سورة المطففين١{ويل للمطففين}، يعني الذين ينقصون المكيال والميزان ويبخسون حقوق الناس. قال الزجاج إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف، لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف. أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد علي الصيرفي، حدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي، أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، حدثنا عبد الرحمن بن بشر، حدثنا علي بن الحسين بن واقد، حدثني أبي، حدثني يزيد النحوي أن عكرمة حدثه عن ابن عباس قال {لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل اللّه عز وجل }ويل للمطففين{ فأحسنوا الكيل}. وقال السدي {قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة وبها رجل يقال له أبو جهينة، ومعه صاعان، يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر، فأنزل اللّه هذه الآية}. فاللّه تعالى جعل الويل للمطففين. ٢ثم بين أن المطففين من هم فقال {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون}، وأراد إذا اكتالوا من الناس أي أخذوا منهم ومن، وعلى متعاقبان. قال الزجاج المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل والوزن، وأراد الذين إذا اشتروا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن. ٣{وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}، أي كالوا لهم أو وزنوا لهم أي للناس، يقال وزنتك حقك وكلتك طعامك، أي وزنت لك وكلت لك كما يقال نصحتك ونصحت لك وكسبتك وكسبت لك. قال أبو عبيدة وكان عيسى بن عمر يجعلهما حرفين يقف على كالوا ووزنوا ويبتدىء هم يخسرون وقال أبو عبيدة والاختيار الأول، يعني أن كل واحدة كلمة واحدة، لأنهم كتبوها بغير ألف، ولو كانتا مقطوعتين لكانت كالوا و وزنوا بالألف كسائر الأفعال مثل جاؤوا وقالوا واتفقت المصاحف على إسقاط الألف، ولأنه يقال في اللغة كلتك ووزنتك كما يقال كلت لك ووزنت لك. يخسرون أي ينقصون، قال نافع كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول اتق اللّه وأوف الكيل والوزن، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم. ٤{ألا يظن}، يستيقن، {أولئك}، الذين يفعلون ذلك، {أنهم مبعوثون}. ٥{ليوم عظيم}، يعني يوم القيامة. ٦{يوم يقوم الناس}، من قبورهم، {لرب العالمين}، أي لأمره ولجزائه ولحسابه. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد اللّه النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا إبراهيم بن المنذر، أخبرنا معن، حدثني مالك، عن نافع، عن عبد اللّه بن عمر {أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه}. أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد اللّه بن أبي توبة الكشميهني، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، حدثنا محمد بن يعقوب الكسائي، حدثنا عبد اللّه بن محمود، حدثنا إبراهيم بن عبد اللّه الخلال، حدثنا عبد اللّه بن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال حدثني سليم بن عامر، حدثني المقداد صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال {سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو اثنين -قال سليم لا أدري أي الميلين يعني مسافة الأرض أو الميل الذي تكحل به العين؟- قال فتصهرهم الشمس فيكون في العرق بقدر أعمالهم، فمنهم من يأخذه إلى عقبيه ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً، فرأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو يشير بيده إلى فيه يقول ألجمه إلجاماً}. ٧قوله عز وجل {كلا}، ردع، أي ليس الأمر على ما هم عليه فليرتدعوا، وتمام الكلام ها هنا، وقال الحسن {كلا} ابتداء يتصل بما بعده على معنى حقاً، {إن كتاب الفجار}، الذي كتبت فيه أعمالهم، {لفي سجين}، قال عبد اللّه بن عمر، وقتادة، ومجاهد، والضحاك {سجين} هي الأرض السابعة السفلى فيها أرواح الكفار. أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا موسى بن محمد، حدثنا الحسن بن علويه، أخبرنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا المسيب، حدثنا الأعمش، عن المنهال، عن زاذان، عن البراء قال {قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سجين أسفل سبع أرضين، و عليون في السماء السابعة تحت العرش}. وقال شمر بن عطية جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال أخبرني عن قول اللّه عز وجل {إن كتاب الفجار لفي سجين}، قال إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها ثم يهبط بها إلى الأرض، فتأبى الأرض أن تقبل فتدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهى بها إلى سجين، وهو موضع جند إبليس، فيخرج لها من سجين رق فيرقم ويختم، ويوضع تحت جند إبليس، لمعرفتها الهلاك بحساب يوم القيامة، وإليه ذهب سعيد بن جبير، قال سجين تحت جند إبليس. وقال عطاء الخراساني هي الأرض السفلى، وفيها إبليس وذريته. وقال الكلبي هي صخرة تحت الأرض السابعة السفلى خضراء، خضرة السموات منها يجعل كتاب الفجار فيها. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضاً قال {سجين} صخرة تحت الأرض السفلى، تقلب، فيجعل كتاب الفجار فيها. وقال وهب هي آخر سلطان إبليس. وجاء في الحديث {الفلق جب في جهنم مغطى، وسجين جب في جهنم مفتوح}. وقال عكرمة {لفي سجين} أي لفي خسار وضلال. وقال الأخفش هو فعيل من السجن، كما يقال فسيق وشريب، معناه لفي حبس وضيق شديد. ٨{وما أدراك ما سجين}، قال الزجاج أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك. ٩{كتاب مرقوم}، ليس هذا تفسير السجين، بل هو بيان الكتاب المذكور في قوله {إن كتاب الفجار} أي هو كتاب مرقوم، أي مكتوب فيه أعمالهم مثبتة عليهم كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به. وقال قتادة ومقاتل رقم عليه بشركائه كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه كافر. وقيل مختوم، بلغة حمير. ١٠{ويل يومئذ للمكذبين}. ١١{الذين يكذبون بيوم الدين}. ١٢{وما يكذب به إلا كل معتد أثيم}. ١٣{إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين}. ١٤{كلا}، قال مقاتل أي لا يؤمنون، ثم استأنف {بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}. أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي، حدثنا أبو محمد عبد اللّه بن أحمد بن حمويه السرخسي، أخبرنا إبراهيم بن حزيم الشاشي، أخبرنا أبو محمد عبد بن حميد الكشي، حدثنا صفوان بن عيسى، عن ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال {قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر اللّه في كتابه }كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون{}. وأصل الرين الغلبة، يقال رانت الخمر على عقله ترين ريناً وريوناً إذا غلبت عليه فسكر. ومعنى الآية، غلبت على قلوبهم المعاصي وأحاطت بها. قال الحسن هو الذنب على الذنب حتى يموت القلب. قال ابن عباس {ران على قلوبهم} طبع عليها. ١٥{كلا إنهم عن ربهم يومئذ} يوم القيامة {لمحجوبون}، قال ابن عباس {كلا} يريد لا يصدقون، ثم استأنف فقال {إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}، قال بعضهم عن كرامته ورحمته ممنوعون. وقال قتادة هو ألا ينظر إليهم ولا يزكيهم. وقال أكثر المفسرين عن رؤيته. قال الحسن لو علم الزاهدون العابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا. قال الحسين بن الفضل كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته. وسئل مالك عن هذه الآية فقال لما حجب اللّه أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه. وقال الشافعي رضي اللّه عنه في قوله { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } دلالة على أن أولياء اللّه يرون اللّه. ١٦ثم أخبر أن الكفار مع كونهم محجوبين عن اللّه يدخلون النار فقال {ثم إنهم لصالوا الجحيم}، لداخلوا النار. ١٧{ثم يقال}، أي تقول لهم الخزنة، {هذا}، أي هذا العذاب، {الذي كنتم به تكذبون}. ١٨{كلا}، قال مقاتل لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه. ثم بين محل كتاب الأبرار فقال {إن كتاب الأبرار لفي عليين}، روينا عن البراء مرفوعاً {إن عليين في السماء السابعة تحت العرش}. وقال ابن عباس هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيه. وقال كعب، وقتادة هو قائمة العرش اليمنى. وقال عطاء عن ابن عباس هو الجنة. وقال الضحاك سدرة المنتهى. وقال بعض أهل المعاني علو بعد علو وشرف بعد شرف، ولذلك جمعت بالياء والنون. وقال الفراء هو اسم موضوع على صيغة الجمع، لا واحد له من لفظه، مثل عشرين وثلاثين. ١٩{وما أدراك ما عليون}. ٢٠{كتاب مرقوم}، ليس بتفسير عليين، أي مكتوب أعمالهم، كما ذكرنا في كتاب الفجار. وقيل كتب هناك ما أعد لهم من الكرامة، وهو معنى قول مقاتل. وقولهم رقم لهم يخبر. وتقدير الآية على التقديم والتأخير، مجازها إن كتاب الأبرار كتاب مرقوم في عليين، وهو محل الملائكة، ومثله إن كتاب الفجار كتاب مرقوم في سجين، وهو محل إبليس وجنده. ٢١{يشهده المقربون}، يعني الملائكة الذين هم في عليين، يشهدون ويحضرون ذلك المكتوب أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين. ٢٢{إن الأبرار لفي نعيم}. ٢٣{على الأرائك ينظرون}، إلى ما أعطاهم اللّه من الكرامة والنعمة، وقال مقاتل ينظرون إلى عدوهم كيف يعذبون. ٢٤{تعرف في وجوههم نضرة النعيم}، إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة مما ترى في وجوههم من النور والحسن والبياض، قال الحسن النضرة في الوجه والسرور في القلب، قرأ أبو جعفر ويعقوب {تعرف} بضم التاء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل {نضرة} رفع، وقرأ الباقون بفتح التاء وكسر الراء، {نضرة} نصب. ٢٥{يسقون من رحيق}، خمر صافية طيبة. قال مقاتل الخمر البيضاء. {مختوم}، ختم ومنع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه الأبرار، وقال مجاهد {مختوم} أي مطين. ٢٦{ختامه}، أي طينه، {مسك}، كأنه ذهب إلى هذا المعنى، قال ابن زيد ختامه عند اللّه مسك، وختام خمر الدنيا طين. وقال ابن مسعود {مختوم} أي ممزوج ختامه أي آخر طعمه وعاقبته مسك، فالمختوم الذي له ختام، أي آخر، وختم كل شيء الفراغ منه. وقال قتادة يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك. وقرأءة العامة {ختامه مسك} بتقديم التاء، وقرأ الكسائي خاتمه وهي قراءة علي وعلقمة، ومعناهما واحد، كما يقال فلان كريم الطابع والطباع والختام والخاتم، آخر كل شيء. {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}، فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى الطاعة عز وجل. وقال مجاهد فليعمل العاملون، نظيره. قوله تعالى {لمثل هذا فليعمل العاملون} (الصافات- ٦١)، وقال مقاتل بن سليمان فليتنازع المتنازعون وقال عطاء فليستبق المستبقون، وأصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس، ويريده كل أحد لنفسه وينفس به على غيره، أي يضن. ٢٧{ومزاجه من تسنيم}، شرب ينصب عليهم من علو في غرفهم ومنازلهم، وقيل يجري في الهواء متسنماً فينصب في أواني أهل الجنة على قدر ملئها، فإذا امتلأت أمسك. وهذا معنى قول قتادة. وأصل الكلمة من العلو، يقال للشيء المرتفع سنام، ومنه سنام البعير. قال الضحاك هو شراب اسمه تسنيم، وهو أشرف الشراب. قال ابن مسعود وابن عباس هو خالص للمؤمنين المقربين يشربونها صرفاً ويمزج لسائر أهل الجنة. وهو قوله { ومزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقربون }. وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه سئل عن قوله {من تسنيم}؟ قال هذا مما قال اللّه تعالى {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} (السجدة- ١٧). ٢٨{عيناً} نصب على الحال، {يشرب بها} أي منها، وقيل يشرب بها المقربون صرفاً. ٢٩قوله عز وجل {إن الذين أجرموا}، أشركوا، يعني كفار قريش أبا جهل، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأصحابهم من مترفي مكة، {كانوا من الذين آمنوا} عمار، وخباب، وصهيب، وبلال، وأصحابهم من فقراء المؤمنين. {يضحكون}، وبهم يستهزؤون. ٣٠{وإذا مروا بهم}، يعني من فقراء المؤمنين بالكفار، {يتغامزون}، والغمز الإشارة بالجفن والحاجب، أي يشيرون إليهم بالأعين استهزاءً. ٣١{وإذا انقلبوا}، يعني الكفار، {إلى أهلهم انقلبوا فكهين}، معجبين بما هم فيه يتفكهون بذكرهم. ٣٢{وإذا رأوهم}، رأوا أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، {قالوا إن هؤلاء لضالون}، يأتون محمداً صلى اللّه عليه وسلم يرون أنهم على شيء. ٣٣{وما أرسلوا}، يعني المشركين، {عليهم}، يعني على المؤمنين، {حافظين}، أعمالهم، أي لم يوكلوا بحفظ أعمالهم. ٣٤{فاليوم}، يعني في الآخرة، {الذين آمنوا من الكفار يضحكون}، قال أبو صالح وذلك أنه يفتح للكفار في النار أبوابها، ويقال لهم اخرجوا، فإذا رأوها مفتوحة أقبلوا إليها ليخرجوا، والمؤمنون ينظرون إليهم فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم، يفعل ذلك بهم مراراً والمؤمنون يضحكون. وقال كعب بين الجنة والنار كوىً، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو له، كان في الدنيا، اطلع عليه من تلك الكوى، كما قال {فاطلع فرآه في سواء الجحيم} (الصافات- ٥٥)، فإذا اطلعوا من الجنة إلى أعدائهم وهم يعذبون في النار ضحكوا، فذلك قوله عز وجل {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون}. ٣٥{على الأرائك}، من الدر والياقوت، {ينظرون}، إليهم في النار. ٣٦قال اللّه تعالى {هل ثوب}، هل جوزي، {الكفار ما كانوا يفعلون}، أي جزاء استهزائهم بالمؤمنين. ومعنى الاستفهام ها هنا التقرير. وثوب وأثيب وأثاب بمعنى واحد. |
﴿ ٠ ﴾