سورة الفتح

وهي مدنية

هذه السورة نزلت على النبي صلى اللّه عليه وسلم - منصرفة من الحديبية وفي ذلك أحاديث كثيرة عن أنس وابن مسعود وغيرهما وفي تلك السفرة قال النبي صلى اللّه عليه وسلم - لعمر لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي من الدينا وما فيها خرجه البخاري وغيره

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

قوله عز و جل إنا فتحنا لك فتحا مبينا الآية قوم يريد فتح مكة وقال جمهور

الناس وهو الصحيح الذي تعضده قصة الحديبية أن قوله إنا فتحنا لك إنما معناه هو ما يسر اللّه عز و جل لنبيه في تلك الخرجة من الفتح البين الذي استقبله ونزلت السورة مؤنسة للمؤمنين لأنهم كانوا استوحشوا من رد قريش لهم ومن تلك المهادنة التي جعلها اللّه سببا للفتوحات واستقبل النبي صلى اللّه عليه وسلم - في تلك السفرة إنه هادن عدوه ريثما يتقوى هو وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية حيث وضع فيه سهمه وثاب الماء حتى كفى الجيش واتفقت بيعة الرضوان وهي الفتح الأعظم قاله جابر بن عبداللّه والبراء بن عازب وبلغ هديه محله قاله الشعبي واستقبل فتح خيبر وامتلأت أيدي المؤمنين وظهرت في ذلك الوقت الروم على فارس فكانت من جملة الفتح فسربها ص - هو والمؤمنون لظهور أهل الكتاب على المجوس وشرفه اللّه بأن أخبره أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أي وإن لم يكن ذنب ت قال الثعلبي قوله ليغفر لك اللّه قال أبو حاتم هذه لام القسم لما حذفت النون من فعله كسرت ونصب فعلها تشبيها بلام كي انتهى قال عياض ومقصد الآية إنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب أن لو كان انتهى قال أبو حيان ليغفر اللام للعلة وقال ع هي لام الصيرورة

وقيل هي لام القسم ورد بأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها وأجيب بأن الكسر قد علل بالحمل على لام كي وأما الحركة فليست نصبا بل هي الفتحة الموجودة مع النون بقيت بعد حذفها دالة على المحذوف ورد بأنه لم يحفظ من كلامهم واللّه ليقوم ولا باللّه ليخرج زيد انتهى وفي صحيح البخاري عن أنس ابن مالك إنا فتحنا لك فتحا مبينا الحديبية انتهى

وقوله سبحانه ويتم نعمته عليه أي بإظهارك وتغليبك على عدوك والرضوان في الآخرة والسكينة فعيلة من السكون وهو تسكين قلوبهم لتلك الهدنة مع قريش حتى اطمأنت وعلموا أن وعد اللّه حق

٥

وقوله سبحانه ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات

تجري من تحتها الأنهار الآية روي في معنى هذه الآية لما نزلت وما أدري ما يفعل بي ولا بكم تكلم فيها أهل الكفر وقالوا كيف نتبع من لا يعرف ما يفعل به وبالناس فبين اللّه في هذه السورة ما يفعل به بقوله ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر فلما سمعها المؤمنون قالوا هنيئا لك يا رسول اللّه لقد بين اللّه لك ما يفعل بك فما يفعل بنا فنزلت ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات إلى قوله مصيرا فعرفه اللّه ما يفعل به وبالمؤمنين وبالكافرين وذكر النقاش أن رجلا من عك قال هذا الذي لرسول اللّه فما لنا فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم - هي لي ولأمتي كهاتين وجمع بين أصبعيه

وقوله ويكفر عنهم سيئاتهم هو من ترتيب الجمل في السرد لا ترتيب وقوع معانيها لأن تكفير السيئات قبل إدخالهم الجنة

وقوله الظانين باللّه ظن السوء قيل معناهم من قولهم لن ينقلب الرسول الآية

وقيل هو كونهم يعتقدون اللّه بغير صفاته العلى

وقوله عليهم دائرة السوء أي دائرة السوء الذي أرادوه بكم في ظنهم السوء ويقال للأقدار والحوادث التي هي في طي الزمان دائرة لأنها تدور بدوران الزمان

٨

وقوله سبحانه إنا أرسلناك شاهدا الآية من جعل الشاهد محصل الشهادة من يوم يحصلها فقوله شاهدا حال واقعة ومن جعل الشاهد مؤدي الشهادة فهي حال مستقبلة وهي التي يسميها النحاة المقدرة والمعنى شاهدا على الناس بأعمالهم وأقوالهم حين بلغت ومبشرا أهل الطاعة برحمة اللّه ونذيرا من عذاب اللّه أهل المعصية ومعنى تعزروه تعظموه وتكبروه قاله ابن عباس وقرأ ابن عباس وغيره تعززوه بزاءين من العزة ثال الجمهور الضمير في تعزروه وتوقروه لللنبي صلى اللّه عليه وسلم - وفي تسبحوه للّه عز و جل والبكرة الغدو والأصيل العشي

١٠

وقوله سبحانه إن الذين يبايعونك يريد في بيعة الرضوان وهي بيعةالشجرة حين أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - الأهبة لقتال قريش لما بلغه قتل عثمان بن عفان رسوله إليهم

وذلك قبل أن ينصرف من الحديبية وكان في ألف وأربعمائة وبايعهم ص - على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد حتى قال سلمة ابن الأكوع وغيره بايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - على الموت وقال عبد اللّه ابن عمر وجابر بن عبد اللّه بايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - على أن لا نفر والمبايعة في هذه الآية مفاعلة من البيع لأن اللّه تعالىاشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ومعنى إنما يبايعون اللّه إن صفقتهم إنما يمضيها ويمنح الثمن اللّه تعالى ت وهذا تفسير لا يمس الآية ولا بد وقال الثعلبي إنما يبايعون اللّه أي أخذك البيعة عليهم عقد اللّه عليهم انتهى وهذا تفسير حسن

وقوله تعالى يد اللّه قال جمهور المتأولين اليد بمعنى النعمة إذ نعمة اللّه في نفس هذه المبايعة لما يستقبل من محاسنها فوق أيديهم التي مدوها لبيعتك

وقيل المعنى قوة اللّه فوق قواهم في نصرك ت وقال الثعلبي يد اللّه فوق أيديهم أي بالوفاء والعهد

وقيل بالثواب

وقيل يد اللّه في المنة عليهم فوق أيديهم في الطاعة عند المبايعة وهذا حسن قريب من الأول

وقوله تعالى فمن نكث أي فمن نقض هذا العهد فإنما يجني على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه اللّه فسنؤتيه أجرا عظيما وهو الجنة

١١

وقوله سبحانه سيقول لك المخلفون من الأعراب قال مجاهد وغيره من جهينة ومزينة ومن كان حول المدينة من الأعراب وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم - حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرا من قريش وأحرم بالعمرة وساق معه الهدي ليعمل الناس أنه لا يريد حربا فتثاقل عنه هؤلاء المخلفين ورأوا أنه يستقبل عدوا عظيما من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة وهم الأحابيش ولم يكن تمكن إيمان هؤلاء المخلفين فقعدوا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم - وتخلفوا وقالوا لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة ففضحهم اللّه في هذه الآية

وأعلم نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم - بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم فكان كما أخبر اللّه سبحانه فقالوا شغلتنا أموالنا وأهلونا عنك فاستغفر لنا وهذا منهم خبث وإبطال لأنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم فلذلك

قال تعالى يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ثم

قال تعالى لنبيه عليه السلام قل لهم فمن يملك لكم من اللّه شيئاإن أراد بكم ضرا أي من يحمي منه أموالكم وأهليكم إن أراد بكم فيها سوءا وفي مصحف ابن مسعود إن أراد بكم سوءا ثم رد عليهم بقوله بل كان اللّه بما تعملون خبيرا ثم فسر لهم العلة التي تخلفوا من أجلها بقوله بل ظننتم الآية وبورا معناه هلكى فاسدين والبوار الهلاك والبور في لغة أزد عمان الفاسد ثم رجى سبحانه بقوله وللّه ملك السموات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان اللّه غفورا رحيما ثم إن اللّه سبحانه أمر نبيه على ما روي بغزو خيبر ووعده بفتحها وأعلمه أن المخلفين إذارأوا مسير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - إلى يهود وهم عدو مستضعف طلبواالكون معه رغبة في عرض الدنيا والغنيمة فكان كذلك

وقوله تعالى يريدون ان يبدلوا كلام اللّه معناه ان يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر وقال ابن زيد كلام اللّه هو

قوله تعالى لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا قال ع وهذا ضعيف لأن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك في آخر عمره ص - وآية هذه السورة نزلت عام الحديبية وأيضا فقد غزت جهينة ومزينة بعد هذه المدة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - يعني غزوة الفتح فتح مكة ت قال الثعلبي وعلى التأويل الأول عامة أهل التأويل وهو أصوب من تأويل ابن زيد

وقوله كذلكم قال اللّه من قبل يريد وعده قبل باختصاصهم بها وباقي الآية بين

وقوله سبحانه ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد قال قتادة وغيره هم هوازن ومن حارب النبي عليه السلام يوم حنين وقال الزهري وغيره هم أهل الردة وبنو حنيفة باليمامة وحكى

الثعلبي عن رافع بن خديج أنه قال واللّه لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم المراد

وقيل هم فارس والروم وقرأ الجمهور  يسلمون على القطع أي  هم يسلمون دون حرب

قال ابن العربي والذين تعين قتالهم حتى يسلموا من غير قبول جزية هم العرب في أصح الأقوال  المرتدون فأما فارس والروم فلا يقاتلون إلى أن يسلموا بل أن بذلوا الجزية قبلت منهم وهذه الآية أخبار بمغيب فهي من معجزات النبي صلى اللّه عليه وسلم - انتهى من الأحكام

وقوله فان تطيعوا اي فيما تدعون اليه وباقي الآية بين ثم ذكر تعالى اهل الاعذار ورفع الحرج عنهم وهو حكم ثابت لهم الى يوم القيامة ومع ارتفاع الحرج فجائز لهم الغزو واجرهم فيه مضاعف وقد غزا ابن ام مكتوم وكان يمسك الراية فى بعض حروب القادسية وقد خرج النسائي هذا المعنى وذكر ابن ام مكتوم رحمه اللّه

١٨

وقوله عز و جل لقد رضي اللّه عنها المؤمنين الآية تشريف لهم رضي اللّه عنهم وقد تقدم القول في المبايعة ومعناها وكان سبب هذه المبايعة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - أراد أن يبعث إلى مكة رجلا يبين لهم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم - أراد لا يريد حربا وإنما جاء معتمرا فبعث إليهم خداش بن أمية الخزاعي وحمله ص - على جمل له يقال له الثعلب فلما كلمهم عقروا الجمل وأرادوا قتل خداش فمنعته الأحابيش وبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم - فأراد بعث عمر بن الخطاب فقال له عمر يا رسول اللّه إني أخاف قريشا على نفسي وليس بمكة من بني عدي أحد يحميني ولكن ابعث عثمان فهو أعز بمكة مني فبعثه النبي صلى اللّه عليه وسلم - فذهب فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي فنزل عن دابته فحمله عليها وأجاره حتى بلغ الرسالة فقالوا له إن شئت يا عثمان أن تطوف بالبيت فطف به فقال ما كنت لأطوف حتى يطوف به النبي صلى اللّه عليه وسلم - ثم إن بني

سعيد بن العاصي حبسوا عثمان على جهة المبرة فأبطأ على النبي صلى اللّه عليه وسلم - وكانت الحديبية من مكة على نحو عشرة أميال فصرخ صارخ من عسكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - قتل عثمان فجثا رسول الللّه ص - والمؤمنون وقالوا لا نبرح إن كان هذا حتى نناجز القوم ثم دعا الناس إلى البيعة فبايعوه ص - ولم يتخلف عنها إلا الجد بن قيس المنافق وجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم - يده على يده وقال هذه يد عثمان وهي خير ثم جاء عثمان سالما والشجرة سمرة كانت هنالك ذهبت بعد سنين

وقوله سبحانه فعلم ما في قلوبهم قال الطبري ومنذر بن سعيد معناه من الإيمان وصحته والحب في الدين والحرص فيه وقرأ الناس وأثابهم قال هارون وقد قرئت وآتاهم بالتاء بنقطتين والفتح القريب خيبر والمغانم الكثيرة فتح خيبر

وقوله تعالى وعدكم اللّه الآية مخاطبة للمؤمنين ووعد بجميع المغانم التي أخذها المسلمون ويأخدونها إلى يوم القيامة قاله مجاهد وغيره

وقوله فعجل لكم هذه يريد خيبر وقال زيد بن اسلم وابنه المغانم الكثيرة خيبر وهذه اشارة الى البيعة والتخلص من امر قريش وقاله ابن عباس

وقوله سبحانه وكف أيدي الناس عنكم قال قتادة يريد كف أيديهم عن أهل المدينة فى مغيب النبي عليه السلام والمؤمنين ولتكون ءاية اي علامة على نصر المؤمنين وحكى الثعلبي عن قتادة أن المعنى كف اللّه غطفان ومن معها حين جاءوا لنصر خيبر

وقيل أراد كف قريشا

٢١

وقوله سبحانه وأخرى لم تقدروا عليها قال ابن عباس الإشارة إلى بلاد فارس والروم وقال قتادة والحسن الأشارة إلى مكة وهذا قول يتسق معه المعنى ويتأيد

وقوله قد أحاط اللّه بها معناه بالقدرة والقهر لأهلها أي قد سبق في علمه ذلك وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها ت قوله وظهر فيها إلى آخره كلام غير محصل ولفظ الثعلبي وأخرى لم تقدروا عليها أي وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها قد أحاط

بها لكم حتى يفتحها عليكم وقال ابن عباس علم اللّه أنه يفتحها لكم قال مجاهد هو ما فتحوه حتى اليوم ثم ذكر بقية الأقوال انتهى

٢٢

وقوله سبحانه ولو قاتلكم الذين كفروا يعني كفار قريش في تلك السنة لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا

وقوله سنة اللّه أي كسنة اللّه إشارة إلى وقعة بدر

وقيل إشارة إلى عادة اللّه من نصر الأنبياء ونصب سنة على المصدر

وقوله تعالى وهو الذي كف أيديهم عنكم الآية روي في سببها أن قريشا جمعت جماعة من فتيانها وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل وخرجوا يطلبون غرة في عسكر النبي صلى اللّه عليه وسلم -

واختلف الناس في عدد هؤلاء اختلافا متفاوتا فلذلك اختصرته فلما أحس بهم المسلمون بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - في أثرهم خالد بن الوليد وسماه يومئذ سيف اللّه في جملة من الناس ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة وأسروا منهم جملة فسيقوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم - فمن عليهم وأطلقهم قال الواحدي وكان ذلك سبب الصلح بينهم انتهى

٢٥

وقوله سبحانه هم الذين كفروا يعني أهل مكة وصدوكم عن المسجد الحرام أي منعوكم من العمرة وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم - خرج من المدينة إلى الحديبية في ذي القعدة سنة ست يريد العمرة وتعظيم البيت وخرج معه بمائة بدنة

وقيل بسبعين فأجمعت قريش لحربه وغوروا المياه التي تقرب من مكة فجاء ص - حتى نزل على بير الحديبية وحينئذ وضع سهمه في الماء فجرى غمرا حتى كفى الجيش ثم بعث ص - إليهم عثمان كما تقدم وبعثوا هم رجالا آخرهم سهيل بن عمرو وبه انعقد الصلح على أن ينصرف ص - ويعتمر من قابل فهذا صدهم إياه وهو مستوعب في السير والهدي معطوف على الضمير في صدوكم أي وصدوا الهدي ومعكوفا حال ومعناه محبوسا تقول عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته وحبس الهدي من قبل المشركين هو

بصدهم ومن قبل المسلمين لرؤيتهم ونظرهم في أمرهم لأجل أن يبلغ الهدي محله وهو مكة والبيت وهذا هو حبس المسلمين وذكر تعالى العلة في أن صرف المسلمين ولم يمكنهم من دخول مكة في تلك الوجهة وهي أنه كان بمكة مؤمنون من رجال ونساء خفي إيمانهم فلو استباح المسلمون بيضتها أهلكوا أولائك المؤمنين قال قتادة فدفع اللّه عن المشركين بأولائك المؤمنين والوطء هنا الإهلاك بالسيف وغيره ومنه قوله ص - اللّهم اشدد وطأتك على مضر قال أبو حيان ولولا رجال جوابها محذوف لدلالة الكلام عليه أي ما كف أيديكم عنهم انتهى والمعرة السوء والمكروه اللاحق مأخوذ من العر والعرة وهو الحرب الصعب اللازم

واختلف في تعيين هذه المعرة فقال الطبري وحكاه الثعلبي هي الكفارة وقال منذر المعرة أن يعيبهم الكفار ويقولوا قتلوا أهل دينهم وقال بعض المفسرين هي الملام والقول في ذلك وتألم النفس في باقي الزمان وهذه أقوال حسان وجواب لولا محذوف تقديره لولا هؤلاء لدخلتم مكة لكن شرفنا هؤلاء المؤمنين بأن رحمناهم ودفعنا بسببهم عن مكة ليدخل اللّه أي ليبين للناظر أن اللّه يدخل من يشاء في رحمته أي ليقع دخولهم في رحمة اللّه ودفعه عنهم ت وقال الثعلبي قوله بغير علم يحتمل أن يريد بغير علم ممن تكلم بهذا والمعرة المشقة ليدخل اللّه في رحمته أي في دين الإسلام من يشاء من أهل مكة قبل أن تدخلوها انتهى

وقوله تعالى لو تزيلوا أي لو ذهبوا عن مكة تقول زلت زيدا عن موضعه إزالة أي أذهبته وليس هذا الفعل من زال يزول

وقد قيل هو منه وقرأ أبو حيوة وقتادة تزايلوا بألف أي ذهب هؤلاء عن هؤلاء وقال النحاس

وقد قيل إن قوله ولولا رجال مؤمنون الآية يريد من في أصلاب الكافرين ممن سيؤمن في غابر الدهر وحكاه الثعلبي والنقاش عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم

مرفوعا والحمية التي جعلوها هي حمية أهل مكة في الصد قال الزهري وهي حمية سهيل ومن شاهد منهم عقد الصلح وجعلها سبحانه حمية جاهلية لأنها كانت منهم بغير حجة إذ لم يأت ص - محاربا لهم وإنام جاء معتمرا معظما لبيت اللّه والسكينة هي الطمأنينة إلى أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - والثقة بوعد اللّه والطاعة وزوال الأنفة التي لحقت عمر وغيره وكلمة التقوى قال الجمهور هي لا إله إلا اللّه

وروي ذلك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم - وفي مصحف ابن مسعود وكانوا أهلها وأحق بها والمعنى كانوا أهلها على الإطلاق في علم اللّه وسابق قضائه لهم

وروى أبو أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم - أنه قال إذا نادى المنادي فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء فمن نزل به كرب  شدة فليتحين المنادي فإذا كبر كبر وإذا تشهد تشهد وإذا قال حي على الصلاة قال حي على الصلاة وإذا قال حي على الفلاح قال حي على الفلاح ثم يقول رب هذه الدعوة الصادقة المستجاب لها دعوة الحق وكلمة التقوى أحينا عليها وأمتنا عليها وابعثنا عليها واجعلنا من خيار أهلها أحياء وأمواتا ثم يسئل اللّه حاجته رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد انتهى من السلاح فقد بين ص - في هذا الحديث معنى كلمة التقوى على نحو ما فسر به الجمهور والصحيح أنه يعوض عن الحيلة الحوقلة ففي صحيح مسلم ثم قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا باللّه ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا باللّه الحديث انتهى

وقوله تعالى وكان اللّه بكل شيء عليما إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن كفار قريش بسببهم وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية فيروى أنه لما انعقد الصلح أمن الناس في تلك المدة الحرب والفتنة وامتزجوا وعلت دعوة الإسلام وانقاد إلى الإسلام كل من له فهم وزاد عدد الإسلام في تلك المدة أضعاف ما كان قبل ذلك قال ع ويقتضي ذلك أن

النبي صلى اللّه عليه وسلم - كان في عام الحديبية في أربع عشرة مائة ثم سار إلى مكة بعد ذلك بعامين في عشرة آلاف فارس ص - ت المعروف عشرة آلاف

وقوله فارس ما أظنه يصح فتأمله في كتب السيرة

٢٧

وقوله سبحانه لقد صدق اللّه رسوله الرؤيا بالحق الآية روي في تفسيرها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم - رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون وقال مجاهد رأى ذلك بالحديبية فأخبر الناس بهذه الرؤيا فوثق الجميع بأن ذلك يكون في وجهتهم تلك وقد كان سبق في علم اللّه أن ذلك يكون لكن ليس في تلك الوجهة فلما صدهم أهل مكة قال المنافقون وأين الرؤيا ووقع في نفوس بعض المسلمين شيء من ذلك فأجابهم النبي صلى اللّه عليه وسلم - بأن قال وهل قلت لكم يكون ذلك في عامنا هذا  كما قال ونطق أبو بكر قبل ذلك بنحوه ثم أنزل اللّه عز و جل لقد صدق اللّه رسوله الرؤيا بالحق الآيةواللام في لتدخلن لام القسم

وقوله إن شاء اللّه اختلف في هذا الاستثناء فقال بعض العلماء إنما استثنى من حيث أن كل واحد من الناس متى رد هذا الوعد إلى نفسه أمكن أن يتم الوعد فيه وإن لا يتم إذ قد يموت الإنسان  يمرض لحينه فلذلك استثنى عز و جل في الجملة إذ فيهم ولا بد من يموت  يمرض ت وقد وقع ذلك حسبما ذكر في السير

وقال آخرون هو أخذ من اللّه تعالى على عباده بأدبه في استعمال الاستثناء في كل فعل ت قال ثعلب استثنى اللّه تعالى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون

وقيل غير هذا ولما نزلت هذه الآية علم المسلمون أن تلك الرؤيا ستخرج فيما يستأنفونه من الزمان فكان كذلك فخرج ص - في العام المقبل واعتمر

وقوله سبحانه فعلم ما لم تعلموا يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه

وقوله من دون ذلك أي من قبل ذلك وفيما

يدنو إليكم

واختلف في الفتح القريب فقال كثير من العلماء هو بيعة الرضوان وصلح الحديبية وقال ابن زيد هو فتح خيبر

٢٩

وقوله تعالى محمد رسول اللّه قال جمهور الناس هو ابتداء وخبر استوفى فيه تعظيم منزلة النبي صلى اللّه عليه وسلم -

وقوله والذين معه ابتداء وخبره أشداء ورحماء خبر ثان وهذا هو الراجح لأنه خبر مضاد لقول الكفار لا تكتب محمد رسول اللّه والذين معه إشارة إلى جميع الصحابة عند الجمهور وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن الإشارة إلى من شهد الحديبية ت ووصف تعالى الصحابة بأنهم رحماء بينهم وقد جاءت أحاديث صحيحة في تراحم المؤمنين حدثنا الشيخ ولي الدين العراقي بسنده عن عبداللّه بن عمرو بن العاص أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - قال الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء وأخرج الترمذي من طريق أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - أنه قال لا تنزع الرحمة إلا من قلب شقي وخرج عن جرير بن عبداللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - من لا يرحم الناس لا يرحمه اللّه قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وهذا الحديث خرجه مسلم عن جرير وخرج مسلم أيضا من طريق أبي هريرة من لا يرحم لا يرحم انتهى وبالجملة فأسباب الألفة والتراحم بين المؤمنين كثيرة ولو بأن تلقى أخاك بوجه طلق وكذلك بذل السلام وطيب الكلام فالموفق لا يحتقر من المعروف شيأ وقد روى الترمذي الحكيم في كتاب ختم الأولياء له بسنده عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - يقول إذا التقى المسلمان كان أحبهما إلى اللّه سبحانه أحسنهما بشرا بصاحبه  قال أكثرهما بشرا بصاحبه فإذا تصافحا أنزل اللّه عليهما مائة رحمة تسعون منها للذي بدأ وعشرة للذي صوفح انتهى

وقوله تراهم ركعا سجدا أي ترى هاتين الحالتين كثيرا فيهم ويبتغون معناه يطلبون

وقوله سبحانه سيماهم في وجوههم

قال مالك بن أنس كانت جباههم متربة من كثرة السجود في التراب وقاله عكرمة ونحوه لأبي العالية وقال ابن عباس وخالد الحنفي وعطية هو وعد بحالهم يوم القيامة من اللّه تعالى يجعل لهم نورا من أثر السجود قال ع كما يجعل غرة من أثر الوضوء حسبما هو في الحديث ويؤيد هذا التأويل اتصال القول بقوله فضلا من اللّه وقال ابن عباس السمت الحسن هو السيما وهو خشوع يبدو على الوجه قال ع وهذه حالة مكثري الصلاة لأنها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر وقال الحسن ابن أبي الحسن وشمر بن عطية السيما بياض وصفرة وتبهيج يعتري الوجوه من السهر وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس السيما حسن يعتري وجوه المصلين قال ع ومن هذا الحديث الذي في الشهاب من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار قال ع وهذا حديث غلط فيه ثابت بن موسى الزاهد سمع شريك بن عبداللّه يقول حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ثم نزع شريك لما رأى ثابتا الزاهد فقال يعنيه من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار فظن ثابت أن هذاالكلام حديث متركب على السند المذكور فحدث به عن شريك ت واعلم أن اللّه سبحانه جعل حسن الثناء علامة على حسن عقبى الدار والكون في الجنة مع الأبرار جاء بذلك صحيح الآثار عن النبي المختار ففي صحيح البخاري ومسلم عن أنس قال مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم - وجبت ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال وجبت فقال عمر ما وجبت فقال هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار أنتم شهداء اللّه في الأرض انتهى ونقل صاحب الكوكب الدري من مسند البزار عن النبي صلى اللّه عليه وسلم - أنه قال يوشك أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار فقالوا يا رسول اللّه بم قال بالثناء الحسن والثناء السيء انتهى ونقله صاحب كتاب التشوف إلى رجال التصوف

وهو الشيخ الصالح أبو يعقوب يوسف بن يحيى التاذلي عن ابن أبي شيبة ولفظه وخرج أبو بكر بن أبي شيبة أنه قال ص - في خطبته توشكوا أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار  قال خياركم من شراركم قالوا بما يا رسول اللّه قال بالثناء الحسن وبالثناء السيئ أنتم شهداء اللّه بعضكم على بعض ومن كتاب التشوف قال وخرج البزار عن أنس قال قيل يا رسول اللّه من أهل الجنة قال من لا يموت حتى تملأ مسامعه مما يحبه قيل فمن أهل النار قال من لا يموت حتى تملأ مسامعه مما يكره قال وخرج البزار عن أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول اللّه دلني على عمل أدخل به الجنة قال لا تغضب وأتاه آخر فقال متى أعلم أني محسن قال إذا قال جيرانك أنك محسن فإنك محسن وإذا قالوا أنك مسيء فإنك مسيء انتهى ونقل القرطبي في تذكرته عن عبداللّه بن السائب قال مرت جنازة بابن مسعود فقال لرجل قم فانظر أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار فقال الرجل ما يدريني أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار قال انظر ما ثناء الناس عليه فأنتم شهداء اللّه في الأرض انتهى وباللّه التوفيق وإياه نستعين

وقوله سبحانه ذلك مثلهم في التوراة الآية قال مجاهد وجماعة من المتأولين المعنى ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل وتم القول وكزرع ابتداء تمثيل وقال الطبري وحكاه عن الضحاك المعنى ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة وتم القول ثم ابتدأ ومثلهم في الإنجيل كزرع ت

وقيل غير هذا وأبينها الأول وما عداه يفتقر إلى سند يقطع الشك

وقوله تعالى كزرع على كل قول هو مثل للنبي عليه السلام وأصحابه في أن النبي عليه السلام بعث وحده فكن كالزرع حبة واحدة ثم كثر المسلمون فهم كالشطء وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل يقال أشطأت الشجرة إذا أخرجت غصونها وأشطأ الزرع إذا أخرج شطأه وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال الزرع النبي صلى اللّه عليه وسلم

فآزره علي بن أبي طالب فاستغلظ بأبي بكر فاستوى على سوقه بعمر بن الخطاب ت وهذا لين الإسناد والمتن كما ترى واللّه أعلم بصحته

وقوله تعالى فآزره له معنيان أحدهما ساواه طولا

والثاني أن آزره ووازره بمعنى أعانه وقواه مأخوذ من الأزر وفاعل آزر يحتمل أن يكون الشطء ويحتمل أن يكون الزرع

وقوله تعالى ليغيظ بهم الكفار ابتداء كلام قبله محذوف تقديره جعلهم اللّه بهذه الصفة ليغيظ بهم الكفار قال الحسن من غيظ الكفار قول عمر بمكة لا يعبد اللّه سرا بعد اليوم

وقوله تعالى منهم هي لبيان الجنس وليست للتبعيض لأنه وعد مرج للجميع

﴿ ٠