٤٤

وقوله تعالى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك الآية هذه المخاطبة لنبينا صلى اللّه عليه وسلم والإشارة بذلك إلى ما تقدم ذكره من القصص والأنباء الأخبار

والغيب ما غاب عن مدارك الإنسان ونوحيه معناه نلقيه في نفسك في خفاء وحد الوحي القاء المعنى في النفس في خفاء فمنه بالملك ومنه بالالهام ومنه بالإشارة ومنه بالكتاب وفي هذه الآية بيان لنبوءة نبينا صلى اللّه عليه وسلم إذ جاءهم بغيوب لا يعلمها إلا من شاهدها وهو مل يكن لديهم  من قرأها في كتبهم وهو صلى اللّه عليه و سلم أمي من قوم أميين  من أعلمه اللّه بها وهو ذاك صلى اللّه عليه و سلم ولديهم معناه عندهم ومعهم

وقوله إذ يلقون أقلامهم الآية جمهور العلماء على أنه استهام لأخذها والمنافسة فيها فروي أنهم ألقوا اقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة في النهر فروي أن قلم زكريا صاعد الجرية ومضت أقلام الآخرين

وقيل غير هذا قلت ولفظ ابن العربي في الأحكام قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لى اللّه ليعه وسلم فجرت الأقلام وعلا قلم زكريا أ ه وإذا ثبت الحديث فلا نظر لأحد معه ويختصمون معناه يتراجعون القول الجهير في أمرها وفي هذه الآية استعمال القرعة والقرعة سنة وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا سافر أقرع بين نسائه وقال صلى اللّه عليه و سلم لو يعلمون ما في الصف الأول لاستهموا عليه

واختلف أيضا هل الملائكة هنا عبارة عن جبريل وحده  عن جماعة من الملائكة ووجيها نصب على الحال وهو من الوجه أي له وجه ومنزلة عند اللّه وقال البخاري وجيها شريفا أ ه ومن المقربين معناه من اللّه تعالى وكلامه في المهد أية دالة على براءة أمه وأخبر تعالى عنه أنه أيضا يكلم الناس كهلا وفائدة ذلك أنه إخبار لها بحياته إلى سن الكهولة قال جمهور الناس الكهل الذي بلغ سن الكهولة وقال مجاهد الكهل الحليم قال ع وهذا تفسير للكهولة بعرض مصاحب لها في الأغلب

واختلف الناس في حد الكهولة فقيل الكهل ابن أربعين

وقيل ابن خمسة وثلاثين

وقيل ابن ثلاثة وثلاثين

وقيل ابن اثنين وثلاثين هذا حد أولها وأما آخرها فاثنان

وخمسون ثم يدخل سن الشيخوخة وقول مريم أنى يكون لي ولد استفهام عن جهة حملها واسغراب للحمل على بكارتها ويمسس معناه يطأ ويجامع ص والبشر يطلق على الواحد والجمع أ ه والكلام في قوله كذلك كالكلام في أمر زكريا وجاءت العبارة في أمر زكريا يفعل وجاءت هنا يخلق من حيث أن أمر زكريا داخل في الإمكان الذي يتعارف وأن قل وقصة مريم لا تتعارف البتة فلفظ الخلق أقرب إلى الاختراع وأدل عليه

وقوله تعالى إذا قضى أمرا معناه إذا أراد ايجاده والأمر واحد الأمور وهو مصدر رسمي به والضمير في له عائد على الأمر والقول على جهة المخاطبة

وقوله كن خطاب للمقضى

وقوله فيكون بالرفع خطاب للمخبر

وقوله تعالى ويعلمه الكتاب الآية الكتاب هنا هو الخط باليد وهو مصدر كتب يكتب قاله جمهور المفسرين

وقوله ورسولا إلى بني إسرائيل أي ويجعله رسولا وكانت رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل مبينا حكم التوراة ونابا إلى العمل بها ومحللا أشياء مما حرم فيها كالثروب ولحوم الإبل وأشياء من الحيتان والطير ومن أول القول لمريم إلى قوله إسرائيل خطاب لمريم ومن قوله أنى قد جئتكم إلى قوله مستقيم يحتمل أن يكون خطابا لمريم على معنى يكون من قوله لبني إسرائيل كيت وكيت ويكون في آخر الكلام محذوف يدل عليه الظاهر تقديره فجاء عيسى بني إسرائيل رسولا فقال لهم ما تقدم ذكره ويحتمل أن يكون المحذوف مقدرا ف يصدر الكلام بعد قوله إلى بني إسرائيل فيكون تقديره فجاء عيسى كما بشر اللّه رسولا إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم ويكون قوله أني قد جئتكم ليس بخطاب لمريم والأول أظهر

وقوله أنى أخلق لكم من الطين الآية قرأ نافع أنى أخلق بكسر الهمزة وقرأ باقي السبعة بفتحها فوجه قراءة نافع أما القطع والاستيناف وأما أنه فسر الآية بقوله أنى كما فسر المثل في قوله كمثل آدم ووجه

قراءة الباقين البدل من أية كأنه قال وجئتكم بأني أخلق وأخلق معناه أقدر وأهيء بيدي ص كهيئة الهيئة الشكل والصورة وهو مصدر هاء الشيء يهيىء هيئة وهيأ إذا ترتب واستقر على حال ما وتعديه بالتضعيف

قال تعالى ويهيىء لكم من أمركم مرفقا أ ه وقرأ نافع وحده فيكون طائرا بالإفراد أي يكون طائرا من الطيور وقرأ الباقون فيكون طيرا بالجمع وكذلك في سورة المائدة والطير اسم جمع وليس من أبنية الجموع وإنما البناء في جمع طائر أطيار وجمع الجمع طيور

وقوله فانفخ فبه ذكر الضمير لأنه يحتمل أن يعود على الطين المهيء ويحتمل ان يريد فانفخ في المذكور وأنث الضمير في سورة المائدة لأنه يحتمل أن يعود على الهيئة  على تأنيث لفظ الجماعة وكون عيسى يخلق بيده وينفخ بفيه إنما هو ليبين تلبسه بالمعجزة وأنها جاءت من قبله وأما الإيجاد من العدم وخلق الحياة في ذلك الطين فمن اللّه تعالى وحده لا شريك له

وروي في قصص هذه الآية أن عيسى عليه السلام كان يقول لبني إسرائيل أي الطير أشد خلقة وأصعب أن يحكى فيقولون الخفاش لأنه طائر لا ريش له فكان يصنع من الطين خفافيش ثم ينفخ فيها فتطير وكل ذلك بحضرة الناس ومعاينتهم فكانوا يقولون هذا ساحر وابرىء معناه أزيل المرض والأكمه هو الذي يولد أعمى مضموم العينين قاله ابن عباس وقتادة قال ع والأكمه في اللغة هو الأعمى وقد كان عيسى عليه السلام يبريء بدعائه ومسح يده على كل عاهة ولكن الاحتجاج على بني إسرائيل في معنى النبوءة لا يقوم إلا بالابراء من العلل التي لا يبرىء منها طبيب بوجه

وروي في أحيائه الموتى أنه كان يضرب بعصاه الميت  القبر  الجمجمة فيحيى الإنسان ويكلمه بإذن اللّه وفي قصص الإحياء أحاديث كثيرة لا يوقف على صحتها وآيات عيسى عليه السلام إنما تجري فيما

يعارض الطب لأن علم الطب كان شرف الناس في ذلك الزمان وشغلهم وحينئذ أثيرت فيه العجائب فلما جاء عيسى عليه السلام بغرائب لا تقتضيها الأمزجة وأصول الطب وذلك إحياء الموتى وإبراء الاكمه والأبرص علمت الأطباء أن هذه القوة من عند اللّه وهذا كأمر السحرة مع موسى والفصحاء مع نبينا صلى اللّه عليه وسلم ووقع في التواريخ المترجمة عن الأطباء أن جالينوس كان في زمن عيسى عليه السلام وأنه رحل إليه من رومية إلى الشام فمات في طريقه ذلك

﴿ ٤٤