازم،

أخبرنا عبد اللّه بن موسى وأبو نعيم، عن سفيان، عن عبيد اللّه بن السائب، عن زاذان، عن عبد اللّه بن مسعود قال {قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن للّه ملائكةً سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام}.

٥٧

قوله عز وجل {إن الذين يؤذون اللّه ورسوله لعنهم اللّه في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً}، قال ابن عباس هم اليهود والنصارى والمشركون. فأما اليهود فقالوا عزير ابن اللّه، ويد اللّه مغلولة، وقالوا إن اللّه فقير، وأما النصارى فقالوا المسيح ابن اللّه، وثالث ثلاثة، وأما المشركون فقالوا الملائكة بنات اللّه، والأصنام شركاؤه. وروينا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال {يقول اللّه سبحانه وتعالى شتمني عبدي، يقول اتخذ اللّه ولداً، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد}. وروينا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال {قال اللّه تعالى يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار}.

وقيل معنى يؤذون اللّه يلحدون في أسمائه وصفاته. وقال عكرمة هم أصحاب التصاوير.

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا محمد بن العلاء،

أخبرنا ابن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة، سمع أبا هريرة قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول {قال اللّه تعالى ومن أظلم ممن ذهب بخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة}.

وقال بعضهم يؤذون اللّه أي يؤذون أولياء اللّه، ك

قوله تعالى { واسأل القرية } (يوسف-٨٢)، أي أهل القرية. وروينا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال {قال اللّه تعالى من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وقال من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة}. ومعنى الأذى هو مخالفة أمر اللّه تعالى وارتكاب معاصيه، ذكره على ما يتعارفه الناس بينهم، واللّه عز وجل منزه عن أن يلحقه أذى من أحد، وإيذاء الرسول، قال ابن عباس هو أن شج في وجهه وكسرت رباعيته.

وقيل شاعر، ساحر، معلم، مجنون.

٥٨

{والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا}، من غير أن عملوا ما أوجب أذاهم، وقال مجاهد يقعون فيهم ويرمونهم بغير جرم، {فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً}. وقال مقاتل نزلت في علي بن أبي طالب وذلك أن ناساً من المنافقين كانوا يؤذونه ويشتمونه.

وقيل نزلت في شأن عائشة. وقال الضحاك، والكلبي نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيغمزون المرأة، فإن سكتت اتبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها، ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء، ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة لأن زي الكل كان واحداً، يخرجن في درع وخمار، الحرة والأمة، فشكون ذلك إلى أزواجهن، فذكروا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات} الآية.

٥٩

ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإماء فقال جل ذكره {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن}، جمع الجلباب، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار. وقال ابن عباس وأبو عبيدة أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عيناً واحدة ليعلم أنهن حرائر. {ذلك أدنى أن يعرفن}، أنهن حرائر، {فلا يؤذين}، فلا يتعرض لهن، {وكان اللّه غفوراً رحيماً}، قال أنس مرت بعمر بن الخطاب جارية متقنعة فعلاها بالدرة، وقال يا لكاع أتتشبهين بالحرائر، ألقي القناع.

٦٠

قوله عز وجل {لئن لم ينته المنافقون}، عن نفاقهم، {والذين في قلوبهم مرض}، فجور، يعني الزناة، {والمرجفون في المدينة}، بالكذب، وذلك أن ناساً منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوقعون في الناس أنهم قتلوا وهزموا، ويقولون قد أتاكم العدو ونحوها.

وقال الكلبي كانوا يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ويفشون الأخبار. {لنغرينك بهم}، لنحرشنك بهم ولنسلطنك عليهم، {ثم لا يجاورونك فيها}، لا يساكنونك في المدينة {إلا قليلاً}، حتى يخرجوا منها،

وقيل لنسلطنك عليهم حتى تقتلهم وتخلي منهم المدينة.

٦١

{ملعونين}، مطرودين، نصب على الحال، {أينما ثقفوا}، وجدوا وأدركوا، {أخذوا وقتلوا تقتيلاً}، أي الحكم فيهم هذا على جهة الأمر به.

٦٢

{سنة اللّه}، أي كسنة اللّه، {في الذين خلوا من قبل}، من المنافقين والذين فعلوا مثل فعل هؤلاء، {ولن تجد لسنة اللّه تبديلاً}.

٦٣

قوله عز وجل { يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند اللّه وما يدريك }، أي أي شيء يعلمك أمر الساعة، ومتى يكون قيامها؟ أي أنت لا تعرفه، {لعل الساعة تكون قريباً}.

٦٤

{إن اللّه لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً}.

٦٥

{خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيراً}.

٦٦

{يوم تقلب وجوههم في النار}، ظهراً لبطن حين يسحبون عليها، {يقولون يا ليتنا أطعنا اللّه وأطعنا الرسولا}، في الدنيا.

٦٧

{وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا}، قرأ ابن عامر، ويعقوب سادتنا بكسر التاء والألف قبلها على جمع الجمع، وقرأ الآخرون بفتح التاء بلا ألف قبلها، {وكبراءنا فأضلونا السبيلا}.

٦٨

{ربنا آتهم ضعفين من العذاب}، أي ضعفي عذاب غيرهم، {والعنهم لعناً كبيراً}، قرأ عاصم كبيراً بالباء. قال الكلبي أي عذاباً كثيراً، وقرأ الآخرون بالثاء ل

قوله تعالى {أولئك عليهم لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين} (البقرة-١٦١)، وهذا يشهد للكثرة، أي مرة بعد مرة.

٦٩

قوله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه اللّه مما قالوا}، فطهره اللّه مما قالوا {وكان عند اللّه وجيهاً}، كريماً ذا جاه، يقال وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه، إذا كان ذا جاه وقدر. قال ابن عباس كان حظياً عند اللّه لا يسأل شيئاً إلا أعطاه.

وقال الحسن كان مستجاب الدعوة.

وقيل كان مجيباً مقبولاً.

واختلفوا فيما أوذي به موسى ف

أخبرنا عبد الواحد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا إسحاق بن إبراهيم،

أخبرنا روح بن عبادة،

أخبرنا عوف، عن الحسن ومحمد وخلاس، عن أبي هريرة قال {قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياءً منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص أو أدرة وإما آفة، وإن اللّه أراد أن يبرئه مما قالوا، فخلا يوماً وحده فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملإ من بني إسرائيل، فرأوه عرياناً أحسن ما خلق اللّه، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضرباً بعصاه، فواللّه إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً}، فذلك قوله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه اللّه مما قالوا وكان عند اللّه وجيهاً}. وقال قوم إيذاؤهم إياه أنه لما مات هارون في التيه ادعوا على موسى أنه قتله، فأمر اللّه الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله، فبرأه اللّه مما قالوا. وقال أبو العالية هو أن قارون استأجر مومسة لتقذف موسى بنفسها على رأس الملإ فعصمها اللّه وبرأ موسى من ذلك، وأهلك قارون.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي،

أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي،

أخبرنا محمد بن يوسف،

أخبرنا محمد بن إسماعيل،

أخبرنا أبو الوليد،

أخبرنا شعبة، عن الأعمش قال سمعت أبا وائل قال سمعت عبد اللّه قال {قسم النبي صلى اللّه عليه وسلم قسماً، فقال رجل إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه اللّه، فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال يرحم اللّه موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر}.

٧٠

قوله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وقولوا قولاً سديداً}، قال ابن عباس صواباً. وقال قتادة عدلاً.

وقال الحسن صدقاً.

وقيل مستقيماً. وقال عكرمة هو قول لا إله إلا اللّه.

٧١

{يصلح لكم أعمالكم}، قال ابن عباس يتقبل حسناتكم، وقال مقاتل يزك أعمالكم، {ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع اللّه ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً}، أي ظفر بالخير كله.

٧٢

قوله عز وجل {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال}، الآية. أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها اللّه على عباده، عرضها على السموات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم، وهذا قول ابن عباس. وقال ابن مسعود الأمانة أداء الصلوات، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وصدق الحديث، وقضاء الدين، والعدل في المكيال والميزان، وأشد من هذا كله الودائع. وقال مجاهد الأمانة الفرائض، وحدود الدين. وقال أبو العالية ما أمروا به ونهوا عنه. وقال زيد بن أسلم هو الصوم، والغسل من الجنابة، وما يخفى من الشرائع. وقال عبد اللّه بن عمرو بن العاص أول ما خلق اللّه من الإنسان فرجه وقال هذه أمانة استودعتكها، فالفرج أمانة، والعين أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.

وقال بعضهم هي أمانات الناس، والوفاء بالعهود، فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمناً ولا معاهداً في شيء قليل ولا كثير، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس، فعرض اللّه هذه الأمانة على أعيان السموات والأرض والجبال، هذا قول ابن عباس وجماعة من التابعين وأكثر السلف، فقال لهن أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن وما فيها؟ قال إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن، فقلن لا يا رب، نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً، وقلن ذلك خوفاً وخشية وتعظيماً لدين اللّه أن لا يقوموا بها لا معصية ولا مخالفة، وكان العرض عليهن تخييراً لا إلزاماً ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها، والجمادات كلها خاضعة للّه عز وجل مطيعة ساجدة له كما قال جل ذكره للسموات والأرض {ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} (فصلت-١١)، وقال للحجارة {وإن منها لما يهبط من خشية اللّه} (البقرة-٧٤)، وقال تعالى {ألم تر أن اللّه يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب} (الحج-١٨) الآية. وقال بعض أهل العلم ركب اللّه عز وجل فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن.

وقال بعضهم المراد من العرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات والأرض، عرضها على من فيها من الملائكة.

وقيل على أهلها كلها دون أعيانها، ك

قوله تعالى { واسأل القرية } (يوسف-٨٢)، أي أهل القرية. والأول أصح، وهو قول العلماء. {فأبين أن يحملنها وأشفقن منها}، أي خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فليحقهن العقاب، {وحملها الإنسان}، يعني آدم عليه السلام، فقال اللّه لآدم إني عرضت الأمانة السموات والأرض والجبال فلم تطلقها فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال يا رب وما فيها؟ قال إن أحسنت جوزيت، وإن أسأت عوقبت، فتحملها آدم، وقال بين أذني وعاتقي، قال اللّه تعالى أما إذا تحملت فسأعينك، أجعل لبصرك حجاباً فإذا خشيت أن تنظر إلى مالا يحل لك فارخ عليه حجابه، وأجعل للسانك لحين غلقاً فإذا غشيت فأغلق، وأجعل لفرجك لباساً فلا تكشفه على ما حرمت عليك. قال مجاهد فما كان بين أن تحملها وبين أن خرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر. وحكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود أنه قال مثلت الأمانة كصخرة ملقاة، ودعيت السموات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها، وقالوا لا نطيق حملها، وجاء آدم من غير أن يدعى، وحرك الصخرة، وقال لو أمرت بحملها لحملتها، فقلن له احملها، فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها، وقال واللّه لو أردت أن أزداد لزدت، فقلن له احملها فحملها إلى حقوه، ثم وضعها، وقال واللّه لو أردت أن أزداد لزدت، فقلن له احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه، فأراد أن يضعها قال اللّه مكانك فإنها في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة. {إنه كان ظلوماً جهولاً}، قال ابن عباس ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر اللّه وما احتمل من الأمانة.

وقال الكلبي ظلوماً حين عصى ربه، جهولاً لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة. وقال مقاتل ظلوماً لنفسه جهولاً بعاقبة ما تحمل. وذكر الزجاج وغيره من أهل المعاني، في قوله وحملها الإنسان قولان، فقالوا إن اللّه ائتمن آدم وأولاده على شيء وائتمن السموات والأرض والجبال على شيء، فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا في الطاعة والقيام بالفرائض، والأمانة في حق السموات والأرض والجبال هي الخضوع والطاعة لما خلقهن له.

وقيل قوله {فأبين أن يحملنها}، أي أدين الأمانة، يقال فلان لم يتحمل الأمانة أي لم يخن فيها وحملها الإنسان أي خان فيها، يقال فلان حمل الأمانة أي أثم فيها بالخيانة. قال اللّه تعالى {وليحملن أثقالهم} (العنكبوت-١٣)، إنه كان ظلوماً جهولاً. حكى عن الحسن على هذا التأويل إنه قال وحملها الإنسان يعني الكافر والمنافق، حملا الأمانة أي خانا. وقول السلف ما ذكرنا.

٧٣

قوله عز وجل {ليعذب اللّه المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات}، قال مقاتل ليعذبهم بما خانوا الأمانة ونقضوا الميثاق، {ويتوب اللّه على المؤمنين والمؤمنات وكان اللّه غفوراً رحيماً}، يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة. وقال ابن قتيبة أي عرضنا الأمانة ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهما اللّه، ويظهر إيمان المؤمن فيتوب اللّه عليه، أي يعود عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات.

﴿ ٠