سورة النازعات

١

{والنازعات غرقاً}، يعني الملائكة تنزع أرواح الكفار من أجسادهم، كما يغرق النازع في القوس فيبلغ بها غاية المد بعد ما نزعها حتى إذا كادت تخرج ردها في جسده فهذا عمله بالكافر، و الغرق اسم أقيم مقام الإغراق، أي والنازعات إغراقاً، والمراد بالإغراق المبالغة في المد. قال ابن مسعود ينزعها ملك الموت وأعوانه من تحت كل شعرة ومن الأظافير وأصول القدمين، ويرددها في جسده بعد ما ينزعها حتى إذا كادت تخرج ردها في جسده ما ينزعها، فهذا عمله بالكفار. وقال مقاتل ملك الموت وأعوانه ينزعون أرواح الكفار كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل، فتخرج نفسه كالغريق في الماء. وقال مجاهد هو الموت ينزع النفوس. وقال السدي هي النفس حين تغرق في الصدر. وقال الحسن وقتادة وابن كيسان هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب. وقال عطاء وعكرمة هي القسي.

وقيل الغزاة الرماة.

٢

{والناشطات نشطاً}، هي الملائكة تنشط نفس المؤمن، أي تحل حلاً رفيقاً فتقبضها، كما ينشط العقال من يد البعير، أي يحل برفق، حكى الفراء هذا القول، ثم قال والذي سمعت من العرب أن يقولوا أنشطت العقال، إذا حللته، وأنشطته إذا عقدته بأنشوطة. وفي الحديث {كأنما أنشط من عقال}. وعن ابن عباس هي نفس المؤمن تنشط للخروج عند الموت، لما يرى من الكرامة لأنه تعرض عليه الجنة قبل أن يموت. وقال علي بن أبي طالب هي الملائكة تنشط أرواح الكفار مما بين الجلد والأظافر حتى تخرجها من أفواههم بالكرب والغم، والنشط الجذب والنزع، يقال نشطت الدلو نشطاً إذا نزعتها قال الخليل النشط والإنشاط مدك الشيء إلى نفسك، حتى ينحل. وقال مجاهد هو الموت ينشط النفوس. وقال السدي هي النفس تنشط من القدمين أي تجذب. وقال قتادة هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق، أي تذهب، يقال نشط من بلد إلى بلد، إذا خرج في سرعة،

ويقال حمار ناشط، ينشط من بلد إلى بلد، وقال عطاء وعكرمة هي الأوهاق.

٣

{والسابحات سبحاً}، هم الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها سلاً رفيقاً، ثم يدعونها حتى تستريح كالسابح بالشيء في الماء يرفق به. وقال مجاهد وأبو صالح هم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين كالفرس الجواد يقال له سابح إذا أسرع في جريه.

وقيل هي خيل الغزاة. وقال قتادة هي النجوم والشمس والقمر، قال اللّه تعالى {كل في فلك يسبحون} (الأنبياء- ٣٣). وقال عطاء هي السفن.

٤

{فالسابقات سبقاً}، قال مجاهد هي الملائكة تسبق ابن آدم بالخير والعمل الصالح. وقال مقاتل هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة. وعن ابن مسعود قال هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها شوقاً إلى لقاء اللّه وكرامته، وقد عاينت السرور. وقال قتادة هي النجوم يسبق بعضها بعضاً في السي. وقال عطاء هي الخيل.

٥

{فالمدبرات أمراً}، قال ابن عباس هم الملائكة وكلوا بأمور عرفهم اللّه عز وجل العمل بها. قال عبد الرحمن بن سابط يدبر الأمور في الدنيا أربعة جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل، عليهم السلام، أما جبريل فموكل بالريح والجنود، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم. وجواب هذه الأقسام محذوف، على تقدير لتبعثن ولتحاسبن.

وقيل جوابه قوله {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى}.

وقيل فيه تقديم وتأخير، تقديره يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة والنازعات غرقاً.

٦

قوله عز وجل {يوم ترجف الراجفة}، يعني النفخة الأولى، يتزلزل ويتحرك لها كل شيء، ويموت منها جميع الخلائق.

٧

{تتبعها الرادفة}، وهي النفخة الثانية ردفت الأولى وبينهما أربعون سنة. قال قتادة هما صيحتان فالأولى تميت كل شيء، والأخرى تحيي كل شيء بإذن اللّه عز وجل. وقال مجاهد ترجف الراجفة تتزلزل الأرض والجبال، تتبعها الرادفة حين تنشق السماء، وتحمل الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة. وقال عطاء {الراجفة} القيامة و {الرادفة} البعث. وأصل الرجفة الصوت والحركة.

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي،

أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، حدثنا عبد اللّه بن يوسف بن أحمد بن مالك، حدثنا محمد بن هارون الحضرمي، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا قبيصة بن عقبة، عن سفيان الثوري، عن عبد اللّه بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبي بن كعب قال {كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام، وقال يا أيها الناس اذكروا اللّه، اذكروا اللّه، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه}.

٨

{قلوب يومئذ واجفة}، خائفة قلقة مضطربة، وسمي الوجيف في السير، لشدة اضطرابه، يقال وجف القلب ووجب وجوفاً ووجيفاً ووجوباً ووجيباً. وقال مجاهد وجلة. وقال السدي زائلة عن أماكنها، نظيره {إذ القلوب لدى الحناجر} (غافر- ١٨).

٩

{أبصارها خاشعة}، ذليلة، كقوله {خاشعين من الذل} (الشورى- ٤٥) الآية.

١٠

{يقولون} يعني المنكرين للبعث إذا قيل لهم إنكم مبعوثون من بعد الموت { أإنا لمردودون في الحافرة }؟ أي إلى أول الحال وابتداء الأمر، فنصير أحياءً بعد الموت كما كنا؟ تقول العرب رجع فلان في حافرته، أي رجع من حيث جاء، والحافرة عندهم اسم لابتداء الشيء، وأول الشيء.

وقال بعضهم {الحافرة} وجه الأرض التي تحفر فيها قبورهم، سميت حافرة بمعنى المحفورة، كقوله {عيشة راضية} أي مرضية.

وقيل سميت حافرة لأنها مستقر الحوافر، أي أإنا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقاً جديداً نمشي عليها؟ وقال ابن زيد {الحافرة} النار.

١١

{ أإذا كنا عظاما نخرة }، قرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، ويعقوب أإنا؟ مستفهماً، إذا بتركه، ضده أبو جعفر، الباقون باستفهامهما، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو عمرو عظاماً ناخرة، وقرأ الآخرون {نخرة} وهما لغتان، مثل الطمع والطامع والحذر والحاذر، ومعناهما البالية، وفرق قوم بينهما، فقالوا النخرة البالية، والناخرة المجوفة التي تمر فيها الريح فتنخر، أي تصوت.

١٢

{قالوا}، يعني المنكرين {تلك إذاً كرة خاسرة}، رجعة خائبة، يعني إن رددنا بعد الموت لنخسرن بما يصيبنا بعد الموت.

١٣

قال اللّه عز وجل {فإنما هي}، يعني النفخة الأخيرة، {زجرة}، صيحة، {واحدة}، يسمعونها.

١٤

{فإذا هم بالساهرة}، يعني وجه الأرض، أي صاروا على وجه الأرض بعد ما كانوا في جوفها. والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة. قال بعض أهل اللغة تراهم سموها ساهرة لأن فيه نوم الحيوان وسهرهم. قال سفيان هي أرض الشام. وقال قتادة هي جهنم.

١٥

قوله عز وجل {هل أتاك حديث موسى}، يقول قد جاءك يامحمد حديث موسى.

١٦

{إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوىً}.

١٧

فقال يا موسى {اذهب إلى فرعون إنه طغى}، علا وتكبر وكفر باللّه.

١٨

{فقل هل لك إلى أن تزكى}، قرأ أهل الحجاز ويعقوب بتشديد الزاي أي تتزكى وتتطهر من الشرك، وقرأ الآخرون بالتخفيف وأصله تتزكى فأدغمت التاء الثانية في الزاي في القراءة الأولى، وحذفت في الثانية، ومعناه تتطهر من الشرك أي تسلم وتصلح، قال ابن عباس تشهد أن لا إله إلا اللّه.

١٩

{وأهديك إلى ربك فتخشى}، أي أدعوك إلى عبادة ربك وتوحيده فتخشى عقابه.

٢٠

{فأراه الآية الكبرى}، وهي العصا واليد البيضاء.

٢١

{فكذب}، بأنهما من اللّه، {وعصى}.

٢٢

{ثم أدبر}، تولى وأعرض عن الإيمان {يسعى}، يعمل بالفساد في الأرض.

٢٣

{فحشر}، فجمع قومه وجنوده، {فنادى}، لما اجتمعوا.

٢٤

{فقال أنا ربكم الأعلى}، فلا رب فوقي.

وقيل أراد أن الأصنام أرباب وأنا ربكم وربها.

٢٥

{فأخذه اللّه نكال الآخرة والأولى}، قال الحسن وقتادة عاقبه اللّه فجعله نكال الآخرة والأولى، أي في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالنار. وقال مجاهد وجماعة من المفسرين أراد بالآخرة والأولى كلمتي فرعون قوله {ما علمت لكم من إله غيري} (القصص- ٣٨)،

وقوله {أنا ربكم الأعلى}، وكان بينهما أربعون سنة.

٢٦

{إن في ذلك}، الذي فعل بفرعون حين كذب وعصى، {لعبرةً}، لعظة، {لمن يخشى}، اللّه عز وجل.

٢٧

ثم خاطب منكري البعث فقال {أأنتم أشد خلقاً أم السماء}، يعني أخلقكم بعد الموت أشد عندكم وفي تقديركم أم السماء؟ وهما في قدرة اللّه واحد، كقوله {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} (غافر- ٥٧)، ثم وصف خلق السماء فقال {بناها}.

٢٨

{رفع سمكها}، سقفها {فسواها}، بلا شطور ولا شقوق ولا فطور.

٢٩

{وأغطش}، أظلم، {ليلها}، والغطش والغبش الظلمة، {

وأخرج ضحاها}، أبرز وأظهر نهارها ونورها، وأضافهما إلى السماء لأن الظلمة والنور كلاهما ينزل من السماء.

٣٠

{والأرض بعد ذلك}، بعد خلق السماء {دحاها}، بسطها، والدحو البسط. قال ابن عباس خلق اللّه الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك.

وقيل معناه والأرض مع ذلك دحاها، كقوله عز وجل {عتل بعد ذلك زنيم} (القلم- ١٣)، أي مع ذلك.

٣١

{أخرج منها ماءها ومرعاها}.

٣٢

{والجبال أرساها}.

٣٣

{متاعاً لكم ولأنعامكم}.

٣٤

{فإذا جاءت الطامة الكبرى}، يعني النفخة الثانية التي فيها البعث وقامت القيامة، وسميت القيامة طامة لأنها تطم على كل هائلة من الأمور، فتعلو فوقها وتغمر ما سواها، و {الطامة} عند العرب الداهية التي لا تستطاع.

٣٥

{يوم يتذكر الإنسان ما سعى}، ما عمل في الدنيا من خير وشر.

٣٦

{وبرزت الجحيم لمن يرى}، قال مقاتل يكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق.

٣٧

{فأما من طغى}، في كفره.

٣٨

{وآثر الحياة الدنيا}، على الآخرة.

٣٩

{فإن الجحيم هي المأوى}.

٤٠

{وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى}، عن المحارم التي تشتهيها، قال مقاتل هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها.

٤١

{فإن الجنة هي المأوى}.

٤٢

{يسألونك عن الساعة أيان مرساها}، متى ظهورها وثبوتها.

٤٣

{فيم أنت من ذكراها}، لست في شيء من علمها وذكرها، أي لا تعلمها.

٤٤

{إلى ربك منتهاها}، أي منتهى علمها عند اللّه.

٤٥

{إنما أنت منذر من يخشاها}، قرأ أبو جعفر {منذر} بالتنوين أي إنما أنت مخوف من يخاف قيامها، أي إنما ينفع إنذارك من يخافها.

٤٦

{كأنهم}، يعني كفار قريش، {يوم يرونها}، يعاينون يوم القيامة، {لم يلبثوا}، في الدنيا،

وقيل في قبورهم، {إلا عشيةً أو ضحاها}، قال الفراء ليس للعشية ضحى، إنما الضحى لصدر النهار، ولكن هذا ظاهر من كلام العرب أن يقولوا آتيك العشية أو غداتها، إنما معناه آخر يوم أو أوله، نظيره قوله {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} (الأحقاف- ٣٥).

﴿ ٠