سورة آل عمران

سورة آل عمران بسم اللّه الرحمن الرحيم

هذه السورة مدنية بإجماع في ما علمت قوله جلت قدرته ألم اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم الابرع في نظم الآية أن يكون اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم كلاما مبتدأ جزما جملة رادة على نصارى نجران الذين وفدوا على النبي صلى اللّه عليه وسلم فحاجوه في عيسى ابن مريم وقالوا أنه اللّه على ما هو معلوم في السير فنزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية منها إلى أن دعاهم صلى اللّه عليه و سلم إلى الابتهال وقد تقدم تفسير قوله الحي القيوم في آية الكرسي والآية هناك اخبار لجميع الناس وكررت هنا إخبارا يح هؤلاء النصارى ويرد عليهم إذ هذه الصفات لا يمكنهم ادعاؤها لعيسى عليه السلام لأنهم إذ يقولون أنه

صلب فذلك موت في معتقدهم وإذ من البين أنه ليس بقيوم وقراءة الجمهور القيوم وقرىء خارج السبع القيام والقيم وهذا كله من قام بالأمر يقوم به إذا اضطلع بحفظه وبجميع ما يحتاج إليه في وجوده فاللّه تعالى القيام على كل شيء مما ينبغي له  فيه  عليه ت وقد تقدم ما نقلناه في هذا الاسم الشريف أنه اسم اللّه الأعظم قال النووي

وروينا في كتاب الترمذي عن أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه كان إذا كربه أمر قال يا حي يا قيوم برحمتك استغيث قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ا ه قال صاحب سلاح المؤمن وعن علي رضي اللّه عنه قال لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال ثم جئت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنظر ما صنع فجئت فإذا هو ساجد يقول يا حي يا قيوم يا حي يا قيوم ثم رجعت إلى القتال ثم جئت فإذا هو ساجد لا يزيد على ذلك ثم ذهبت إلى القتال ثم جئت فإذا هو ساجد يقول ذلك ففتح اللّه عليه رواه النسائي والحاكم في المستدرك واللفظ للنسائي وعن أسماء بنت يزيد رضي اللّه عنها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال اسم اللّه الأعظم في هاتين الآيتين وإلهكم اله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وفاتحة آل عمران ألم اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم رواه أبو داود واللفظ له والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وعن أبي إمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال اسم اللّه الأعظم في ثلاث سور في سورة البقرة وآل عمران وطه قال القاسم فالتمستها أنه الحي القيوم انتهى

٣

وقوله بالحق يحتمل معنيين أحدهما أن يكون المعنى ضمن الحقائق في خبره وأمره ونهيه ومواعظه

والثاني أن يكون المعنى أنه نزل الكتاب باستحقاق ان ينزل لما فيه من المصلحة الشاملة وليس ذلك على أنه واجب على اللّه تعالى أن يفعله ت أي إذ لا يجب على اللّه سبحانه فعل قال

ع فالباء في هذا المعنى على حد قوله سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق

وقيل معنى بالحق أي مما اختلف فيه أهل الكتاب واضطرب فيه هؤلاء النصارى الوافدون قال ع وهذا داخل في المعنى الأول

وقوله مصدقا حال مؤكدة لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه من كتب اللّه سبحانه وما بين يديه هي التوراة والإنجيل وسائر كتب اللّه التي تلقيت من شرعنا

وقوله تعالى من قبل يعني من قبل القرآن

وقوله هدى للناس معناه دعاء والناس بنو إسراءيل في هذا الموضع وإن كان المراد أنهما هدى في ذاتهما مدعو إليه فرعون وغيره فالناس عام في كل من شاء حينئذ أن يستبصر والفرقان القرآن لأنه فرق بين الحق والباطل ثم توعد سبحانه الكفار عموما بالعذاب الشديد والإشارة بهذا الوعيد إلى نصارى نجران وعزيز معناه غالب والنقمة والانتقام معاقبة المذنب بمبالغة في ذلك

٥

قوله تعالى إن اللّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هذه الآية خبر عن علم اللّه تعالى بالأشياء على التفصيل وهذه صفة لم تكن لعيسى ولا لأحد من المخلوقين ثم أخبر سبحانه عن تصويره للبشر في أرحام الأمهات هذا أمر لا ينكره عاقل ولا ينكر أن عيسى وسائر البشر لا يقدرون عليه ولا ينكر ان عيسى من المصورين كغيره من سائر البشر فهذه الآية تعظيم للّه جلت قدرته في ضمنها الرد على نصارى نجران وفي قوله أن اللّه لا يخفى عليه شيء وعيد وشرح النبي صلى اللّه عليه وسلم كيفية التصوير في الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره أن النطفة إذا وقعت في الرحم مكثت نطفة أربعين يوما ثم تكون علقة أربعين يوما ثم مضغة مثل ذلك ثم يبعث اللّه إليها ملكا فيقول يا رب أذكر أم أنثى اشقي أم سعيد الحديث بطوله على اختلاف ألفاظه وفي

مسند ابن سنجر حديث أن اللّه سبحانه يخلق عظام الجنين وغضاريفه من مني الرجل ولحمه وشحمه وسائر ذلك من مني المرأة وصور بناء مبالغة من صار يصور إذا أمال وثنى إلى حال ما فلما كان التصوير إمالة إلى حال وإثباتا فيها جاء بناؤه على المبالغة والكتاب في هذه لآية القرآن بإجماع والمحكمات المفصلات المبينات الثابتات الأحكام والمتشابهات هي التي تحتاج إلى نظر وتأويل ويظهر فيها ببادى النظر إما تعارض مع أخرى وإما مع العقل إلى غير ذلك من أنواع التشابه فهذا الشبه الذي من أجله توصف بمتشابهات إنما هو بينها وبين المعاني الفاسدة التي يظنها اهل الزيغ ومن لم ينعم النظر وهذا نحو الحديث الصحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات أي يكون الشيء حراما في نفسه فيشبه عند من لم ينعم النظر شيئا حلالا وكذلك الآية يكون لها في نفسها معنى صحيح فيشبه عند من لم ينعم النظر  عند الزائغ معنى آخر فاسدا فربما أراد الإعتراض به على كتاب اللّه هذا عندي معنى الإحكام والتشابه في هذه الآية قال ع وأحسن ما قيل في هذه الآية قول محمد بن جعفر بن الزبير أن المحكمات هي التي فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه والمتشابهات لها تصريف وتحريف وتأويل ابتلى اللّه فيهن العباد قال ابن الحاجب في منتهى الوصول مسألة في القرآن محكم ومتشابه

قال تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فالمحكم المتضح المعنى قال الرهوني يعني نصا كان  ظاهرا والمتشابه مقابلة إما للاشتراك مثل ثلاثة قروء  للإجمال مثل الذي بيده عقدة النكاح وما ظاهره التشبيه مثل من روحي وأيدينا وبيدي وبيمينه ويستهزىء ومكر اللّه ونحوه والظاهر الوقف على والراسخون

في العلم لأن الخطاب بما لا يفهم بعيد انتهى قال الرهوني وسمى ما ذكر متشابها لاشتباهه على السامع قال الرهوني والحق الوقف على وما يعلم تأويله إلا اللّه وهو المروي عن جماعة منهم ابن عباس وابن عمر وابن مسعود ومالك وغيرهم وفي مصحف أبي وما يعلم تأويله إلا اللّه ويقول الراسخون في العلم آمنا به ا ه

وقوله تعالى هن أم الكتاب أي معظم الكتاب وعمدة ما فيه إذ المحكم في آيات اللّه كثير قد فصل ولم يفرط في شيء منه قال يحيى بن يعمر كما يقال لمكة أم القرى قال ع وكما يقال أم الراس لمجتمع الشؤن فجميع المحكم هو ام الكتاب ومعنى الآية الإنحاء على أهل الزيغ والمذمة لهم والإشارة بذلك أولا إلى نصارى نجران وإلى اليهود الذين كانوا معاصرين لصلى اللّه عليه وسلم فإنهم كانوا يعترضون معاني القرآن ثم يعم بعد ذلك كل زائع فذكر تعالى أنه نزل الكتاب على نبيه صلى اللّه عليه وسلم إفضالا منه ونعمة وإن محكمه وبينه الذي لا اعتراض فيه هو معظمه والغالب فيه وأن متشابهه الذي يحتمل التأويل ويحتاج إلى التفهم هو أقله ثم إن أهل الزيغ يتركون المحكم الذي فيه غنيتهم ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة وأن يفسدوا ذات البين ويردوا الناس إلى زيغهم م قال أبو البقاء وآخر معطوف على آيات ومتشابهات نعت لآخر ا ه

وقوله تعالى الذين في قلوبهم زيغ يعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل صاحب بدعة والزيغ الميل وابتغاء نصب على المفعول من أجله ومعناه طلب الفتنة قال الربيع الفتنة هنا الشرك وقال مجاهد الفتنة الشبهات واللبس على المؤمنين ثم قال وابتغاء تأويله والتأويل هو مرد الكلام ومرجعه والشيء الذي يقف عليه من المعاني وهو من آل يؤل إذا رجع فالمعنى وطلب تأويله على منازعهم الفاسدة هذا في ماله تأويل حسن

وإن كان مما لا يتأول بل يوقف فيه كالكلام في معنى الروح ونحوه فنفس طلب تأويله هو اتباع ما تشابه ثم

قال تعالى وما يعلم تأويله إلا اللّه أي وما يعلم تأويله على الكمال إلا اللّه سبحانه

واختلف في قوله والراسخون في العلم فرأت فرقة أن رفع الراسخين هو بالعطف على اسم اللّه عز و جل وأنه مع علمهم بالمتشابه يقولون آمنا به وقالت طائفة أخرى والراسخون رفع بالابتداء وهو مقطوع من الكلام الأول وخبره يقولون والمنفرد بعلم المتشابه هو اللّه وحده قال ع وهذه المسألة إذا تؤملت قرب الخلاف فيها من الاتفاق وذلك أن اللّه تعالى قسم أي الكتاب قسمين محكما ومتشابها فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من يفهم كلام العرب لا يحتاج فيه إلى نظر ولا يتعلق به شيء يلبس ويستوي في علمه الراسخ وغيره والمتشابه على نوعين منه مالا يعلم البتة كأمر الروح وآماد المغيبات التي قد اعلم اللّه بوقوعها إلى سائر ذلك ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب فيتأول ويعلم تأويله ولا يسمى أحد راسخا إلا أن يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له فمن قال أن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه فمراده النوع الثاني الذي ذكرناه ومن قال أن الراسخين لا يعلمون تأويله فمراده النوع الأول كأمر الروح ووقت الساعة لكن تخصيصه المتشابه بهذا النوع غير صحيح بل هما نوعان كما ذكرنا والضمير في تأويله عائد على جميع متشابه القرآن وهما نوعان كما ذكرنا والرسوخ الثبوت في الشيء وسئل النبي صلى اللّه عليه وسلم لى اللّه لعيه وسلم عن الراسخين في العلم فقال هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه قلت ومن جامع العتبية وسئل مالك عن تفسير الراسخين في العلم فقال العالمون العاملون بما علموا المتبعون له قال ابن رشد قول مالك هذا هو معنى ما روي من أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل من الراسخ في العلم

فقال من برت يمينه وصدق لسانه واستقام به قلبه وعف بطنه فذلك الراسخ في العلم قال ابن رشد ويشهد لصحة هذا قول اللّه عز و جل إنما يخشى اللّه من عباده العلماء لأنه كلام يدل على أن من لم يخش اللّه فليس بعالم انتهى قلت وقد جاء في فضل العلم آثار كثيرة فمن احسنها ما رواه أبو عمر بن عبد البر بسنده عن معاذ بن جبل قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تعلموا العلم فإن تعليمه للّه خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة وهو الأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والزين عند الاخلاء ويرفع اللّه به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم ويقتدي بفعالهم وينتهي إلى رأيهم وترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم ويستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظلم يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة الفكر فيه يعدل الصيام ومدارسته تعدل القيام به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من الحرام هو أمام العمل والعمل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء قال أبو عمر هكذا حدثنيه عبيد بن محمد مرفوعا بالإسناد الذي رويناه به عنه وهو حديث حسن جدا ولكن ليس له إسناد قوي

ورويناه من طرق شتى موقوفا على معاذ انتهى من كتاب فضل العلم قال الشيخ العارف أبو القاسم عبد الرحمن بن يوسف اللجاءي رحمه اللّه ومن علامة نور العلم إذا حل بالقلب المعرفة والمراقبة والحياء والتوبة والورع والزهد والتوكل والصبر والرضى والأنس والمجاهدة والضمت والخوف والرجاء والقناعة وذكر الموت ا ه

وقوله تعالى كل من عند ربنا

فيه ضمير عائد على كتاب اللّه محكمه ومتشابهه والتقدير كله من عند ربنا ثم

٧

قال تعالى وما يذكر إلا أولوا الألباب أي ما يقول هذا ويؤمن ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب وهو العقل وأولوا جمع ذو

٨

وقوله تعالى ربنا لا تزغ قلوبنا الآية لما ذكر اللّه سبحانه أهل الزيغ وذكر نقيضهم وظهر ما بين الحالتين عقب ذلك بأن علم عباده الدعاء اليه في أن لا يكونوا من الطائفة الذميمة التي ذكرت وهم اهل الزيغ ويحتمل أن يكون هذا من تمام قول الراسخين وتزغ معناه تمل قلوبنا عن الهدى والحق ومن لدنك معناه من عندك تفضلا لا عن سبب منا ولا عمل وفي هذا استسلام وتطارح والمراد هب لنا نعيما صادرا عن الرحمة

٩

وقوله تعالى ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إقرار بالبعث ليوم القيامة والريب الشك والمعنى أنه في نفسه حق لا ريب فيه

وقوله تعالى إن اللّه لا يخلف الميعاد يحتمل أن يكون إخبارا منه سبحانه لصلى اللّه عليه وسلم وأمته ويحتمل أن يكون حكاية من قول الداعين ففي ذلك إقرار بصفة ذات اللّه تعالى والميعاد من الوعد

١٠

وقوله تعالى إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا الآية الإشارة بالآية إلى معاصري النبي صلى اللّه عليه وسلم وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم وهي بعد متناولة كل كافر والوقود بفتح الواو كل ما يحترق في النار من حطب ونحوه والدأب والدأب بسكون الهمزة وفتحها مصدر دأب يدأب إذا لازم فعل شيء ودام عليه مجتهدا فيه ويقال للعادة دأب والمعنى في الآية تشبيه هؤلاء في لزومهم الكفر ودوامهم عليه بأولائك المتقدمين وآخر الآية يقتضي الوعيد بأن يصيب هؤلاء ما أصاب اولائك والكاف في قوله كدأب في موضع رفع والتقدير دأبهم كداب والضمير في قبلهم عائد على آل فرعون ويحتمل على معاصري رسول

اللّه صلى اللّه عليه و سلم من الكفار

وقوله كذبوا بآياتنا يحتمل أن يريد المتلوة ويحتمل أن يريد العلامات المنصوبة

١٢

وقوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون الآية اختلف في تعيين هؤلاء الذين امر صلى اللّه عليه و سلم بالقول لهم فقيل هم جميع معاصريه أمر أن يقول لهم هذا الذي فيه إعلام بغيب فوقع بحمد اللّه كذلك فغلبوا وصار من مات منهم على الكفر إلى جهنم وتظاهرت روايات عن ابن عباس وغيره بأن المراد يهود المدينة لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوة بدر جمعهم وقال يا معشر يهود أسلموا من قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشا فقالوا يا محمد لا تغرنك نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا اغمارا لا يعرفون القتال انك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس فأنزل اللّه فيهم هذه الآية والحشر الجمع والإحضار

وقوله تعالى وبيس المهاد يعنى جهنم هذا ظاهر الآية وقال مجاهد المعنى بيس ما مهدوا لأنفسهم قال ع فكان المعنى وبيس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم

١٣

وقوله تعالى قد كان لكم آية في فئتين الآية تحتمل أن يخاطب بها المؤمنون تثبيتا لنفوسهم وتشجيعا لها وأن يخاطب بها جميع الكفار وأن يخاطب بها يهود المدينة وبكل احتمال منها قد قال قوم وقرىء شاذا ترونهم بضم التاء فكأن معناها أن اعتقاد التضعيف في جمع الكفار إنما كان تخمينا وظنا لا يقينا وذلك أن أرى بضم الهمزة تقولها فيما بقي عندك فيه نظر وأرى بفتح الهمزة تقولها في ما قد صح نظرك فيه ونحا هذا المنحى أبو الفتح وهو صحيح والمراد بالفئتين جماعة المؤمنين وجماعة الكفار ببدر قال ع ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر ويؤيد معناه يقوي من الأيد وهو القوة

١٤

وقوله تعالى زين للناس حب الشهوات الآية هذه الآية ابتداء وعظ

لجميع الناس وفي ضمن ذلك توبيخ والشهوات ذميمة واتباعها مرد وطاعتها مهلكة وقد قال صلى اللّه عليه و سلم حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره فحسبك أن النار حفت بها فمن واقعها خلص إلى النار قلت وقد جاءت احاديث كثيرة في التزهيد في الدنيا ذكرنا من صحيحها وحسنها في هذا المختصر جملة صالحة لا توجد في غيره من التفاسير فعليك بتحصيله فتطلع فيه على جواهر نفيسة لا توجد مجموعة في غيره كما هي بحمد اللّه حاصلة فيه وكيف لا يكون هذا المختصر فائقا في الحسن واحاديثه بحمد اللّه مختارة اكثرها من اصول الإسلام الستة البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنساءي وابن ماجه فهذه أصول الإسلام ثم من غيرها كصحيح ابن حبان وصحيح الحاكم اعنى المستدرك على الصحيحين وأبي عوانة وابن خزيمة والدارمي والموطأ وغيرها من المسانيد المشهورة بين ائمة الحديث حسبما هو معلوم في علم الحديث وقصدي من هذا نصح من اطلع على هذا الكتاب أن يعلم قدر ما أنعم اللّه به عليه فإن التحدث بالنعم شكر ولنرجع الى ما قصدناه من نقل الاحاديث روى الترمذي عن عائشة رضي اللّه عنها قالت قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن أردت اللحوق بي فليكفيك من الدنيا كزاد الراكب وإياك ومجالسة الأغنياء ولا تستخلفي ثوبا حتى ترقعيه حديث غريب وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم أن البذاذة من الإيمان خرجه أبو داود وقد نقله البغوي في مصابيحه والبذاذة هي رث الهيئة ا ه والقناطير جمع قنطار وهو العقدة الكثيرة من المال

واختلف الناس في تحرير حده واصح الأقوال فيه ما رواه أبي بن كعب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال القنطار ألف ومائتا أوقية لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية

وقوله المقنطرة قال الطبري

معناه المضعفة وقال الربيع المال الكثير بعضه على بعض ص المقنطرة مفعللة  مفنعلة من القنطار ومعناه المجتمعة م أبو البقاء ومن الذهب في موضع الحال من المقنطرة ا ه

وقوله المسومة قال مجاهد معناه المطهمة الحسان وقال ابن عباس وغيره معناه الراعية

وقيل المعدة والأنعام الأصناف الأربعة الإبل والبقر والضأن والمعز ص والأنعام واحدها نعم والنعم الإبل فقط وإذا جمع انطلق على الإبل والبقر والغنم ا ه والحرث هنا اسم لكل ما يحرث من حب وغيره والمتاع ما يستمتع به وينتفع مدة ما منحصرة والمئاب المرجع فمعنى الآية تقليل أمر الدنيا وتحقيرها والترغيب في حسن المرجع إلى اللّه تعالى

١٥

وقوله تعالى قل أؤنبئكم بخير من ذلكم الآية في هذه الآية تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها ذكر تعالى حال الدنيا وكيف استقر تزيين شهواتها ثم جاء بالانباء بخير من ذلك هازا للنفوس وجامعا لها لتسمع هذا النبأ المستغرب النافع لمن عقل وأنبىء معناه اخبر

وقوله تعالى ورضوان من اللّه الرضوان مصدر من رضي وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أن أهل الجنة إذا استقروا فيها وحصل لكل واحد منهم مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال اللّه لهم أتريدون أن أعطيكم ما هو افضل من هذا قالوا يا ربنا وأي شيء افضل من هذا فيقول اللّه سبحانه احل عليكم رضواني فلا اسخط عليكم أبدا هذا سياق الحديث وقد يجيء مختلف الألفاظ والمعنى قريب بعضه من بعض قال الفخر وذلك أن معرفة أهل الجنة مع هذا النعيم المقيم بأنه تعالى راض عنهم مثن عليهم أزيد عليهم في إيجاب السرور ا ه وباقي لآية بين وقد تقدم في سورة البقرة بيانه

١٦

وقوله تعالى الذين يقولون ربنا إننا ءامنا فاغفر لنا ذنوبنا الآية الذين بدل من الذين اتقوا وفسر سبحانه في هذه

الآية أحوال المتقين الموعودين بالجنات والصبر في هذه الآية معناه على الطاعات وعن المعاصي والشهوات والصدق معناه في الأقوال والأفعال والقنوت الطاعة والدعاء أيضا وبكل ذلك يتصف المتقي والإنفاق معناه في سبيل اللّه ومظان الأجر والاستغفار طلب المغفرة من اللّه سبحانه وخص تعالى السحر لما فيه من الفضل حسبما ورد فيه من صحيح الأحاديث كحديث النزول هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له إلى غير ذلك مما ورد في فضله قلت تنبيه قال القرطبي في تذكرته وقد جاء حديث النزول مفسرا مبينا في ما خرجه النساءي عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا قال النبي صلى اللّه عليه وسلم أن اللّه عز و جل يمهل حتى يمضى شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا يقول هل من داع يستجاب له هل من مستغفر يغفر له هل من سائل يعطي صححه أبو محمد عبد الحق ا ه وخرج أبو بكر بن الخطيب بسنده عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال أن نزول اللّه تعالى إلى الشيء اقباله عليه من غير نزول ا ه والسحر أخر الليل قال نافع كان ابن عمر يحي الليل صلاة ثم يقول يا نافع اسحرنا فأقول لا فيعاود الصلاة ثم يسأل فإذا قلت نعم قعد يستغفر قال ع وحقيقة السحر في هذه الأحكام الشرعية من الاستغفار المحمود وسحور الصائم ومن يمين لو وقعت إنما هي من ثلث الليل الآخر إلى الفجر

١٨

وقوله تعالى شهد اللّه أنه لا اله إلا هو الآية معنى شهد اللّه أعلم عباده بهذا الأمر الحق وقال ص شهد بمعنى علم  قضى  حكم  بين وهي أقوال ا ه واسند أبو عمر بن عبد البر في كتاب فضل العلم عن غالب القطان قال كنت اختلف إلى الأعمش فرأيته ليلة قام يتهجد من الليل وقرأ بهذه الآية شهد اللّه أنه لا اله إلا هو والملائكة واولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند اللّه الإسلام قال

الأعمش وأنا أشهد بما شهد اللّه به واستودع اللّه هذه الشهادة فقلت للأعمش أني سمعتك تقرأ هذه الآية ترددها فما بلغك فيها قال حدثني أبو وائل عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول اللّه سبحانه عبدي عهد إلي وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة ا ه وقرأ جميع القراء أنه بفتح الهمزة وبكسرها من قوله إن الدين على استيناف الكلام وقرأ الكساءي وحده أن الدين بفتح الهمزة بدل من أنه الأولى والملائكة وأولوا العلم عطف على اسم اللّه قال الفخر المراد بأولي العلم هنا الذين عرفوا اللّه بالدلالة القطعية لأن الشهادة إنما تكون مقبولة إذا كان الإخبار مقرونا بالعلم وهذا يدل أن هذه الدرجة الشريفة ليست إلا للعلماء بالأصول وتكررت لا اله إلا اللّه هنا وفائدة هذا التكرير الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون أبدا في تكرير هذه الكلمة فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان هي هذه الكلمة وإذا كان في أكثر الأوقات مشتغلا بذكرها وبتكريرها كان مشتغلا بأعظم أنواع العبادات فكان من التكرير في هذه الآية حض العباد على تكريرها ا ه وصح في البخاري عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال اسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا اله إلا اللّه خالصا من قبل نفسه

وروى زيد بن أرقم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال من قال لا اله إلا اللّه مخلصا دخل الجنة قيل يا رسول اللّه وما إخلاصها قال أن تحجزه عن محارم اللّه خرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول ا ه من التذكرة وقائما حال من اسمه تعالى في قوله شهد اللّه  من قوله إلا هو القسط العدل

١٩

وقوله تعالى إن الدين عند اللّه الإسلام الآية الدين في هذه الآية الطاعة والملة والمعنى أن الدين المقبول  النافع هو الإسلام والإسلام في هذه الآية هو الإيمان والطاعات قاله أبو العالية وعليه جمهور المتكلمين وحديث بني الإسلام على

خمس وحديث مجيء جبريل يعلم الناس دينهم يفسر ذلك ثم أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب بعد علمهم بالحقائق وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا قاله ابن عمر وغيره والذين أوتوا الكتاب لفظ يعم اليهود والنصارى لكن الربيع بن أنس قال المراد بهذه الآية اليهود اختلفوا بعد موت موسى وبعد مضي ثلاثة قرون

وقيل الآية توبيخ لنصارى نجران وسرعة الحساب يحتمل أن يراد بها مجيء القيامة والحساب إذ كل ءات قريب ويحتمل أن يراد بسرعة الحساب أن اللّه تعالى بإحاطته بكل شيء علما لا يحتاج إلى عد ولا فكرة قاله مجاهد

٢٠

وقوله تعالى فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي للّه ومن اتبعني الآية الضمير في حاجوك لليهود ولنصارى نجران والمعنى أن جادلوك وتعنتوا بالأقاويل المزورة والمغالطات فأسند إلى ما كلفت من الإيمان والتبليغ وعلى اللّه نصرك

وقوله وجهي يحتمل أن يراد به المقصد أي جعلت مقصدي للّه ويحتمل أن يراد به الذات أي اسلمت شخصي وذاتي للّه وأسلمت في هذا الموضع بمعنى دفعت وأمضيت وليست بمعنى دخلت في السلم لأن تلك لا تتعدى ومن اتبعني في موضع رفع عطفا على الضمير في أسلمت والذين أوتوا الكتاب في هذا الموضع يجمع اليهود والنصارى باتفاق والأميون الذين لا يكتبون وهم العرب في هذه الآية

وقوله ءأسلمتم تقرير في ضمنه الأمر وقال الزجاج ءأسلمتم تهدد وهو حسن والبلاغ مصدر بلغ بتخفيف عين الفعل وفي

قوله تعالى واللّه بصير بالعباد وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين

٢١

وقوله تعالى إن الذين يكفرون بآيات اللّه الآية هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى وتعم كل من كان بهذه الحال وفيها توبيخ للمعاصرين لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم روى أبو عبيدة بن الجراح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أن بني إسرائيل قتلوا ثلاثة وأربعين نبيا فاجتمع من عبادهم

وأحبارهم مائة وعشرون ليغيروا المنكر وينكروا فقتلوا جميعا كل ذلك في يوم واحد وذلك معنى

قوله تعالى ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس وحبطت معناه بطلت

٢٣

وقوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب اللّه الآية قال ابن عباس نزلت هذه الآية بسبب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دخل بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى اللّه تعالى فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد على أي دين أنت يا محمد فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنا على ملة إبراهيم صلى اللّه عليه و سلم فقالا إن إبراهيم كان يهوديا فقال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه ونزلت الآية قال ع فالكتاب في قوله من الكتاب اسم جنس والكتاب في قوله إلى كتاب اللّه هو التوراة وقال قتادة وابن جريج هو القرءان ورجح الطبري الأول

٢٤

وقوله تعالى ذلك بأنهم قالوا الإشارة فيه إلى التولي والإعراض أي إنما تولوا وأعرضوا لاغترارهم باقوالهم وافترائهم ثم

قال تعالى خطابا لنبيه صلى اللّه عليه وسلم وأمته على جهة التوقيف والتعجيب فكيف حال هؤلاء المغترين بالأباطيل إذا حشروا يوم القيامة واضمحلت تلك الزخارف والدعاوى وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم وأعمالهم القبيحة قال ابن عطية والصحيح في يوم القيامة أنه يوم لأن قبله ليلة وفيه شمس وقال النقاش المراد باليوم الوقت

٢٦

وقوله تعالى قل اللّهم مالك الملك الآية هو سبحانه وتعالى مالك الملك كله مطلقا في جميع أنواعه واشرف ملك يؤتيه عباده سعادة الآخرة روي أن الآية نزلت بسبب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بشر أمته بفتح ملك فارس وغيره فقالت اليهود والمنافقون هيهات وكذبوا بذلك ومذهب البصريين أن الأصل في اللّهم يا اللّه فعوض من ياء النداء ميما مشددة ومالك نصب

على النداء وخص تعالى الخير بالذكر وهو تعالى بيده كل شيء إذ الآية في معنى دعاء ورغبة فكان المعنى بيدك الخير فاجزل حظي منه قال النووي

وروينا في كتاب الترمذي وغيره عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من دخل السوق فقال لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب اللّه له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة ورواه الحاكم أبو عبد اللّه في المستدرك على الصحيحين من طرق كثيرة وزاد في بعض طرقه وبنى له بيتا في الجنة قال الحاكم وفي الباب عن جابر وأبي هريرة وأنس وبريدة الأسلمي أ ه من الحلية وقال ابن عباس وغيره في معنى

٢٧

قوله تعالى تولج الليل في النهار الآية أنه ما ينتقص من النهار فيزيد في الليل وما ينتقص من الليل فيزيد في النهار دأبا كل فصل من السنة وتحتمل ألفاظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار كأن زوال أحدهما ولوج في الآخر

واختلف في معنى

قوله تعالى وتخرج الحي من الميت الآية فقال الحسن معناه يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن

وروي نحوه عن سلمان الفارسي

وروى الزهري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما سمع نغمة خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث فقال من هذه فأخبر بها فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم سبحان الذي يخرج الحي من الميت وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافرا والمراد على هذا موت قلب الكافر وحياة قلب المؤمن وذهب جمهور كثير إلى أن الحياة والموت في الآية حقيقة لا أنها استعارة ثم اختلفوا في المثل التي فسروا بها فقال ابن مسعود هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة وهو حي ويخرج الرجل منها وهي ميتة وقال عكرمة هو إخراج الدجاجة وهي حية

من البيضة وهي ميتة وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية

وروى السدي عن أبي مالك قال هي الحبة تخرج من السنبلة والسنبلة تخرج من الحبة وكذلك النواة

٢٨

وقوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء الآية هذا النهي عن الاتخاذ إنما هو عن إظهار اللطف للكفار والميل إليهم فأما أن يتخذوا بالقلب فلا يفعل ذلك مؤمن ولفظ الآية عام في جميع الأعصار

واختلف في سبب نزولها فقال ابن عباس في كعب بن الأشرف وغيره قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فنزلت في ذلك الآية وقال قوم نزلت في قصة حاطب بن أبي بلتعة وكتابه إلى أهل مكة والآية عامة في جميع هذا

وقوله تعالى فليس من اللّه في شيء معناه في شيء مرضي كقوله صلى اللّه عليه و سلم من غشنا فليس منا ثم أباح سبحانه إظهار اتخاذهم بشرط الإتقاء فأما إبطانه فلا يصح أن يتصف به مؤمن في حال

وقوله تعالى ويحذركم اللّه إلى آخر الآية وعيد وتنبيه ووعظ وتذكير بالآخرة

وقوله نفسه نائبة عن إياه وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات وفي الكلام حذف مضاف لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه قال ابن عباس والحسن ويحذركم اللّه عقابه

٢٩

وقوله تعالى قل إن تخفوا ما في صدوركم الآية الضمير في تخفوا هو للمؤمنين الذين نهوا عن الكافرين والمعنى أنكم إن أبطنتم الحرص على إظهار موالاتهم فإن اللّه يعلم ذلك ويكرهه منكم

٣٠

وقوله تعالى يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا قال ابن هشام في المعنى يوم نصب بمحذوف تقديره اذكروا  احذروا ولا يصح ان يكون ظرفا ليحذركم كما زعم بعضهم لأن التحذير في الدنيا وقع لا في الآخرة أ ه

وقوله تعالى وما عملت من سوء يحتمل أن تكون ما معطوفة على ما الأولى فهي في موضع نصب ويكون تود في موضع الحال وإليه

ذهب الطبري وغيره ويحتمل أن تكون ما رفع بالابتداء والخبر في قوله تود وما بعده والأمد الغاية المحدودة من المكان  الزمان

وقوله تعالى واللّه رؤف بالعباد يحتمل أن يكون إشارة إلى أن تحذيره رأفة منه سبحانه بعباده ويحتمل أن يكون ابتداء إعلام بهذه الصفة فمقتضى ذلك التأنيس ليلا يفرط الوعيد على نفس مؤمن فسبحانه ما أرحمه بعباده وعن منصور بن عمار أنه قال اعقل الناس محسن خائف واجهل الناس مسيء آمن فلما سمع عبد الملك بن مروان منه هذا الكلام بكى حتى بل ثيابه ثم قال له أتل علي يا منصور شيئا من كتاب اللّه فتلا عليه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا الآية فقال عبد الملك قتلتني يا منصور ثم غشي عليه أ ه

٣١

وقوله تعالى قل إن كنتم تحبون اللّه فاتبعوني الآية قال الشيخ العارف باللّه ابن أبي جمرة رضي اللّه عنه من علامة السعادة للشخص أن يكون معتنيا بمعرفة السنة في جميع تصرفاته والذي يكون كذلك هو دائم في عبادة في كل حركاته وسكناته وهذا هو طريق أهل الفضل حتى حكي عن بعضهم أنه لم يأكل البطيخ سنين لما لم يبلغه كيفية السنة في أكله وكيف لا واللّه سبحانه يقول قل إن كنتم تحبون اللّه فاتبعوني يحببكم اللّه والاتباعية الكاملة إنما تصح بأن تكون عامة في كل الأشياء يعني إلا ما خصصه به الدليل جعلنا اللّه من أهلها في الدارين انتهى قال ع قال الحسن بن أبي الحسن وابن جريج أن قوما على عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم قالوا يا محمد إنا نحب ربنا فنزلت هذه الآية

وقيل أمر صلى اللّه عليه ولم أن يقول هذا القول لنصارى نجران قال ع ويحتمل أن تكون الآية عامة لأهل الكتاب اليهود والنصارى لأنهم كانوا يدعون أنهم يحبون اللّه ويحبهم قال عياض أعلم أن من أحب شيئا آثره وآثر موافقته وإلا لم يكن

صادقا في حبه وكان مدعيا فالصادق في حب النبي صلى اللّه عليه وسلم من تظهر علامات ذلك عليه وأولها الاقتداء به واتباع سنته واتباع أقواله وأفعاله والتأدب بآدابه في عسره ويسره

قال تعالى قل إن كنتم تحبون اللّه فاتبعوني الآية قال عياض روي في الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال من استمسك بحديثي وفهمه وحفظه جاء مع القرآن ومن تهاون بالقرآن وحديثي خسر الدنيا والآخرة الحديث وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال المستمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر مائة شهيد وقال أبي بن كعب عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه في نفسه ففاضت عيناه من خشية ربه فيعذبه اللّه ابدا وما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه في نفسه فاقشعر جلده من خشية اللّه إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك إذ أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها إلا حط اللّه عنه خطاياه كما تحات عن الشجرة ورقها الحديث قال عياض ومن علامات محبته صلى اللّه عليه و سلم زهد مدعيها في الدنيا وإيثاره الفقر واتصافه به ففي حديث ابي سعيد أن الفقر إلى من يحبني منكم أسرع من السيل من أعلى الوادي  الجبل إلى أسفله وفي حديث عبد اللّه بن مغفل قال رجل للنبي صلى اللّه عليه وسلم يا رسول اللّه إني أحبك فقال أنظر ما تقول قال واللّه إني لأحبك ثلاث مرات قال إن كنت تحبني فاعد للفقر تجفافا ثم ذكر نحو حديث ابي سعيد بمعناه أ ه من الشفا قال ع والمحبة إرادة يقترن بها إقبال من النفس وميل بالمعتقد وقد تكون الإرادة المجردة فيما يكره المريد واللّه تعالى يريد وقوع الكفر ولا يحبه ومحبة العبد للّه تعالى يلزم عنها ولا بد أن يطيعه ومحبة اللّه تعالى أمارتها للمتأمل أن يرى العبد مهديا مسددا

ذا قبول في الأرض فلطف اللّه تعالى بالعبد ورحمته إياه هي ثمرة محبته وبهذا النظر يفسر لفظ المحبة حيث وقعت من كتاب اللّه عز و جل

٣٣

وقوله تعالى إن اللّه اصطفى آدم ونوحا الآية لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران والرد عليهم وبيان فساد ما هم عليه جاءت هذه الآيات معلمة بصورة الأمر الذي قد ضلوا فيه منبئة عن حقيقته كيف كانت فبدأ تعالى بذكر فضل آدم ومن ذكر بعده ثم خص امرأة عمران بالذكر لأن القصد وصف قصة القوم إلى أن يبين أمر عيسى عليه السلام وكيف كان وانصرف نوح مع عجمته وتعريفه لخفة الاسم كهود ولوط قال الفخر هنا أعلم أن المخلوقات على قسمين مكلف وغير مكلف واتفقوا على أن المكلف افضل من غير المكلف واتفقوا على أن أصناف المكلفين أربعة الملائكة والإنس والجن والشياطين ت تأمله جعل الشياطين قسيما للجن أ ه والآل في اللغة الأهل والقرابة ويقال للأتباع وأهل الطاعة آل والآل في الآية يحتمل الوجهين فإن أريد بالآل القرابة فالتقدير أن اللّه اصطفى هؤلاء على عالمي زمانهم  على العالمين جميعا بأن يقدر نبينا صلى اللّه عليه وسلم من ءال ابراهيم وان اريد بالآل الاتباع فيستقيم دخول امة نبينا صلى اللّه عليه وسلم - في الآل لأنها على ملة إبراهيم

٣٤

وقوله تعالى ذرية بعضها من بعض أي متشابهين في الدين والحال وعمران هو رجل من بني إسرائيل وامرأة عمران اسمها حنة ومعنى نذرت جعلت لك ما في بطني محررا أي حبيسا على خدمة بيتك محررا من كل خدمة وشغل من أشغال الدنيا والبيت الذي نذرته له هو بيت المقدس فتقبل مني أي أرض عني في ذلك واجعله فعلا مقبولا مجازى به والسميع إشارة إلى دعائها والعليم إشارة إلى نيتها

وقوله تعالى فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى واللّه أعلم بما وضعت الوضع الولادة وقولها رب إني وضعتها

انثى لفظ خبر في ضمنه التحسر والتلهف وبين اللّه ذلك بقوله واللّه أعلم بما وضعت وقولها وليس الذكر كالأنثى تريد في امتناع نذرها إذ الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان قاله قتادة وغيره وبدأت بذكر الأهم في نفسها وإلا فسياق قصتها يقتضي أن تقول وليس الأنثى كالذكر وفي قولها وإني سميتها مريم سنة تسمية الأطفال قرب الولادة ونحوه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم وباقي الآية اعاذة قال النووي

وروينا في سنن أبي داود بإسناد جيد عن أبي الدرداء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم وفي صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال أحب أسمائكم إلى اللّه عز و جل عبد اللّه وعبد الرحمن وفي سنن أبي داود والنسائي وغيرهما عن ابي وهب الجشمي قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم تسموا بأسماء الأنبياء واحب الأسماء إلى اللّه تعالى عبد اللّه وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة أ ه وفي الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم لى اللّه لعيه وسلم من رواية أبي هريرة قال كل مولود من بني آدم له طعنة من الشيطان وبها يستهل الصبي إلا ما كان من مريم ابنت عمران وابنها فإن أمها قالت حين وضعتها وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث والمعنى واحد كما ذكرته قال النووي باب ما يقال عند الولادة روينا في كتاب ابن السني عن فاطمة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما دنا ولادها أم سلمة وزينب بنت جحش أن تأتياها فتقرأ عندها أية الكرسي وأن ربكم اللّه إلى آخر الآية وتعوذ انها بالمعوذتين انتهى

٣٧

وقوله تعالى فتقبلها ربها بقول حسن إخبار منه سبحانه لصلى اللّه عليه وسلم بأنه

رضي مريم لخدمة المسجد كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك

وقوله سبحانه وأنبتها نباتا حسنا عبارة عن حسن النشأة في خلقة وخلق ص بقبول مصدر على غير الصدر والجاري على تقبل تقبلا وعلى قبل قبولا ونباتا مصدر منصوب بأنبتها على غير الصدر انتهى

وقوله تعالى وكفلها زكريا معناه ضمها الى انفاقه وحضنه والكافل هو المربى قال السدي وغيره ان زكريا كان زوج أختها ويعضد هذا القول قوله صلى اللّه لعيه وسلم في يحيى وعيسى ابنا الخالة والذي عليه الناس أن زكريا إنما كفلها بالاستهام لتشاحهم حينئذ فيمن يكفل المحرر

وقوله تعالى كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا المحراب المبنى الحسن ومحراب القصر أشرف ما فيه ولذلك قيل لأشرف ما في المصلى وهو موقف الإمام محراب ومعنى رزقا أي طعاما يتغذى به لم يعهده ولا عرف كيف جلب إليها قال مجاهد وغيره كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ونحوه عن ابن عباس إلا انه قال ثمار الجنة

وقوله أنى معناه كيف ومن أين وقولها من عند اللّه دليل على أنه ليس من جلب بشر قال الزجاج وهذا من الآية التي قال اللّه تعالى وجعلناها وابنها آية للعالمين وقولها إن اللّه يرزق من يشاء بغير حساب تقرير لكون ذلك الرزق من عند اللّه وذهب الطبري إلى أن ذلك ليس من قول مريم وإنه خبر من اللّه تعالى لصلى اللّه عليه وسلم واللّه سبحانه لا تنتقص خزائنه فليس يحسب ماخرج منها وقد يعبر بهذه العبارة عن المكثرين من الناس أنهم ينفقون بغير حساب وذلك مجاز وتشبيه والحقيقة هي فيما ينتفق من خزائن اللّه سبحانه قال الشيخ ابن أبي جمرة رضي اللّه عنه وقد قال العلماء في معنى قوله عز و جل إن اللّه يرزق من يشاء بغير حساب أنه الفتوح إذا كان على وجهه أ ه ذكر هذا عند شرحه لقوله صلى

اللّه عليه وسلم لو دعيت إلى ذراع  كراع لأجبت

٣٨

وقوله تعالى هنالك دعا زكريا ربه الآية هنالك في كلام العرب إشارة إلى مكان  زمان فيه بعد ومعنى هذه الآية أن في الوقت الذي رأى زكريا رزق اللّه لمريم ومكانتها من اللّه وفكر في أنها جاءت أمها بعد أن اسنت وأن اللّه تعالى تقبلها وجعلها من الصالحات تحرك أمله لطلب الولد وقوي رجاؤه وذلك منه على حال سن ووهن عظم واشتعال شيب فدعا ربه أن يهب له ذرية طيبة يرثه والذرية اسم جنس يقع على واحد فصاعدا كماأن الولد اسم جنس كذلك وطيبة معناه سليمة في الخلق والدين تقية ثم

٣٩

قال تعالى فنادته الملائكة وترك محذوف كثير دل عليه ما ذكر تقديره فقبل اللّه دعاءه وبعث الملك  الملائكة فنادته وذكر جمهور المفسرين أن المنادي إنما هو جبريل وقال قوم بل نادته ملائكة كثيرة حسبما تقتضيه ألفاظ الآية قلت وهذا هو الظاهر ولا يعدل عنه إلا أن يصح في ذلك حديث عنه صلى اللّه عليه و سلم فيتبع

وقوله تعالى فنادته عبارة تستعمل في التبشير وفي ما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به فلم يكن هذا من الملائكة إخبارا على عرف الوحي بل نداء كما نادى الرجل الأنصاري كعب بن مالك من أعلى الجبل

وقوله تعالى وهو قائم يصلي في المحراب يعني بالمحراب في هذا الموضع موقف الإمام من المسجد ويحي اسم سماه اللّه به قبل أن يولد ومصدقا نصب على الحال قال ابن عباس وغيره الكلمة هنا يراد بها عيسى ابن مريم قال ع وسمى اللّه تعالى عيسى كلمة إذ صدر عن كلمة منه تعالى وهي كن لا بسبب إنسان

وقوله تعالى وسيدا قال قتادة أي واللّه سيد في الحلم والعبادة والورع قال ع من فسر السودد بالحلم فقد أحرز أكثر معنى السودد ومن جرد تفسيره بالعلم

والتقى ونحوه فلم يفسره بحسب كلام العرب وقد تحصل العلم ليحيى عليه السلام بقوله مصدقا بكلمة من اللّه وتحصل التقى بباقي الآية وخصه اللّه بذكر السودد الذي هو الاعتمال في رضى الناس على أشرف الوجوه دون أن يوقع في باطل هذا اللفظ يعم السودد وتفصيله أن يقال بذل الندى وهذا هو الكرم وكف الأذى وهنا هي العفة بالفرج واليد واللسان واحتمال العظائم وهنا هو الحلم وغيره من تحمل الغرامات والإنقاذ من الهلكات وجبر الكسير والافضال على المسترفد وأنظر قول النبي صلى اللّه عليه وسلم أنا سيد ولد آدم ولا فخر وذكر حديث الشفاعة في إطلاق الموقف وذلك منه أعتمال في رضى ولد آدم ثم قال ع أما أنه يحسن بالتقي العالم أن يأخذ من السودد بكل ما لا يخل بعلمه وتقاه وهكذا كان يحي عليه السلام

وقوله تعالى وحصورا أصل هذه اللفظة الحبس والمنع ومنه حصر العدو قال ع واجمع من يعتد بقوله من المفسرين على أن هذه الصفة ليحيى عليه السلام إنما هي الامتناع من وطء النساء إلا ما حكي مكي من قول من قال أنه الحصور عن الذنوب وذهب بعض العلماء إلى أن حصره كان بأنه يمسك نفسه تقي وجلدا في طاعة اللّه سبحانه وكانت به القدرة على جماع النساء قالوا وهذا أمدح له قال الإمام الفخر وهذا القول هو اختيار المحققين أنه لا يأتي النساء لا للعجر بل للعصمة والزهد قلت قال عياض أعلم أن ثناء اللّه تعالى على يحيى عليه السلام بأنه حصور ليس كما قال بعضهم أنه كان هيوبا أولا ذكر له بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين ونقاد العلماء وقالوا هذه نقيصة وعيب ولا تليق بالأنبياء عليهم السلام وإنما معناه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كانه حصر عنها

وقيل مانعا نفسه من الشهوات

وقيل ليست له شهوة في النساء كفاية من اللّه له لكونها مشغلة في كثير من الأوقات حاطة إلى الدنيا ثم هي في حق من أقدر عليها وقام

بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه درجة عليا وهي درجة نبينا صلى اللّه عليه وسلم أي وسائر النبيين أ ه من الشفا وباقي الآية بين

وروي من صلاحه عليه السلام أنه كان يعيش من العشب وأنه كان كثير البكاء من خشية اللّه حتى اتخذ الدمع في وجهه أخدودا ص ومن الصالحين أي من اصلاب الأنبياء  صالحا من الصالحين فيكون صفة لموصوف محذوف أ ه قلت

والثاني أحسن والأول تحصيل الحاصل فتأمله

٤٠

وقوله تعالى قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر الآية ذهب الطبري وغيره إلى أن زكريا لما رأى حال نفسه وحال امرأته وأنها ليست بحال نسل سأل عن الوجه الذي به يكون الغلام أتبدل المرأة خلقتها أم كيف يكون قال ع وهذا تأويل حسن لا ئق بزكريا عليه السلام وأنى معناها كيف ومن أين وحسن في الآية بلغني الكبر من حيث هي عبارة واهن منفعل

وقوله كذلك أي كهذه القدرة المستغربة قدرة اللّه ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته كأنه قال رب على أي وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا فقال له كما أنتما يكون لكما الغلام والكلام تام على هذا التأويل في قوله كذلك

وقوله اللّه يفعل ما يشاء جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب

٤١

وقوله قال رب اجعل لي أية أي علامة قالت فرقة من المفسرين لم يكن هذا من زكريا على جهة الشك وانما سأل علامة على وقت الحمل

وقوله تعالى آيتك ألا تكلم الناس الآية قال الطبري وغيره لم يكن منعه الكلام لآفة ولكنه منع محاورة الناس وكان يقدر على ذكر اللّه ثم استثنى الرمز وهو استثناء منقطع والكلام المراد في الآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس والرمز في اللغة حركة تعلم بما في نفس الرامز كانت الحركة من عين  حاجب  شفة  يد  عود  غير ذلك

وقد قيل للكلام المحرف عن ظاهره رموز وأمره تعالى بالذكر لربه كثيرا لأنه لم يحل بينه وبين ذكر اللّه وهذا قاض بأنه لم تدركه آفة ولا علة في لسانه قال محمد بن كعب القرظي لو كان اللّه رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا عليه السلام حيث قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا لكنه قال له أذكر ربك كثيرا قال الإمام الفخر وفي الآية تأويلان احدهما أن اللّه تعالى حبس لسانه عن امور الدنيا وأقدره على الذكر والتسبيح والتهليل ليكون في تلك المدة مشتغلا بذكر اللّه وطاعته شكرا للّه على هذه النعمة ثم اعلم ان هذه الواقعة كانت مشتملة على المعجز من وجوه

أحدها أن قدرته على الذكر والتسبيح وعجزه عن التكلم بأمور الدنيا من المعجزات وثانيها أن حصول ذلك العجز مع صحة البنية من المعجزات وثالثها أن إخباره بأنه متى حصلت تلك الحالة فقد حصل الولد ثم أن الأمر خرج على وفق هذا الخبر يكون أيضا من المعجزات والتأويل الثاني أن المراد منه الذكر بالقلب وذلك لأن المستغرقين في بحار معرفة اللّه تعالى عادتهم في أول الأمر أن يواظبوا على الذكر اللساني مدة فإذا امتلأ القلب من نور ذكر اللّه تعالى سكتوا باللسان وبقي الذكر في القلب ولذلك قالوا من عرف اللّه كل لسانه فكان زكريا عليه السلام أمر بالسكوت باللسان واستحضار معاني الذكر والمعرفة واستدامتها بالقلب أ ه

وقوله تعالى وسبح معناه قل سبحان اللّه وقال قوم معناه صل والأول أصوب لأنه يناسب الذكر ويستغرب مع امتناع الكلام مع الناس والعشي في اللغة من زوال الشمس إلى مغيبها والإبكار مصدر أكبر الرجل إذا بادر امره من لدن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وتتمادى البكرة شيأ بعد طلوع الشمس يقال أبكر الرجل وبكر

٤٢

وقوله تعالى وإذ قالت الملائكة العامل في إذ أذكر لأن هذه الآيات كلها

إنما هي اخبارات بغيب تدل على نبوة نبينا صلى اللّه عليه وسلم مقصد ذكرها هو الأظهر في حفظ رونق الكلام واصطفاك معناه تخيرك لطاعته وطهرك معناه من كل ما يصم النساء في خلق  خلق  دين قاله مجاهد وغيره وقول الزجاج قد جاء في التفسير أن معناه طهرك من الحيض والنفاس يحتاج إلى سند قوي وما أحفظه والعالمين يحتمل عالم زمانها قال ع وسائغ أن يتأول عموم الاصطفاء على العالمين وقد قال بعض الناس أن مريم نبية من أجل مخاطبة الملائكة لها وجمهور الناس على أنها لم تنبأ امرأة واقنتى معناه اعبدي واطيعي قاله الحسن وغيره ويحتمل أن يكون معناه أطيلي القيام في الصلاة وهذا هو قول الجمهور وهو المناسب في المعنى لقوله واسجدي

وروى مجاهد أنها لما خوطبت بهذا قامت حتى ورمت قدماها

وروى الاوزاعي حتى سال الدم والقيح من قدميها

وروي أن الطير كانت تنزل على رأسها تظنها جمادا

واختلف المتأولون لم قدم السجود على الركوع فقال قوم كان ذلك في شرعهم والقول عندي في ذلك أن مريم أمرت بفصلين ومعلمين من معالم الصلاة وهما طول القيام والسجود وخصا بالذكر لشرفهما وهذان يختصان بصلاتها مفردة وإلا فمن يصلي وراء إمام فليس يقال له أطل قيامك ثم أمرت بعد بالصلاة في الجماعة فقيل لها واركعي مع الراكعين وقصد هنا معلم آخر من معالم الصلاة ليلا يتكرر اللفظ ولم يرد في الآية الركوع والسجود الذي هو منتظم في ركعة واحدة واللّه أعلم وقال ص قوله واركعي الواو لا ترتب فلا يسأل لم قدم السجود إلا من جهة علم البيان وجوابه أنه قدم لأنه أقرب ما يكون العبد فيه من ربه فكان اشرف

وقيل كان مقدما في شرعهم أ ه

٤٤

وقوله تعالى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك الآية هذه المخاطبة لنبينا صلى اللّه عليه وسلم والإشارة بذلك إلى ما تقدم ذكره من القصص والأنباء الأخبار

والغيب ما غاب عن مدارك الإنسان ونوحيه معناه نلقيه في نفسك في خفاء وحد الوحي القاء المعنى في النفس في خفاء فمنه بالملك ومنه بالالهام ومنه بالإشارة ومنه بالكتاب وفي هذه الآية بيان لنبوءة نبينا صلى اللّه عليه وسلم إذ جاءهم بغيوب لا يعلمها إلا من شاهدها وهو مل يكن لديهم  من قرأها في كتبهم وهو صلى اللّه عليه و سلم أمي من قوم أميين  من أعلمه اللّه بها وهو ذاك صلى اللّه عليه و سلم ولديهم معناه عندهم ومعهم

وقوله إذ يلقون أقلامهم الآية جمهور العلماء على أنه استهام لأخذها والمنافسة فيها فروي أنهم ألقوا اقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة في النهر فروي أن قلم زكريا صاعد الجرية ومضت أقلام الآخرين

وقيل غير هذا قلت ولفظ ابن العربي في الأحكام قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لى اللّه ليعه وسلم فجرت الأقلام وعلا قلم زكريا أ ه وإذا ثبت الحديث فلا نظر لأحد معه ويختصمون معناه يتراجعون القول الجهير في أمرها وفي هذه الآية استعمال القرعة والقرعة سنة وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا سافر أقرع بين نسائه وقال صلى اللّه عليه و سلم لو يعلمون ما في الصف الأول لاستهموا عليه

واختلف أيضا هل الملائكة هنا عبارة عن جبريل وحده  عن جماعة من الملائكة ووجيها نصب على الحال وهو من الوجه أي له وجه ومنزلة عند اللّه وقال البخاري وجيها شريفا أ ه ومن المقربين معناه من اللّه تعالى وكلامه في المهد أية دالة على براءة أمه وأخبر تعالى عنه أنه أيضا يكلم الناس كهلا وفائدة ذلك أنه إخبار لها بحياته إلى سن الكهولة قال جمهور الناس الكهل الذي بلغ سن الكهولة وقال مجاهد الكهل الحليم قال ع وهذا تفسير للكهولة بعرض مصاحب لها في الأغلب

واختلف الناس في حد الكهولة فقيل الكهل ابن أربعين

وقيل ابن خمسة وثلاثين

وقيل ابن ثلاثة وثلاثين

وقيل ابن اثنين وثلاثين هذا حد أولها وأما آخرها فاثنان

وخمسون ثم يدخل سن الشيخوخة وقول مريم أنى يكون لي ولد استفهام عن جهة حملها واسغراب للحمل على بكارتها ويمسس معناه يطأ ويجامع ص والبشر يطلق على الواحد والجمع أ ه والكلام في قوله كذلك كالكلام في أمر زكريا وجاءت العبارة في أمر زكريا يفعل وجاءت هنا يخلق من حيث أن أمر زكريا داخل في الإمكان الذي يتعارف وأن قل وقصة مريم لا تتعارف البتة فلفظ الخلق أقرب إلى الاختراع وأدل عليه

وقوله تعالى إذا قضى أمرا معناه إذا أراد ايجاده والأمر واحد الأمور وهو مصدر رسمي به والضمير في له عائد على الأمر والقول على جهة المخاطبة

وقوله كن خطاب للمقضى

وقوله فيكون بالرفع خطاب للمخبر

وقوله تعالى ويعلمه الكتاب الآية الكتاب هنا هو الخط باليد وهو مصدر كتب يكتب قاله جمهور المفسرين

وقوله ورسولا إلى بني إسرائيل أي ويجعله رسولا وكانت رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل مبينا حكم التوراة ونابا إلى العمل بها ومحللا أشياء مما حرم فيها كالثروب ولحوم الإبل وأشياء من الحيتان والطير ومن أول القول لمريم إلى قوله إسرائيل خطاب لمريم ومن قوله أنى قد جئتكم إلى قوله مستقيم يحتمل أن يكون خطابا لمريم على معنى يكون من قوله لبني إسرائيل كيت وكيت ويكون في آخر الكلام محذوف يدل عليه الظاهر تقديره فجاء عيسى بني إسرائيل رسولا فقال لهم ما تقدم ذكره ويحتمل أن يكون المحذوف مقدرا ف يصدر الكلام بعد قوله إلى بني إسرائيل فيكون تقديره فجاء عيسى كما بشر اللّه رسولا إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم ويكون قوله أني قد جئتكم ليس بخطاب لمريم والأول أظهر

وقوله أنى أخلق لكم من الطين الآية قرأ نافع أنى أخلق بكسر الهمزة وقرأ باقي السبعة بفتحها فوجه قراءة نافع أما القطع والاستيناف وأما أنه فسر الآية بقوله أنى كما فسر المثل في قوله كمثل آدم ووجه

قراءة الباقين البدل من أية كأنه قال وجئتكم بأني أخلق وأخلق معناه أقدر وأهيء بيدي ص كهيئة الهيئة الشكل والصورة وهو مصدر هاء الشيء يهيىء هيئة وهيأ إذا ترتب واستقر على حال ما وتعديه بالتضعيف

قال تعالى ويهيىء لكم من أمركم مرفقا أ ه وقرأ نافع وحده فيكون طائرا بالإفراد أي يكون طائرا من الطيور وقرأ الباقون فيكون طيرا بالجمع وكذلك في سورة المائدة والطير اسم جمع وليس من أبنية الجموع وإنما البناء في جمع طائر أطيار وجمع الجمع طيور

وقوله فانفخ فبه ذكر الضمير لأنه يحتمل أن يعود على الطين المهيء ويحتمل ان يريد فانفخ في المذكور وأنث الضمير في سورة المائدة لأنه يحتمل أن يعود على الهيئة  على تأنيث لفظ الجماعة وكون عيسى يخلق بيده وينفخ بفيه إنما هو ليبين تلبسه بالمعجزة وأنها جاءت من قبله وأما الإيجاد من العدم وخلق الحياة في ذلك الطين فمن اللّه تعالى وحده لا شريك له

وروي في قصص هذه الآية أن عيسى عليه السلام كان يقول لبني إسرائيل أي الطير أشد خلقة وأصعب أن يحكى فيقولون الخفاش لأنه طائر لا ريش له فكان يصنع من الطين خفافيش ثم ينفخ فيها فتطير وكل ذلك بحضرة الناس ومعاينتهم فكانوا يقولون هذا ساحر وابرىء معناه أزيل المرض والأكمه هو الذي يولد أعمى مضموم العينين قاله ابن عباس وقتادة قال ع والأكمه في اللغة هو الأعمى وقد كان عيسى عليه السلام يبريء بدعائه ومسح يده على كل عاهة ولكن الاحتجاج على بني إسرائيل في معنى النبوءة لا يقوم إلا بالابراء من العلل التي لا يبرىء منها طبيب بوجه

وروي في أحيائه الموتى أنه كان يضرب بعصاه الميت  القبر  الجمجمة فيحيى الإنسان ويكلمه بإذن اللّه وفي قصص الإحياء أحاديث كثيرة لا يوقف على صحتها وآيات عيسى عليه السلام إنما تجري فيما

يعارض الطب لأن علم الطب كان شرف الناس في ذلك الزمان وشغلهم وحينئذ أثيرت فيه العجائب فلما جاء عيسى عليه السلام بغرائب لا تقتضيها الأمزجة وأصول الطب وذلك إحياء الموتى وإبراء الاكمه والأبرص علمت الأطباء أن هذه القوة من عند اللّه وهذا كأمر السحرة مع موسى والفصحاء مع نبينا صلى اللّه عليه وسلم ووقع في التواريخ المترجمة عن الأطباء أن جالينوس كان في زمن عيسى عليه السلام وأنه رحل إليه من رومية إلى الشام فمات في طريقه ذلك

٤٩

وقوله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم الآية قال مجاهد وغيره كان عيسى عليه السلام من لدن طفولته وهو في الكتاب يخبر الصبيان بما يفعل آباؤهم في منازلهم وبما يؤكل من الطعام ويدخر وكذلك إلى أن بنىء فكان يقول لكل من سأله عن هذا المعنى أكلت البارحة كذا وادخرت كذا وقال قتادة معنى الآية إنما هو في نزول المائدة عليهم وذلك أنها لما نزلت أخذ عليهم عهد أن يأكلوا ولا يخبأ أحد شيأ ولا يدخره ولا يحمله إلى بيته فخانوا وجعلوا يخبئون فكان عيسى عليه السلام يخبر كل أحد عما أكل وعما ادخر في بيته من ذلك وعوقبوا على ذلك

٥٠

وقوله فاتقوا اللّه وأطيعون تحذير ودعاء إلى اللّه عز و جل

وقوله هذا صراط مستقيم إشارة إلى قوله إن اللّه ربي وربكم فاعبدوه لأن ألفاظه جمعت الإيمان والطاعات والصراط الطريق والمستقيم الذي لا اعوجاج فيه

٥٢

وقوله تعالى فلما احس عيسى منهم الكفر الآية قبل هذه الآية محذوف به يتم اتساق الآيات تقديره فجاء عيسى كما بشر اللّه به فقال جميع ما ذكر لنبي إسرائيل فلما أحس ومعنى أحس علم من جهة الحواس بما سمع من أقوالهم في تكذيبه ورأى من قرائن أحوالهم وشدة عداوتهم وإعراضهم قال من أنصاري إلى اللّه

وقوله إلى اللّه يحتمل معنيين أحدهما من ينصرني في السبيل إلى اللّه

والثاني أن يكون التقدير من يضيف نصرته إلى نصرة اللّه لي فإلى دالة على الغاية في كلا التقديرين وليس يباح أن يقال إلى بمعنى مع كما غلط في ذلك بعض الفقهاء في تأويل

قوله تعالى وايديكم إلى المرافق فقال إلى بمعنى مع وهذه عجمة والحواريون قوم مر بهم عيسى صلى اللّه عليه و سلم فدعاهم إلىنصره واتباع ملته فأجابوه وقاموا بذلك خير قيام وصبروا في ذات اللّه

واختلف لم قيل لهم حواريون فقال ابن جبير لبياض ثيابهم وقال أبو ارطأة لأنهم كانوا قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها وقال قتادة الحواريون اصفياء الأنبياء الذين تصلح لهم الخلافة وقال الضحاك نحوه قال ع وهذا القول تقرير حال القوم وليس بتفسير اللفظة وعلى هذا الحد شبه النبي صلى اللّه عليه وسلم ابن عمته بهم في قوله وحواري الزبير والأقوال الأول هي تفسير اللفظة إذ هي من الحور وهو البياض حورت الثوب بيضته ومنه الحواري وقد تسمى العرب النساء الساكانات في الامصار الحواريات لغلبة البياض عليهن ومنه قول أبي جلدة اليشكري ... فقل للحواريات يبكين غيرنا ... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح ...

وقول الحواريين واشهد يحتمل أن يكون خطابا لعيسى عليه السلام أي اشهد لنا عند اللّه ويحتمل أن يكون خطابا للّه تعالى كقوله صلى اللّه عليه و سلم في حجة الوداع اللّهم اشهد وقولهم ربنا آمنا بما أنزلت يريدون الإنجيل وآيات عيسى فاكتبنا مع الشاهدين أي في عداد من شهد بالحق من مؤمني الأمم ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل الكافرين بعيسى عليه السلام فقال ومكروا يريد في تحيلهم في قتله بزعمهم فهذا هو مكرهم فجازاهم اللّه تعالى بأن طرح شبه عيسى على أحد الحواريين في قول الجمهور

 على يهودي منهم كان جاسوسا وأعقب بني إسرائيل مذلة وهوانا في الدنيا والآخرة فهذه العقوبة هي التي سماها اللّه تعالى مكرا في قوله ومكر اللّه وذلك مهيع أن تسمى العقوبة باسم الذنب

وقوله واللّه خير الماكرين معناه فاعل حق في ذلك وذكر أبو القاسم القشيري في تجبيره قال سئل ميمون احسبه ابن مهران عن

٥٤

قوله تعالى ومكروا ومكر اللّه فقال تخليته إياهم مع مكرهم هو مكره بهم أ ه ونحوه عن الجنيد قال الفراء المكر من المخلوق الخب والحيلة ومن الإله الاستدراج قال اللّه تعالى سنستدرجهم من حيث لا يعلمون قال ابن عباس كلما احدثوا خطيئة أحدثنا لهم نعمة أ ه

وقوله تعالى إذ قال اللّه يا عيسى إني متوفيك الآية اختلف في هذا التوفي فقال الربيع هي وفاة نوم وقال الحسن وغيره هو توفى قبض وتحصيل أي قابضك من الأرض ومحصلك في السماء وقال ابن عباس هي وفاة موت ونحوه لمالك في العتبية وقال وهب بن منبه توفاه اللّه بالموت ثلاث ساعات ورفعه فيها ثم أحياه بعد ذلك وقال الفراء هي وفاة موت ولكن المعنى إني متوفيك في أخر أمرك عند نزولك وقتلك الدجال ففي الكلام تقديم وتأخير قال ع واجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى عليه السلام في السماء حي وإنه ينزل في آخر الزمان فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويقتل الدجال ويفيض العدل ويظهر هذه الملة ملة صلى اللّه عليه وسلم ويحج البيت ويعتمر ويبقى في الأرض أربعا وعشرين سنة

وقيل أربعين سنة ثم يميته اللّه تعالى قال ع فقول ابن عباس هي وفاة موت لا بد أن يتمم أما على قول وهب بن منبه وإما على قول الفراء

وقوله تعالى ورافعك إلى عبارة عن نقله من سفل إلى علو وإضافة اللّه سحبانه إضافة تشريف وإلا فمعلوم أنه سبحانه غير متحيز في جهة

ومطهرك أي من دعاوى الكفر ومعاشرتهم

وقوله وجاعل الذين اتبعوك الآية قال جمهور المفسرين بعموم اللفظ في المتبعين فتدخل في ذلك أمة صلى اللّه عليه وسلم لأنها متبعة لعيسى قاله قتادة وغيره وكذلك قالوا بعموم اللفظ في الكافرين فمقتضى الآية إعلام عيسى عليه السلام أن أهل الإيمان به كما يجب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان والعز والغلبة ويظهر من عبارة ابن جريج وغيره أن المراد المتبعين له في وقت استنصاره وهم الحواريون

وقوله تعالى ثم إلي مرجعكم خطاب لعيسى والمراد الإخبار بالقيامة والحشر وباقي الآية بين وتوفيه الأجور هي قسم المنازل في الجنة فذلك هو بحسب الأعمال وأما نفس دخول الجنة فبرحمة اللّه وتفضله سبحانه

وقوله تعالى ذلك نتلوه عليك من الآيات الآية ذلك إشارة إلى ما تقدم من الأنباء ونتوله معناه نسرده ومن الآيات ظاهره آيات القرآن ويحتمل أن يريد من المعجزات والمستغربات أن تأتيهم بهذه الغيوب من قبلناوبسبب تلاوتنا والذكر ما ينزل من عند اللّه قال ابن عباس الذكر القرآن والحكيم الذي قد كمل في حكمته

وقوله تعالى إن مثل عيسى عند اللّه الآية قال ابن عباس وغيره سبب نزولها محاجة نصارى نجران فى امر عيسى وقولهم يا محمد هل رأيت بشرا قط جاء من غير فحل  سمعت به ومعنى الآية إن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمتصور من آدم إذ الناس مجمعون علىأن اللّه تعالى خلقه من تراب من غير فحل وفي هذه الآية صحة القياس

وقوله تعالى ثم قال ترتيب للإخبار لصلى اللّه عليه وسلم المعنى خلقه من تراب ثم كان من أمره في الأزل أن قال له كن وقت كذا

٦٠

وقوله تعالى الحق من ربك أي هذا هو الحق والممترين هم الشاكون ونهي النبي صلى اللّه عليه وسلم في عبارة اقتضت ذم الممترين وهذا يدل على أن المراد

بالامتراء غيره ونهي عن الامتراء مع بعده عنه على جهة التثبيت والدوام على حاله

٦١

وقوله تعالى فمن حاجك فيه أي في عيسى ويحتمل في الحق والعلم الذي أشير إليه بالمجيء هو ما تضمنته هذه الآيات المتقدمة

وقوله فقل تعالوا استدعاء للمباهلة وتعالوا تفاعلوا من العلو وهي كلمة قصد بها أولا تحسين الأدب مع المدعو ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدوه وللبهيمة ونبتهل معناه نلتعن ويقال عليهم بهلة اللّه والإبتهال الجد في الدعاء بالبهلة قال محمد بن جعفر بن الزبير وغيره أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما دعا نصارى نجران إلى المباهلة قالوا دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتك بما نفعل فذهبوا إلى العاقب وهو ذو رأيهم فقالوا يا عبد المسيح ما ترى فقال يا معشر النصارى واللّه لقد عرفتم أن محمدا النبي المرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم ما لاعن قوم قط نبيا فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وأنه الاستيصال إن فعلتم فإن أبيتم إلا إلف دينكم وما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمن رأيه فأتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نبقى على ديننا وصالحوه على أموال وقالوا له ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أمولنا فإنكم عندنا رضي قال ع وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوءة نبينا صلى اللّه عليه وسلم شاهد عظيم على صحة نبوته صلى اللّه عليه و سلم عندهم ودعاء النساء والأبناء أهز للنفوس وأدعى لرحمة اللّه للمحقين  لغضبه على المبطلين

٦٢

وقوله تعالى إن هذا لهو القصص الحق الآية هذا خبر من اللّه تعالى جزم مؤكد فصل به بين المختصمين والإشارة بهذا هي إلى ما تقدم في أمر عيسى عليه السلام والقصص معناه الأخبار وقال ص إن هذا لهو هذا إشارة

إلى القرآن أ ه

واختلف المفسرون من المراد بأهل الكتاب هنا فروى قتادة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنهم يهود المدينة وقال ابن زيد وغيره المراد نصارى نجران قال ع والذي يظهر لي أن الآية نزلت في وفد نجران لكن لفظ الآية يعمهم وسواهم من النصارى واليهود وقد كتب النبي صلى اللّه عليه وسلم بهذه الآية إلى هرقل عظيم الروم وكذا ينبغي أن يدعى بها أهل الكتاب إلى يوم القيامة والكلمة هنا عند الجمهور عبارة عن الألفاظ التي تتضمن المعاني المدعو إليها وهي ما فسر بعد ذلك وهذا كما تسمى العرب القصيدة كلمة

وقوله سواء نعت للكلمة قال قتادة وغيره معناه إلى كلمة عدل وفي مصحف ابن مسعود إلى كلمة عدل كما فسر قتادة قال ع والذي أقوله في لفظة سواء أنها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون

وقوله ألا نعبد إلا اللّه هو في موضع خفض على البدل من كلمة  في موضع رفع بمعنى هي ألا نعبد إلا اللّه واتخاذ بعضهم بعضا أربابا هو على مراتب اشدها اعتقادهم الألوهية وعبادتهم لهم كعزير وعيسى ومريم وادنى ذلك طاعتهم لأساقفتهم في كل ما أمروا به من الكفر والمعاصي والتزامهم طاعتهم شرعا م فإن تولوا أبو البقاء تولوا فعل ماض ولا يجوز ان يكون التقدير تتولوا لفساد المعنى لأن قوله فقولوا اشهدوا خطاب للمؤمنين وتولوا للمشركين أ ه

وقوله فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون أمر بالإعلان بمخالفتهم ومواجهتهم بذلك واشهادهم عل معنى التوبيخ والتهديد

وقوله تعالى يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم الآية قال ابن عباس وغيره اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فتنازعوا عنده فقالت الأحبار ما كان إبراهيم إلا يهوديا وقالت النصارى ما كان إبراهيم إلا نصرانيا فأنزل اللّه الآية ومعنى

قوله تعالى فيما لكم به علم أي على

زعمكم وفسرالطبري هذا الموضع بأنه فيما لهم به علم من جهة كتبهم وأنبيائهم مما ايقنوه وثبتت عندهم صحته قال ع وذهب عنه رحمة اللّه ان ما كان هكذا فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة لأنهم يجدونه عند صلى اللّه عليه وسلم كما كان هناك على حقيقته قلت وما قاله الطبري ابين وهو ظاهر الآية ومن المعلوم أن أكثر احتجاجاتهم إنما كانت تعسفا وجحدا للحق

وقوله تعالى ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا الآية أخبر اللّه تعالى في هذه الآية عن حقيقة أمر إبراهيم عليه السلام ونفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك ثم أخبر تعالى اخبارا مؤكذا أن أولى الناس بإبراهيم هم القوم الذين اتبعوه فيدخل في ذلك كل من اتبع الحنيفية في الفترات وهذا النبي يعني صلى اللّه عليه وسلم لأنه بعث بالحنيفية السمحة والذين ءامنوا يعني بصلى اللّه عليه وسلم وسائر الأنبياء على ما يجب ثم أخبر سبحانه أنه ولي المؤمنين وعدا منه لهم بالنصر في الدنيا والنعيم في الاخره روى عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي إبراهيم ثم قرأ أن أولى الناس بإبراهيم الآية

٦٩

وقوله تعالى ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم قال مكي قيل أن هذه الآية عني بها قريظة والنضير وبنو قينقاع ونصارى نجران ص

قوله تعالى ودت طائفة ود بمعنى تمنى ويستعمل معها أن ولو وربما جمع بينهما نحو وددت أن لو فعل ومصدره الودادة والاسم منه الود وبمعنى احب فيتعدى كتعدى احب ومصدره مودة والأسم منه ود وقد يتداخلان في الاسم والمصدر أ ه

وقوله تعالى وما يضلون إلا أنفسهم إعلام بأن سوء فعلهم عائد عليهم وأنهم ببعدهم عن الإسلام هم الضالون ثم أعلم تعالى أنهم لا يشعرون بذلك أي لا يتفطنون ثم وقفهم تعالى موبخا لهم على لسان نبيه والمعنى قل لهم يا محمد

لأي سبب تكفرون بآيات اللّه التي هي آيات القرآن وأنتم تشهدون ان أمره وصفة محمد في كتابكم قال هذا المعنى قتادة وغيره ويحتمل أن يريد بالآيات ما ظهر على يده صلى اللّه عليه و سلم من المعجزات قلت ويحتمل الجميع من الآيات المتلوة والمعجزات التي شاهدوها منه صلى اللّه عليه و سلم وقال ص وأنتم تشهدون جملة حالية ومفعول تشهدون محذوف أي أنها ايات اللّه  ما يدل على صحتها من كتابكم  بمثلها من آيات الأنبياء أ ه

وقوله لم تلبسون معناه تخلطون تقول لبست الأمر بفتح الباء بمعنى خلطته ومنه

قوله تعالى وللبسنا عليه ما يلبسون وفي قوله وأنتم تعلمون توقيف على العناد ظاهر وباقي الآية تقدم بيانه في سورة البقرة

٧٢

وقوله تعالى وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين أمنوا وجه النهار الآية اخبر راللّه سحبانه في هذه الآية أن طائفة من اليهود من أحبارهم ذهبت إلى خديعة المسلمين بهذا المنزع قال قتادة وغيره قال بعض الأحبار لنظهر الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم لى اللّه عليه وسلملى اللّه عليه وسلمدر النهار ثم لنكفر به آخر النهار فسيقول المسلمون عند ذلك ما بال هؤلاء كانوا معنا ثم انصرفوا عنا ما ذاك الا لانهم انكشفت لهم حقيقة في الأمر فيشكون ولعلهم يرجعون عن الإيمان بمحمد قال الإمام الفخر وفي أخبار اللّه تعالى عن تواطئهم على هذه الحيلة من الفائدة وجوه الأول أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم فلما أخبر بها عنهم كان إخبارا بمغيب فيكون معجزا الثاني أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لهذه الحيلة أثر في قلوب المؤمنين ولولا هذا الإعلام لأمكن تأثيرها في قلب من ضعف إيمانه الثالث أن القوم لما إفتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعا لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس أ ه وذكر تعالى عن هذه الطائفة من أهل الكتاب أنهم قالوا ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ولا خلاف

إن هذا القول هو من كلام الطائفة

واختلف الناس في

قوله تعالى أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم  يحاجوكم عند ربكم فقال مجاهد وغيره من أهل التأويل الكلام كله من قول الطائفة لأتباعهم

وقوله تعال قل إن الهدى هدى اللّه اعتراض بين الكلامين قال ع والكلام على هذا التأويل يحتمل معاني

أحدها ولا تصدقوا وتؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم حذارا أن يؤتى أحد من النبوءة والكرامة مثل ما أوتيتم وحذارا أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه وهذا القول على هذا المعنى ثمرة الحسد والكفر مع المعرفة بصحة نبوة صلى اللّه عليه وسلم ويحتمل الكلام أن يكون معناه ولا تؤمنوا بمحمد وتقروا بنبوته إذ قد علمتم صحتها إلا لليهود الذين هم منكم وأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتيم صفة لحال صلى اللّه عليه وسلم فالمعنى تستروا بإقراركم أن قد أوتي مثل ما أوتيتم  فإنهم يعنون العرب يحاجونكم بالإقرار عند ربكم وقرأ ابن كثير وحده من بين السبعة آن يؤتى بالمد على جهة الاستفهام الذي هو تقرير وفسر أبو علي قراءة ابن كثير على أن الكلام كله من قول الطائفة إلا الاعتراض الذي هو قل إن الهدى هدى اللّه فإنه لا يختلف أنه من قول اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه و سلم قال فلا يجوز مع الاستفهام أن يحمل ان يؤتى على ما قبله من الفعل لأن الاستفهام قاطع فيجوز أن تكون أن في موضع رفع بالابتداء وخبره محذوف تقديره تصدقون  تعترفون  تذكرونه لغيركم ونحو هذا مما يدل عليه الكلام قال ع ويكون يحاجوكم على هذا معطوفا على أن يؤتى قال أبو علي ويجوز أن يكون موضع أن نصبا فيكون المعنى أتشيعون  تذكرون أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ويكون ذلك بمعنى

قوله تعالى عنهم أتحدثونهم بما فتح اللّه عليكم فعلى كلا الوجهين معنى الآية توبيخ من الأحبار للاتباع على تصديقهم بأن محمد صلى اللّه عليه وسلم لى اللّه عليه وسلملى اللّه عليه وسلملى اللّه

عليه وسلم نبي مبعوث قال ع ويكون

قوله تعالى أويحاجوكم في تأويل نصب أن بمعنى  تريدون أن يحاجوكم وقال السدي وغيره الكلام كله من قوله قل إن الهدى هدى اللّه إلى آخر الآية هو مما أمر به النبي صلى اللّه عليه وسلم أ يقوله لأمته وحكى الزجاج وغيره أن المعنى قل إن الهدى هو هذا الهدى لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ومعنى الآية على قول السدي أي لم يعط أحد مثل حظكم وإلا فليحاجكم من أدعى سوى ذلك أويكون المعنى  يحاجونكم على معنى الإزدراء باليهود كأنه قال  هل لهم ان يحاجوكم  يخاصموكم فيما وهبكم اللّه وفضلكم به وقال قتادة والربيع الكلام كله من قوله قل إن الهدى هدى اللّه إلى آخر الآية هو مما أمر به النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يقوله للطائفة قال ع ويحتمل أن يكون قوله أن يوتى بدلا من قوله هدى اللّه قلت وقد أطالوا الكلام هنا وفيما ذكرناه كفاية

وقوله تعالى قل إن الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء واللّه واسع عليم يختص برحمته من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم في الآية تكذيب لليهود في قولهم لن يؤتي اللّه أحدا مثل ما أتى بني إسرائيل من النبوءة والشرف وباقي الآية تقدم تفسير نظيره

٧٥

وقوله تعالى ومن أهل الكتاب من إن تامنه الآية أخبر تعالى عن أهل الكتاب أنهم قسمان في الأمانة ومقصد الآية ذم الخونة منهم والتفنيد لرأيهم وكذبهم على اللّه في استحلالهم أموال العرب قال الفخر وفي الآية ثلاثة أقوال الأول ان أهل الأمانة منهم الذين أسلموا أما الذين بقوا على اليهودية فهم مصرون على الخيانة لأن مذهبهم أنه يحل لهم قتل كل من خالفهم في الدين وأخذ ماله الثاني أن أهل الأمانة منهم هم النصارى وأهل الخيانة هم اليهود الثالث قال ابن عباس أودع رجل عبد اللّه بن سلام ألفا مائتي أوقية من ذهب فأدى إليه وأودع آخر

فنحاصا اليهودي دينارا فخانه فنزلت الآية أ ه

قال ابن العربي في أحكامه قال الطبري وفائدة هذه الآية النهي عن ائتمانهم على مال وقال شيخنا أبو عبداللّه المغربي فائدتها أن لا يؤتمنوا على دين يدل عليه ما بعده في قوله وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب الآية والصحيح عندي أنها في المال نص وفي الدين تنبيه فافادت المعنيين بهذين الوجهين

قال ابن العربي فالامانة عظيمة القدر في الدين ومن عظيم قدرها انها تقف على جنبتي الصراط لا يمكن من الجواز إلا من حفظها ولهذا وجب عليك أن تؤديها إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك فتقابل المعصية بالمعصية وكذلك لا يجوز أن تغدر من غدرك قال البخاري باب أثم الغادر للبر والفاجر أ ه والقنطار في هذه الآية مثال للمال الكثير يدخل فيه اكثر من القنطار وأقل وأما الدينار فيحتمل أن يكون كذلك مثالا لما قل ويحتمل أن يريد أن منهم طبقة لا تخون إلا في دينار فما زاد ولم يعن لذكر الخائنين في أقل إذ هم طغام حثالة ودام معناه ثبت

وقوله قائما يحتمل معنيين قال قتادة ومجاهد والزجاج معناه قائما على اقتضاء حقك يريدون بانواع الاقتضاء من الحفز والمرافعة إلى الحاكم من غير مراعاة لهيئة هذا الدائم وقال السدي وغيره معنى قائما على رأسه

وقوله ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل الآية الإشارة بذلك إلى كونهم لا يؤدون الأمانة أي يقولون نحن من أهل كتاب والعرب أميون أصحب أوثان فأموالهم لنا حلال متى قدرنا على شيء منها لا حجة علينا في ذلك ولا سبيل لمعترض

وقوله تعالى ويقولون على اللّه الكذب وهم يعلمون ذم لبني إسرائيل بأنهم يكذبون على اللّه سبحانه في غير ما شيء وهم عالمون بمواضع الصدق قال ص وهم يعلمون جملة حالية أ ه ثم رد اللّه تعالى في صدر قولهم ليس علينا بقوله بلى أي عليهم سبيل وحجة و تباعة

ثم أخبر على جهة الشرط إن أوفى بالعهد واتقى عقوبة اللّه في نقضه فإنه محبوب عند اللّه

٧٧

وقوله تعالى أن الذين يشترون بعهد اللّه الآية أية وعيد لمن فعل هذه الأفاعيل إلى يوم القيامة وهي أية يدخل فيها الكفر فما دونه من جحد الحق وختر المواثيق وكل يأخذ من وعيدها بحسب جريمته

قال ابن العربي في أحكامة وقد اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية والذي يصح من ذلك أن عبد اللّه بن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حلف يمين صبر يقتطع بها مال أمري مسلم لقي اللّه وهو عليه غضبان فأنزل اللّه تصديق ذلك أن الذين يشترون بعهد اللّه وأيمانهم ثمنا قليلا الآية قال فجاء الأشعث بن قيس فقال في نزلت كانت لي بير في أرض ابن عم لي وفي رواية كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم بينتك وذكر  يمينه قلت إذا يحلف يا رسول اللّه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم وذكر الحديث اه

٧٨

وقوله تعالى وإن منهم لفريقا يلوون السنتهم بالكتاب الآية يلوون معناه يحرفون ويتحيلون لتبديل المعاني من جهة أشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات كقولهم راعنا واسمع غير مسمع ونحو ذلك وليس التبديل المحض بلي وحقيقة اللي في الثياب والحبال ونحوها وهو فتلها واراغتها ومنه لي العنق ثم أستعمل ذلك في الحجج والخصومات والمجادلات والكتاب في هذا الموضع التوراة والضمير في تحسبوه للمسلمين قوله وما هو من عند اللّه نفي أن يكون منزلا من عند اللّه كما ادعوا وهو من عند اللّه بالخلق والاختراع والإيجاد ومنهم بالتكسب

٧٩

وقوله تعالى ما كان لبشر الآية معناه النفي التام لانا نقطع أن اللّه لا يؤتى النبوءة للكذبة والمدعين والكتاب هنا اسم جنس والحكم بمعنى الحكمة ومنه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم أن من الشعر لحكما وقال الفخر هنا اتفق أهل

اللغة والتفسير على أن هذا الحكم هو العلم

قال تعالى وءاتيناه الحكم صبيا يعني العلم والفهم ا ه وثم في قوله ثم يقول معطية تعظيم الذنب في القول بعد مهلة من هذا الأنعام

وقوله عبادا جمع عبد ومن جموعه عبيد وعبدي قال ع والذي استقريت في لفظة العباد أنه جمع عبد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن وأما العبيد فيستعمل في التحقير قال ص ونوقش ابن عطية بأن عبدي اسم جمع وتفريقه بين عباد وعبيد لا يصح ا ه قلت

وقوله تعالى ءانتم أضللتم عبادي هؤلاء ونحوه يوضحه ا ه ومعنى الآية ما كان لأحد من الناس أن يقول اعبدوني واجعلوني إلها قال النقاش وغيره وهذه الإشارة إلى عيسى عليه السلام والآية رادة على النصارى وقال ابن عباس وجماعة من المفسرين بل الإشارة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وسبب نزول الآية أن أبا رافع القرظي قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم حين اجتمعت الأحبار من يهود والوفد من نصارى نجران يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلها كما عبدت النصارى عيسى فقال الرئيس من نصارى نجران  ذاك تريد يا محمد وإليه تدعونا فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم - معاذ اللّه ما بذلك امرت ولا اليه دعوت فنزلت الآية قال بعض العلماء أرادت الأحبار أن تلزم هذا القول محمدا صلى اللّه عليه وسلم لى اللّه عليه و سلم لما تلا عليهم قل إن كنتم تحبون اللّه فاتبعوني وإنما معنى الآية فاتبعوني فيما أدعوكم إليه من طاعة اللّه فحرفوها بتأولهم وهذا من نوع ليهم الكتاب بإلسنتهم قال الفخر وقال ابن عباس أن الآية نزلت بسبب قول النصارى المسيح ابن اللّه وقول اليهود عزيز ابن اللّه

وقيل أن رجلا من المسلمين قال يا رسول اللّه أفلا نسجد لك فقال عليه السلام ما ينبغي السجود

إلا للّه قيل

٨٠

وقوله تعالى أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون يقوى هذا التأويل ا ه

وقوله تعالى ولكن كونوا ربانيين الآية المعنى ولكن يقول كونوا ربانيين وهو جمع رباني قال قوم منسوب إلى الرب من حيث هو عالم ما علمه عامل بطاعته معلم للناس ما أمر به وزيدت فيه النون مبالغة وقال قوم منسوب إلى الربان وهو معلم الناس مأخوذ من رب يرب إذا أصلح وربى والنون أيضا زائدة كما زيدت في غضبان وعطشان وفي البخاري الرباني الذي يربى الناس بصغار العلم قبل كباره قال ع فجملة ما يقال في الرباني أنه العالم بالرب والشرع المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس

وقوله بما كنتم معناه بسبب كونكم عالمين دارسين فما مصدرية وأسند أبو عمر بن عبد البر في كتاب فضل العلم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال العلم علمان علم في القلب فذلك العلم النافع وعلم في اللسان فذلك حجة اللّه عز و جل على ابن أدم ومن حديث ابن وهب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هلاك أمتي عالم فاجر وعابد جاهل وشر الشرار جبار العلماء وخير الخيار خيار العلماء ا ه وقرأ جمهور الناس تدرسون بضم الراء من درس إذا أدمن قراءة الكتاب وكرره وقرأ نافع وغيره ولا يأمركم برفع الراء على القطع قال سيبويه المعنى لا يأمركم اللّه وقال ابن جريج وغيره المعنى ولا يأمركم هذا البشر الذي أوتي هذه النعم وهو صلى اللّه عليه وسلم وأما قراءة من نصب الراء وهو حمزة وغيره فهي عطف على قوله أن يوتيه اللّه المعنى ولا له أن يأمركم قاله أبو علي وغيره وهو الصواب لا ما قاله الطبري من أنها عطف على قوله ثم يقول والأرباب في هذه الآية بمعنى الآلهة

٨١

وقوله تعالى وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين لما ءاتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن

به ولتنصرنه المعنى واذكر يا محمد إذ فيحتمل أن يكون أخذ هذا الميثاق حين أخرج بني ءادم من ظهر ءادم نسما ويحتمل أن يكون هذا الأخذ على كل نبي في زمنه ووقت بعثه والمعنى أن اللّه تعالى أخذ ميثاق كل نبي بأنه ملتزم هو ومن ءامن به الإيمان بمن أتى بعده من الرسل والنصر له وقال ابن عباس إنما أخذ اللّه ميثاق النبيين على قومهم فهو أخذ لميثاق الجميع وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه لم يبعث اللّه نبيا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في صلى اللّه عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره بأخذه على قومه ثم تلا هذه الآية وقاله السدي وقرأ حمزة لما بكسر اللام وهي لام الجر والتقدير لأجل ما آتيناكم إذ أنتم القادة والرؤوس ومن كان بهذه الحال فهو الذي يؤخذ ميثاقه وما في هذه القراءة بمعنى الذي والعائد إليها من الصله تقديره آتيناكموه ومن لبيان الجنس وثم جاءكم الآية جملة معطوفة على الصلة ولا بد في هذه الجملة من ضمير يعود على الموصول وإنما حذف تخفيفا لطول الكلام وتقديره عند سيبويه رسول به مصدق لما معكم واللام في لتؤمنن به هي اللام المتلقية للقسم الذي تضمنه أخذ الميثاق وفصل بين القسم والمقسم عليه بالجار والمجرور وذلك جائز وقرأ سائر السبعة لما بفتح اللام وذلك يتخرج على وجهين أحدهما أن تكون ما موصولة في موضع رفع بالابتداء واللام لام الابتداء وهي متلقية لما اجري مجرى القسم من

قوله تعالى وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين وخبر الابتداء قوله لتؤمنن ولتؤمنن متعلق بقسم محذوف فالمعنى واللّه لتؤمنن قاله أبو علي وهو متجه بأن الحلف يقع مرتين والوجه الثاني أن تكون ما للجزاء شرطا فتكون في موضع نصب بالفعل الذي بعدها وهو مجزوم وجاءكم معطوف في موضع جزم واللام الداخلة على ما ليست الملتقية للقسم ولكنها

الموطئة المؤذنة بمجيء لام القسم فهي بمنزلة اللام في

قوله تعالى لئن لم ينته المنافقون لأنها مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله لنغرينك بهم وكذلك هذه مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله لتؤمنن وقرأ نافع وحده آتيناكم بالنون وقرأ الباقون آتيتكم بالتاء ورسول في هذه الآية اسم جنس وقال كثير من المفسرين هو نبينا صلى اللّه عليه وسلم

وقوله تعالى قال ءاقررتم وأخذتم على ذلكم اصري هذه الآية هي وصف توقيف الأنبياء عليهم السلام على إقرارهم بهذا الميثاق والتزامهم له وأخذتم في هذه الآية عبارة عما تحصل لهم من إيتاء الكتب والحكمة فمن حيث أخذ عليهم أخذوا هم أيضا وقال الطبري أخذتم في هذه الآية معناه قبلتم والأصر العهد لا تفسير له في هذا الموضع إلا ذلك

وقوله تعالى فاشهدوا يحتمل معنيين احدهما فاشهدوا على اممكم المؤمنين بكم وعلى أنفسكم بالتزام هذا العهد قاله الطبري وجماعة والمعنى الثاني بثوا الأمر عند أممكم واشهدوا به وشهادة اللّه على هذا التأويل هي إعطاء المعجزات وإقرار نبوءاتهم هذا قول الزجاج وغيره قال ع فتأمل أن القول الأول هو إيداع الشهادة واستحفاظها والقول الثاني هو الأمر بأدائها وحكم تعالى بالفسق على من تولى من الأمم بعد هذا الميثاق قاله علي بن أبي طالب وغيره وقرأ أبو عمرو يبغون بالياء من أسفل مفتوحة وترجعون بالتاء من فوق مضمومة وقرأ عاصم بالياء من اسفل فيهما وقرأ الباقون بالتاء فيهما ووجوه هذه القراءات لا تخفى بادنى تأمل وتبغون معناه تطلبون قال النووي

وروينا في كتاب ابن السني عن السيد الجليل المجمع على جلالته وحفظه وديانته وورعه يؤنس ابن عبيد بن دينار البصري الشافعي المشهور أنه قال ليس رجل يكون على دابة صعبة فيقول في إذنها أفغير دين اللّه تبغون وله اسلم من في السماوات

والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون إلا وقفت بإذن اللّه تعالى

وروينا في كتاب ابن السني عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد يا عباد اللّه احبسوا يا عباد اللّه احبسوا فإن للّه عز و جل في الأرض حاضرا سيحبسها قال النووي حكى لي بعض شيوخنا أنه انفلتت له دابة اظنها بغلة وكان يعرف هذا الحديث فقاله فحبسها اللّه عليه في الحال وكنت أنا مرة مع جماعة فانفلتت منها بهيمة فعجزوا عنها فقلته فوقفت في الحال بغير سبب سوى هذا الكلام اه واسلم معناه استسلم عند الجمهور واختلفوا في معنى قوله طوعا وكرها فقال مجاهد هذه الآية كقوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن اللّه فالمعنى أن إقرار كل كافر بالصانع هو إسلام كرها ونحوه لأبي العالية وعبارته كل آدمي فقد أقر على نفسه بأن اللّه ربي وأنا عبده فمن أشرك في عبادته فهو الذي اسلم كرها ومن أخلص فهو الذي أسلم طوعا قال ع والمعنى في هذه الآية يفهم كل ناظر أن الكره خاص بأهل الأرض

٨٣

وقوله سبحانه أفغير دين اللّه توقيف لمعاصري نبينا صلى اللّه عليه وسلم من الأحبار والكفار

٨٤

قوله تعالى قل آمنا باللّه وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم٦ الآية المعنى قل يا محمد أنت وأمتك آمنا باللّه الآية وقد تقدم بيانها في البقرة ثم حكم تعالى في قوله ومن يبتغ غير الإسلام الآية بأنه لا يقبل من آدمي دينا غير دين الإسلام وهو الذي وافق في معتقداته دين كل من سمي من الأنبياء عليهم السلام وهو الحنيفية السمحة وقال بعض المفسرين أن من يبتغ الآية نزلت في الحارث بن سويد قلت وعلى تقدير صحة هذا القول فهي تتناول بعمومها من سواه إلى يوم القيامة

٨٦

وقوله تعالى كيف يهدي اللّه قوما كفروا

بعد إيمانهم الآيات قال ابن عباس نزلت هذه الآيات من قوله كيف يهدي اللّه في الحارث بن سويد الأنصاري كان مسلما ثم أرتد ولحق بالشرك ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هل من توبة فنزلت الآيات إلى قوله إلا الذين تابوا فأرسل إليه قومه فأسلم قال مجاهد وحسن إسلامه وقال ابن عباس أيضا والحسن بن أبي الحسن نزلت في اليهود والنصارى شهدوا ببعث النبي صلى اللّه عليه وسلم وآمنوا به فلما جاء من العرب حسدوه وكفروا به ورجحه الطبري وقال النقاش نزلت في طعيمة بن ابيرق قال ع وكل من ذكر فألفاظ الآية تعمه

وقوله تعالى كيف سؤال عن حال لكنه سؤال توقيف على جهة الاستبعاد للأمر فالمعنى أنهم لشدة هذه الجرائم يبعد أن يهيدهم اللّه جميعا وباقي الآية بين قال الفخر واستعظم تعالى كفر هؤلاء المرتدين بعد حصول هذه الخصال الثلاث لأن مثل هذا الكفر يكون كالمعاندة والجحود وهذا يدل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل اه

وقوله تعالى إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا الآية قال ابو العالية رفيع الآية في اليهود كفروا بصلى اللّه عليه وسلم بعد إيمانهم بصفاته وإقرارهم أنها في التوراة ثم ازدادوا كفرا بالذنوب التي أصابوها في خلاف النبي صلى اللّه عليه وسلم من الافتراء والبهت والسعي على الإسلام وغير ذلك قال ع وعلى هذا الترتيب يدخل في الآية المرتدون اللاحقون بقريش وغيرهم وقال مجاهد معنى قوله ثم ازدادوا كفرا أي اتموا على كفرهم وبلغوا الموت به قال ع فيدخل في هذا القول اليهود والمرتدون وقال السدي نحوه ثم أخبر تعالى أن توبة هؤلاء لن تقبل وقد قررت الشريعة أن توبة كل كافر تقبل فلا بد في هذه الآية من تخصيص تحمل عليه ويصح به نفي قبول التوبة فقال

الحسن وغيره المعنى لن تقبل توبتهم عند الغرغرة والمعاينة وقال أبو العالية المعنى لن تقبل توبتهم من تلك الذنوب التي أصابوها مع اقامتهم على كفرهم بصلى اللّه عليه وسلم قال ع وتحتمل الآية عندي أن تكون إشارة إلى قوم باعيانهم من المرتدين وهم الذين اشار إليهم بقوله سبحانه كيف يهدي اللّه قوما فأجنر عنهم أنه لاتكون منهم توبة فيتصور قبولها فكانه أخبر عن هؤلاء المعينين أنهم يموتون كفارا ثم أخبر الناس عن حكم كل من يموت كافرا والملء ما شحن به الوعاء

وقوله ولو افتدى به قال الزجاج المعنى لن يقبل من أحدهم انفاقه وتقرباته في الدنيا ولو أنفق ملء الأرض ذهبا ولو افتدى أيضا به في الآخرة لن يقبل منه قال فاعلم اللّه انه لا يثيبهم على اعمالهم من الخير ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب قال ع وهذا قول حسن وقال قوم الواو زائدة وهذا قول مردود ويحتمل المعنى نفي القبول على كل وجه ثم خص من تلك الوجوه اليقها واحراها بالقبول وباقي الآية وعيد بين عافانا اللّه من عاقبة وختم لنا بما ختم به للصالحين من عباده

وقوله تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون الآية خطاب لجميع المؤمنين فتحتمل الآية ان يريد لن تنالوا بر اللّه بكم أي رحمته ولطفه ويحتمل أن يريد لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبرارا إلا بالإنفاق المنضاف إلى سائر أعمالكم قال ص قوله مما تحبون من للتبعيض تدل عليه قراءة عبد اللّه بعض ما تحبون أ ه قال الغزالي قال نافع كان ابن عمر مريضا فاشتهى سمكة طرية فحملت إليه على رغيف فقام سائل بالباب فأمر بدفعها إليه ثم قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إيما امرىء اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على ففسه غفر اللّه له أ ه من الأحياء قال ع وبسبب نزول هذه الآية تصدق

أبو طلحة بحائطه المسمى بيرحا وتصدق زيد بن حارثة بفرس كان يحبها وكان عبد اللّه بن عمر يشتهي أكل السكر باللوز فكان يشتري ذلك ويتصدق به قال الفخر والصحيح أن هذه الآية في إيتاء المال على طريق الندب لا أنها في الزكاة الواجبة

وقوله سبحانه وما تنفقوا من شيء فإن اللّه به عليم شرط وجوب فيه وعد أي عليم مجاز به وأن قل

وقوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل الآية إخبار بمغيب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم لا يعلمه إلا اللّه علماء أهل الكتاب وحلا معناه حلالا والآية رد على اليهود في زعمهم أن كل ما حرموه على أنفسهم أنه بأمر اللّه تعالى في التوراة فأكذبهم اللّه تعالى بهذه الآية

وقوله سبحانه إلا ما حرم إسرائيل على نفسه أي فهو محرم عليهم في التوراة لا هذه الزوائد التي افتروها وقال الفخر

قوله تعالى من قبل ان تنزل التوراة المعنى أن قبل نزول التوراة كان حلالا لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات سوى ما حرمه إسرائيل على نفسه فأما بعد نزول التوراة فلم يبق الأمر كذلك بل حرم اللّه عليهم أنواعا كثيرة بسبب بغيهم وذلك هو عين النسخ الذي هم له منكرون اه قال ع ولم يختلف فيما علمت أن سبب تحريم يعقوب ما حرمه على نفسه هو بمرض أصابه فجعل تحريم ذلك شكرا للّه أن شفي

وقيل هو وجع عرق النسا وفي حديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أن عصابة من بني إسرائيل قالوا له يا محمد ما الذي حرم إسرائيل على نفسه فقال لهم أنشدكم باللّه هل تعلمون أن يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه فنذر للّه نذرا أن عافاه اللّه من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وأحب الشراب إليه البانها قالوا اللّهم نعم قال ع وظاهر الأحاديث والتفاسير في هذا الأمر أن يعقوب عليه السلام حرم لحوم الإبل وألبانها وهو يحبها تقربا بذلك

إذ ترك الترفة والتنعم من القرب وهذا هو الزهد في الدنيا وإليه نحا عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه بقوله إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر ومن ذلك قول أبي حازم الزاهد وقد مر بسوق الفاكهة فرأى محاسنها فقال موعدك الجنة إن شاء اللّه

وقوله عز و جل قل فأتوا بالتوراة الآية قال الزجاج وفي هذا تعجيز لهم وإقامة للحجة عليهم

٩٤

وقوله سبحانه فمن افترى على اللّه الكذب من بعد ذلك أي من بعد ما تبين له الحق وقيام الحجة فهو الظالم

وقوله قل صدق اللّه أي الأمر كما وصف سبحانه لاكما تكذبون فإن كنتم تعتزون إلى إبراهيم فاتبعوا ملته على ما ذكر اللّه

٩٦

وقوله سبحانه إن أول بيت وضع للناس الذي ببكة الآية لا مرية أن إبراهيم عليه السلام وضع بيت مكة وإنما الخلاف هل هو وضع بدأة  وضع تجديد وقال الفخر يحتمل أولا في الوضع والبناء ويحتمل ان يريد  لا في كونه مباركا وهذا تحصيل المفسرين في الآية اه

قال ابن العربي في أحكامه وكون البيت الحرام مباركا قيل بركته ثواب الأعمال هناك

وقيل ثواب قاصديه

وقيل أمن الوحش فيه قيل عزوف النفس عن الدنيا عند رؤيته

قال ابن العربي والصحيح عندي أنه مبارك من كل وجه من وجوه الدنيا والآخرة وذلك بجميعه موجود فيه اه قال مالك في سماع ابن القاسم من العتبية بكة موضع البيت ومكة غيره من المواضع قال ابن القاسم يريد القرية قلت قال ابن رشد في البيان أرى مالكا أخذ ذلك من قول اللّه عز و جل لأنه

قال تعالى في بكة أن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهو إنما وضع بموضعه الذي وضع فيه لا فيما سواه من القرية وقال في مكة وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة وذلك إنما كان في القرية لا في موضع البيت اه

٩٧

وقوله سبحانه فيه أي في البيت آيات بينات قال ع

والمترجح عندي ان المقام وأمن الداخل جعلا مثالا مما في حرم اللّه من الآيات وخصا بالذكر لعظمهما مقام إبراهيم هو الحجر المعروف قاله الجمهور وقال قوم البيت كله مقام إبراهيم وقال قوم الحرم كله مقام إبراهيم والضمير في قوله ومن دخله عائد على البيت في قول الجمهور وعائد على الحرم في قول من قال مقام إبراهيم هو الحرم

وقوله كان آمنا قال الحسن وغيره هذه وصف حال كانت في الجاهلية إذا دخل أحد الحرم امن فلا يعرض له فأما في الإسلام فإن الحرم لا يمنع من حد من حدود اللّه وقال يحيى بن جعدة معنى الآية ومن دخل البيت كان آمنا من النار وحكى النقاش عن بعض العباد قال كنت أطوف حول الكعبة ليلا فقلت يا رب أنك قلت ومن دخله كان آمنا فمما ذا هوآمن فسمعت مكلما يكلمني وهو يقول من النار فنظرت وتأملت فما كان في المكان أحد

قال ابن العربي في أحكامه وقول بعضهم ومن دخله كان آمنا من النار لا يصح حمله على عمومه ولكنه ثبت ان من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة قال ذلك كله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اه

وقوله تعالى وللّه على الناس حج البيت الآية هو فرض الحج في كتاب اللّه بإجماع وقرأ حمزة والكساءي وحفص عن عاصم حج البيت بكسر الحاء وقرأ الباقون بفتحها فبكسر الحاء يريدون عمل سنة واحدة وقال الطبري هما لغتان الكسر لغة نجد والفتح لغة أهل العالية

وقوله سبحانه من استطاع إليه سبيلا من في موضع خفض بدل من الناس وهو بدل البعض من الكل وقال الكساءي وغيره هي شرط في موضع رفع بالابتداء والجواب محذوف تقديره فعليه الحج ويدل عليه عطف الشرط الآخر بعده في قوله ومن كفر وأسند الطبري إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال من ملك زادا وراحله فلم يحج

فلا عليه أن يموت يهوديا  نصرانيا وذهب جماعة من العلماء إلى أن

قوله سبحانه من استطاع إليه سبيلا كلام عام لا يتفسر بزاد ولا راحلة ولا غير ذلك بل إذا كان مستطيعا غير شاق على نفسه فقد وجب عليه الحج وإليه نحا مالك في سماع أشهب وقال لا صفة في هذا ابين مما قال اللّه تعالى وهذا انبل الأقوال وهذه من الأمور التي يتصرف فيها فقه الحال والضمير في إليه عائد على البيت ويحتمل على الحج

وقوله سبحانه ومن كفر فإن اللّه غني عن العالمين قال ابن عباس وغيره المعنى من زعم أن الحج ليس بفرض عليه

وروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية فقال رجل من هذيل يا رسول اللّه من تركه كفر فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم من تركه لا يخاف عقوبته ومن حجة لا يرجو ثوابه فهو ذلك وقال بمعنى هذا الحديث ابن عباس وغيره وقال السدي وجماعة من أهل العلم معنى الآية من كفر بأن وجد ما يحج به ثم لم يحج قال السدي من كان بهذه الحال فهو كافر يعني كفر معصية ولا شك أن من أنعم اللّه عليه بمال وصحة ولم يحج فقد كفر النعمة وقال ابن عمر وجماعة معنى الآية ومن كفر باللّه واليوم الآخر قال الفخر والأكثرون هم الذين حملوا الوعيد على من ترك اعتقاد وجوب الحج وقال الضحاك لما نزلت آية الحج فأعلم النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك اهل الملل وقال أن اللّه تعالى كتب عليكم الحج فحجوا فآمن به المسلمون وكفر غيرهم فنزلت الآية قال الفخر وهذا هو الأقوى واللّه أعلم اه ومعنى

قوله تعالى غني عن العالمين الوعيد لمن كفر والقصد بالكلام فإن اللّه غني عنهم ولكن عمم اللفظ ليبرع المعنى تنتبه الفكر لقدرته سبحانه وعظيم سلطانه واستغنائه عن جميع خلقه لا رب سواه

٩٨

وقوله عز و جل قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات اللّه واللّه شهيد على ما تعلمون هذه الآيات توبيخ لليهود

المعاصرين للنبي صلى اللّه عليه وسلم والكتاب التوراة وآيات اللّه يحتمل أن يريد بها القرءان ويحتمل العلامات الظاهرة على يدي النبي صلى اللّه عليه وسلم

وقوله سبحانه واللّه شهيد على ما تعملون وعيد محض قال الطبري هاتان الآيتان قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات اللّه وما بعدهما إلى قوله فاولائك لهم عذاب عظيم نزلت بسبب رجل من اليهود حاول الإغراء بين الأوس والخزرج قال ابن إسحاق حدثني الثقة عن زيد بن أسلم قال مر شاس بن قيس اليهودي وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين والحسد لهم على نفر من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الأوس والخزرج وهم في مجلس يتحدثون فغاظه ما رآه من جماعتهم وصلاح ذات بينهم بعد ما كان بينهم من العداوة فقال قد أجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد واللّه مالنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار فأمر فتى شابا من يهود فقال أعمد إليهم واجلس معهم وذكرهم يوم بعاث وما كان قبله من أيام حربهم وأنشدهم ما قالوه من الشعر في ذلك ففعل الفتى فتكلم القوم عند ذلك فتفاخروا وتنازعوا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قيظي من الأوس وجبار بن صخر من الخزرج فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه إن شئتم واللّه رددناها الآن جذعة فغضب الفريقان وقالوا قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة يريدون الحرة فخرجوا إليها وتحاوز الناس على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية وبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين فقال يا معشر المسلمين اللّه اللّه ابدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ووعظهم فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان فالقوا السلاح وبكوا وعانق الناس بعضهم بعضا من الأوس والخزرح وانصرفوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سامعين مطيعين فأنزل اللّه في شاس بن

قيس وما صنع هذه الآيات وقال الحسن وغيره نزلت في أحبار اليهود الذين يصدون المسلمين عن الإسلام ويقولون أن محمدا ليس بالموصوف في كتابنا قال ع ولا شك في وقوع هذين الشيئين وما شاكلهما من افعال اليهود وأقوالهم فنزلت الآيات في جميع ذلك ومعنى تبغون أي تطلبون لها الاعوجاج والانفساد وأنتم شهداء يريد جمع شاهد على ما في التوراة من صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم وصدقه وباقي الآية وعيد

١٠٠

وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين الآية خطاب عام للمؤمنين والإشارة بذلك وقت نزوله إلى الأوس والخزرج بسبب نائرة شاس بن قيس قال ص

قوله تعالى يردوكم بعد إيمانكم كافرين رد بمعنى صير فيتعدى إلى مفعولين الأول الكاف

والثاني الكافرين كقوله ... فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا ...

ويعتصم معناه يتمسك وعصم الشيء إذامنع وحمي ومنه قوله يعصمني من الماء وباقي الآية بين

١٠٢

وقوله تعالى يا أيها الذين أمنوا اتقوا اللّه حق تقاته قال ابن مسعود حق تقاته هوأن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر وكذلك عبر الربيع بن خثيم وقتادة والحسن قالت فرقة نزلت الآية على عموم لفظها من لزوم غاية التقوى حتى لا يقع إلا خلال في شيء من الأشياء ثم نسخ ذلك بقوله تعالى فاتقوا اللّه ما استطعتم وبقوله لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها وقالت جماعة لا نسخ هنا وإنما المعنى اتقوا اللّه حق تقاته في ما استطعتم وهذا هو الصحيح وخرج الترمذي عن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قرأ هذه الآية وهي اتقوا اللّه حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا

لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وخرجه ابن ماجه أيضا اه

وقوله تعالى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون معناه دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه والحبل في هذه الآية مستعار قال ابن مسعود حبل اللّه الجماعة

وروى أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال أن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة وأن أمتي ستفترق على اثنين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة فقيل يا رسول اللّه وما هذه الواحدة قال فقبض يده وقال الجماعة وقرأ واعتصموا بحبل اللّه جميعا وقال قتادة وغيره حبل اللّه الذي أمر بالاعتصام به هو القرءان ورواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال ابن زيد هو الإسلام

وقيل غير هذا مما هو كله قريب بعضه من بعض

وقوله تعالى ولا تفرقوا يريد التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف كالتفرق بالفتن والافتراق في العقائد وأما الافتراق في مسائل الفروع والفقه فليس بداخل في هذه الآية بل ذلك هوالذي قال فيه صلى اللّه عليه و سلم خلاف أمتي رحمة وقد اختلفت الصحابة في الفروع أشد اختلاف وهم يد واحدة على كل كافر

١٠٣

وقوله سبحانه وأذكروا نعمة اللّه عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم الآية هذه الآية تدل على أن الخطاب إنما هو للأوس والخزرج كما تقدم وكانت العدواه قد دامت بين الحيين مائة وعشرين سنة حتى رفعها اللّه بالإسلام فجاء النفر الستة من الأنصار إلى مكة حجاجا فعرض النبي صلى اللّه عليه وسلم نفسه عليهم وتلا عليهم شيئا من القرآن كما كان يصنع مع قبائل العرب فآمنوا به وأراد الخروج معهم فقالوا يا رسول اللّه إن قدمت بلدنا على ما بيننا من العداوة والحرب خفنا إلا يتم مانريده بك ولكن نمضي نحن ونشيع أمرك ونداخل الناس وموعدنا وإياك العام القابل

فمضوا وفعلوا وجاءت الأنصار في العام القابل فكانت العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلا فيهم خمسة من الستة الأولين ثم جاءوا من العام الثالث فكانت بيعة العقبة الكبرى حضرها سبعون وفيهم اثنا عشر نقيبا ووصف القصة مستوعب في السير ويسر اللّه تعالى الأنصار للإسلام بوجهين أحدهما أن بني إسرائيل كانوا مجاورين لهم وكانوا يقولون لمن يتوعدونه من العرب يبعث لنا الآن نبي نقتلكم معه قتل عاد وأرم فلما رأى النفر من الأنصار النبي صلى اللّه عليه وسلم قال بعضهم لبعض هذا واللّه النبي الذي تذكره بنو إسراءيل فلا تسبقن إليه والوجه الآخر الحرب التي كانت ضرستهم وافنت سراتهم فرجوا أن يجمع اللّه به كلمتهم فكان الأمر كما رجوا فعدد اللّه سبحانه عليهم نعمته في تاليفهم بعد العداوة وذكرهم بها قال الفخر كانت الأنصار قبل الإسلام أعداء فلما أكرمهم اللّه سبحانه بالإسلام صاروا أخوانا في اللّه متراحمين واعلم أن كل من كان وجهه إلى الدنيا كان معاديا لأكثر الخلق ومن كان وجهه إلى خدمة المولى سبحانه لم يكن معاديا لأحد لأنه يرى الكل أسيرا في قبضة القضاء والقدر ولهذا قيل أن العارف إذا أمر أمر برفق ونصح لا بعنف وعسر وكيف وهو مستبصر باللّه في القدر ا ه

وقوله تعالى فأصبحتم عبارة عن الاستمرار قال ص أصبح يستعمل لاتصاف الموصوف بصفته وقت الصباح وبمعنى صار فلا يلحظ فيها وقت الصباح بل مطلق الإنتقال والصيرورة من حال إلى حال وأصبح هنا بمعنى صار وما ذكره ابن عطية من أن أصبح للإستمرار لم يذهب إليه أحد من النحويين ا ه قلت وفيما أدعاه نظر وهي شهادة على نفي وكلام ع واضح من جهة المعنى والشفا حرف كل جرم له مهوى كالحفرة والبير والجرف والسقف والجدار ونحوه ويضاف في الإستعمال إلى الأعلى كقوله شفا جرف وإلى الأسفل كقوله شفا حفرة فشبه اللّه كفرهم

الذي كانوا عليه بالشفا لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأبا فانقذهم اللّه منها بالإسلام

وقوله تعالى فأنقذكم منها أي من النار ويحتمل من الحفرة والأول أحسن قال العراقي انقذكم أي خلصكم ا ه

١٠٤

وقوله تعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير أمر اللّه سبحانه الأمة بأن يكون منها علماء يفعلون هذه الأفعال على وجوهها ويحفظون قوانينها ويكون سائر الأمة متبعين لاولائك إذ هذه الأفعال لا تكون إلا بعلم واسع وقد علم اللّه سبحانه أن الكل لا يكونون علما ء فمن هنا للتبعيض وهو تأويل الطبري وغيره وذهب الزجاج وغير واحد إلى أن المعنى ولتكونوا كلكم أمة يدعون ومن لبيان الجنس ومعنى الآية على هذا أمر الأمة بأن يدعوا جميع العالم إلى الخير فيدعون الكفار إلى الإسلام والعصاة إلى الطاعة ويكون كل واحد في هذه الأمور على منزلته من العلم والقدرة

وروى الليث بن سعد قال حدثني محمد بن عجلان أن وافدا النضري أخبره عن انس بن مالك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ليؤتين برجال يوم القيامة ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء لمنازلهم من اللّه يكونون على منابر من ونور قالوا ومن هم يا رسول اللّه قال هم الذين يحببون اللّه إلى الناس ويحببون الناس إلى اللّه ويمشون في الأرض نصحا قلنا يا رسول اللّه هذا يحببون اللّه إلى الناس فكيف يحببون الناس إلى اللّه قال يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر فإذا أطاعوهم أحبهم اللّه تعالى ا ه من التذكرة للقرطبي قال ع قال أهل العلم وفرض اللّه سبحانه بهذه الآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو من فروض الكفاية إذا قام به قائم سقط عن الغير وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان والناس في الامر بالمعروف وتغيير المنكر على مراتب ففرض العلماء فيه تنبيه الولاة وحملهم على

جادة العلم وفرض الولاة تغييره بقوتهم وسلطانهم ولهم هي اليد وفرض سائر الناس رفعه إلى الولاة والحكام بعد النهي عنه قولا وهذا في المنكر الذي له دوام وإما أن رأى أحد نازلة بديهية من المنكر كالسلب والزنا ونحوه فيغيرها بنفسه بحسب الحال والقدرة ويحسن لكل مؤمن أن يعتمل في تغيير المنكر وإن ناله بعض الأذى ويؤيد هذا المنزع أن في قراءة عثمان وابن مسعود وابن الزبير يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون اللّه على ما أصابهم فهذا وإن لم يثبت في المصحف ففيه إشارة إلى التعرض لما يصيب عقيب الأمر والنهي كما هو في قوله وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك

١٠٥

وقوله سبحانه ولا تكونوا كالذين تفرقوا الآية قال أبن عباس هي إشارة إلى كل من افترق من الأمم في الدين فأهلكهم الإفتراق وقال الحسن هي إشارة إلى اليهود والنصارى قلت

وروى أبو داود في سننه عن معاوية بن أبي سفيان قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم أن من قبلكم من أهل الكتاب أفترقوا على ثنتين وسبعين ملة وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة

وروى أبو هريرة نحوه ولم يذكر النار ا ه

١٠٦

وقوله تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه الآية بياض الوجوه عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة اللّه قاله الزجاج وغيره

وقوله تعالى أكفرتم تقرير وتوبيخ متعلق بمحذوف تقديره فيقال لهم اكفرتم وفي هذا المحذوب جواب أما وهذا هو فحوى الخطاب وهو أن يكون في الكلام شيء مقدر لا يستغنى المعنى عنه كقوله تعالى فمن كان منكم مريضا  على سفر فعدة المعنى فافطر فعدة

وقوله تعالى بعد ايمانكم يقتضى أن لهؤلاء المذكورين أيمانا متقدما

واختلف أهل التأويل في تعيينهم فقال أبي بن كعب هم جميع الكفار وإيمانهم هو إقرارهم يوم قيل لهم الست بربكم قالوا بلى وقال أكثر

المتأولين المراد أهل القبلة من هذه الأمة ثم اختلفوا فقال الحسن الآية في المنافقين وقال قتادة هي في أهل الردة وقال أبو أمامة هي في الخوارج

١٠٧

وقوله تعالى تلك ءايات اللّه نتلوها عليك بالحق الإشارة بتلك إلى هذه الآيات المتضمنة تعذيب الكفار وتنعيم المؤمنين ولما كان في هذا ذكر التعذيب أخبر سبحانه أنه لا يريد أن يقع منه ظلم لأحد من العباد وإذا لم يرد ذلك فلا يوجد البتة لأنه لا يقع من شيء إلا ما يريده سبحانه

وقوله بالحق معناه بالإخبار الحق ويحتمل أن يكون المعنى نتلوها عليك مضمنة الأفعال التي هي حق في نفسها من كرامة قوم وتعذيب ءاخرين ولما كان للذهن أن يقف هنا في الوجه الذي به خص اللّه قوما بعمل يرحمهم من أجله وءاخرين بعمل يعذبهم عليه ذكر سبحانه الحجة القاطعة في ملكة جميع المخلوقات وأن الحق أن لا يعترض عليه وذلك في قوله وللّه ما في السموات وما في الأرض الآية

١١٠

وقوله تعالى كنتم خيرأمة أخرجت للناس الآية اختلفت في تأويل هذه الآية فقيل نزلت في الصحابة وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم الآية خطاب لجميع الأمة بأنهم خير أمة أخرجت للناس ويؤيد هذا التأويل كونهم شهداء على الناس وأما قوله كنتم على صيغة المضي فإنها التي بمعنى الدوام كما

قال تعالى وكان اللّه غفورا رحيما وقال قوم المعنى كنتم في علم اللّه وهذه الخيرية التي خص اللّه بها هذه الآمة إنما يأخذ بحظه منها من عمل بهذه الشروط من الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان باللّه مما جاء في فضل هذه الأمة ما خرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نحن الآخرون الأولون يوم القيامة وفي رواية مسابقون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة وفي رواية نحن الآخرون من أهل الدنيا والاولون يوم القيامة المقضى لهم قبل الخلائق وفي رواية المقضى

بينهم اه وخرج ابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال نحن ءاخر الأمم واول من يحاسب يقال أين الأمة الآمية ونبيها فنحن الآخرون الأولون وفي رواية عن ابن عباس فتفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضي غرا محجلين من ءاثار الطهور فتقول الأمم كادت هذه الآمة أن تكون أنبياء كلها وخرجه أيضا أبو داود الطيالسي في مسنده بمعناه اه من التذكرة

وروى أبو داود في سننه قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن أبيه عن أبي موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل اه وقد ذكرنا هذا الحديث أيضا عن غير أبي داود وهذا الحديث ليس هو على عمومه في جميع الأمة لثبوت نفوذ الوعيد في طائفة من العصاة

وقوله تأمرون بالمعروف وما بعده أحوال في موضع نصب وفي الحديث خير الناس اتقاهم للّه وءامرهم بالمعروف وانهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم رواه البغوي في منتخبه اه من الكوكب الدري

وقوله سبحانه منهم المؤمنون تنبيه على حال عبد اللّه بن سلام وأخيه وثعلبة بن سعية وغيرهم ممن آمن

١١١

وقوله تعالى لن يضروكم إلا أذى أي إلا أذى بالالسنة فقط وأخبر سبحانه في قوله وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار بخبر غيب صححه الوجود فهي من آيات نبينا صلى اللّه عليه وسلم وفائدة الخبر هي في قوله ثم لا ينصرون أي لا تكون حرب اليهود معكم سجالا وخص الأدبار بالذكر دون الظهر تخسيسا للفار وهكذا هوحيث تصر

١١٢

وقوله تعالى ضربت معناه اثبتت بشدة والزام وهذا وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام وثقفوا معناه أخذوا بحال المذنب المستحق الإهلاك

وقوله إلا بحبل من اللّه في الكلام محذوف يدركه فهم السامع تقديره فلا نجاة لهم من القتل أوالإستيصال إلا بحبل وهو العهد

وقوله

ذلك إشارة إلى الغضب وضرب الذلة والمسكنه وباقي الآية تقدم تفسير نظيره

١١٣

وقوله تعالى ليسوا سواء الآية قال ابن عباس رضي اللّه عنهما لما أسلم عبد اللّه ابن سلام وثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود معهم قال الكفار من أحبار اليهود ما آمن بمحد إلا شرارنا ولو كانوا خيارا ما تركوا دين آبائهم فأنزل اللّه سبحانه في ذلك ليسوا سواء الآية وقال مثله قتادة وابن جريج وهو أصح التأويلات في الآية

واختلف في قوله قائمة فقال ابن عباس وغيره معناه قائمة على كتاب اللّه وحدوده مهتديه وقال اسدي القائمة القانتة المعطية وهذا كله يرجع إلى معنى واحد ويحتمل أن يراد بقائمة وصف حال التالين في إناء الليل ومن كانت حاله هذه فلا محالة أنه معتدل على أمر اللّه وآيات اللّه في هذه الآية هي كتبه والآناء الساعات واحدها أني بكسر الهمزة وسكن النون وحكم هذه الآية لا يتفق في شخص شخص بأن يكون كل واحد يصلي جميع ساعات الليل وإنما يقوم هذا الحكم من جماعة الأمة إذ بعض الناس يقوم أول الليل وبعضهم آخره وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات عمارة إناء الليل بالقيام وهكذا كان صدر هذه الأمة وعرف الناس القيام في أول الثلث الآخر من الليل  قبله بشيء وحينئذ كان يقوم الأكثر والقيام طول الليل قليل وقد كان في الصالحين من يلتزمه وقد ذكر اللّه سبحانه القصد من ذلك في سورة المزمل وقيام الليل لقراءة العلم المبتغى به وجه اللّه داخل في هذه الآية وهو أفضل من التنفل لمن يرجى انتفاع المسلمين بعلمه قلت وقد تقدم في أول السورة ما جاء من التأويل في حديث النزول فلنذكر الآن الحديث بكماله لما فيه من الفوائد روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل

الآخر فيقول من يدعوني فاستجيب له من يسئلني فأعطيه من يستغفرني فاغفر له رواه الجماعة اعنى الكتب الستة البخاري وملسما وأبا داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وفي بعض الطرق حتى يطلع الفجر زاد ابن ماجه فلذلك كانوا يستحبون الصلاة آخر الليل على أوله وعن عمرو بن عنبسة أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر اللّه في تلك الساعة فكن رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم في المستدرك واللفظ للترمذي وقال حسن صحيح وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم اه من السلاح وعن أبي إمامة قلت يا رسول اللّه أي الدعاء أسمع قال جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات رواه الترمذي ولانسائي وقال الترمذي هذا حديث حسن وفي رواية جوف الليل الآخر ارجى  نحو هذا من السلاح ومما يدخل في ضمن

١١٤

قوله سبحانه ويسارعون في الخيرات أن يكون المرء مغتنما للخمس كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك وغناك قبل فقرك فيكون متى أراد أن يصنع خيرا بادر إليه ولم يسوف نفسه بالأمل فهذه أيضا مسارعة في الخيرات وذكر بعض الناس قال دخلت مع بعض الصالحين في مركب فقلت له ما تقول أصلحك اللّه في الصوم في السفر فقال لي إنها المبادرة يا ابن الأخ قال المحدث فجاءني واللّه بجواب ليس من أجوبة الفقهاء قال ص قوله من الصالحين من للتبعيض ابن عطية ويحسن أيضا أن يكون لبيان الجنس وتعقب بأنه لم يتقدم شيء فيه إبهام فيبين جنسه اه

١١٥

وقوله تعالى وما تفعلوا من خير فلن تكفروه أي فلن يعطى دونكم فلا تثابون عليه وفي

قوله سبحانه واللّه

عليم بالمتقين وعد ووعيد

١١٧

وقوله تعالى مثل ما ينفقون في هذه الحيوة الدنيا كمثل ريح الآية وقع في الآية التشبيه بين شيئين وشيئين وترك من كل منهما مادل عليه الكلام وهذه غاية الإيجاز والبلاغة وجمهور المفسرين على أن ينفقون يراد به الأموال التي كانوا ينفقونها في التحنث ا يبطلها كفرهم كما تبطل الريح الزرع والصر البرد الشديد المحرق لكل ما يهب عليه والحرث شامل للزرع والثمار

وقوله سبحانه حرث قوم ظلموا أنفسهم الآية من أهل العلم من يرى أن كل مصائب الدنيا فإنما هي بمعاصي العبيد وينتزع ذلك من غير ما آية في القرآن فيستقيم على قوله إن كل حرث تحرقه ريح فإنما هو لمن قد ظلم نفسه والضمير في قوله وما ظلمهم اللّه للكفار الذين تقدم ضميرهم في ينفقون وليس هو للقوم ذوي الحرث

١١٨

وقوله تعالى يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا بطانة أي لا تتخذوا من الكفار واليهود والمنافقين أخلاء تأنسون بهم في الباطن وتفاوضونهم في الآراء

وقوله سبحانه من دونكم يعني من دون المؤمنين

وقوله سبحانه لا يالونكم خبالا معناه لا يقصرون لكم فيما فيه فساد عليكم تقول ما ألوت في كذا أي ما قصرت بل اجتهدت والخبال الفساد قال ابن عباس كان رجال من المؤمنين يواصلون رجالا من الهيود للحلف والجوار الذي كان بينهم في الجاهلية فنزلت الآية في ذلك وقال ابن عباس أيضا وقتادة والربيع والسدي نزلت في المنافقين قال ع ويدخل في هذه الآية استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء ونحو ذلك وما في قوله ما عتنم مصدرية فالمعنى ودوا عنتكم والعنت المشقة والمكروه يلقاه المرء وعقبة عنوت أي شاقة قال ص قال الزجاج عنتكم أي مشقتكم وقال ابن جرير ضلالكم وقال الزبيدي العنت الهلاك اه

وقوله تعالى قد بدت البغضاء من

افواههم أي فهم فوق المستتر الذي تبدو البغضاء في عينيه وخص سبحانه الافواه بالذكر دون الالسنة إشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه ثم قال سبحانه للمؤمنين قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون تحذيرا وتنبيها وقد علم سبحانه أنهم عقلاء ولكن هذا هز للنفوس كما تقول أن كنت رجلا فافعل كذا وكذا

وقوله هأنتم أولاء تحبونهم الضمير في تحبونهم للذين تقدم ذكرهم قي قوله بطانه من دونكم قال ص وتؤمنون بالكتاب كله قال أبو البقاء الكتاب هنا جنس أي بالكتب كلها

وقوله تعالى عذوا عليكم الأنامل من الغيط عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على انفاذه ومنه قول ابي طالب يعضون غيظا خلفنا بالأنامل

وقوله سبحانه قل موتوا بغيظكم قال فيه الطبري وكثير من المفسرين هو دعاء عليهم وقال قوم بل أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم وأمته أن يواجهوهم بهذا فعلى هذا زال معنى الدعاء وبقي معنى التقريع

وقوله تعالى إن اللّه عليم بذات الصدور وعين وذات الصدور ما تنطوى عليه

١٢٠

وقوله سبحانه إن تمسسكم حسنه تسؤهم٦ الآية الحسنة والسيئة في هذه الآية لفظ عام في كل ما يحسن ويسوء قلت ويجب على المؤمن أن يجتنب هذه الأخلاق الذميمة

وروينا في كتاب الترمذي عن واثلة بن الأسقع رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه اللّه ويبتلك اه والكيد الاحتيال بالأباطيل

وقوله تعالى وأكيد كيدا من باب تسمية العقوبة باسم الذنب

١٢١

وقوله تعالى وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال هذا ابتداء عتب المؤمنين في أمر أحد وفيه نزلت هذه الآيات كلها وكان من أمر غزوة أحد أن المشركين اجتمعوا في ثلاثة ألاف رجل وقصدوا المدينة ليأخذوا بثارهم في يوم بدر فنزلوا عند احد يوم الأربعاء الثاني عشر من شوال سنة ثلاث

من الهجرة على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة واقاموا هنالك يوم الخميس ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة يدبر وينتظر أمر اللّه سبحانه فلما كان في صبيحة يوم الجمعة جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس واستشارهم وأخبرهم أنه كان يرى بقرا تذبح وثلما في ذباب سيفه وأنه يدخل يده في درع حصينة وأنه تأولها المدينة وقال لهم أرى ان لا نخرج إلى هؤلاء الكفار فقال له عبد اللّه ابن أبي بن سلول أقم يا رسول اللّه ولا تخرج إليهم بالناس فإن هم أقاموا أقاموا بشر محبس وإن انصرفوا مضوا خائبين وإن جاءونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام فواللّه ما حاربنا قط عدو في هذه المدينة إلا غلبناه ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا فوافق هذا الرأي راي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورأي جماعة عظيمة من المهاجرين والأنصار وقال قوم من صلحاء المؤمنين ممن فاتته بدر يا رسول اللّه أخرج بنا إلى عدونا وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فصلى بالناس صلاة الجمعة وقد حشمه هؤلاء الداعون إلى الحرب فدخل اثر صلاته بيته ولبس سلاحه فندم أولئك القوم وقالوا أكرهنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما خرج عليهم النبي صلى اللّه عليه وسلم في سلاحه قالوا يا رسول اللّه أقم إن شئت فإنا لا نريد أن نكرهك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما ينبغي لنبي لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل ثم خرج بالناس وسار حتى قرب من عسكر المشركين فعسكر هنالك وبات تلك الليلة وقد غضب عبد اللّه بن أبي بن سلول وقال أطاعهم وعصاني فلما كان في صبيحة يوم السبت اعتزم النبي صلى اللّه عليه وسلم على المسير إلى مناجزة المشركين فنهض وهو في الف رجل فانخزل عنه عند ذلك عبد اللّه بن أبي بن سلول بثلاثمائة رجل من منافق ومتبع وقالوا نظن أنكم لا تلقون

قتالا ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سبع مائة فهمت عند ذلك بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج بالإنصراف ورأوا كثافة المشركين وقلة المسلمين وكادوا أن يجبنوا ويفشلوا فعصمهم اللّه تعالى وذم بعضهم بعضا ونهضوا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى أطل على المشركين فتصاف الناس وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم قد أمر على الرماة عبد اللّه بن جبير وكانوا خمسين رجلا وجعلهم يحمون الجبل وراء المسلمين وأسند هو إلى الجبل فلما اضطرمت نار الحرب انكشف المشركون وانهزموا وجعل نساء المشركين يشددن في الجبل ويرفعن عن سوقهن قد بدت خلاخيلهن فجعل الرماة يقولون الغنيمة الغنيمة وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم قد قال لهم لا تبرحوا من هنا ولو رأيتمونا تخطفنا الطير فقال لهم عبد اللّه بن جبير وقوم منهم اتقوا اللّه واثبتوا كما أمركم نبيكم فعصوا وخالفوا وانصرفوا يريدون النهب وخلوا ظهور المسلمين للخيل وجاء خالد في جريدة خيل من خلف المسلمين حيث كان الرماة فحمل على الناس ووقع التخاذل وصيح في المسلمين من مقدمتهم ومن ساقتهم وصرخ صارخ قتل محمد فتخاذل الناس واستشهد من المسلمين سبعون وتحيز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أعلى الجبل وتحاوز الناس هذا مختصر من القصة يتركب عليه تفسير الآيات وأمر أحد مستوعب في السير وليس هذا التعليق مما يقتضي ذكره وتبوىء معناه تعين لهم مقاعد يتمكنون فيها ويثبتون

وقوله سبحانه مقاعد جمع مقعد وهو مكان القعود وهذا بمنزلة قولك مواقف ولكن لفظة القعود أدل على الثبوت ولا سيما أن الرماة إنما كانوا قعودا وكذلك كانت صفوف المسلمين أولا والمبارزة والسرعان يجولون

وقوله تعالى واللّه سميع أي ما تقول وما يقال لك وقت المشاروة وغيره وهمت معناه أرادت ولم تفعل والفشل في هذا الموضع

هو الجبن الذي كاد يلحق الطائفتين ففي البخاري وغيره عن جابر قال نزلت هذه الآية فينا إذ همت طائفتان في بني سلمة وبني حارثة وما أحب أنها لم تنزل واللّه يقول واللّه وليهما

١٢٣

وقوله سبحانه ولقد نصركم اللّه ببدر وأنتم أذلة لما أمر اللّه سبحانه بالتوكل عليه ذكر بأمر بدر الذي كان ثمرته التوكل علىاللّه سبحانه والثقة به

وقوله سبحانه وأنتم اذلة معناه قليلون اسم الذل في هذا الموضع مستعار إذ نسبتهم إلى عدوهم وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض تقتضي عند المتأمل ذلتهم وأنهم مغلوبون روى ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم خرج يوم بدر في ثلاثمائة وخمسة عشر فقال صلى اللّه عليه و سلم اللّهم إنهم حفاة فأحملهم اللّهم أنهم عراة فاكسهم اللّهم انهم جياع فاشبعهم ففتح اللّه عليهم يوم بدر فانقلبوا حين انقلبوا وما فيهم رجل إلا قد رجع بجمل  جملين واكتسوا وشبعوا رواه أبو داود والحاكم في المستدرك على الصحيحين واللفظ له وقال صحيح على شرط الشيخين اه من السلاح

١٢٤

وقوله سبحانه إذ تقول العامل في إذ فعل مضمرويحتمل أن يكون العامل نصركم وعلى هذا قول الجمهور إن هذا القول من النبي صلى اللّه عليه وسلم كان ببدر قال ابن عباس لم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام إلا يوم بدر وكانوا يكونون في سائر الأيام عددا ومددا لا يضربون قال الشعبي وهم يحضرون حروب المسلمين إلى يوم القيامة وقال قتادة أمد اللّه المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف قال عكرمة كان الوعد يوم بدر فلم يصبروا يوم احد ولا اتقوا فلم يمدوا ولو مدوا لم يهزموا وقال الضحاك وابن زيد إنما كان هذا الوعد والمقالة للمؤمنين يوم أحد ففر الناس وولوا مدبرين فلم يمدهم اللّه وإنما مدوا يوم بدر بألف من الملائكة مردفين والفوز النهوض المسرع إلى الشيء مأخوذ من فور القدر والماء ونحوه ومنه الفور في الحج والوضوء ومسومين معناه معلمين بعلامات

 

وروي أن الملائكة اعلمت يوم بدر بعمائم بيض إلا جبريل فإنه كان بعمامة صفراء على مثال عمامة الزبير بن العوام

وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال للمسلمين يوم بدر سوموا فإن الملائكة قد سومت

١٢٦

وقوله سبحانه وما جعله اللّه إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند اللّه العزيز الحكيم الضمير في جعله اللّه عائد على الإنزال والإمداد ومعنى الآية وما كان هذا الامداد إلا لتستبشروا به وتطمئن به قلوبكم وترون حفاية اللّه بكم وإلا فالكثرة لا تغنى شيئا إلا أن ينصر اللّه واللام في قوله ليقطع متعلقة بقوله وما النصر ويحتمل أن تكون متعلقة بجعله فيكون قطع الطرف إشارة إلى من قتل ببدر على قول ابن إسحاق وغيره  إلى من قتل بأحد على ما قال السدي وقتل من المشركين ببدر سبعون وقتل منهم يوم أحد أثنان وعشرون رجلا والطرف الفريق

وقوله سبحانه  يكبتهم معناه يخزيهم والكبت الصرع لليدين وقال ص الكبت الهزيمة

وقيل الصرع لليدين اه

١٢٨

وقوله تعالى ليس لك من الأمر شيء الآية روي في سبب هذه الآية أنه لما هزم اصحابه صلى اللّه عليه و سلم وشج وجهه وكسرت رباعيته جعل يمسح وجهه ويقول كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وفي بعض طرق الحديث كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى اللّه فنزلت الآية فقيل له ليس لك من الأمر شيء أي عواقب الأمور بيد اللّه فامض أنت لشأنك ودم على الدعاء إلى ربك قلت وقد فعل ذلك صلى اللّه عليه و سلم ممتثلا أمر ربه قال عياض روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما كسرت رباعيته وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه وقالوا لو دعوت عليهم فقال أني لم أبعث لعانا ولكني بعثت داعيا ورحمة اللّهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون

وروي عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال في بعض كلامه بأبي وأمي أنت يا رسول اللّه لقد

دعا نوح على قومه فقال رب لا تذر على الأرض الآية ولو دعوت علينا لهلكنا من عند آخرنا فلقد وطىء ظهرك وادمي وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيرا فقلت اللّهم اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون اه قال الطبري وغيره من المفسرين  يتوب عطف على يكبتهم والمعنى  يتوب عليهم فيسلمون  يعذبهم إن تمادوا على كفرهم فإنهم ظالمون ثم أكد سبحانه معنى قوله ليس لك من الأمر شيء بذكر الحجة الساطعة في ذلك وهي ملكه الأشياء فقال سبحانه وله ما في السموات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء واللّه غفور رحيم أي فله سبحانه أن يفعل بحق ملكه ما يشاء لا اعتراض عليه ولا معقب لحمكه وذكر سبحانه أن الغفران  التعذيب إنما هو بمشيئته وبحسب السابق في علمه ثم رجى سبحانه في آخر ذلك تأنيسا للنفوس

١٣٠

وقوله تعالى يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة الآية قال ع هذا النهي عن أكل الربا اعترض أثناء قصمة أحد ولا أحفظ سببا في ذلك مرويا ومعناه الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدين وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة

وقوله تعالى اعدت للكفارين أي أنهم المقصود والمراد الأول وقد يدخلها سواهم من العصاة هذا مذهب أهل العلم في هذه الآية وحكى الماوردي وغيره عن قوم أنهم ذهبوا إلى أن أكلة الربا إنما توعدهم اللّه بنار الكفرة لا بنار العصاة

١٣٢

وقوله سبحانه وأطيعوا اللّه والرسول لعلكم ترحمون قال محمد بن إسحاق هذه الآية من

قوله تعالى وأيطعوا اللّه هي ابتداء المعاتبة في أمر احد وانهزام من فر وزوال الرماة عن مراكزهم

١٣٣

وقوله تعالى سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض قرأ نافع وابن عامر سارعوا بغير واو وكذلك هي في مصاحب أهل المدينة والشام وقرأ باقي السبعة بالواو والمسارعة المبادرة وهي مفاعلة إذ الناس كأن

كل واحد يسرع ليصل قبل غيره فبينهم في ذلك مفاعلة إلا ترى إلى

قوله تعالى فاستبقوا الخيرات والمعنى سارعوا بالطاعة والتقوى والتقرب إلى ربكم إلى حال يغفر اللّه لكم فيها قلت وحق على من فهم كلام ربه أن يبادر ويسارع إلى ما ندبه إليه ربه وأن لا يتهاون بترك الفضائل الواردة في الشرع قال النووي رحمه اللّه أعلم أنه ينبغي لمن بلغه شيء في فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرة ليكون من أهله ولا ينبغي أن يتركه جملة بل يأتي بما تيسر منه لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا منه ما استطعتم اه من الحلية

وقوله سبحانه وجنة عرضها السموات والأرض أي كعرض السماوات والأرض قال ابن عباس في تفسير الآية تقرن السموات والأرضون بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب فذلك عرض الجنة ولا يعلم طولها إلا اللّه سبحانه وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أن بين المصراعين من أبواب الجنةمسيرة أربعين سنة وسيأتي عليها يوم يزدحم الناس فيها كما تزدحم الإبل إذا وردت خمصا ظماء وفي الصحيح أن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام لا يقطعها فهذا كله يقوي قول ابن عباس وهو قول الجمهور أن الجنةأكبر من هذه المخلوقات المذكورة وهي ممتدة على السماء حيث شاء اللّه تعالى وذلك لا ينكر فإن في حديث النبي صلى اللّه عليه وسلم ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأض وما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد القيت في فلاة من الأرض قال ع فهذه مخلوقات أعظم بكثير جدا من السماوات والأرض وقدرة اللّه أعظم من ذلك كله قلت قال الفخر وفي الآية وجه ثان أن الجنة التي عرضها مثل عرض السماوات والأرض إنما تكون للرجل الواحد لأن الإنسان يرغب فيما يكون ملكا له فلا بد

أن تصير الجنة المملوكة لكل أحد مقدارها هكذا اه وقدرة اللّه تعالى أوسع وفضله أعظم وفي صحيح مسلم والترمذي من حديث المغيرة بن شعبة رضي اللّه عنه في سؤال موسى ربه عن أدنى أهل الجنة منزلة وأنه رجل يأتي بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له أترضى أن يكون لك ما كان لملك من ملوك الدنيا فيقول رضيت أي رب فيقال له لك ذلك ومثله معه مثله ومثله ومثله فقال في الخامسة رضيت أي رب فيقال له لك ذلك وعشرة أمثاله فيقول رضيت أي رب فيقال له فإن لك مع هذا ما أشتهت نفسك ولذت عينك قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وفي البخاري من طريق ابن مسعود رضي اللّه عنه أن آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا من النار رجل يخرج حبوا فيقول له ربه أدخل الجنة فيقول رب الجنة ملأى فيقول له أن لك مثل الدنيا عشر مرات وفي جامع الترمذي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على اللّه من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية الحديث قال أبو عيسى وقد روي هذا الحديث من غير وجه مرفوعا وموقوفا وفي الصحيح ما معناه إذا دخل أهل الجنة الجنة تبقى فيها فضلة فينشيء اللّه لها خلقا  كما قال قال ع وخص العرض بالذكر لأنه يدل متى ما ذكر على الطول والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض بل قد يكون الطويل يسير العرض كالخيط ونحوه ثم وصف تعالى المتقين الذين أعدت لهم الجنة بقوله الذين ينفقون في السراء والضراء وهما اليسر والعسر قاله ابن عباس إذ الأغلب أن مع اليسر النشاط وسرور النفس ومع العسر الكراهية وضر النفس وكظم الغيظ رده في الجوف إذا كاد أن

يخرج من كثرته ومنعه كظم له والكظام السير الذي يشد به فم الزق والغيظ أصل الغضب وكثيرا ما يتلازمان ولذلك فسر بعض الناس الغيظ بالغضب وليس تحرير الأمر كذلك بل الغيظ حال للنفس لا تظهر على الجوراح والغضب حال لها تظهر في الجوارح وفعل ما ولا بد ولهذا جاز إسناد الغضب إلى اللّه سبحانه إذ هو عبارة عن افعاله في المغضوب عليهم ولا يسند إليه تعالى الغيظ ووردت في كظم الغيظ وملك النفس عند الغضب أحاديث وذلك من أعظم العبادات وجهاد النفس ففي حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من عظم غيظا وهو يقدر على انفاذه ملأه اللّه أمنا وإيمانا إلى غير ذلك من الأحاديث قلت

وروى أبو داود والترمذي عن معاذ بن أنس رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من كظم غيظا وهو يقدر على أن ينفذه دعاه اللّه على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أي الحور شاء قال أبو عيسى هذا حديث حسن اه وفي رواية أخرى لأبي داود ملأة اللّه أمنا وإيمانا ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه قال بشر احسبه قال تواضعا كساه اللّه حلة الكرامة وحدث الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي بسنده عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من كف غضبه كف اللّه عنه عذابه ومن خزن لسانه ستر اللّه عورته ومن اعتذر إلى اللّه قبل اللّه عذره اه من صفوة التصوف والعفو عن الناس من أجل ضروب فعل الخير ثم قال سحبانه واللّه يحب المحسنين فعلم أنواع البر وظاهر الآية أنها مدح بفعل المندوب

١٣٥

وقوله سبحانه والذين إذا فعلوا فاحشة  ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه الآية ذكر سبحانه في هذه الآية صنفا هو دون الصنف الأول فألحقهم بهم برحمته ومنه وهم التوابون

وروي في سبب نزول هاتين الآيتيتن أن الصحابة رضي اللّه عنهم قالوا يا رسول اللّه كانت بنو إسرائيل أكرم على اللّه

منا حين كان المذنب منهم يصبح وعقوبته مكتوبة على باب داره فأنزل اللّه هذه الآية توسعة ورحمة وعوضا من ذلك الفعل ببني إسرائيل

وروي أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية والفاحشة لفظ يعم جميع المعاصي وقد كثر إستعماله في الزنا حتى فسر السدي الفاحشة هنا بالزنا وقال قوم الفاحشة هنا إشارة إلى الكبائر وظلم النفس إشارة إلى الصغائر واستغفروا معناه طلبوا الغفران قال النووي

وروينا في سنن ابن ماجه بإسناد جيد عن عبد اللّه بن بسر بضم الباء قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طوبى لمن وجد في صحيفته اسغفارا كثيرا اه من الحلية وذكروا اللّه معناه بالخوف من عقابه والحياء منه إذ هو المنعم المتطول ثم اعترض اثناء الكلام

قوله تعالى ومن يغفر الذنوب إلا اللّه اعتراضا موقفا للنفس داعيا إلى اللّه مرجيا في عفوه إذا رجع إليه وجاء اسم اللّه مرفوعا بعد الإستثناء والكلام موجب حملا على المعنى إذ هو بمعنى وما يغفر الذنوب إلا اللّه وعن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ثم يستغفر اللّه إلا غفر اللّه له ثم قرأ هذه الآية والذين إذا فعلوا فاحشة  ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه إلى آخر الآية رواه أبو داود والترمذي والنساءي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي واللفظ له حديث حسن اه من السلاح

وقوله سبحانه ولم يصروا الإصرار هو المقام على الذنب واعتقاد العودة إليه

وقوله وهم يعلمون قال السدي معناه وهم يعلمون أنهم قد اذنبوا وقال ابن إسحاق معناه وهم يعلمون بما حرمت عليهم

وقيل وهم يعلمون أن باب التوبة مفتوح

وقيل وهم يعلمون أنى اعاقب على الإصرار ثم شرك سبحانه الطائفتين المذكورتين في قوله أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم الآية قال ص قوله ونعم المخصوص

بالمدح محذوف أي المغفرة والجنة

١٣٧

وقوله سبحانه قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض الآية الخطاب للمؤمنين والمعنى لا يذهب بكم إن ظهر الكفار المكذبون عليكم بأحد فإن العاقبة للمتقين وقديما ما أدال اللّه المذكبين على المؤمنين ولكن انظرو كيف هلك المذكبون بعد ذلك فكذلك تكون عاقبة هؤلاء وقال النقاش الخطاب بقد خلت للكفار قال ع وذلك قلق وخلت معناه مضت والسنن الطرائق وقال ابن زيد سنن معناه أمثال وهذا تفسير لا يخص اللفظة

وقوله فانظروا هو عند الجمهور من نظر العين وقال قوم هوبالفكر

١٣٨

وقوله تعالى هذا بيان للناس يريد به القرآن قاله الحسن وغيره وقال جماعة الإشارة بهذا إلى

قوله تعالى قد خلت من قبلكم سنن وقال الفخر يعني بقوله هذا بيان ما تقدم من أمره سبحانه ونهيه ووعده ووعيده وذكره لأنواع البينات والآيات أ ه ثم نهى سبحانه المؤمنين عن الوهن وهو الضعف وانسهم بأنهم الأعلون أصحاب العاقبة ومن كرم الخلق أن لا يهن الإنسان في حربه إذا كان محقا وإنما يحسن اللين في السلم والرضى ومنه قوله صلى اللّه عليه و سلم المؤمن هين لين

وقوله سبحانه وأنتم الأعلون اخبار بعلو كلمة الإسلام هذا قول الجمهور وهو ظاهر اللفظ قال ص وأنتم الأعلون في موضع نصب على الحال

وقوله سبحانه إن كنتم مؤمنين المقصد هز النفوس وإقامتها ويترتب من ذلك الطعن على من نجم في ذلك اليوم نفاقه  اضطرب يقينه أي لا يتحصل الوعد إلا بالإيمان فالزموه ثم

قال تعالى تسلية للمؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله والأسوة مسلاة للبشر ومنه قول الخنساء ... ولولا كثرة الباكين حولي ... على أخوانهم لقتلت نفسي ...

... وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزى النفس عنه بالتأسي

والقرح القتل والجراح قاله مجاهد وغيره

وقوله تعالى وتلك الأيام نداولها بين الناس أخبر سبحانه على جهة التسليه أن الأيام على قديم الدهر وغابره أيضا إنما جعلها دولا بين البشر أي فلا تنكروا أن يدال عليكم الكفار

١٤١

وقوله تعالى وليعلم اللّه الذين ءامنوا تقديره وليعلم اللّه الذين ءامنوا فعل ذلك والمعنى ليظهر في الوجود إيمان الذين قد علم اللّه ازلا أنهم يؤمنون وإلا فقد علمهم في الأزل ويتخذ منكم شهداء معناه أهل فوز في سبيله حسبما ورد في فضائل الشهداء وذهب كثير من العلماء إلى التعبير عن أدالة المؤمنين بالنصر وعن أدالة الكفار بالأدالة

وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في ذلك حديث أنهم يدالون كما تنصرون والتمحيص التنقية قال الخليل التمحيص التخليص من العيب فتمحيص المؤمنين هو تنقيتهم من الذنوب والمحق الأذهاب شيئا فشيئا ومنه محاق القمر

وقوله سبحانه أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين الآية حسبتم معناه ظننتم وهذه الآية وما بعدها عتب وتقريع لطوائف من المؤمنين الذين وقعت منهم الهنوات المشهورة في يوم أحد ثم خاطب اللّه سبحانه المؤمنين بقوله ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه والسبب في ذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم خرج في غزوة بدر يريد عير قريش مبادرا فلم يوعب الناس معه إذ كان الظن أنه لا يلقى حربا فلما قضى اللّه ببدر ما قضى وفاز حاضروها بالمنزلة الرفيعة كان المتخلفون من المؤمنين عنها يتمنون حضور قتال الكفار ليكون منهم في ذلك غناء يلحقهم عند ربهم ونبيهم بمنزلة أهل بدر فلما جاء أمر أحد لم يصدق كل المؤمنين فعاتبهم اللّه بهذه الآية والزمهم تمنى الموت من حيث تمنوا أسبابه وهو لقاء العدو مضاربتهم وإلا فنفس قتل المشرك للمسلم لا يجوز أن يتمنى من حيث هو

قتل وإنما تمنى لو أحقه من الشهادة والتنعيم قلت وفي كلام ع بعض أجمال وقد ترجم البخاري تمنى الشهادة ثم أسند عن أبي هريرة قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل اللّه والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل اللّه ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل وخرجه أيضا مسلم وخرج البخاري ومسلم من حديث أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما من عبد يموت له عند اللّه عز و جل خير يسره أن يرجع إلى الدنيا وأن الدنيا له وما فيها إلا الشهيد لما يرى رى من فضل الشهادة فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة اه فقد تبين لك تمنى القتل في سبيل اللّه بهذه النصوص لما فيه من الكرامة وصواب كلام ع أن يقول وإنما يتمنى القتل للواحقة من الشهادة والتنعيم

وقوله سبحانه فقد رأيتموه يريد رأيتم أسبابه

وقوله وأنتم تنظرون تأكيد للرؤية وإخراجها من الإشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين

١٤٤

وقوله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية هذا استمرار في عتبهم وإقامة الحجة عليهم المعنى أن محمد عليه السلام رسول كسائر الرسل قد بلغ كما بلغوا ولزمكم أيها المؤمنون العمل بمضمن الرسالة وليست حايته وبقاؤه بين أظهركم شرطا في ذلك لأنه يموت كما ماتت الرسل قبله ثم توعد سبحانه المنقلب على عقيبه بقوله فلن يضر اللّه شيئا لأن المعنى فإنما يضر نفسه وأياها يوبق ثم وعد الشاكرين وهم الذين صدقوا وصبروا ومضوا في دينهم ووفواللّه بعهدهم كسعد بن الربيع ووصيته يومئذ للأنصار وأنسن بن النضر وغيرهما ثم يدخل في الآية الشاكرون إلى يوم

القيامة وقال علي رضي اللّه عنه في تفسير هذه الآية الشاكرون الثابتون على دينهم أبو بكر وأصحابه وكان يقول أبو بكر أمير الشاكرين إشارة منه إلى صدع أبي بكر بهذه الآية يوم موت النبي صلى اللّه عليه وسلم وثبوته في ذلك الموطن وثبوته في أمر الردة وسائر المواطن الني ظهر فيها شكره وشكر الناس بسببه ثم اخبر عز و جل عن النفوس أنها إنما تموت بأجل مكتوب محتوم عند اللّه تعالى أي فالجبن والخور لا يزيد في الأجل والشجاعة والإقدام لا ينقص منه وفي هذه الآية تقوية للنفوس في الجهاد وفيها رد على المعتزلة في قولهم بالآجلين

١٤٥

وقوله سبحانه ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها الآية أي نؤت من شئنا منها ما قدر له يبين ذلك

قوله تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد وقرينة الكلام تقتضي أنه لا يؤتى شيئا من الآخرة لأن من كانت نيته من عمله مقصورة على طلب الدنيا فلا نصيب له في الآخرة والأعمال بالنيات وقرينة الكلام من قوله ومن يرد ثواب الآخرة ونؤته منها لا تمنع أن يؤتى نصيبا من الدنيا قال ابن فورك في

قوله تعالى وسنجزي الشاكرين إشارة إلى أنه ينعمهم بنعم الدنيا لا إنهم يقصرون على الآخرة ثم ضرب سبحانه المثل للمؤمنين بمن سلف من صالح الأمم الذين لم يثنهم عن دينهم قتل الكفار لأنبيائهم فقال وكاين من نبيء قتل معه ربيون كثير الآية وفي كأين لغات فهذه اللغة أصلها لأنها كاف التشبيه دخلت على أي وكأين في هذه الآية في موضع رفع بالابتداء وهي بمنزلة كم وبمعناها تعطي في الاغلب التكثير وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو قتل مبني لما لم يسم فاعله وقرأ الباقون قاتل فقوله قتل قال فيه جماعة من المفسرين منهم الطبري أنه مستند إلى ضمير نبيء والمعنى عدهم أن النبي قتل ونحا إليه ابن عباس وإذا كان هذا فربيون مرتفع بالظرف بلا خلاف وهو متعلق

بمحذوف وليس متعلقا بقتل وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة أن قتل إنما هو مستند إلى قوله ربيون وهم المقتولون قال الحسن وابن جبير لم يقتل نبي في حرب قط قال ع فعلى هذا القول يتعلق قوله معه بقتل ورحج الطبري القول الأول بدلالة نازلة النبي صلى اللّه عليه وسلم وذلك أن المؤمنين إنما تخاذلوا يوم أحد لما قيل قتل محمد فضرب المثل بنبي قتل وترجيح الطبري حسن ويؤيد ذلك ما تقدم من قوله افأين مات  قتل وحجة من قرأ قاتل أنها أعم في المدح لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي قال ع ويحسن عندي على هذه القراءة استناد الفعل إلى الربيين

وقوله ربيون قال ابن عباس وغيره معناه جموع كثيرة وهو من الربة بكسر الراء وهي الجماعة الكثيرة

وروي عن ابن عباس والحسن بن أبي المسن وغيرهما أنهم قالوا ربيون معناه علماء ويقوى هذا القول قراءة من قرأ ربيون بفتح الراء منسوبون إلى الرب أما لأنهم مطيعون له  من حيث أنهم علماء بما شرع

وقوله سبحانه وما استكانوا ذهبت طائفة من النحاة إلى أنه من السكون وذهبت طائفة إلى أنه مأخوذ من كان يكون واصلة استكونوا والمعنى أنهم لم يضعفوا ولا كانوا قريبا من ذلك قلت وأعلم رحمك اللّه أن أصل الوهن والضعف عن الجهاد ومكافحة العدو هو حب الدنيا وكراهية بذل النفوس للّه وبذل مهجها للقتل في سبيل اللّه إلا ترى إلى حال الصحابة رضي اللّه عنهم وقلتهم في صدر الإسلام وكيف فتح اللّه بهم البلاد ودان لدينهم العباد لما بذلو للّه أنفسهم في الجهاد وحالنا اليوم كما ترى عدد أهل الإسلام كثير ونكايتهم في الكفار نزر يسير وقد روى أبو داود في سننه عن ثوبان قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ قال بل

أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن اللّه من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن فقال قائل يا رسول اللّه وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت ا ه فانظر رحمك اللّه فهل هذا الزمان إلا زماننا بعينه وتأمل حال ملوكنا إنما همتهم جمع المال من حرام وحلال واعراضهم عن أمر الجهاد فإنا للّه وإنا اليه راجعون على مصاب الإسلام

١٤٧

قوله تعالى وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا أغفر لنا ذنوبنا الآية هذه الآية في ذكر الربيين أي هذا كان قولهم لا ما قاله بعضكم يا أصحاب محمد لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا إلى غير ذلك مما اقتضته تلك الحال من الأقوال قلت وهذه المقالة ترجح القول الثاني في تفسير الربيين إذ هذه المقالة إنما تصدر من علماء عارفين باللّه قال ع واستغفار هؤلاء القوم الممدوحين في هذا الموطن ينحو إلى أنهم رأوا أن ما نزل من مصائب الدنيا إنما هو بذنوب من البشر كما نزلت قصة أحد بعصيان من عصى وقولهم ذنوبنا وأسرافنا في أمرنا عبارتان عن معنى قريب بعضه من بعض جاء للتأكيد ولتعم مناحي الذنوب وكذلك فسره ابن عباس وغيره وقال الضحاك الذنوب عام والإسراف في الأمر اريد به الكبائر خاصة فأتاهم اللّه ثواب الدنيا بأن اظهرهم على عدوهم وحسن ثواب الآخرة الجنة بلا خلاف قال الفخر ولاشك أن ثواب الآخرة هي الجنة وذلك غير حاصل في الحال فيكون المراد أنه سبحانه لما حكم لهم بحصولها في الآخرة قام حكمه لهم بذلك مقام الحصول في الحال ومحمل قوله آتاهم أنه سيؤتيهم قيل ولا يمتنع أن تكون هذه الآية خاصة بالشهداء وأنه تعالى في حال نزول هذه الآية كان قد آتاهم حسن ثواب الآخرة انتهى

١٤٩

وقوله سبحانه يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يعني المنافقين الذين خيبوا المسلمين وقالوا في أمر أحد لو كان محمد نبيا لم ينهزم

وقوله سبحانه

بل اللّه مولاكم وهو خير الناصرين هذا تثبيت لهم

١٥١

وقوله سبحانه سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب سبب هذه الآية أنه لما ارتحل أبو سفيان بالكفار رجع النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة فتجهز وأتبع المشركين وكان معبد بن أبي معبد الخزاعي قد جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال له واللّه يا محمد لقد ساءنا ما أصابك وكانت خزاعة تميل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم ركب معبد حتى لحق بأبي سفيان فلما رأى أبو سفيان معبدا قال ما وراءك يا معبد قال محمد في اصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله يتحرقون عليكم قد أجتمع معه من كان تخلف عنه وندموا على ما صنعوا قال ويلك ما تقول قال واللّه ما اراك أن ترحل حتى ترى نواصي الخيل قال فواللّه لقد اجمعنا الكرة اليهم قال فإني انهاك عن ذلك وواللّه لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم شعرا قال وما قلت قال قلت ... كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد إلا بابيل ...

... تردى بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل ...

... فظلت عدوا أظن الأرض مائلة ... لما سموا برءيس غير مخذول ...

إلى آخر الشعر فألقى اللّه الرعب في قلوب الكفار وقال صفوان بن أمية لا ترجعوا فإني أرى أنه سيكون للقوم قتال غير الذي كان فنزلت الآية في هذا الإلقاء وهي بعد متناولة كل كافر قال الفخر لأنه لا أحد يخالف دين الإسلام إلا وفي قلبه خوف من الرعب أما عند الحرب وأما عند المحاجة انتهى

وقوله سبحانه بما اشركوا هذه باء السبب والسلطان الحجة والبرهان قال ص قوله وبيس المخصوص بالذم محذوف أي النار

١٥٢

وقوله سبحانه ولقد صدقكم اللّه وعده إذ تحسونهم بإذنه جاء الخطاب لجميع المؤمنين وإن كانت الأمور التي عاتبهم

سبحانه عليها لم يقع فيها جميعهم ولذلك وجوه من الفصاحة منها وعظ الجميع وزجره إذ من لم يفعل معد أن يفعل أن لم يزجر ومنها الستر والإبقاء على من فعل وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم قد وعد المؤمنين النصر يومئذ على خبر اللّه أن صبروا وجدوا فصدقهم اللّه وعده وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم صاف المشركين يومئذ ورتب الرماة على ما قد ذكرناه قبل هذا واشتعلت نار الحرب وابلى حمزة بن عبد المطلب وأبو دجانة وعلي وعاصم بن أبي الاقلح وغيرهم وأنهزم المشركون وقتل منهم اثنان وعشرون رجلا فهذا معنى قوله عز و جل إذ تحسونهم بإذنه والحس القتل الذريع يقال حسهم إذا استأصلهم قتلا وحس البرد النبات

وقوله سبحانه حتى إذا فشلتم يحتمل أن تكون حتى غاية كأنه قال إلى أن فشلتم والأظهر الأقوى أن إذا على بابها تحتاج إلى الجواب ومذهب الخليل وسيبويه وفرسان الصناعة أن الجواب محذوف يدل عليه المعنى تقديره انهزمتم ونحوه والفشل استشعار العجز وترك الجد والتنازع هو الذي وقع بين الرماة وعصيتم عبارة عن ذهاب من ذهب من الرماة وتأمل رحمك اللّه ما يوجبه الركون إلى الدنيا وما ينشأ عنها من الضرر وإذا كان مثل هؤلاء السادة على رفعتهم وعظيم منزلتهم حصل لهم بسببها ما حصل من الفشل والهزيمة فكيف بامثالنا وقد حذر اللّه عز و جل ونبيه عليه السلام من الدنيا وأفاتها بما لا يخفى على ذى لب وقد ذكرنا في هذا المختصر جملة كافية لمن وفقه اللّه وشرح صدره وقد خرج البغوي في المسند المنتخب له عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال لا تفتح الدنيا على أحد إلا القت بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة أنتهى من الكوكب الدري وقال عليه السلام للأنصار لما تعرضوا له إذ سمعوا بقدوم أبي عبيدة بمال البحرين أبشروا وأملوا ما يسركم فو اللّه ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا

عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما اهلكتهم أخرجه البخاري ومسلم والترمذي واللفظ له وقال هذا حديث صحيح أنتهى وأعلم رحمك اللّه أن تيسير أسباب الدنيا مع اعراضك عن أمر أخرتك ليس ذلك من علامات الفلاح وقد روى ابن المبارك في رقائقه قال أخبرنا ابن لهيعة قال حدثني سعيد بن أبي سعيد أن رجلا قال يا رسول اللّه كيف لي أن أعلم كيف أنا قال إذا رأيت كلما طلبت شيئا من أمر الآخرة وابتغيته يسر لك وإذا أردت شيئا من الدنيا وابتغيته عسر عليك فانت على حال حسنة وإذا رأيت كلما طلبت شيئا من أمر الآخرة وابتغيته عسر عليك وإذا أردت شيئا من أمر الدنيا وابتغيته يسر لك فانت على حال قبيحة انتهى فتأمله راشدا

وقوله من بعد ما اراكم ما تحبون يعني هزيمة المشركين قال الزبير واللّه لقد رأيتنى انظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب وخلوا ظهورنا للخيل فاوتينا من ادبارنا وصرخ صارخ إلا أن محمدا قد قتل وانكفأ علينا القوم

وقوله سبحانه منكم من يريد الدنيا يعنى بهم الذين حرصوا على الغنيمة وكان المال همهم قاله ابن عباس وسائر المفسرين وقال عبد اللّه بن مسعود ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد منكم من يريد الدنيا

وقوله سبحانه ومنكم من يريد الآخرة أخبار عن ثبوت من ثبت من الرماة مع عبد اللّه بن جبير امتثالا للامر حتى قتلوا ويدخل في هذا أنس بن النضر وكل من جد ولم يضطرب من المؤمنين

١٥٣

وقوله تعالى إذ تصعدون ولا تلوون على احد العامل في إذ قوله عفا وقراءة الجمهور تصعدون بضم التاء وسر العين من اصعد ومعناه ذهب في الأرض

والصعيد وجه الأرض فاصعد معناه دخل ف يالصعيد كما أن اصبح دخل في الصباح

وقوله سبحانه ولا تلوون على احد مبالغة في صفة الإنهزام وقرأ حميد بن قيس على احد بضم الألف والحاء يريد الجبل والمعني بذلك نبي اللّه صلى اللّه عليه و سلم لأنه كان على الجبل والقراءة الشهيرة اقوى لان النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فر الناس وهذه الحال من اصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم

وروي أنه كان ينادى صلى اللّه عليه و سلم الي عباد اللّه والناس يفرون وفي

قوله تعالى في أخراكم مدح له صلى اللّه عليه و سلم فإن ذلك هو موقف الأبطال في اعقاب الناس ومنه قول الزبير بن باطيا ما فعل مقدمتنا إذا حملنا وحاميتنا إذا فررنا وكذلك كان صلى اللّه عليه و سلم اشجع الناس ومنه قول سلمة بن الأكوع كنا إذا احمر الباس اتقيناه برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

وقوله تعالى فاثابكم معناه جازاكم على صنيعكم

واختلف في معنى

قوله تعالى غما بغم فقال قوم المعنى اثابكم غما بسبب الغم الذي ادخلتموه على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسائر المسلمين بفشلك وتنازعكم وعصيانكم قال قتادة ومجاهد الغم الأول ان سمعوا إلا ان محمدا قد قتل

والثاني القتل والجراح

وقوله تعالى لكي لا تحزنوا على ما فاتكم أي من الغنيمة ولا ما أصابكم أي من القتل والجراح وذل الانهزام واللام من قوله لكي لا متعلقة باثابكم المعنى لتعلموا ان ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم فأنتم إذيتم انفسكم وعادة البشر ان جاني الذنب يصبر للعقوبة وأكثر قلق المعاقب وحزنه انما هو مع ظنه البراءة بنفسه ثم ذكر سبحانه امر النعاس الذى أمن به المؤمنين فغشي أهل الأخلاص قلت وفي صحيح البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال عشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم احد قال فجعل سيفى يسقط

من يدى وءاخذه ويسقط وأخذه ونحوه عن الزبير وابن مسعود والواو في قوله وطائفة قد أهمتهم أنفسهم واو الحال ذهب أكثر المفسرين إلى أن اللفظة من الهم الذى هو بمعنى الغم والحزن

وقوله سبحانه يظنون باللّه غير الحق معناه يظنون أن دين الأسلام ليس بحق وأن أمر صلى اللّه عليه وسلم يضمحل قلت وقد وردت أحاديث صحاح في الترغيب في حسن الظن باللّه عز و جل ففي صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى اللّه عليه وسلم حاكيا عن اللّه عز و جل ليقول سبحانه أنا عند ظن عبدي بي الحديث وقال ابن مسعود واللّه الذي لا آله غيره لا يحسن احد الظن باللّه عز و جل إلا اعطاه اللّه ظنه وذلك أن الخير بيده وخرج أبو بر بن الخطيب بسنده عن أنس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من حسن عبادة المرء حسن ظنه ا ه

وقوله ظن الجاهلية ذهب الجمهور إلى أن المراد مدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام وهذا كقوله سبحانه حمية الجاهلية وتبرج الجاهلية وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد في هذه الآية ظن الفرقة الجاهلية وهم أبو سفيان ومن معه قال قتادة وابن جريج قيل لعبد اللّه ابن أبي بن سلول قتل بنو الخزرج فقال وهل لنا من الأمر من شيء يريد أن الرأي ليس لنا ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا فلم يخرج فلم يقتل أحد منا

وقوله سبحانه قل أن الأمر كله للّه اعتراض اثناء الكلام فصيح ومضمنه الرد عليهم

وقوله سبحانه يخفون في انفسهم ما لا يبدون لك الآية اخبر تعالى عنهم على الجملة دون تعيين وهذه كانت سنته في المنافقين لا اله إلا هو

١٥٤

وقوله سبحانه ويقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا هي مقالة سمعت من معتب بن قشير المفموص عليه بالنفاق وباقي الآية بين

وقوله تعالى وليبتلي اللّه ما في صدوركم اللاء في ليبتلي متعلقة بفعل متأخر

تقديره وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة والابتلاء هنا الأختبار

١٥٥

وقوله سبحانه أن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان قال عمر رضي اللّه عنه المراد بهذه الآية جميع من تولى ذلك اليوم عنالعدو

وقيل نزلت في الذين فروا إلى المدينة قال ابن زيد فلا ادرى هل عفي عن هذه الطائفة خاصة أم عن المؤمنين جميعا

وقوله تعال إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ظاهره عند جمهور المفسرين أنه كانت لهم ذنوب عاقبهم اللّه عليها بتمكين الشيطان من استزلالهم بوسوسته وتخويفه والفرار من الزحف من الكبار باجماع فيما علمت وقد عده صلى اللّه عليه و سلم في السبع الموبقات

١٥٦

وقوله تعالى يا أيها الذين أمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لا خوانهم الآية نهى اللّه المؤمنين أن يكونوا مثل الكفار المنافقين في هذا المعتقد الفاسد الذي هو أن من سافر في تجارة ونحوها ومن قاتل فقتل لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض فيه نفسه للسفر  للقتل وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالاجلين  نحو منه وصرح بهذه المقالة عبد اللّه بن أبي المنافق وأصحابه قاله مجاهد وغيره والضرب في الأرض السير في التجارة وغزى جمع غاز

وقوله تعالى ليجعل اللّه ذلك الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي جعله اللّه حسرة لهم لأن الذي يتيقن أن كل قتل وموت إنما هو باجل سابق يجد برد الياس والتسليم للّه سبحانه على قلبه والذي يعتقد أن جميمه لو قعد في بيته لم يمت يتحسر ويتلهف وعلى هذا التأويل مشى المتأولون وهو اظهر ما في الآية والتحسر التلهف على الشيء والغم به

وقوله سبحانه واللّه بما تعملون بصير توكيد للنهي في قوله ولا تكونوا ووعيد لمن خالفه ووعد لمن امتثله

١٥٧

وقوله سبحانه ولئن قتلتم في سبيل اللّه  متم اللام في ولئن قتلتم هي المؤذنة بمجيء القسم واللام في قوله لمغفرة هي

المتلقية للقسم والتقدير واللّه لغفرة وترتب الموت قبل القتل في

قوله تعالى ما ماتوا وما قتلوا مراعاة لترتب الضرب في الأرض والغزو وقدم القتل هنا لأنه الأشرف الأهم ثم قدم الموت في

قوله تعالى ولئن متم  قتلتم لأنها أية وعظ بالأخرة والحشر وأية تزهيد في الدنيا والحياة وفي الآية تحقير لأمر الدنيا وحض على طلب الشهادة والمعنى إذا كان الحشر لا بد منه في كلا الامرين فالمضي اليه في حال شهادة اولى وعن سهل بن حنيف أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من سأل اللّه الشهادة بصدق بلغه اللّه منازل الشهداء وإن مات على فراشه رواه الجماعة إلا البخاري وعن أنس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من طلب الشهادة صادقا اعطيها ولو لم تصبه انفرد به المسلم اه من سلاح المؤمن

١٥٩

وقوله سبحانه فبما رحمة من اللّه لنت لهم معناه فبرحمة قال القشيري في التحبير واعلم ان اللّه سبحانه يحب من عبادة من يرحم خلقه ولا يرحم العبد الا إذا رحمه اللّه سبحانه قال اللّه تعالى لنبيه عليه السلام فبما رحمة من اللّه لنت لهم اه قال ع ومعنى هذه الآية التقريع لكل من اخل يوم احد بمركزه أي كانوا يستحقون الملام منك ولكن برحمة منه سبحانه لنت لهم وجعلك على خلق عظيم وبعثك لتتميم محاسن الاخلاق ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك وتفرقوا عنك والفظ الجافى في منطقه ومقاطعه وفي صفته صلى اللّه عليه و سلم في الكتب المنزلة ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الاسواق والفظاظة الجفوة في المعاشرة قولا وفعلا وغلظ القلب عبارة عن تهجم الوجه وقلة الانفعال فى الرغائب وقلة الاشفاق والرحمة والا نفضاض افتراق الجموع

وقوله تعالى فاعف عنهم واستغفر لهم الآية امر سبحانه نبيه عليه السلام بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ فامره ان يعفو عنهم فيما له عليهم من حق ثم يستغفر

لهم فيما للّه عليهم من تبعة فإذا صاروا في هذه الدرجة كانوا اهلا لللاستشارة قال ع ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب هذا مما لا خلاف فيه وقد وردت احاديث كثيرة في الاستشارة ومشاورته عليه السلام إنما هي في أمور الحرب والبعوث ونحوه من اشخاص النوازل فأما في حلال  حرام  حد فتلك قوانين شرع ما فرطنا في الكتاب من شيء والشورى مبنية على اختلاف الآراء والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ويتخير فاذا ارشده اللّه إلى ما شاء منه عزم عليه وانفذه متوكلا على اللّه إذ هو غاية الاجتهاد المطلوب منه وبهذا أمر اللّه تعالى نبيه في هذه الآية وصفة المستشار في الآحكام أن يكون عالما دينا وقلما يكون ذلك إلا في عاقل فقد قال الحسن ابن أبي الحسن ما كمل دين امرىء لم يكمل عقله قال ع والتوكل على اللّه سبحانه وتعالى من فروض الإيمان وفصوله ولكنه مقترن بالجد في الطاعات والتشمير والحزامة بغاية الجهد وليس الالقاء باليد وما اشبهه بتوكل وإنما هو كما قال عليه السلام قيدها وتوكل

وقوله تعالى أن اللّه يحب المتوكلين هذه غاية في الرفعة وشرف المنزلة وقد جاءت أثار صحيحة في فضل التوكل وعظيم منزلة المتوكلين ففي صحيح مسلم عن عمران بن حصين أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يدخل الجنة من امتى سبعون الفا بغير حساب قالوا من هم يا رسول اللّه قال هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون وخرج أبو عيسى الترمذي عن أبي أمامة قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتى سبعين الفا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل الف سبعون الفا وثلاث حثيات من حثيات ربي وخرجه ابن ماجه أيضا وخرج أبو بكر البزار وأبو عبد اللّه الترمذي الحكيم عن عبد الرحمن بن أبي بكر

الصديق رضي اللّه عنهما قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم أن اللّه سبحانه أعطاني سبعين الفا يدخلون الجنة بغير حساب فقال عمر يا رسول اللّه فهلا استزدته فأعطانى مع كل واحد من السبعين الألف سبعين الفا فقال عمر يا رسول اللّه فهلا استزدته فقال قد استزدته فاعطانى هكذا وفتح أبو وهب يديه قال أبو وهب قال هشام هذا من اللّه لا يدرى ما عدده وخرج ابو نعيم عن انس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال وعدنى ربي أن يدخل الجنة من امتى مائة الف فقال أبو بكر يا رسول اللّه زدنا قال وهكذا وأشار سليمان بن حرب بيده فقال أبو بكر يا رسول اللّه زدنا فقال عمر أن اللّه عز و جل قادر أن يدخل الناس الجنة بحفنة واحدة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم صدق اه من التذكر ة وما وقع من ذكر الحثية والحفنة ليس هو على ظاهره فاللّه سبحانه منزه عن صفات الاجسام

١٦٠

وقوله تعالى وأن يخذلكم أي يترككم والخذل الترك والضمير في من بعده يعود على اسم اللّه ويحتمل على الخذل

وقوله تعالى وما كان لنبيء أن يغل قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم أن يغل بفتح الياء وضم الغين وقرأ باقى السبعة أن يغل بضم الياء وفتح الغين واللفظة بمعنى الخيانة في خفاء تقول العرب اغل الرجل يغل اغلا لا إذ خان

واختلف على القراءة الاولى فقال ابن عباس وغيره نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت من المغانم يوم بدر فقال بعض الناس لعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اخذها فقيل كانت هذه المقالة من مؤمن لم يظن في ذلك حرجا

وقيل كانت من منافقين وقد روي أن المفقود إنما كان سيفا قال النقاش ويقال إنما نزلت لأن الرماة قالوا يوم احد الفنيمة الغنيمة فإنا نخشى أن يقول النبي صلى اللّه عليه وسلم من اخذ شيئا فهو له وقال ابن اسحاق الآية إنما انزلت اعلاما بان النبي صلى اللّه عليه وسلم

لم يكتم شيئا مما امر بتبليغه واما على القراءة الثانية فمعناها عند الجمهور أي ليس لأحد أن يغل النبي أي يخونه في الغنيمة لأن المعاصي تعظم بحضرته لتعيين توقيره

قال ابن العربي في احكامه وهذا القول هو الصحيح وذلك أن قوما غلوا من الفنائم  هموا فانزل اللّه تعالى الآية فنهاهم اللّه عن ذلك رواه الترمذي اه

١٦١

وقوله تعالى ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة الآية وعيد لمن يغل من الغنيمة  في زكاته بالفضيحة يوم القيامة على رؤس الاشهاد قال القرطبي في تذكرته قال علماؤنا رحمهم اللّه في

قوله تعالى ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة أن ذلك على الحقيقة كما بينه صلى اللّه عليه و سلم أي يأتى به حاملا له على ظهره ورقبته معذبا بحمله وثقله ومروعا بصوته وموبخا بإظهار خيانته اه وفي الحديث عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال أدوا الخائط والمخيط فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة رواه مالك في الموطأ قال أبو عمر في التمهيد الشنار لفظة جامعة لمعنى العار والنار ومعناها الشين والنار يريد أن الغلول شين وعار ومنقصة في الدنيا وعذاب في الآخرة اه وفي الباب احاديث صحيحة في الغلول وفي منع الزكاة

١٦٢

وقوله سبحانه افمن اتبع رضوان اللّه أي الطاعة الكفيلة برضوان اللّه قال ص افمن استفهام معناه النفي أي ليس من اتبع ما يؤل به إلى رضي اللّه تعالى عنه فباء برضاه كمن لم يتبع لذلك فباء بسخطه اه

١٦٣

وقوله سبحانه هم درجات عند اللّه قال ابن إسحاق وغيره المراد بذلك الجمعان المذكوران اهل الرضوان واصحاب السخط أي لكل صنف منهم تباين في نفسه في منازل الجنة وفي اطباق النار أيضا وقال مجاهد والسدي ما ظاهره ان المراد بقوله هم إنما هو لمتبعى الرضوان أي لهم درجات كريمة عند ربهم وفي الكلام حذف تقديره هم ذوو درجات والدرجات المنازل

بعضها اعلى من بعض في المسافة  في التكرمة  في العذاب وباقي الآية وعد ووعيد

وقوله تعالى لقد من اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية اللام في لقد لام القسم ومن في هذه الآية معناه تطول وتفضل سبحانه وقد يقال من بمعنى كدر معروفه بالذكر فهي لفظة مشتركة

وقوله من أنفسهم أي في الجنس والسان والمجاورة فكونه من الجنس يوجب الأنس به وكونه بلسانهم يوجب حسن التفهيم وكونه جارا وربيا يوجب التصديق والطمأنينة إذ قد خبروه وعرفوا صدقه وأمانته ثم وقف اللّه سبحانه المؤمنين على الخطأ في قلقهم للمصيبة التي نزلت بهم وإعراضهم عما نزل بالكفار فقال  لما اصابتكم مصيبة أي يوم احد قد اصبتم مثليها أي يوم بدر إذ قتل من الكفار سبعون وأسر سبعون هذا تفسير ابن عباس والجمهور وقال الزجاج واحد المثلين هو قتل السبعين يوم بدر

والثاني هو قتل اثنين وعشرين يوم احد ولا مدخل للإسرى لأنهم قد فدوا وانى معناها كيف ومن اين قل هو من عند انفسكم أي حين خالفتم النبي صلى اللّه عليه وسلم في الرأي حين رأى ان يقيم بالمدينة ويترك الكفار بشر محبس فأبيتم إلا الخروج وهذا هو تأويل الجمهور وقالت طائفة هو من عند أنفسكم إشارة إلى عصيان الرماةوتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين وقال علي والحسن بل ذلك لما قبلوا الفداء يوم بدر وذلك أن اللّه سبحانه أخبرهم على لسان نبيه بين قتل الاسرى  يأخذوا الفداء على ان يقتل منهم عدة الإسرى فاختاروا أخد الفداء ورضوا بالشهادة فقتل منهم يوم احد سبعون قلت وهذا الحديث رواه الترمذي عن علي رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال أحمد بن نصر الداودي وعن الضحاك أني هذا أي باي ذنب هذا قال ابن عباس قل هو من عند أنفسكم عقوبة لمعصيتكم لنبيكم عليه السلام اه

١٦٦

وقوله سبحانه وما اصابكم يوم التقى الجمعان يعنى يوم احد

وقوله سبحانه وليعلم المؤمنين أي ليعلم اللّه المؤمن من النافق والإشارة بقوله سبحانه نافقوا

وقيل لهم هي إلى عبد اللّه بن أبي واصحابه حين انخزل بنحو ثلث الناس فمشى في أثرهم عبد اللّه بن عمرو بن حرام أبو جابر بن عبد اللّه فقال لهم اتقوا اللّه ولا تتركوا نبيكم وقاتلوا في سبيل اللّه  ادفعوا ونحو هذا من القول فقال له ابن أبي ما أرى أن يكون قتالا ولو علمنا أن يكون قتال لكنا معكم فلما يئس منهم عبد اللّه قال اذهبوا اعداء اللّه فسيغنى اللّه رسوله عنكم ومضى مع النبي صلى اللّه عليه وسلم فأستشهد

١٦٧

وقوله تعالى  ادفعوا قال ابن جريج وغيره معناه كثروا السواد وأن لم تقاتلوا فيندفع القوم لكثرتكم وذهب بعض المفسرين إلى أن قول عبد اللّه بن عمرو أ وادفعوا استدعاء للقتال حمية إذ ليسوا بأهل للقتال في سبيل اللّه والمعنى قاتلوا في سبيل اللّه  قاتلوا دفاعا عن الحوزة إلا ترى أن قزمان قال في ذلك اليوم واللّه ما قاتلت إلا على احساب قومي وقول الأنصاري يومئذ لما أرسلت قريش الظهر في الزروع اترعى زروع بنى قيلة ولما نضارب

وقوله تعالى الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو اطاعونا ما قتلوا الذين بدل من الذين المتقدم لاخوانهم أي لاجل اخوانهم  في شأن اخوانهم المقتولين ويحتمل أن يريد لا خوانهم الأحياء من المنافقين ويكون الضمير في اطاعونا للمقتولين وقعدوا جملة في موضع الحال معترضة اثناء الكلام وقولهم لو اطاعونا يريدون في ان لا يخرجوا وباقى الآية بين ثم اخبر سبحانه عن الشهداء انهم في الجنة احياء يرزقون وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال أن اللّه يطلع على الشهداء فيقول يا عبادى ما تشتهون فازيدكم فيقولون يا ربنا لا فوق ما اعطيتنا هذه الجنة ناكل منها حيث نشاء لكنا نريد أن تردنا إلى الدنيا

فنقاتل في سبيلك فنقتل مرة اخرى فيقول سبحانه قد سبق انكم لا تردون والاحاديث في فضل الشهداء كثيرة قال الفخر والروايات في هذا الباب كأنها بلغت حد التواتر ثم قال قال بعض المفسرين أرواح الشهداء احياء وهي تركع وتسجد تحت العرش إلى يوم القيامة والعقيدة إن الارواح كلها احياء لا فرق بين الشهداء وغيرهم في ذلك إلا ما خصص اللّه به الشهداء من زيادة المزية والحياة التي ليست بمكيفة وفي صحيح مسلم عن مسروق قال سألنا ابن مسعود عن هذه الآية ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون فقال أما أنا فقد سألت عن ذلك فقال يعني النبي صلى اللّه عليه وسلم أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تاوى إلى تلك القناديل الحديث إلى أخره ومن الآثار الصحيحة الدالة على فضل الشهداء ما رواه مالك في الموطأ أنه بلغه أن عمرو ابن الجموح وعبد اللّه بن عمرو الأنصاريين ثم السلميين كانا قد حفر السيل قبرهما مما يلى السيل وكانا في قبر واحد وهما ممن استشهد يوم احد فحفر عنهما لغيرا من مكانهما فوجدا لم يغيرا كأنما ماتا بالأمس وكان احدهما قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فاميطت يده عن جرحه ثم ارسلت فرجعت كما كانت وكان بين احد وبين يوم حفر عنهما ست واربعون سنة قال أبو عمر في التمهيد حديث مالك هذا يتصل من وجوه صحاح بمعنى واحد متقارب وعبداللّه بن عمرو هذا هو والد جابر بن عبداللّه وعمرو بن الجموح هو ابن عمه ثم اسند أبو عمر عن جابر بن عبد اللّه قال لما اراد معاوية أن يجري العين باحد نودي بالمدينة من كان له قتيل فليات قتيله قال جابر فاتيناهم فاخرجناهم رطابا يتثنون فأصابت المسحاة اصبع رجل منهم فانفطرت دما قال

أبو سعيد الخدري لا ينكر بعد هذا منكر ابدا وفي رواية فاستخرجهم يعني معاوية بعد ست وأربعين سنة لينة اجسادهم تتثنى اطرافهم قال أبو عمر الذي أصابت المسحاة أصبعه هو حمزة رضي اللّه عنه ثم اسند عن جابر قال رأيت الشهداء يخرجون على رقاب الرجال كأنهم رجال نوم حتى إذا اصابت المسحاة قدم حمزة رضي اللّه عنه فانثعبت دما

وقوله سبحانه ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم الآية معناه يسرون ويفرحون وذهب قتادة وغيره إلىأن استبشارهم هو أنهم يقولون اخواننا الذين تركناهم خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل اللّه مع نبيهم فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نلنا نحن فيسرون لهم بذلك إذ يحصلون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وذهب فريق من العلماء إلىأن الإشارة في قوله بالذين لم يلحقوا إلى جميع المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم في فضل الشهادة وذلك لما عاينوا من ثواب اللّه فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم اللّه من فضله ومستبشرون للمؤمنين أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ثم أكد سبحانه استبشارهم بقوله يستبشرون بنعمة ثم بين سبحانه بقوله وفضل أن ادخاله إياهم الجنة هو بفضل منه لا بعمل أحد وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر انها على قدر الأعمال قلت وخرج أبو عبد اللّه الحسين بن الحسن بن حرب صاحب ابن المبارك في رقائقه بسنده عن عبد اللّه بن عمرو بن العاصى أن الشهداء في قباب من حرير في رياض خضر عندهم حوت وثور يظل الحوت يسبح في انهار الجنة يأكل من كل رائحة في أنهار الجنة فإذا امسى وكزه الثور بقرنه فيذكيه فيأكلون لحمه يجدون في لحمة طعم كل رائحة ويبيت الثور في افناء الجنة فإذا أصبح غدا عليه الحوت فوكزه بذنبه فيذكيه فيأكلون فيجدون في لحمه طعم كل رائحة في الجنة ثم يعودون وينظرون إلى منازلهم

من الجنة ويدعون اللّه عز و جل أن تقوم الساعة الحديث مختصرا وقد ذكره صاحب التذكرة مطولا وقرأ الكساءي وأن اللّه بكسر الهمزة على استيناف الأخبار وقرأ باقي السبعة بالفتح على أن ذلك داخل فيما يستبشر به

وقوله الذين استجابوا يحتمل أن يكون صفة للمؤمنين على قراءة من كسر الألف من أن والأظهر أن الذين ابتداء وخبره في قوله للذين احسنوا منهم الآية والمستجيبون للّه والرسول هم الذين خرجوا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى حمراء الأسد في طلب قريش

١٧٣

وقوله سبحانه الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم الآية الذين صفة للمحسنين وهذا القول هو الذي قاله الركب من عبد القيس لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه حين حملهم أبو سفيان ذلك فالناس الأول هم الركب والناس الثاني عسكر قريش هذا قول الجمهور وهو الصواب وقول من قال إن الآية نزلت في خروج النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى بدر الصغرى لمعياد أبي سفيان وأن الناس هنا هو نعيم بن مسعود قول ضعيف وعن أبن عباس أنه قال حسبنا اللّه ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها صلى اللّه عليه وسلم حين قالوا ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقولوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل رواه مسلم والبخاري انتهى

١٧٥

وقوله سبحانه إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه الآية إشارة إلى جميع ما جرى من إخبار الركب عن رسالة أبي سفيان ومن جزع من جزع من الخبر وقرأ الجمهور يخوف أولياءه قال قوم معناه يخوف المنافقين ومن في قلبه مرض وحكى أبو الفتح بن جني عن ابن عباس أنه قرأ يخوفكم أولياءه فهذه قراءة ظهر فيها المفعولان وهي مفسرة لقراءة الجماعة وفي قراءة أبي ابن كعب يخوفكم بأوليائه وفي كتاب القصد إلى اللّه تعالى للمحاسبي قال وكلما

عظمت هيبة اللّه عز و جل في صدقور الأولياء لم يهابوا معه غيره حياء منه عز و جل أن يخافوا معه سواه انتهى

١٧٦

وقوله سبحانه ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر المسارعة في الكفر هي المباردة إلى أقواله وأفعاله والجد في ذلك وسلى اللّه تعالى نبيه عليه السلام بهذه الآية عن حال المنافقين والمجاهرين إذ كلهم مسارع

وقوله تعالى انهم لن يضروا اللّه شيئا خبر في ضمنه وعيد لهم أي وإنما يضرون أنفسهم والحظ إذا أطلق فإنما يستعمل في الخير

١٧٨

وقوله سبحانه ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خيرا لأنفسهم نملي معناه نمهل ونمد في العمر والمعنى لا تحسبن أملاءنا للذين كفروا خيرا لهم فالآية رد على الكفار في قولهم إن كوننا ممولين أصحة دليل على رضى اللّه بحالتنا

١٧٩

وقوله تعالى ما كان اللّه ليذر أي ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين مشكلا أمرهم حتىيميز بعضهم من بعض بما يظهره من هؤلاء وهؤلاء في أحد من الأفعال والأقوال هذا تفسر مجاهد وغيره

وقوله وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب أي في أمر أحد وما كان من الهزيمة وأيضا فما كان اللّه ليطلعكم على المنافقين تصريحا وتسمية لهم ولكن بقرائن أفعالهم وأقوالهم قال الفخر وذلك أن سنة اللّه جارية بأنه لا يطلع عوام الناس على غيبه أي لا سبيل لكم إلى معرفة ذلك الامتياز إلا بإمتحانات كما تقدم فأما معرفة ذلك على سبيل الإطلاع من الغيب فهو من خواص الأنبياء فلهذا

قال تعالى ولكن اللّه يجتبي من رسله من يشاء انتهى وقال الزجاج وغيره روي أن بعض الكفار قال لم لا يكون جميعنا أنبياء فنزلت هذه الآية ويجتبي معناه يختار ويصطفي

١٨٠

وقوله سبحانه ولا يحسبن الذين يبخلون بما ءاتاهم اللّه من فضله الآية قال السدي وجماعة من المتأولين الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل اللّه واداء الزكاة المفروضة ونحو ذلك قال ومعنى سيطوقون

ما بخلوا به هو الذي ورد في الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل عنده فيبخل عليه إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه قلت وفي البخاري وغيره عنه صلى اللّه عليه و سلم قال من آتاه اللّه مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية ولا يحسبن الذين يبخلون بما ءاتاهم اللّه من فضله الآية قلت وأعلم أنه قد وردت آثار صحيحة بتعذيب العصاة بنوع ما عصوا به كحديث من قتل نفسه بحديدة فهو يجأ نفسه بحديدته في نار جهنم والذي قتل نفسه بالسم فهو يتحساه في نار جهنم ونحو ذلك قال الغزالي في الجواهر وأعلم أن المعاني في عالم الآخرة تستتبع الصور ولا تتبعها فيتمثل كل شيء بصورة توازي معناه فيحشر المتكبرون في صور الذر يطأهم من أقبل وأدبر والمتواضعون أعزاء انتهى وهو كلام صحيح يشهد له صحيح الآثار ويؤيده النظر والإعتبار اللّهم وفقنا لما تحبه وترضاه

قال ابن العربي في أحكامه قال علماؤنا البخل منع الواجب والشح منع المستحب والصحيح المختار أن هذه الآية في الزكاة الواجبة لأن هذا وعيد لمانعيها والوعيد إذا اقترن بالفعل المأمور به  المنهي عنه اقتضى الوجوب  التحريم انتهى وتعميمها في جميع انواع الواجب أحسن

وقوله سبحانه وللّه ميراث السموات والأرض خطاب على ما يفهمه البشر دال على فناء الجميع وأنه لا يبقى مالك إلا اللّه سبحانه

١٨١

وقوله سبحانه لقد سمع اللّه قول الذين قالوا إن اللّه فقير ونحن أغنياء الآية نزلت بسبب فنحاص اليهودي وأشباهه كحيي بن أخطب وغيره لما نزلت من ذا الذي يقرض اللّه قرضا حسنا قالوا يستقرضنا ربنا إنما يستقرض الفقير الغني وهذا من تحريف اليهود

للتأويل على نحو ما صنعوا في توراتهم

وقوله تعالى قول الذين قالوا دال على أنهم جماعة

وقوله تعالى سنكتب ما قالوا الآية وعيد لهم أي سنحصي عليهم قولهم ويتصل ذلك بفعل آبائهم من قتل الأنبياء بغير حق

وقوله سبحانه وأن اللّه أي وبأن اللّه ليس بظلام للعبيد قال ص قيل المراد هنا نفي القليل والكثير من الظلم كقول طرفة ... ولست بحلال التلاع مخافة ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد ...

ولا يريد أنه قد يحل التلاع قليلا وزاد أبو البقاء وجها آخر وهو أن يكون علىالنسب أي لا ينسب سبحانه إلى ظلم فيكون من باب بزاز وعطار انتهى قلت وهذا القول أحسن ما قيل هنا فمعنى وما ربك بظلام أي بذي ظلم

وقوله سبحانه الذين قالوا إن اللّه عهد إلينا الآية هذه المقالة قالتها أحبار اليهود مدافعة لأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم والمعنى أنك لم تأتنا بقربان تأكله النار فنحن قد عهد إلينا ألا نؤمن لك

وقوله تعالى قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم من أمر القربان والمعنى أن هذا منكم تعلل وتعنت ولو أتيتكم بقربان لتعللتم بغير ذلك ثم أنس سبحانه نبيه بالأسوة والقدره فيمن تقدم من الأنبياء قال الفخر والمراد بالبينات المعجزات انتهى والزبر الكتاب المكتوب قال الزجاج زبرت كتبت

١٨٥

وقوله سبحانه كل نفس ذائقة الموت الآية وعظ فيه تسلية للنبي صلى اللّه عليه وسلم ولأمته عن أمر الدنيا وأهلها ووعد بالفلاح في الآخرة فبالفكرة في الموت يهون أمر الكفار وتكذيبهم وإنما توفون أجوركم أي على الكمال ولا محالة أن يوم القيامة تقع فيه توفية الأجور وتوفية العقوبات وزحزح معناه أبعد والمكان الزحزاح البعيد وفاز معناه نجا من خطره وخوفه والغرور الخدع والترجية بالباطل والحياة الدنيا ولك ما فيها من الأموال هي متاع قليل

يخدع المرء ويمنيه الأباطيل وعلى هذا فسر الآية جمهور المفسرين وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ثم تلا هذه الآية فلت وأسند أبو بكر بن الخطيب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما سكن حب الدنيا قلب عبد قط إلا إلتاط منها بخصال ثلاث أمل لا يبلغ منتهاه وفقر لا يدرك غناه وشغل لا ينفك عناه انتهى

وقوله تعالى لتبلون في أموالكم وأنفسكم الآية خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم وأمته والمعنى لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء وبالإنفاق في سبيل اللّه وفي سائر تكاليف الشرع والإبتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفقد الأحبة قال الفخر قال الواحدي اللام في لتبلون لام قسم انتهى

وقوله ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب الآية قال عكرمة وغيره السبب في نزولها أقوال فنحاص وقال الزهري وغيره نزلت بسبب كعب بن الأشرف حتى بعث إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قتله والأذى أسم جامع في معنى الضرر وهو هنا يشمل أقوالهم فيما يخص النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه من سب وأقوالهم في جهة اللّه سبحانه وأنبيائه وندب سبحانه إلى الصبر والتقوى وأخبر أنه من عزم الأمور أي من أشدها وأحسنها والعزم إمضاء الأمر المروي المنقح وليس ركوب الرأي دون رؤية عزما

١٨٧

وقوله سبحانه وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب الآية توبيخ لمعاصري النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم هو مع ذلك خبر عام لهم ولغيرهم قال جمهور من العلماء الآية عامة في كل من علمه اللّه علما وعلماء هذه الأمة داخلون في هذا الميثاق وقد قال صلى اللّه عليه و سلم من سئل عن علم فكتمه الجمه اللّه بلجام من نار والضمير في لتبيننه ولا تكتمونه عائد على الكتاب والنبذ الطرح وأظهر الأقوال في هذه الآية أنها نزلت في اليهود وهم المعنيون ثم كل كاتم من هذه الأمة يأخذ بحظه

من هذه المذمة

١٨٨

وقوله سبحانه لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا الآية ذهب جماعة إلى أن الآية في المنافقين وقالت جماعة كبيرة إنما نزلت في أهل الكتاب أحبار اليهود قال سعيد بن جبير الآية في الهيود فرحوا بما أعطى اللّه آل إبراهيم من النبوءة والكتاب فهم يقولون نحن على طريقهم ويحبون أن يحمدوا بذلك وهم ليسوا على طريقهم وقراءة سعيد بن جبير بما أوتوا بمعنى أعطوا بضم الهمزة والطاء وعلى قراءته يستقيم المعنى الذي قال والمفازة مفعلة من فاز يفوز إذا نجا وباقي الآية بين ثم دل سبحانه على مواضع النظر والعبرة فقال إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار أي تعاقب الليل والنهار إذ جعلهما سبحانه خلفة ويدخل تحت اختلافهما قصر أحدهما وطول الآخر وبالعكس واختلافهما بالنور والظلام والآيات العلامات الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته سبحانه قال الفخر وأعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح عن الإشتغال بالخلق والإستغراق في معرفة الحق فلما طال الكلام في تقرير الأحكام والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والكبرياء والجلال وذكر الأدعية فختم بهذه الآيات بنحو ما فى سورة البقرة انتهى

وقوله سبحانه الذين يذكرون اللّه قياما وقعودا الذين في موضع خفض صفة لأولى الألباب وهذا وصف ظاهره استعمال التحميد والتهليل والتكبير ونحوه من ذكر اللّه وأن يحضر القلب اللسان وذلك من أعظم وجوه العبادات والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة وابن آدم متنقل في هذه الثلاث الهيئات لا يخلو في غالب أمره منها فكأنها تحصر زمنه وكذلك جرت عائشة رضي اللّه عنها إلى حصر الزمن في قولها كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكر اللّه على كل أحيانه قلت خرجه أبو داود فدخل في

ذلك كونه على الخلاء وغيره وذهب جماعة إلى أن

قوله تعالى الذين يذكرون اللّه إنما هو عبارة عن الصلاة أي لا يضيعونها ففي حال العذر يصلونها قعودا وعلى جنوبهم ثم عطف على هذه العبادة التي هي ذكر اللّه باللسان  الصلاة فرضها وندبها بعبادة أخرى عظيمة وهي الفكرة في قدرة اللّه تعالى ومخلوقاته والعبر التي بث ... وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد ...

قال الغزالي ونهاية ثمرة الدين في الدنيا تحصيل معرفة اللّه وتحصيل الإنس بذكر اللّه تعالى والإنس يحصل بدوام الذكر والمعرفة تحصل بدوام الفكر انتهى من الأحياء ومر النبي صلى اللّه عليه وسلم على قوم يتفكرون في اللّه فقال تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره قال ع وهذا هو قصد الآية في قوله ويتفكرون في خلق السموات والأرض وقال بعض العلماء المتفكر في ذات اللّه كالناظر في عين الشمس لأنه سبحانه ليس كمثله شيء وإنما التفكر وانبساط الذهن في المخلوقات وفي أحوال الآخرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا عبادة كتفكر وقال ابن عباس وأبو الدرداء فكرة ساعة خير من قيام ليلة وقال سري السقطي فكرة ساعة خير من عبادة سنة ما هو إلا أن تحل أطناب خيمتك فتجعلها في الآخرة وقال الحسن بن أبي الحسن الفكرة مرءاة المؤمن ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته وأخذ أبو سليمان الداراني قدح الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح أقام كذلك مفكرا حتى طلع الفجرفقال له ما هذا يا أبا سليمان فقال إني لما طرحت إصبعي في أذن القدح تذكرت قول اللّه سبحانه إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل فتفكرت في حالي وكيف أتلقى الغل أن طرح في عنقي يوم القيامة فما زلت في ذلك حتى أصبح قال ع وهذه نهاية الخوف وخير الأمور أوسطها وليس علماء

الأمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج وقراءة علم كتاب اللّه ومعاني سنة رسوله لمن يفهم ويرجى نفعه أفضل من هذا لكن يحسن أن لا تخلوا البلاد من مثل هذا قال ع وحدثني أبي رحمه اللّه عن بعض علماء المشرق قال كنت بائتا في مسجد الأقدام بمصر فصليت العتمة فرأيت رجلا قد أضطجع في كساء له حتى أصبح وصلينا نحن تلك الليلة وسهرنا فلماأقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة وصلى مع الناس فاستعظمت جرءته في الصلاة بغير وضوء فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لأعظمه فلما دنوت منه سمعته وهو ينشد ... منسجن الجسم غائب حاضر ... منتبه القلب صامت ذاكر ...

... منبسط في الغيوب منقبض ... كذاك من كان عارفا ناكر ... يبيت في ليلة أخا فكر ... فهو مدى الليل نائم ساهر ...

قال فعلمت أنه ممن يعبد اللّه بالفكرة فانصرفت عنه قال الفخر ودلت الآية على أن أعلى مراتب الصديقين التفكر انتهى وفي العتبية قال مالك قيل لأم الدرداء ماكان أكثر شأن أبي الدرداء قالت كان أكثر شأنه التفكر قال مالك وهو من الأعمال وهو اليقين

قال اللّه عز و جل ويتفكرون في خلق السموات والأرض قال ابن رشد والتفكر من الأعمال كما قاله مالك رحمه اللّه وهو من أشرف الأعمال لأنه من أعمال القلوب التي هي أشرف الجوارح ألا ترى انه لا يثاب أحد على عمل من أعمال الجوارح من سائر الطاعات إلا مع مشاركة القلوب لها بإخلاص النية للّه عز و جل في فعلها انتهى من البيان والتحصيل قال ابن بطال أن الإنسان إذا كمل إيمانه وكثر تفكره كان الغالب عليه الإشفاق والخوف انتهى قال ابن عطاء اللّه الفكرة سير القلب في ميادين الإعتبار والفكر سراج القلب فإذا ذهبت فلا إضاءة له قلت قال بعض المحققين

وذلك أن الإنسان إذا تفكر علم وإذا علم عمل قال ابن عباد قال الإمام أبو القاسم القشيري رحمه اللّه التفكر نعت كل طالب وثمرته الوصول بشرط العلم ثم فكر الزاهدين في فناء الدنيا وقلة وفائها لطلابها فيزدادون بالفكر زهدا وفكر العابدين في جميل الثواب فيزدادون نشاطا عليه ورغبة فيه وفكر العارفين في الآلاء والنعماء فيزدادون محبة للحق سبحانه انتهى

وقوله تعالى ربنا ماخلقت هذا باطلا أي يقولون يا ربنا على النداء ما خلقت هذا باطلا يريد لغير غاية منصوبة بل خلقته وخلقت البشر لينظروا فيه فيوحدوك ويعبدوك فمن فعل ذلك نعمته ومن ضل عن ذلك عذبته وقولهم سبحانك أي تنزيها لك عما يقول المبطلون وقولهم ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته أي فلا تفعل ذلك بنا والخزي الفضيحة المخجلة الهادمة لقدر المرء قال أنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وابن جريج وغيرهم هذه إشارة إلى من يخلد في النار وأما من يخرج منها بالشفاعة والإيمان فليس بمخزي أي وما أصابه من عذابها إنما هو تمحيص لذنوبه

وقوله سبحانه وما للظالمين من أنصار هو من قول الداعين

١٩٣

وقوله سبحانه ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان الآية حكاية عن أولى الألباب قال أبو الدرداء يرحم اللّه المؤمنين ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجيب لهم قال ابن جريج وغيره المنادى صلى اللّه عليه وسلم وقال محمد بن كعب القرظي المنادى كتاب اللّه وليس كلهم رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم - وسمعه وقولهم ما وعدتنا على رسلك معناه على ألسنة رسلك وقولهم ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف المعياد إشارة إلى

قوله تعالى يوم لا يخزي اللّه النبيء والذين ءامنوا معه فهذا وعده تعالى وهو دال على أن الخزي إنما هو مع الخلود قال ص قال أبو البقاء الميعاد مصدر بمعنى الوعد اه

وقوله سبحانه فاستجاب لهم ربهم اني لا أضيع

عمل عامل منكم من ذكر  أنثى الآية استجاب بمعنى أجاب روي أن أم سلمة رضي اللّه عنها قالت يا رسول اللّه قد ذكر اللّه تعالى الرجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك فنزلت الآية وهي آية وعد من اللّه أي هذا فعله سبحانه مع الذين يتصفون بما ذكر قال الفخر روي عن جعفر الصادق أنه قال من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه اللّه مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الآية قال لأن اللّه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا ربنا خمس مرات ثم أخبر أنه استجاب لهم انتهى

وقوله تعالى بعضكم من بعض يعني في الأجر وتقبل الأعمال أي أن الرجال والنساء في ذلك على حد واحد قال الفخر

قوله سبحانه بعضكم من بعض أي شبه بعض  مثل بعض والمعنى أنه لا تفاوت في الثواب بين الذكر والأنثى إذا استووا في الطاعة وهذا يدل على أن الفضل في باب الدين إنما هو بالأعمال لا بسر صفات العاملين لأن كونهم ذكرا  أنثى  من نسب خسيس  شريف لا تأثير له في هذا الباب انتهى وبين سبحانه حال المهاجرين ثم الآية بعد تنسحب على كل من أوذي في اللّه وهاجر أيضا إلى اللّه إلى يوم القيامة

وقوله سبحانه وأخرجوا من ديارهم عبارة فيها إلزام الذنب للكفار واللام في قوله لاكفرن لام القسم وثوابا مصدر مؤكد وباقي الآية بين

وقوله سبحانه لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاء الآية نزلت لا يغرنك في هذه الآية منزلة لا تظن أن حال الكفار حسنة والخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم والمراد أمته والتقلب التصرف في التجارات والأرباح والحروب وسائر الآمال

وقوله نزلا معناه تكرمة

١٩٤

وقوله تعالى وما عند اللّه خير للأبرار يحتمل أن يريد خير مما هؤلاء فيه من التقلب والتنعم ويحتمل أن يريد خير مما هم فيه في الدنيا وفي الحديث عنه صلى اللّه عليه و سلم الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر

قال القاضي ابن الطيب هذا بالإضافة إلى ما يصير إليه كل واحد منهما في الآخرة

وقيل المعنى أنها سجن المؤمن لأنها موضع تعبه في الطاعة

١٩٩

وقوله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن باللّه وما أنزل اليكم وما أنزل إليهم خاشعين للّه قال جابر بن عبد اللّه وغيره هذه الآية نزلت بسبب أصحمة النجاشي سلطان الحبشة آمن باللّه وبمحمد عليه السلام واصحمة تفسيره بالعربية عطية قاله سفيان وغيره وقال قوم نزلت في عبد اللّه بن سلام وقال ابن زيد ومجاهد نزلت في جميع من آمن من أهل الكتاب

وقوله سبحانه لا يشترون بآيات اللّه ثمنا قليلا مدح لهم وذم لسائر كفار أهل الكتاب لتبديلهم وإيثارهم مكاسب الدنيا على آخرتهم وعلى آيات اللّه سبحانه ثم ختم اللّه سبحانه السورة بهذه الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء والفوز بنعيم الآخرة فحض سبحانه على الصبر على الطاعات وعن الشهوات وأمر بالمصابرة فقيل معناه مصابرة الأعداء قاله زيد بن أسلم

وقيل معناه مصابرة وعد اللّه في النصر قاله محمد بن كعب القرظي أي لا تسأموا وانتظروا الفرج وقد قال صلى اللّه عليه و سلم انتظار الفرج بالصبر عبادة قال الفخر والمصابرة عبارة عن تحمل المكاره الواقعة بين الإنسان وبين الغير انتهى

وقوله ورابطوا معناه عند الجمهور رابطوا أعداءكم الخيل أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم قلت

وروى مسلم في صحيحه عن سلمان قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان وخرج الترمذي عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل اللّه فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وخرجه أبو داود

بمعناه وقال ويؤمن من فتاني القبر وخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من مات مرابطا في سبيل اللّه أجرى اللّه عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان ويبعثه اللّه آمنا من الفزع

وروي مسلم والبخاري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال رباط يوم في سبيل اللّه خير من الدنيا وما فيها انتهى وجاء في فضل الرباط أحاديث كثيرة يطول ذكرها قال صاحب التذكرة

وروى أبي بن كعب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لرباط في سبيل اللّه من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان أعظم أجرا من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ورباط يوم في رمضان أفضل عند اللّه وأعظم أجرا أراه قال من عبادة ألفي سنة صيامها وقيامها الحديث ذكره القرطبي مسندا انتهى والرباط هو الملازمة في سبيل اللّه أصلها من ربط الخيل ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا فارسا كان  راجلا واللفظة مأخوذة من الربط قلت قال الشيخ زين الدين العراقي في اختصاره لغريب القرآن لأبي حيان معنى رابطوا دوموا واثبتوا ومتى ذكرت العراقي فمرادى هذا الشيخ انتهى

وروى ابن المبارك في رقائقه أن هذه الآية اصبروا وصابروا ورابطوا إنما نزلت في انتظار الصلاة خلف الصلاة قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن قال ولم يكن يومئذ عدو يرابط فيه انتهى

٢٠٠

وقوله سبحانه لعلكم تفلحون ترج في حق البشر والحمد للّه حق حمده

﴿ ٠