سورة براءةتفسير سورة براءة وهي مدنية إلا آيتين قوله سبحانه لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخرها وتسمى سورة التوبة قاله حذيفة وغيره وتسمى الفاضحة قاله ابن عباس وقال ما زال ينزل ومنهم ومنهم حتى ظن أنه لا يبقى أحد وهي من آخر ما أنزل على النبي صلى اللّه عليه وسلم قال علي رضي اللّه عنه لأبن عباس بسم اللّه الرحمن الرحيم أمان وبشارة وبراءة نزلت بالسيف ونبذ العهود فلذلك لم تبدأ بالأمان ١قوله عز و جل براءة من اللّه ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين التقدير هذه الآيات براءة ويصح أن يرتفع براءة بالابتداء والخبر في قوله إلى الذين وبراءة معناه تخلص وتبر من العهود التي بينكم وبين الكفار البادئين بالنقض قاله ابن العربي في أحكامه تقول برأت من الشيء أبرأ براءة فأنا منه بريء إذا أنزلته عن نفسك وقطعت سبب ما بينك وبينه انتهى ومعنى السياحة في الأرض الذهاب فيها مسرحين آمنين كالسيح من الماء وهو الجاري المنبسط قال الضحاك وغيره من العلماء كان من العرب من لا عهد بينه وبين النبي صلى اللّه عليه وسلم جملة وكان منهم من بينه وبينهم عهد وتحسس منهم نقض وكان منهم من بينه وبينهم عهد ولم ينقضوا فقوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر هو أجل ضربه اللّه لمن كان بينه وبينهم عهد وتحسس منهم نقضه وأول هذا الأجل يوم الآذان وآخره انقضاء العشر الأول من ربيع الآخر ٥وقوله سبحانه فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حكم مباين للأول حكم به في المشركين الذين لا عهد لهم البتة فجاء أجل تأمينهم خمسين يوما أولها يوم الأذان وآخرها انقضاء المحرم وقوله إلا الذين عاهدتم يريد به الذين لهم عهد ولم ينقضوا ولا تحسس منهم نقض وهم فيما روي بنو ضمرة من كنانة كان بقي من عهدهم يوم الأذان تسعة أشهر وقوله عز و جل وأعلموا أنكم غير معجزي اللّه أي لا تفلتون اللّه ولا تعجزونه هربا وقوله واذان من اللّه ورسوله الآية أي إعلام ويوم الحج الأكبر قال عمر وغيره هو يوم عرفة وقال أبو هريرة وجماعة هو يوم النحر وتظاهرت الروايات أن عليا أذن بهذه الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع فتتبعهم بالاذان بها يوم النحر وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر من يعينه في الاذان بها كأبي هريرة وغيره وتتبعوا بها أيضا أسواق العرب كذى المجاز وغيره وهذا هو سبب الخلاف فقالت طائفة يوم الحج الأكبر عرفة حيث وقع الاذان وقالت أخرى هو يوم النحر حيث وقع إكمال الاذان وقال سفيان ابن عيينة المراد باليوم أيام الحج كلها كما تقول يوم صفين ويوم الجمل ويتجه أن يوصف بالأكبر على جهة المدح لا بالإضافة إلى أصغر معين بل يكون المعنى الأكبر من سائر الأيام فتأمله واختصار ما تحتاج إليه هذه الآية على ما ذكر مجاهد وغيره من صورة تلك الحال أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم افتتح مكة سنة ثمان فاستعمل عليها عتاب بن أسيد وقضى أمر حنين والطائف وانصرف إلى المدينة فأقام بها حتى خرج إلى تبوك ثم أنصرف من تبوك في رمضان سنة تسع فأراد الحج ثم نظر في أن المشركين يحجون في تلك السنة ويطوفون عراة فقال لا أريد أن أرى ذلك فأمر أبا بكر على الحج بالناس وأنفذه ثم أتبعه علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه على ناقته العضباء وأمره أن يؤذن في الناس بأربعين آية صدر صورة براءة وقيل ثلاثين وقيل عشرين وفي بعض الروايات عشر آيات وفي بعضها تسع آيات وأمره أن يؤذن الناس بأربعة أشياء وهي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة وفي بعض الروايات ولا يدخل الجنة كافر ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول اللّه عهد فهو إلى مدته وفي بعض الروايات ومن كان بينه وبين رسول اللّه عهد فأجله أربعة أشهر يسيح فيها فإذا انقضت فإن اللّه بريء من المشركين ورسوله قال ع وأقول أنهم كانوا ينادون بهذا كله فأربعة أشهر للذين لهم عهد وتحسس منهم نقضه والإبقاء إلى المدة لمن لم يخبر منه نقض وذكر الطبري أن العرب قالت يومئذ نحن نبرأ من عهدك ثم لام بعضهم بعضا وقالوا ما تصنعون وقد أسلمت قريش فأسلموا كلهم ولم يسح أحد قال ع وحينئذ دخل الناس في دين اللّه أفواجا وقوله سبحانه إن اللّه بريء من المشركين ورسوله أي ورسوله بريء منهم وقوله فإن تبتم أي عن الكفر ٧وقوله سبحانه إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم هذا هو الاستثناء الذي تقدم ذكره وقرأ عكرمة وغيره ينقضوكم بالضاد المعجمة ويظاهروا معناه يعاونوا والظهير المعين وقوله إن اللّه يحب المتقين تنبيه على أن الوفاء بالعهد من التقوى وقوله سبحانه فإذا أنسلخ الأشهر الحرم الانسلاخ خروج الشيء عن الشيء المتلبس به كانسلاخ الشاة عن الجلد فشبه انصرام الأشهر بذلك وقوله سبحانه فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية قال ابن زيد هذه الآية وقوله سبحانه فأما منا بعد وأما فداءهما محكمتان أي ليست احداهما بناسخة للأخرى قال ع هذا هو الصواب وقوله وخذوهم معناه الأسر وقوله كل مرصد معناه مواضع الغرة حيث يرصدون ونصب كل على الظرف بإسقاط الخافض التقدير في كل مرصد وقوله فإن تابوا أي عن الكفر وقوله سبحانه وإن أحدا من المشركين استجارك أي جلب منك عهدا وجوارا يأمن به حتى يسمع كلام اللّه يعني القرآن والمعنى يفهم أحكامه قال الحسن وهذه آية محكمة وذلك سنة إلى يوم القيامة وقوله سبحانه إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام الآية قال ابن إسحاق هي قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في العهد فأمر المسلمون بإتمام العهد لمن لم يكن نقض منهم وقوله سبحانه كيف وإن يظهروا عليكم الآية في الكلام حذف تقديره كيف يكون لهم عهد ونحوه وفي كيف هنا تأكيد للاستبعاد الذي في الأولى ولا يرقبوا معناه لا يراعوا ولا يحفظوا وقرأ الجمهور إلا وهو اللّه عز و جل قاله مجاهد وأبو مجلز وهو أسمه بالسريانية وعرب ويجوز أن يراد به العهد والعرب تقول للعهد والحلف والجوار ونحو هذه المعاني إلا والذمة أيضا بمعنى الحلف والجوار ونحوه ١٢وقوله سبحانه وإن نكثوا إيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم الآية ويليق هنا ذكر شيء من حكم طعن الذمي في الدين والمشهور من مذهب مالك أنه إذا فعل شيئا من ذلك مثل تكذيب الشريعة وسب النبي صلى اللّه عليه وسلم قتل وقوله سبحانه فقاتلوا ايمة الكفر أي رؤسهم وأعيانهم الذين يقودون الناس إليه وأصوب ما يقال في هذه الآية أنه لا يعني بها معين وإنما وقع الأمر بقتال ايمة الناكثين للعهود من الكفرة إلى يوم القيامة واقتضت حال كفار العرب ومحاربي النبي صلى اللّه عليه وسلم أن تكون الإشارة إليهم أولا ثم كل من دفع في صدر الشريعة إلى يوم القيامة فهو بمنزلتهم وقرأ الجمهور لا إيمان لهم جمع يمين أي لا إيمان لهم يوفى بها وتبر هذا المعنى يشبه الآية وقرأ ابن عامر وحده من السبعة لا إيمان لهم وهذا يحتمل وجهين أحدهما لا تصديق لهم قال أبو علي وهذا غير قوي لأنه تكرير وذلك أنه وصف ايمة الكفر بأنه لا إيمان لهم والوجه في كسر الألف أنه مصدر من أمنته أيمانا ومنه قوله تعالى وآمنهم من خوف فالمعنى أنه لا يؤمنون كما يؤمن أهل الذمة الكتابيون إذ المشركون ليس لهم إلا الإسلام السيف قال أبو حاتم فسر الحسن قراءته لا إسلام لهم قال ع والتكرير الذي فر أبو علي منه متجه لأنه بيان المهم الذي يوجب قتلهم ١٣وقوله عز و جل الا تقاتلون قوما نكثوا إيمانهم وهموا بإخراج الرسول الآية الاعرض وتحضيض قال الحسن والمراد بإخراج الرسول إخراجه من المدينة وهذا مستقيم كغزوة أحد والأحزاب وقال السدي المراد من مكة وقوله سبحانه وهم بدءوكم أول مرة قيل يراد أفعالهم بمكة بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وبالمؤمنين وقال مجاهد يراد به ما بدأت به قريش من معونة بني بكر حلفائهم على خزاعة حلفاء النبي صلى اللّه عليه وسلم فكان هذا بدأ النقض وقال الطبري يعني فعلهم يوم بدر قال الفخر قال ابن إسحاق والسدي والكلبي نزلت هذه الآية في كفار مكة نكثوا إيمانهم بعد عهد الحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة انتهى وقوله سبحانه أتخشونهم استفهام على معنى التقرير والتوبيخ فاللّه أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين أي كاملي الإيمان ١٤وقوله سبحانه قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم قررت الآيات قبلها أفعال الكفرة ثم حض على القتال مقترنا بذنوبهم لتنبعث الحمية مع ذلك ثم جزم الأمر بقتالهم في هذه الآية مقترنا بوعد وكيد يتضمن النصر عليهم والظفر بهم وقوله سبحانه يعذبهم اللّه بأيديكم معناه بالقتل والأسر ويخزهم معناه يذلهم على ذنوبهم يقال خزي الرجل يخزى خزيا إذا ذل من حيث وقع في عار وأخزاه غيره وخزي يخزى خزاية إذا استحي وأما قوله تعالى ويشف صدور قوم مؤمنين فيحتمل أن يريد جماعة المؤمنين لأن كل ما يهد من الكفر هو شفاء من هم صدور المؤمنين ويحتمل أن يريد تخصيص قوم من المؤمنين وروي أنهم خزاعة قاله مجاهد والسدي ووجه تخصيصهم أنهم الذين نقض فيهم العهد ونالتهم الحرب وكان يومئذ في خزاعة مؤمنين كثير ويقتضي ذلك قول الخزاعي المستنصر بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ثمت اسلمنا فلم ننزع يدا وفي آخر الرجز وقتلونا ركعا وسجدا وقرأ جمهور الناس ويتوب بالرفع على القطع مما قبله والمعنى أن الآية استانفت الخبر بأنه قد يتوب على بعض هؤلاء الكفرة الذين أمر بقتالهم وعبارة ص ويتوب الجمهور بالرفع على الاستيناف وليس بداخل في جواب الأمر لأن توبته سبحانه على من يشاء ليست جزاء على قتال الكفار انتهى ١٦وقوله عز و جل أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم الآية خطاب للمؤمنين كقوله أم حسبتم أن تدخلوا الجنة الآية ومعنى الآية اظننتم أن تتركوا دون اختبار وامتحان والمراد بقوله ولما يعلم اللّه أي لم يعلم اللّه ذلك موجودا كما علمه ازلا بشرط الوجود وليس يحدث له علم تبارك وتعالى عن ذلك ووليجة معناه بطانة ودخيلة وهو مأخوذ من الولوج فالمعنى أمر باطنا مما ينكر وفي الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج قال الفخر قال أبو عبيدة كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة وأصله من الولوج قال الواحدي يقال هو وليجة للواحد والجمع انتهى ١٧وقوله سبحانه ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه إلى قوله إنما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه الآية لفظ هذه الآية الخبر وفي ضمنها أمر المؤمنين بعمارة المساجد وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ت زاد ابن الخطيب في روايته فإن اللّه تعالى يقول إنما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه واليوم الآخر انتهى من ترجمة محمد بن عبد اللّه وفي الحديث عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال أن اللّه ضمن لمن كانت المساجد بيته الأمن والأمان والجواز على الصراط يوم القيامة خرجه علي بن عبد العزيز البغوي في المسند المنتخب له وروى البغوي أيضا في هذا المسند عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إذا أوطن الرجل المساجد بالصلاة والذكر تبشبش اللّه له كما يتبشبش أهل الغائب لغائبهم إذا قدم عليهم انتهى من الكوكب الدري قيل ومعنى يتبشبش أي يفرح به وقوله سبحانه ولم يخش إلا اللّه يريد خشية التعظيم والعبادة وهذه مرتبة العدل من الناس ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره ويخشى المحاذير الدنياوية وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء اللّه وتصريفه ١٩وقوله سبحانه أجعلتم سقاية الحاج الآية سقاية الحاج كانت في بني هاشم وكان العباس يتولاها قال الحسن ولما نزلت هذه الآية قال العباس ما أراني إلا أترك السقاية فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم أقيموا عليها فهي خير لكم وعمارة المسجد الحرام قيل هي حفظه ممن يظلم فيه يقول هجرا وكان ذلك إلى العباس وقيل هي السدانة وخدمة البيت خاصة وكان ذلك في بني عبد الدار وكان يتولاها عثمان بن طلحة وابن عمه شيبة وأقرها النبي صلى اللّه عليه وسلم لهما ثاني يوم الفتح وقال خذاها خالدة تالدة لا ينازعكموها إلا ظالم واختلف الناس في سبب نزول هذه الآية فقال مجاهد أمروا بالهجرة فقال العباس أنا أسقي الحاج وقال عثمان بن طلحة أنا حاجب الكعبة وقال محمد بن كعب أن العباس وعليا وعثمان بن طلحة تفاخروا فنزلت الآية وقيل غير هذا ٢٠وقوله سبحانه الذين أمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند اللّه الآية لما حكم سبحانه في الآية المتقدمة بأن الصنفين لا يستوون بين ذلك في هذه الآية الأخيرة واوضحه فعدد الإيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفس وحكم على أن أهل هذه الخصال أعظم درجة عند اللّه من جميع الخلق ثم حكم لهم بالفوز برحمته ورضوانه والفوز بلوغ البغية أما في نيل رغيبة نجاة من هلكة وينظر إلى معنى هذه الآية الحديث دعوا إلى أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل احد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ولأن أصحاب هذه الخصال على سيوفهم انبنى الإسلام وتمهد الشرع ٢١وقوله سبحانه يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان هذا وعد كريم من رب رحيم وفي الحديث الصحيح إذا استقر أهل الجنة في الجنة يقول اللّه عز و جل لهم هل رضيتم فيقولون وكيف لا نرضى يا ربنا فيقول إني سأعطيكم أفضل من ذلك رضواني أرضي عليكم فلا أسخط عليهم أبدا الحديث ٢٣وقوله سبحانه يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ظاهر هذه المخاطبة أنه لجميع المؤمنين كافة وهي باقية الحكم إلى يوم القيامة وروت فرقة أنها نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفر ٢٤وقوله سبحانه قل إن كان آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم الآية هذه الآية تقوي مذهب من رأى أن هذه الآية والتي قبلها إنما مقصودهما الحض على الهجرة وفي ضمن قوله فتربصوا وعيد بين وقوله بأمره قال الحسن الإشارة إلى عذاب عقوبة من اللّه تعالى وقال مجاهد الإشارة إلى فتح مكة وذكر الأبناء في هذه الآية دون التي قبلها لما جلبت ذكرهم المحبة والأبناء صدر في المحبة وليسوا كذلك في أن تتبع آراؤهم كما في الآية المتقدمة واقترفتموها معناه اكتسبتموها ومساكن جمع مسكن بفتح الكاف مفعل من السكنى وما كان من هذا معتل الفاء فإنما يأتي على مفعل بكسر العين كموعد وموطن ٢٥وقوله سبحانه لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرة ويوم حنين هذه مخاطبة لجميع المؤمنين يعدد اللّه تعالى نعمه عليهم والمواطن المشار إليها بدر والخندق والنضير وقريظة وخيبر وغيرها وحنين واد بين مكة والطائف وقوله إذ أعجبتكم كثرتكم روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال حين رأى جملته اثني عشر ألفا لن تغلب اليوم من قلة وروي أن رجلا من أصحابه قالها فأراد اللّه تعالى إظهار العجز فظهر حين فر الناس ت العجب جائز في حق غير النبي صلى اللّه عليه وسلم لى اله عليه وسلم وهو معصوم منه صلى اللّه عليه و سلم والصواب في فهم الحديث أنه خرج مخرج الإخبار لا على وجه العجب وعلى هذا فهمه ابن رشد وغيره وأنه إذا بلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا حرم الفرار وإن زاد عدد المشركين على الضعف وعليه عول في الفتوى وقوله تعالى وضاقت عليكم الأرض بما رحبت معناه برحبها كأنه قال على ما هي عليه في نفسها رحبة واسعة لشدة الحال وصعوبتها فما مصدرية وقوله سبحانه ثم وليتم مدبرين أي فرارا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم واختصار هذه القصة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما فتح مكة وكان في عشرة آلاف من أصحابه وانضاف إليهم ألفان من الطلقاء فصار في اثني عشر ألفا سمع بذلك كفار العرب فشق عليهم فجمعت له هوازن والفاها وعليهم ملك بن عوف النصري وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو وانضاف إليهم اخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفا فخرج إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين اجتمعوا بحنين فلما تصاف الناس حمل المشركون من محاني الوادي وانهزم المسلمون قال قتادة وكان يقال أن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا القاء الهزيمة في المسلمين وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على بغلته البيضاء قد اكتنفه العباس عمه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وبين يديه أيمن بن أم أيمن وثم قتل رحمه اللّه والنبي صلى اللّه عليه وسلم يقول ... أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب ... فلما رأى نبي اللّه صلى اللّه عليه و سلم شدة الحال نزل عن بغلته إلى الأرض قالت البراء بن عازب واستنصر اللّه عز و جل فأخذ قبضه من تراب وحصى فرمى بها في وجوه الكفار وقال شاهت الوجوه ونادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالأنصار وأمر العباس أن ينادي أين أصحاب الشجرة أين أصحاب سورة البقرة فرجع الناس عنقا واحدا للحرب وتصافحوا بالسيوف والطعن والضرب وهناك قال عليه السلام الآن حمي الوطيس وهزم اللّه المشركين واعلى كلمة الإسلام إلى يوم الدين قال يعلى بن عطاء فحدننى أبناء المنهزمين عن آبائهم قالوا لم يبق منا أحد إلا دخل عينيه من ذلك التراب واستيعاب هذه القصة في كتب السير ومدبرين نصب على الحال المؤكدة كقوله وهو الحق مصدقا والمؤكدة هي التي يدل ما قبلها عليها كدلالة التولى على الإدبار ٢٦وقوله سبحانه ثم أنزل اللّه سكينته الآية السكينة النصر الذي سكنت إليه ومعه النفوس والجنود الملائكة والرعب قال أبو حاجز يزيد بن عامر كان في أجوافنا مثل ضربة الحجر في الطست من الرعب وعذب الذين كفروا أي بالقتل والأسر وروى أبو داود عن سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين فاطنبوا السير حتى كان عشية فحضرت الصلاة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجاء رجل فارس فقال يا رسول اللّه إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا فإذ أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشياههم اجتمعوا إلى حنين فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال تكل غنيمة المسلمين غدا إن شاء اللّه الحديث انتهى فكانوا كذلك غنيمة بحمد اللّه كما أخبر صلى اللّه عليه و سلم ٢٨وقوله عز و جل يا أيها الذين أمنوا إنما المشركون نجس قال ابن عباس وغيره معنى الشرك هو الذي نجسهم كنجاسة الخمر ونص اللّه سبحانه في هذه الآية على المشركين وعلى المسجد الحرام فقاس مالك رحمه اللّه وغيره جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد وقوة قوله سبحانه فلا يقربوا يقتضي أمر المسلمين بمنعهم وقوله بعد عامهم هذا يريد بعد عام تسع من الهجرة وهو عام حج أبو بكر بالناس وقوله سبحانه وإن خفتم عيلة أي فقرا فسوف يغنيكم اللّه من فضله وكان المسلمون لما منع المشركون من الموسم وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارات قذف الشيطان في نفوسهم الخوف من الفقر وقالوا من أين نعيش فوعدهم اللّه سبحانه بأن يغنيهم من فضله فكان الأمر كما وعد اللّه سبحانه فأسلمت العرب فتمادى حجهم وتجرهم وأغنى اللّه من فضله بالجهاد والظهور على الأمم ٢٩وقوله سبحانه قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر الآية هذه الآية تضمنت قتال أهل الكتاب قال مجاهد وعند نزول هذه الآية أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزو الروم ومشى نحو تبوك ونفى سبحانه عن أهل الكتاب الإيمان باللّه واليوم الآخر حيث تركوا شرع الإسلام وأيضا فكانت اعتقاداتهم غير مستقيمة لأنهم تشعبوا وقالوا عزير بن اللّه واللّه ثالث ثلاثة وغير ذلك ولهم أيضا في البعث آراء فاسدة كشراء منازل الجنة من الرهبان إلى غير لك من الهذيان ولا يدينون دين الحق أي لا يطيعون ولا يمتثلون ومنه قول عائشة ما عقلت أبوي إلا وهما يدينان الدين والدين هنا الشريعة قال ابن القاسم وأشهب وسحنون وتؤخذ الجزية من مجوس العرب والأمم كلها وأما عبدة الأوثان والنيران وغير ذلك فجمهور العلماء على قبول الجزية منهم وهو قول مالك في المدونة وقال الشافعي وأبو ثور لا تؤخذ الجزية إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط وأما قدرها في مذهب مالك وغيره فأربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الفضة وهذا في العنوة وأما الصلح فهو ما صالحوا عليه قليل كثير وقوله عن يد يحتمل وجوها منها أن يريد عن قوة منكم عليهم وقهر واليد في كلام العرب القوة ومنها أن يريد سوق الذمي لها بيده لا أن يبعثها مع رسول ليكون في ذلك إذلال لهم ومنها أن يريد نقدها ناجزا تقول بعته يدا بيد أي لا يؤخروا بها ومنها أن يريد عن استسلام يقال القى فلان بيده إذا عجز واستسلم ٣٠وقوله سبحانه وقالت اليهود عزير بن اللّه الذي كثر في كتب أهل العلم أن فرقة من اليهود قالت هذه المقالة وروي أنه قالها نفر يسير منهم فنحاص وغيره قال النقاش ولم يبق الآن يهودي يقولها بل انقرضوا قال ع فإذا قالها ولو واحد من رؤسائهم توجهت شنعة المقالة على جماعتهم وحكى الطبري وغيره أن بني إسرائيل أصابتهم فتن وجلاء وقيل مرض وأذهب اللّه عنهم التوراة في ذلك ونسوها وكان علماؤهم قد دفنوها أول ما أحسوا بذلك البلاء فلما طالت المدة فقدت التوراة جملة فحفظها اللّه عزيرا كرامة منه له فقال لبني إسرائيل أن اللّه قد حفظني التوراة فجعلوا يدرسونها من عنده ثم أن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي مساوية لما كان عزير يدرس فضلوا عند ذلك وقالوا إن هذا لم يتهيأ لعزير إلا وهو ابن اللّه نعوذ باللّه من الضلال وقوله بافواهم أي بمجرد الدعوى من غير حجة ولا برهان ويضاهون قراءة الجماعة ومعناه يحاكون ويماثلون والإشارة بقوله الذين كفروا من قبل إما لمشركي العرب إذ قالوا الملائكة بنات اللّه قاله الضحاك وإما لأمم سالفة قبلها إما للصدر الأول من كفرة اليهود والنصارى ويكون يضاهون لمعاصري النبي صلى اللّه عليه وسلم وإن كان الضمير في يضاهون للنصارى فقط كانت الإشارة بالذين كفروا من قبل إلى اليهود وعلى هذا فسر الطبري وحكاه غيره عن قتادة وقوله قاتلهم اللّه دعاء عليهم عام لأنواع الشر وعن ابن عباس أن المعنى لعنهم اللّه قال الداودي وعن ابن عباس قاتلهم اللّه لعنهم اللّه وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن انتهى وأنى يؤفكون أي يصرفون عن الخير ٣١وقوله سبحانه اتخذوا أحبارهم ورهبانهم الآية هذه الآية يفسرها ما حكاه الطبري أن عدي بن حاتم قال جئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي عنقي صليب ذهب فقال يا عدي اطرح هذا الصليب من عنقك فسمعته يقرأ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم اربابا من دون اللّه فقلت يا رسول اللّه وكيف ذلك ونحن لم نعبدهم فقال أليس تستحلون ما أحلوا وتحرمون ما حرموا قلت نعم قال فذلك ومعنى سبحانه تنزيها له ونور اللّه في هذه الآية هداه الصادر عن القرآن والشرع وقوله بافواههم عبارة عن قلة حيلتهم وضعفها وقوله بالهدى يعم القرآن وجميع الشرع وقوله ليظهره على الدين كله وقد فعل ذلك سبحانه فالضمير في ليظهره عائد على الدين وقيل على الرسول وهذا وإن كان صحيحا فالتأويل الأول ابرع منه وأليق بنظام الآية ٣٤وقوله عز و جل يا أيها الذين أمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل المراد بهذه الآية بيان نقائص المذكورين ونهي المؤمنين عن تلك النقائص مترتب ضمن ذلك واللام في ليأكلون لام التوكيد وصورة هذا الأكل هي بأنهم يأخذون من أموال اتباعهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يؤهمونهم أن النفقة فيه من الشرع والتقرب إلى اللّه وهم خلال ذلك يحتجنون تلك الأموال كالذي ذكره سلمان في كتاب السير عن الراهب الذي استخرج كنزه وقوله سبحانه ويصدون عن سبيل اللّه أي عن شريعة الإسلام والإيمان بنبينا صلى اللّه عليه وسلم وقوله سبحانه والذين ابتداء وخبره فبشرهم والذي يظهر من ألفاظ الآية أنه لما ذكر نقص الأحبار والرهبان الآكلين للمال بالباطل ذكر بعد ذلك بقول عام نقص الكانزين المانعين حق المال وقرأ طلحة بن مصرف الذين يكنزون بغير واو وعلى هذه القراءة يجرى قول معاوية أن الآية في أهل الكتاب وخالفه أوب ذر فقال بل هي فينا ويكنزون معناه يجمعون ويحفظون في الأوعية وليس من شرط الكنز الدفن والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه وعلى هذا كثير من العلماء وقال علي رضي اللّه عنه أربعة آلاف درهم فما دونهما نفقة وما زاد عليها فهو كنز وإن أديت زكاته وقال أبو ذر وجماعة معه ما فضل من مال الرجل على حاجة نفسه فهو كنز وهذان القولان يقتضيان أن الذم في حبس المال لا في منع زكاته فقط ت وحدث أبو بكر بن الخطيب بسنده عن علي بن أبي طالب وابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال أن اللّه فرض للفقراء في أموال الأغنياء قدر ما يسعهم فإن منعوهم حتى يجوعوا ويعروا ويجهدوا حاسبهم اللّه حسابا شديدا وعذبهم عذابا نكرا انتهى وقوله سبحانه فتكوى بها جباههم الآية قال ابن مسعود واللّه لا يمس دينار دينارا بل يمد الجلد حتى يكوى بكل دينار وبكل درهم قال الفخر قال أبو بكر الوراق وخصت هذه المواضع بالذكر لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبينه وإذا جلس إلى جنبه تباعد عنه وولاه ظهره انتهى ٣٦وقوله سبحانه إن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا في كتاب اللّه هذه الآية والتي بعدها تتضمن ما كانت العرب عليه في جاهليتها من تحريم شهور الحل وتحليل شهور الحرمة وإذا نص ما كانت العرب تفعله تبين معنى الآيات فالذي تظاهرت به الروايات ويتخلص من مجموع ما ذكره الناس أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وأعمال سلاحها فكانوا إذا توالت عليهم حرمة الأشهر الحرم صعب عليهم واملقوا وكان بنوفقيم من كنانة أهل دين في العرب وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسى الشهور للعرب ثم خلفه على ذلك بنوه وذكر الطبري وغيره أن الأمر كان في عدوان قبل بني مالك بن كنانة وكانت صورة فعلهم أن العرب كانت إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا إنسانا شهرا أي أخر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر فيحل لهم المحرم فيغيرون فيه ثم يلتزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الحرم الأربعة قال مجاهد ويسمون ذلك الصفر المحرم ثم يسمون ربيعا الأول صفرا وربيعا الآخر ربيعا الأول وهكذا في سائر الشهور وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهرا أولها المحرم المحلل ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر وفي هذا قال اللّه عز و جل إن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا أي ليس ثلاثة عشر ثم كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة وهم يسمونه ذا الحجة ثم حج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة فذلك قوله عليه السلام أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وقوله في كتاب اللّه أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ غيره فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه وليست بمعنى قضائه وتقديره لأن تلك هي قبل خلق السماوات والأرض وقوله سبحانه منها أربعة حرم نص على تفضيل هذه الأربعة وتشريفها قال قتادة اصطفى اللّه من الملائكة والبشر رسلا ومن الشهور المحرم ورمضان ومن البقع المساجد ومن الأيام الجمعة ومن الليالي ليلة القدر ومن الكلام ذكره فينبغي أن يعظم ما عظم اللّه وقوله سبحانه ذلك الدين القيم قالت فرقة معناه الحساب المستقيم وقال ابن عباس فيما حكى المهدوي معناه القضاء المستقيم قال ع والاصوب عندي أن يكون الدين هاهنا على اشهر وجوهه أي ذلك الشرع والطاعة وقوله فلا تظلموا فيهن أي في الاثنى عشر شهرا أي لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في الزمان كله وقال قتادة المراد الأربعة الأشهر وخصصت تشريفا لها قال سعيد بن المسيب كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يحرم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل اللّه في ذلك حتى نزلت براءة وقوله تعالى وقاتلوا المشركين معناه فيهن فاحرى في غيرهن وقوله كافة معناه جميعا ٣٧وقوله سبحانه إنما النسي يعني فعل العرب في تأخيرهم الحرمة زيادة في الكفر أي جار مع كفرهم باللّه وخلافهم للحق فالكفر متكثر بهذا الفعل الذي هو باطل في نفسه ومما وجد في أشعارهم قول جذل الطعان ... وقد علمت معد أن قومي ... كرام الناس ان لهم كراما ... ... السنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما ... وقوله سبحانه يحلونه عاما ويحرمونه عاما معناه عاما من الأعوام وليس يريد أن تلك كانت مداولة وقوله سبحانه لواطئوا عدة ما حرم اللّه معناه ليوافقوا والمواطأة الموافقة ٣٨وقوله سبحانه يا أيها الذين أمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثاقلتم إلى الأرض هذه الآية بلا خلاف أنها نزلت عتابا على تخلف من تخلف عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام غزا فيها الروم في عشرين ألف بين راكب وراجل والنفر هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان وقوله اثاقلتم أصله تثاقلتم وكذلك قرأ الأعمش وهو نحو قوله اخلد إلى الأرض وقوله أرضيتم تقرير والمعنى أرضيتم نزر الدنيا على خطير الآخرة وحظها الأسعد قال ابن هشام فمن من قوله من الآخرة للبدل انتهى ثم أخبر سبحانه أن الدنيا بالإضافة إلى الآخرة قليل نزر فتعطى قوة الكلام التعجب من ضلال من يرضى النزر الفاني بدل الكثير الباقي ت وفي صحيح مسلم والترمذي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بماذا ترجع قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح انتهى ٣٩وقوله سبحانه إلا تنفروا يعذبكم شرط وجواب ولفظ العذاب عام يدخل تحته أنواع عذاب الدنيا والآخرة وقوله ويستبدل قوما غيركم توعد بأن يبدل لرسوله عليه السلام قوما لا يقعدون عند استنفاره إياهم والضمير في قوله ولا تضروه شيئا عائد على اللّه عز و جل ويحتمل أن يعود على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو أليق ٤٠وقوله سبحانه الا تنصروه فقد نصره اللّه هذا أيضا شرط وجواب ومعنى الآية أنكم إن تركتم نصره فاللّه متكفل به إذ قد نصره في موضع القلة والانفراد وكثرة العدو ولن يترك نصره الآن وقوله إذ أخرجه الذين كفروا أسند الإخراج إليهم تذنيبا لهم ولما كان مقصد أبي سفيان بن الحارث الفخر في قوله من طردت كل مطرد لم يقره النبي صلى اللّه عليه وسلم على ما علم في كتب السيرة والإشارة إلى خروج النبي صلى اللّه عليه وسلم من مكة إلى المدينة وفي صحبته أبو بكر واختصار القصة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان ينتظر إذن اللّه سبحانه في الهجرة من مكة وكان أبو بكر حين ترك ذمة ابن الدغنة قد أراد الخروج فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم أصبر لعل اللّه يسهل الصحبة فلما أذن اللّه لنبيه في الخروج تجهز من دار أبي بكر وخرجا فبقيا في الغار الذي في جبل ثور في غربي مكة ثلاث ليال وخرج المشركون في أثرهم حتى انتهوا إلى الغار فطمس اللّه عليهم الأثر وقال أبو بكر للنبي صلى اللّه عليه وسلم لو نظر أحدهم إلى قدمه لرءانا فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما هكذا في الحديث الصحيح ويروى أن العنكبوت نسجت على باب الغار ويروى أن الحمامة عششت عند باب الغار وكان يروج عليهما باللبن عامر بن فهيرة وقوله ثاني أثنين معناه أحد اثنين وقوله إن اللّه معنا يريد بالنصر والنجاة واللطف وقوله سبحانه وكلمة اللّه هي العليا قيل يريد لا إله إلا اللّه وقيل الشرع بأسره ٤١وقوله سبحانه انفروا خفافا وثقالا معنى الخفة والثقل هاهنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهوله ومن يمكنه بصعوبة وأما من لا يمكنه كالعمي ونحهم فخارج عن هذا وقال أبو طلحة ما اسمع اللّه عذر أحدا وخرج إلى الشام فجاهد حتى مات وقال أبو أيوب ما اجدني أبدا إلا خفيفا ثقيلا وقوله سبحانه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون تنبيه وهز للنفوس ٤٢وقوله سبحانه لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك هذه الآية في المنافقين المتخلفين في غزوة تبوك وكشف ضمائرهم وأما الآيات التي قبلها فعامة فيهم وفي غيرهم والمعنى لو كان هذا الغزو لعرض أي لمال وغنيمة تنال قريبا بسفر قاصد يسيرا لبادروا لا لوجه اللّه ولكن بعدت عليهم الشقة وهي المسافة الطويلة وقوله وسيحلفون باللّه يريد المنافقين وهذا إخبار بغيب ٤٣وقوله عز و جل عفا اللّه عنك لم أذنت لهم هذه الآية هي في صنف مبالغ في النفاق استأذنوا دون اعتذار منهم الجد بن قيس ورفاعة بن التابوت ومن اتبعهم قال مجاهد وذلك أن بعضهم قال نستأذنه فإن أذن في القعود قعدنا وإلا قعدنا وقدم له العفو قبل العتاب إكراما له صلى اللّه عليه و سلم وقالت فرقة بل قوله سبحانه عفا عنك استفتاح كلام كما تقول اصلحك اللّه وأعزك اللّه ولم يكن منه عليه السلام ذنب يعفى عنه لأن صورة الاستنفار وقبول الأعذار مصروفة إلى اجتهاده وقوله حتى يتبين لك الذين صدقوا يريد في استيذانك وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك وقوله وتعلم الكاذبين أي بمخالفتك لو لم تأذن لأنهم عزموا على العصيان أذنت لهم لم تأذن وقال الطبري معناه حتى تعلم الصادقين في أن لهم عذرا والكاذبين في أن لا عذر لهم والأول أصوب واللّه أعلم وأما قوله سبحانه في سورة النور فإذا استاذنوك لبعض شأنهم الآية ففي غزوة الخندق نزلت وارتابت قلوبهم أي شكت ويترددون أي يتحيرون إذ كانوا تخطر لهم صحة أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم أحيانا وأنه غير صحيح أحيانا فهم مذبذبون ٤٦وقوله سبحانه ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة أي لو أرادوا الخروج بنياتهم لنظروا في ذلك واستعدوا له وقوله ولكن كره اللّه انبعاثهم فثبطهم قال ص ولكن أصلها أن تقع بين نقيضين ضدين خلافين على خلاف فيه انتهى وانبعاثهم نفوذهم لهذه الغزوة والتثبيط التكسيل وكسرا لعزم وقوله سبحانه وقيل اقعدوا يحتمل أن يكون حكاية عن اللّه أي قال اللّه في سابق قضائه أقعدوا مع القاعدين ويحتمل أن يكون حكاية عنهم أي كانت هذه مقالة بعضهم لبعض ويحتمل أن يكون عبارة عن إذن النبي صلى اللّه عليه وسلم لهم في العقود أي لما كره اللّه خروجهم يسر أن قلت لهم أقعدوا مع القاعدين والقعود هنا عبارة عن التخلف وكراهية اللّه انبعاثهم رفق بالمؤمنين ٤٧وقوله سبحانه لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا الخبال الفساد في والأشياء المؤتلفة كالمودات وبعض الإجرام ولا أوضعوا معناه لأسرعوا السير وخلالكم معناه فيما بينكم قال ص خلالكم جمع خلل وهو الفرجة بين الشيئين وانتصب على الظرف بلا أوضعوا ويبغونكم حال أي باغين انتهى والإيضاع سرعة السير ووقعت لاأوضعوا بألف بعد لا في المصحف وكذلك وقعت في قوله أولااذبحنه يبغونكم الفتنة أي يطلبون لكم الفتنة وفيكم سماعون لهم قال مجاهد وغيره معناه جواسيس يسمعون الأخبار وينقلونها إليهم وقال الجمهور معناه وفيكم مطيعون سامعون لهم ٤٨وقوله سبحانه لقد ابتغوا الفتنة من قبل في هذه الآية تحقير لشأنهم ومعنى قوله من قبل ماكان من حالهم في احد وغيرها ومعنى قوله وقلبوا لك الأمور دبروها ظهرا لبطن وسعوا بكل حيلة ومنهم من يقول ايذن لي ولا تفتني نزلت في الجد بن قيس واسند الطبري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال أغزوا تبوك تغنموا بنات الأصفر فقال الجد ايذن لنا ولا تفتنا بالنساء وقال ابن عباس أن الجد قال ولكني أعينك بمالي وقوله سبحانه إلا في الفتنة سقطوا أي في الذي أظهروا افرار منه ٥٠وقوله سبحانه إن تصبك حسنة الآية الحسنة هنا بحسب الغزوة هي الغنيمة والظفر والمصيبة الهزيمة والخيبة واللفظ عام بعد ذلك في كل محبوب ومكروه ومعنى قوله قد أخذنا أمرنا من قبل أي قد أخذنا بالحزم في تخلفنا ونظرنا لأنفسنا ثم أمر تعالى نبيه فقال قل لهم يا محمد لن يصيبنا إلا ما كتب اللّه لنا وهو إما ظفرا وسرورا عاجلا وإما أن نستشهد فندخل الجنة وباقي الآية بين ٥٢وقوله سبحانه قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين أي قل للمنافقين والحسنيين الظفر والشهادة وقوله بأيدينا يريد القتل ٥٣وقوله سبحانه قل أنفقوا طوعا كرها الآية سببها أن الجد بن قيس حين قال ايذن لي ولا تفتني قال أني أعينك بمالي فنزلت هذه الآية فيه وهي عامة بعده وقول عز و جل وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا باللّه وبرسوله وفي صحيح مسلم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إن ثواب الكافر على أفعاله البرة هو في الطعمة يطعمها ونحو ذلك وهذا مقنع لا يحتاج معه إلى نظر وأما أن ينتفع بها في الآخرة فلا وكسالى جمع كسلان ٥٥وقوله سبحانه فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا الآية حقر في الآية شأن المنافقين وعلل إعطاء اللّه لهم الأموال والأولاد بإرادته تعذيبهم بها في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال ابن زيد وغيره تعذيبهم بها في الدنيا هو بمصائبها ورزاياها هي لهم عذاب إذ لا يؤجرون عليها ومن ذلك قهر الشرع لهم على أداء الزكاة والحقوق الواجبات قال الفخر أما كون كثيرة الأموال والأولاد سببها للعذاب في الدنيا فحاصل من وجوه منها أن كلما كان حب الإنسان للشيء أشد وأقوى كان حزنه وتألم قلبه على فراقه أعظم وأصعب ثم عند الموت يعظم حزنه وتشتد حسرته لمفارقته المحبوب فالمشغوف بحب المال والولد لا يزال في تعب فيحتاج في اكتساب الأموال وتحصيلها إلى تعب شديد ومشقة عظيمة ثم عند حصولها يحتاج إلى متاعب أشد وأصعب في حفظها وصونها لأن حفظ المال بعد حصوله أصعب من اكتسابه ثم أنه لا ينتفع إلا بالقليل من تلك الأموال فالتعب كثير والنفع قليل ثم قال وأعلم أن الدنيا حلوة خضرة والحواس الخمس ماثلة إليها فإذا كثرت وتوالت استغرقت فيها وانصرف الإنسان بكليته إليها فيصير ذلك سببا لحرمانه من ذكر اللّه ثم أنه يحصل في قلبه نوع قسوة وقوه وقهر وكلما كان المال والجاه أكثر كانت تلك القسوة أقوى وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى إن الإنسان ليطغى إن رءاه استغنى فظهر أن كثرة الأموال والاولاد سبب قوي في زوال حب اللّه تعالى وحب الآخرة من القلب وفي حصول الدنيا وشهواتها في القلب وعند الموت كان الإنسان ينتقل من البستان إلى السجن ومن مجالسة الأقرباء والأحبة إلى موضع الغربة والكربة فيعظم تألمه ويقوى حزمنه ثم عند الحشر حلالها حساب وحرامها عقاب فثبت أن كثرة الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا والآخرة انتهى ثم أخبر سبحانه أنهم ليسوا من المؤمنين وإنما هم يفزعون منهم والفرق الخوف ٥٧وقوله سبحانه لو يجدون ملجأ الملجأ من لجأ يلجأ إذا أوى واعتصم وقرأ الجمهور مغارات بفتح الميم وهي الغيران في أعراض الجبال مدخلا معناه السرب والنفق في الأرض وهو تفسير ابن عباس في هذه الألفاظ وقرأ جمهور الناس يجمحون ومعناه يسرعون قال الفخر قوله وهم يجمحون أي يسرعون إسراعا لا يرد وجوههم شيء ومن هذا يقال جمح الفرس وفرس جموح وهو الذي إذا حمل لم يرده اللجام انتهى ٥٨وقوله عز و جل ومنهم من يلمزك الآية أي ومن المنافقين من يلمزك أي يعيبك ويأخذ منك في الغيبة ومنه قول الشاعر ... إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة ... وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه ... ومنه قوله سبحانه ويل لكل همزة لمزة سبحانه ولو أنهم رضوا ما ءاتاهم اللّه ورسوله الآية المعنى لو أن هؤلاء المنافقين رضوا قسمة اللّه الرزق لهم وما أعطاهم على يد رسوله وأقروا بالرغبة إلى اللّه لكان خيرا لهم وحذف الجواب لدلالة ظاهر الكلام عليه وذلك من فصيح الكلام وإيجازه ٦٠وقوله سبحانه إنما الصدقات للفقراء الآية إنما في هذه الآية حاصرة تقتضي وقوف الصدقات على الثمانية الأصناف وإنما اختلف في صورة القسمة ومذهب مالك وغيره أن ذلك على قدر الإحتهاد وبحسب الحاجة وأما الفقير والمسكين فقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري وابن زيد وغيرهم المساكين الذين يسعون ويسئلون والفقراء الذين يتصاونون وهذا القول أحسن ما قيل في هذا تحريره أن الفقير هو الذي لا مال له إلا أنه لم يذل نفسه ولا يذل وجهه وذلك أما لتعفف مفرط وإما لبلغة تكون له كالحلوبة وما أشبهها والمسكين هو الذي يقترن بفقره تذلل وخضوع وسؤال فهذه هي المسكنة ويقوى هذا أن اللّه سبحانه قد وصف بني إسرائيل بالمسكنة وقرنها بالذلة مع غناهم وإذا تأملت ما قلناه بأن أنهما صنفان موجودان في المسلمين ت وقد أكثر الناس في الفرق بين الفقير والمسكين وأولى ما يعول عليه ما ثبت في ذلك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وقد روى مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان إنما المسكين الذي ليس له غنى بغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس انتهى وأول أبو عمر في التمهيد هذا الحديث فقال كأنه أراد واللّه أعلم ليس المسكين على تمام المسكنة وعلى الحقيقة إلا الذي لا يسأل الناس انتهى وأما العاملون فهم جباتها يستنيبهم الإمام في السعي على الناس وجمع صدقاتهم قال الجمهور لهم قدر تعبهم ومئسونتهم وأما المؤلفة قلوبهم فكانوا مسلمين وكافرين مستترين مظهرين للإسلام حتى وثقه الإستيلاف في أكثرهم واستيلافهم إنما كان لتجلب إلى الإسلام منفعة تدفع عنه مضرة والصحيح بقاء حكمهم إن احتيج إليهم وأما الرقاب فمذهب مالك وغيره هو ابتداء عتق مؤمن وأما الغارم فهو الرجل يركبه دين في غير معصية ولا سفه كذا قال العلماء وأما في سبيل اللّه فهو الغازي وإن كان مليا ببلده وأما ابن السبيل فهو المسافر وإن كان غنيا ببلده وسمي المسافر ابن السبيل لملازمته السبيل ومن ادعى الفقر صدق إلا لويبة فيكلف حينئذ البينة وأما إن أدعى أنه غارم ابن السبيل غاز ونحو ذلك مما لا يعلم إلا منه فلا يعطي إلا ببينه وأهل بلد الصدقة أحق بها إلا أن تفضل فضلة فتنقل إلى غيرهم قال ابن حبيب وينبغي للامام أن يأمر السعاة بتفريقها في المواضع التي جبيت فيها ولا يحمل منها شيء إلا الإمام وفي الحديث تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم وقوله سبحانه فريضة من اللّه أي موجبة محدودة ٦١وقوله سبحانه ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو إذن قل إذن خير لكم يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين أي ومن المنافقين ويؤذون لفظ يعم أنواع اذايتهم له صلى اللّه عليه و سلم وخص بعد ذلك من قولهم هو إذن وروي أن قائل هذه المقالة نبتل بن الحارث وكان من مردة المنافقين وفيه قال صلى اللّه عليه و سلم من سره أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث وكان ثائر الرأس منتفش الشعر أحمر العينين اسفع الخدين مشوها قال الحسن البصري ومجاهد قولهم هو إذن أي يسمع معاذيرنا ويقبلها أي فنحن لا نبالي من الوقوع فيه وهذا تنقص بقلة الحزم وقال ابن عباس وغيره أنهم أرادوا بقولهم هو إذن أي يسمع كل ما ينقل إليه عنا ويصغي غليه ويقبله فهذا تشك منه عليه السلام ومعنى إذن سماع وهذا من باب تسمية الشيء بالشيء إذا كان منه بسبب كما يقال للرؤية عين وكما يقال للمسنة من الإبل التي قد بزل نابها ناب وقيل معنى الكلام ذو إذن أي ذو سماع وقيل أنه مشتق من قولهم أذن إلى شيء إذا استمع ومنه قول الشاعر ... صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا ... وقرأ نافع إذن بسكون الذال فيهما وقرأ الباقون بضمها فيهما وكلهم قرأ بالإضافة إلى خير إلا ما روي عن عاصم وقرأ الحسن وغيره قل إذن خير بتنوين إذن ورفع خير وهذا جار على تأويله المتقدم والمعنى من يقبل معاذيركم خير لكم ورويت هذه القراءة عن عاصم ومعنى إذن خير على الإضافة أي سماع خير وحق ويؤمن باللّه معناه يصدق باللّه ويؤمن للمؤمنين قيل معناه ويصدق المؤمنين واللام زائدة وقيل يقال أمنت لك بمعنى صدقتك ومنه وما أنت بمؤمن لنا قال ع وعندي أن هذه التي معها اللام في ضمنها باء فالمعنى ويصدق للمؤمنين بما يخبرونه به وكذلك قوله وما أنت بمؤمن لنا بما نقوله ت ولما كانت أخبار المنافقين تصل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم تارة بإخبار اللّه له وتاره بإخبار المؤمنين وهم عدول ناسب اتصال قوله سبحانه ويؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين بما قبله ويكون التصديق هنا خاصا بهذه القضية وإن كان ظاهر اللفظ عاما إذ من المعلوم أنه صلى اللّه عليه و سلم لم يزل مصدقا باللّه وقرأ جميع السبعة إلا حمزة ورحمة بالرفع عطفا على إذن وقرأ حمزة وحده ورحمة بالخفض عطفا على خير وخصص الرحمة للذين آمنوا إذ هم الذين فازوا ونجوا بالرسول عليه السلام يحلفون باللّه لكم يعني المنافقين وقوله واللّه ورسوله أحق أن يرضوه التقدير عند سيبويه واللّه أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه فحذف الخبر من الجملة الأولى لدلالة الثانية عليه وقيل الضمير في يرضوه عائد على المذكور كما قال رؤبة ... فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق ... أي كان المذكور ٦٣وقوله ألم يعلموا أنه من يحادد اللّه ورسوله الآية يحادد معناه يخالف ويشاق ٦٤وقوله سبحانه يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم يحذر خبر عن حال قلوبهم وقال الزجاج وغيره معنى يحذر الأمر وإن كان لفظه لفظ الخبر كأنه قال ليحذر وقوله سبحانه قل استهزءوا لفظه لفظ الأمر ومعناه التهديد ثم أخبر سبحانه أنه مخرج لهم ما يحذرونه إلى حين الوجود وقد فعل ذلك تبارك وتعالى في سورة براءة فهي تسمى الفاضحة لأنها فضحت المنافقين ٦٥وقوله سبحانه ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب الآية نزلت على ما ذكر جماعة من المفسرين في وديعة بن ثابت وذلك أنه مع قوم من المنافقين كانوا يسيرون في غزوة تبوك فقال بعضهم هذا يريد أن يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بني الأصفر هيهات هيهات فوقفهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك وقال لهم قلتم كذا وكذا فقالوا إنما كنا نخوض ونلعب وذكر الطبري عن عبد اللّه بن عمر أنه قال رأيت قائل هذه المقالة وديعة متعلقا بحقب ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول إنما كنا نخوض ونلعب والنبي صلى اللّه عليه وسلم يقول أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ثم حكم سبحانه عليهم بالكفر فقال لهم لا تعتذروا قد كفرتم الآية وقوله سبحانه إن يعف عن طائفة منكم يريد فيما ذكره المفسرون رجلا واحد قيل اسمه مخشى بن حمير قاله ابن إسحاق وذكر جميعهم أنه استشهد باليمامة وقد كان تاب وتسمى عبد الرحمن فدعا اللّه أن يستشهد ويجهل أمره فكان كذلك ولم يوجد جسده وكان مخشي مع المنافقين الذين قالوا إنما كنا نخوض ونلعب فقيل كان منافقا ثم تاب توبة صحيحة وقل كان مسلما مخلصا إلا أنه سمع المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم فعفا اللّه عنه في كلا الوجهين ثم أوجب العذاب لباقي المنافقين الذين قالوا ما تقدم ٦٧وقوله سبحانه المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يريد في الحكم والمنزلة في الكفر ولما تقدم قبل وما هم منكم حسن هذا الإخبار ويقبضون أيديهم أي عن الصدقة وفعل الخير نسوا اللّه أي تركوه حين تركوا اتباع نبيه وشرعه فنسيهم أي فتركهم حين لم يهدهم والكفار في الآية المعلنون وقوله هي حسبهم أي كافيتهم وقوله تعالى كالذين من قبلكم أي انتم أيها المنافقون كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة فعصوا فأهلكوا فأنتم أولى بالإهلاك لمعصيتكم وضعفكم والخلاق الحظ من القدر والدين وجميع حال المرء فخلاق المرء الشيء الذي هو به خليق والمعنى عجلوا حظهم في دنياهم وتركوا الآخرة فاتبعتموهم أنتم اولائك حبطت اعمالهم في الدنيا والآخرة المعنى وأنتم أيضا كذلك ويحتمل أن يريد بأولئك المنافقين ٧٠وقوله سبحانه ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود الآية المعنى ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر الأمم السالفة التي عصت اللّه بتكذيب رسله فأهلكها وقوم إبراهيم نمرود وأصحابه وإتباع دولته وأصحاب مدين قوم شعيب والمؤتفكات أهل القرى الأربعة السبعة التي بعث اليهم لوط عليه السلام ومعنى المؤتفكات المنصرفات والمنقلبات أفكت فائتفكت لأنها جعل عاليها سافلها ولفظ البخاري المؤتفكات والمنقلبات أفكت فأئتفكت لأنها جعل عاليها سافلها ولفظ البخاري المؤتفكات ائتفكت انقلبت بهم الأرض انتهى والضمير في أتتهم رسلهم عائد على هذه الأمم المذكورة ثم عقب سبحانه بذكر المؤمنين وما من به عليهم من حسن الأعمال ترغيبا وتنشيطا لمبادرة ما به أمر لطفا منه بعباده سبحانه لا رب غيره ولا خير إلا خيره وقوله سبحانه ويقيمون الصلوة قال ابن عباس هي الصلوات الخمس قال ع وبحسب هذا تكون الزكاة هي المفروضة والمدح عندي بالنوافل أبلغ إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرض والسين في قوله سيرحمهم مدخلة في الوعد مهلة لتكون النفوس تنعم برجائه سبحانه وفضله سبحانه زعيم بالإنجاز وذكر الطبري في قوله تعالى ومساكن طيبة عن الحسن أنه سأل عنها عمران ابن حصين وأبا هريرة فقالا على الخبير سقطت سألنا عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون دارا من يقوته حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريرا ونحو هذا مما يشبه هذه الألفاظ ويقرب منها فاختصرتها طلب الإيجاز ت وتمام الحديث من الأحياء وكتاب الآجري المعروف بكتاب النصيحة عن الحسن عن عمران ابن حصين وأبي هريرة قالا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش زوجة من الحور العين وفي كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام في كل بيت سبعون وصيفة ويعطى المؤمن في كل غداة من القوة ما يأتي على ذلك أجمع وأما قوله سبحانه ورضوان من اللّه أكبر ففي الحديث الصحيح أن اللّه عز و جل يقول لعباده إذا استقروا في الجنة هل رضيتم فيقولون وكيف لا نرضى يا ربنا فيقول أني سأعطيكم أفضل من هذا كله رضواني أرضي عنكم فلا أسخط عليكم أبدا الحديث وقوله أكبر يريد أكبر من جميع ما تقدم ومعنى الآية والحديث متفق وقال الحسن بن أبي الحسن وصل إلى قلوبهم برضوان اللّه من اللذة والسرور ما هو ألذ عندهم وأقر لأعينهم من كل شيء أصابوه من لذة الجنة قال الإمام الفخر وإنما كان الرضوان أكبر لأنه عند العارفين نعيم روحاني وهو أشرف من النعيم الجسماني انتهى أنظره في أوائل آل عمران قال ع ويظهر أن يكون قوله تعالى ورضوان من اللّه أكبر إشارة إلى منازل المقربين الشاربين من تسنيم والذين يرون كما يرى النجم الغار في الأفق وجميع من في الجنة راض والمنازل مختلفة وفضل اللّه متسع والفوز النجاة والخلاص ومن أدخل الجنة فقد فاز والمقربون هم في الفوز العظيم والعبارة عندي بسرور وكمال أجود من العبارة عنها بلذة واللذة أيضا مستعملة في هذا ٧٣وقوله سبحانه يا أيها النبي جاهد الكفار أي بالسيف والمنافقين أي باللسان والتعنيف والاكفهرار في الوجه وبإقامة الحدود عليهم قال الحسن وأكثر ما كانت الحدود يومئذ تصيب المنافقين ومذهب الطبري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يعرفهم ويسترهم وأما قوله وأغلظ عليهم فلفظة عامة في الأفعال والأقوال ومعنى الغلظ خشن الجانب فهو ضد قوله تعالى وأخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ٧٤وقوله عز و جل يحلفون باللّه ما قالوا الآية نزلت في الجلاس بن سويد وقوله لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمر فسمعها منه ربيبة رجل آخر فأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم فجاء الجلاس فحلف باللّه ما قال هذه الكلمة فنزلت الآية فكلمة الكفر هي مقالته هذه لأن مضمنها قوي في التكذيب قال مجاهد وقوله وهموا بما لم ينالوا يعني أن الجلاس قد كان هم بقتل صاحبه الذي أخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم قوال قتادة نزلت في عبد اللّه بن أبي أبن سلول وقوله في غزوة المريسيع ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول سمن كلبك ياكلك ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الاذل فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فوقفه فحلف أنه لم يقل ذلك فنزلت الآية مكذبة له ت وزاد ابن العربي في أحكامه قولا ثالثا أن الآية نزلت في جماعة المنافقين قال الحسن وهو الصحيح لعموم القول ووجود المعنى فيه وفيهم انتهى وحدث أبو بكر بن الخطيب بسنده قال سئل سفيان بن عيينة عن الهم أيواخذ به صاحبه قال نعم إذا كان عزما ألم تسمع إلى قوله تعالى وهموا بما لم ينالوا الآية إلى قوله فإن يتوبوا يك خيرا لهم فجعل عليهم فيه التوبة قال سفيان الهم يسود القلب انتهى قال ع وعلى تأويل قتادة فالإشارة بكلمة الكفر إلى تمثيل ابن ابي سمن كلبك ياكلك قال قتادة والإشارة بهموا إلى قوله لئن رجعنا إلى المدينة وقال الحسن هم المنافقون من إظهار الشرك ومكابرة النبي صلى اللّه عليه وسلم بما لم ينالوا وقال تعالى بعد إسلامهم ولم يقل بعد إيمانهم لأن ذلك لم يتجاوز ألسنتهم وقوله سبحانه وما نقموا إلا أن أغناهم اللّه الآية كان الكلام وما نقموا إلا ما حقه أن يشكر وذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سبب في ذلك وعلى هذا الحد قال عليه السلام للأنصار في غزوة حنين كنتم عالة فأغناكم اللّه قال العراقي نقموا أي أنكروا وقال ص إلا أن أغناهم اللّه أن وصلتها مفعول نقموا أي ما كرهوا إلا إغناء اللّه إياهم وقيل هو مفعول من أجله والمفعول به محذوف أي ما كرهوا الإيمان إلا للإغناء انتهى ثم فتح لهم سبحانه باب التوبة رفقا بهم ولطفا فروي أن الجلاس تاب من النفاق وقال إن اللّه قد ترك لي باب التوبة فأعترف وأخلص وحسنت توبته ٧٥وقوله سبحانه ومنهم من عاهد اللّه لئن آتانا من فضله لنصدقن الآية هذه الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال الحسن وفي معتب بن قشير معه واختصار ما ذكره الطبري وغيره من أمره أنه جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه أدع اللّه أن يجعل لي مالا فإني لو كنت ذا مال لقضيت حقوقه وفعلت فيه الخير فراده النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال قليل تودي شكره خي رمن كثير لا تطيقه فعاود فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم ألا تريد أن تكون مثل رسول اللّه ولو دعوت اللّه أن يسير الجبال معي ذهبا لسارت فأعاد عليه حتى دعا له النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك فأتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت به المدينة فتنحى عنها وكثرت غنمه حتى كان لا يصلي إلا الجمعة ثم كثرت حتى تنحى بعيدا فترك الصلاة ونجم نفاقه ونزل خلال ذلك فرض الزكاه فبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم مصدقين بكتابه في أخذ زكاة الغنم فلما بلغوا ثعلبة وقرأ الكتاب قال هذه أخت الجزية ثم قال لهم دعوني حتى أرى رأي فلما أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأخبروه قال ويح ثعلبة ثلاثا ونزلت الآية فيه فحضر القصة قريب لثعلبة فخرج إليه فقال أدرك أمرك فقد نزل فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرغب أن يؤدي زكاته فأعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال إن اللّه أمرني أن لا آخذ زكاتك فبقي كذلك حتى توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم ورد ثعلبة على أبي بكر ثم على عمر ثم على عثمان يرغب إلى كل واحد منهم أن يأخذ منه الزكاة فكلهم رد ذلك وأباه اقتداء بالنبي صلى اللّه عليه وسلم فبفي ثعلبة كذلك حتى هلك في مدة عثمان وفي ٧٧قوله تعالى فاعقبهم نص في العقوبة على الذنب بما هو أشد منه قوله إلى يوم يلقونه يقتضي موافاتهم على النفاق قال ابن العربي في ضمير يلقونه قولان أحدهما أنه عائد على اللّه تعالى والثاني أنه عائد على النفاق مجازا على تقدير الجزاء كأنه قال فاعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه جزاءه انتهى من الأحكام ويلمزون معناه ينالون بالسنتهم واكثر الروايات في سبب نزول الآية أن عبد الرحمن بن عوف تصدق بأربعة آلاف وامسك مثلها وقيل هو عمر بن الخطاب تصدق بنصف ماله وقيل عاصم بن عدي تصدق بمائة وسق فقال المنافقون ما هذا إلا رياء فنزلت الآية في هذا كله وأما المتصدق بقليل فهو أبو عقيل تصدق بصاع من تمر فقال بعضهم إن اللّه غني عن صاع أبي عقيل وخرجه البخاري وقيل أن الذي لمز في القليل هو أبو خيثمة قاله كعب بن مالك فيسخرون منهم معناه يستهزءون ويستخفون وروى مسلم عن جرير بن عبد اللّه قال كنت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في صدر النهار قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة إلى آخر الآية إن اللّه كان عليكم رقيبا والآية التي في سورة الحشر واتقوا اللّه ولتنظر نفس ما قدمت لغد تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال ولو بشق تمره قال فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت قال ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء انتهى ٨٠وقوله سبحانه استغفر لهم لا تستغفر لهم المعنى أن اللّه خير نبيه في هذا فكأنه قال له إن شئت فاستغفر لهم وإن شئت لا تستغفر ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وإن استغفر سبعين مرة وهذا هو الصحيح في تأويل الآية لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم لعمر إن اللّه قد خيرني فاخترت ولو علمت إني إذا زدت على السبعين يغفر لهم لزدت الحديث وظاهر لفظ الحديث رفض إلزام دليل الخطاب وظاهر صلاته صلى اللّه عليه و سلم على ابن أبي أن كفره لم يكن يقينا عنده ومحال أن يصلي على كافر ولكنه راعى ظواهره من الإقرار ووكل سريرته إلى اللّه عز و جل وعلى هذا كان ستر المنافقين وإذا ترتب كما قلنا التخيير في هذه الآية صح إن ذلك التخيير هو الذي نسخ بقوله تعالى في سورة المنافقين سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ت والظاهر أن الآيتين بمعنى فلا نسخ فتأمله ولولا الإطالة لا وضحت ذلك قال ع وأما تمثيله بالسبعين دون غيرها من الأعداد فلأنه عدد كثيرا ما يجيء غاية ومقنعا في الكثرة وقوله ذلك إشارة إلى امتناع الغفران ٨١وقوله عز و جل فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول اللّه الآية هذه آية تتضمن وصف حالهم على جهة التوبيخ وفي ضمنها وعيد وقوله المخلفون لفظ يقتضي تحقيرهم وانهم الذين أبعدهم اللّه من رضاه ومقعد بمعنى القعود وخلاف معناه بعد ومنه قول الشاعر ... فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تأهب لأخرى مثلها فكأن قد ... يريد بعد الذي مضى وقال الطبري هو مصدر خالف يخالف وقولهم لا تنفروا في الحر كان هذا القول منهم لأن غزوة تبوك كانت في شدة الحر وطيب الثمار ٨٢وقوله سبحانه فليضحكوا قليلا إشارة إلى مدة العمر في الدنيا وقوله وليبكوا كثيرا إشارة إلى تأبيد الخلود في النار فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم وتقدير الكلام ليبكوا كثيرا إذ هم معذبون جزاء بما كانوا يكسبون وخرج ابن ماجه بسنده عن يزيد الرقاشي عن أنس قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع ثم يبكون الدم حتى تصير في وجوههم كهيئة الأخدود لو أرسلت فيها السفن لجرت وخرجه ابن المبارك أيضا عن أنس قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول يا أيها الناس أبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنا اجريب فيها لجرت انتهى من التذكرة ٨٣وقوله سبحانه فإن رجعك اللّه إلى طائفة منهم الآية يشبه أن تكون هذه الطائفة قد حتم عليها بالموافاة على النفاق وعينوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم وقوله وماتوا وهم فاسقون نص في موافاتهم على ذلك ومما يؤيد هذا ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم عينهم لحذيفة بن اليمان وكان الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة تأخروا هم عنها وروي عن حذيفة أنه قال يوما بقي من المنافقين كذا وكذا وقوله أول هو بالإضافة إلى وقت الاستيذان والخالفون جمع من تخلف من نساء وصبيان وأهل عذر وتظاهرت الروايات أنه صلى اللّه عليه و سلم صلى على عبد اللّه بن أبي ابن سلول وأن ٨٤وقوله ولا تصل على أحد منهم نزلت بعد ذلك وقد خرج ذلك البخاري من رواية عمر بن الخطاب انتهى ٨٥وقوله سبحانه ولا تعجبك أموالهم وأولادهم تقدم تفسير مثل هذه الآية والطول في هذه الآية المال قاله ابن عباس وغيره والإشارة بهذه الآية إلى الجد بن قيس ونظرائه والقاعدون الزمني وأهل العذر في الجملة والخوالف النساء جمع خالفة هذا قول جمهور المفسرين وقال أبو جعفر النحاس يقال للرجل الذي لا خير فيه خالفة فهذا جمعه بحسب اللفظ والمراد اخسة الناس واخلافهم ونحوه عن النضر بن شميل وقالت فرقة الخوالف جمع خالف كفارس وفوارس وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون أي لا يفهمون والخيرات جمع خيرة وهو المستحسن من كل شيء ٨٩وقوله سبحانه أعد اللّه لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم أعد معناه يسر وهيأ وباقي الآية بين ٩٠وقوله سبحانه وجاء المعذرون من الأعراب الآية قال ابن عباس وغيره هؤلاء كانوا مؤمنين وكانت أعذارهم صادقة وأصل اللفظة المعتذرون فقلبت التاء ذالا وأدغمت وقال قتادة وفرقة معه بل الذين جاءوا كفرة وقولهم وعذرهم كذب قال ص والمعنى تكلفوا العذر ولا عذر لهم وكذبوا اللّه ورسوله أبي في إيمانهم انتهى وقوله سيصيب الذين كفروا منهم الآية قوله منهم يؤيد أن المعذرين كانوا مؤمنين فتأمله قال ابن إسحاق المعذرون نفر من بني غفار وهذا يقتضي أنهم مؤمنون وقوله جلت عظمته ليس على الضعفاء ولا على المرضى الآية يقول ليس على أهل الأعذار من ضعف بدن مرض عدم نفقة إثم والحرج الإثم وقوله إذا نصحوا يريد بنياتهم وأقوالهم سرا وجهرا ما على المحسنين من سبيل أي من لائمة تناط بهم ثم أكد الرجاء بقوله سبحانه واللّه غفور رحيم وقرأ ابن عباس واللّه لأهل الإساءة غفور رحيم هذا على جهة التفسير أشبه منه على جهة التلاوة لخلافه المصحف واختلف فيمن المراد بقوله الذين لا يجدون ما ينفقون فقالت فرقة نزلت في نبي مقرن ستة أخوة وليس في الصحابة ستة أخوة غيرهم وقيل كانوا سبعة وقيل نزلت في عائد بن عمرو المزني قاله قتادة وقيل في عبد اللّه بن معقل المزني قاله ابن عباس وقوله عز و جل ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم هذه الآية نزلت في البكائين واختلف في تعيينهم فقيل في أبي موسى الأشعري ورهطه وقيل في بني مقرن وعلى هذا جمهور المفسرين وقيل نزلت في سبعة نفر من بطون شتى فهم البكاءون وقال مجاهد البكاءون هم بنو مقرن من مزينة ومعنى قوله لتحملهم أي على ظهر يركب ويحمل عليه الأثاث ت وقصة أبي موسى الأشعري ورهطه مذكورة في الصحيح قال ابن العربي في أحكامه القول بأن الآية نزلت في أبي موسى وأصحابه هو الصحيح انتهى ٩٣وقوله سبحانه إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء الآية هذه الآية نزلت في المنافقين المتقدم ذكرهم عبد اللّه بن أبي والجد بن قيس ومعتب وغيرهم وقوله إذا رجعتم يريد من غزوة تبوك ومعنى لن نؤمن لكم لن نصدقكم والإشارة بقوله قد نبأنا اللّه من أحباركم إلى قوله ما زادوكم إلا خبالا ولا أوضعوا خلالكم ونحوه من الآيات وقوله سبحانه وسيرى اللّه عملكم توعد والمعنى فيقع الجزاء عليه قال الأستاذ أبو بكر الطرطوشي أعمل للدنيا بقدر مقامك فيها وأعمل للآخرة بقدر بقائك فيها واستحي من اللّه تعالى بقدر قربه منك وأطعه بقدر حاجتك إليه وخفه بقدر قدرته عليك وأعصه بقدر صبرك على النار انتهى من سراج الملوك وقوله ثم تردون يردي البعث من القبور ٩٥وقوله عز و جل سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم الآية قيل أن هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك وقوله إنهم رجس أي نتن وقذر وناهيك بهذا الوصف محطه دنياويه ثم عطف بمحطة الآخرة فقال ومأواهم جهنم أي مسكنهم وقوله فإن ترضوا إلى آخر الآية شرط يتضمن النهي عن الرضى عنهم وحكم هذه الآية يستمر في كل مغموص عليه ببدعة ونحوها ٩٧وقوله سبحانه الأعراب أشد كفرا ونفاقا هذه الآية نزلت في منافقين كانوا في البوادي ولا محالة أن خوفهم هناك كان أقل من خوف منافقي المدينة فألسنتهم لذلك مطلقة ونفاقهم أنجم وأجدر معناه أحرى وقال ص معناه أحق والحدود هنا السنن والأحكام ٩٨وقوله سبحانه ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما الآية نص في المنافقين منهم والدوائر المصائب ويحتمل أن تشتق من دوران الزمان والمعنى ينتظر بكم ما تأتي به الأيام وتدور به ثم قال على جهة الدعاء عليهم دائرة السوء وكل ما كان بلفظ دعاء من جهة اللّه عز و جل فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء لأن اللّه لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته ومن هذا ويل لكل همزة لمزة ويل للمطففين فهي كلها أحكام تامة تضمنها خبره تعالى ت وهذه قاعدة جيدة وما وقع له رحمه اللّه مما ظاهره مخالف لهذه القاعدة وجب تأويله بما ذكره هنا وقد وقع له ذلك بعد هذا في قوله صرف اللّه قلوبهم بأنهم قوم يفقهون قال يحتمل أن يكون دعاء عليهم ويحتمل أن يكون خبرا أي استوجبوا ذلك وقد أوضح ذلك عند قوله تعالى قتل أصحاب الأخدود فأنظره هناك ٩٩وقوله سبحانه ومن الأعراب من يؤمن باللّه قال قتادة هذه ثنية اللّه تعالى من الأعراب وروي أن هذه الآية نزلت في بني مقرن وقاله مجاهد ويتخذ في الآيتين بمعنى يجعله قصده والمعنى ينوي بنفقته ما ذكره اللّه عنهم وصلوات الرسول دعاؤه ففي دعائه خير الدنيا والآخرة والضمير في قوله إنها يحتمل عوده على النفقة ويحتمل عوده على الصلوات وباقي الآية بين ١٠٠وقوله سبحانه والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الآية قال أبو موسى الأشعري وغيره السابقون الأولون من صلى القبلتين وقال عطاء هم من شهد بدرا وقال الشعبي من أدرك بيعة الرضوان والذين اتبعوهم بإحسان يريد سائر الصحابة ويدخل في هذا اللفظ التابعون وسائر الأمة لكن بشريطة الإحسان وقرأ عمر بن الخطاب وجماعة والأنصار بالرفع عطفا على والسابقون وقرأ ابن كثير من تحتها الأنهار وقرأ الباقون تحتها بإسقاط من ١٠١وقوله سبحانه وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق الإشارة بمن حولكم إلى جهينة ومزينة وأسلم وغفار وعصية ولحيان وغيرهم من القبائل المجاورة للمدينة فأخبر اللّه سبحانه عن منافقيهم وتقدير الآية ومن أهل المدينة قوم منافقون هذا أحسن ما حمل اللفظ ومردوا قال أبو عبيدة معناه مرنوا عليه ولجوا فيه وقيل غير هذا مما هو قريب منه قال ابن زيد قاموا عليه لم يتوبوا كما تاب الآخرون والظاهر من اللفظة أن التمرد في الشيء المرود عليه إنما هو اللجاج والاشتهار به والعتو على الزاجر وركوب الرأس في ذلك وهو مستعمل في الشر لا في الخير ومنه شيطان مريد ومارد وقال ابن العربي في أحكامه مردوا على النفاق أي استمروا عليه وتحققوا به انتهى ذكره بعد قوله تعالى الذين اتخذوا مسجدا ضررا ثم نفى عز و جل علم نبيه بهم على التعيين وقوله سبحانه سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم لفظ الآية يقتضي ثلاث مواطن من العذاب ولا خلاف بين المتأولين أن العذاب العظيم الذي يردون إليه هو عذاب الآخرة وأكثر الناس أن العذاب المتوسط هو عذاب القبر واختلف في عذاب المرة الأولى فقال ابن عباس عذابهم بإقامة حدود الشرع عليهم مع كراهيتهم فيه وقال ابن إسحاق عذابهم هو همهم بظهر الإسلام وعلو كلمته وقال ابن عباس أيضا هو الأشهر عنه عذابهم هو فضيحتهم ووصمهم بالنفاق وقيل غير هذا ١٠٢وقوله عز و جل وآخرون اعترفوا بذنوبهم الآية قال ابن عباس وأبو عثمان هذه الآية في الأعراب وهي عامة في الأمة إلى يوم القيامة قال ابو عثمان ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة منها وقال مجاهد بل نزلت هذه الآية في أبي لبابة الأنصاري خاصة في شأنه مع بني قريظة لما أشار لهم إلى حلقه ثم ندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد وقالت فرقة عظيمة بل نزلت هذه الآية في شأن المخلفين عن غزوة تبوك ت وخرج البخاري بسنده عن سمرة بن جندب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتاتي الليلة أتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راءى وشطر كأقبح ما أنت راءى قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قالا لي هذه جنة عدن وهذاك منزلك قالا أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتجاوز اللّه عنهم انتهى ١٠٣وقوله تعالى خذ من أموالهم صدقة الآية روي أن الجماعة التائبة لما تيب عليها قالوا يا رسول اللّه إنانريد أن نتصدق بأموالنا زيادة في توبتنا فقال لهم صلى اللّه عليه و سلم إني لا أعرض لأموالكم إلا بأمر من اللّه فتركهم حتى نزلت هذه الآية فهم المراد بها فروي أنه صلى اللّه عليه و سلم أخذ ثلث أموالهم مراعاة لقوله تعالى من أموالهم فهذا هو الذي تظاهرت به أقوال المتأولين وقالت جماعة من الفقهاء المراد بهذه الآية الزكاة المفروضة وقوله تعالى تطهرهم وتزكيهم بها احسن ما يحتمل أن تكون هذه الأفعال مسندة إلى ضمير النبي صلى اللّه عليه وسلم وقوله سبحانه وصل عليهم معناه ادع لهم فإن في دعائك لهم سكونا لأنفسهم وطمانينة ووقارا فهي عبارة عن صلاح المعتقد والضمير في قوله ألم يعلموا قال ابن زيد يراد به الذين لم يتوبوا من المتخلفين ويحتمل أن يراد به الذين تابوا وقوله ويأخذ الصدقات قال الزجاج معناه ويقبل الصدقات وقد جاءت أحاديث صحاح في معنى هذه الآية منها حديث أبي هريرة أن الصدقة قد تكون قدر اللقمة يأخذها اللّه بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه فصيله حتى تكون مثل الجبل ونحو هذا من الأحاديث التي هي عبارة عن القبول والتحفي بصدقة العبد وقوله عن عباده هي بمعنى من ١٠٥وقوله سبحانه وقل اعملوا فسيرى اللّه علمكم ورسوله والمؤمنين وستردون إلى عالم الغيب والشهادة الآية هذه الآية صيغتها صيغة أمر مضمنها الوعيد وقال الطبري المراد بها الذين اعتذروا ولم يتوبوا من المتخلفين وتابوا قال ع والظاهر أن المراد بها الذين اعتذروا ولم يتوبوا وهم المتوعدون وهم الذي في ضمير ألم يعلموا ومعنى فسيرى اللّه عملكم أي موجودا معرضا للجزاء عليه بخير بشر وقال ابن العربي في أحكامه قوله سبحانه وقل أعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله هذه الآية نزلت بعد ذكر المؤمنين ومعناها الأمر أي أعملوا بما يرضي اللّه سبحانه وأما الآية المتقدمة وهي قوله تعالى قد نبأنا اللّه من أخباركم وسيرى اللّه عملكم ورسوله فإنها نزلت بعد ذكر المنافقين ومعناها التهديد وذلك لأن النفاق موضع ترهيب والإيمان موضع ترغيب فقوبل أهل كل محل من الخطاب بما يليق بهم انتهى وقوله سبحانه وآخرون مرجون لأمر اللّه عطف على قوله اولا وآخرون اعترفوا ومعنى الإرجاء التأخير والمراد بهذه الآية فيما قال ابن عباس وجماعة الثلاثة الذين خلفوا وهم كعب بن مالك وصاحباه على ما سيأتي إن شاء اللّه وقيل إنما نزلت في غيرهم من المنافقين الذين كانوا معرضين للتوبة مع بنائهم مسجد الضرار وعلى هذا يكون الذين اتخذوا بإسقاط واو العطف بدلا من آخرون خبر مبتدأ تقديره هم الذين وقرأ عاصم وعوام القراء والناس في كل قطر إلا بالمدينة والذين اتخذوا وقرأ أهل المدينة نافع وغيره الذين اتخذوا بإسقاط الواو على أنه مبتدأ والخبر لا يزال بنيانهم وأما الجماعة المرادة بالذين اتخذوا بإسقاط الواو على أنه مبتدأ والخبر لا يزال بنيانهم وأما الجماعة المرادة بالذين اتخذوا مسجدا فهم منافقوا بني غنيم بن عوف وبني سالم بن عوف واسند الطبري عن ابن إسحاق عن الزهري وغيره أنه قال أقبل النبي صلى اللّه عليه وسلم من غزوة تبوك حتى نزل بذي اوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار وكان أصحاب مسجد الضرار قد أتوه صلى اللّه عليه و سلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا يا رسول اللّه انا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة وانا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال إني على جناح سفر وحال شغل ولو قدمنا إن شاء اللّه أتيناكم فصلينا لكم فيه فلما قفل ونزل بذي اوان نزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مالك بن الدخشن ومعن بن عدي أخاه عاصم بن عدي فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه فانطلقا مسرعين ففعلا وحرقاه وذكر النقاش أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث لهدامه وتحريقه عمار بن ياسر ووحشيا مولى المطعم بن عدي وكان بانوه اثني عشر رجلا منهم ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير ونبتل بن الحارث وغيرهم وروي أنه لما بني صلى اللّه عليه و سلم مسجدا في بني عمرو ابن عوف وقت الهجرة وهو مسجد قباء وتشرف القوم بذلك حسدهم حينئذ رجال من بني عمهم من بن بني غنم بن عوف وبنى سالم بن عوف وكان فيهم نفاق وكان موضع مسجد قباء مربطا لحمار امرأة من الأنصار اسمها لية فكان المنافقون يقولون واللّه لا نصبر على الصلاة في مربط حمار لية ونحو هذا من الأقوال وكان أبو عامر المعروف بالراهب منهم وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وكان سيدا من نظراء عبد اللّه بن أبي أبن سلول فلما جاء اللّه بالإسلام نافق ولم يزل مجاهرا بذلك فسماه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الفاسق ثم خرج في جماعة من المنافقين فخرب على النبي صلى اللّه عليه وسلم الأحزاب فلما ردهم اللّه بغيظهم أقام أبو عامر بمكة مظهرا لعداوته فلما فتح اللّه مكة هرب إلى الطائف فلما أسلم أهل الطائف خرج هاربا إلى الشام يريد قيصر مستنصرا به على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكتب إلى المنافقين من قومه أن ابنوا مسجدا مقاومة لمسجد قباء وتحقيرا له فأني سآتي بجيش من الروم أخرج به محمدا وأصحابه من المدينة فبنوه وقالوا سيأتي أبو عامر ويصلي فيه فذلك قوله وارصادا لمن حارب اللّه ورسوله يعني أبا عامر وقولهم سيأتي أبو عامر وقوله ضرارا أي داعية للتضارر من جماعيتن وقوله وتفريقا بين المؤمنين يريد تفريقا بين الجماعة التي كانت تصلي في مسجد قباء فإن من جاور مسجدهم كانوا يصرفونه إليه وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان وقيل أراد بقوله بين المؤمنين جماعة مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وروي أن مسجد الضرار لما هدم وأحرق اتخذ مزبلة ترمى فيه الأقذار والقمامات وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما نزلت لا تقم فيه أبدا كان لا يمر بالطريق التي هو فيها وقوله لمسجد قيل أن اللام قسم وقيل هي لام ابتداء كما تقول لزيد احسن الناس فعلا وهي مقتضية تأكيدا وذهب ابن عباس وفرقة من الصحابة والتابعين إلى أن المراد بمسجد أسس على التقوى مسجد قباء وروي عن ابن عمر وأبى سعيد وزيد بن ثابت أنه مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم ويليق القول الأول بالقصة إلا أن القول الثاني مروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا نظر مع الحديث قال ابن العربي في أحكامه وقد روي ابن وهب وأشهب عن مالك أن المراد بمسجد أسس على التقوى مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم حيث قال اللّه تبارك وتعالى وتركوك قائما وكذلك روى عنه ابن القاسم وقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال رجل هو مسجد قباء وقال الآخر هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو مسجدي هذا قال أبو عيسى هذا حديث صحيح وخرجه مسلم انتهى ومعنى أن تقوم فيه أي بصلاتك وعبادتك وقوله فيه رجال يحبون أن يتطهروا اختلف في الضمير أيضا هل يعود على مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم على مسجد قباء روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يا معشر الأنصار أني رأيت اللّه أثنى عليكم بالطهور فما ذا تفعلون قالوا يا رسول اللّه انا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء يريدون الاستنجاء ففعلنا نحن ذلك فلما جاء الإسلام لم ندعه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلا تدعوه إذن والبنيان الذي أسس على شفا جرف هو مسجد الضرار بإجماع والشفا الحاشية والشفير وهار معناه متهدم بال وهو من هار يهور البخاري هار هائر تهورت البير إذا تهدمت وانهارت مثله انتهى وتأسيس البناء على تقوى إنما هو بحسن النية فيه وقصد وجه اللّه تعالى وإظهار شرعه كما صنع في مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم وفي مسجد قباء والتأسيس على شفا جرف هار إنما هو بفساد النية وقصد الرياء والتفريق بين المؤمنين فهذه تشبيهات صحيحة بارعة وقوله سبحانه فانهار به في نار جهنم الظاهر منه أنه خارج مخرج المثل وقيل بل ذلك حقيقة وأن ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم قاله قتادة وابن جريج وروي عن جابر بن عبد اللّه وغيره أنه قال رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وروي في بعض الكتب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رآه حين انهار بلغ الأرض السابعة ففزع لذلك صلى اللّه عليه و سلم وروي أنهم لم يصلوا فيه أكثر من ثلاثة أيام وهذا كله بإسناد لين واللّه أعلم واسند الطبري عن خلف بن ياسين أنه قال رأيت مسجد المنافقين الذي ذكره اللّه في القرآن فرأيت فيه مكانا يخرج منه الدخال وذلك في زمن أبي جعفر المنصور وروي شبيه بهذا نحوه عن ابن جريج اسنده الطبري قال ابن العربي في أحكامه وفي قوله تعالى فانهار به في نار جهنم مع قوله فأمه هاويه إشارة إلى أن النار تحت كما أن الجنة فوق انتهى والريبة الشك وقد يسمى ريبة فساد المعتقد ومعنى الريبة في هذه الآية أمر يعم الغيظ والحنق ويعم اعتقاد صواب فعلهم ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الارتياب في الإسلام فمقصد الكلام لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقى في قلوبهم حزازة وأثر سوء وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا وبالجملة أن الريبة هنا تعم معان كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق وقوله إلا أن تقطع قلوبهم بضم التاء يعني بالموت قاله ابن عباس وغيره وفي مصحف أبي حتى الممات وفيه حتى تقطع ١١١وقوله عز و جل إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة الآية هذه الآية نزلت في البيعة الثالثة وهي بيعة العقبة الكبرى وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين وذلك أنهم اجتمعوا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم عند العقبة فقالوا اشترط لك ولربك والمتكلم بذلك عبد اللّه بن رواحة فاشترط نبي اللّه حمايته مما يحمون منه أنفسهم واشترط لربه التزام الشريعة وقتال الأحمر والأسود في الدفع عن الحوزة فقالوا ما لنا على ذلك يا نبي اللّه فقال الجنة فقالوا نعم ربح البيع لا تقيل ولا تقال وفي بعض الروايات ولا نستقيل فنزلت الآية في ذلك وهكذا نقله ابن العربي في أحكامه عن عبد اله بن رواحة ثم ذكر من طريق الشعبي عن أبي إمامة اسعد بن زرارة نحو كلام ابن رواحة قال ابن العربي وهذا وإن كان سنده مقطوعا فإن معناه ثابت من طرق انتهى ثم الآية بعد ذلك عامة في كل من جاهد في سبيل اللّه من أمة صلى اللّه عليه وسلم إلى يوم القيامة قال بعض العلماء ما من مسلم إلا واللّه في عنقه هذه البيعة وفي بها لم يف وفي الحديث أن فوق كل بر برا حتى يبذل العبد دمه فإذا فعل فلا بر فوق ذلك واسند الطبري عن كثير من أهل العلم أنهم قالوا ثامن اللّه تعالى في هذه الآية عبادة فأغلى لهم وقاله ابن عباس وغيره وهذا تأويل الجمهور وقال ابن عيينة معنى الآية اشترى منهم أنفسهم ألا يعملوها إلا في طاعته وأموالهم ألا ينفقوها إلا في سبيله فالآية على هذا أعم من القتل في سبيل اللّه وقوله يقاتلون في سبيل اللّه على تأويل ابن عيينة مقطوع ومستأنف وأما على تأويل الجمهور من أن الشراء والبيع إنما هو مع المجاهدين فهو في موضع الحال وقوله سبحانه عدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن قال المفسرون يظهر من قوله في التوراة والإنجيل والقرآن أن كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه قال ع ويحتمل أن ميعاد أمة نبينا صلى اللّه عليه وسلم تقدم ذكره في هذه الكتب واللّه أعلم قال ص وقوله فاستبشروا ليس للطلب بل بمعنى ابشروا كاستوقد قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه المسمى ببهجة المجالس وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال من وعده اللّه على عمل ثوابا فهو منجز له ما وعده ومن اوعده على عمل عقابا فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له وعن ابن عباس مثله انتهى وباقي الآية بين قال الفخر واعلم أن هذه الآية مشتملة على أنواع من التأكيدات فأولها قوله سبحانه إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم فكون المشتري هو اللّه المقدس عن الكذب والحيلة من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد والثاني أنه عبر عن إيصال هذا الثواب بالبيع والشراء وذلك حق مؤكد وثالثهما قوله وعدا ووعد اللّه حق ورابعها قوله عليه وكلمة على للوجوب وخامسها قوله حقا وهو تأكيد للتحقيق وسادسها قوله في التوراة والإنجيل والقرآن وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والمرسلين على هذه المبايعة وسابعها قوله ومن أوفى بعهده من اللّه وهو غاية التأكيد وثامنها قوله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وهو أيضا مبالغة في التأكيد وتاسعها قوله وذلك هو الفوز وعاشرها قوله العظيم فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة في التأكيد والتقرير والتحقيق انتهى ١١٢وقوله عز و جل التائبون العابدون إلى قوله وبشر المؤمنين هذه الأوصاف هي من صفات المؤمنين الذين ذكر اللّه أنه أشترى منهم أنفسهم وأموالهم ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها سبحانه ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى رتبة والآية الأولى مستقله بنفهسا يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل اللّه لتكون كلمة اللّه هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات التي في هذه الآية الثانية بأكثرها وقالت فرقة بل هذه الصفات جاءت على جهة الشرط والآتيان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف وهذا تحريج وتضييق والأول أصوب واللّه أعلم والشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد وقد روي أن اللّه عز و جل يحمل على الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه ختم اللّه لنا بالحسنى والسائحون معناه الصائمون وروي عن عائشة أنها قالت سياحة هذه الأمة الصيام أسنده الطبري وروي أنه من كلام النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال الفخر ولما كان أصل السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض سمي الصائم سائحا لاستمراره على فعل الطاعة وترك المنهي عنه من المفطرات قال الفخر وعندي فيه وجه آخر وهو أن الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب والوقاع وسد على نفسه باب الشهوات انفتحت له أبواب الحكمة وتجلت له أنوار عالم الجلال ولذلك قال صلى اللّه عليه و سلم من أخلص للّه أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فيصير من السائحين في عالم جلال اللّه المنتقلين من مقام إلى مقام ومن درجة إلى درجة انتهى قال ع وقال بعض الناس وهو قول حسن وهو من أفضل العبادات والراكعون الساجدون هم المصلون الصلوات كذا قال أهل العلم ولكن لا يختلف في أن من يكثر النوافل هو ادخل في الاسم واعرق في الاتصاف وقوله والحافظون لحدود اللّه لفظ عام تحته التزام الشريعة ت قال البخاري قال ابن عباس الحدود الطاعة قال ابن العربي في أحكامه وقوله الحافظون لحدود اللّه خاتمة البيان وعموم الاشتمال لكل أمر ونهي انتهى وقوله سبحانه وبشر المؤمنين قيل هو لفظ عام أمر صلى اللّه عليه و سلم أن يبشر أمته جميعا بالخير من اللّه وقيل بل هذه الألفاظ خاصة لمن لم يغز أي لما تقدم في الآية وعد المجاهدين وفضلهم أمر صلى اللّه عليه و سلم أن يبشر سائر المؤمنين ممن لم يغز بأن الإيمان مخلص من النار والحمد للّه رب العالمين ١١٣وقوله سبحانه ما كان للنبي والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين الآية جمهور المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن أبي طالب وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخل عليه حين احتضر فوعظه وقال أي عم قل لا إله إلا اللّه كلمة أحاج لك بها عند اللّه وكان بالحضرة أبو جهل وعبد اللّه بن أبي أمية فقالا له يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فقال أبو طالب يا محمد واللّه لولا أني أخاف أن يعير بها ولدى من بعدي لأقررت بها عينك ثم قال هو على ملة عبد المطلب ومات على ذلك إذ لم يسمع منه صلى اللّه عليه و سلم ما قال العباس فنزلت إنك لا تهدي من أحببت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واللّه لاستغفرن لك ما لم انه عنك فكان يستغفر له حتى نزلن هذه الآية فترك نبي اللّه الاستغفار لأبي طالب وروي أن المؤمنين لما رأوا نبي اللّه يستغفر لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهم فلذلك دخلوا في النهي والآية على هذا ناسخة لفعله صلى اللّه عليه و سلم إذ أفعاله في حكم الشرع المستقر وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما إنما نزلت الآية بسبب جماعة من المؤمنين قالوا نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم عليه السلام فنزلت الآية في ذلك ١١٤وقوله سبحانه وما كان استغفار إبراهيم لأبيه الآية المعنى لا حجة أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم عليه السلام فإن ذلك لم يكن الاعن موعدة واختلف في ذلك فقيل عن موعدة من إبراهيم وذلل قوله سأستغفر لك ربي إنه كان في حفيا وقيل عن موعدة من أبيه له في أنه سيؤمن فقوي طمعه فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نهي عنه وموعدة من الوعد وأما تبينه أنه عدو للّه قيل ذلك بموت أزر على الكفر وقيل ذلك بأنه نهي عنه وهو حي وقوله سبحانه إن إبراهيم لاواه حليم ثناء من اللّه تعالى على إبراهيم والاواه معناه الخائف الذي يكثر التأوه من خوف اللّه عز و جل والتأوه التوجع الذي يكثر حتى ينطق الإنسان معه باوه ومن هذا المعنى قول المثقب العبدي ... إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه أهة الرجل الحزين ويروى آهة وروي أن إبراهيم عليه السلام كان يسمع وجيب قلبه من الخشية كما تسمع أجنحة النسور وللمفسرين في الاواه عبارات كلها ترجع إلى ما ذكرته ت روى ابن المبارك في رقائقه قال أخبرنا عبد الحميد بن بهرام قال حدثنا شهر بن حوشب قال حدثني عبد اللّه بن شداد قال قال رجل يا رسول اللّه ما الاواه قال الاواه الخاشع الدعاء المتضرع قال اللّه سبحانه إن إبراهيم لاواه حليم انتهى وحليم معناه صابر محتمل عظيم العقل والحلم العقل ١١٥وقوله سبحانه وما كان اللّه ليضل قوما بعد إذ هداهم الآية معناه التأنيس للمؤمنين وقيل أن بعضهم خاف على نفسه من الاستغفار للمشركين فنزلت الآية مؤنسة أي ما كان اللّه بعد إن هدى إلى الإسلام وأنقذ من النار ليحبط ذلك ويضل أهله لمواقعتهم ذنبا لم يتقدم من اللّه عنه نهي فأما إذا بين لهم ما يتقون من الأمور ويتجنبون من الأشياء فحينئذ من واقع شيئا من ذلك بعد النهي استوجب العقوبة وباقي الآية بين ١١٧وقوله سبحانه لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الآية التوبة من اللّه تعالى هو رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها فقد تكون من الأكثر رجوعا من حالة طاعة إلى أكمل منها وهذه توبته سبحانه في هذه الآية على نبيه عليه السلام وأما توبته على المهاجرين والأنصار فمعرضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين وأما توبته على الفريق الذي كاد يزيغ فرجوع من حالة محطوطة إلى حال غفران ورضى وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه اللّه في هذه الآية ذكر اللّه سبحانه توبة من لم يذنب ليلا يستوحش من أذنب لأنه ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم والمهاجرين والأنصار ولم يذنبوا ثم قال وعلى الثلاثة الذين خلفوا فذكر من لم يذنب ليونس من قد أذنب انتهى من لطائف المنن وساعة العسرة يريد وقت العسرة والعسرة الشدة وضيق الحال والعدم وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه صلى اللّه عليه و سلم من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان بن عفان رضي اللّه عنه بألف جمل وألف دينار وجاء أيضا رجل من الأنصار بسبعمائة وسق من تمر وهذه غزوة تبوك ت وعن ابن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب حدثنا عن شأن ساعة العسرة فقال عمر خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ثم يجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر يا رسول اللّه إن اللّه قد عودك في الدعاء خيرا فادع اللّه فقال أتحب ذلك قال نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء فأظلت ثم سكبت فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر رواه الحاكم في مستدركه على الصحيحين وقال صحيح على شرط الشيخين يعني مسلما والبخاري انتهى من السلاح ووصل النبي صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك إلى أوائل بلد العدو فصالحه أهل أذرح وإيله وغيرهما على الجزية ونحوها وأنصرف والزيغ المذكور هو ما همت به طائفة من الانصراف لما لقوا من المشقة والعسرة قاله الحسن وقيل زيغها إنما كان بظنون لها ساءت في معنى عزم النبي صلى اللّه عليه وسلم على تلك الغزوة لما رأته من شدة الحال وقوة العدو المقصود ثم أخبر عز و جل أنه تاب أيضا على هذا الفريق وراجع به وأنس بإعلامه للامه بأنه رؤوف رحيم والثلاثة الذين خلفوا هم كعب بن مالك وهلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم وهو في السير فلذلك اختصرنا سوقه وهم الذين تقدم فيهم وآخرون مرجون لأمر اللّه ومعنى خلفوا أخروا وترك النظر في أمرهم قال كعب وليس بتخلفنا عن الغزو وهو بين من لفظ الآية وقوله وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه ظنوا هنا بمعنى أيقنوا قال الشيخ بن أبي جمرة رحمه اللّه قال بعض أهل التوفيق إذا نزلت بي نازلة ما من أي نوع كانت فألهمت فيها اللجأ فلا أبالي بها واللجأ على وجوه منها الاشتغال بالذكر والتعبد وتفويض الأمر له عز و جل لقوله تعالى على لسان نبيه من شغله ذكرى عن مسئلتي أعطيه أفضل ما أعطي السائلين ومنها الصدقة ومنها الدعاء فكيف بالمجموع انتهى وقوله سبحانه ثم تاب عليهم ليتوبوا لما كان هذا القول في تعديد النعم بدأ في ترتيبه بالجهة التي هي عن اللّه عز و جل ليكون ذلك منها على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره ولو كان هذا القول في تعديد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي على المذنب كما قال عز و جل فلما زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم ليكون ذلك أشد تقريرا للذنب عليهم وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها إنما يكمل مع مطالعة حديث الثلاثة الذين خلفوا في الكتب المذكورة فأنظره وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأن الشرع يطلبهم من الجد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه إذ هم أسوة وحجة للمنافقين والطاعنين إذ كان كعب من أهل العقبة وصاحباه من أهل بدر وفي هذا ما يقتضي أن الرجل العالم والمقتدي به أقل عذرا في السقوط من سواه وكتب الأوزاعي رحمه اللّه إلى أبي جعفر المنصور في آخر رسالة وأعلم أن قرابتك من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لن تزيد حق اللّه عليك إلا عظما ولا طاعته إلا وجوبا ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكارا والسلام ١١٩وقوله سبحانه يا أيها الذين أمنوا اتقوا وكونوا مع الصادقين هذا الأمر بالكون مع الصادقين حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين وكان ابن مسعود يتأول الآية في صدق الحديث وإليه نحا كعب بن مالك ١٢٠وقوله سبحانه ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه الآية هذه الآية معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها على التخلف عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في غزوة وقوة الكلام تعطي الأمر بصحبته أين ما توجه غازيا وبذل النفوس دونه والمخمصة مفعلة من خموص البطن وهو ضموره واستعير ذلك لحالة الجوع إذ الخموص ملازم له ومن ذلك قول الأعشى ... تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا ... وقوله ولا ينالون من عدو نيلا لفظ عام لقليل ما يصنعه المؤمنون بالكفرة من أخذ مال إيراد هوان وكثيره ونيلا مصدر نال ينال وفي الحديث ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل اللّه بعدا إلا ازدادوا من اللّه قربا ت وروى أبو داود في سننه عن أبي مالك الأشعري قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول من فصل في سبيل اللّه فمات قتل فهو شهيد وقصه فرسه بعيره لدغته هامة مات على فراشه بأي حتف شاء اللّه فإنه شهيد وأن له الجنة انتهى قال ابن العربي في أحكامه قوله عز و جل ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم يعني إلا كتب لهم ثوابه وكذلك قال في المجاهد إن ارواث دوابه وابوالها حسنات له وكذلك أعطى سبحانه لأهل العذر من الأجر ما أعطى للقوي العامل بفضله ففي الصحيح أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال في هذه الغزوة بعينها أن بالمدينة قوما ما سلكتم واديا ولا قطعتم شعبا إلا وهم معكم حبسهم العذر انتهى ١٢٢وقوله سبحانه وما كان المؤمنون لينفروا كافة الآية قالت فرقة أن المؤمنين الذين كانوا بالبادية سكانا ومبعوثين لتعليم الشرع لما سمعوا قول اللّه عز و جل ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب الآية أهمهم ذلك فنفروا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم خشية أن يكونوا عصاة في التخلف عن الغزو فنزلت هذه الآية في نفرهم ذلك وقالت فرقة سبب هذه الآية أن المنافقين لما نزلت الآيات في المتخلفين قالوا هلك أهل البوادي فنزلت هذه الآية مقيمة لعذر أهل البوادي قال ع فيجيء قوله ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب عموم في اللفظ والمراد به في المعنى الجمهور والأكثر وتجيء هذه الآية مبينة لذلك وقالت فرقة هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الكافة النفير والقتال وقال ابن عباس ما معناه أن هذه الآية مختصة بالبعوث والسرايا والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الغزو وقالت فرقة يشبه أن يكون التفقه في الغزو وفي السرايا لما يرون من نصرة اللّه لدينه وإظهاره العدد القليل من المؤمنين على الكثير من الكافرين وعلمهم بذلك صحة دين الإسلام ومكانته قال ع والجمهور على أن التفقه إنما هو بمشاهدة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصحبته وقيل غير هذا ت وصح عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا وقد استنفر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس في غزوة تبوك وأعلن بها حسب ما هو مصرح به في حديث كعب ابن مالك في الصحاح فكان العتب متوجها على من تأخر عنه بعد العلم فيظهر واللّه أعلم أن الآية الأولى باق حكمها كما قال ابن عباس وتكون الثانية ليست في معنى الغزو بل في شأن التفقه في الدين على الإطلاق وهذا هو الذي يفهم من استدلالهم بالآية على فضل العلم قد قالت فرقة أن هذه الآية ليست في معنى الغزو وإنما سببها قبائل من العرب أصابتهم مجاعة فنفروا إلى المدينة لمعنى المعاش فكادوا يفسدونها وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان وإنما اضرعه الجوع فنزلت الآية في ذلك والإنذار في الآية عام للكفر والمعاصي والحذر منها أيضا كذلك قال ابن المبارك في رقائقة أخبرنا موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي قال إذا أراد اللّه تبارك وتعالى بعبد خيرا جعل فيه ثلاث خصال فقها في الدين وزهادة في الدنيا وبصره بعيوبه انتهى ١٢٣وقوله تعالى يا أيها الذين أمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار قيل أن هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال الكفار كافة فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام قال ع وهذا ضعيف فإن هذه السورة من آخر ما نزل وقالت فرقة معنى الآية أن اللّه تبارك وتعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجنس الذي يليه من الكفرة وقوله سبحانه وليجدوا فيكم غلظة أي خشونة وبأسا ثم وعد سبحانه في آخر الآية وحض على التقوى التي هي ملاك الدين والدنيا وبها يلقى العدو وقد قال بعض الصحابة إنما تقاتلون الناس بأعمالكم ووعد سبحانه أنه مع المتقين ومن كان اللّه معه فلن يغلب ١٢٤وقوله تعالى وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول ايكم زادته هذه إيمانا الآية هذه الآية نزلت في شأن المنافقين وقولهم أيكم زادته هذه إيمانا يحتمل أن يكون لمنافقين مثلهم لقوم من قراباتهم على جهة الاستخفاف والتحقير لشأن السورة ثم ابتدأ عز و جل الرد عليهم بقوله فأما الذين أمنوا فزادتهم إيمانا وذلك أنه إذا نزلت سورة حدث للمؤمنين بها تصديق خاص لم يكن قبل فتصديقهم بما تضمنته السورة من أخبار وأمر ونهي أمر زائد على الذي كان عندهم قبل وهذا وجه من زيادة الإيمان ووجه آخر أن السورة ربما تضمنت دليلا تنبيها على دليل فيكون المؤمن قد عرف اللّه بعدة أدلة فإذا نزلت السورة زادت في أدلته ووجه آخر من وجوه الزيادة أن الإنسان ربما عرضه شك يسير لاحت له شبهة مشغبة فإذا نزلت السورة أرتفعت تلك الشبهة وقوي إيمانه ارتقى اعتقاده عن معارضة الشبهات والذين في قلوبهم مرض هم المنافقون والرجس في اللغة يجيء بمعنى القذر ويجيء بمعنى العذاب وحال هؤلاء المنافقين هي قذر وهي عذاب عاجل كفيل بآجل وإذا تجدد كفرهم بسورة فقد زاد كفرهم فذلك زيادة رجس إلى رجسهم ١٢٦وقوله سبحانه لا يرون يعني المنافقين وقرأ حمزة لا ترون بالتاء من فوق على معنى لا ترون أيها المؤمنون أنهم يفتنون أي يختبرون وقرأ مجاهد مرضة مرضتين والذين يظهر مما قبل الآية ومما بعدها أن الفتنة والاختبار إنما هي بكشف اللّه أسرارهم وإفشائه عقائدهم إذ يعلمون أن ذلك من عند اللّه وبهذا تقوم الحجة عليهم وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين ١٢٧وقوله سبحانه وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم المعنى وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحة أسرار المنافقين نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد أي هل معكم من ينقل عنكم هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم ثم انصرفوا عن طريق الاهتداء وذلك أنهم وقت كشف أسرارهم والأعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر فلو أريد بهم خير لكان ذلك الوقت مظنة الاهتداء وقد تقدم بيان قوله صرف اللّه قلوبهم ١٢٨وقوله عز و جل لقد جاءكم رسول من أنفسكم الآية مخاطبة للعرب في قول الجمهور وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم إذ جاءهم بلسانهم وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة وشرفوا به غابر الدهر وقوله من أنفسكم يقتضي مدحا لنسبه صلى اللّه عليه و سلم وأنه من صميم العرب وشرفها وقرأ عبد اللّه بن قسيط المكي من أنفسكم بفتح الفاء من النفاسة ورويت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وقوله ما عنتم معناه عنتكم فما مصدرية والعنت المشقة وهي هنا لفظة عامة أي عزيز عليه ما شق عليكم من قتل واسار وامتحان بحسب الحق واعتقادكم أيضا معه حريص عليكم أي على إيمانكم وهداكم وقوله بالمؤمنين رؤوف أي مبالغ في الشفقة عليهم قال أبو عبيدة الرأفة أرق الرحمة ثم خاطب سبحانه نبيه ١٢٩بقوله فإن تولوا أي اعرضوا فقل حسبي اللّه لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم هذه الآية من آخر ما نزل وصلى اللّه على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما |
﴿ ٠ ﴾