سورة الأنعامسورة الأنعام قيل كلها مكية إلا ءايات يسيرة بسم اللّه الرحمن الرحيم قال ابن عباس نزلت سورة الأنعام وحولها سبعون الف ملك لهم زجل يجأرون بالتسبيح قلت وعن جابر بن عبد اللّه قال لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين وقال صحيح على شرط مسلم انتهى من السلاح ١وقوله تعالى الحمد للّه الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور قال علي بن عبد الرحمن اليفرني في شرحه للبرهانية قال الإمام الفخر لفظ الحمد معرفا لا يقال إلا في حق اللّه عز و جل لأنه يدل على التعظيم ولا يجوز أن يقال الحمد لزيد قاله سيبويه وذكر ابن العربي في القانون عن أنس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما من شيء أحب إلى اللّه من الحمد وأبلغ الحمد الحمد للّه على كل حال قال ابن العربي وفي بعض الآثار ما من نعمة عظمت إلا والحمد للّه أعظم منها انتهى قال ع وجعل هاهنا بمعنى خلق ولا يجوز غير ذلك قال قتادة والسدي وجمهور من المفسرين الظلمات الليل والنور النهار وقالت فرقة الظلمات الكفر والنور الايمان قال ع وهذا على جهة التشبيه صحيح وعلى ما يفهمه عباد الأوثان غير جيد لأنه إخراج لفظ بين في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن لغير ضرورة وهذا هو طريق اللغز الذي برئ القرآن منه والنور أيضا هنا للجنس وقوله تعالى ثم دالة على قبح فعل الذين كفروا لان المعنى أن خلقه السموات والأرض وغيرها الموجبة لحمده وتوحيده قد تقرر وءاياته قد سطعت وإنعامه بذلك على العباد قد تبين فكان الواجب عليهم إخلاص التوحيد له ثم هم بعد هذا كله بربهم يعدلون أي يسوون ويمثلون وعدل الشيء قرينه ومثيله والذين كفروا في هذا الموضع كل من عبد شيئا سوى اللّه إلا أن السابق من حال النبي صلى اللّه عليه وسلم أن الإشارة إلى عبدة الأوثان من العرب لمجاورتهم له ولفظ الآية أيضا يشير إلى المانوية العابدين للنور القائلين أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلام ٢وقوله تعالى هو الذي خلقكم من طين فالمعنى خلق آدم من طين وقوله سبحانه ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده اختلف في هذين الاجلين فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره أجلا أجل الإنسان من لدن ولادته إلى موته الأجل المسمى عنده من وقت موته إلى حشره ووصفه بمسمى عنده لأنه استأثر سبحانه بعلم وقت القيامة وقال ابن عباس أجلا الدنيا وأجل مسمى الآخرة وقيل غير هذا وتمترون معناه تشكون ٣وقوله سبحانه وهو اللّه في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم قاعدة الكلام في هذه الآية أن حلول اللّه في الأماكن مستحيل تعالى أن يحويه مكان كما تقدس أن يحده زمان بل كان قبل أن خلق المكان والزمان وهو الآن على ما عليه كان وإذا تقرر هذا فقالت فرقة من العلماء تأويل ذلك على تقدير صفة محذوفة من اللفظ ثابتة في المعنى كأنه قال وهو اللّه المعبود في السموات وفي الأرض وعبر بعضهم بأن قدر وهو اللّه المدبر للأمر في السموات والأرض وقال الزجاج في متعلقة بما تضمنه اسم اللّه من المعاني كما يقال أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب قال ع وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازا لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى وإيضاحه أنه أراد أن يدل على خلقه وآثار قدرته واحاطته واستيلائه ونحو هذه الصفات فجمع هذه كلها في قوله وهو اللّه أي الذي له هذه كلها في السموات وفي الأرض كأنه قال وهو اللّه الخالق الرازق المحي المحيط في السموات وفي الأرض كما تقول زيد السلطان في المشرق والمغرب والشام والعراق فلو قصدت ذات زيد لقلت محالا وإذا كان مقصد قولك الآمر الناهي الناقض المبرم الذي يعزل ويولي في المشرق والمغرب فأقمت السلطان مقام هذه كان فصيحا صحيحا فكذلك في الآية أقام لفظة اللّه مقام تلك الصفات المذكورة وقالت فرقة وهو اللّه ابتداء وخبر تم الكلام عنده ثم استأنف وتعلق قوله في السموات بمفعول يعلم كأنه قال وهو اللّه يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض وقوله تعالى يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون خبر في ضمنه تحذير وزجر وتكسبون لفظ عام لجميع الاعتقادات والأقوال والأفعال ٤وقوله سبحانه وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين تضمنت هذه الآية مذمة هؤلاء الذين يعدلون باللّه سواه بأنهم يعرضون عن كل آية وكذبوا بالحق وهو محمد عليه السلام وما جاء به قال ص من آية من آيات ربهم من الأولى زائدة للاستغراق وما بعدها فاعل بقوله تأتيهم ومن الثانية للتبعيض انتهى وقوله تعالى فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون هذا وعيد لهم شديد وهذه العقوبات التي توعدوا بها تعم عقوبات الدنيا كبدر وغيرها وعقوبات الآخرة ٦وقوله سبحانه ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم هذا حض على العبرة والرؤية هنا رؤية القلب والقرن الأمة المقترنة في مدة من الزمن واختلف في مدة القرن كم هي فالأكثر على أنها مائة سنة وقيل غير هذا وقيل القرن الزمن نفسه وهو على حذف مضاف تقديره من أهل قرن قال عياض في الإكمال واختلف في لفظ القرن وذكر الحربي فيه الاختلاف من عشر سنين إلى مائة وعشرين ثم قال يعننى الحربي وليس منه شيء واضح وأرى القرن كل أمة هلكت فلم يبق منها أحد انتهى والضمير في مكناهم عائد على القرن والمخاطبة في لكم هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم من سائر الناس والسماء هنا المطر ومدرارا بناء تكثير ومعناه يدر عليهم بحسب المنفعة وقوله سبحانه وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين أنشأنا اخترعنا وخلقنا ويظهر من الآية أن القرن إنما هو وفاة الأشياخ ثم ولادة الأطفال ٧وقوله تعالى ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس الآية لما أخبر عنهم سبحانه بأنهم كذبوا بكل ما جاءهم من آية اتبع ذلك بإخبار فيه مبالغة والمعنى ولو نزلنا بمرأى منهم عليك كتابا أي كلاما مكتوبا في قرطاس أي في صحيفة فلمسوه بأيديهم يريد أنهم بالغوا في ميزه وتقليبه ليرتفع كل ارتياب لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم وقالوا هذا سحر مبين ٨وقوله سبحانه وقالوا لولا أنزل عليه ملك أي يصدق محمدا في نبوءته ثم رد اللّه عليهم بقوله ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر قال ابن عباس وغيره في الكلام حذف تقديره ولو انزلنا ملكا فكذبوه لقضي الأمر بعذابهم ولم ينظروا حسبما سلف في كل أمة اقترحت بآية وكذبت بعد أن أظهرت إليها وقالت فرقة لقضي الأمر أي لماتوا من هول رؤية الملك في صورته ويؤيد هذا التأويل ما بعده من قوله ولو جعلنا ه ملكا لجعلناه رجلا فإن أهل التأويل مجمعون أن ذلك لإنهم لم يكونوا يطيقون رؤية الملك في صورته فإذ قد تقعد أنهم لا يطيقون رؤية الملك في صورته فالأولى في قوله لقضي الأمر أي لماتوا لهول رؤيته ثم لا ينظرون أي لا يؤخرون ومما يؤيد هذا المعنى الحديث الوارد عن الرجلين اللذين صعدا على الجبل يوم بدر ليريا ما يكون في حرب النبي صلى اللّه عليه وسلم للمشركين فسمعا حس الملائكة وقائلا يقول في السحاب اقدم حيزوم فانكشف قناع قلب أحدهما فمات لهول ذلك فكيف برؤية ملك في خلقته وللبسنا أي لفعلنا لهم في ذلك فعلا ملبسا يطرق لهم إلى أن يلبسوا به وذلك لا يحسن قلت وفي البخاري وللبسنا عليهم ما يلبسون لشبهنا ١٠وقوله سبحانه ولقد استهزئ برسل من قبلك الآية تسلية للنبي صلى اللّه عليه وسلم بالأسوة في الرسل وتقوية لنفسه على محاجة المشركين وإخبار يتضمن وعيد مكذبيه والمستهزءين به وحاق معناه نزل وأحاط وهي مخصوصة في الشر يقال حاق يحيق حيقا ١١وقوله سبحانه قل سيروا في الأرض حض على الاعتبار بآثار من مضى ممن فعل مثل فعلهم ١٢وقوله سبحانه قل لمن ما في السموات والأرض قل للّه قال بعض أهل التأويل تقدير الكلام قل لمن ما في السموات والأرض فإذا تحيروا فلم يجيبوا قل للّه والصحيح من التأويل أن اللّه عز و جل أمر نبيه عليه السلام أن يقطعهم بهذه الحجة والبرهان القطعي الذي لا مدافعة فيه عندهم ولا عند أحد ليتقعد هذا المعتقد الذي بينه وبينهم ثم يتركب احتجاجه عليه فكأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لهم يا أيها الكافرون العادلون بربهم لمن ما في السموات والأرض ثم سبقهم فقال للّه أي لا مدافعة في هذا عندكم ولا عند أحد تم ابتدأ يخبر عن اللّه تعالى كتب على نفسه الرحمة معناه قضاها وانفذها وفي هذا المعنى أحاديث صحيحة ففي صحيح مسلم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم جعل اللّه الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وانزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه ولمسلم في طريق آخر كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة وخرج مسلم والبخاري وغيرهما عنه صلى اللّه عليه و سلم قال لما خلق اللّه الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي وفي طريق سبقت غضبي إلى غير ذلك من الأحاديث انتهى قال ع فما أشقى من لم تسعه هذه الرحمات تغمدنا اللّه بفضل منه ويتضمن هذا الإخبار عن اللّه سبحانه بأنه كتب الرحمة تأنيس الكفار ونفي يأسهم من رحمة اللّه إذا أنابوا واللام في قوله ليجمعنكم لام قسم والكلام مستأنف وهذا اظهر الأقوال وأصحها وقوله سبحانه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون الذين رفع بالابتداء وخبره فهم لا يؤمنون ١٣وقوله تعالى وله ما سكن في الليل والنهار الآية وله عطف على قوله للّه وسكن هي من السكنى ونحوه أي ما ثبت وتقرر قاله السدي وغيره وقالت فرقة هو من السكون وهو ضعيف ١٤وقوله تعالى قل أغير اللّه اتخذ وليا فاطر السموات والأرض الآية قال الطبري وغيره أمر عليه السلام أن يقول هذه المقالة للكفرة الذين دعوه إلى عبادة أوثانهم فتجيء الآية على هذا جوابا لكلامهم قال ع وهذا يحتاج إلى سند والفصيح أنه لما قرر معهم أن اللّه تعالى له ما في السموات والأرض وله ما سكن في الليل والنهار أمر أن يقول لهم على جهة التوبيخ والتوقيف أغير اللّه الذي هذه أفعاله أتخذ وليا بمعنى أن هذا خطأ بين ممن يفعله والولي لفظ عام لمعبود وغير ذلك ثم أخذ في صفات اللّه تعالى فقال فاطر بخفض الراء نعت للّه عز و جل قال ص فاطر الجهور بالجر ووجهه ابن عطية وغيره على أنه نعت للّه وأبو البقاء على أنه بدل وكأنه رأى الفصل بين البدل و المبدل اسهل لان البدل في المشهور على نية تكرار العامل انتهى وفطر معناه ابتدع وخلق وانشأ وفطر أيضا في اللغة شق ومنه هل ترى من فطور أي من شقوق ويطعم ولا يطعم المقصود به يرزق ولا يرزق وقوله قل إني أمرت إلى عظيم قال المفسرون المعنى أول من أسلم من هذه الأمة وبهذه الشريعة ولفظة عصيت عامة في أنواع المعاصي ولكنها هاهنا إنما تشير إلى الشرك المنهي عنه واليوم العظيم هو يوم القيامة وقرأ نافع وغيره من يصرف عنه مسندا إلى المفعول وهو الضمير العائد على العذاب وقرأ حمزة وغيره من يصرف بإسناد الفعل إلى الضمير العائد إلى ربي ويعمل في ضمير العذاب المذكور لكنه محذوف وقوله وذلك إشارة إلى صرف العذاب وحصول الرحمة والفوز النجاة ١٧وقوله تعالى وإن يمسسك اللّه بضر فلا كاشف له إلا هو يمسسك معناه يصبك وينلك والضر بضم الضاد سوء الحال في الجسم وغيره وبفتحها ضد النفع ومعنى الآية الأخبار أن الأشياء كلها بيد اللّه إن ضر فلا كاشف لضره غيره وإن أصاب بخير فكذلك أيضا وعن ابن عباس قال كنت خلف النبي صلى اللّه عليه وسلم يوما فقال يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ اللّه يحفظك احفظ اللّه تجده تجاهك وإذا سألت فاسأل اللّه وإذا استعنت فاستعن باللّه واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللّه لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللّه عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف رويناه في الترمذي وقال حديث حسن صحيح وفي رواية غير الترمذي زيادة احفظ اللّه تجده أمامك تعرف إلى اللّه في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن ما اخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك وفي آخره واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا قال النووي هذا حديث عظيم الموقع انتهى من الحلية وقرأت فرقة وأوحى إلي هذا القرآن على بناء الفعل للفاعل ونصب القرآن وفي أوحى ضمير يعود على اللّه تعالى وقوله لأنذركم به ومن بلغ معناه على قول الجمهور بلاغ القرآن أي لأنذركم وأنذر من بلغه ففي بلغ ضمير محذوف لأنه في صلة من فحذف لطول الكلام وقالت فرقة ومن بلغ الحلم وروي في معنى التأويل الأول أحاديث وظاهر الآية أنها في عبدة الأصنام وذكر الطبري أنه قد ورد من وجه لم تثبت صحته أنها في قوم من اليهود قالوا يا محمد ما تعلم مع اللّه إلها غيره فقال لهم لا اله إلا اللّه وبذلك أمرت فنزلت الآية واللّه أعلم وأمر اللّه سبحانه نبيه عليه السلام أن يعلن بالتبرى من شهادة الكفرة والإعلان بالتوحيد للّه عز و جل والتبري من إشراكهم قال الغزالي في الأحياء وينبغي للتالي أن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن فإن سمع أمرا نهيا قدر أنه المنهي والمأمور وكذا إن سمع وعدا وعيدا وكذا ما يقف عليه من القصص فالمقصود به الاعتبار قال تعالى وكل نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وقال تعالى هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين وقال وأوحي إلي هذا القرآن لإنذركم به ومن بلغ قال محمد ابن كعب القرظي من بلغه القرآن فكأنما كلمه اللّه عز و جل انتهى ٢٠وقوله سبحانه الذين ءاتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم قال قتادة وغيره يعرفون محمدا عليه السلام وقوله الذين خسروا أنفسهم الآية روي أن كل عبد له منزل في الجنة ومنزل في النار فالمؤمنون ينزلون منازل أهل الكفر في الجنة والكافرون ينزلون منازل أهل الجنة في النار فهنا هي الخسارة البينة والربح للآخرين وباقي الآية بين ٢٢وقوله سبحانه ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون المعنى واذكر يوم نحشرهم ٢٣وقوله تعالى ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا واللّه ربنا ما كنا مشركين الفتنة في كلام العرب لفظة مشتركة تقال بمعنى حب الشيء والإعجاب به وتقال بمعنى الاختبار ومن قال إن أصل الفتنة الاختبار من فتنت الذهب في النار ثم يستعار بعد ذلك في غير ذلك فقد اخطأ لان الاسم لا يحكم عليه بمعنى الاستعارة حتى يقطع عليه باستحالة حقيقته في الموضع الذي استعير له كقول ذي الرمة ولف الثريا في ملاءته الفجر ونحوه والفتنة لا يستحيل أن تكون حقيقة في كل موضع قيلت عليه وباقي الآية مضى تفسيره عند قوله سبحانه ولا يكتمون اللّه حديثا فأنظره هناك قال ع وعبر قتادة عن الفتنة هنا بأن قال معذرتهم وقال الضحاك كلامهم وقيل غير هذا مما هو في ضمن ما ذكرناه ٢٤وقوله سبحانه انظر كيف كذبوا على أنفسهم هذا خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم لى اللّه عليه وسلم والنظر نظر القلب وقال كذبوا في أمر لم يقع إذ هي حكاية عن يوم القيامة فلا أشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل ويفيدنا استعمال الماضي تحقيقا في الفعل وإثباتا له وهذا مهيع في اللغة وضل عنهم معناه ذهب افتراؤهم في الدنيا وكذبهم على اللّه ٢٥وقوله سبحانه ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم اكنة جمع كنان وهو الغطاء أن يفقهوه أي يفهموه والوقر الثقل وقوله سبحانه وأن يروا كل آية لا يؤمنوا بها الرؤية هنا رؤية العين يريد كانشقاق القمر وشبهه وقولهم إن هذا إلا أساطير الأولين إشارة إلى القرآن والأساطير جمع إسطار كأقوال وأقاويل واسطار جمع سطر سطر وقيل أساطير جمع اسطارة وهي الترهات وقيل جمع أسطورة كأعجوبة وأضحوكة وقيل هو اسم جمع لا واحد له من لفظه كعباديد وشماطيط والمعنى أخبار الأولين وقصصهم وأحاديثهم التي تسطر وتحكى ولا تحقق كالتواريخ وإنما شبهها الكفار بأحاديث النضر بن الحارث وعبد اللّه بن أبي أمية عن رستم ونحوه ومجادلة الكفار كانت مرادتهم نور اللّه بأقوالهم المبطلة وهم ينهون عنه قال قتادة وغيره المعنى ينهون عن القرآن وقال ابن عباس وغيره ينهون عن النبي صلى اللّه عليه وسلم والمعنى ينهون غيرهم ويبعدون هم بأنفسهم والنأي البعد قال ص وإن يهلكون إن نافية بمعنى ما وأنفسهم مفعول بيهلكون انتهى وما يشعرون معناه ما يعلمون علم حس ونفي الشعور مذمة بالغة إذ البهائم تشعر وتحس فإذا قلت فلان لا يشعر فقد نفيت عنه العلم النفي العام الذي يقتضي أنه لا يعلم ولا المحسوسات وقوله جلت عظمته ولو ترى إذ وقفوا على النار الآية المخاطبة فيه للنبي صلى اللّه عليه وسلم وجواب لو محذوف تقديره في آخر الآية لرأيت هولا عظيما ونحوه ووقفوا معناه حسوا ويحتمل قوله وقفوا على النار بمعنى دخلوها قاله الطبري ويحتمل أن يكون أشرفوا عليها وعاينوها وقولهم يا ليتنا نرد معناه إلى الدنيا ٢٨وقوله سبحانه بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل الآية يتضمن أنهم كانوا يخفون أمورا في الدنيا فظهرت لهم يوم القيامة ظهر وبال ذلك وعاقبته فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وقيل أن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي صلى اللّه عليه وسلم خافوا وأخفوا ذلك الخوف ليلا يشعر بهم أتباعهم فظهر لهم ذلك يوم القيامة ويصح أن يكون مقصد الآية الأخبار عن هول ما لقوه فعبر عن ذلك بأنهم ظهرت لهم مستوراتهم في الدنيا من معاص وغيرها فكيف الظن بما كانوا يعلنونه من كفر ونحوه وينظر إلى هذا التأويل قوله تعالى في تعظيم شأن يوم القيامة يوم تبلى السرائر وقوله سبحانه ولو ردوا لعادوا إخبار عن أمر لا يكون كيف كان يوجد وهذا النوع مما استأثر اللّه تعالى بعلمه فإن أعلم بشيء منه علم وإلا لم يتكلم فيه قال الفخر قال الواحدي هذه الآية من الأدلة الظاهرة على فساد قول المعتزلة لأن اللّه تعالى حكى عن هؤلاء أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وما ذلك إلا للقضاء السابق فيهم انتهى ٢٩وقوله تعالى وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين هذا على تأويل الجمهور ابتداء كلام وإخبار عنهم بهذه المقالة وإن نافية ومعنى الآية عنهم التكذيب بالحشر والعودة إلى اللّه وقوله سبحانه أليس هذا بالحق الإشارة بهذا إلى البعث الذي كذبوا به في الدنيا وقولهم بلى وربنا إيمان ولكنه حين لا ينفع وقوله فذوقوا استعارة بليغة والمعنى باشروه مباشرة الذائق وبغتة معناه فجأة تقول بغتنى الأمر أي فجأني ومنه قول الشاعر ... ولكنهم بانوا ولم أخش بغتة ... وافظع شيء حين يفجأك البغت ... ونصبها على المصدر في موضع الحال وقولهم يا حسرتنا على ما فرطنا فيها نداء الحسرة على تعظيم الأمر وتشنيعه وفرطنا معناه قصرنا والضمير في قوله فيها عائد على الساعة أي في التقدمة لها قاله الحسن ويحتمل أن يعود الضمير على الدنيا إذ المعنى يقتضيها وتجيء الظرفيه أمكن قلت قال عبد الحق في العاقبة لا يعرف مقدار الحياة إلا الموتى لأنهم قد ظهرت لهم الأمور وانكشفت لهم الحقائق وتبدت لهم المنازل وعلموا مقدار الأعمال الصالحة ولما استبان لهم ذلك وعلموا مقدار ما ضيعوا وقيمة ما فيه فرطوا ندموا وأسفوا وودوا أنهم إلى الدنيا رجعوا فالذي عمل صالحا ود أن لو رجع إلى الدنيا ليزداد من عمله الصالح ويكثر من تجره الرابح والمقصر يود أنه لو رد ليستدرك ما فيه فرط وقد قال عليه السلام ما من أحد يموت إلا ندم قالوا وما ندامته يا رسول اللّه قال إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيأ ندم أن لا يكون نزع خرجه الترمذي انتهى وقوله تعالى وهم يحملون الواو واو الحال والأوزار جمع وزر بكسر الواو وهو الثقل من الذنوب والوزر هنا تجوز وتشبيه بثقل الأحمال ومن قال أنه من الوزر وهو الجبل الذي يلجأ إليه فهو قول غير بين وقال الطبري وغيره هذا على جهة الحقيقة ورووا في ذلك خبرا أن المؤمن يلقاه عمله في أحسن صورة وافوحها فيسلم عليه ويقول طال ما ركبتك في الدنيا وأجهدتك فاركبني اليوم قال فيحمله تمثال العمل وان الكافر يلقاه عمله في أقبح صورة وانتنها فيشتمه ويقول أنا عملك الخبيث طال ما ركبتني في الدنيا بشهواتك فانا اركبك اليوم قال فيحمل تمثال عمله الخبيث واو زاره على ظهره قلت والأحاديث الصحيحة في معنى ما ذكره الطبري كثيرة كأحاديث مانعى الزكاة وغيرها قال مكي وروى المقبري عن أبي هريرة في حديث يرفعه قال إذا كان يوم القيامة بعث اللّه مع كل امرئ مؤمن عمله وبعث مع الكافر عمله فلا يرى المؤمن شيأ يروعه ولا شيأ يفزعه ويخافه إلا قال له عمله أبشر بالذي يسرك فإنك لست بالذي يراد بهذا ولا يرى الكافر شيأ يفزعه ويروعه ويخافه إلا قال له عمله أبشر يا عدو اللّه بالذي يسوءك فواللّه أنك لأنت الذي تراد بهذا انتهى ٣٢وقوله سبحانه وما الحيوة الدنيا إلا لعب ولهو الآية هذا ابتداء خبر عن حال الدنيا والمعنى أنها إذ كانت فانية لا طائل لها أشبهت اللعب واللّهو الذي لا طائل له إذا تقضى وهذه الآية تتضمن الرد على قولهم إن هي إلا حياتنا الدنيا وهو المقصود بها قال عبد الحق في العاقبة إعلم رحمك اللّه أن حب الدنيا هو سبب طول الأمل والأكباب عليها يمنع من الفكرة في الخروج عنها والجهل بغوائلها يحمل على الإرادة لها والازدياد منها لان من أحب شيأ أحب الكون معه والازدياد منه ومن كان مشغوفا بالدنيا محبا لها قد خدعته بزخرفها وأمالته برونقها كيف يحب مفارقتها يحب مزايلتها هذا أمر لم تجر العادة به ولا حدثنا عنه بل نجد من كان على هذه الصفة أعمى عن طريق الخير أصم عن داعي الرشد أفن الرأي سيئ النظر ضعيف الإيمان لم تترك له الدنيا ما يسمع به ولا ما يرى إنما دينه وشغله وحديثه دنياه لها ينظر ولها يسمع قد ملأت عينه وقلبه ثم قال وأعلم أن أهل القبور إنما يندمون على ما يتركون ويفرحون بما يقدمون فما عليه أهل القبور يندمون أهل الدنيا عليه يقتتلون انتهى ٣٣وقوله سبحانه قد نعلم الآية نعلم إذا كانت من اللّه تعالى تتضمن استمرار العلم وقدمه فهي تم الماضي والحال والاستقبال قلت ونحو هذا لأبى حيان قال وعبر هنا بالمضارع لأن المراد الاتصاف بالعلم واستمراره ولم يلحظ فيه الزمان كقولهم فلان يعطى ويمنع انتهى وقرأ نافع وحده ليحزنك من أحزن وقرأ الباقون ليحزنك من حزنت الرجل وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة لا يكذبونك بتشديد الذال وفتح الكاف وقرأها ابن عباس وردها على قارئي قرأ عليه يكذبونك بضم الياء وقال أنهم كانوا يسمونه الأمين وقرأ نافع والكساءي بسكون الكاف وتخفيف الذال وهما قراءتان مشهورتان صحيحتان وهما بمعنى واحد فمعنى لا يكذبونك أي لا يعتقدون كذبك وأنهم يعلمون صدقك ولكنهم يجحدون عنادا وظلما وهذا تأويل قتادة والسدي وغيرهما وحكي عن طائفة من الكفار أنها كانت تقول إنا لنعلم أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم ادق ولكن إذا ءامنا به فضلنا بنو هاشم بالنبوءة فنحن لا نؤمن به أبدا رويت هذه المقالة عن أبي جهل ومن جرى مجراه وأسند الطبري أن جبريل وجد النبي صلى اللّه عليه وسلم حزينا فسأله فقال كذبني هؤلاء فقال إنهم لا يكذبونك بل يعلمون أنك صادق ولكن الظالمين بآيات اللّه يجحدون وجحد العناد جائز الوقوع بمقتضى النظر وظواهر القرآن تعطيه ويجحدون حقيقته في كلام العرب الإنكار بعد معرفة وهو ضد الإقرار ٣٤وقوله سبحانه ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا الآية قال ابن جريج والضحاك عزى اللّه بهذه الآية نبيه عليه السلام ثم قوى سبحانه رجاء نبيه فيما وعده من النصر بقوله ولا مبدل لكلمات اللّه أي لا راد لأمره وكلماته السابقة بما يكون فكأن المعنى فاصبر كما صبروا وانتظر ما يأتي وثق بهذا الإخبار فإنه لا مبدل له ٣٥وقوله تعالى وان كان كبر عليك اعراضهم الآية فيها الزام الجنحة للنبي صلى اللّه عليه وسلم وتقسيم الأحوال عليه حتى يبين أن لا وجه إلا الصبر والمعنى إن كنت تعظم تكذيبهم وكفرهم على نفسك وتلتزم الحزن فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض على ارتقاء سلم في السماء فافعل أي ولست بقادر على شيء من هذا ولا بد لك من التزام الصبر واحتمال المشقة ولو شاء اللّه لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين في أن تأسف وتحزن على أمر أراده اللّه وأمضاه
وروى الدارقظي في سننه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إذا أصاب أحدكم هم حزن فليقل سبع مرات اللّه اللّه ربى لا أشرك به شيأ انتهى من الكوكب الدري وتأتيهم بآية أي بعلامة وقال مكي والمهدوي الخطاب بقوله فلا تكونن من الجاهلين للنبي صلى اللّه عليه وسلم والمراد أمته وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ قلت وما قاله ع فيه عندي نظر لأن هذا شأن التأويل إخراج اللفظ عن ظاهره لموجب على أن أبا محمد مكيا رحمه اللّه نقل هذا القول عن غيره نقلا ولفظه فلا تكونن من الجاهلين أي ممن لا يعلم أن اللّه لو شاء لجمع على الهدى جميع خلقه وقيل معنى الخطاب لأمة النبي صلى اللّه عليه وسلم والمعنى فلا تكونوا من الجاهلين ومثله في القرآن كثير انتهى من الهداية ٣٦وقوله سبحانه إنما يستجيب الذين يسمعون هذا من النمط المتقدم في التسلية أي لا تحفل بمن أعرض فإنما يستجيب لداعي الإيمان الذين يفهمون الآيات ويتلقون البراهين بالقبول فعبر عن ذلك كله بيسمعون إذ هو طريق العلم وهذه لفظة تستعملها الصوفية رضي اللّه عنهم إذا بلغت الموعظة من أحد مبلغا شافيا قالوا سمع ثم قال تعالى والموتى يريد الكفار أي هم بمثابة الموتى فعبر عنهم بضد ما عبر عن المؤمنين وبالصفة التي تشبه حالهم في العمى عن نور اللّه والصمم عن وعي كلماته قاله مجاهد والحسن وقتادة ويبعثهم اللّه يحتمل معنيين قال الحسن معناه يبعثهم بأن يؤمنوا حين يوفقهم وقراءة الحسن ثم إليه ترجعون بالتاء من فوق فتناسبت الآية وقال مجاهد وقتادة والموتى يريد الكفار يبعثهم اللّه أي يحشرهم يوم القيامة ثم إليه أي إلى سطوته وعقابه يرجعون ٣٧وقوله سبحانه وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه لولا تحضيض بمعنى هلا ومعنى الآية هلا نزل على محمد بيان واضح كملك يشهد له كنز غير ذلك من تشططهم المحفوظ في هذا ثم أمر عليه السلام بالرد عليهم بأن اللّه عز و جل قادر على ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون أنها لو نزلت ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعذاب ويحتمل ولكن أكثرهم لا يعلمون أنه سبحانه إنما جعل الإنذار في ءايات معرضة للنظر والتأمل ليهتدي قوم ويضل آخرون ٣٨وقوله سبحانه وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم المعنى في هذه الآية التنبيه على ءايات اللّه الموجودة في أنواع مخلوقاته المنصوبة لمن فكر واعتبر كالدواب والطير ويدخل في هذين جميع الحيوان وهي أمم أي جماعات مماثلة للناس في الخلق والرزق والحياة والموت والحشر ويحتمل أن يريد بالمماثلة في كونها أمما لا غير إلا أن الفائدة في هذه الآية بأن تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمما قال الطبري وغيره والمماثلة في أنها يهتبل بأعمالها وتحاسب ويقتص لبعضها من بعض على ما روي في الأحاديث أي فإذا كان هذا يفعل بالبهائم فأنتم أحرى إذ أنتم مكلفون عقلاء وروي أبو ذر أنه انتطحت عنزان بحضرة النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال أتعلمون فيما انتطحتا قلنا لا قال فإن اللّه يعلم وسيقضى بينهما وقال مكي المماثلة في أنها تعرف اللّه وتعبده وقوله بجناحيه تأكيد وبيان وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة إذ يقال طائر السعد والنحس وقال تعالى الزمناه طائره في عنقه ويقال طار لفلان طائر كذا أي سهمه في المقسمات فقوله تعالى بجناحيه إخراج للطائر عن هذا كله وقوله سبحانه ما فرطنا في الكتاب من شيء التفريط التقصير في الشيء مع القدرة على ترك التقصير قال أبو حيان أصل فرطنا أن يتعدى بفى ثم يضمن معنى أغفلنا فيتعدى إلى مفعول به وهو هنا كذلك فيكون من شيء في موضع المفعول به انتهى والكتاب القرآن وهو الذي يقتضيه نظام المعنى في هذه الآيات وقيل اللوح المحفوظ ومن شيء على هذا القول عام في جميع الأشياء وعلى القول بأنه القرآن خاص ويحشرون قالت فرقة من العلماء حشر البهائم بعثها واحتجوا بالأحاديث المضمنة أن اللّه تعالى يقتص للجماء من القرناء ومن قال إنما هي كناية عن العدل وليست بحقيقة فهو قول مردود ينحو إلى القول بالرموز ونحوها ٣٩وقوله سبحانه والذين كذبوا بأياتنا صم وبكم الآية كأنه قال وما من دابة ولا طائر ولا شيء إلا وفيه ءاية منصوبة دالة على وحدانية اللّه تعالى ولكن الذين كذبوا بآياتنا صم وبكم لا يتلقون ذلك ولا يقبلونه وظاهر الآية أنها تعم كل مكذب وقال النقاش نزلت في بنى عبد الدار قال ع ثم تنسحب على سواهم وقوله في الظلمات ينوب عن عمي وفي الظلمات أهول عبارة وأفصح وأوقع في النفس قال أبو حيان في الظلمات خبر مبتدأ محذوف أي هم في الظلمات صفة لبكم أي كائنون في الظلمات حال من الضمير المقدر في الخبر أي صالون في الظلمات انتهى ٤٠وقوله سبحانه قل ارأيتكم ابتداء احتجاج على الكفار الجاعلين للّه شركاء والمعنى ارأيتم إذا خفتم عذاب اللّه خفتم هلاكا خفتم الساعة أتدعون أصنامكم وتلجؤن إليها في كشف ذلك أن كنتم صادقين في قولكم أنها ءالهة بل إنما تدعون اللّه الخالق الرازق فيكشف ما خفتموه أن شاء وتنسون أصنامكم أي تتركونهم فعبر عن الترك بأعظم وجوهه الذي هو مع الترك ذهول وإغفال فكيف يجعل إلاها من هذه حاله في الشدائد والأزمات ٤٢وقوله سبحانه ولقد ارسلنا إلى امم من قبلك فأخذناهم في الكلام حذف تقديره فكذبوا فأخذناهم أي تابعناهم بالبأساء الآية والبأساء المصائب في الأموال والضراء في الأبدان هذا قول الأكثر وقيل قد يوضع كل واحد بدل الآخر والتضرع التذلل والاستكانة ومعنى الآية توعد الكفار وضرب المثل لهم ولولا تحضيض وهي التي تلي الفعل بمعنى هلا وهذا على جهة المعاتبة لمذنب غائب وإظهار سوء فعله مع تحسر ما عليه قلت أي مع تحسر ما باعتبار حالة البشر ٤٤وقوله سبحانه فلما نسوا ما ذكروا به الآية عبر عن الترك بالنسيان وفتحنا عليهم أبواب كل شيء أي من النعم الدنيوية بعد الذي أصابهم من البأساء والضراء وفرحوا معناه بطروا وأعجبوا وظنوا أن ذلك لا يبيد وأنه دال على رضي اللّه عنهم وهو استدراج من اللّه تعالى وقد روي عن بعض العلماء رحم اللّه عبدا تدبر هذه الآية حتى إذا فرحوا بما اوتوا أخذناهم بغتة وروي عقبة بن عامر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إذا رأيت اللّه تعالى يعطى العباد ما يشاءون على معاصيهم فذلك استدراج ثم تلا فلما نسوا ما ذكروا به الآية كلها وأخذناهم في هذا الموضع معناه استأصلناهم بغتة أي فجأة والمبلس الحزين الباهت اليائس من الخير الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال ٤٥وقوله تعالى فتقطع دابر القوم الآية الدابر آخر القوم الذي يأتي من خلفهم وهذه كناية عن استيصال شافتهم ومحو آثارهم كأنهم وردوا العذاب حتى ورد أخرهم الذي دبرهم وحسن الحمد عقب هذه الآية لجمال الأفعال المتقدمة في أن أرسل سبحانه الرسل ولطف في الأخذ بالبأساء والضراء ليتضرع إليه فيرحم وينعم وقطع في آخر الأمر دابر ظلمة وذلك حسن في نفسه ونعمة على المؤمنين فحسن الحمد عقب هذه الأفعال وبحمده سبحانه ينبغي أن يختم كل فعل وكل مقال إذ هو المحمود على كل لا رب غيره ولا خير إلا خيره ٤٦وقوله تعالى قل ارأيتم ان اخذ اللّه سمعكم وابصاركم الآية أخذ معناه اذهب والضمير في به عائد على المأخوذ ويصدفون معناه يعرضون وينفرون ومنه قول الشاعر ... إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه ... وهن عن كل سوء يتقى صدف ... ٤٧وقوله تعالى قل ارأيتكم أن اتاكم عذاب اللّه بغتة الآية وعيد وتهديد قال ع ارأيتم عند سيبويه تتنزل منزلة اخبروني ولذلك لا تحتاج إلى مفعولين وقوله بغتة معناه لم يتقدم عندكم منه علم وجهرة معناه تبدو لكم مخايلة ومبادية ثم يتوالى حتى ينزل قال الحسن بن أبي الحسن بغتة ليلا وجهرة نهارا وقال مجاهد بغتة فجاءة ءامنين وجهرة وهم ينظرون قال أبو حيان هل يهلك هل حرف استفهام معناه هنا النفي أي ما يهلك ولذلك دخلت الا على ما بعدها انتهى ٤٨وقوله سبحانه وما نرسل المرسلين إلا مبشرين أي إلا ليبشروا بانعامنا ورحمتنا من آمن ومنذرين بعذابنا وعقابنا من كذب وكفر قال أبو حيان مبشرين ومنذرين حال فيها معنى العلية أي أرسلناهم للتبشير والإنذار انتهى ثم وعد سبحانه من سلك طريق البشارة فآمن وأصلح في امتثال الطاعة وأوعد الآخرين ٥٠وقوله تعالى قل لا أقول لكم عندي خزائن اللّه ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم اني ملك الآية هذا من الرد على القائلين لولا نزل عليه آية والطالبين أن ينزل ملك تكون له جنة كنز ونحو هذا والمعنى إنما أنا بشر وإنما اتبع ما يوحى إلي وهو القرآن وسائر ما يأتيه من اللّه سبحانه أي وفي ذلك عبر وآيات لمن تأمل وقوله سبحانه قل هل يستوي الأعمى والبصير أي هل يستوي المؤمن المفكر في الآيات مع الكافر المعرض عن النظر أفلا تتفكرون وجاء الأمر بالفكرة في عبارة العرض والتحضيض ٥١وقوله تعالى وانذر به أي وأنذر بالقرآن الذين هم مظنة الإيمان وأهل للإنتفاع والضمير في به عائد على ما يوحى وقوله سبحانه ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع أخبار من اللّه سبحانه عن صفة الحال يوم الحشر قال الفخر قوله لعلهم يتقون قال ابن عباس معناه وأنذرهم لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي انتهى ٥٢وقوله سبحانه ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي المراد بالذين ضعفة المؤمنين في ذلك الوقت في أمور الدنيا كبلال وصهيب وعمار وخباب وصبيح وذي الشمالين والمقداد ونحوهم وسبب الآية أن بعض أشراف الكفار قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم نحن لشرفنا وأقدارنا لا يمكننا أن نختلط بهؤلاء فلو طردتهم لاتبعناك ورد في ذلك حديث عن أبن مسعود وظاهر الأمر أنهم أرادوا بذلك الخديعة فنزلت الآية ويدعون ربهم بالغداة والعشي قال الحسن بن أبي الحسن المراد به صلاة مكة التي كانت مرتين في اليوم بكرة وعشيا وقيل قوله بالغداة والعشي عبارة من استمرار الفعل وأن الزمان معمور به والمراد على هذا التأويل قيل الصلوات الخمس قاله ابن عباس وغيره وقيل الدعاء وذكر اللّه واللفظة على وجهها وقيل القرآن وتعلمه قال أبو جعفر وقيل العبادة قاله الضحاك وقوله تعالى يريدون وجهه قلت قال الغزالي في الجواهر النية والعمل بهما تمام العبادة فالنية أحد جزئي العبادة لكنها خير الجزءين ومعنى النية إرادة وجه اللّه سبحانه بالعمل قال اللّه تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ومعنى اخلاصها تصفية الباعث عن الشوائب ثم قال الغزالي وإذا عرفت فضل النية وأنها تحل حدقة المقصود فاجتهد أن تستكثر من النية في جميع أعمالك حتى تنوي بعمل واحد نيات كثيرة ولو صدقت رغبتك لهديت لطريق رشدك انتهى وقوله سبحانه ما عليك من حسابهم من شيء قال الحسن والجمهور أي من حساب عملهم والمعنى أنك لم تكلف شيئا غير دعائهم وقوله فتطردهم هو جواب النفي في قوله ما عليك وقوله فتكون جواب النهي في قوله ولا تطرد وفتنا بعضهم ببعض أي ابتلينا وليقولوا معناه ليصير بحكم القدر أمرهم إلى أن يقولوا على جهة الإستخفاف والهزء أهؤلاء من اللّه عليهم من بيننا فاللام في ليقولوا لام الصيرورة وقوله سبحانه أليس اللّه بأعلم بالشاكرين أي يا أيها المستخفون ليس الأمر أمر استخفاف فاللّه أعلم بمن يشكر نعمه ٥٤وقوله سبحانه وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم الآية قال جمهور المفسرين هؤلاء هم الذين نهي اللّه عن طردهم وشفع ذلك بأن امر سبحانه أن يسلم النبي عليه السلام عليهم ويؤنسهم قال خباب بن الأرت لما نزلت وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا الآية فكنا نأتي النبي صلى اللّه عليه وسلم فيقول لنا سلام عليكم ونقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل اللّه تعالى وأصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم الآية فكان يقعد معنا فإذا بلغ الوقت الذي يقوم فيه قمنا وتركناه حتى يقوم وسلام عليكم ابتداء والتقدير سلام ثابت واجب عليكم والمعنى أمنة لكم من عذاب اللّه في الدنيا والآخرة ولفظه ولفظ الخبر وهو في معنى الدعاء قال الفخر قوله تعالى كتب ربكم على نفسه الرحمة النفس هاهنا بمعنى الذات والحقيقة لا بمعنى الجسم واللّه تعالى مقدس عنه انتهى قلت قال ابن العربي في كتاب تفسير الأفعال الواقعة في القرآن قوله تعالى كتب ربكم على نفسه الرحمة قال علماؤنا كتب معناه أوجب وعندي أنه كتب حقيقة قال النبي صلى اللّه عليه وسلم إن اللّه خلق القلم فقال له أكتب فكتب ما يكون إلى يوم القيامة انتهى وقرأ عاصم وابن عامر أنه بفتح الهمزة في الأولى والثانية فإنه الأولى بدل من الرحمة وأنه الثانية خبر ابتداء مضمر تقديره فأمره أنه غفور رحيم هذا مذهب سيبويه وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكساءي أنه بكسر الهمزة في الأولى والثانية وقرأ نافع بفتح الأولى وكسر الثانية والجهالة في هذا الموضع تعم التي تضاد العلم والتي تشبه بها وذلك ان المتعمد لفعل الشيء الذي قد نهي عنه تسمى معصيته تلك جهالة قال مجاهد من الجهالة ان لا يعلم حلالا من حرام ومن جهالته أن يركب الأمر قلت أي يتعمده ومن الجهالة التي لا تضاد العلم قوله صلى اللّه عليه و سلم في استعاذته أجهل يجهل علي ومنها قول الشاعر ... ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا ... قال الفخر قال الحسن كل من عمل معصية فهو جاهل فقيل المعنى أنه جاهل بمقدار ما فاته من الثواب وما استحقه من العقاب قلت وأيضا فهو جاهل بقدر من عصاه انتهى والإشارة بقوله تعالى وكذلك نفصل الآيات إلى ما تقدم من النهي عن طرد المؤمنين وبيان فساد منزع العارضين لذلك وتفصيل الآيات تبيينها وشرحها وإظهارها قلت ومما يناسب هذا المحل ذكر شيء مما ورد في فصل المصافحة وقد اسند أبو عمر في التمهيد عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه وعلقمة أنهما قالا من تمام التحية المصافحة وروى مالك في الموطأ عن عطاء الخرساني قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء قال أبوعمر في التمهيد هذا الحديث يتصل من وجوه شتى حسان كلها ثم اسند أبو عمر من طريق أبي داود وغيره عن البراء قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا ثم أسند أبو عمر عن البراء بن عازب قال لقيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخذ بيدي فقلت يا رسول اللّه إن كنت لاحسب أن المصافحة للعجم فقال نحن أحق بالمصافحة منهم ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا القيت ذنوبهما بينهما وأسند أبو عمر عن عمر بن الخطاب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا التقى المسلمان فتصافحا انزل اللّه عليهما مائة رحمة تسعون منها للذي بدأ بالمصافحة وعشرة للذي صوفح وكان أحبهما إلى اللّه أحسنهما بشرا بصاحبه انتهى وقد ذكرنا طرفا من آداب المصافحة في غير هذا الموضع فقف عليه واعمل به ترشد فإن العلم إنما يراد للعمل وباللّه التوفيق وخص سبيل المجرمين بالذكر لأنهم الذين آثروا ما تقدم من الأقوال وهو أهم في هذا الموضع لأنها آيات رد عليهم وأيضا فتبيين سبيلهم يتضمن بيان سبيل المؤمنين وتأول ابن زيد أن قوله المجرمين معني به الآمرون بطرد الضعفة ٥٧وقوله سبحانه قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون اللّه قل لا أتبع أهواءكم الآية أمر اللّه سحبانه نبيه عليه السلام أن يجاهرهم بالتبرى مما هم فيه وتدعون معناه تعبدون ويحتمل أن يريد تدعون في أموركم وذلك من معنى العبادة واعتقادهم الأصنام آلهة وقوله تعالى قل إني على بينة من ربي المعنى قل إني على أمر بين وكذبتم به الضمير في به عائد على بين على الرب وقيل على القرآن وهو جلي وقال بعض المفسرين الضمير في به الثاني عائد على ما والمراد بها الآيات المقترحة على ما قال بعض المفسرين وقيل المراد به العذاب وهو يترجح من وجهين أحدهما من جهة المعنى وذلك أن قوله وكذبتم به يتضمن أنكم واقعتم ما تستوجبون به العذاب إلا أنه ليس عندي والآخر من جهة لفظ الاستعجال الذي لم يأت في القرآن إلا للعذاب وأما اقتراحهم للآيات فلم يكن باستعجال وقوله أن الحكم إلا للّه أي القضاء والإنفاذ ويقتص الحق أي يخبر به والمعنى يقص القصص الحق وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما يقتضي الحق أي ينفذه ٥٨وقوله سبحانه قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم المعنى لو كان عندي الآيات المقترحة العذاب على التأويل الآخر لقضي الأمر أي لوقع الأنفصال وتم النزاع لظهور الآية المقترحة لنزول العذاب بحسب التأويلين وقيل المعنى لقامت القيامة وقوله واللّه أعلم بالظالمين يتضمن الوعيد والتهديد ٥٩وقوله تعالى وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو مفاتح جمع مفتح وهذه استعارة عبارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب ولو كان جمع مفتاح لقال مفاتيح ويظهر أيضا أن مفاتح جمع مفتح بفتح الميم أي مواضع تفتح عن المغيبات ويؤيد هذا قول السدي وغيره مفاتح الغيب خزائن الغيب فأما مفتح بالكسر فهو بمعنى مفتاح قال الزهراوي ومفتح أفصح وقال ابن عباس وغيره الإشارة بمفاتح الغيب هي إلى الخمسة في آخر لقمان إن اللّه عنده علم الساعة الآية قلت وفي صحيح البخاري عن سالم بن عبد اللّه عن أبيه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا اللّه إن اللّه عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن اللّه عليم خبير انتهى وقوله سبحانه من ورقة أي من ورق النبات ولا حبة في ظلمات الأرض يريد في أشد حال التغيب وحكى بعض الناس عن جعفر بن محمد قولا أن الورقة يراد بها القسط من أولاد بني آدم والحبة يراد بها الذي ليس بسقط والرطب يراد به الحي واليابس يراد به الميت وهذا قول جار على طريقة الرموز ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه وقوله تعالى إلا في كتاب مبين قيل يعني كتابا على الحقيقة ووجه الفائدة فيه امتحان ما يكتبه الحفظة وذلك أنه روي أن الحفظة يرفعون ما كتبوه ويعارضونه بهذا الكتاب المشار إليه ليتحققوا صحة ما كتبوه وقيل المراد بقوله إلا في كتاب علم اللّه عز و جل المحيط بكل شيء قال الفخر وهذا هو الأصوب ويجوز أن يقال ذكر تعالى ما ذكر من الورقة والحبة تنبيها للمكلفين على أمر الحساب انتهى قال مكي قال عبد اللّه بن الحارث ما في الأرض شجر ولا مغرز إبرة إلا عليها ملك موكل يأتي اللّه بعلمها بيبسها إذا يبست ورطوبتها إذا رطبت وقيل المعنى في كتابها أنه لتعظيم الأمر ومعناه أعملوا أن هذا الذي ليس فيه ثواب ولا عقاب مكتوب فكيف ما فيه ثواب عقاب انتهى من الهداية ٦٠وقوله سبحانه هو الذي يتوفاكم بالليل يعني به النوم ويعلم ما جرحتم أي ما كسبتم بالنهار ويحتمل أن يكون جرحتم هنا من الجرح كأن الذنب جرح في الدين والعرب تقول جرح اللسان كجرح اليد ويبعثكم يريد به الإيقاظ والضمير في فيه عائد على النهار قاله مجاهد وغيره يحتمل أن يعود الضمير على التوفي أي يوقظكم في التوفي أي في خلاله وتضاعيفه قاله عبد اللّه بن كثير وليقضي أجل مسمى المراد به آجال بني آدم ثم إليه مرجعكم يريد بالبعث والنشور ثم ينبئكم أي يعلمكم إعلام توقيف ومحاسبة ففي هذه الآية إيضاح الآيات المنصوبة للنظر وفيها ضرب مثال للبعث من القبور لان هذا أيضا اماته وبعث على نحو ما ٦١وقوله سبحانه وهو القاهر فوق عباده القاهر أن أخذ صفة فعل أي مظهر القهر بالصواعق والرياح والعذاب فيصح أن تجعل فوق ظرفية للجهة لأن هذه الأشياء إنما تعاهدها العبادة من فوقهم وأن أخذ القاهر صفة ذات بمعنى القدرة والإستيلاء ففوق لا يجوز أن تكون للجهة وإنما هي لعلو القدر والشأن على حد ما تقول الياقوت فوق الحديد والاحرار فوق العبيد ويرسل عليكم معناه يبثهم فيكم وحفظة جمع حافظ والمراد بذلك الملائكة الموكلون بكتب الأعمال وروي أنهم الملائكة الذين قال فيهم النبي صلى اللّه عليه وسلم يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار وقاله السدي وقتادة وقال بعض المفسرين حفظة يحفظون الإنسان من كل شيء حتى يأتي أجله والأول أظهر وقرأ حمزة وحده توفاه وقوله تعالى رسلنا يريد به على ما ذكر ابن عباس وجميع أهل التأويل ملائكة مقترنين بملك الموت يعاونونه ويأتمرون له ثم ردوا أي العباد إلى اللّه مولاهم وقوله الحق نعت لمولاهم ومعناه الذي ليس بباطل ولا مجاز إلا له الحكم كلام مضمنه التنبيه وهز النفوس وهو أسرع الحاسبين قيل لعلي رضي اللّه عنه كيف يحاسب اللّه العباد في يوم واحد قال كما يرزقهم في الدنيا في يوم واحد ٦٣وقوله تعالى قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية الآية هذا تماد في توبيخ العادلين باللّه الأوثان وتركهم عبادة الرحمن الذي ينجي من الهلكات ويلجأ إليه في الشدائد ودفع الملمات وظلمات البر والبحر يريد بها شدائدهما فهو لفظ عام يستغرق ما كان من الشدائد بظلمة حقيقية وما كان بغير ظلمة والعرب تقول عام أسود ويوم مظلم ويوم ذو كواكب يريدون به الشدة قال قتادة وغيره المعنى من كرب البر والبحر وتدعونه في موضع الحال والتضرع صفة بادية على الإنسان وخفية معناه الاختفاء وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وخفية بكسر الخاء وقرأ الأعمش وخيفة من الخوف ٦٤وقوله سبحانه قل اللّه ينجيكم منها الآية سبق في المجادلة إلى الجواب إذ لا محيد عنه ومن كل كرب لفظ عام أيضا ليتضح العموم الذي في الظمات ثم انتم أي ثم بعد معرفتكم بهذا كله وتحققكم له أنتم تشركون ٦٥وقوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم من تحت أرجلكم الآية هذا إخبار يتضمن الوعيد والأظهر من نسق الآيات أن هذا الخطاب للكفار الذين تقدم ذكرهم وهو مذهب الطبري وقال ابي بن كعب وجماعة هو للمؤمنين وهم المراد وهذا الاختلاف إنما هو بحسب ما يظهر من أن الآية تتناول معانيها المشركين والمؤمنين وفي البخاري وغيره من حديث جابر وغيره أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما نزلت الآية قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال أعوذ بوجهك فلما نزلت من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك فلما نزلت يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال هذا أهون أيسر فاحتج بهذا الحديث من قال أنها نزلت في المؤمنين قال الطبري وغيره ممتنع أن يكون النبي صلى اللّه عليه وسلم تعوذ لأمته من هذه الأشياء التي توعد بها الكفار وهون الثالثة لأنها بالمعنى هي التي دعا فيها فمنع حسب حديث الموطأ وغيره ومن فوقكم من تحت أرجلكم لفظ عام للمنطبقين على الإنسان وقال السدي عن أبي مالك من فوقكم الرجم من تحت أرجلكم الخسف وقاله سعيد بن جبير ومجاهد وقوله سبحانه يلبسكم شيعا معناه يخلطكم فرقا والبأس القتل وما أشبهه من المكاره وفي قوله تعالى أنظر كيف نصرف الآيات استرجاع لهم وإن كان لفظها لفظ تعجب للنبي صلى اللّه عليه وسلم فمضمنها أن هذه الآيات والدلائل إنما هي لاستصرافهم عن طريق غيهم والفقه الفهم ٦٦وقوله تعالى وكذب به قومك وهو الحق الضمير في به عائد على القرآن الذي فيه جاء تصريف الآيات قاله السدي وهذا هو الظاهر ويحتمل أن يعود الضمير على الوعيد الذي تضمنته الآية ونحا إليه الطبري وقوله قل لست عليكم بوكيل معناه لست بمدفوع إلى أخذكم بالإيمان والهدى وهذا كان قبل نزول آيات الجهاد والأمر بالقتال ثم نسخ ٦٧وقوله سبحانه لكل نبإ مستقر أي غاية يعرف عندها صدقه من كذبه وسوف تعلمون تهديد محض ووعيد ٦٨وقوله تعالى وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره هذا خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنون داخلون في الخطاب معه هذا هو الصحيح لأن علة النهي وهي سماع الخوض في آيات اللّه تشملهم وإياه فأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم هو والمؤمنون أن ينابذوا الكفار بالقيام عنهم إذا استهزءوا وخاضوا ليتأدبوا بذلك ويدعوا الخوض والاستهزاء قلت ويدل على دخول المؤمنين مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في الخطاب قوله تعالى وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم ءايات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره انتهى والخوض أصله في الماء ثم يستعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيها بغمرات الماء وأما ينسينك أما شرط وتلزمها النون الثقيلة في الأغلب وقرأ ابن عامر وحده ينسينك بتشديد السين وفتح النون والمعنى واحد إلا أن التشديد أكثر مبالغة والذكرى والذكر واحد في المعنى ووصفهم بالظالمين متمكن لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه وأعرض في هذه الآية بمعنى المفارقة على حقيقة الأعراض وأكمل وجوهه ويدل على ذلك فلا تقعد وقوله سبحانه وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء روي أنه لما نزلت فلا تقعدوا معهم قال المؤمنون إذا كنا لا نقرب المشركين ولا نسمع أقوالهم فلا يمكننا طواف ولا قضاء عبادة في الحرم فنزلت لذلك وما على الذين يتقون الآية قال ع فالإباحة في هذا هي في القدر الذي يحتاج إليه من التصرف بين المشركين في عبادة ونحوها وقيل أن هذه الآية الأخيرة ليست إباحة بوجه وإنما معناها لا تقعدوا معهم ولا تقربوهم حتى تسمعوا استهزاءهم وخوضهم وليس نهيكم عن القعود لأن عليكم شيأ من حسابهم وإنما هو ذكرى لكم ويحتمل المعنى ولكن ذكرى لعلهم إذا جانبتموهم يتقون بالإمساك عن الاستهزاء ويحتمل المعنى ولكن ذكروهم ذكرى وينبغي للمؤمن أن يمتثل حكم هذه الآية مع الملحدين وأهل الجدل والخوض فيه وحكى الطبري عن أبي جعفر أنه قال لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات اللّه وفي الحديث عنه صلى اللّه عليه و سلم انا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وان كان محقا وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه خرجه أبو داود انتهى من الكوكب الدري وقد ذكرنا هذا الحديث من غير طريق أبي دواد بلفظ أوضح من هذا ٧٠وقوله سبحانه وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا هذا أمر بالمتاركة وكان ذلك بحسب قلة المسلمين يومئذ قال قتادة ثم نسخ ذلك وما جرى مجراه بالقتال وقال مجاهد الآية إنما هي للتهديد والوعيد فهي كقوله تعالى ذرني ومن خلقت وحيدا وليس فيها نسخ لأنها متضمنة خبرا وهو التهديد وغرتهم الحياة الدنيا أي خدعتهم من الغرور وهو الأطماع بما لا يتحصل فاغتروا بنعم اللّه وإمهاله وطمعهم ذلك فيما لم يتحصل من رحمته وأعلم أن أعقل العقلاء مؤمن مقبل على آخرته قد جعل الموت نصب عينيه ولم يغتر بزخارف الدنيا كما اغتر بها الحمقى بل جعل همه واحدا هم المعاد وما هو صائر إليه وقد روى البزار في مسنده عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه اللّه هم الدنيا ومن تشعبت به الهموم هموم الدنيا لم يبال اللّه تعالى في أي اوديتها هلك انتهى من الكوكب الدري وقوله سبحانه وذكر به أي بالقرآن وقيل الضمير في به عائد على الدين وأن تبسل في موضع المفعول له أي ليلا تبسل ومعناه تسلم قاله الحسن وعكرمة وقال قتادة تحبس وترهن وقال ابن عباس تفضح وقال ابن زيد تجزي وهذه كلها متقاربة المعنى ومنه قول الشنفري ... هنالك لا ارجو حياة تسرني ... سمير الليالي مبسلا بالجرائر ... وباقي الآية بين وأن تعدل كل عدل أي وإن تعطي كل فدية وإن عظمت فتجعلها عدلا لها لا يقبل منها وقال أبو عبيدة وأن تعدل هو من العدل المضاد للجور ورده الطبري بالإجماع على أن توبة الكافر مقبولة قال ع ولا يلزم هذا الرد لأن الأمر إنما هو يوم القيامة ولا تقبل فيه توبة ولا عمل قلت وأجلي من هذا أن يحمل كلام أبي عبيدة على معنى أنه لا يقبل منها عدلها لاختلال شرطه وهو الإيمان وابسلوا معناه اسلموا بما اجترحوه من الكفر والحميم الماء الحار ومنه الحمام والحمة ٧١وقوله سبحانه قل اندعوا من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرنا المعنى قل في احتجاجك انطيع رأيكم في أن ندعو من دون اللّه والدعاء يعم العبادة وغيرها لأن من جعل شيئا موضع دعائه فإياه يعبد وعليه يتوكل وما لا ينفعنا ولا يضرنا يعني الأصنام ونرد على اعقابنا تشبيه بمشي القهقري وهي المشية الدنية فاستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر وقوله سبحانه كالذي استهوته الشياطين في الكلام حذف تقديره ردا كرد الذي واستهوته بمعنى استدعت هواه وأمالته وهدانا بمعنى أرشدنا فسياق هذا المثل كأنه قال أيصلح ان نكون بعد الهدى نعبد الأصنام فيكون ذلك منا ارتدادا على العقب فنكون كرجل على طريق واضح فاستهوته عنه الشياطين فخرج عنه إلى دعوتهم فبقي حائرا وقوله له أصحاب يريد له أصحاب على الطريق الذي خرج منه فيشبه بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين يدعون من ارتد إلى الرجوع إلى الهدى وهذا تأويل مجاهد وابن عباس وايتنا من الإتيان بمعنى المجيء وقول من قال إن المراد بالذي في هذه الآية عبد الرحمن بن أبي بكر وبالأصحاب أبواه قول ضعيف يرده قول عائشة في الصحيح ما نزل فينا من القرآن شيء إلا براءتي قلت تريد وقصة الغار إذ يقول لصاحبه وقوله ولا يأتل اولوا الفضل منكم إذ نزلت في شأن ابي بكر وشأن مسطح قال ع حدثني أبي رضي اللّه عنه قال سمعت الفقيه الإمام ابا عبد اللّه المعروف بالنحوي المجاور بمكة يقول من نازع أحدا من الملحدين فإنما ينبغي أن يرد عليه بالقرآن والحديث فيكون كمن يدعو إلى الهدى بقوله ايتنا ومن ينازعهم بالجدل ويحلق عليهم به فكأنه بعد من الطريق الواضح أكثر ليرد هذا الزائغ فهو يخاف عليه أن يضل قال ع وهذا انتزاع حسن جدا وباقي الآية بين ٧٣وقوله سبحانه وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق أي لم يخلقها باطلا لغير معنى بل لمعان مفيدة وحقائق بينة وقوله سبحانه ويوم يقول يوم نصب على الظرف وتقدير الكلام واذكر الخلق والإعادة يوم وتحتمل الآية مع هذا أن يكون معناها واذكر الإعادة يوم يقول اللّه للأجساد كوني معادة وقوله تعالى يوم ينفخ في الصور الجمهور أن الصور هو القرن الذي قال فيه النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه ينفخ فيه للصعق ثم للبعث وباقي الآية بين ٧٤وقوله تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه ءازر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين قال الطبري نبه اللّه نبينا صلى اللّه عليه وسلم على الاقتداء بإبراهيم في محاجته قومه إذ كانوا أهل أصنام وكان قوم النبي صلى اللّه عليه وسلم أهل أصنام وقوله أصناما آلهة مفعولان وذكر أن آزر أبا إبراهيم عليه السلام كان نجارا مسحنا ومهندسا وكان نمرود يتعلق بالهندسة والنجوم فحظي عنده آزر لذلك وكان على خطة عمل الأصنام تعمل بأمره وتدبيره ويطبع هو في الصنم بختم معلوم عنده وحينئذ يعبد ذلك الصنم فلما نشأ إبراهيم ابنه على الصفة التي تأتي بعد كان أبوه يكلفه ببيعها فكان إبراهيم ينادي عليها من يشتري ما يضره ولا ينفعه ويستخف بها ويجعلها في الماء منكوسة ويقول لها أشربي فلما اشتهر أمره بذلك وأخذ في الدعاء إلى اللّه عز و جل قال لأبيه هذه المقالة وأراك في هذا الموضع يشترك فيها القلب والبصر ومبين بمعنى ظاهر واضح وقوله سبحانه وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض الآية المتقدمة تقضي بهداية إبراهيم عليه السلام والإشارة هنا بذلك هي إلى تلك الهداية أي وكما هديناه إلى الدعاء إلى اللّه وإنكار الكفر أريناه ملكوت ونرى لفظها الأستقبال ومعناها المضي وهذه الرؤية قيل هي رؤية البصر وروي في ذلك أن اللّه عز و جل فرج لإبراهيم عليه السلام السماوات والأرض حتى رأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل وهذا هو قول مجاهد قال تفرجت له السماوات والأرضون فرأى مكانه في الجنة وبه قال سعيد بن جبير وسلمان الفارسي وقيل هي رؤية بصر في ظاهر الملكوت وقع له معها من الاعتبار ورؤية القلب ما لم يقع لأحد من أهل زمنه الذين بعث إليهم قاله ابن عباس وغيره وقيل هي رؤية قلب رأى بها ملكوت السماوات والأرض بفكرته ونظره وملكوت بناء مبالغة وهو بمعنى الملك والعرب تقول لفلان ملكوت اليمن أي ملكه واللام في ليكون متعلقة بفعل مؤخر تقديره وليكون من الموقنين أريناه والموقن العالم بالشيء علما لا يمكن أن يطرأ له فيه شك وروي عن ابن عباس في تفسير وليكون من الموقنين قاد جلى له الأمور سرها وعلانيتها فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال اللّه له إنك لا تستطيع هذا فرده لا يرى أعمالهم ٧٦وقوله سبحانه فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي الآية جن الليل ستر وغطى بظلامه ذهب ابن عباس وناس كثيرون إلى أن هذه القصة وقعت في حال صباه وقبل البلوغ والتكليف ويحتمل أن تكون وقعت له بعد بلوغه وكونه مكلفا وحكى الطبري هذا عن فرقة وقالت أنه استفهم قومه على جهة التوقيف والتوبيخ أي هذا ربي وحكي أن النمرود جبار ذلك الزمان رأى له منجموه أن مولودا يولد في سنة كذا في عمله يكون خراب الملك على يديه فجعل يتتبع الحبالى ويوكل بهن حراسا فمن وضعت انثى تركت ومن وضعت ذكرا حمل إلى الملك فذبحه وان أم إبراهيم حملت وكانت شابة قوية فسترت حملها فلما قربت ولادتها بعثت أبا إبراهيم إلى سفر وتحيلت لمضيه إليه ثم خرجت هي إلى غار فولدت فيه إبراهيم وتركته في الغار وكانت تتفقده فوجدته يتغذى بأن يمص اصابعه فيخرج له منها عسل وسمن ونحو هذا وحكي بل كان يغذيه ملك وحكي بل كانت امه تأتيه بألبان النساء التي ذبح ابناؤهن واللّه أعلم أي ذلك كان فشب إبراهيم أضعاف ما يشب غيره والملك في خلال ذلك يحس بولادته ويشدد في طلبه فمكث في الغار عشرة أعوام وقيل خمس عشرة سنة وأنه نظر أول ما عقل من الغار فرأى الكواكب وجرت قصة الآية واللّه أعلم فإن قلنا بأنه وقعت له القصة في الغار في حال الصبوة وعدم التكليف على ما ذهب إليه بعض المفسرين ويحتمله للفظ فذلك ينقسم على وجهين إما أن يجعل قوله هذا ربي تصميما واعتقادا وهذا باطل لأن التصميم على الكفر لم يقع من الأنبياء صلوات اللّه عليهم وأما أن نجعله تعريضا للنظر والاستدلال كأنه قال أهذا المنير البهي ربي ان عضدت ذلك الدلائل وان قلنا ان القصة وقعت له في حال كبره وهو مكلف فلا يجوز أن يقول هذا مصمما ولا معرضا للنظر لأنها رتبة جهل شك وهو عليه السلام منزه معصوم من ذلك كله فلم يبق إلا أن يقولها على جهة التقرير لقومه والتوبيخ لهم وإقامة الحجة عليهم في عبادة الأصنام كأنه قال أهذا المنير ربي وهو يريد على زعمكم كما قال تعالى اين شركاءي أي على زعمكم ثم عرض إبراهيم عليهم من حركة الكوكب وأفوله أمارة الحدوث وأنه لا يصلح أن يكون ربا ثم في آخر أعظم منه وأحرى كذلك ثم في الشمس كذلك فكأنه يقول فإذا بان في هذه المنيرات الرفيعة أنها لا تصلح للربوبية فأصنامكم التي هي خشب وحجارة أحرى أن يبين ذلك فيها ويعضد عندي هذا التأويل قوله إني بريء مما تشكرون قلت وإلى ترجيح هذا أشار عياض في الشفا قال وذهب معظم الحذاق من العلماء والمفسرين إلى أن إبراهيم إنما قال ذلك مبكتا لقومه مستدلا عليهم قال ع ومثل لهم بهذه الأمور لأنهم كانوا أصحاب علم نجوم ونظر في الأفلاك وهذا الأمر كله إنما وقع في ليلة واحدة رأى الكوكب وهو الزهرة في قول قتادة وقال السدي هو المشتري جانحا إلى الغروب فلما أفل بزغ القمر وهو أول طلوعه فسرى الليل أجمع فلما بزغت الشمس زال ضوء القمر قبلها لإتنشار الصباح وخفي نوره ودنا أيضا من مغربه فسمي ذلك افولا لقربه من الأفوال التام على تجوز في التسمية وهذا الترتيب يستقيم في الليلة الخامسة عشر من الشهر إلى ليلة عشرين وليس يترتب في ليلة واحدة في واحد أهل التفسير إلا في هذه الليالي وبذلك يصح التجوز في افول القمر وافل في كلام العرب معناه غاب وقيل معناه ذهب وهذا خلاف في العبارة فقط والبزوغ في هذه الأنوار أول الطلوع وما في كون هذا الترتيب في ليلة من التجوز في أفول القمر لأن أفوله لو قدرناه مغيبه لكان ذلك عبد بزوغ الشمس وجميع ما قلناه يعطيه الاعتبار ويهدني يرشدني وهذا اللفظ يؤيد قول من قال أن القصة في حال الصغر والقوم الضالون هنا عبدة المخلوقات كالأصنام وغيرها ولما افلت الشمس لم ببق شيء يمثل لهم به فظهرت حجته وقوي بذلك على منابذتهم والتبري من أشراكهم وقوله إني بريء مما تشركون يؤيد قول من قال ان القصة في حال الكبر والتكليف ووجهت وجهي أي اقبلت بقصدي وعبادتي وتوحيدي وإيماني للذي فطر السموات والأرض أي اخترعها وحنيفا أي مستقيما والحنف الميل فكانه مال عن كل جهة إلى القوام ٨٠وقوله تعالى وحاجة قومه قال اتحاجوني في اللّه أي اتراجعوني في الحجة في توحيد اللّه وقد هدان أي قد أرشدني إلى معرفته وتوحيده ولا أخاف ما تشركون به الضمير في به يعود علىاللّه والمعنى ولا أخاف الأصنام التي تشركونها باللّه في الربوبية ويحتمل أن يعود على ما والتقدير ما تشركون بسببه وقوله إلا أن يشاء ربي شيئا استثناء ليس من الأول وشيئا منصوب بيشاء ولما كانت قوة الكلام انه لا يخاف ضررا استثنى مشيئة ربه تعالى في أن يريده بضر وعلما نصب علىالتمييز وهو مصدر بمعنى الفاعل كما تقول العرب تصبب زيد عرقا المعنى تصبب عرق زيد فكذلك المعنى هنا وسع علم ربي كل شيء أفلا تتذكرون توقيف وتنبيه وإظهار لموضع التقصير منهم ٨١وقوله وكيف أخاف ما اشركتم الآية إلى تعلمون هي كلها من قول إبراهيم عليه السلام لقومه وهي حجته القاطعة لهم والمعنى وكيف أخاف أصناما لا خطب لها إذ نبذتها ولا تخافون انتم اللّه عزوجل وقد اشركتم به في الربوبية ما لم ينزل به عليكم سلطانا والسلطان الحجة ثم استفهم على جهة التقرير فأي الفريقين مني ومنكم أحق بالأمن قال أبوحيان وكيف استفهام معناه التعجب والإنكار انتهى ٨٢وقوله سبحانه الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية قال ابن إسحاق وابن يد وغيرهما هذا قول من اللّه عز و جل ابتداء حكم فصل عام لوقت محاجة إبراهيم وغيره ولكل مؤمن تقدم تأخر قال ع هذا هو البين الفصيح الذي يرتبط به معنى الآية ويحسن رصفها وهو خبر من اللّه عز و جل ويلبسوا معناه يخلطوا والظلم في هذا الموضع الشرك تظاهرت بذلك الأحاديث الصحيحة وفي قراءة مجاهد ولم يلبسوا إيمانهم بشرك وهم مهتدون أي راشدون وقوله تعالى وتلك حجتنا ءاتيناها إبراهيم على قومه تلك إشارة إلى هذه الحجة المتقدمة وقوله سبحانه نرفع درجات من نشاء الدرجات أصلها في الأجسام ثم تستعمل في المراتب والمنازل المعنوية ٨٤وقوله سبحانه ووهبنا له إسحاق ويعقوب الآية ووهبنا عطف على آتينا وإسحاق ابنه من سارة ويعقوب هو ابن أسحاق وقوله ومن ذريته المعنى وهدينا من ذريته والضمير في ذريته قال الزجاج جائز أن يعود على إبراهيم ويعترض هذا بذكر لوط عليه السلام إذ ليس هو من ذرية إبراهيم بل هو ابن أخيه وقيل ابن اخته ويتخرج ذلك عند من يرى الخال أبا وقيل يعود الضمير على نوح هذا هو الجيد ونصب داود يحتمل أن يكون بوهبنا ويحتمل أن يكون بهدينا وكذلك نجزي المحسنين وعد من اللّه عز و جل لمن أحسن في عبادته وترغيب في الإحسان وفي هذه الآية ان عيسى عليه السلام من ذرية نوح إبراهيم بحسب الأختلاف في عود الضمير من ذريته وهوابن ابنة وبهذا يستدل في الأحباس على أن ولد البنت من الذرية ويونس هو ابن متى وكلا فضلنا على العالمين معناه عالمي زمانهم ٨٧وقوله سبحانه ومن آبائهم وذرياتهم المعنى وهدينا من آبائهم وذرياتهم وأخوانهم جماعات فمن للتبعيض والمراد من آمن منهم نبيا كان غير نبي واجتبيناهم أي تخيرناهم وهديناهم أي ارشدناهم الى الايمان والفور برضى اللّه عز و جل والذرية الابناء ويطلق علي جميع البشر ذرية لأنهم ابناء ٨٨وقوله تعالى ذلك هدى اللّه الآية ذلك إشارة إلى النعمة في قوله واجتبيناهم وأولئك إشارة إلى من تقدم ذكره والكتاب يراد به الصحف والتوراة والإنجيل والزبور وقوله سبحانه فإن يكفر بها هؤلاء إشارة إلى كفار قريش وإلى كل كافر في ذلك العصر قاله ابن عباس وغيره وقوله فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين هم مؤمنو أهل المدينة قاله ابن عباس وغيره والآية على هذا التأويل وأن كان القصد بنزولها هذين الصنفين فهي تعم الكفرة والمؤمنين إلى يوم القيامة وقال الحسن وغيره المراد بالقوم من تقدم ذكره من الأنبياء والمؤمنين وقال أبو رجاء المراد الملائكة قلت ويحتمل أن يكون المراد الجميع ٩٠وقوله سبحانه اولائك الذين هدى اللّه فبهداهم اقتده الظاهر في الإشارة بأولائك إلى المذكورين قبل من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين المهديين ومعنى الأقتداء اتباع الأثر في القول والفعل والسيرة وإنما يصح اقتداؤه صلى اللّه عليه و سلم بجمعيهم في العقود والإيمان والتوحيد الذي ليس بينهم فيه اختلاف وأما أعمال الشرائع فمختلفة وقد قال عز و جل لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وأعلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم هو وغيره مخاطب بشرع من قبله في العقود والإيمان والتوحيد لأنا نجد شرعنا بنبىء أن الكفار الذين كانوا قبل النبي صلى اللّه عليه وسلم كابويه وغيرهما في النار ولا يدخل اللّه تعالى أحدا النار إلا بترك ما كلف وذلك في قوله سبحانه وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وغير ذلك وقاعدة المتكلمين أن العقل لا يوجب ولا يكلف وإنما يوجب الشرع فالوجه في هذا أن يقال أن آدم عليه السلام فمن بعده دعا إلى توحيد اللّه عز و جل دعاء عاما واستمر ذلك على العالم فواجب على الآدمي أن يبحث عن الشرع الآمر بتوحيد اللّه تعالى وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك بحسب إيجاب الشرع النظر فيها ويؤمن ولا يعبد غير اللّه فمن فرضناه لم يجد سبيلا إلى العلم بشرع آمر بتوحيد اللّه وهو مع ذلك لم يكفر ولا عبد صنما بل تخلى فأولائك أهل الفترات الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم في الجنة وهم بمنزلة الأطفال والمجانين ومن قصر في النظر والبحث فعبد صنما غيره وكفر فهو تارك للواجب عليه مستوجب للعقاب بالنار فالنبي صلى اللّه عليه وسلم قبل مبعثه ومن كان معه من الناس وقبله مخاطبون على ألسنة الأنبياء قبل التوحيد وغير مخاطبين بفروع شرائعهم إذ هي مختلفة وإذ لم يدعهم إليها نبي قال الفخر واحتج العلماء بهذه الآية على أن صلى اللّه عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم السلام وتقريره انا بينا أن خصال الكمال وصفات الشرف كانت مفرقة فيهم ثم أنه تعالى لما ذكر الكل أمر صلى اللّه عليه وسلم أن يجمع من خصال الطاعة والعبودية والأخلاق الحميدة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ولما أمره اللّه تعالى بذلك امتنع أن يقال أنه قصر في تحصيلها فثبت أنه حصلها ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه أجتمع فيه من خصال الخير ما كان فيهم مفرقا بأسرهم ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يقال أنه أفضلهم بكليتهم واللّه أعلم انتهى وقرا حمزة والكسائي فبهداهم اقتدى بحذف الهاء في الوصل واثباتها في الوقف وهذا هو القياس شبيهة بألف الوصل في انها تقطع في الأبتداء وتسقط في الوصل وقوله سبحانه قل لا اسألكم عليه أجرا أي قل لهؤلاء الكفرة المعاندين لا أسألكم على دعائي إياكم بالقرآن إلى عبادة اللّه تعالى أجرة إن هو إلا موعظة وذكرى ودعاء لجميع العالمين ٩١وقوله سبحانه وما قدروا اللّه حق قدره الآية قال ابن عباس هذه الآية نزلت في بني إسرائيل قال النقاش وهي آية مدنية وقيل المراد رجل مخصوص منهم يقال له مالك بن الضيف قاله ابن جبير وقيل فنحاص قاله السدي وقدروا هو من توفية القدر والمنزلة وتعليله بقولهم ما أنزل اللّه يقضي بأنهم جهلوا ولم يعرفوا اللّه حق معرفته إذ أحالوا عليه بعثة الرسل قال الفخر قال ابن عباس ما قدروا اللّه حق قدره أي ما عظموا اللّه حق تعظيمه وقال الأخفش ما عرفوه حق معرفته وقال أبو العالية ما وصفوه حق قدرته وعظمته وهذه المعانى كلها صحيحة انتهى وروي أن مالك بن الضيف كان سمينا فجاء يخاصم النبي صلى اللّه عليه وسلم بزعمه فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لى اللّه عليه وسلم انشدك اللّه الست تقرأ فيما أنزل على موسى أن اللّه يبغض الحبر السمين فغضب وقال واللّه ما أنزل اللّه على بشر من شيء قال الفخر وهذه الآية تدل على أن النكرة في سياق النفي تعم ولو لم تفد العموم لما كان قوله تعالى قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا إبطالا لقولهم ونقضا عليهم انتهى وقوله تعالى قل من أنزل الكتاب يعنى التوراة وقراطيس جمع قرطاس أي بطائق وأوراقا وتوبيخهم بالابداء والاخفاء هو على إخفائهم أمر صلى اللّه عليه وسلم وجميع ما عليهم فيه حجة وقوله سبحانه وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا ءاباؤكم يحتمل وجهين احدهما أن يقصد به الإمتنان عليهم وعلى ءابائهم والوجه الثاني أن يكون المقصود ذمهم أي وعلمتم أنتم وءاباؤكم ما لم تعلموه فما انتفعتم به لاعراضكم وضلالكم ثم أمره سبحانه بالمبادرة إلى موضع الحجة أي قل اللّه هو الذي أنزل الكتاب على موسى ثم أمره سبحانه بترك من كفر وأعرض وهذه آية منسوخة بآية القتال أن تؤولت موادعة ويحتمل أن لا يدخلها نسخ إذا جعلت تتضمن تهديدا ووعيدا مجردا من موادعة ٩٢وقوله سبحانه وهذا كتاب انزلناه مبارك هذا إشارة إلى القرآن وقوله مصدق الذي بين يديه يعنى التوراة والإنجيل لان ما تقدم فهو بين يدي ما تأخر وأم القرى مكة ثم ابتدأ تبارك وتعالى بمدح قوم وصفهم وأخبر عنهم انهم يؤمنون بالآخرة والبعث والنشور ويؤمنون بالقرآن ويصدقون بحقيقته ثم قوى عز و جل مدحهم بأنهم يحافظون على صلاتهم التي هي قاعدة العبادات وأم الطاعات وإذا أنضافت الصلاة إلى ضمير لم تكتب إلا بالالف ولا تكتب في المصحف بواو إلا إذا لم تضف إلا ضمير وقد جاءت وأثار صحيحة في ثواب من حافظ على صلاته وفي فضل المشي إليها ففي سنن أبي داود عن بريدة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال بشر المشاءين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة وروي أبو داود أيضا بسنده عن سعيد بن المسيب قال حضر رجلا من الأنصار الموت فقال إني محدثكم حديثا ما أحدثكموه إلا أحتسابا سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إذا توضأ أحدكم فاحسن الوضوء ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب اللّه له حسنة ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط اللّه عنه سيئة فليقرب ليبعد فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له فإن أتى المسجد وقد صلوا بعضا وبقي بعض صلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك فإن أتى المسجد وقد صلوا بعضا وبقي بعض صلى ما أدرك وأتم ما بقي صلى ما ادرك واتم ما بقي كان كذلك فإن اتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - من توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه اللّه عز و جل مثل أجر من صلاها حضرها لا ينقص ذلك من أجورهم انتهى ٩٣وقوله سبحانه ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا قال أوحي الي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل اللّه هذه الفاظ عامة فكل من واقع شيئا مما يدخل تحت هذه الألفاظ فهو داخل في الظلم الذي قد عظمه اللّه تعالى وقال قتادة وغيره المراد بهذه الآيات مسيلمة والأسود العنسي وقال عكرمة أولها في مسيلمة والآخر في عبد اللّه بن أبي سرح وقيل نزلت في النضر بن الحارث وبالجملة فالآية تتناول من تعرض شيئا من معانيها إلى يوم القيامة كطليحة الأسدي والمختار بن أبي عبيد وسواهما وقوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت الآية جواب لو محذوف تقديره لرأيت عجبا هولا ونحو هذا وحذف هذا الجواب ابلغ في نفس السامع والظالمون لفظ عام في أنواع الظلم الذي هو كفر والغمرات جمع غمرة وهي المصيبة المذهلة وهي مشبهة بغمرة الماء والملائكة يريد ملائكة قبض الروح
وباسطوا أيديهم كناية عن مدها بالمكروه وهذا المكروه هو لا محالة أوائل العذاب وإماراته قال ابن عباس يضربون وجوههم وأدبارهم وقوله أخرجوا أنفسكم حكاية لما تقوله الملائكة والتقدير يقولون لهم أخرجوا أنفسكم وذلك على جهة الإهانة وإدخال الرعب عليهم ويحتمل أخرجوا أنفسكم من هذه المصائب والمحن إن كان ما زعمتموه حقا في الدنيا وفي ذلك توبيخ وتوقيف على سالف فعلهم القبيح قلت والتأويل الأول هو الصحيح وقد أسند أبو عمر في التمهيد عن ابن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثم ذكر سنده عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالت أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب أخرجى حميدة وأبشرى بروح وريحان ورب غير غضبان قال فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيفتح لها فيقال من هذا فيقولون فلان فيقال مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب أدخلي حميدة وأبشرى بروح وريحان ورب غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء يعني السابعة وإذا كان الرجل السوء وحضرته الملائكة عند موته قالت أخرجى أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث أخرجي ذميمة وأبشرى بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج وذكر الحديث انتهى والهون الهوان وقوله تعالى بما كنتم تقولون على اللّه غير الحق الآية لفظ عام لانواع الكفر ولكنه يظهر منه الأنحاء على من قرب ذكره ٩٤وقوله سبحانه ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة الآية هذه حكاية عما يقال لهم بعد قبض أرواحهم وأعلم أيها الأخ أن هذه الآية الكريمة ونحوها من الآي وأن كان مساقها في الكفار فللمؤمن الموقن فيها معتبر ومزدجر وقد قيل أن القبر بحر الندامات وقد روى أبن المبارك في رقائقه بسنده عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من أحد يموت إلا ندم قالوا وما ندامته يا رسول اللّه قال إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد وان كان مسيئا ندم الا يكون نزع انتهى وكما خلقناكم أول مرة تشبيها بالانفراد الأول في وقت الخلقة وخولناكم معناه أعطيناكم ووراء ظهوركم إشارة إلى الدنيا لأنهم يتركون ذلك موجودا وقوله سبحانه وما نرى معكم شفعاءكم توقيف على الخطا في عبادة الأصنام واعتقادهم أنها تشفع وتقرب إلى اللّه زلفى قال أبو حيان وما نرى لفظه لفظ المستقبل وهو حكاية حال انتهى وقرأ نافع والكساءي بينكم بالنصب على أنه ظرف والتقدير لقد تقطع الاتصال والارتباط بينكم ونحو هذا وهذا وجه واضح وعليه فسره الناس مجاهد وغيره وقرأ باقي السبعه بينكم بالرفع وقرأ ابن مسعود وغيره لقد تقطع ما بينكم وضل معناه تلف وذهب وما كنتم تزعمون يريد دعواهم أنها تشفع وأنها تشارك اللّه في الألوهية تعالى اللّه عن قولهم ٩٥وقوله سبحانه ان اللّه فالق الحب والنوى هذا ابتداء تنبيه على العبرة والنظر ويتصل المعنى بما قلبله لأن المقصد أن اللّه فالق الحب والنوى لا هذه الأصنام قال قتادة وغيره هذه إشارة إلى فعل اللّه سبحانه في أن يشق جميع الحب عن جميع النبات الذي يكون منه ويشق النوى عن جميع الأشجار الكائنة منه وقوله يخرج الحي من الميت الآية قال ابن عباس وغيره الاشارة الى اخراج الانسان الحي من النطفة الميته وإخراج النطفة المتية من الإنسان الحي وكذلك سائر الحيوان من الطير وغيره وهذا القول أرجح ما قيل هنا وقوله سبحانه ذلكم اللّه ابتداء وخبر متضمن التنبيه فإنى تؤفكون أي تصرفون وتصدون وفالق الأصباح أي شاقه ومظهره والفلق الصبح وحسبانا جمع حساب أي يجريان بحساب هذا قول ابن عباس وغيره وقال مجاهد في صحيح البخاري المراد بحسبان كحسبان الرحى وهوالدولاب والعود الذي عليه دورانه ٩٧وقوله سبحانه وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر الآية هذه المخاطبة تعم المؤمنين والكافرين والحجة بها على الكافرين قائمة والعبرة بها للمؤمنين متمكنة وقوله سبحانه وهوالذي أنشأكم من نفس واحدة يريد آدم عليه السلام فمستقر ومستودع اختلف المتأولون في معنى هذا الأستقرار والاستيداع فقال الجمهور مستقر في الحرم ومستودع في ظهور الآباء حتى يقضي اللّه بخروجهم قال ابن عون مشيت إلى منزل إبراهيم النخعي وهو مريض فقالوا قد توفي فأخبرني بعضهم أن عبد الرحمن أبن الأسود سأله عن مستقر ومستودع فقال مستقر في الرحم ومستودع في الصلب وقال ابن عباس المستقر الأرض والمستودع عندالرحمن وقال ابن جبير المستودع في الصلب والمستقر في الآخرة قال الفخر والمنقول عن ابن عباس في أكثر الروايات أن المستقر هو الأرحام والمستودع الأصلاب ثم قرأ ونقر في الأرحام ما نشاء ومما يدل على قوة هذا القول ان النطفة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا والجنين في رحم الأم يبقى زمانا طويلا ولما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى انتهى قال ع والذي يقتضيه النظر أن ابن آدم هو مستودع في ظهر أبيه وليس بمستقر فيه استقرارا مطلقا لأنه ينتقل لا محالة ثم ينتقل إلى الرحم ثم ينتقل إلى الدنيا ثم ينتقل إلى القبر ثم ينتقل إلى المحشر ثم ينتقل إلى الجنة النار فيستقر في أحدهما استقرارا مطلقا وليس فيها مستودع لأنه لا نقلة له بعد وهو في كل رتبة متوسطة بين هذين الطرفين مستقر بالإضافة إلى التي قبلها ومستودع بالإضافة إلى التي بعدها لأن لفظ الوديعة يقتضي فيها نقلة ولا بد وقوله تعالى وهوالذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء السماء في هذا الموضع السحاب وكل ما اظلك فهو سماء وقوله نبات كل شيء قيل معناه مما ينبت وقال الطبري المراد بكل شيء كل ما ينمو من جميع الحيوان والنبات والمعادن وغير ذلك لأن ذلك كله يتغدى وينمو بنزول الماء من السماء والضمير في منه يعود على النبات وفي الثاني يعود على الخضر وخضرا بمعنى أخضر ومنه قوله عليه السلام الدنيا خضرة حلوة بمعنى خضراء وكأن خضرا إنما يأتي ابدا لمعنى النضارة وليس للون فيه مدخل وأخضر إنما تمكنه في اللون وهو في النضارة تجوز وحبا متراكبا يعم جيمع السنابل وما شاكلها كالصنوبر والرمان وغير ذلك وقوله ومن النخل تقديره ونخرج من النخل الطلع أول ما يخرج من النخل في أكمامه وقنوان جمع قنو وهوالعذق بكسر العين وهي الكباسة والعرجون عوده الذي فيه ينتظم التمر ودانية معناه قريبة من التناول قاله ابن عباس وغيره وقرأ الجمهور وجنات بالنصب عطفا على قوله نبات وروي عن عاصم وجنات بالرفع على تقدير ولكم جنات نحو هذا والزيتون والرمان بالنصب إجماعا عطفا على قوله حبا ومتشابها وغير متشابه قال قتادة معناه يتشابه في الورق ويتباين في الثمر وقال الطبري جائز أن يتشابه في الثمر ويتباين في الطعم ويحتمل أن يريد يتشابه في الطعم ويتباين في المنظر وهذه الأحوال موجودة بالاعتبار في أنواع الثمرات وقوله سبحانه انظروا هونظر بصر تتركب عليه فكرة قلب والثمر في اللغة جنى الشجر وما يطلع وأن سمي الشجر ثمارا فبتجوز وقرأ جمهور الناس وينعه بفتح الياء وهومصدر ينع يينع إذا نضج وبالنضج فسره ابن عباس وقد يستعمل ينع بمعنى استقل وأخضر ناضرا قال الفخر وقدم سبحانه الزرع لأنه غذاء والثمار فواكه وإنما قدم النخل على الفواكه لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب انتهى ١٠٠وقوله سبحانه وجعلوا للّه شركاء الجن جعلوا بمعنى صيروا والجن مفعول وشركاء مفعول ثان قال ص وجعلوا للّه شركاء الجن جعلوا بمعنى صيروا والجمهور على نصب الجن فقال ابن عطية وغيره هو مفعول أول لجعلوا وشركاء الثاني وجوزوا فيه أن يكون بدلا من شركاء وللّه في موضع المفعول الثاني وشركاء الأول ورده أبو حيان بأن البدل حينئذ لا يصح ان يحل محل المبدل منه إذ لو قلت وجعلوا للّه الجن لم يصح وشرط البدل أن يكون على نية تكرار العامل على الأشهر معمولا للعامل في المبدل منه على قول وهذا لا يصح كما ذكرنا قلت وفيه نظرا انتهى قلت وما قاله الشيخ أبو حيان عندي ظاهر وفي نظر الصفاقسي نظر وهذه الآية مشيرة إلى العادلين باللّه تعالى والقائلين أن الجن تعلم الغيب العابدين للجن وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك وتستجير بجن الوادي في اسفارها ونحو هذا وأما الذين خرقوا البنين فاليهود في ذكر عزيز والنصارى في ذكرالمسيح وأما ذاكرو البنات فالعرب الذين قالوا الملائكة بنات اللّه تعالى اللّه عن قولهم فكان الضمير في جعلوا وخرقوا لجميع الكفار إذ فعل بعضهم هذا وبعضهم هذا وبنحو هذا فسر السدي وابن زيد وقرأ الجمهور وخلقهم بفتح اللام على معنى وهو خلقهم وفي مصحف ابن مسعود وهو خلقهم والضمير في خلقهم يحتمل العودة على الجاعلين ويحتملها على المجعولين وقرأ السبعة سوى نافع وخرقوا بتخفيف الراء بمعنى اختلقوا وافتروا وقرأ نافع وخرقوا بتشديد الراء على المبالغة وقوله بغير علم نص على قبح تقحم المجهلة وافتراء الباطل على عمى وسبحانه معناه تنزه عن وصفهم الفاسد المستحيل عليه تبارك وتعالى وبديع بمعنى مبدع وأني بمعنى كيف واين فهي استفهام في معنى التوقيف والتقرير وهذه الآية رد على الكفار بقياس الغائب على الشاهد وقوله سبحانه وخلق كل شيء لفظ عام لكل ما يجوز أن يدخل تحته ولا يجوز أن تدخل تحته صفات اللّه تعالى وكلامه فليس هو عموما مخصصا على ما ذهب إليه قوم لأن العموم المخصص هو أن يتناول العموم شيئا ثم يخرجه التخصيص وهذا لم يتناول قط هذه التي ذكرناها وإنما هذا بمنزلة قول الإنسان قتلت كل فارس وافحمت كل خصم فلم يدخل القائل قط في هذا العموم الظاهر من لفظه وأما قوله وهو بكل شيء عليم فهو عموم على الإطلاق لأنه سبحانه يعلم كل شيء لا رب غيره وباقي الآية بين ١٠٣وقوله سبحانه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار أجمع أهل السنة على أن اللّه عز و جل يرى يوم القيامة يراه المؤمنون والوجه أن يبين جواز ذلك عقلا ثم يستند إلى ورود السمع بوقوع ذلك الجائز واختصار تبيين ذلك ان يعتبر بعلمنا باللّه عز و جل فمن حيث جاز أن نعلمه لا في مكان ولا متحيزا ولا مقابلا ولم يتعلق علمنا بأكثر من الوجود جاز أن نراه غير مقابل ولا مجاذي ولا مكيفا ولا محددا وكان الإمام أبوعبد اللّه النحوي يقول مسألة العلم حلقت لحى المعتزلة ثم ورد الشرع بذلك كقوله عز و جل وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وتعدية النظر بإلى إنما هو في كلام العرب لمعنى الرؤية لا لمعنى الانتظار على ما ذهب إليه المعتزلة ومنه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم فيما صح عنه وتواتر وكثر نقله أنكم ترون ربكم يوم القيامة كا ترون القمر ليلة البدر ونحوه من الأحاديث الصحيحة على اختلاف ألفاظها واستمحل المعتزلة الرؤية بآراء مجردةوتمسكوا بقوله تعالى لا تدركه الأبصار وانفصال اهل السنة عن تمسكهم بأن الآية مخصوصة في الدنيا ورؤية الآخرة ثابتة بأخبارها وأيضا فانا نفرق بين معنى الإدراك ومعنى الرؤية ونقول أنه عز وجل تراه الأبصار ولا تدركه ودلك أن الادراك يتضمن الإحاطة بالشيء والوصول إلى أعماقه وحوزه من جميع جهاته وذلك كله محال في اوصاف اللّه عز و جل والرؤية لا تفتقر إلى أن يحيط الرأي بالمرئي ويبلغ غايته وعلى هذا التأويل يترتب العكس في قوله وهو يدرك الأبصار ويحسن معناه ونحو هذا روي عن ابن عباس وقتادة وعطية العوفي انهم فرقوا بين الرؤية والإدراك واللطيف المتلطف في خلقه واختراعه والبصائر جمع بصيرة فكأنه قال قد جاءكم في القرءان والآيات طرائق أبصار الحق والبصيرة للقلب مستعارة من أبصار العين والبصيرة أيضا هي المعتقد وقوله سبحانه فمن أبصر ومن عمي عبارة مستعارة فيمن اهتدى ومن ضل وقوله وما انا عليكم بحفيظ كان في أول الأمر وقبل ظهور الإسلام ثم بعد ذلك كان صلى اللّه عليه و سلم حفيظا على العالم آخذا لهم بالإسلام السيف ١٠٥وقوله سبحانه وكذلك نصرف الآيات أي نرددها ونوضحها وقرأ الجمهور وليقولوا درست بكسر اللام على أنها لام كي وهي على هذا لام الصيرورة أي لما صار أمرهم إلى ذلك وقرأ نافع وغيره درست أي يا محمد درست في الكتب القديمة ما تجيئنا به وقرأ ابن كثير وغيره دارست أي دارست غيرك وناظرته وقرأ ابن عامر درست بإسناد الفعل إلى الآيات كأنهم اشاروا إلى أنها ترددت على أسماعهم حتى بليت في نفوسهم وأمحت واللام في قوله ليقولوا وفي قوله ولنبينه متعلقان بفعل متأخر تقديره صرفناها وذهب بعض الكوفيين إلى أن لا مضمرة بعد أن المقدرة في قوله وليقولوا فتقدير الكلام عندهم ولأن لا يقولوا درست كما اضمروها في قوله يبين اللّه لكم أن تضلوا قال ع وهذا قلق ولا يجيز البصريون إضمار لا في موضع من المواضع قلت ولكنه حسن جدا من جهة المعنى إذ لا يعلمون أنه درس دارس أحدا صلى اللّه عليه و سلم فتأمله وقوله سبحانه اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو الآية فيها موادعة وهي منسوخة وقوله تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه الآية مخاطبة للمؤمنين والنبي صلى اللّه عليه وسلم قال ابن عباس سببها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب إما أن ينتهي محمد وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما أن نسب الهه ونهجوه فنزلت الآية وحكمها على كل حال باق في الأمة فلا يحل لمسلم أن يتعرض إلى ما يؤدي إلى سب الإسلام النبي صلى اللّه عليه وسلم اللّه عز و جل وعبر عن الأصنام بالذين وهي لا تعقل وذلك على معتقد الكفرة فيها وفي هذه الآية ضرب من الموادعة وعدوا مصدر من الإعتداء وبغير علم بيان لمعنى الإعتداء وقوله تعالى كذلك زينا لكل أمة عملهم إشارة إلى ما زين لهؤلاء من التمسك بأصنامهم وتزيين اللّه عمل الأمم هو ما يخلقه سبحانه في النفوس من المحبة للخير والشر وتزيين الشيطان هو ما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء وقوله ثم إلى ربهم مرجعهم الآية تتضمن وعدا جميلا للمحسنين ووعيدا ثقيلا للمسيئين ١٠٩وقوله سبحانه واقسموا باللّه جهد ايمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها اللام في قوله لئن لام توطئة للقسم وأما المتلقية للقسم فهي قوله ليؤمنن بها وآية يريد علامة وحكي أن الكفار لما نزلت ان نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت اعناقهم لها خاضعين أقسموا حينئذ انها ان نزلت آمنوا فنزلت هذه الآية وحكي أنهم اقترحوا أن يعود الصفا ذهبا وأقسموا على ذلك فقام النبي صلى اللّه عليه وسلم يدعو في ذلك فجاءه جبريل فقال له ان شئت أصبح ذهبا فإن لم يؤمنوا هلكوا عن آخرهم معاجلة كما فعل بالأمم المقترحة إن شئت اخروا حتى يتوب تائبهم فقال عليه الصلاة و السلام بل حتى يتوب تائبهم ونزلت الآية قال ابن العربي قوله جهد ايمانهم يعني غاية ايمانهم التي بلغها علمهم وانتهت إليها قدرتهم انتهى من الأحكام ثم قال تعالى قل لهم يا محمد على جهة الرد والتخطئة إنما الآيات عند اللّه وليست عندي فتقترح علي ثم قال وما يشعركم قال مجاهد وابن زيد المخاطب بهذا الكفار وقال الفراء وغيره المخاطب بهذا المؤمنون وما يشعركم معناه وما يعلمكم وما يدريكم وقرأ ابن كثير وغيره أنها بكسر الألف على القطع واستيناف الأخبار قرأ تؤمنون بالتاء وهي قراءة ابن عامر وحمزة استقامت له المخاطبة أولا وآخرا للكفار ومن قرأ بالياء وهي قراءة نافع وغيره فيحتمل أن يخاطب أولا وآخرا المؤمنين ويحتمل أن يخاطب بقوله وما يشعركم الكفار ثم يستأنف الأخبار عنهم للمؤمنين وقرا نافع وغيره أنها بفتح الألف فقيل أن لا زائدة في قوله لا يؤمنون كما زيدت في قوله تعالى وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ودعا إلى التزام هذا حفظ المعنى لأنها لو لم تكن زائدة لعاد الكلام عذرا للكفار وفسد المراد بالآية وضعف الزجاج وغيره زيادة لا ومنهم من جعل أنها بمعنى لعلها وحكاه سيبويه عن الخيل وهذا التأويل لا يحتاج معه إلى تقدير زيادة لا وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي وما أدراكم لعلها إذا جاءت ورجح علي أن تكون لا زائدة وبسط شواهده في ذلك ١١٠وقوله سبحانه ونقلب افئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون فالمعنى على ما قالت فرقة ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في النار وفي لهبها في الآخرة لما لم يؤمنوا في الدنيا ثم استأنف على هذا ونذرهم في الدنيا في طغيانهم يعمهون وقالت فرقة إنما المراد بالتقليب التحويل عن الحق والهدى والترك في الضلالة والكفر ومعنى الآية أن هؤلاء الذين اقسموا أنهم يؤمنون إن جاءت آية نحن نقلب افئدتهم وأبصارهم أن لو جاءت فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من عبادة اللّه تعالى فأخبر اللّه عز و جل على هذا التأويل بصورة فعله بهم وقالت فرقة قوله كما في هذه الآية إنما هي بمعنى المجازاة أي لما لم يؤمنوا أول مرة نجازيهم بأن نقلب افئدتهم عن الهدى ونطبع على قلوبهم فكأنه قال ونحن نقلب افئدتهم وأبصارهم جزاء لما لم يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من الشرع والضمير في به يحتمل أن يعود على اللّه عز و جل على القرآن على النبي صلى اللّه عليه وسلم ونذرهم معناه نتركهم والطغيان التخبط في الشر والإفراط فيما يتناوله المرء ويعمهون معناه يترددون في حيرتهم ١١١وقوله سبحانه ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى الآية أخبر سبحانه أنه لو أتي بجميع ما اقترحوه من انزال ملائكة واحياء سلفهم حسبما اقترحه بعضهم أن يحشر قصي وغيره فيخبر بصدق محمد عليه السلام أويحشر عليهم كل شيء قبلا ما آمنوا إلا بالمشيئة واللطف الذي يخلقه ويخترعه سبحانه في نفس من يشاء لا رب غيره وقرأ نافع وغيره قبلا ومعناه مواجهة ومعاينة قاله ابن عباس وغيره ونصبه على الحال وقال المبرد معناه ناحية كما تقول لي قبل فلان دين قال ع فنصبه على هذا هو على الظرف وقرأ حمزة وغيره قبلا بضم القاف والباء واختلف في معناه فقال بعضهم هو بمعنى قبل بكسر القاف أي مواجهة كما تقول قبل ودبر وقال الزجاج والفراء هو جمع قبيل وهو الكفيل أي وحشرنا عليهم كل شيء كفلاء بصدق صلى اللّه عليه وسلم وقال مجاهد وغيره هو جمع قبيل أي صنفا صنفا ونوعا نوعا والنصب في هذا كله على الحال ولكن أكثرهم يجهلون أي يجهلون في اعتقادهم أن الآية تقتضي إيمانهم ولا بد فيقتضي اللفظ أن الأقل لا يجهل فكان فيهم من يعتقد أن الآية لو جاءت لم يؤمن إلا من شاء اللّه منه ذلك قلت وقال مكي ولكن أكثرهم يجهلون أي في مخالفتك وهم يعلمون أنك نبيء صادق فيما جئتهم به وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يداعب أبا سفيان بعد الفتح بمخصرة في يده ويطعن بها أبا سفيان فإذا أحرقته قال نح عني مخصرتك فواللّه لو أسلمت إليك هذا الأمر ما اختلف عليك فيه اثنان فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم أسألك بالذي أسلمت له قتالك إياي عن أي شيء كان فقال له أبو سفيان تظن أني كنت أقاتلك تكذيبا مني لك واللّه ما شككت في صدقك قط وما كنت أقاتلك إلا حسدا مني لك فالحمد للّه الذي نزع ذلك من قلبي فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يشتهي ذلك منه ويتبسم انتهى من الهداية ١١٢وقوله سبحانه وكذلك جعلنا لكل نبيء عدوا شياطين الانس والجن الآية تتضمن تسلية النبي صلى اللّه عليه وسلم وعرض القدوة عليه أي هذا الذي امتحنت به يا محمد من الأعداء قد امتحن به غيرك من الأنبياء ليبتلي اللّه أولى العزم منهم وشياطين الإنس والجن يريد المتمردين من النوعين ويوحى معناه يلقيه في اختفاء فهو كالمناجاة والسرار وزخرف القول محسنه ومزينه بالأباطيل قاله عكرمة ومجاهد والزخرفة أكثر ما تستعمل في الشر والباطل وغرورا مصدر ومعناه يغرون به المضللين والضمير في فعلوه عائد على اعتقادهم العداوة ويحتمل على الوحي الذي تمضنه يوحى وقوله سبحانه فذرهم وما يفترون لفظ يتضمن الأمر بالموادعة وهو منسوخ قال قتادة كل ذر في كتاب اللّه منسوخ بالقتال ١١٣وقوله سبحانه ولتصغى معناه لتميل قال الفخر والضمير في قوله ولتصغى إليه افئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة يعود على زخرف القول وكذلك في قوله وليرضوه والإقتراف معناه الإكتساب وقال الزجاج وليقترفوا أي يختلقوا ويكذروا والأول أفصح انتهى والقراء على كسر اللام في الثلاثة الأفعال على أنها لام كي معطوفة على غرورا وحكما أبلغ من حكام إذ هي صيغة للعدل من الحكام والحاكم جار على الفعل فقد يقال للجائر ومفصلا معناه مزال الأشكال والكتاب أولا هو القرآن وثانيا اسم جنس للتوراة والإنجيل والزبور والصحف وقوله تعالى فلا تكونن من الممترين تثبيت ومبالغة وطعن علىالممترين قلت وقد تقدم التنبيه على أنه صلى اللّه عليه و سلم معصوم وأن الخطاب له والمراد غيره ممن يمكن منه الشك ١١٥وقوله سبحانه وتمت كلمات بك صدقا وعدلا الآية تمت في هذا الموضع بمعنى استمرت وصحت في الأزل صدقا وعدلا وليس بتمام من نقص ومثله ما وقع في كتب السيرة من قولهم وتم حمزة على إسلامه في الحديث مع أبي جهل والكملمات ماأنزل على عباده ولا مبدل لكلماته معناه في معانيها ١١٦وقوله سبحانه وان تطع أكثر من في الأرض الآية المعنى فامض يا محمد لما أمرت به وبلغ ما أرسلت به فإنك أن تطع أكثر من في الأرض يضلوك قال ابن عباس الأرض هنا الدنيا وحكي أن سبب هذه الآية أن المشركين جادلوا النبي صلى اللّه عليه وسلم في أمر الذبائح وقالوا أتأكل ما تقتل وتترك ما قتل اللّه فنزلت الآية ثم وصفهم تعالى بأنهم إنما يقتدرون بظنونهم ويتبعون تخرصهم والخرص الحرز والظن وهذه الآية خبر في ضمنه وعيد للضالين ووعد للمهتدين ١١٨وقوله سبحانه فكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه إن كنتم بآياته مؤمنين الآية القصد بهذه الآية النهي عما ذبح للنصب وغيرها وعن الميتة وأنواعها ولا قصد في الآية إلى ما نسي المؤمن فيه التسمية تعمدها بالترك ١١٩وقوله سبحانه وما لكم إلا تأكلوا الآية ما استفهام يتضمن التقرير وقد فصل لكم ما حرم عليكم أي فصل الحرام من الحلال وانتزعه بالبيان وما في قوله إلا ما اضطررتم إليه يريد بها من جميع ما حرم كالميتة وغيرها وهي في موضع نصب بالاستثناء والاستثناء منقطع وقوله سبحانه وأن كثيرا يريد الكفرة المحادين المجادلين ثم توعدهم سبحانه بقوله إن ربك هو أعلم بالمعتدين وقوله جلت عظمته وذروا ظاهر الإثم وباطنه نهي عام والظاهر والباطن يستوفيان جميع المعاصي وقال قوم الظاهر الأعمال والباطن المعتقد وهذا أيضا حسن لأنه عام وروي ابن المبارك في رقائقه بسنده عن أبي إمامة قال سأل رجل النبي صلى اللّه عليه وسلم ما الاثم قال ما حك في صدرك فدعه وروى ابن المبارك أيضا بسنده أن رجلا قال يا رسول اللّه ما يحل لي مما يحرم علي فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرد عليه ثلاث مرات في كل ذلك يسكت رسول اللّه ثم قال أين السائل فقال أنا ذا يا رسول اللّه قال ما أنكر قلبك فدعه انتهى وقد ذكرنا معناه من طرق في غير هذا الموضع فاغنى من عادته ثم توعد تعالى كسبة الاثم بالمجازاة على ما اكتسبوه من ذلك والأقتراف الإكتساب ١٢١وقوله سبحانه ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه وانه لفسق الآية مقصد الآية النهي عن الميتة إذ هي جواب لقول المشركين تتركون ما قتل اللّه ومع ذلك فلفظها يعم ما تركت التسمية عليه من ذبائح الإسلام وبهذا العموم تعلق ابن عمر وابن سيرين والشعبي وغيرهم فقالوا ما تركت التسمية عليه لم يؤكل عمدا كان نسيانا وجمهور العلماء على أنه يوكل أن كان تركها نسيانا بخلاف العمد وقيل يؤكل سواء تركت عمدا نسيانا إلا أن يكون مستخفا وقوله تعالى وان الشياطين الآية قال عكرمة هم مردة الانس من مجوس فارس وذلك أنهم كانوا يوالون قريشا على عداوة النبي صلى اللّه عليه وسلم ليوحون إلى أوليائهم من قريش ليجادلوكم بقولهم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل اللّه فذلك من مخاطبتهم هو الوحي والأولياء هم قريش وقال ابن زيد وعبداللّه بن كثير بل الشياطين الجن واللفظة علىوجهها واولياؤهم كفرة قريش ووحيهم بالوسوسة وعلى ألسنة الكهان ثم نهى سبحانه عن طاعتهم بلفظ يتضمن الوعيد وعرض أصعب مثال في أن يشبه المؤمن بالمشرك قال ابن العربي قوله تعالى وان الشياطين يموحون إلى أوليائهم سمى اللّه تعالى ما يقع في القلوب من الالهام وحيا وهذا مما يطلقه شيوخ المتصوفة وينكره جهال المتوسمين بالعلم ولم يعلموا أن الوحي على ثمانية أقسام وان اطلاقه في جميعها جائز في دين اللّه انتهى من أحكام القرآن ١٢٢وقوله سبحانه من كان ميتا فأحييناه لما تقدم ذكر المؤمنين وذكر الكافرين مثل سبحانه في الطائفتين بأن شبه الذين آمنوا بعد كفرهم بأموات أحيوا هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما وشبه الكافرين وحيرة جهلهمم بقوم في ظلمات يترددون فيها ولا يمكنهم الخروج منها ليبين عز و جل الفرق بين الطائفتين والبون بين المنزلتين ونورا أمكن ما يعنى به الإيمان قيل ويحتمل أن يراد به النور الذي يوتاه المؤمن يوم القيامة وجعلنا في هذه الآية بمعنى صيرنا فهي تتعدى إلى مفعولين الأول مجرميها والثاني أكابر وفي الكلام على هذا تقديم وتأخير تقديره وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر وقدم الأهم إذ لعلة كبرهم أجرموا ويصح أن يكون المفعول الأول أكابر ومجرميها مضاف والمفعول الثاني في قوله في كل قرية وليمكروا نصب بلام الصيروروة والأكابر جمع أكبر كما الأفاضل جمع أفضل قال الفخر وإنما جعل المجرمين أكابر لأنهم لأجل رياستهم أقدر علىالغدر والمكر وركوب الباطل من غيرهم ولأن كثرة المال والجاه يحملان الإنسان على المبالغة في حفظهما وذلك الحفظ لا يتم إلا بجميع الأخلاق الذميمة كالغدر والمكر والكذب والغيبة والنميمة والايمان الكاذبة ولو لم يكن للمال والجاه سوى أن اللّه تعالى حكم بأنه إنما وصف بهذه الأوصاف الذميمة من كان له مال وجاه لكفى ذلك دليلا على خساسة المال والجاه انتهى وما ذكره في المال والجاه هوالأغلب وما يشعرون أي ما يعلمون ١٢٤وقوله سبحانه وإذا جاءتهم ءاية أي علامة ودليل على صحة الشرع تشططوا وقالوا لن نؤمن حتى يفلق لنا البحر ويحي لنا الموتى ونحو ذلك فرد اللّه تعالى عليهم بقوله اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته فيمن اصطفاءه وانتخبه لا فيمن كفر وجعل يتشطط علىاللّه سبحانه قال الفخر قال المفسرون قال الوليد بن المغيرة لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها قال الضحاك أراد كل واحد من هؤلاء الكفرة أن يخص بالوحي والرسالة كما أخبر عنهم سبحانه بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة انتهى ثم توعد سبحانه بأن هؤلاء المجرمين الأكابر في الدنيا سيصيبهم عند اللّه صغار وذلة ١٢٥وقوله سبحانه فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام الآية من شرط ويشرح جواب الشرط والآية نص في أن اللّه تعالى يريد هدى المؤمن وضلال الكافر وهذا عند جميع أهل السنة بالإرادة القديمة التي هي صفة ذاته تبارك وتعالى والهدى هنا هو خلق الإيمان في القلب وشرح الصدر هو تسهيل الإيمان وتحبيبه وإعداد القلب لقبوله وتحصيله والصدر عبارة عن القلب وفي يشرح ضمير يعود على اسم اللّه عز و جل يعضده اللفظ والمعنى ولا يحتمل غيره والقول بأنه عائد علىالمهدى قول يتركب عليه مذهب القدرية في خق الأعمال ويجب أن يعتقد ضعفه والحذر منه وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه لما نزلت هذه الآية قالوا يا رسول اللّه كيف يشرح الصدر قال إذا نزل النور في القلب انشرح له الصدر وانفس قالوا وهل لذلك علامة يا رسول اللّه قال نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل الموت والقول في قوله ومن يرد أن يضله كالقول في قوله فمن يرد اللّه أن يهديه وقرأ حمزة وغيره حرجا بفتح الراء وروي أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قرأها يوما بفتح الراء فقرأها له بعض الصحابة بكسر الراء فقال أبغوني رجلا من كنانة وليكن راعيا وليكن من بني مدلح فلما جاء قال له يا فتى ما الحرجة عندكم قال الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية قال عمر كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير وقوله سبحانه كانما يصعد في السماء أي كأن هذا الضيق الصدر متى حاول الإيمان فكر فيه يجد صعوبته عليه والعياذ باللّه كصعوبة الصعود في السماء قاله ابن جريج وغيره وفي السماء يريد من سفل إلى علو وتحتمل الآية أن يكون التشبيه بالصاعد في عقبة كؤد كأنه يصعد بها في الهواء ويصعد معناه يعلو ويصعد معناه يتكلف من ذلك ما يشق عليه وقوله كذلك يجعل اللّه الرجس أي وكما كان الهدى كله من اللّه والضلال بإرادته تعالى ومشيئته كذلك يجعل اللّه الرجس قال أهل اللغة الرجس يأتي بمعنى العذاب ويأتي بمعنى النجس ١٢٦وقوله تعالى وهذا صراط ربك مستقيما الآية هذا إشارة إلى القرآن والشرع الذي جاء به نبينا صلى اللّه عليه وسلم قاله ابن عباس وفصلنا معناه بينا وأوضحنا وقوله سبحانه لقوم يذكرون أي للمؤمنين والضمير في قوله لهم دار السلام عائد عليهم والسلام يتجه أن يكون اسما من أسماء اللّه عز و جل ويتجه أن يكون مصدر بمعنى السلامة وقوله تعالى عند ربهم يريد في الآخرة بعد الحشر ووليهم أي ولي الأنعام عليهم وبما كانوا يعملون أي بسبب ما كانوا يقدمون من الخير ويفعلون من الطاعة والبر ١٢٨وقوله سبحانه ويوم نحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس المعنى وأذكر يوم وفي الكلام حذف تقديره نقول يا معشر الجن وقوله قد استكثرتم معناه افرطتم ومن الانس يريد في اضلالهم واغوائهم قاله ابن عباس وغيره وقال الكفار من الانس وهم أولياء الجن الموبخين على جهة الاعتذار عن الجن ربنا استمتع بضعنا ببعض أي انتفع وذلك كاستعاذتهم بالجن إذ كان العربي إذا نزل واديا ينادي يا رب الوادي إني استجير بك في هذه الليلة ثم يرى سلامته إنما هي بحفظ جني ذلك الوادي ونحو ذلك وبلوغ الأجل المؤجل هو الموت وقيل هو الحشر وقوله تعالى قال النار مثواكم الآية اخبار من اللّه تعالى عما يقول لهم يوم القيامة اثر كلامهم المتقدم ومثواكم أي موضع ثوابكم كمقامكم الذي هو موضع الإقامة قاله الزجاج والاستثناء في قوله إلا ما شاء اللّه قالت فرقة ما بمعنى من فالمراد إلا من شاء اللّه ممن آمن في الدنيا بعد ان كان من هؤلاء الكفرة وقال الطبري أن المستثنى هي المدة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار وقال الطبري عن ابن عباس أنه كان يتأول في هذا الاستثناء أنه مبلغ حال هؤلاء في علم اللّه ثم أسند إليه أنه قال أن هذه الآية آية لا ينبغي لاحد أن يحكم على اللّه في خلقه لا ينزلهم جنة ولا نارا قال ع والإجماع على التخليد الأبدي في الكفار ولا يصح هذا عن ابن عباس رضي اللّه عنه قال ص إلا ما شاء اللّه قيل استثناء منقطع أي لكن ما شاء اللّه من العذاب الزائد على النار وقيل متصل واختلفوا في تقدره فقيل هو استثناء من الأشخاص وهم من آمن في الدنيا ورد بأنه يختلف زمان المستثنى والمستثنى منه فيكون منقطعا لا متصلا لأن من شرط المتصل اتخاذ زماني المخرج والمخرج منه انتهى وقيل غير هذا ١٢٩وقوله سبحانه وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا قال قتادة معناه نجعل بعضهم ولي بعض في الكفر والظلم وقال أيضا المعنى نجعل بعضهم يلي بعضا في دخول النار وقال ابن زيد معناه نسلط بعض الظالمين على بعض ونجعلهم أولياء النقمة منهم قال ع وقد حفظ هذا في استعمال الصحابة والتابعين كقول ابن الزبير إلا أن فم الذبان قتل لطيم الشيطان وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ١٣٠وقوله تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم الآية هذا الكلام داخل في القول يوم الحشر قال الفخر قال أهل اللغة المعشر كل جماعة أمرهم واحد وتحصل بينهم معاشرة ومخالطة فالمعشر المعاشر انتهى ومنكم يعنى من الانس قاله ابن جريج وغيره وقال ابن عباس من الطائفتين ولكن رسل الجن هم رسل رسل الإنس وهم النذر ويقصون من القصص وقولهم شهدنا إقرار منهم بالكفر وقوله سبحانه وغرتهم الحياة الدنيا التفاتة فصيحة تضمنت أن كفرهم كان بأذم الوجوه لهم وهو الاغترار الذي لا يواقعه عاقل ويحتمل غرتهم أن يكون بمعنى أشبعتهم وأطغتهم بحلوائها كما يقال غر الطائر فرخه وقوله سبحان وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين الجمع بين هذه الآية وبين الآيي التي تقتضي إنكار المشركين الاشراك هو إما بأنها طوائف وإما بأنها طائفة واحدة في مواطن شتى ١٣١وقوله ذلك أن لم يكن أي ذلك الأمر والقرى المدن والمراد أهل القرى وبظلم يحتمل معنيين أحدهما أنه لم يكن سبحانه ليهلكهم دون نذارة فيكون ظلما لهم واللّه تعالى ليس بظلام للعبيد والآخران اللّه عز و جل لم يهلكهم بظلم واقع منهم دون أن ينذرهم وهذا هو البين القوي وذكر الطبري رحمه اللّه التأويلين ١٣٢وقوله سبحانه ولكل درجات مما عملوا الآية اخبار من اللّه سبحانه أن المؤمنين في الآخرة على درجات من التفاضل بحسب أعمالهم وتفضل المولى سبحانه عليهم ولكن كل راض بما أعطي غاية الرضى والمشركون أيضا علىدركات من العذاب قلت وظاهر الآية أن الجن يثابون وينالون الدرجات والدركات وقد ترجم البخاري على ذلك فقال ذكر الجن وثوابهم وعقابهم لقوله تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم الآية إلى قوله وما ربك بغافل عما يعلمون قال الداودي قال الضحاك من الجن من يدخل الجنة ويأكل ويشرب انتهى ١٣٣وقوله سبحانه وربك الغني ذو الرحمة أن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدهم ما يشاء الآية مضمنة وعيدا وتحذيرا من بطش اللّه عز و جل في التعجيل بذلك وأما مع المهلة ومرور الجديدين فذلك عادته سبحانه في الخلق باذهاب خلق واستخلاف آخرين ١٣٤وقوله سبحانه إنما توعدون ءلات هو من الوعيد بقرينة وما أنتم بمعجزين أي وما أنتم بناجين هربا فتعجزون طالبكم ثم أمر سبحانه نبيه عليه السلام أن يتوعدهم بقوله اعملوا أي فسترون عاقبة عملكم الفاسد وصيغة افعل هنا هي بمعنى الوعيد والتهديد وعلى مكانتكم معناه على حالكم وطريقتكم وعاقبة الدار أي مآل الآخرة ويحتمل مآل الدنيا بالنصر والظهور ففي الآية إعلام بغيب ١٣٦وقوله وجعلوا للّه مما ذرأ يعني مشركي العرب الذين تقدم الرد عليهم من أول السورة وذرأ معناه خلق وأنشأ وبث وسبب نزول هذه الآية أن العرب كانت تجعل من غلاتها وزروعها وثمارها وأنعامها جزأ تسمية للّه وجزأ تسمية لأصنامها وكانت عادتها التحفي والاهتبال بنصيب الأصنام أكثر منها بنصيب اللّه إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فقر وليس ذلك باللّه سبحانه فكانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الريح فحملت من الذي للّه إلىالذي لشركائهم أقروه وإذا حملت من الذي لشركائهم إلى الذي للّه ردوه وإذا لم يصيبوا في نصيب شركائهم شيئا قالوا لا بد للآلهة من نفقة فيجعلون نصيب اللّه تعالى في ذلك قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم انهم كانوا يفعلون هذا ونحوه من الفعل وكذلك في الأنعام كانوا إذا أصابتهم ألسنة أكلوا نصيب اللّه وتحاموا نصبب شركائهم ١٣٧وقوله سبحانه وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم الكثير هنا يراد به من كان يئد من شركي العرب والشركاء هاهنا الشياطين الآمرون بذلك المزينون له والحاملون عليه أيضا من بني آدم ومقصد الآية الذم للوأد والانحناء على فعلته وليردوهم معناه ليهلكوهم من الردى وليلبسوا معناه ليخلطوا وقوله سبحانه ولو شاء اللّه ما فعلوه يقتضي أن لا شيء إلا بمشيئة اللّه عز و جل وفيها رد على من قال بأن المرء يخلق أفعاله وقوله فذرهم وعيد محض ١٣٨وقوله سبحانه وقالوا هذه أنعام وحرت حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها الآية تتضمن ما شرعوه لأنفسهم والتزموه على جهة القربة كذبا منهم على اللّه سبحانه وحجر معناه التحجير وهو المنع والتحريم وانعام لا يذكرون أسم اللّه عليها قال جماعة من المفسرين أنهم كانت لهم سنة في أنعام ما أن لا يحج عليها فكانت تركب في كل وجه إلا في الحج وقالت فرقة بل ذلك في الذبائح جعلوا لآلهتهم نصيبا منها لا يذكرون اللّه على ذبحها ١٣٩وقوله سبحانه وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكرونا ومحرم على أزواجنا الآية كان من مذاهبهم الفاسدة في بعض الأنعام أن يحرموا ما ولدت على نسائهم ويخصصونه لذكورهم فأزواجنا يراد به جماعة النساء التي هي معدة أن تكون أزواجا قاله مجاهد وقوله وإن يكن ميتة يعني أنه كان من سنتهم أن ماخرج من الأجنة ميتا من تلك الأنعام الموقوفة فهو حلال للرجال والنساء جميعا وكذلك ما مات من الأنعام الموقوفة نفسها ثم أعقب تعالى بوعيدهم على ما وصفوا أنه من القربات ١٤٠وقوله سبحانه قد خسر الذ١ين قتلوا أولادهم سفها بغير علم الآية تتضمن التشنيع بسوء فعلهم والتعجيب من سوء حالهم فيما ذكر قال عكرمة وكان الوأد في ربيعة وفي مضر قال ع وكان جمهور العرب لا يفعله ثم ان فاعليه كان منهم من يفعله خوف العيلة والأفتقار وكان منهم من يفعله غيره مخافة السباء وقد ضلوا اخبار عنهم بالحيرة وما كانوا يريد في هذه الفعلة ويحتمل أن يريد وما كانوا قبل ضلالهم بهذه الفعله مهتدين ولكنهم زادوا بهذه الفعلة ضلالا ١٤١وقوله سبحانه وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات الآية تنبيه على مواضع الإعتبار وأنشأ معناه خلق واخترع ومعروشات قال ابن عباس ذلك في ثمر العنب منها ما عرش وسمك ومنها ما لم يعرش ومتشابها يريد في المنظر وغير متشابه في الطعم قاله ابن جريج وغيره وقوله كلوا من ثمره نص في الإباحة وقوله سبحانه وءاتوا حقه يوم حصاده قال ابن عباس وجماعة هي في الزكاة المفروضة قال ع وهذا القول معترض بأن السورة مكية وبانه لا زكاة فيما ذكر من الرمان وما في معناه وحكى الزجاج ان هذه الآية قيل فيها أنها نزلت بالمدينة وقال مجاهد وغيره بل قوله وآتوا حقه يوم حصاده ندب إلى اعطاء حقوق من المال غير الزكاة والسنة أن يعطي الرجل من زرعه عند الحصاد وعند الذرو وعند تكديسه في البيدر فإذا صفى وكال أخرج من ذلك الزكاة وقالت طائفة هذا حكم صدقات المسلمين حتى نزلت الزكاة المفروضة فنسختها قال ع والنسخ غير مترتب في هذه الآية ولا تعارض بينها وبين آية الزكاة بل تنبنى هذه على الندب وتلك على الفرض وقوله سبحانه ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين النهي عن الاسراف أما للناس عن التمنع عن أدائها لان ذلك اسراف من الفعل وأما للولاة عن التشطط على الناس والاذاية لهم وكل قد قيل به في تأويل الآية ١٤٢وقوله سبحانه ومن الأنعام حمولة وفرشا محمولة عطف على جنات معروشات التقدير وأنشأنا من الانعام حمولة والحمولة ما تحمل الأثقال من الابل والبقر عند من عادته أن يحمل عليها والفرش ما لا يحمل ثقلا كالغنم وصغار البقر والابل وهذا هو المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وغيرهم ولا مدخل في الآية لغير الأنعام وقوله كلوا مما رزقكم اللّه نص أباحة وأزالة ما سنه الكفرة من البحيرة والسائبة وغير ذلك ثم تابع النهي عن تلك السنن الآفكة بقوله سبحانه ولا تتبعوا خطوات الشيطان وهي جمع خطوة أي لا تمشوا في طريقه قلت ولفظ البخاري خطوات من الخطو والمعنى ءاثاره انتهى ١٤٣وقوله سبحانه ثمانية أزواج اختلف في نصبها فقيل على البدل من ما في قوله كلوا مما رزقكم اللّه وقيل على الحال وقيل على البدل من قوله حمولة وفرشا وهذا أصوب الأقوال وأجراها مع معنى الآية والزوج الذكر والزوج الأنثى فكل واحد منهما زوج صاحبه وهي أربعة أنواع فتجيء ثمانية أزواج والضأن جمع ضائنة وضائن وقوله سبحانه قل آلذكرين حرم أم الأنثيين هذا تقسيم على الكفار حتى يتبين كذبهم على اللّه أي لا بد أن يكون حرم الذكرين فيلزمكم تحريم جميع الذكور الأنثيين فيلزمكم تحريم جميع الإناث أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فيلزمكم تحريم الجميع وانتم لم تلتزموا شيأ يوجبه هذا التقسيم وفي هذه السؤالات تقريع وتوبيخ ثم اتبع تقريعهم بقوله نبؤنى أي أخبرونى بعلم أي من جهة نبؤة كتاب من كتب اللّه أن كنتم صادقين وأن شرط وجوابه في نبؤنى ١٤٤وقوله سبحانه ومن الابل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم الآية القول في هذه الآية في المعنى وترتيب التقسيم كما تقدم فكأنه قال انتم الذين تدعون أن اللّه حرم خصائص من هذه الأنعام لا يخلو تحريمه من أن يكون في الذكرين في الأنثيين فيما اشتملت عليه أرحام الأنثيين لكنه لم يحرم لا هذا ولا هذا ولا هذا فلم يبق إلا أنه لم يقع تحريم قال الفخر والصحيح عندي أن هذه الآية لم ترد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم بل هي استفهام على سبيل الانكار وحاصل الكلام أنكم لا تعترفون بنبوءة أحد من الأنبياء فكيف تثبتون هذه الأحكام المختلفة انتهى وقوله سبحانه أم كنتم شهداء إذ وصاكم اللّه بهذا أستفهام على سبيل التوبيخ وشهداء جمع شهيد وباقي الآية بين ١٤٥وقوله تعالى قل لا أجد في ما أوحي الي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميته الآية هذه الآية نزلت بمكة ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت شيء محرم غير هذه الأشياء ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة وزيد في المحرمات كالخمر وكأكل كل ذي ناب من السباع مما وردت به السنة قال ع ولفظة التحريم إذا وردت على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإنها صالحة أن تنتهي بالشيء المذكور غاية المنع والحظر وصالحة بحسب اللغة أن تقف دون الغاية في حيز الكراهية ونحوها فما اقترنت به قرينة التسليم من الصحابة المتأولين وأجمع عليه الكل منهم ولم تضطرب فيه الفاظ الأحاديث وأمضاه الناس وجب بالشرع أن يكون تحريمه قد وصل الغاية من الحظر والمنع ولحق بالخنزير والميتة وهذه صفة تحريم الخمر وما أقترنت به قرينة اضطراب الفاظ الحديث واختلف الأمة فيه مع علمهم بالاحاديث كقوله عليه السلام كل ذي ناب من السباع حرام وقد روي عنه نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ثم اختلفت الصحابة ومن بعدهم في تحريم ذلك فجاز لهذه الوجوه لمن ينظر أن يحمل لفظ التحريم على المنع الذي هو على الكراهية ونحوها وما اقترنت به قرينة التأويل كتحريمه عليه السلام لحوم الحمر الأنسية فتأول بعض الصحابة الحاضرين ذلك لأنها لم تخمس وتأول بعضهم أن ذلك ليلا تفنى حمولة الناس وتأول بعضهم التحريم المحض وثبت في الأمة الاختلاف في لحمها فجائز لمن ينظر من العلماء أن يحمل لفظ التحريم بحسب اجتهاده وقياسه على كراهية نحوها وباقي الآية بين ١٤٦وقوله سبحانه وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الآية هذا خبر من اللّه سبحانه يتضمن تكذيب اليهود في قولهم أن اللّه لم يحرم علينا شيأ وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه وكل ذي ظفر يراد به الابل والنعام وإلاوز ونحوه من الحيوان الذي هو غير منفرج الأصابع وله ظفر وأخبرنا سبحانه في هذه الآية بتحريم الشحوم عليهم وهي الثروب وشحم الكلى وما كان شحما خالصا خارجا عن الاستثناء الذي في الآية واختلف في تحريم ذلك على المسلمين من ذبائحهم فعن مالك كراهية شحومهم من غير تحريم وقوله تعالى إلا ما حملت ظهورهما يريد ما أختلظ باللحم في الظهر والأجنا ونحوه قال السدي وأبو صالح الأليات مما حملت ظهورهما والحوايا ما تحوى في البطن واستدار وهي المصارين والحشوة ونحوها وقال ابن عباس وغيره هي المباعر وقوله ما أختلط بعظم يريد في سائر الشخص وقوله سبحانه ذلك جزيناهم ببغيهم يقتضى أن هذا التحريم إنما كان عقوبة لهم على بغيهم واستعصائهم على انبيائهم وقوله سبحانه وانا لصادقون اخبار يتضمن التعريض بكذبهم في قولهم ما حرم اللّه علينا شيأ ١٤٧وقوله سبحانه فإن كذبوك أي فيما أخبرت به أن اللّه حرمه عليهم فقل ربكم ذو رحمة واسعة أي في امهاله إذ لم يعاجلكم بالعقوبة مع شدة جرمكم ولكن لا تغتروا بسعة رحمته فإن له بأسا لا يرد عن القوم المجرمين اما في الدنيا وأما في الأخرة وهذه الآية وما جانسها من آيات مكة مرتفع حكمها بآية القتال ثم أخبر سبحانه نبيه عليه السلام بأن المشركين سيحتجون لتصويب ما هم عليه من شركهم و تدينهم بتحريم تلك الأشياء بإمهال اللّه تعالى لهم وتقريره حالهم وأنه لو شاء غير ذلك لما تركهم على تلك الحال ولا حجة لهم فيما ذكروه لأنه سبحانه شاء اشراكهم واقدرهم على الأكتساب ويلزمهم على احتجاجهم أن تكون كل طريقة وكل نحلة صوابا إذ كلها لو شاء اللّه لم تكن وفي الكلام حذف يدل عليه تناسق الكلام كانه قال سيقول المشركون كذا وكذا وليس في ذلك حجة لهم ولا شيء يقتضى تكذيبك ولكن كذلك كذب الذين من قبلهم بنحو هذه الشبهة من ظنهم أن ترك اللّه لهم دليل على رضاه بحالهم وفي قوله تعالى حتى ذاقوا بأسنا وعيد بين وقوله سبحانه قل هل عندكم من علم أي من قبل اللّه قل فللّه الحجة البالغة يريد البالغة غاية المقصد في الأمر الذي يحتج له ثم أعلم سبحانه أنه لو شاء لهدى العالم بأسره وهلم معناها هات وهي حينئذ متعدية وقد تكون بمعنى أقبل فلا تتعدى وبعض العرب يجعلها اسم فعل كرويدك وبعضهم يجعلها فعلا ومعنى الآية قل هاتوا شهداءكم الذين يشهدون أن اللّه حرم ما زعمتم تحريمه فإن شهدوا أي فإن افترى لهم زور شهادة خبرا عن نبوءة ونحو ذلك فجنب انت ذلك ولا تشهد معهم قلت وهذه الآية والتي بعدها من نوع ما تقدم من أن الخطاب له صلى اللّه عليه و سلم والمراد غيره ممن يمكن ذلك منه وهم بربهم يعدلون أي يجعلون له اندادا يسوونهم به تعالى اللّه عن قولهم ١٥١وقوله سبحانه قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيأ هذا أمر من اللّه عز و جل لنبيه عليه السلام أن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم اللّه بشرع الإسلام المبعوث به إلى الأسود والحمر وما نصبت بقوله اتل وهي بمعنى الذي وأن في قوله أن لا تشركوا في موضع رفع التقدير الأمر أن ذاك أن وقال كعب الأحبار هذه الآية هي مفتتح التوراة بسم اللّه الرحمن الرحيم قل تعالوا اتل ما حرم ربكم إلى آخر الآيات وقال ابن عباس هذه الآيات هي المحكمات المذكورة ي ال عمران اجتمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ قط في مله وقد قيل أنها العشر الكلمات المنزلة على موسى والاملاق الفقر وعدم المال قاله ابن عباس وغيره قال القشيري خوف الفقر قرينة الكفر وحسن الثقة بالرب سبحانه نتيجة الإيمان انتهى من التحبير ١٥٢وقوله سبحانه ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن قال مجاهد التي هي أحسن التجارة فيه والأشد هنا الحزم والنظر في الأمور وحسن التصرف فيها وليس هذا بالأشد المقرون بالأربعين بل هذا يكون مع صغر السن في ناس كثير وقوله سبحانه واوفوا الكيل والميزان أمر بالاعتدال وقوله سبحانه لا نكلف نفسا إلا وسعها يقتضي أن هذه الاوأمر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرز وقوله تعالى وإذا قلتم فاعدلوا يتضمن الشهادات والأحكام والتوسط بين الناس وغير ذلك أي ولو كان ميل الحق على قراباتكم ١٥٣وقوله سبحانه وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه الإشارة بهذا هي إلى الشرع الذي جاء به نبينا صلى اللّه عليه وسلم وقال الطبري الإشارة هي إلى هذه الوصايا التي تقدمت من قوله قل تعالوا وقال ابن مسعود ان اللّه سبحانه جعل طريقه صراطا مستقيما طرقه صلى اللّه عليه وسلم وشرعه ونهايته الجنة وتتشعب منه طرق فمن سلك الجادة نجا ومن خرج إلى تلك الطرق افضت به إلى النار وقال أيضا خط لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما خطا فقال هذا سبيل اللّه ثم خط عن يمين ذلك وعن شماله خطوطا فقال هذه سبل على كل سببيل منها شيطان يدعو إليها ثم قرأ هذه الآية قال ع وهذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد ولعلكم ترج بحسبنا ومن حيث كانت المحرمات الأول لا يقع فيها عاقل قد نظر بعقله جاءت العبارة لعلكم تعقلون والمحرمات الأخر شهوات وقد يقع فيها من العقلاء من لم يتذكر وركوب الجادة الكاملة يتضمن فعل الفضائل وتلك درجة التقوى ١٥٤وقوله سبحانه ثم ءاتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ثم في هذه الآية أنما مهلتها في ترتيب القول الذي أمر به نبينا صلى اللّه عليه وسلم كأنه قال ثم مما قضيناه أنا ءاتينا موسى الكتاب ويدعو إلى ذلك أن موسى عليه السلام متقدم بالزمان على نبينا صلى اللّه عليه وسلم وتلاوته ما حرم اللّه والكتاب التوراة وتماما مصدر وقوله على الذي أحسن مختلف في معناه فقالت فرقة الذي بمعنى الذين وأحسن فعل ماض صلة الذين وكأن الكلام وآتينا موسى الكتاب تفضلا على المحسنين من أهل ملته وإتماما للنعمة عليهم وهذا تأويل مجاهد ويؤيده ما في مصحف ابن مسعود تماما على الذين أحسنوا وقالت فرقة المعنى تماما على ما أحسن هو من عبادة ربه يعني موسى عليه السلام وهذا تأويل الربيع وقتادة وقالت فرقة المعنى تماما على الذي أحسن اللّه فيه إلى عباده من النبوءات وسائر النعم وبلقاء ربهم أي بالبعث ١٥٥وقوله سبحانه وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون هذا إشارة إلى القرآن ومبارك وصف بما فيه من التوسعات وأنواع الخيرات ومعناه منمى خيره مكثر والبركة الزيادة والنمو فاتبعوه دعاء إلى الدين واتقوا أمر بالتقوى العامة في جميع الأشياء بقرينة قوله لعلكم ترحمون وأن في قوله أن تقولوا في موضع نصب والعامل فيه انزلناه والتقدير وهذا كتاب أنزلناه كراهية أن تقولوا والطائفتان اليهود والنصارى بإجماع المتأولين والدراسة القراءة والتعلم بها ومعنى الآية إزالة الحجة ومن أيدي قريش وسائر العرب ولما تقرر أن البينة قد جاءتهم والحجة قد قامت عليهم حسن بعد ذلك أن يقع التقرير بقوله سبحانه فمن أظلم ممن كذب بآيات اللّه وصدف عنها أي حاد عنها وزاغ وأعرض وسنجزي الذي وعيد ١٥٨وقوله سبحانه هل ينظرون أي ينتظرون يعني العرب المتقدم الآن ذكرهم والملائكة هنا هم ملائكة الموت الذين يصحبون عزراءيل المخصوص بقبض الأرواح قاله مجاهد وقتادة وابن جريج وقوله تعالى يأتي ربك قال الطبري لموقف الحساب يوم القيامة وأسند ذلك إلى قتادة وجماعة من المتأولين وقال الزجاج أن المراد يأتي عذاب ربك قال ع وعلى كل تأويل فإنما هو بحذف مضاف تقديره أمر ربك بطش ربك حساب ربك وإلا فالإتيان المفهوم من اللغة مستحيل على اللّه تعالى ألا ترى أن اللّه عز و جل يقول فأتاهم اللّه من حيث لم يحتسبوا فهذا اتيان قد وقع وهو على المجاز وحذف المضاف قال الفخر والجواب المعتمد عليه هنا أن هذا حكاية مذهب الكفار واعتقادهم فلا يفتقر إلى تأويله وأجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علامات القيامة انتهى قلت وما ذكره الفخر من أن هذا حكاية مذهب الكفار هي دعوى تفتقر إلى دليل وقوله سبحانه يأتي بعض آيات ربك قال مجاهد وغيره هي إشارة إلى طلوع الشمس من مغربها بدليل التي بعدها قال ع ويصح أن يريد سبحانه بقوله يأتي بعض آيات ربك جميع ما يقطع بوقوعه من أشراط الساعة ثم خصص سبحانه بعد ذلك بقوله يوم يأتي بعض آيات ربك الآية التي ترتفع التوبة معها وقد بينت الأحاديث الصحاح في البخاري ومسلم أنها طلوع الشمس من مغربها ومقصد الآية تهديد الكفار بأحوال لا يخلون منها وقوله كسبت في ايمانها خيرا يريد جميع أعمال البر وهذا الفصل هو للعصاة من المؤمنين كما أن قوله لم تكن آمنت من قبل هو للكافرين فالآية المشار إليها تقطع توبة الصنفين قال الداودي قوله تعالى كسبت في أيمانها خيرا يريد أن النفس المؤمنة التي ارتكبت الكبائر لا تقبل منها التوبة يومئذ وتكون في مشيئة اللّه تعالى كأن لم تتب وعن عائشة رضي اللّه عنها إذا خرجت أول الآيات طرحت الأقلام وحبست الحفظة وشهدت الأجساد على الأعمال انتهى وقوله سبحانه قل انتظروا انا متظرون لفظ يتضمن الوعيد ١٥٩وقوله سبحانه ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء قال ابن عباس وغيره المراد بالذين اليهود والنصارى أي فرقوا دين إبراهيم ووصفهم بالشيع إذ كل طائفة منهم لها فرق واختلافات ففي الآية حض للمؤمنين على الائتلاف وترك الاختلاف وقال أبو الأحوص وأم سلمة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم الآية في أهل البدع والأهواء والفتن ومن جرى مجراهم من أمة نبينا صلى اللّه عليه وسلم أي فرقوا دين الإسلام وقرأ حمزة والكسائي فارقوا ومعناه تركوا وقوله تعالى لست منهم في شيء أي لا تشفع لهم ولا لهم بك تعلق وهذا على الإطلاق في الكفار وعلى جهة المبالغة في العصاة وقوله سبحانه إنما أمرهم إلى اللّه الآية وعيد محض وقال السدي هذه آية لم يؤمر فيها بقتال فهي منسوخة بالقتال قال ع الآية خبر لا يدخله نسخ ولكنها تضمنت بالمعنى أمرا بموادعة فيشبه أن يقال ان النسخ وقع في ذلك المعنى الذي قد تقرر نسخه في آيات أخرى ١٦٠وقوله سبحانه من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها الآية قال ابن مسعود وغيره الحسنة هنا لا إله إلا اللّه السيئة الكفر قال ع وهذه هي الغاية من الطرفين وقالت فرقة ذلك لفظ عام في جميع الحسنات والسيئات وهذا هو الظاهر وتقدير الآية من جاء بالحسنة فله ثواب عشر أمثالها وقرأ يعقوب وغيره فله عشر بالتنوين أمثالها بالرفع وقوله تعالى قل انني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم الآية في غاية الوضوح والبيان وقيما نعت للدين ومعناه مستقيما وملة بدل من الدين ١٦٢وقوله سبحانه قل إن صلاتي ونسكي الآية أمر من اللّه عز و جل لنبيه عليه السلام ان يعلن بأن مقصده في صلاته وطاعته من ذبيجة وغيرها وتصرفه مدة حياته وحاله من اخلاص وإيمان عند مماته إنما هو للّه عز و جل وارادة وجهه وطلب رضاه وفي إعلان النبي صلى اللّه عليه وسلم بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه اللّه عز و جل ويحتمل أن يريد بهذه المقالة أن صلاته ونسكه وحياته ومماته بيد اللّه عز و جل واللّه يصرفه في جميع ذلك كيف شاء سبحانه ويكون قوله وبذلك أمرت على هذا التأويل راجعا إلى قوله لا شريك له فقط راجعا إلى القول وعلى التأويل الأول يرجع إلى جميع ما ذكر من صلاة وغيرها وقالت فرقة النسك في هذه الآية الذبائح قال ع ويحسن تخصيص الذبيحة بالذكر في هذه الآية أنها نازلة قد تقدم ذكرها والجدل فيها في السورة وقالت فرقة النسك في هذه الآية جميع أعمال الطاعات من قولك نسك فلان فهو ناسك إذا تعبد وقرأ السبعة سوى نافع ومحياي بفتح الياء وقرأ نافع وحده ومحياي بسكون الياء قال أبو حيان وفيه جمع بين ساكنين وسوغ ذلك ما في الألف من المد القائم مقام الحركة انتهى وقوله وأنا أول المسلمين أي من هذه الأمة ١٦٤وقوله سبحانه قل أغير اللّه ابغي ربا وهو رب كل شيء الآية حكى النقاش أنه روي أن الكفار قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم ارجع يا محمد إلى ديننا واعبد آلهتنا واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك فنزلت هذه الآية وهي استفهام يقتضي التوبيخ لهم وابغي معناه أطلب فكأنه قال أفيحسن عندكم أن اطلب إلها غير اللّه الذي هو رب كل شيء وما ذكرتم من كفالتكم باطل ليس الأمر كما تظنون فلا تكسب كل نفس من الشر والإثم إلا عليها وحدها ولا تزر أي تحمل وازرة أي حاملة حمل أخرى وثقلها والوزر أصله الثقل ثم استعمل في الإثم تجوزا واستعارة ثم إلى ربكم مرجعكم تهديد ووعيد وقوله فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون أي في أمرى في قول بعضكم هو ساحر وبعضكم هو شاعر إلى غير ذلك قاله بعض المتأولين وهذا التأويل يحسن في هذا الموضع وأن كان اللفظ يعم جميع أنواع الاختلافات بين الأديان والملل والمذاهب وغير ذلك وخلائف جمع خليفة أي يخلف بعضكم بعضا لأن من أتى خليفة لمن مضى وهذا يتصور في جميع الأمم وسائر أصناف الناس ولكنه يحسن في أمة نبينا صلى اللّه عليه وسلم أن يسمى أهلها بجملتهم خلائف للأمم وليس لهم من يخلفهم إذ هم آخر الأمم وعليهم تقوم الساعة وروي الحسن بن أبي الحسن أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال توفون سبعين أمة انتم خيرها وأكرمها على اللّه عز و جل ويروى انتم آخرها وأكرمها على اللّه وقوله ورفع بعضكم فوق بعض درجات لفظ عام في المال والقوة والجاه وجودة النفوس والأذهان وغير ذلك وكل ذلك إنما هو ليختبر اللّه سبحانه الخلق فيرى المحسن من المسيء ولما أخبر اللّه عز و جل بهذا ففسح للناس ميدان العمل وحضهم سبحانه على الاستباق إلى الخيرات توعد ووعد تخويفا منه وترجية فقال ان ربك سريع العقاب إما بأخذاته في الدنيا وإما بعقاب الآخرة وحسن أن يوصف عقاب الآخرة بسريع لما كان متحققا مضمون الاتيان والوقوع وكل آت قريب وأنه لغفور رحيم ترجية لمن أذنب وأراد التوبة وهذا في كتاب اللّه كثير وهو اقتران الوعيد بالوعد لطفا من اللّه سبحانه بعباده اللّهم أجعلنا ممن شملته رحمتك وغفرانك بجودك وإحسانك ومن كلام الشيخ الولي العارف أبي الحسن الشاذلي رحمه اللّه قال من أراد أن لا يضره ذنب فليقل رب أعوذ بك من عذابك يوم تبعث عبادك وأعوذ بك من عاجل العذاب ومن سوء الحساب فإنك لسريع الحساب وإنك لغفور رحيم رب إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا فاغفر لي وتب علي لا إله إلا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين انتهى نسأل اللّه أن ينفع به ناظره وأن يجعله لنا ذخرا ونورا يسعى بين أيدينا يوم لقائه والحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما انتهى هذا الجزء الأول مصححا بالمقابلة على خط مؤلفه شكر اللّه سعيه وقدس سره |
﴿ ٠ ﴾