سورة المائدةهذه السورة مدنية بإجماع بسم اللّه الرحمن الرحيم ١قوله تعالى يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود الآية عامة في الوفاء بالعقود وهي الربوط في القول كان ذلك في تعاهد على بر في عقدة نكاح بيع غيره فمعنى الآية أمر جميع المؤمنين بالوفاء على عقد جار على رسم الشريعة وفسر بعض الناس لفظ العقود بالعهود وقال ابن شهاب قرأت كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي كتب عمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره هذا بيان من اللّه ورسوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود فكتب الآيات إلى قوله أن اللّه سريع الحساب قال ع وأصوب ما يقال في هذه الآية أن تعمم الفاظها بغاية ما تتناول فيعمم لفظ المؤمنين في مؤمنى أهل الكتاب وفي كل مظهر للإيمان وأن لم يبطنه وفي المؤمنين حقيقة ويعمم لفظ العقود في كل ربط بقول موافق للحق والشرع وقوله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام اختلف في معنى بهيمة الأنعام فقال قتادة وغيره هي الأنعام فقال قتادة وغيره هي الأنعام كلها ع وكأنه قال أحلت لكم الأنعام وقال الطبري قال قوم بهيمة الأنعام وحشها وهذا قول حسن وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج وانضاف اليها من سائر الحيوان ما يقال له أنعام بمجموعه معها والبهيمة في كلام العرب ما ابهم من جهة نقص النطق والفهم وقوله إلا ما يتلى عليكم استثناء ما تلي في قوله تعالى حرمت عليكم الميتة الآية وما في موضع نصب على أصل الاستثناء وقوله سبحانه غير محلى الصيد نصب غير على الحال من الكاف والميم في قوله أحلت لكم وهو استثناء بعد استثناء قال ص وهذا هو قول الجمهور واعترض بأنه يلزم منه تقييد الحلية بحالة كونهم غير محلين الصيد وهم حرم والحلية ثابتة مطلقة قال ص والجواب عندي عن هذا أن المفهوم هنا متروك لدليل خارجي وكثير في القرءان وغيره من المفهومات المتروكة لمعارض ثم ذكر ما نقله أبو حيان من الوجوه التي لم يرتضها م وما فيها من التكلف ثم قال ولا شك أن ما ذكره الجمهور من أن غير حال وأن لزم عنه الترك بالمفهوم فهو أولى من تخريج تنبو عنه الفهوم انتهى وقوله سبحانه أن اللّه يحكم ما يريد تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام الجاهلية أي فأنت أيها السامع لنسخ تلك التي عهدت تنبه فإن اللّه الذي هو مالك الكل يحكم ما يريد لا معقب لحكمه سبحانه قال ع وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة الفاظها لكل ذي بصر بالكلام ولمن عنده ادنى أبصار وقد حكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا للكندي أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرءان فقال نعم اعمل لكم مثل بعضه فأحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال واللّه ما أقدر عليه ولا يطيق هذا أحد أني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء ونهى عن النكث وحلل تحليلا عاما ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يستطيع أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد ٢وقوله سبحانه يا أيها الذين أمنوا لا تحلوا شعائر اللّه خطاب للمؤمنين حقا أن لا يتعدوا حدود اللّه في أمر من الأمور قال عطاء بن أبي رباح شعائر اللّه جميع ما أمر به سبحانه نهى عنه وهذا قول راجح فالشعائر جمع شعيرة أي قد اشعر اللّه أنها حده وطاعته فهي بمعنى معالم اللّه وقوله تعالى ولا الشهر الحرام أي لا تحلوه بقتال ولا غارة والأظهر أن الشهر الحرام أريد به رجب ليشتد أمره وهو شهر كان تحريمه مختصا بقريش وكانت تعظمه ويحتمل أنه أريد به الجنس في جميع الأشهر الحرم وقوله سبحانه ولا الهدي أي لا يستحل ولا يغار عليه ثم ذكر المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد هذا معنى كلام ابن عباس وقال الجمهور الهدي عام في أنواع ما يهدى قربة والقلائد ما كان الناس يتقلدونه من لحاء السمر وغيره امنة لهم وقال ص ولا القلائد أي ولا ذوات القلائد وقيل بل المراد القلائد نفسها مبالغة في النهي عن التعرض للّهدي انتهى وقوله تعالى ولا ءامين البيت الحرام أي قاصدينه من الكفار المعنى لا تحلوهم فتغيرون عليهم وهذا منسوخ بآية السيف بقوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجتموهم فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج فهو محكم وكل ما كان منها في الكفار فهو منسوخ وقوله سبحانه يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا قال فيه جمهور المفسرين معناه يبتغون الفضل من الأرباح في التجارة ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم وهذه الآية نزلت عام الفتح وفيها استيلاف من اللّه سبحانه للعرب ولطف بهم لتنبسط النفوس بتداخل الناس ويردون الموسم فيسمعون القرآن ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عليهم الحجة كالذي كان ثم نسخ اللّه ذلك كله بعد عام في سنة تسع إذ حج أبو بكر رضي اللّه عنه ونودي في الناس بسورة براءة وقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا مجيء إباحة الصيد عقب التشديد فيه حسن في فصاحة القول وقوله سبحانه فاصطادوا أمر ومعناه الإباحة بإجماع وقوله تعالى ولا يجرمنكم معناه لا يكسبنكم وجرم الرجل معناه كسب وقال ابن عباس معناه لا يحملنكم والمعنى متقارب والتفسير الذي يخص اللفظة هو معنى الكسب وقوله تعالى شنئان قوم الشنئان هو البغض فأما من قرا شنئان بفتح النون فالأظهر فيه أنه مصدر كأنه قال لا يكسبنكم بغض قوم من أجل أن صدوكم عدوانا عليهم وظلما لهم وهذه الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان حين أراد المسلمون أن يستطيلوا علىقريش والفافها المتظاهرين على صد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية وذلك سنة ست من الهجرة فحصلت بذلك بغضة في قلوب المؤمنين وحيكة للكفار فنهي المؤمنون عن مكافأتهم وإذ للّه فيهم إرادة خير وفي علمه أن منهم من يؤمن كالذي كان وقرأ أبو عمرو وابن كثير إن صدوكم ومعناه إن وقع مثل ذلك في المستقبل وقراءة الجمهور أمكن ثم أمر سبحانه الجميع بالتعاون على البر والتقوى قال قوم هما لفظان بمعنى وفي هذا تسامح والعرف في دلالة هذين أن البر يتناول الواجب والمندوب والتقوى رعاية الواجب فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز قلت قال أحمد بن نصر الداودي قال ابن عباس البر ما أمرت به والتقوى ما نهيت عنه انتهى وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن لفظ التقوى يطلق على معان وقد بيناها في آخر سورة النور وفي الحديث الصحيح واللّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه قال ابن الفاكهاني عند شرحه لهذا الحديث وقد روينا في بعض الأحاديث من سعى في حاجة أخيه المسلم قضيت له لم تقض غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وكتب له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق انتهى من شرح الأربعين حديثا ثم نهى تعالى عن التعاون على الإثم والعدوان ثم أمر بالتقوى وتوعد توعدا مجملا قال النووي وعن وابصة بن معبد أنه أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال جئت تسأل عن البر والإثم قال نعم فقال استفت قلبك البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك حديث حسن رويناه في مسند أحمد يعني أبن حنبل والدارمي وغيرهما وفي صحيح مسلم عن النواس ابن سمعان عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال البر حسن الخلق والإثم ماحاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس انتهى ٣وقوله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم الآية تعديد لما يتلى على الأمة مما استثني من بهيمة الأنعام والدم معناه المسفوح ولحم الخنزير مقتض لشحمه بإجماع وما أهل لغير اللّه به قد تقدم والمنخنقة معناه التي تموت خنقا والموقوذة التي ترمى تضرب بعصا وشبهها والمتردية هي التي تتردى من علو إلى سفل تموت والنطيحة فعيله بمعنى مفعولة وما أكل السبع يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان وكانت العرب تأكل هذه المذكورات ولم تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحو ذلك واختلف العلماء في قوله تعالى إلا ما ذكيتم فقال ابن عباس وجمهور العلماء الاستثناء من هذه المذكورات فما أدرك منها يطرف بعين يحرك ذنبا وبالجملة ما يتحقق أنه لم تفض نفسه بل له حياة فإنه يذكى على سنة الذكاة ويؤكل وما فاضت نفسه فهو الميتة وقال مالك مرة بهذا القول وقال أيضا وهو المشهور عنه وعن أصحابه من أهل المدينة أن قوله تعالى إلا ما ذكيتم معناه من هذه المذكورات في وقت تصح فيه ذكاتها وهو ما لم تنفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ومتى صارت في هذا الحد فهي في حكم الميتة فالاستثناء عند مالك متصل كقول الجمهور لكنه يخالف في الحال التي يصح فيها ذكاة هذه المذكورات واحتج لمالك بأن هذه المذكورات لو كانت لا تحرم إلا بموتها لكان ذكر الميتة أولا يغنى عنها ومن حجة المخالف أن قال إنما ذكرت بسبب أن العرب كانت تعتقد أن هذه الحوادث كالذكاة فلو لم يذكر لها غير الميتة لظنت أنها ميتة الوجع حسبما كانت عليه والذكاة في كلام العرب الذبح وقوله سبحانه وما ذبح على النصب عطف على المحرمات المذكورة والنصب حجارة تنصب يذبحون عليها قال ابن جريج وليست النصب بأصنام فإن الصنم يصور وينقش وهذه حجارة تنصب وكانت العرب تعبدها قال ابن زيد ما ذبح على النصب وما أهل لغير اللّه به شيء واحد قال ع ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير اللّه لكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة أمره وقوله سبحانه وأن تستقسموا بالأزلام حرم سبحانه طلب القسم وهو النصيب القسم بفتح القاف وهو المصدر بالأزلام وهي سهام قال صاحب سلاح المؤمن والاستقسام هو الضرب بها لإخراج ما قسم لهم وتمييزه بزعمهم انتهى وأزلام العرب على أنواع منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه على أحدها أفعل وعلى الآخرة لا تفعل وثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه فإذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج أحدها وائتمر له وانتهى بحسب ما يخرج له وإن خرج القدح الذي لا شيء فيه أعاد الضرب وقوله سبحانه ذلكم فسق إشارة إلى الاستقسام بالأزلام وقوله تعالى اليوم يئس الذين كفروا من دينكم معناه عند ابن عباس وغيره من أن ترجعوا إلى دينهم وظاهر أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم وأمر أصحابه وظهور الدين يقتضي أن يأس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه لأن هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون وظنها هزيمة إلا بطل السحر اليوم إلى غير هذا من الأمثلة وهذه الآية في قول الجمهور عمر بن الخطاب وغيره نزلت في عشية يوم عرفة يوم الجمعة وفي ذلك اليوم امحى أمر الشرك من مشاعر الحج ولم يحضر من المشركين الموسم بشر فيحتمل قوله تعالى اليوم أن تكون إشارة إلى اليوم بعينه ويحتمل أن تكون إشارة إلى الزمن والوقت أي هذا الاوان يئس الكفار من دينكم وقوله الذين كفروا يعم سائر الكفار من العرب وغيرهم وهذا يقوي أن اليأس إنما هو من انحلال أمر الإسلام وأمر سبحانه بخشيتها التي هي رأس كل عبادة كما قال صلى اللّه عليه و سلم ومفتاح كل خير وقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم تحتمل الإشارة باليوم ما قد ذكرناه حكى الطبري أن النبي عليه السلام لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة والظاهر أنه عاش صلى اللّه عليه و سلم أكثر بأيام يسيرة قلت وفي سماع ابن القاسم قال مالك بلغني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في اليوم الذي توفي فيه وقف على بابه فقال إني لا أحل إلا ما أحل اللّه في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم اللّه في كتابه يا فاطمة بنت رسول اللّه ويا صفية عمة رسول اللّه أعملا لما عند اللّه فإني لا أغني عنكما من اللّه شيئا قال ابن رشد هذا حديث يدل على صحته قول اللّه عز و جل ما فرطنا في الكتاب من شيء وقال تعالى تبيانا لكل شيء فالمعنى في ذلك أن اللّه عز و جل نص على بعض الأحكام وأجمل القول في بعضها وأحال على الأدلة في سائرها بقوله ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم فبين النبي صلى اللّه عليه وسلم ما أجمله اللّه في كتابه كما أمره حيث يقول لتبين للناس ما نزل إليهم فما أحل صلى اللّه عليه و سلم حرم ولم يوجد في القرآن نصا فهو مما بين من مجمل القرآن علمه بما نصب من الأدلة فيه فهذا معنى الحديث واللّه أعلم فما ينطق صلى اللّه عليه و سلم عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى انتهى من البيان والتحصيل وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب قال له يهودي آية في كتابكم تقرءونها لو علينا نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا فقال له عمر أي آية هي فقال اليوم أكملت لكم دينكم فقال له عمر قد علمنا ذلك اليوم نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو واقف بعرفة يوم الجمعة قال ع ففي ذلك اليوم عيدان للإسلام إلى يوم القيامة وإتمام النعمة هو في ظهور الإسلام ونور العقائد وكمال الدين وسعة الأحوال وغير ذلك مما اشتملت عليه هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة والخلود في رحمة اللّه سبحانه جعلنا اللّه ممن شملته هذه النعمة وقوله سبحانه ورضيت لكم الإسلام دينا يحتمل الرضى في هذا الموضع أن يكون بمعنى الإرادة ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار اللّه إياه لأن الرضى من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال واللّه تعالى قد أراد لنا الإسلام ورضيه لنا وثم أشياء يريد اللّه وقوعها ولا يرضاها وقوله سبحانه فمن اضطر في مخمصة يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر تلك المحرمات وسئل صلى اللّه عليه و سلم متى تحل الميتة للناس فقال إذا لم يصطبحوا ولم يغتبقوا ولم يحتفئوا بقلا والمخمصة المجاعة التي تخمص فيها البطون أي تضمر وقوله سبحانه غر متجانف لإثم هو بمعنى غير باغ ولا عاد وقد تقدم تفسيره قال ص متجانف أي مائل منحرف انتهى وقد تقدم في البقرة ٤وقوله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم سبب نزولها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب سأله عاصم ابن عدي وغيره ماذا يحل لنا من هذه الكلاب قال ع وظاهر الآية أن سائلا سأل عما يحل للناس من المطاعم لأن قوله تعالى قل أحل لكم من الطيبات ليس بجواب عما يحل للناس اتخاذه من الكلاب إلا أن يكون من باب إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه وهو موجود كثيرا من النبي صلى اللّه عليه وسلم والطيب الحلال وقوله سبحانه وما علمتم أي وصيد ما علمتم قال الضحاك وغيره وما علمتم من الجوارح مكلبين هي الكلاب خاصة قال العراقي في مكلبين أصحاب اكلب لها معلمين انتهى وأعلى مراتب التعليم أن يشلى الحيوان فينشلي ويدعى فيجيب ويزجر بعد ظفره بالصيد فينزجر وجوارح جمع جارح أي كاسب يقال جرح فلان واجترح إذا اكتسب ومنه قوله تعالى ويعلم ما جرحتم بالنهار أي ما كسبتم من حسنة وسيئة قال ع وقرا جمهور الناس وما علمتم بفتح العين واللام وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية علمتم بضم العين وكسر اللام أي من أمر الجوارح والصيد بها وقرأ جمهور الناس مكلبين بفتح الكاف وشد اللام والمكلب معلم الكلاب ومضريها ويقال لمن يعلم غير كلب مكلب لأنه يرد ذلك الحيوان كالكلب وقوله سبحانه تعلمونهن مما علمكم اللّه أي تعلمونهن الحيلة في الاصطياد والتأتي لتحصيل الحيوان وهذا جزء مما علمه اللّه الإنسان فمن للتبعيض وقوله تعالى فكلوا مما امسكن عليكم ويحتمل مما امسكن فلم يأكلن منه شيئا ويحتمل مما أمسكن وإن أكلن منه وبحسب هذا الاحتمال اختلف العلماء في جواز أكل الصيد إذا أكل منه الجارح وقوله سبحانه واذكروا اسم اللّه عليه أمر بالتسمية عند الإرسال وذهب مالك وجمهور العلماء أن التسمية واجبة مع الذكر ساقطة مع النسيان فمن تركها عامدا فقد أفسد الذبيحة والصيد ومن تركها ناسيا سمي عند الأكل وكانت الذبيحة جائزة وفقه الصيد والذبح في معنى التسمية واحد ثم أمر سبحانه بالتقوى على الجملة والإشارة إلى ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر والنواهي وفي قوله إن اللّه سريع الحساب وعيد وتحذير ٥وقوله سبحانه اليوم أحل لكم الطيبات إشارة إلى الزمن والأوان والخطاب للمؤمنين وقوله سبحانه وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم الطعام في هذه الآية الذبائح كذا قال أهل التفسير واختلفوا في لفظة طعام فقال الجمهور هي الذبيحة كلها وقالت جماعة إنما أحل لنا طعامهم من الذبيحة أي الحلال لهم منها لا مالا يحل لهم كالطريف والشحوم المحضة واختلف في لفظة أوتوا الكتاب فقالت طائفة إنما أحل لنا ذبائح الصرحاء منهم لا من كان دخيلا في هذين الدينين وقال جمهور الأمة ابن عباس والحسن ومالك وغيرهم أن ذبيحة كل نصراني حلال كان من بني تغلب غيرهم وكذلك اليهود وتأولوا قول اللّه تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم وقوله سبحانه وطعامكم حل لهم أي ذبائحكم فهذه رخصة للمسلمين لا لأهل الكتاب لما كان الأمر يقتضي أن شيئا قد تشرعنا فيه بالتذكية ينبغي لنا أن نحميه منهم رخص اللّه تعالى لنا في ذلك دفعا للمشقة بحسب التجاوز وقوله سبحانه والمحصنات عطف على الطعام المحلل ذهب جماعة منهم مالك إلى أن المحصنات في هذه الآية الحرائر فمنعوا نكاح الأمة الكتابية وذهب جماعة إلى انهن العفائف فأجازوا نكاح الأمة الكتابية والأجور في الآية المهور وانتزع بعض العلماء من لفظ ءاتيتموهن أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل من المهر ما يستحلها به ومحصنين معناه متزوجين على السنة وقوله سبحانه ومن يكفر بالإيمان أي بالأمور التي يجب الإيمان بها وباقي الآية بين ٦وقوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية قال ابن العربي في أحكامه لا خلاف بين العلماء أن هذه الآية مدنية كما أنه لا خلاف أن الوضوء كان معقولا قبل نزولها غير متلو ولذلك قال علماؤنا أن الوضوء كان بمكة سنة ومعناه كان مفعولا بالسنة وقوله إذا قمتم معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة انتهى قال زيد بن أسلم والسدي معنى الآية إذا قمتم من المضاجع يعني النوم والقصد بهذا التأويل أن يعم الأحداث بالذكر وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير تقديره يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم جاء أحد منكم من الغائط لامستم النساء يعنى الملامسة الصغرى فاغسلوا وهنا تمت أحكام الحدث الأصغر ثم قال وإن كنتم جنبا فاطهروا فهذا حكم نوع أخر ثم قال للنوعين جميعا وإن كنتم مرضى على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك وغيره وقال جمهور أهل العلم معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محدثين وليس في الآية على هذا تقديم ولا تأخير بل ترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله فاطهروا ودخلت الملامسة الصغرى في قولنا محدثين ثم ذكر بعد ذلك بقوله وإن كنتم مرضى إلى أخر الآية حكم عادم الماء من النوعين جميعا وكانت الملامسة هي الجماع وقال ص إذا قمتم أي إذا اردتم وعبر بالقيام عن إرادته لأنه مسبب عنها انتهى ومن احسن الأحاديث واصحها في فضل الطهارة والصلاة ما رواه مالك في الموطأ عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إلا أخبركم بما يمحوا اللّه به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء عند المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط قال أبو عمر في التمهيد هذا الحديث من أحسن ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في فضائل الأعمال قال صاحب كتاب العين الرباط ملازمة الثغور قال والرباط مواظبة الصلاة أيضا انتهى والغسل في اللغة إيجاد الماء في المغسول مع امرار شيء عليه كاليد والوجه ما واجه الناظر وقابله والناس كلهم على أن داخل العينين لا يلزم غسله إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه واليد لغة تقع على العضو من المنكب إلى أطراف الأصابع وحد اللّه سبحانه موضع الغسل منه بقوله إلى المرافق واختلف العلماء هل تدخل المرافق في الغسل أم لا وتحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال إذا كان ما بعد إلى ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها وإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط يعطي أن الحد أخر المذكور بعدها ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل والروايتان عن مالك قال ابن العربي في أحكامه وقد روى الدار قطني وغيره عن جابر بن عبد اللّه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما توضأ أدار الماء على مرفقيه انتهى واختلف في رد اليدين في مسح الرأس هل هو فرض سنة بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض فالجمهور على أنه سنة وقيل هو فرض والإجماع على استحسان مسح الرأس باليدين جميعا وعلى الأجزاء بواحدة واختلف فيمن مسح بإصبع واحد والمشهور الأجزاء ويترجح عدم الأجزاء لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب إلا أن يكون ذلك عن ضرر مرض ونحوه فينبغي أن لا يختلف في الأجزاء والباء في قوله تعالى برءوسكم مؤكدة زائدة عند من يرى عموم الرأس والمعنى عنده وامسحوا رءوسكم وهي للإلصاق المحض عند من يرى أجزاء بعض الرأس كان المعنى أوجدوا مسحا برؤوسكم فمن مسح ولو شعرة فقد فعل ذلك ت قال ابن العربي في أحكامه وقد ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في صفة مسح الرأس أنه أقبل بيده وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه وفي البخاري فأدبر بهما وأقبل وهما صحيحان متوافقان وهي مسألة من أصول الفقه في تسمية الفعل بابتدائه بغايته انتهى وقرا حمزة وغيره وأرجلكم بالخفض وقرأ نافع وغيره بالنصب والعامل اغسلوا ومن قرأ بالخفض جعل العامل أقرب العاملين وجمهور الأمة من الصحابة والتابعين على أن الفرض في الرجلين الغسل وأن المسح لا يجزىء وفي الصحيح ويل للأعقاب من النار إذ رأى صلى اللّه عليه و سلم أعقابهم تلوح قال ابن العربي في القبس ومن قرأ وأرجلكم بالخفض فإنه أراد المسح على الخفين وهو أحد التأويلات في الآية انتهى وهذا هو الذي صححه في أحكامه والكلام في قوله إلى الكعبين كما تقدم في قوله إلى المرافق وفي صحيح مسلم وغيره عن عقبة بن عامر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلا عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة فقلت ما أجود هذه فقال عمر التي قبلها أجود قال ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء وأخرجه الترمذي من حديث أبي ادريس الخولاني عن عمر زاد في آخره اللّهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين انتهى مختصرا واختلف اللغويون في الكعبين والجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبتي الرجل وألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء قال مالك هو فرض مع الذكر ساقط مع النسيان وروى الدارقطني في سننه من توضأ فذكر اسم اللّه على وضوءه كان طهورا لجسده ومن توضأ ولم يذكر اسم اللّه على وضوءه كان طهورا لأعضائه انتهى من الكوكب الدري وكذلك تتضمن ألفاظ الآية الترتيب واطهروا أمر لواجد الماء عند الجمهور وقال عمر بن الخطاب وغيره لا يتيمم الجنب البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء وقوله سبحانه ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج الآية الإرادة صفة ذات وجاء الفعل مستقبلا مراعاة للحوادث التي تظهر عن الإرادة والحرج الضيق والحرجة الشجر الملتف المتضايق ويجرى مع معنى هذه الآية قول النبي صلى اللّه عليه وسلم دين اللّه يسر وقوله عليه السلام بعثت بالحنيفية السمحة وجاء لفظ الآية على العموم والشيء المذكور بقرب هوأمر التيمم والرخصة فيه وزوال الحرج في تحمل الماء ابدا ولذلك قال أسيد ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر وقوله سبحانه ولكن يريد ليظهركم الآية إعلام بما لا يوازي بشكر من عظيم تفضله تبارك وتعالى ولعلكم ترج في حق البشر وفي الحديث الصحيح عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الطهور شطر الإيمان والحمد للّه تملأ الميزان وسبحان اللّه والحمد للّه تملئان تملأ ما بين السماوات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها موبقها رواه مسلم والترمذي وفي رواية له التسبيح نصف الميزان والحمد للّه تملأه والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض والصوم نصف الصبر وزاد في رواية أخرى ولا إله إلا اللّه ليس لها دون اللّه حجاب حتى تخلص إليه انتهى ٧وقوله تعالى واذكروا نعمة اللّه عليكم وميثاقه الآية خطاب للمؤمنين ونعمة اللّه اسم جنس يجمع الإسلام وحسن الحال وحسن المئال والميثاق هو ما وقع للنبي صلى اللّه عليه وسلم في بيعة العقبة وبيعة الرضوان وكل موطن قال الناس فيه سمعنا وأطعنا هذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين وقال مجاهد المراد الميثاق المأخوذ على النسم حين استخرجوا من ظهر آدم عليه السلام والأول أرجح واليق بنمط الكلام وباقي الآية بين متكرر قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه بهجة المجالس روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال من وعده اللّه على عمل ثوابا فهو منجز له ما وعده ومن أوعده على عمل عقابا فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له وعن ابن عباس مثله انتهى وقوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ هم قوم الآية خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم وأمته والجمهور أن سبب هذه الآية أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما استعان بيهود في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري وصاحبه قالوا نعم يا أبا القاسم انزل حتى نصنع لك طعاما وننظر في معونتنك فنزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ظل جدار وكان معه أبو بكر وعمر وعلي فتآمرت يهود في قتله وقالوا من رجل يظهر على الحائط فيصب عليه حجرا يشدخه فجاء جبريل فأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم الخبر فقام صلى اللّه عليه و سلم من المكان وتوجه إلى المدينة ونزلت الآية في ذلك ويترجح هذا القول بما يأتي بعد من الآيات في وصف غدر يهود ونقضهم المواثيق ١٢وقوله سبحانه ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم أثني عشر نقيبا هذه الآية المتضمنة للخبر عن نقضهم مواثيق اللّه تعالى تقوى أن الآية المتقدمة في كف الأيدي إنما كانت في أمر بني النضير والإجماع على أن النقيب كبير القوم القائم بأمورهم قال قتادة وغيره هؤلاء النقباء قوم كبار من كل سبط تكفل بكل واحد سبطه بأن يؤمنوا ويلتزموا التقوى قال ع ونحو هذا كانت النقباء ليلة بيعة العقبة مع النبي صلى اللّه عليه وسلم لى اللّه عليه وسلم والضمير في معكم لبني إسرائيل أي معكم بنصري وحياطتي وتأييدى واللام في قوله لئن هي المؤذنة بمجيء القسم ولام القسم هي قوله لأكفرن والدليل على أن هذه اللام إنما هي مؤذنة أنها قد يستغنى عنها أحيانا ويتم الكلام دونها ولو كانت لام قسم لم يترتب ذلك وإقامة الصلاة توفيه شروطها والزكاة هنا شيء من المال كان مفروضا عليهم فيما قال بعض المفسرين وعزرتموهم معناه وقرتموهم وعظمتموهم ونصرتموهم وقرأ عاصم الجحدري وغررتموهم خفيفة الزاي حيث وقع وقرأ في سورة الفتح وتعزروه بفتح التاء وسكون العين وضم الزاي وسواء السبيل وسطه وسائر ما في الآية بين واللّه المستعان ١٣وقوله تعالى فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية الآية أي فبنقضهم والقسوة غلظ القلب ونبوه عن الرقة والموعظة وصلابته حتى لا ينفعل لخير وقوله تعالى ونسوا حظا مما ذكروا به نص على سوء فعلهم بأنفسهم أي قد كان لهم حظ عظيم فيما ذكروا به فنسوه وتركوه ثم أخبر تعالى نبيه عليه السلام أنه لا يزال في مستأنف الزمان يطلع على خائنة منهم وغائلة وأمور فاسدة قالت فرقة خائنة مصدر والمعنى على خيانة وقال آخرون معناه على فرقة خائنة فهي اسم فاعل صفة لمؤنث وقوله تعالى فأعف عنهم واصفح منسوخ بما في براءة وباقي الآية بين ١٤وقوله تعالى ومن الذين قالوا انا نصارى من متعلقة بأخذنا التقدير وأخذنا من الذين قالوا انا نصارى ميثاقهم ويحتمل أن تكون معطوفة على خائنة منهم والأول أرجح وعلق قولهم نصارى بقولهم ودعواهم من حيث هو اسم شرعي يقتضي نصر دين اللّه وسموا به أنفسهم دون استحقاق وقوله سبحانه فأغرينا بينهم العداوة أي اثبتناها بينهم والصقناها والإغراء مأخوذ من الغراء الذي يلصق به وقال البخاري الإغراء التسليط انتهى والضمير في بينهم يحتمل أن يعود على اليهود والنصارى لأن العداوة بينهم موجودة مستمرة ويحتمل أن يعود على النصارى فقط لأنها أمة متقاتلة بينها الفتن إلى يوم القيامة ثم توعدهم بعذاب الآخرة إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار واعلم رحمك اللّه أنه قد جاءت آثار صحيحة في ذم الشحناء والتباغض والهجران لغير موجب شرعي ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك باللّه شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال انظروا هذين حتى يصطلحا انظروا هذين حتى يصطلحا وفي رواية تعرض الأعمال في كل خميس واثنين فيغفر اللّه في ذلك اليوم لكل امرىء لا يشرك باللّه شيئا الحديث انتهى وروى ابن المبارك في رقائقه بسنده عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لا يحل لامرىء مسلم أن يهاجر مسلما فوق ثلاث ليال فإنهما ناكبان عن الحق ما داما على صرامهما فأولهما فيأ يكون سبقه بالفيء كفارة له وإن سلم عليه فلم يقبل ورد عليه سلامه ردت عليه الملائكة وردت على الآخر الشياطين وإذا ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة أراه قال ابدا انتهى وسنده جيد ونصه قال ابن المبارك أخبرنا شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة العدوية قالت سمعت هشام بن عامر يقول سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكر الحديث وقوله لم يدخلا الجنة ليس على ظاهره أي لم يدخلا الجنة أبدا حتى يقتص لبعضهم من بعض يقع العفو تحل الشفاعة حسبما هو معلوم في صحيح الآثار وقوله سبحانه يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب الآية أهل الكتاب لفظ يعم اليهود والنصارى ولكن نوازل الإخفاء كالرجم وغيره إنما حفظت لليهود لأنهم كانوا مجاوري رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مهاجره وفي إعلامه صلى اللّه عليه وسلم بخفي ما في كتبهم وهو أمي لا يكتب ولا يصحب القراء دليل على صحة نبوءته لو الهمهم اللّه للخير ويعفوا عن كثير أي لم يفضحهم فيه إبقاء عليهم والضمير في يعفوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم وقوله تعالى قد جاءكم من اللّه نور هو صلى اللّه عليه وسلم وكتاب مبين هو القرآن ويحتمل أن يريد موسى عليه السلام والتوراة أي لو اتبعتموها حق الأتباع والأول هو ظاهر الآية وهو أظهر وسبل السلام أي طرق السلامة والنجاة ويحتمل أن يكون السلام هنا اسما من أسماء اللّه عز و جل فالمعنى طرق اللّه والظلمات الكفر والنور الإيمان وباقي الآية بين متكرر وقوله سبحانه قل فمن يملك أي لا مالك ولا راد لإرادة اللّه تعالى في المسيح ولا في غيره وقوله سبحانه يخلق ما يشاء إشارة إلى خلقه المسيح في رحم مريم من غير والد بل اختراعا كآدم عليه السلام وقوله تعالى واللّه على كل شيء قدير عموم معناه الخصوص فيما عدا الذات والصفات والمحالات وقوله سبحانه وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء اللّه وأحباؤه الآية البنوة في قولهم هذا بنوة الحنان والرأفة لأنهم ذكروا أن اللّه سبحانه أوحى إلى إسرائيل أن أول أولادك بكرى فضلوا بذلك وقالوا نحن أبناء اللّه وأحباؤه ولو صح ما رووا لكان معناه بكرا في التشريف النبوءة ونحوه وكانت هذه المقالة منهم عند ما دعاهم النبي عليه السلام إلى الإيمان به وخوفهم العذاب فقالوا نحن لا نخاف ما تقول لأنا أبناء اللّه وأحباؤه ذكر ذلك ابن عباس وقد كانوا قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم في غير ما موطن نحن ندخل النار فنقيم فيها أربعين يوما فرد اللّه عليهم قولهم فقال لنبيه عليه السلام قل فلم يعذبكم بذنوبكم أي لو كانت منزلتكم منه فوق منازل البشر لما عذبكم وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم ثم ترك الكلام الأول واضرب عنه غير مفسد له ودخل في غيره فقال بل أنتم بشر كسائر الناس والخلق أكرمهم عند اللّه اتقاهم يهدي من يشاء للإيمان فيغفر له ويورط من يشاء في الكفر فيعذبه وله ملك السماوات والأرض وما بينهما فله بحق الملك أن يفعل ما يشاء ولا معقب لحكمه وإليه مصير العباد بالحشر والمعاد ١٥وقوله تعالى يا أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى قد جاءكم رسولنا محمد عليه السلام وقوله على فترة من الرسل أي على انقطاع من مجيئهم مدة ما والفترة سكون بعد حركة في الإجرام ويستعار ذلك للمعاني وقد قال عليه السلام لكل عمل شرة ولكل شرة فترة وفي الصحيح أن الفترة التي كانت بين نبينا صلى اللّه عليه وسلم وبين عيسى ستمائة سنة وهذه الآية نزلت بسبب قول اليهود ما انزل اللّه على بشر بعد موسى من شيء قاله ابن عباس وقوله ان تقولوا معناه حذارا أن تقولوا يوم القيامة ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير نذير وقامت الحجة عليكم واللّه على كل شيء قدير فهو الهادي والمضل لا رب غيره ٢٠وقوله سبحانه وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء الآية المعنى واذكر لهم يا محمد على جهة إعلامهم بغيب كتبهم ليتحققوا نبوءتك ثم عدد عيون تلك النعم فقال إذ جعل فيكم أنبياء أي حاطة ومنقذون من النار وشرف في الدنيا والآخرة وجعلكم ملوكا أي فيكم ملوك لأن الملك شرف في الدنيا وحاطة في نوائبها وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين قال مجاهد هو المن والسلوى والحجر والغمام وقال غيره كثرة الأنبياء وعلى هذا القول فالعالمون على العموم وعلى القول بأن المؤتى هو آيات موسى فالعالمون عالم زمانهم لن ما أوتي النبي صلى اللّه عليه وسلم من آيات اللّه أكثر من ذلك والمقدسة معناه المطهرة قال ابن عباس هي الطور وما حوله وقال قتادة هي الشام قال الطبري ولا يختلف أنها بين الفرات وعريش مصر قال ع وتظاهرت الروايات أن دمشق هي قاعدة الجبارين ثم حذرهم موسى الارتداد على الأدبار وذلك هو الرجوع القهقري والخاسر الذي قد نقص حظه ثم ذكر عز و جل أنهم تعنتوا ونكصوا فقالوا إن فيها قوما جبارين والجبار من الجبر كأنه لقدرته وغشمه وبطشه يجبر الناس على إرادته والنخلة الجبارة العالية التي لا تنال بيد وكان من خبر الجبارين أنهم كانوا أهل قوة فلما بعث موسى الاثني عشر نقيبا مطلعين من امر الجبارين واحوالهم رأوا لهم قوة وبطشا وتخيلوا أن لا طاقة لهم بهم فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك من بني إسرائيل وأن يعلموا به موسى ليرى فيه أمر ربه لما أنصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم ومن وثقوا به ففشا الخبر حتى أعوج أمر بني إسرائيل وقالوا أذهب أنت وربك فقاتلا ولم يف من النقباء إلا يوشع بن نون وكالب بن يوفتا ويقال فيه كالوث بثاء مثلثة ٢٣وقوله تعالى قال رجلان من الذين يخافون أي يخافون اللّه سبحانه قال أكثر المفسرين الرجلان يوشع بن نون وهو ابن أخت موسى وكالب بن يوفتا أنعم اللّه عليهما بالإيمان الصحيح وربط الجأش والثبوت وقولهم فاذهب أنت وربك فقاتلا الآية عبارة تقتضي كفرا وقيل المعنى فاذهب أنت وربك يعينك وأن الكلام معصية لا كفر وذكر ابن إسحاق وغيره أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كلم الناس يوم بدر وقال لهم أشيروا علي أيها الناس فقال له المقداد بن الأسود يا رسول اللّه لسنا نقول كما قالت بنو إسرائيل اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون ولكن نقول اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون ثم تكلم سعد بن معاذ بنحو هذا المعنى ولما سمع موسى عليه السلام قولهم ورأى عصيانهم تبرأ إلى اللّه منهم قوال داعيا عليهم رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي يعني هارون وقوله فافرق بيننا دعاء حرج والمعنى فافرق بيننا وبينهم حتى لا نشقى بفسقهم قال فإنها محرمة عليهم أي قال اللّه وحرم اللّه تعالى على بني إسرائيل دخول تلك المدينة أربعين سنة يتيهون في الأرض أي في أرض تلك النازلة وهو فحص التيه وهو على ما يحكى طول ثلاثين ميلا في عرض ستة فراسخ ويروى أنه لم يدخل المدينة أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالوث وروي أن يوشع نبىء بعد كمال الأربعين سنة وخرج بيني إسرائيل من التيه وقاتل الجبارين وفتح المدينة وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين والتيه الذهاب في الأرض إلى غير مقصد معلوم وقوله تعالى فلا تأس على القوم الفاسقين معناه فلا تحزن والخطاب بهذه الآية لموسى عليه السلام قال ابن عباس ندم موسى على دعائه على قومه وحزن عليهم فقال اللّه له فلا تاس على القوم الفاسقي ٢٧وقوله تعالى واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا الآية أتل معناه أسرد واسمعهم إياه وهذه من علوم الكتب الأول فهي من دلائل نبوءة نبينا صلى اللّه عليه وسلم إذ هي من غامض كتب بني إسرائيل قال الفخر وفي الآية قولان أحدهما أتل على الناس والثاني أتل على أهل الكتاب انتهى وابني آدم هما لصلبه وهما هابيل وقابيل روت جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود أن سبب هذا التقريب أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى وكان الذكر يتزوج أنثى البطن الآخر ولا تحل له أخته توءمته فولدت مع قابيل أختا جميلة ومع هابيل أختا ليست كذلك فلما أراد آدم أن يزوجها من هابيل قال قابيل أنا أحق بأختي فأمره آدم فلم يأتمر فاتفقوا على التقريب فتقبل قربان هابيل ووجب أن يأخذ أخت قابيل فحينئذ قال لأقتلنك وقول هابيل إنما يتقبل اللّه من المتقين كلام قبله محذوف تقديره ولم تقتلني وليس لي ذنب في قبول اللّه قرباني وإنما يتقبل اللّه من المتقين وإجماع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ أنها اتقاء الشرك فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة وأما المتقي للشرك وللمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والحتم بالرحمة علم ذلك بأخبار اللّه تعالى لا إن ذلك يجب على اللّه تعالى عقلا قلت قول ع في معنى هذه الألفاظ يعني حيث وقعت في الشرع وأما في هذه الآية فليس باتقاء شرك على ما سيأتي وقول هابيل ما أنا بباسط يدي إليك الآية قال عبد اللّه بن عمر وجمهور الناس كان هابيل أشد قوة من قابيل ولكنه تحرج وهذا هو الأظهر قال ع ومن هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر لأنه لو كان كافرا لم يكن للتحرج هنا وجه وتبوء معناه تمضي متحملا وقوله بإثمي وإثمك قيل معناه بإثم قتلي وسائر آثامك وقيل المعنى بإثمى الذي يختص بي فيما فرط لي وهذا تأويل يعضده قول النبي صلى اللّه عليه وسلم يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه وقوله وذلك جزاء الظالمين يحتمل أن يكون من قول هابيل لأخيه ويحتمل أن يكون إخبارا من اللّه تعالى لمحمد عليه السلام قال الفخر ٣٠وقوله تعالى فطوعت له نفسه قتل أخيه قال المفسرون معناه سهلت له نفسه قتل أخيه انتهى وقوله سبحانه فأصبح من الخاسرين أصبح عبارة عن جميع أوقاته وهذا مهيع كلام العرب ومنه أصبحت لا أحمل السلاح البيت وقول سعد فأصبحت بنو أسد تعزرني إلى غير ذلك من استعمال العرب ومن خسران قابيل ما صح وثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ما قتلت نفس ظلما إلا كان علي ابن آدم الأول كفل منها وذلك لأنه أول من سن القتل ٣١وقوله تعالى فبعث اللّه غرابا الآية قيل أصبح في ثاني يوم قتله يطلب اخفاء أمر قتله فلم يدر ما يصنع به فبعث اللّه غرابا حيا إلى غراب ميت فجعل يبحث في الأرض ويلقي التراب على الغراب الميت وظاهر الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم ولذلك جهل سنة المواراة وكذلك حكى الطبري عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بما في الكتب الأول والسوءة العورة ويحتمل أن يراد الحالة التي تسوء الناظر ثم أن قابيل وارى أخاه وندم على ما كان منه من معصية في قتله حيث لا ينفعه الندم واختلف العلماء في قابيل هل هو من الكفار من العصاة والظاهر أنه من العصاة قال الفخر ولم ينتفع قابيل بندمه لأن ندمه كان لأسباب منها سخط أبويه واخوته وعدم انتفاعه بقتله ونحو ذلك ولما كان ندمه لهذه الأسباب لا لأجل الخوف من اللّه تعالى فلا جرم لم ينفعه هذا الندم ٣٢وقوله تعالى من أجل ذلك هو إشارة إلى ما تضمنته هذه القصة من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام لا أنه إشارة إلى قصة قابيل وهابيل انتهى وقوله سبحانه من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل الآية جمهور الناس على أن قوله من أجل ذلك متعلق بقوله كتبنا أي من أجل هذه النازلة ومن جراها كتبنا وقال قوم بل هو متعلق بقوله من النادمين أي ندم من أجل ما وقع والوقف على هذا على ذلك والناس على أن الوقف من النادمين ويقال فعلمت ذلك من أجلك بفتح الهمزة ومن أجلك بكسرها وقوله سبحانه بغير نفس أي بغير أن تقتل نفس نفسا والفساد في الأرض يجمع الزنا والارتداد والحرابة وقوله سبحانه فكأنما قتل الناس جميعا روي عن ابن عباس أنه قال المعنى من قتل نفسا واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعا ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها مخافتي واستحياها فهو كمن أحيا الناس جميعا قال الحسن وابن زيد ومن أحياها أي عفا عن من وجب له قتله بعد القدرة وقيل غير هذا ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل أنهم جاءتهم الرسل بالبينات في هذا وفي سواه ثم أن كثيرا منهم بعد ذلك في كل عصر يسرفون ويتجاوزون الحدود ٣٣وقوله سبحانه إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله الآية روى أنس بن مالك وغيره أن الآية نزلت في قوم من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى اللّه عليه وسلم فاسلموا ثم انهم مرضوا واستوخموا المدينة فامرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم - أن يكونوا في لقاح الصدقة وقال اشربوا من ألبانها وأبوالها فخرجوا فيها فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الإبل فبلغ النبي صلى اللّه عليه وسلم خبرهم فبعث الطلب في آثارهم فأخذوا قال جميع الرواة فقطع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمر أعينهم ويروى وسمل وتركهم في جانب الحرة يستسقون فلا يسقون فقيل أن هذه الآية ناسخة لفعله صلى اللّه عليه و سلم بالعرنيين ووقف الأمر على هذه الحدود وقال جماعة أنها غير ناسخة لذلك الفعل لأن العرنيين مرتدون لا سيما وفي بعض الطرق أنهم سملوا أعين الرعاء وقالوا هذه الآية هي في المحارب المؤمن قال مالك المحارب عندنا من حمل على الناس السلاح في مصر برية فكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا دخل ولا عداوة وبهذا القول قال جماعة من أهل العلم قالوا والإمام مخير فيه بأن يعاقبه بما رأى من هذه العقوبات فأما قتل المحارب فبالسيف ضربة للعنق وأما صلبه فبعد القتل عند جماعة وقال جماعة بل يصلب حيا ويقتل بالطعن على الخشبة وروي هذا عن مالك وهو الأظهر من الآية وهو الأنكى في النكال وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ والرجل الشمال من المفصل وقوله سبحانه ينفوا من الأرض الظاهر أن الأرض في هذه الآية هي أرض النازلة وقد جنب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب ومنه حديث الذي ناء بصدره نحو الأرض المقدسة وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب المنفي مخوف الجانب يظن به أن يعود إلى حرابه وافساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه وإن كان غير مخوف الجانب ترك مسرحا وهذا هو صريح مذهب مالك وقوله تعالى ذلك لهم خزي في الدنيا الآية إشارة إلى هذه الحدود التي توقع بهم فيحتمل الخزي لمن عوقب وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا وبالجملة فهم في المشيئة ٣٤وقوله سبحانه إلا الذين تابوا الآية استثنى عز و جل التائب قبل أن يقدر عليه وأخبر سبحانه بسقوط حقوقه عنه بقوله فأعلموا أن اللّه غفور رحيم والعلماء على أن الآية في المؤمنين ويؤخذ المحارب بحقوق الناس وإن تاب هذا هو الصحيح ٣٥وقوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا اتقوا اللّه وابتغوا إليه الوسيلة الآية هذه الآية وعظ من اللّه تعالى بعقب ذكر العقوبات النازلة بالمحاربين وهذا من أبلغ الوعظ لأنه يرد على النفوس وهي خائفة وجلة وابتغوا معناه اطلبوا والوسيلة القربة وأما الوسيلة المطلوبة لنبينا صلى اللّه عليه وسلم فهي أيضا من هذا لأن الدعاء له بالوسيلة والفضيلة إنما هو أن يؤتاهما في الدنيا ويتصف بهما ويكون ثمرة ذلك في الآخرة التشفيع في المقام المحمود قلت وفي كلامه هذا مالا يخفى وقد فسر النبي صلى اللّه عليه وسلم الوسيلة التي كان يرجوها من ربه وأنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد اللّه وأرجو أن أكون أنا هو الحديث وخص سبحانه الجهاد بالذكر وإن كان داخلا في معنى الوسيلة تشريفا له إذ هو قاعدة الإسلام ٣٦وقوله تعالى يريدون أن يخرجوا من النار إخبار بأنهم يتمنون هذا وقال الحسن بن أبي الحسن إذا فارت بهم النار قربوا من حاشيتها فحينئذ يريدون الخروج ويطمعون به وتأول هو وغيره الآية على هذا قلت ويؤيده ما خرجه البخاري في رؤية النبي صلى اللّه عليه وسلم حيث أتاه ءاتيان فأخذا بيده وفيه فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه وفيه أيضا فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله وساع تتوقد تحته نار فإذا اقترب ارتفعوا فإذا خمدت رجعوا فيها وفيها رجال نساء عراة فقلت ما هذا فقالا أنطلق الحديث وأخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم ليسوا بخارجين من النار بل عذابهم فيها مقيم مؤبد ٣٨وقوله سبحانه والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما الآية قلت المسروق مال غيره فشرط المال أن يكون نصابا بعد خروجه مملوكا لغير السارق ملكا محترما تاما لا شبهة له فيه محرزا مخرجا منه إلى ما ليس بحرز له استسرارا فالنصاب ربع دينار ثلاثة دراهم ما يساوي ثلاثة دراهم وقوله أيديهما يعني أيمان النوعين والنكال العذاب والنكل القيد ٣٩وقوله سبحانه فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن اللّه يتوب عليه الآية جمهور العلماء على أن توبة السارق لا تسقط عنه القطع وقال الشافعي إذا تاب السارق قبل أن يتلبس الحكام بأخذه فتوبته تدفع عنه حكم القطع قياسا على توبة المحارب ٤٠وقوله سبحانه ألم تعلم أن اللّه له ملك السموات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء أي فلا معقب لحكمه سبحانه ولا معترض عليه يفعل ما يشاء لا إله إلا هو ٤١وقوله تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر الآية تسلية لنبيه عليه السلام وتقوية لنفسه بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين واليهود والمعنى قد وعدناك النصر والظهور عليهم فلا يحزنك ما يقع منهم ومعنى المسارعة في الكفر البدار إلى نصره والسعي في كيد الإسلام وإطفاء نوره قال مجاهد وغيره قوله تعالى من الذين قالوا ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم يراد به المنافقون ٤٢وقوله سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين يراد به اليهود ويحتمل أن يراد به اليهود مع المنافقين لأن جميعهم يسمع الكذب بعضهم من بعض ويقبلونه ولذلك جاءت عبارة سماعهم في صيغة المبالغة إذ المراد أنهم يقبلون ويستزيدون من ذلك وقوله سبحانه سماعون لقوم آخرين يحتمل أن يريد يسمعون منهم وذكر الطبري عن جابر أن المراد بالقوم الآخرين يهود فدك وقيل يهود خبير ويحتمل أن يكون معنى سماعون لقوم آخرين بمعنى جواسيس مسترقين الكلام لينقلوه لقوم آخرين وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقون ويهود المدينة قلت وهذا هو الذي نص عليه ابن إسحاق في السير قال ع وقيل لسفيان بن عيينة هل جرى للجاسوس ذكر في كتاب اللّه عز و جل فقال نعم وتلا هذه الآية سماعون لقوم آخرين وقوله سبحانه يحرفون الكلم من بعد مواضعه هذه صفة اليهود في معنى ما حرفوه من التوراة وفيما يحرفونه من الأقوال عند كذبهم من بعد مواضعه أي من بعد أن وضع مواضعه وقصدت به وجوهه القويمة يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه روي أن يهود فدك قالوا ليهود المدينة استفتوا محمدا فإن أفتاكم بما نحن عليه من الجلد والتجبية فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا الرجم قاله الشعبي وغيره وقيل غير هذا من وقائعهم فالإشارة بهذا إلى التحميم والجلد في الزنا على قول ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام على جهة قطع الرجاء منهم ومن يرد اللّه فتنته أي محنته بالكفر فلن تملك له من اللّه شيئا ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الذين سبق لهم في علمه أن لا يطهر قلوبهم وأن يكونوا مدنسين بالكفر لهم في الدنيا خزي بالذلة والمسكنة التي ضربت عليهم في أقطار الأرض وفي كل أمة قال ص سماعون أي هم سماعون ومثله أكالون انتهى وقوله سبحانه أكالون للسحت فعالون بناء مبالغة أي يتكرر أكلهم ويكثر والسحت كل ما لا يحل كسبه من المال وقوله تعالى فإن جاءوك فاحكم بينهم أعرض عنهم تخيير للنبي صلى اللّه عليه وسلم ولحكام أمته بعده وقال ابن عباس وغيره هذا التخيير منسوخ بقوله سبحانه وإن أحكم بينهم بما أنزل اللّه وقال كثير من العلماء هي محكمة وهذا هو الأظهر إن شاء اللّه وفقه هذه الآية أن الأمة مجمعة فيما علمت على أن حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في تظالمهم وأما نوازل الأحكام التي لا تظالم فيها فالحاكم مخير وإذا رضي به الخصمان فلا بد من رضي أساقفتهم أحبارهم قاله ابن القاسم في العتبية قلت وعبارة الداودي قال مالك ولا يحكم بينهم إذا اختار الحكم إلا في المظالم فيحكم بينهم بما أنزل اللّه ولا يحكم فيهم في الزنا إلا أن يعلنوه فيعاقبون بسبب إعلانه ثم يردون إلى أساقفتهم قال مالك وإنما رجم النبي صلى اللّه عليه وسلم اليهوديين قبل أن تكون لهم ذمة انتهى وقال ابن العربي في أحكامه إنما أنفذ النبي صلى اللّه عليه وسلم الحكم بينهم ليحقق تحريفهم وتبديلهم وكذبهم وكتمهم ما في التوراة ومنه صفته صلى اللّه عليه و سلم فيها والرجم على زناتهم وعنه أخبر اللّه تعالى بقوله يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير فيكون ذلك من آياته الباهرة وحججه البينة وبراهينه القاطعة الدامغة للأمة المخزية اليهودية انتهى وقوله تعالى وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا أمن اللّه سبحانه نبيه من ضررهم إذا أعرض عنهم وحقر في ذلك شأنهم وإن حكمت أي اخترت الحكم في نازلة ما فأحكم بينهم بالقسط أي بالعدل ثم قال سبحانه وكيف يحكمونك المعنى وكيف يحكمونك بنية صادقة وهم قد خالفوا حكم التوراة التي يصدقون بها وتولوا عن حكم اللّه فيها فأنت الذي لا يؤمنون بك أحرى بأن يخالفوا حكمك وهذا بين أنهم لا يحكمونه عليه السلام إلا رغبة في ميله إلى أهوائهم وقوله سبحانه من بعد ذلك أي من بعد كون حكم اللّه في التوراة في الرجم وما أشبهه وقوله تعالى وما اولئك بالمؤمنين يعني بالتوراة وبموسى ٤٤وقوله سبحانه انا أنزلنا التوراة فيها هدى أي إرشاد في المعتقد والشرائع والنور ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها والنبيئون الذين اسلموا هم من بعث من لدن موسى ابن عمران إلى مدة نبينا محمد عليه السلام وأسلموا معناه أخلصوا وجوههم ومقاصدهم للّه سبحانه وقوله للذين هادوا متعلق بيحكم أي يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم والربانيون عطف على النبيئين أي ويحكم بها الربانيون وهم العلماء وقد تقدم تفسير الرباني والأحبار أيضا العلماء وأحدهم حبر بكسر الحاء وفتحها وكثر استعمال الفتح فرقا بينه وبين الحبر الذي يكتب به وإنما اللفظ عام في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان قبل مبعث نبينا محمد عليه السلام وقوله سبحانه بما استحفظوا أي بسبب استحفاظ اللّه تعالى إياهم أمر التوراة وأخذه العهد عليهم في العمل والقول بها وعرفهم ما فيها فصاروا شهداء عليه وهؤلاءضيعوا لما استحفظوا حتى تبدلت التوراة والقرآن بخلاف هذا لقوله تعالى وانا له لحافظون وقوله تعالى فلا تخشوا الناس واخشون حكاية لما قيل لعلماء بني إسرائيل وقوله ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين وهذا المعنى بعينه يتناول علماء هذه الأمة وحكامها ويحتمل أن يكون قوله فلا تخشوا الناس إلى آخر الآية خطابا لأمة نبينا محمد عليه السلام واختلف العلماء في المراد بقوله ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فاولئك هم الكافرون فقالت جماعة المراد اليهود بالكافرين والظالمين والفاسقين وروي في هذا حديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم من طريق البراء بن عازب قال الفخر وتمسكت الخوارج بهذه الآية في التكفير بالذنب وأجيب بأن الآية نزلت في اليهود فتكون مختصة بهم قال الفخر وهذا ضعيف لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب قلت وهذه مسألة خلاف في العام الوارد على سبب هل يبقى على عمومه يقصر على سببه انتهى وقالت جماعة عظيمة من أهل العلم الآية متناولة كل من لم يحكم بما أنزل اللّه ولكنها في أمراء هذه الأمة كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان وهذا تأويل حسن وقيل لحذيفة بن اليمان أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل فقال نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة لتسلكن طريقهم قذ الشراك ٤٥وقوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية أي وكتبنا على بني إسرائيل فى التوراة ومعنى هذه الآية الخبر بان اللّه تعالى كتب فرضا على بني اسرائيل أنه من قتل نفسا فيجب في ذلك أخذ نفسه ثم هذه الأعضاء المذكورة كذلك ثم استمر هذا الحكم في هذه الأمة بما علم من شرع النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ابن عباس ورخص اللّه لهذه الأمة ووسع لها بالدية ولم يجعل لنبي إسرائيل دية فيما نزل على موسى والجمهور أن النفس بالنفس عموم يراد به الخصوص في المتماثلين كما ورد في الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم لا يقتل مسلم بكافر وكذلك قوله سبحانه والجروح قصاص عموم يراد به الخصوص فيما لا يخاف منها على النفس وكتب الفقه محل استيعاب الكلام على هذه المعاني قال ص والجروح قصاص أي ذات قصاص انتهى وقوله سبحانه فمن تصدق به فهو كفارة له المعنى أن من تصدق بجرحه دم وليه وعفا فإن ذلك العفو كفارة لذنوبه يعظم اللّه أجره بذلك قاله ابن عمر وغيره وفي معناه حديث مروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قلت وهو قوله صلى اللّه عليه و سلم ما من رجل يصاب بشيء في جسده فتصدق به إلا رفعه اللّه به درجة وحط عنه به خطيئة رواه الترمذي انتهى وقيل المعنى فذلك العفو كفارة للجارح عن ذلك الذنب كما أن القصاص كفارة فكذلك العفو كفارة وأما أجر العافي فعلى اللّه تعالى قاله ابن عباس وغيره وقيل المعنى إذا جنى جان فجهل وخفي أمره فتصدق هذا الجاني بأن اعترف بذلك ومكن من نفسه فذلك الفعل كفارة لذنبه ٤٦وقوله سبحانه وقفينا على ءاثارهم بعيسى ابن مريم الآية الضمير في آثارهم للنبيين وقوله وهدى وموعظة للمتقين خص المتقون بالذكر لأنهم المقصود به في علم اللّه وإن كان الجميع يدعى إلى توحيد اللّه ويوعظ ولكن ذلك على غير المتقين عمى وحيرة وقرأ حمزة وحده وليحكم بكسر اللام وفتح الميم على لام كي ونصب الفعل بها والمعنى وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق وليحكم أهله بما أنزل اللّه فيه وقرأ باقي السبعة وليحكم بسكون لام الأمر وجزم الفعل ومعنى أمره لهم بالحكم أي هكذا يجب عليهم قلت وإذ من لازم حكمهم بما أنزل اللّه فيه اتباعهم لنبينا محمد عليه السلام والإيمان به كما يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل قال الفخر قيل المراد وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه من الدلائل الدالة على نبوة صلى اللّه عليه وسلم قيل والمراد بالفاسقين من لم يمتثل من النصارى انتهى وحسن عقب ذلك التوقيف على وعيد من خالف ما أنزل اللّه وقوله سبحانه ومهيمنا أي جعل اللّه القرآن مهيمنا على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرفون إليها فيصحح الحقائق ويبطل التحريف وهذا هو معنى مهيمنا أي شاهد ومصدق ومؤتمن وأمين حسب اختلاف عبارة المفسرين في اللفظة وقال المبرد مهيمن أصله مؤتمن بني من أمين أبدلت همزته هاء كما قالوا ارقت الماء وهرقته واستحسنه الزجاج وقوله سبحانه فأحكم بينهم بما أنزل اللّه ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق المعنى عند الجمهور أن اخترت أن تحكم فأحكم بينهم بما أنزل اللّه وليست هذه الآية بناسخة لقوله اعرض عنهم ثم حذر اللّه تعالى نبيه عليه السلام من اتباع أهوائهم وقوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعه ومنهاجا أي لكل أمة قاله الجمهور وهذا عندهم في الأحكام وأما في المعتقدات فالدين واحد لجميع العالم ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم وتجيء الآية مع هذا الاحتمال تنبيها لنبينا محمد عليه السلام أي فأحفظ شرعتك ومنهاجك ليلا تستزلك اليهود غيرهم في شيء منه وأكثر المتأولين على أن الشرعة والمنهاج بمعنى واحد وهي الطريق وقال ابن عباس وغيره شرعة ومنهاجا سبيلا وسنة ثم أخبر سبحانه أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة ولكنه لم يشأ لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع كذا قال جريج وغيره ثم أمر سبحانه باستباق الخيرات في امتثال الأوامر وختم سبحانه بالموعظة والتذكير بالمعاد فقال إلى اللّه مرجعكم جميعا والمعنى فالبدار البدار وقوله سبحانه فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون معناه في الثواب والعقاب فتخبرون به إخبار إيقاع وهذه الآية بارعة الفصاحة جمعت المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة وكل كتاب اللّه كذلك إلا انا بقصور أفهامنا يبين لنا في بعض أكثر مما يبين لنا في بعض وقوله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل اللّه ولا تتبع أهواءهم الآية الهوى مقصور يجمع على أهواء والهواء ممدود يجمع على اهوية ثم حذر تعالى نبيه عليه السلام من اليهود أن يفتنوه بأن يصرفوه عن شيء مما أنزل اللّه عليه من الأحكام لأنهم كانوا يريدون أن يخدعوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا له مرارا أحكم لنا في نازلة كذا بكذا ونتبعك على دينك وقوله سبحانه فإن تولوا قبله محذوف تقديره فإن حكموك واستقاموا فنعما ذلك وإن تولوا فأعلم الآية وخصص سبحانه إصابتهم ببعض الذنوب دون كلها لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم نوعان نوع يخصهم ونوع يتعدى إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين وبه توعدهم اللّه في الدنيا وإنما يعذبون بالكل في الآخرة وقال الفخر وجوزوا ببعض الذنوب في الدنيا لأن مجازاتهم بالبعض كاف في إهلاكهم وتدميرهم انتهى وقوله سبحانه فأعلم الآية وعد للنبي صلى اللّه عليه وسلم وقد أنجزه بقصة بني قينقاع وقصة قريظة والنصير وإجلاء عمر أهل خيبر وفدك وغيرهم وقوله تعالى وان كثيرا من الناس لفاسقون اشارة اليهم ويندرج فى عموم الآية غيرهم وقوله تعالى افحكم الجاهلية يبغون إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان ويحكمون بحسب الشهوات ومن أحسن من اللّه حكما أي لا أحد أحسن منه حكما تبارك وتعالى ٥١وقوله سبحانه يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء نهى اللّه سبحانه المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة وحكم هذه الآية باق وكل من أكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى فإنه منهم وسبب نزول هذه الآية أنه لما انقضت بدر وشجر أمر بني قينقاع أراد النبي صلى اللّه عليه وسلم قتلهم فقام دونهم عبد اللّه ابن أبي ابن سلول مخاصما وقال يا محمد أحسن في موالي فإني امرؤ أخاف الدوائر فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم قد وهبتهم لك ونزلت الآية في ذلك وقوله عز و جل بعضهم أولياء بعض جملة مقطوعة من النهي وقوله تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم انحاء على عبد اللّه بن أبي وعلى كل من أتصف بهذه الصفة ٥٢وقوله سبحانه فترى الذين المعنى فترى يا محمد الذين في قلوبهم مرض إشارة إلى عبد اللّه بن أبي ومن تبعه من المنافقين على مذهبه في حماية بني قينقاع وقوله تعالى يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة لفظ محفوظ عن عبد اللّه بن أبي ومن تبعه من المنافقين ودائرة معناه نازلة من الزمان وإنما كان ابن أبي يظهر أنه يستبقيهم لنصرة النبي عليه السلام وأنه الرأي وكان يبطن خلاف ذلك وقوله سبحانه فعسى اللّه أن يأتي بالفتح وهو ظهور نبيه عليه السلام وعلو كلمته وتمكينه من بني قينقاع وقريظة والنضير وفتح مكة أمر من عنده يهلك به أعداء الشرع وهو أيضا فتح لا يقع فيه للبشر سبب وقرأ ابن الزبير فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين وقوله تعالى يقول الذين ءامنوا أهولاء الذين اقسموا باللّه جهد إيمانهم قرأ نافع وغيره يقول بغير واو وقرأ حمزة وغيره ويقول وقرأ أبو عمر وحده ويقول بالواو ونصب الام فذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا القول من المؤمنين إنما هو إذا جاء الفتح وحصلت ندامة المنافقين وفضحهم اللّه تعالى فحينئذ يقول المؤمنون اهؤلاء الذين اقسموا الآية وتحتمل الآية وتحتمل الآية ان تكون حكاية لقول المؤمنين في وقت قول الذين في قلوبهم مرض نخشى أن تصيبنا دائرة إذ فهم منهم إن تمسكهم باليهود إنما هو أرصاد للّه ولرسوله فمقتهم النبي عليه السلام والمؤمنون وترك لهم النبي عليه السلام بني قينقاع رغبة في المصلحة والألفة وأما قراءة أبي عمرو ويقول بالنصب فلا يتجه معها أن يكون قول المؤمنين إلا عند الفتح وظهور ندامة المنافقين وفضيحتهم وقوله تعالى جهد إيمانهم نصب جهد على المصدر المؤكد والمعنى اهؤلاء هم المقسمون باجتهاد منهم في الإيمان إنهم لمعكم قد ظهر الآن منهم من موالاة اليهود وخذل الشريعة ما يكذب إيمانهم وقوله حبطت أعمالهم يحتمل أن يكون إخبارا من اللّه سبحانه ويحتمل أن يكون من قول المؤمنين ويحتمل أن يكون قوله حبطت دعاء أي بطلت أعمالهم ٥٤وقوله سبحانه يا أيها الذين ءامنوا من يرتدد منكم عن دينه الآية خطاب للمؤمنين إلى يوم القيامة ومعنى الآية إن اللّه عز و جل وعد هذه الأمة أن من أرتد منها فإنه يجيء سبحانه بقوم ينصرون الدين ويغنون عن المرتدين قال الفخر وقدم اللّه تعالى محبته لهم على محبتهم له إذ لولا حبه لهم لما وفقهم أن صاروا محبين له انتهى وفي كتاب القصد إلى اللّه سبحانه للمحاسبي قلت للشيخ فهل يلحق المحبين للّه عز و جل خوف قال نعم الخوف لازم لهم كما لزمهم الإيمان لا يزول إلا بزواله وهذا هو خوف عذاب التقصير في بدايتهم حتى إذا صاروا إلى خوف الفوت صاروا إلى الخوف الذي يكون في أعلى حال فكان الخوف الأول يطرقهم خطرات وصار خوف الفوت وطنات قلت فما الحالة التي تكشف عن قلوبهم شديد الخوف والحزن قال الرجاء بحسن الظن لمعرفتهم بسعة فضل اللّه عز و جل وأملهم منه أن يظفروا بمرادهم إذا وردوا عليه ولولا حسن ظنهم بربهم لتقطعت أنفسهم حسرات وماتوا كمدا قلت أي شيء أكثر شغلهم وما الغالب على قلوبهم في جميع أحوالهم قال كثرة الذكر لمحبوبهم على طريق الدوام والاستقامة لا يملون ولا يفترون وقد أجمع الحكماء أن من أحب شيئا أكثر من ذكره ثم قال قال ذو النون ما اولع أحد بذكر اللّه إلا أفاد منه حب اللّه تعالى انتهى وفي الآية انحاء على المنافقين وعلى من ارتد في مدة النبي صلى اللّه عليه وسلم قال الفخر وهذه الآية إخبار بغيب وقد وقع الخبر على وفقه فيكون معجزا وقد ارتدت العرب وغيرهم أيام أبي بكر فنصر اللّه الدين وأتى بخير منهم انتهى وقوله سبحانه أذلة على المؤمنين معناه متذللين من قبل أنفسهم غير متكبرين وهذا كقوله عز و جل أشداء على الكفار رحماء بينهم وكقوله عليه السلام المؤمن هين لين وفي قراءة ابن مسعود أذلة على المؤمنين غلظاء على الكافرين وقوله تعالى ولا يخافون لومة لائم إشارة إلى الرد على المنافقين في أنهم يعتذرون بممالاة الأحلاف والمعارف من الكفار ويراعون أمرهم قلت وخرج أبو بكر بن الخطيب بسنده على أبي ذر قال أوصاني النبي صلى اللّه عليه وسلم بسبع أوصاني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي يعني في شأن الدنيا وأوصاني بحب المساكين والدنو منهم وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مرا وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت وأوصاني أن لا أخاف في اللّه لومة لائم وأوصاني أن لا اسأل الناس شيئا وأوصاني أن استكثر من لا حول ولا قوة إلا باللّه انتهى وقوله سبحانه ذلك فضل اللّه الإشارة بذلك إلى كون القوم يحبون اللّه عز و جل ويحبهم وواسع معناه ذو سعة فيما يملك ويعطي وينعم به سبحانه ٥٥وقوله تعالى إنما وليكم اللّه ورسوله الآية إنما في هذه الآية حاصرة وقرأ ابن مسعود إنما مولاكم اللّه والزكاة هنا لفظ عام للزكاة المفروضة والتطوع بالصدقة ولكل أفعال البر إذ هي منمية للحسنات مطهرة للمرء من دنس السيئات ثم وصفهم سبحانه بتكثير الركوع وخص بالذكر لكونه من أعظم أركان الصلاة وهي هيئة تواضع فعبر به عن جميع الصلاة كما قال سبحانه والركع السجود هذا هو الصحيح وهو تأويل الجمهور ولكن انفق مع ذلك أن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أعطى خاتمه وهو راكع قال السدي وإن اتفق ذلك لعلي فالآية عامة في جميع المؤمنين ثم أخبر تعالى إن من يتولى اللّه ورسوله والمؤمنين فإنه غالب كل من ناواه وجاءت العبارة عامة في أن حزب اللّه هم الغالبون ثم نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ الذين اتخذوا ديننا هزؤا ولعبا وقد ثبت استهزاء الكفار في قوله سبحانه انا كفيناك المستهزءين وثبت استهزاء أهل الكتاب في لفظ هذه الآية وثبت استهزاء المنافقين في قولهم لشياطينهم إنا معكم إنما نحن مستهزءون ثم أمر سبحانه بتقواه ونبه النفوس بقوله إن كنتم مؤمنين وقوله سبحانه وإذا ناديتهم إلى الصلاة اتخذوها هزؤا ولعبا الآية انحاء على اليهود وتبيين لسوء فعلهم وقوله وإن أكثركم فاسقون معنى المحاورة هل تنقمون منا إلا مجموع هذه الحال من انا مؤمنون وأنتم فاسقون كما تقول لمن تخاصمه هل تنقم مني إلا أن صدقت انا وكذبت أنت وقال بعض المتأولين وإن أكثركم معطوف على ما كأنه قال إلا أن آمنا باللّه ويكتبه وبأن أكثركم فاسقون وهذا مستقيم المعنى وقال أكثركم من حيث أن فيهم من آمن كابن سلام وغيره وقوله سبحانه قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة يعني مرجعا عند اللّه يوم القيامة ومنه وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ومشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أمر عليه السلام أن يقول لهم هل أنبئكم هم اليهود والكفار المتخذون ديننا هزؤا ولعبا قال ذلك الطبري وتوبع عليه ولم يسند في ذلك إلى متقدم شيئا والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين أي قل يا محمد للمؤمنين هل أنبئكم بشر من حال هؤلاء الفاسقين في وقت المرجع إلى اللّه أولائك أسلافهم الذين لعنهم اللّه وغضب عليهم وقوله سبحانه وجعل هي بمعنى صير وقد تقدم قصص مسخهم قردة في البقرة وعبد الطاغوت تقديره ومن عبد الطاغوت وقرأ حمزة وحده وعبد الطاغوت بفتح العين وضم الباء وكسر التاء من الطاغوت وذلك أن عبد لفظ مبالغة كقدس قال الفخر قيل الطاغوت هنا العجل وقيل الطاغوت أحبارهم وكل من أطاع أحدا في معصية اللّه فقد عبده انتهى ومكانا يحتمل أن يريد في الآخرة فالمكان على وجهه أي المحل إذ محلهم جنهم ويحتمل أن يريد في الدنيا فهي استعارة للمكانة والحالة وقوله سبحانه وإذا جاءوكم يعني اليهود وخاصة المنافقين منهم قاله ابن عباس وغيره وقوله واللّه أعلم بما كانوا يكتمون أي من الكفر والرؤية هنا تحتمل أن تكون قلبية وأن تكون بصرية وفي الإثم أي موجبات الإثم واللام في لبيس لام قسم وقوله تعالى لولا ينهاهم الربانيون والأحبار تحضيض في ضمنه توبيخ لهم قال الفخر والمعنى هلا ينهاهم انتهى قال الطبري كان العلماء يقولون ما في القرآن آية هي أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها وقال الضحاك بن مزاحم ما في القرآن آية أخوف عندي منها انا لا ننهى وقال نحو هذا ابن عباس وقوله سبحانه عن قولهم الإثم ظاهره أن الإثم هنا يراد به الكفر ويحتمل ان يراد سائر أقوالهم المنكرة في النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين وقرأ ابن عباس بيس ما كانوا يصنعون بغير لام قسم وقوله سبحانه وتعالى وقالت اليهود يد اللّه إلى قوله لا يحب المفسدين هذه الآية تعديد كبيرة في أقوالهم وكفرهم أي فمن يقول هذه العظيمة فلا يستنكر نفاقه وسعيه في رد أمر اللّه تعالى قال ابن عباس وجماعة معنى قولهم التبخيل وذلك أنهم لحقتهم سنة وجهد فقالوا هذه المقالة يعنون بها أن اللّه بخل عليهم بالرزق والتوسعه تعالى اللّه عن قولهم وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك فإن المراد لا تبخل ومنه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق الحديث وذكر الطبري والنقاش أن هذه الآية نزلت في فنحاص اليهودي وإنه قالها وقوله سبحانه غلت أيديهم خبر يحتمل في الدنيا ويحتمل في الآخرة فإن كان خبرا عن الدنيا فالمعنى غلت أيديهم عن الخير والإنفاق في وجوه البر ونحوه وإذا كان خبرا عن الآخرة فالمعنى غلت في النار قلت ويحتمل الأمرين معا وقوله تعالى بل يداه مبسوطتان العقيدة في هذا المعنى نفي التشبيه عن اللّه سبحانه وأنه ليس بجسم ولا له جارحة ولا يشبه لا يكيف ولا يتحيز ولا تحله الحوادث تعالى عما يقول المبطلون علوا كبيرا قال ابن عباس في هذه الآية يداه نعمتاه ثم اختلفت عبارة الناس في تعيين النعمتين فقيل نعمة الدنيا ونعمة الآخرة وقيل النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة والظاهر أن قوله سبحانه بل يداه مبسوطتان عبارة عن إنعامه على الجملة وعبر عنها باليدين جريا على طريقة العرب في قولهم فلان ينفق بكلتا يديه ومنه قول الأعشى ... يداك يدا مجد فكف مفيدة ... وكف إذا ما ضن بالمال تنفق ... ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الأنعام قرينة الإنفاق ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام وليزيدن كثيرا منهم يعني اليهود ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ثم قال سبحانه والقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة العداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو فهو يبغض وقد يبغض من ليس بعدو والبغضاء قد لا تتجاوز النفوس وقد ألقى اللّه سبحانه الأمرين على بني إسرائيل قال الفخر وقد أوقع اللّه بين فرقهم الخصومة الشديدة وانتهى أمرهم إلى أن يكفر بعضهم بعضا وفي قوله والقينا بينهم العداوة الآية قولان أحدهما أن المراد ما بين اليهود والنصارى من العداوة لانه جرى ذكرهم فى قوله لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء وهذا قول الحسن ومجاهد والثاني ما وقع من العداوة بين فرق اليهود فإن بعضهم جبرية وبعضهم قدرية وبعضهم موحدة وبعضهم مشبهة وكذلك بين فرق النصارى كالملكانية والنسطورية واليعقوبية انتهى وقوله سبحانه كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها اللّه استعارة بليغة قال مجاهد معنى الآية كلما اوقدوا نار الحرب النبي صلى اللّه عليه وسلم - اطفأها اللّه فالآية بشارة لنبينا محمد عليه السلام وللمؤمنين وباقي الآية بين وقوله تعالى ولو أن أهل الكتاب ءامنوا الآية هذه الآية تحتمل أن يراد بها معاصرو النبي صلى اللّه عليه وسلم وتحتمل أن يراد بها الأسلاف والمعاصرون وقوله سبحانه ولو أنهم أقاموا التوراة أي أظهروا أحكامها فهي كإقامة السوق وإقامة الصلاة وقوله سبحانه والإنجيل يقتضي دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب في هذه الآية قلت وقال مكي معنى أقاموا التوراة والإنجيل أي عملوا بما فيهما وأقروا بصفة النبي صلى اللّه عليه وسلم وبنبوءته انتهى من الهداية وقوله وما أنزل إليهم من ربهم معناه من وحي وسنن على ألسنة الأنبياء عليهم السلام واختلف في معنى من فوقهم ومن تحت أرجلهم فقال ابن عباس وغيره المعنى لأعطتهم السماء مطرها والأرض نباتها بفضل اللّه تعالى وقال الطبري وغيره إن الكلام استعارة ومبالغة في التوسعة كما يقال فلان قد عمه الخير من قرنه إلى قدمه وقوله سبحانه منهم أمة مقتصدة معناه معتدلة والقصد والاقتصاد الاعتدال والرفق والتوسط الحسن في الأقوال والأفعال قال ابن زيد وهؤلاء هم أهل طاعة اللّه من أهل الكتاب قال ع وهذا هو الراجح وقوله سبحانه يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية هذه الآية أمر من اللّه تعالى لنبيه عليه السلام بالتبليغ على الاستيفاء والكمال لأنه قد كان بلغ صلى اللّه عليه و سلم وإنما أمر في هذه الآية بأن لا يتوقف عن شيء مخافة أحد وذلك أن رسالته عليه السلام تضمنت الطعن على أنواع الكفرة وبيان فساد حالهم فكان يلقى منهم صلى اللّه عليه و سلم عنتا وربما خافهم أحيانا قبل نزول هذه الآية فقال اللّه تعالى له بلغ ما أنزل إليك من ربك أي كاملا واللّه يعصمك من الناس قالت عائشة أم المؤمنين رضي اللّه عنها من زعم أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد أعظم الفرية واللّه تعالى يقول يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية وقال عبد اللّه ابن شقيق كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعتقبه أصحابه يحرسونه فلما نزلت واللّه يعصمك من الناس خرج فقال يا أيها الناس الحقوا بملاحقكم فإن اللّه قد عصمنى قلت وخرج الترمذي هذا الحديث أيضا من طريق عائشة وكما وجب عليه التبليغ عليه السلام وجب على علماء أمته وقد قال عليه السلام بلغوا عني ولو آية وعن زيد بن ثابت رضي اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول نضر اللّه امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه فرب حامل فقه إلى من ليس بفقيه جاهل فقه إلى من هو أفقه منه رواه أبو داود واللفظ له والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي هذا حديث حسن ورواه من حديث ابن مسعود وقال حسن صحيح انتهى من السلاح وقال محمد بن كعب القرظي نزلت هذه الآية بسبب الإعرابي الذي اخترط سيف النبي صلى اللّه عليه وسلم ليقتله به قال ابن العربي قوله تعالى واللّه يعصمك من الناس معناه يجعل بينك وبينهم حجابا يمنع من وصل مكروههم إليك كعصام القربة الذي يمنع سيلان الماء منها ولعلمائنا في الآية تأويلات أصحها أن العصمة عامة في كل مكروه وأن الآية نزلت بعد أن شج وجهه وكسرت رباعيته صلى اللّه عليه و سلم وقيل أنه أراد من القتل خاصة والأول أصح وقد كان صلى اللّه عليه و سلم أوتي بعض هذه العصمة بمكة في قوله تعالى إنا كفيناك المستهزءين ثم كملت له العصمة بالمدينة فعصم من الناس كلهم انتهى من كتابه في تفسير أفعال اللّه الواقعة في القرآن ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام أن يقول لأهل الكتاب الحاضرين معه لستم على شيء أي على شيء مستقيم حتى تقيموا التوراة والإنجيل وفي إقامتهما الإيمان بنبينا محمد عليه السلام قلت وهذه الآية عندي من أخوف آية في القرآن كما أشار إلى ذلك سفيان فتأملها حق التأمل وقوله سبحانه وما أنزل إليكم من ربكم الآية يعني به القرآن وقوله تعالى إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابون والنصارى من آمن باللّه واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا لفظ عام لكل مؤمن من ملة نبينا صلى اللّه عليه وسلم ومن غيرها من الملل فكان ألفاظ الآية حصر بها الناس كلهم وبينت الطوائف على اختلافها وهذا هو تأويل الجمهور وقد مضى الكلام في سورة البقرة فراجعه هناك وقرأ الجمهور والصابون وقرىء خارج السبعة والصابين وهي بينة الإعراب وأما على قراءة الجمهور فأختلف في إعرابها ومذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة أنه من المقدم الذي معناه التأخير كأنه قال إن الذين ءامنوا والذين هادوا من آمن باللّه واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابون والنصارى كذلك قال ص ووجه ثان أن خبر ان محذوف أي إن الذين آمنوا لهم أجرهم وخبر الصابين من آمن وما بعده قال ابن عصفور وهو حسن جدا إذ ليس فيه أكثر من حذف خبر ان للفهم وهو جائز في فصيح الكلام انتهى قلت قال ابن مالك وهو أسهل من التقديم والتأخير وقيل أن الصابين في موضع نصب ولكنه جاء على لغة بلحارث الذين يجمعون التثنية بالألف على كل حال والجمع بالواو على كل حال قاله أبو البقاء وقيل غير هذا وقوله سبحانه وحسبوا ألا تكون فتنة المعنى في هذه الآية وظن هؤلاء الكفرة باللّه والعصاة من بني إسرائيل أن لا يكون من اللّه ابتلاء لهم وأخذ في الدنيا فلجوا في شهواتهم وعموا فيها إذ لم يبصروا الحق وهذا كقوله صلى اللّه عليه و سلم حبك الشيء يعمى ويصم وقوله سبحانه ثم تاب اللّه عليهم قالت جماعة من المفسرين هذه التوبة هي ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول ورد ملكهم وحالهم ثم عموا وصموا بعد ذلك حتى أخرجوا الخرجة الثانية ولم ينجبروا أبدا ومعنى تاب اللّه عليهم أي رجع بهم إلى الطاعة والحق ومن فصاحة القرآن استناد هذا الفعل الشريف إلى اللّه تعالى واستناد العمى والصمم اللذين هما عبارة عن الضلال إليهم ثم أخبر تعالى أخبارا مؤكدا بلام القسم عن كفر القائلين إن اللّه هو المسيح ابن مريم وهذا قول اليعقوبية من النصارى ثم أخبر تعالى عن قول المسيح لهم فقال وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا اللّه ربي وربكم الآية فضلوا هم وكفروا بسبب ما رأوا على يديه من الآيات وقوله تعالى وما للظالمين من أنصار يحتمل أن يكون من قول عيسى عليه السلام لبني إسرائيل ويحتمل أن يكون إخبارا من اللّه سبحانه لنبيه محمد عليه السلام وقوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد الآية إخبار مؤكد كالذي قبله عن هذه الطائفة الناطقة بالتثليث وهم فرق منهم النسطورية وغيرهم ولا معنى لذكر أقوالهم في كتب التفسير وقوله سبحانه ثالث ثلاثة لا يجوز فيه إلا الإضافة وخفض ثلاثة لأن المعنى أحد ثلاثة فإن قلت زيد ثالث اثنين رابع ثلاثة جاز لك أن تضيف كما تقدم وجاز أن لا تضيف وتنصب ثلاثة على معنى زيد يربع ثلاثة وقوله سبحانه وما من إله إلا إله واحد الآية خبر صادع بالحق وهو سبحانه الخالق المبدع المتصف بالصفات العلي سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ثم توعدهم إن لم ينتهوا عما يقولون ثم رفق جل وعلا بهم بتحضيضه إياهم على التوبة وطلب المغفرة ثم وصف نفسه سبحانه بالغفران والرحمة استجلابا للتائبين وتأنيسا لهم ليكونوا على ثقة من الانتفاع بتوبتهم قال ص ليمسن اللام فيه جواب قسم محذوف قبل أداة الشرط انتهى وقوله تعالى وأمة صديقة بناء مبالغة من الصدق ويحتمل من التصديق وبه سمى أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه وهذه الصفة لمريم تدفع قول من قال أنها نبية وقوله سبحانه كانا يأكلان الطعام تنبيه على نقص البشرية وعلى حال من الاحتياج إلى الغذاء تنتفي معها الألوهية ويؤفكون معناه يصرفون ومنه قوله عز و جل يؤفك عنه من أفك والأرض المأفوكة التي صرفت عن أن ينالها المطر والمطر في الحقيقة هو المصروف ولكن قيل أرض مأفوكة لما كانت مافوكا عنها وقوله تعالى قل أتعبدون من دون اللّه مالا يملك لكم ضرا ولا نفعا واللّه هو السميع العليم الآية الضر بفتح الضاد المصدر وبضمها الاسم وهو عدم الخير والسميع لأقوالهم والعليم بنياتهم والغلو تجاوز الحد من غلا السهم إذا تجاوز الغرض المقصود وتلك المسافة هي غلوته وهذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى والقوم الذين نهى النصارى عن اتباع أهوائهم هم بنو إسرائيل ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديما وأضلوا كثيرا من اتباعهم ثم أكد الأمر بتكرار قوله تعالى وضلوا عن سواء السبيل وقوله تعالى لعن الذين كفروا من بني إسرائيل الآية قال ابن عباس رضي اللّه عنه لعنوا بكل لسان لعنوا في التوراة وفي الزبور والإنجيل والفرقان وقوله سبحانه كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه الآية ذم اللّه سبحانه هذه الفرقة الملعونة بانهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه أي أنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي وأن نهي منهم ناه لم يمتنع عن مواصلة العاصي ومواكلته وخلطته وروى ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على ذنب نهاه عنه تعذيرا فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله خليطه فلما رأى اللّه تعالى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى قال ابن مسعود وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم متكأ فجلس وقال لا واللّه حتى تأخذوا على يد الظالم فتأطروه على الحق اطرا والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه ونهى بمعروف أي برفق وقول معروف وأمن الضرر عليه وعلى المؤمنين فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه ففرض عليه الإنكار بقلبه وأن لا يخالط ذا المنكر وقال حذاق أهل العلم ليس من شروط الناهي أن يكون سليما من المعصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضا وقوله سبحانه لبيس ما كانوا يفعلون اللام لا م قسم وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أفضل الجهاد كلمة حق قال كلمة عدل عند سلطان جائر أمير جائر انتهى وقوله تعالى لنبيه محمد عليه السلام ترى كثيرا يحتمل أن تكون رؤية عين فلا يريد إلا معاصريه ويحتمل أن تكون رؤية قلب وعلى هذا فيحتمل أن يريد المعاصرين له ويحتمل أن يريد أسلافهم والذين كفروا عبدة الأوثان وقوله سبحانه لبيس ما قدمت لهم أنفسهم الآية أي قدمته للآخرة واجترحته ثم فسر ذلك قوله تعالى إن سخط اللّه عليهم فإن سخط في موضع رفع بدل من ما ويحتمل أن يكون التقدير هو إن سخط اللّه عليهم وقوله تعالى والنبيء إن كان المراد الأسلاف فالنبي داود وعيسى وإن كان المراد معاصري نبينا صلى اللّه عليه وسلم فالمراد بالنبي هو صلى اللّه عليه و سلم وذهب بعض المفسرين إلى أن ٦٢قوله سبحانه ترى كثيرا منهم كلام منقطع من ذكر بني إسرائيل وأنه يعني به المنافقين ونحوه لمجاهد وقوله تعالى لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا الآية اللام في قوله لتجدن لام ابتداء وقال الزجاج هي لام قسم وهذا خبر مطلق منسحب على الزمان كله وهكذا هو الأمر حتى الآن وذلك أن اليهود مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم ومردوا على استشعار اللعنة وضرب الذلة المسكنة فهم قد لجت عداوتهم وكثر حسدهم فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين وكذلك المشركون عبدة الأوثان والنيران وأما النصارى فإنهم يعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة دين ويستهينون من فهموا منه الفسق فهم إن حاربوا فإنما حربهم أنفة لا أن شرعهم يأخذهم بذلك وإذا سالموا فسلمهم صاف واليهود لعنهم اللّه ليسوا على شيء من هذه الخلال بل شأنهم الخبث واللي بالألسنة المكر والغدر ولم يصف اللّه تعالى النصارى بأنهم أهل ود وإنما وصفهم بأنهم أقرب من اليهود والمشركين وفي ٨٢قوله سبحانه الذين قالوا إنا نصارى إشارة إلى معاصري نبينا صلى اللّه عليه وسلم من النصارى بأنهم ليسوا على حقيقة النصارنية وإنما هو قول منهم وزعم وقوله تعالى ذلك بأن منهم قسيسين وهبانا الآية معناه ذلك بأن منهم أهل خشية وانقطاع إلى اللّه تعالى وعبادة وإن لم يكونوا على هدى فهم يميلون إلى أهل العبادة والخشية وليس عند اليهود ولا كان قط أهل ديارات وصوامع وانقطاع عن الدنيا بل هم معظمون لها متطاولون في البنيان وأمور الدنيا حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة فلذلك لا يرى فيهم زاهد قال الفخر القس والقسيس اسم رئيس النصارى والجمع قسيسون وقال قطرب القس والقسيس العالم بلغة الروم وهذا مما وقع الوفاق فيه بين اللغتين انتهى ووصف اللّه سبحانه النصارى بأنهم لا يستكبرون وهذا موجود فيهم حتى الآن واليهودي متى وجد عزا طغى وتكبر ثم مدحهم سبحانه فقال وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع الآية قال النووي ينبغي للقارىء أن يكون شأنه الخشوع والتدبر والخضوع فهذا هو المقصود المطلوب وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب ودلائله أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر وقد بات جماعة من السلف يتلوا الواحد منهم آية واحدة ليلة كاملة معظم ليلة يتدبرها وصعق جماعات منهم عند سماع القرآن وقراءته ومات جماعات منهم ويستحب البكاء والتباكي لمن لا يقدر على البكاء فإن البكاء عند القراءة صفة العارفين وشعار عباد اللّه الصالحين قال اللّه عز و جل ويخرون للاذقان يبكون ويزيدهم خشوعا وقد وردت آثار كثيرة في ذلك انتهى من الحلية للنووي وذكر ابن عباس وابن جبير ومجاهد أن هذه الآية نزلت بسبب وفد بعثهم النجاشي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليروه ويعرفوا حاله فقرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم القرآن فبكوا وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي فآمن ولم يزل مؤمنا حتى مات فصلى عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم وروي أن نعش النجاشي كشف للنبي عليه السلام فكان يراه من موضعه بالمدينة وجاء الخبر بعد مدة أن النجاشي دفن في اليوم الذي صلى فيه النبي صلى اللّه عليه وسلم عليه قال أبو صالح كانوا سبعة وستين رجلا وقال ابن جبير كانوا سبعين عليهم ثياب الصوف وكلهم صاحب صومعة اختارهم النجاشي وصدر الآية في قرب المودة عام فيهم ولا يتوجه أن يكون صدر الآية خاصا فيمن آمن وإنما وقع التخصيص من ٨٣قوله تعالى وإذا سمعوا وجاء الضمير عاما إذ قد تحمد الجماعة بفعل واحد منهم وفي هذا استدعاء للنصارى ولطف من اللّه بهم ليؤمنوا قال ص مما عرفوا من الحق من الأولى لابتداء الغاية قال أبو البقاء ومعناها من أجل الذي عرفوا ومن الثانية لبيان ما الموصولة انتهى قال العراقي تفيض أي تسيل منها العبرة وفي الحديث اقرءوا القرآن وأبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا خرجه البزار انتهى من الكوكب الدري وفيه عن البزار ايضا ان النبي صلى اللّه عليه وسلم - قال من خرج من عينيه مثل جناح ذباب دموعا من خشية اللّه لم يدخل النار حتى يعود اللبن في ضرعه انتهى وقولهم مع الشاهدين يعني نبينا محمدا صلى اللّه عليه وسلم لى اللّه عليه و سلم وأمته قاله ابن عباس وغيره وقال الطبري لو قال قائل معنى ذلك مع الشاهدين بتوحيدك من جميع العالم لكان صوابا وهو كلام صحيح وكأن ابن عباس خصص أمة محمد لقول اللّه سبحانه وكذلك جعلناكم أمة وسطا الآية وقولهم وما لنالا نؤمن باللّه وما جاءنا من الحق توقيف لأنفسهم محاجة لمن عارضهم من الكفار والقوم الصالحون صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه قاله ابن زيد وغيره من المفسرين ثم ذكر تعالى ما أثابهم به من النعيم على إيمانهم وإحسانهم ثم ذكر سبحانه حال الكافرين المكذبين وإنهم قرناء الجحيم ٨٧وقوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم الآية قال ابن عباس وغيره نزلت بسبب جماعة من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم بلغت منهم المواعظ وخوف اللّه تعالى إلى أن حرم بعضهم النساء وبعضهم النوم بالليل والطيب وهم بعضهم بالاختصاء فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء وأنال الطيب فمن رغب عن سنتي فليس مني قال الطبري كان فيما يتلى من رغب عن سنتك فليس من أمتك وقد ضل عن سواء السبيل والطيبات في هذه الآية المستلذات بدليل إضافتها إلى ما أحل اللّه وبقرينة ما ذكر من سبب الآية وقوله سبحانه ولا تعتدوا قال عكرمة وغيره معناه في تحريم ما أحل اللّه وقال الحسن بن أبي الحسن المعنى و لا تعتدوا فتحلوا ما حرم اللّه فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين كأنه قال لا تشددوا فتحرموا حلالا ولا تترخصوا فتحلوا حراما قلت وروي مالك في الموطأ عن أبي النضر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما مات عثمان بن مظعون ومر بجنازته ذهبت ولم تلتبس منها بشيء قال أبو عمر في التمهيد هذا الحديث في الموطأ مقطوع وقد رويناه متصلا مسندا من وجه صالح حسن ثم اسند أبوعمر عن عائشة قالت لما مات عثمان بن مظعون كشف النبي صلى اللّه عليه وسلم الثوب عن وجهه وقبل بين عينيه وبكى بكاء طويلا فلما رفع على السرير قال طوبى لك يا عثمان لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها قال أبو عمر كان عثمان بن مظعون أحد الفضلاء العباد الزاهدين في الدنيا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المتبتلين منهم وقد كان هو وعلي بن أبي طالب هما أن يترهبا ويتركا النساء ويقبلا على العبادة ويحرما طيبات الطعام على أنفسهما فنزلت يا أيها الذين ءامنوا لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم الآية ونقل هذا معمر وغيره عن قتادة انتهى وقوله سبحانه ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان معناه شددتم وعقد اليمين كعقد الحبل والعهد قال الحطيئة ... قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا ... قال الفخر وأما وجه المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها فهو ما تقدم من أن قوما من الصحابة رضي اللّه عنهم حرموا على أنفسهم المطاعم والملاذ وحلفوا على ذلك فلما نهاهم اللّه تعالى عن ذلك قالوا يا رسول اللّه فكيف نصنع بأيماننا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية انتهى وقوله سبحانه فكفارته إطعام عشرة مساكين أي إشباعهم مرة واحدة وحكم هؤلاء أن لا يتكرر واحد منهم في كفارة يمين واحدة واختلف في معنى قوله سبحانه من أوسط فرأى مالك وجماعة معه هذا التوسط في القدر ورأى ذلك جماعة في الصنف والوجه أن يعم بلفظ الوسط القدر والصنف فرأى مالك أن يطعم المسكين بالمدينة مدا بمد النبي صلى اللّه عليه وسلم وذلك رطل وثلث وهذا لضيق المعيشة بالمدينة ورأى في غيرها أن يتوسع ورأى من يقول أن التوسط إنما هو في الصنف أن يكون الرجل المكفر يتجنب أدنى ما يأكل الناس في البلد وينحط عن الأعلى ويكفر بالوسط من ذلك ومذهب المدونة أن يراعي المكفر عيش البلد وتأويل العلماء في الحانث في اليمين باللّه أنه مخير في الإطعام الكسوة العتق والعلماء على أن العتق أفضل ذلك ثم الكسوة ثم الإطعام بدأ اللّه تعالى عباده بالأيسر فالأيسر قال الفخر وبدأ سبحانه بالإطعام لأنه أعم وجودا والمقصود منه التنبيه على أنه سبحانه يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف وثانيها أن الإطعام أفضل قلت وهذا هو مشهور مذهب مالك انتهى ويجزىء عند مالك من الكسوة في الكفارة ما يجزىء في الصلاة وقوله سبحانه تحرير رقبة أي مؤمنة قاله مالك وجماعة لأن هذا المطلق راجع إلى المقيد في عتق الرقبة في قتل الخطأ وقوله سبحانه فمن لم يجد معناه لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة المذكورة واختلف العلماء في حد هذا العادم ومتى يصح له الصيام فقال الشافعي ومالك وجماعة من العلماء إذا كان المكفر لا يملك إلا قوته وقوت عياله يومه وليلته فله أن يصوم فإن كان عنده زائد على ذلك ما يطعم عشرة مساكين لزمه الإطعام قال الطبري وقال آخرون جائز لمن لم يكن له فضل على راس ماله الذي يتصرف به في معايشه أن يصوم وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود ثلاثة أيام متتابعات وقال بذلك جماعة وقال مالك وغيره أن تابع فحسن وإن فرق أجزأ وقوله إذا حلفتم معناه وأردتم الحنث وقعتم فيه ٩٠وقوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس الآية قال ع وفي معنى الأزلام الزجر بالطير وأخذ الفال في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس وأخبر سبحانه أن هذه الأشياء رجس قال ابن عباس في هذه الآية رجس سخط وقال ابن زيد الرجس الشر قال ع الرجس كل مكروه ذميم وقد يقال للعذاب والرجز العذاب لا غير والركس العذرة لا غير والرجس يقال للأمرين وقوله سبحانه فاجتنبوه أمر باجتنابه فحرمت الخمر بظاهر القرآن ونص الأحاديث وإجماع الأمة وأمر الخمر إنما كان بتدريج ونوازل كثيرة كقصة حمزة حين جب الاسنمة وقوله وهل أنتم إلا عبيد أبي ثم أعلم سبحانه عباده أن الشيطان إنما يريد أن تقع العداوة بسبب الخمر وما يعترى عليها بين المؤمنين وبسبب الميسر إذ كانوا يتقامرون على الأموال حتى ربما بقي المقمور فقيرا فتحدث من ذلك ضغائن وعداوات فإن لم يصل الأمر إلى حد العداوة كانت بغضاء ولا تحسن عاقبة قوم متباغضين ولذلك قال صلى اللّه عليه و سلم ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد اللّه إخوانا وباجتماع النفوس والكلمة يحمى الدين ويجاهد العدو والبغضاء تنقض عرى الدين وتهدم عماد الحماية وكذلك أيضا يريد الشيطان أن يصد المؤمنين عن ذكر اللّه وعن الصلاة ويشغلهم عنها بإتباع الشهوات والخمر والميسر والقمار كله من أعظم الآفات في ذلك وفي قوله سبحانه فهل أنتم منتهون وعيد زائد على معنى انتهوا وقوله سبحانه ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية قال ابن عباس وغيره لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة يا رسول اللّه كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر ونحو هذا من القول فنزلت هذه الآية وهذا نظير سؤالهم عن من مات على القبلة الأولى والجناح الإثم والحرج والتكرار في قوله سبحانه اتقوا يقتضي في كل واحدة زيادة على التي قبلها وفي ذلك مبالغة في هذه الصفات لهم وليست الآية وقفا على من عمل الصالحات كلها واتقى كل التقوى بل هي لكل مؤمن وإن كان عاصيا أحيانا إذا كان قد عمل من هذه الخصال الممدوحة ما استحق به أن يوصف بأنه مؤمن عامل للصالحات متق في غالب أمره محسن فليس على هذا الصنف جناح فيما طعم مما لم يحرم عليه وطعموا معناه ذاقوا فصاعدا في رتب الأكل والشرب وقد يستعار للنوم وغيره وحقيقته في حاسة الذوق وقوله سبحانه يا أيها الذين ءامنوا ليبلونكم اللّه بشيء من الصيد أي ليختبرنكم يرى طاعتكم من معصيتكم وقوله بشيء يقتضي تبعيضا ومن يحتمل أن تكون للتبعيض ويحتمل أن تكون لبيان الجنس كقوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان وقوله تعالى ليعلم اللّه من يخافه بالغيب معناه ليستمر علمه تعالى عليه وهو موجود إذ قد علم تعالى ذلك في الأزل وبالغيب قال الطبري معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربه فهو غائب عنه والظاهر أن المعنى بالغيب من الناس أي في الخلوة ممن خاف اللّه انتهى قلت وقول الطبري أظهر ثم توعد تعالى من اعتدى بعد النهي بالعذاب الأليم وهو عذاب الآخرة ٩٥وقوله سبحانه يا أيها الذين ءامنوا لا تقتلوا الصيد وانتم حرم الآية الصيد مصدر عومل معاملة الاسماء فاوقع على الحيوان المصيد ولفظ الصيد هنا عام ومعناه الخصوص فيما عدا ما استثنى وفي الصحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الغراب والحدأة والفارة والعقرب والكلب العقور وأجمع الناس على إباحة قتل الحية وبسط هذا في كتب الفقه وحرم جمع حرام وهو الذي يدخل في الحرم في الإحرام واختلف في قوله متعمدا فقال مجاهد وغيره معناه متعمدا لقتله ناسيا لاحرامه فهذا يكفر وأما أن كان ذاكرا لاحرامه فهو أعظم من أن يكفر وقد حل ولا رخصة له وقال جماعة من أهل العلم منهم ابن عباس ومالك والزهري وغيرهم المتعمد القاصد للقتل الذاكر لاحرامه فهو يكفر وكذلك الناسي والقاتل خطأ يكفران وقرأ نافع وغيره فجزاء مثل بإضافة الجزاء إلى مثل وقرأ حمزة وغيره فجزاء بالرفع مثل بالرفع أيضا واختلف في هذه المماثلة كيف تكون فذهب الجمهور إلى أن الحكمين ينظران إلى مثل الحيوان المقتول في الخلقة وعظم المرأى فيجعلان ذلك من النعم جزاءه وذهب الشعبي وغيره إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة يقوم الصيد المقتول ثم يشتري بقيمته ند من النعم ورد الطبري وغيره هذا القول والنعم لفظ يقع على الإبل والبقر والغنم إذا اجتمعت هذه الأصناف فإن انفرد كل صنف لم يقل نعم إلا للإبل وحدها وقصر القرآن هذه النازلة على حكمين عدلين عالمين بحكم النازلة وبالتقدير فيها وعلى هذا جمهور الناس قال ابن وهب في العتبية من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد كما خيره اللّه تعالى في أن يخرج هديا بالغ الكعبة كفارة طعام مساكين عدل ذلك صياما فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لماأصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي فما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ثم خير في أن يطعمه يصوم مكان كل مد يوما وكذلك قال مالك في المدونة إذا أراد المصيب أن يطعم يصوم فإن كان لما أصاب نظير من النعم فإنه يقوم صيده طعاما لا دراهم قال وإن قوماه دراهم واشترى بها طعام لرجوت أن يكون واسعا والأول أصوب فإن شاء أطعمه وإلا صام مكان كل مد يوما وإن زاد ذلك على شهرين ثلاثة وقال يحيى بن عمر من أصحابنا إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد ثم يقال كم من الطعام يشبع هذا العدد فإن شاء أخرج ذلك الطعام وإن شاء صام عدد إمداده وهذا قول حسن احتاط فيه لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة فبهذا النظر يكثر الإطعام وقوله تعالى هديا بالغ الكعبة ذكرت الكعبة لأنها أم الحرم والحرم كله منحر لهذا الهدي ولا بد أن يجمع في هذا الهدي بين الحل والحرم حتى يكون بالغ الكعبة فالهدي لا ينحر إلا في الحرم واختلف في الطعام فقال جماعة الإطعام والصوم حيث شاء المكفر من البلاد وقال عطاء بن أبي رباح وغيره الهدي والإطعام بمكة والصوم حيث شئت وقوله سبحانه ليذوق وبال أمره الذوق هنا مستعار والوبال سوء العاقبة والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله وعبر بأمره عن جميع حاله من قتل وتكفير وحكم عليه ومضى ماله تعبه بالصوم واختلف في معنى قوله سبحانه عفا اللّه عما سلف الآية فقال عطاء بن أبي رباح وجماعة معناه عفا اللّه عما سلف في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرمة ومن عاد الآن في الإسلام فإن كان مستحلا فينتقم اللّه منه في الآخرة ويكفر في ظاهر الحكم وإن كان عاصيا فالنقمة هي في الزام الكفارة فقط قالوا وكلما عاد المحرم فهو يكفر قال ع ويخاف المتورعون أن تبقى النقمة مع التكفير وهذا هو قول الفقهاء مالك ونظرائه وأصحابه رحمهم اللّه وقال ابن عباس وغيره أما المتعمد فإنه يكفر أول مرة وعفا اللّه عن ذنبه فإن اجترأ وعاد ثانيا فلا يحكم عليه ويقال له ينتقم اللّه منك كما قال اللّه تعالى وقوله سبحانه واللّه عزيز ذو انتقام تنبيه على صفتين تقتضيان خوف من له بصيرة ومن خاف ازدجر ومن هذا المعنى قول النبي صلى اللّه عليه وسلم من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل قلت والصيد للّهو مكروه وروى أبو داود في سننه عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن انتهى ٩٦وقوله تعالى أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم الآية البحر الماء الكثير ملحا كان عذبا وكل نهر كبير بحر وطعامه هو كل ما قذف به وما طفا عليه قاله جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو مذهب مالك ومتاعا نصب على المصدر والمعنى متعكم به متاعا تنتفعون به وتأتدمون ولكم يريد حاضري البحر ومدنه وللسيارة المسافرين واختلف في مقتضى قوله سبحانه وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فتلقاه بعضهم على العموم من جميع جهاته فقالوا أن المحرم لا يحل له أن يصيد ولا أن يأمر من يصيد ولا أن يأكل صيدا صيد من أجله ولا من غير أجله وأن لحم الصيد بأي وجه كان حرام على المحرم وكان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه لا يرى بأسا للمحرم أن يأكل ما صاده حلال لنفسه لحلال مثله وقال بمثل قول عمر عثمان بن عفان والزبير ابن العوام وهو الصحيح لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أكل من الحمار الذي صاده أبو قتادة وهو حلال والنبي عليه السلام محرم ثم ذكر سبحانه بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير ولما بان في هذه الآيات تعظيم الحرم والحرمة بالاحرام من أجل الكعبة وإنها بيت اللّه تعالى وعنصر هذه الفضائل ذكر سبحانه في قوله جعل اللّه الكعبة البيت تنبيها سنه في الناس وهداهم إليه وحمل عليه الجاهلية الجهلاء من التزامهم أن العكبة قوام والهدي قوام والقلائد قوام أي أمر يقوم للناس بالتأمين ووضع الحرب أوزارها وأعلم تعالى أن التزام الناس لذلك هو مما شرعه وارتضاه وجعل في هذه الآية بمعنى صير والكعبة بيت مكة وسمي كعبة لتربيعه قال أهل اللغة كل بيت مربع فهو مكعب وكعبة وذهب بعض المتأولين إلى أن معنى قوله تعالى قياما للناس أي موضع وجوب قيام بالمناسك والتعبدات وضبط النفوس في الشهر الحرام ومع الهدي والقلائد قال مكي معنى قياما للناس أي جعلها بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر اتباعه فهي تحجزهم عن ظلم بعضهم بعضا وكذلك الهدي والقلائد جعل ذلك أيضا قياما للناس فكان الرجل إذا دخل الحرم أمن من عدوه وإذا ساق الهدي كذلك لم يعرض له وكان الرجل إذا أراد الحج تقلد بقلادة من شعر وإذا رجع تقلد بقلادة من لحاء شجر الحرم فلا يعرض له ولا يؤذى حتى يصل إلى أهله قال ابن زيد كان الناس كلهم فيهم ملوك تدفع بعضهم عن بعض ولم يكن في العرب ملوك تدفع عن بعضهم ظلم بعض فجعل اللّه لهم البيت الحرام قياما يدفع بعضهم عن بعض انتهى من الهداية والشهر هنا اسم جنس والمراد الأشهر الثلاثة بإجماع من العرب وشهر مصر وهو رجب وأما الهدي فكان أمانا لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب وأما القلائد فكذلك كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد من لحاء السمر غيره شيئا فكان ذلك أمانا له وكذلك إذا انصرفوا تقلدوا من شجر الحرم وقوله ذلك إشارة إلى أن جعل اللّه هذه الأمور قياما وقوله سبحانه بكل شيء عليم عام عموما تاما في الجزئيات ودقائق الموجودات والقول بغير هذا إلحاد في الدين وكفر ٩٩وقوله سبحانه ما على الرسول إلا البلاغ الآية إخبار للمؤمنين مضمنه الوعيد أن انحرفوا ولم يمتثلوا ما بلغ الرسول إليهم واللّه يعلم ما تبدون وما تكتمون قلت قال الشيخ أبو مدين رضي اللّه عنه الحق تعالى مطلع على السرائر والظواهر في كل نفس وحال فايما قلت رآه مؤثرا له حفظه من الطوارق والمحن ومضلات الفتن وقال رحمه اللّه ما عرف الحق من لم يؤثره وما أطاعه من لم يشكره انتهى ١٠٠وقوله تعالى قل لا يستوي الخبيث والطيب الآية لفظ عام في جميع الأمور فيتصور في المكاسب وعدد الناس والمعارف من العلوم ونحوها فالخبيث من هذا كله لا يفلح ولا ينجب ولا تحسن له عاقبة والطيب وإن قل نافع جميل العاقبة وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا والخبث هو الفساد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح وهي بخلاف ذلك وقوله سبحانه فاتقوا اللّه يا أولي الألباب تنبيه على لزوم الطيب في المعتقد والعلم وخص أولوا الألباب بالذكر لأنهم المتقدمون في ميز هذه الأمور والذين لا ينبغي لهم إهمالها مع ألبابهم وإدراكهم وقوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم الآية اختلف الرواة في سببها والظاهر من الروايات أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحت عليه الأعراب والجهال بأنواع من السؤالات حسبما هو معلوم في الروايات فزجرهم اللّه تعالى عن ذلك بهذه الآية وأشياء أسم لجمع شيء قال ابن عباس معنى الآية لا تسألوا عن أشياء في ضمن الأنباء عنها مساءة لكم أما بتكليف شرعي يلزمكم وأما بخبر يسوءكم ولكن إذا نزل القرءان بشيء وابتدأكم ربكم بأمر فحينئذ أن سألتم عن تفصيله وبيانه بين لكم وابدي ويحتمل قوله وأن تسألوا عنها حين ينزل القرءان تبد لكم أن يكون في معنى الوعيد كأنه قال لا تسألوا وأن سألتم لقيتم غب ذلك وصعوبته قال النووي وعن أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن اللّه عز و جل فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها رويناه في سنن الدارقطني انتهى وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال دعوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم انتهى وعفا اللّه عنها معناه تركها ولم يعرف بها قد سألها قوم من قبلكم الآية قال الطبري كقوم صالح في سؤالهم الناقة وكبنى إسراءيل في سؤالهم المائدة أي وكطلب الأمم قديما التعمق في الدين من أنبيائها ثم لم تف بما كلفت ١٠٣وقوله سبحانه ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام الآية أي لم يجعل سبحانه شيئا من ذلك ولا سنه لعباده المعنى ولكن الكفار فعلوا ذلك كعمرو بن لحي وغيره من رؤسائهم يفترون على اللّه الكذب بقولهم هذه قربة إلى اللّه وأكثرهم يعنى الأتباع لا يعقلون بل يتبعون هذه الأمور تقليدا وجعل في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق ولا بمعنى صير وإنما هي بمعنى ماسن ولا شرع قال ص ما جعل ذهب ابن عطية والزمخشري إلى انها بمعنى شرع قال ابن عطية ولا تكون بمعنى خلق لأن اللّه تعالى خلق هذه الأشياء كلها ولا بمعنى صير لعدم المفعول الثاني قال أبو حيان ولم يذكر النحويون لها هذا وقد جاء حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها قليلا فتحمل هذه على حذف المفعول الثاني أي ما صير اللّه بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حاميا مشروعا وهو اولى من اثبات معنى لم يسمع فيها وذكر أبو البقاء أنها هنا بمعنى سمى انتهى قلت وحاصل كلام أبي حيان أنه شهادة على نفي وعلى تقدير صحته فيحمل كلام ابن عطية على أنه تفسير معنى لا تفسير اعراب وبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة وبحر شق كانوا إذا نتجت الناقة عشرة بطون شقوا أذنها بنصفين طولا فهي مبحورة وتركت ترعى وترد الماء ولا ينتفع بشيء منها ويحرم لحمها إذا ماتت على النساء ويحلل للرجال وذلك كله ضلال والسائبة هي الناقة تسيب للآلهة والناقة أيضا إذا تابعت ثنتي عشرة اناثا ليس فيهن ذكر سيبت وكانت السوائب أيضا في العرب كالقربة عند المرض يبرأ منه والقدوم من السفر وإذا نزل بأحدهم أمر يشكر اللّه تعالى عليه تقرب بأن يسيب ناقة فلا ينتفع منها بلبن ولا ظهر ولا غيره يرون ذلك كعتق بني ادم ذكره السدي وغيره وكانت العرب تعتقد أن من عرض لهذه النوق فأخذها انتفع منها بشيء فانه تلحقه عقوبة من اللّه والوصيلة قال اكثر الناس أن الوصيلة في الغنم قالوا إذا ولدت الشاة ثلاثة بطون خمسة فإن كان اخرها جديا ذبحوه لبيت الآلهة وأن كان عنافا استحيوها وان كان جدي وعناق استحيوهما وقالوا هذه العناق وصلت أخاها فمنعته من أن يذبح وعلى أن الوصيلة في الغنم جاءت الروايات عن اكثر الناس وروي عن ابن المسيب أن الوصيلة من الإبل وأما الحامي فإنه الفحل من الإبل إذا ضرب في الإبل عشر سنين وقيل إذا ولد من صلبه عشر وقيل إذا ولد من ولد ولده قالوا حمى ظهره فسيبوه لا يركب ولا يسخر في شيء وعبارة الفخر وقيل الحامي الفحل إذا ركب ولد ولده انتهى قلت والذي في البخاري والحام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود وإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل شيء عليه وسموه الحامي انتهى ١٠٤وقوله سبحانه وإذا قيل لهم يعني لهؤلاء الكفار المستنين بهذه الأشياء تعالوا إلى ما أنزل اللّه يعني القرءان الذي فيه التحريم الصحيح قالوا حسبنا معناه كفانا ١٠٥وقوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم الآية قال أبو ثعلبة الخشني سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن هذه الآية فقال ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم فإن وراءكم أياما أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم وهذا هو التأويل الذي لا نظر لاحد معه لأنه مستوف للصلاح صادر عن النبي عليه السلام وجملة ما عليه أهل العلم في هذا أن الأمر بالمعروف متعين متى رجي القبول رجي رد الظالم ولو بعنف ما لم يخف الآمر ضررا يلحقه في خاصته فتنة يدخلها على المسلمين أما بشق عصا وأما بضرر يلحق طائفة من الناس فإذا خيف هذا فعليكم أنفسكم محكم واجب أن يوقف عنده وقوله سبحانه إلى اللّه مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون هذا تذكير بالحشر وما بعده وذلك مسل عن أمور الدنيا مكروهها ومحبوبها روي عن بعض الصالحين أنه قال ما من يوم إلا ويجيء الشيطان فيقول ما تأكل وما تلبس وأين تسكن فأقول له آكل الموت والبس الكفن واسكن القبر قال ع فمن فكر في مرجعه إلى اللّه سبحانه فهذا حاله قلت وخرج البغوي في المسند المنتخب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال يا أيها الناس أنكم تعملون أعمالا تعزب عنكم إلى يوم القيامة وتوشك العوازب أن تؤب إلى أهلها فمسرور بها ومكظوم انتهى من الكوكب الدري واللّه المستعان ١٠٦وقوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان الآية إلى قوله يوم يجمع اللّه الرسل قال مكي هذه الآيات عند أهل المعاني من اشكل ما في القرءان اعرابا ومعنى وحكما قال ع وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها وذلك بين من كتابه وباللّه نستعين لا نعلم خلافا أن سبب هذه الآية أن تميما الداري وعدي بن بداء وكانا نصرانيين سافرا إلى المدينة يريدان الشام لتجارتهما وقدم المدينة أيضا ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاصي يريد الشام تاجرا قال الفخر وكان مسلما فخرجوا رفاقة فمرض ابن أبي مارية في الطريق وأوصى إلى تميم وعدي أن يؤديا رحله إلى اوليائه من بني سهم وروى ابن عباس عن تميم الداري أنه قال برى الناس من هذه الآية غيري وغير عدي بن بداء وذكر القصة إلا أنه قال وكان معه جام فضة يريد به الملك فأخذته أنا وعدي فبعناه بألف وقسمنا ثمنه فلما أسلمت بعد قدوم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت خمسمائة فوثبوا إلى عدي فأتوا به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحلف عمرو بن العاصي ورجل اخر معه ونزعت من عدي خمسمائة قال ع واختلفت الفاظ هذه القصة وما ذكرته هو عمود الأمر ولم تصح لعدي صحبة فيما علمت ولا ثبت إسلامه وقد صنفه في الصحابة بعض المتأخرين ولا وجه عندى لذكره في الصحابة وأما معنى الآية من أولها إلى اخرها فهو أن اللّه سبحانه أخبر المؤمنين أن حكمه في الشهادة على الموصى إذا حضره الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض ولم يكن معه من المؤمنين أحد فليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة انهما ما كذبا ولا بدلا وأن ما شهدنا به حق ما كتمنا فيه شهادة اللّه وحكم بشهادتهما فإن عثر بعد ذلك على انهما كذبا خانا نحو هذا مما هو اثم حلف رجلان من أولياء الموصى في السفر وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الاشعري وابن عباس وسعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وابن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وغيرهم قالوا ومعنى قوله منكم أي من المؤمنين ومعنى من غيركم أي من الكافرين قال بعضهم وذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة وكانوا يسافرون في التجارة مع أنواع الكفرة واختلفت هذه الجماعة المذكورة فمذهب أبي موسى الاشعري وغيره ان الآية محكمة ومذهب جماعة جماعه منهم أنها منسوخة بقوله وأشهدوا ذوي عدل منكم وبما عليه إجماع جمهور الناس إن شهادة الكفار لا تجوز قال ع ولنرجع الآن إلى الاعراب ولنقصد القول المفيد لأن الناس خلطوا في تفسير هذه الآية تخليطا شديدا وذكر ذلك والرد عليه يطول وفي تبيين الحق الذي تتلقاه الأذهان بالقبول مقنع واللّه المستعان فقوله تعالى شهادة بينكم هي الشهادة التي تحفظ لتؤدي ورفعها بالابتداء والخبر في قوله اثنان وقوله تعالى إذا حضر أحدكم الموت معناه إذا قارب الحضور والعامل في إذا المصدر الذي هو شهادة وهذا على أن تجعل إذا بمنزلة حين لا تحتاج إلى جواب ولك أن تجعل إذا في هذه الآية المحتاجة إلى الجواب لكن استغنى عن جوابها بما تقدم في قوله شهادة بينكم إذ المعنى إذا حضر أحدكم الموت فينبغي أن يشهد وقوله حين الوصية ظرف زمان والعامل فيه حضر وإن شئت جعلته بدلا من إذا وقوله ذوا عدل صفة لقوله اثنان ومنكم صفة أيضا بعد صفة وقوله من غيركم صفه لاخران وقوله تحبسونها صفة لاخران ايضا واعترض بين الموصوف والصفة بقوله أن أنتم إلى الموت وأفاد الاعتراض أن العدول إلى آخرين من غير الملة إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه واستغني عن جواب أن لما تقدم من قوله آخران من غيركم وقال جمهور من العلماء الصلاة هنا صلاة العصر وقال ابن عباس إنما هي صلاة الذميين وأما العصر فلا حرمة لها عندهما والفاء في قوله فيقسمان عاطفة جملة على جملة لأن المعنى تم في قوله من بعد الصلاة وقوله إن ارتبتم شرط لا يتجه تحليف الشاهدين إلا به والضمير في قول الحالفين لا نشتري به عائد على القسم على اسم اللّه وقوله لا نشتري جواب يقتضيه قوله فيقسمان باللّه لأن أقسم ونحوه يتلقى بما تتلقى به الإيمان وقوله ثمنا أي ذا ثمن وخص ذو القربى بالذكر لأن العرب أميل الناس إلى قراباتهم واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يستسهل وقوله ولا نكتم شهادة اللّه أضاف الشهادة إليه تعالى من حيث هو الآمر بإقامتها الناهي عن كتمانها وروي عن الشعبي وغيره شهادة بالتنوين اللّه بقطع الألف دون مد وخفض الهاء وقال أيضا يقف على الهاء من شهادة بالسكون ثم يقطع الألف المكتوبة من غير مد كما تقدم وروي عنه كان يقرأ آللّه بمد ألف الاستفهام في الوجهين اعني بسكون الهاء من شهادة وتحريكها منونة منصوبة ورويت هذه التي هي تنوين شهادة ومد ألف الاستفهام بعد عن علي بن أبي طالب قال أبو الفتح إنما تسكن هاء شهادة في الوقف عليها ١٠٧وقوله سبحانه فإن عثر استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه واستحقا إثما معناه استوجباه من اللّه وكانا أهلا له لأنهما ظلما وخانا وقوله تعالى فآخران أي إذا عثر على خيانتهما فألاوليان باليمين وإقامة القضية آخران من القوم الذين هم ولاة الميت واستحق عليهم حظهم نصيبهم مالهم ما شئت من هذه التقديرات وقرأ نافع وغيره استحق مضمومة التاء والاوليان على تثنية الأولى وروي عن ابن كثير استحق بفتح التاء وكذلك روي حفص عن عاصم وفي قوله استحق استعارة لأنه لا وجه لهذا الاستحقاق إلا الغلبة على الحال بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته لأهل دينه فاستحق هنا كما تقول لظالم يظلمك هذا قد استحق علي مالي منزلي بظلمه فتشبهه بالمستحق حقيقة إذ تصور تصوره وتملك تملكه هكذا هي استحق في الآية على كل حال وأن أسندت إلى النصيب ونحوه وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر أستحق بضم التاء الأولين على جمع أول ومعناها من القوم الذين استحق عليهم أمرهم إذ غلبوا عليه ثم وصفهم بأنهم أولون أي في الذكر في هذه الآية وذلك في قوله اثنان ذوا عدل منكم ثم بعد ذلك قال آخران من غيركم وقوله فيقسمان يعني الآخرين اللذين يقومان مقام شاهدي الزور وقولهما لشهادتنا أي لما أخبرنا نحن به وذكرناه من نص القصة أحق مما ذكراه أولا وحرفاه وما اعتدينا في قولنا هذا وقولهما انا إذا لمن الظالمين تبر في صيغة الاستعظام والاستقباح للظلم وقوله تعالى ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها يخافوا أن ترد إيمان بعد إيمانهم الآية الإشارة بذلك هي إلى جميع ما حد قبل من حبس الشاهدين من بعد الصلاة لليمين ثم أن عثر على جورهما ردت اليمين وغرما فذلك كله اقرب إلى اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل لأنهم يخافون الفضيحة ورد اليمين هذا قول ابن عباس وجمع الضمير في يأتوا يخافوا إذ المراد صنف ونوع من الناس والمعنى ذلك الحكم كله اقرب إلى أن يأتوا واقرب إلى أن يخافوا وباقي الآية بين ١٠٩قوله تعالى يوم يجمع اللّه الرسل ذهب قوم إلى أن العامل في ما تقدم من قوله تعالى لا يهدى وذلك ضعيف ورصف الآية وبراعتها إنما هو أن يكون هذا الكلام مستأنفا والعامل مقدر أما أذكر تذكروا احذروا ونحو هذا مما حسن اختصاره لعلم السامع به والإشارة بهذا اليوم إلى يوم القيامة وخص الرسل بالذكر لإنهم قادة الخلق وهم المكلمون أولا وما ذا اجبتم معناه ما ذا أجابتكم الأمم وهذا السؤال للرسل إنما هو لتقوم الحجة على الأمم واختلف الناس في معنى قولهم عليهم السلام لا علم لنا قال الطبري ذهلوا عن الجواب لهول المطلع وقاله الحسن وعن مجاهد أنه قال يفزعون فيقولون لا علم لنا وضعف بعض الناس هذا المنزع بقوله تعالى لا يحزنهم الفزع الأكبر وقال ابن عباس معنى الآية لا علم لنا إلا ما علمتنا أنت أعلم به منا وقول ابن عباس حسن وهو أصوب هذه المناحي لأنه يتخرج على التسليم للّه تعالى ورد الأمر اليه إذ هو العالم بجميع ذلك على التفصيل والكمال فرأوا التسليم والخضوع لعلمه المحيط سبحانه قال مكي قال ابن عباس المعنى لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا وهو اختيار الطبري وقيل لما كان السؤال عاما يقتضي بعمومه سؤالهم عن سر الأمم وعلانيتها ردوا الأمر إليه إذ ليس عندهم إلا علم الظاهر قال مكي وهذا القول أحب الأقوال إلي قال ومعنى مسألة اللّه الرسل عما أجيبوا إنما هو لمعنى التوبيخ لمن أرسلوا إليه كما قال تعالى وإذا الموءودة سئلت انتهى من الهداية ١١٠وقوله تعالى إذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك الآية قال هنا بمعنى يقول لان ظاهر هذا القول أنه في القيامة تقدمة لقوله سبحانه ءأنت قلت للناس وقوله سبحانه وإذ تخرج الموتى أي من قبورهم وكف بني إسراءيل عنه عليه السلام هو رفعه حين أحاطوا به في البيت مع الحواريين وكذلك منعه منهم قبل ذلك إلى تلك النازلة الأخيرة فهناك ظهر عظم الكف ١١١وقوله سبحانه وإذ أوحيت إلى الحواريين هو من جملة تعديد النعم على عيسى عليه السلام وأوحيت في هذا الموضع أما أن يكون ومي الهام وحي أمر وبالجملة فهو القاء معنى في خفاء أوصله سبحانه إلى نفوسهم كيف شاء والرسول في هذه الآية عيسى وقول الحواريين وأشهد يحتمل أن يكون مخاطبة منهم للّه سبحانه ويحتمل أن يكون لعيسى وقوله سبحانه إذ قال الحواريون الآية اعتراض اثناء وصف حال قول اللّه لعيسى يوم القيامة مضمن الاعتراض أخبار نبينا صلى اللّه عليه وسلم وأمته بنازلة الحواريين في المائدة إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها تقتدي بمحاسنه وتزدجر عما ينفر منه من طلب الآيات ونحوه وقرأ الجمهور هل يستطيع ربك بالياء ورفع الباء من ربك والمعنى هل يفعل ربك هذا وهل تقع منه إجابة إليه ولم يكن منهم هذا شك في قدرة اللّه سبحانه إذ هم اعرف باللّه من أن يشكوا في قدرته وقرأ الكساءي هل تستطيع ربك بالتاء ونصب الباء من ربك والمعنى هل تستطيع سؤال ربك وادغم اللام في التاء أعنى الكساءي وقال قوم قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر قبل علمهم بأنه يبرىء الاكمه والأبرص ويحي الموتى ويظهر من قوله عليه السلام اتقوا اللّه إن كنتم مؤمنين إنكار لقولهم واقتراحهم الآيات والتعرض لسخط اللّه بها وقلة طمأنينتهم إلى ما قد ظهر ولما خاطبهم عليه السلام بهذه المخاطبة صرحوا بمقاصدهم التي حملتهم على طلب المائدة فقالوا نريد أن نأكل منها فنشرف في العالم وتطمئن قلوبنا أي تسكن فكرنا في أمرك بالمعاينة لأمر نازل من السماء بأعيننا ونعلم علم الضرورة والمشاهدة أن قد صدقتنا فلا تعرضنا الشبه التي تعرض في علم الاستدلال وهذا يؤيد أن مقالتهم كانت في مبدأ أمرهم ثم استمروا على إيمانهم وصبروا وهلك من كفر وقولهم ونكون عليها من الشاهدين أي من الشاهدين بهذه النازلة الناقلين لها إلى غيرنا الداعين إلى هذا الشرع بسببها وروي أن الذي نحا بهم هذا المنحى من الاقتراح هو أن عيسى قال لهم مرة هل لكم في صيام ثلاثين يوما للّه سبحانه ثم إن سألتموه حاجة قضاها فلما صاموها قالوا يا معلم الخير أن حق من عمل عملا أن يطعم فهل يستطيع ربك فأرادوا أن تكون المائدة عيد ذلك الصوم ١١٤وقوله سبحانه قال عيسى ابن مريم اللّهم ربنا انزل علينا مائدة من السماء الآية أي أجابهم عيسى عليه السلام إلى ما سألوا فيروى أنه لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويبكي والعيد المجتمع وقوله لأولنا وآخرنا روي عن ابن عباس أن المعنى يكون مجتمعا لجميعنا أولنا وآخرنا قال فأكل من المائدة حين وضعت أول الناس كما أكل آخرهم وآية منك أي وعلامة على صدقي فأجاب اللّه تعالى دعوة عيسى عليه السلام وقال إني منزلها عليكم ثم شرط عليهم سبحانه شرطه المتعارف في الأمم أنه من كفر بعد آية الاقتراح عذب اشد عذاب والجمهور أن المائدة نزلت كما أخبر اللّه سبحانه واختلفوا في كيفية ذلك فقال أبو عبد الرحمن السلمي نزلت المائدة خبزا وسمكا وقال عطية المائدة سمكة فيها طعم كل طعام وقال ابن عباس نزل خوان عليه خبز وسمك يأكلون منه اين ما نزلوا إذا شاءوا وقال عمار بن ياسر سألوا عيسى مائدة يكون عليها طعام لا ينفد فقيل لهم إنها مقيمة لكم ما لم تخبؤا تخونوا فإن فعلتم عذبتم قال فما مضى يوم حتى خبئوا وخانوا يعني بني اسراءيل فمسخوا قردة وخنازير وقال ميسرة كانت المائدة إذا وضعت لبني اسراءيل اختلفت عليهم الأيدي بكل طعام إلا اللحم وأكثر الناس في قصص المائدة مما رأيت اختصاره لعدم سنده وقوله سبحانه وإذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون اللّه الآية اختلف المفسرون في وقت وقوع هذا القول فقال السدي وغيره لما رفع اللّه عيسى إلى السماء قالت النصارى ما قالت وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك فسأله تعالى عن قولهم فقال سبحانك الآية ويجيء على هذا قوله وإن تغفر لهم أي في التوبة من الكفر لأن هذا قاله وهم أحياء في الدنيا وقال ابن عباس وجمهور الناس هذا القول من اللّه إنما هو يوم القيامة يقوله اللّه له على رؤس الخلائق فيرى الكفار تبريه منهم ويعلمون أن ما كانوا فيه باطل فقال على هذا التأويل بمعنى يقول ونزل الماضي موضع المستقبل لدلالته على كون الأمر وثبوته وقوله آخرا وإن تغفر لهم معناه إن عذبت العالم كله فبحقك فهم عبادك تصنع بحق الملك ما شئت لا اعتراض عليك وإن غفرت وسبق ذلك في علمك فلانك أهل لذلك لا معقب لحكمك ولا منازع لك فيقول عيسى هذا على جهة التسليم والتعزي عنهم مع علمه بأنهم كفرة قد حتم عليهم العذاب وهذا القول عندي أرجح ويتقوى بما يأتي بعد وهو قوله سبحانه هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم وقوله سبحانك أي تنزيها لك عن ان يقال هذا وينطق به ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق أي ما يكون لبشر محدث أن يدعي الالوهية ثم قال إن كنت قلته فقد علمته لأنك أحطت بكل شيء علما وأحصيت كل شيء عددا فوفق اللّه عيسى لهذه الحجة البالغة وقوله تعلم ما في نفسي خص النفس بالذكر لأنها مظنة الكتم والانطواء على المعلومات والمعنى أن اللّه سبحانه يعلم ما في نفس عيسى ويعلم كل أمره مما عسى أن لا يكون في نفسه وقوله ولا أعلم ما في نفسك معناه ولا أعلم ما عندك من المعلومات وما أحطت به وذكر النفس هنا مقابلة لفظية في اللسان العربي يقتضيها إلإيجاز وهذا ينظر من طرف خفي إلى قوله تعالى ومكروا ومكر اللّه واللّه يستهزئ بهم فتسمية العقوبة باسم الذنب إنما قاد إليها طلب المقابلة اللفظية إذ هي من فصيح الكلام وبارع العبارة ثم أقر عيسى عليه السلام للّه تعالى بأنه سبحانه علام الغيوب أي ولا علم لي أنا بغيب وقوله فلما توفيتنى أي قبضتني بالرفع والتصيير في السماء والرقيب الحافظ المراعي وقوله فإنك أنت العزيز أي في قدرتك الحكيم في أفعالك والمعنى إن يكن لك في الناس معذبون فهم عبادك وإن يكن مغفور لهم فعزتك وحكمتك تقتضي هذا كله قال اللّه هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم فدخل تحت هذه العبارة كل مؤمن باللّه سبحانه وكل ما كان أتقى فهو أدخل في العبارة وجاءت هذه العبارة مشيرة إلى عيسى عليه السلام في حاله وصدقه فيحصل له بذلك في الموقف شرف عظيم وإن كان اللفظ يعمه وسواه ثم ذكر تعالى ما أعده لهم برحمته وطوله جعلنا اللّه منهم بمنه وسعة جوده لا رب غيره ولا مرجو في الدارين سواه وباقي الآية بين جعل اللّه ما كتبناه من هذه الأحرف نورا يسعى بين أيدينا بمنه والحمد للّه كما هو أهله وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وسلم |
﴿ ٠ ﴾