سورة الحديد

وهي مدنية ويشبه صدرها أن يكون مكيا

روي عن ابن عباس أن اسم اللّه الأعظم هو في ست آيات من أول سورة الحديد

وروي أن الدعاء بعد قراءتها مستجاب

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

قوله عز و جل سبح للّه ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم قال أكثر المفسرين التسبيح هنا هو التنزيه المعروف في قولهم سبحان اللّه وهذا عندهم إخبار بصيغة الماضي مضمنه الدوام والاستمرار ثم اختلفوا هل هذا التسبيح حقيقة  مجاز على معنى أن أثر الصنعة فيها تنبه الراءي على التسبيح قال الزجاج وغيره والقول بالحقيقة أحسن وهذا كله في الجمادات وأما ما يمكن التسبيح منه فقول واحد أن تسبيحهم حقيقة

وقوله تعالى هو الأول أي الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة والآخر الدائم الذي ليس له نهاية منقضية قال أبو بكر الوراق هو الأول بالأزلية والآخر بالأبدية والظاهر معناه بالأدلة ونظر العقول في صنعته والباطن بلطفه وغوامض حكمته وباهر صفاته التي لا تصل إلى معرفتها على ما هي عليه الأوهام وباقي الآية تقدم تفسير نظيره

وقوله تعالى وهو معكم أين ما كنتم معناه بقدرته وعلمه وإحاطته وهذه آية جمعت الأمة على هذا التأويل فيها وباقي الآية بين

٧

وقوله سبحانه آمنوا باللّه ورسوله والآية أمر للمؤمنين بالثبوت على الإيمان ويروى أن هذه الآية نزلت

في غزوة العسرة قاله الضحاك وقال الإشارة بقوله فالذين آمنوا منكم وأنفقوا إلى عثمان بن عفان يريد ومن في معناه كعبد الرحمن بن عوف وغيره

وقوله مما جعلكم مستخلفين فيه تزهيد وتنبيه على أن الأموال إنما تصير إلى الإنسان من غيره ويتركها لغيره وليس له من ذلك الا ما أكل فأفنى  تصدق فأمضى ويروى أن رجلا مر بأعرابي له إبل فقال له يا أعرابي لمن هذه الإبل قال هي للّه عندي فهذا موفق مصيب أن صحب قوله عمله

٨

وقوله سبحانه وما لكم لا تؤمنون باللّه الآية توطئة لدعائهم رضي اللّه عنهم لأنهم أهل هذه الرتب الرفيعة وإذا تقرر ان الرسول يدعوهم وأنهم ممن أخذ اللّه ميثاقهم فيكف يمتنعون من الإيمان

وقوله إن كنتم مؤمنين أي إن دمتم على إيمانكم والظلمات الكفر والنور الإيمان وباقي الآية وعد وتأنيس

١٠

وقوله تعالى ومالكم لا تنفقوا في سبيل اللّه وللّه ميراث السموات والأرض المعنى وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل اللّه وأنتم تموتون وتتركون أموالكم فناب مناب هذا القول قوله وللّه ميراث السموات والأرض وفيه زيادة تذكير باللّه وعبرة وعنه يلزم القول الذي قدرناه

وقوله تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح الآية الأشهر في هذه الآية أنها نزلت بعد الفتح

واختلف في الفتح المشار إليه فقال أبو سعيد الخدري والشعبي هو فتح الحديبية وقال قتادة ومجاهد وزيد بن أسلم هو فتح مكة الذي أزال الهجرة قال ع وهذا هو المشهور الذي قال فيه النبي صلى اللّه عليه وسلم - لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وحكم الآية باق غابر الدهر من أنفق في وقت حاجة السبيل أعظم أجرا ممن أنفق مع استغناء السبيل والحسنى الجنة قاله مجاهد وقتادة والقرض السلف والتضعيف من اللّه تعالى هو في الحسنات وقد مر ذكر ذلك والأجر الكريم الذييقترن به رضى وإقبال هذا معنى الدعاء بيا كريم العفو أي إن مع عفوه رضى وتنعيما

١٢

وقوله

سبحانه يوم ترى المؤمينن المؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم الآية العامل في يوم قوله وله أجر كريم والرؤية هنا رؤية عين والجمهور أن النور هنا هو نور حقيقة وقد روي في هذا عن ابن عباس وغيره أثار مضمنها أن كل مؤمن ومظهر للإيمان يعطي يوم القيامة نوار فيطفأ نور كل منافق ويبقى نور المؤمنون حتى أن منهم من نوره يضيء كما بين مكة وصنعاء رفعه قتادة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم - ومنهم من نوره كالنخلة السحوق ومنهم من نوره يضيء ما قرب من قدميه قاله ابن مسعود ومنهم من يهم بالانطفاء مرة ويبين مرة على قدر المنازل في الطاعة والمعصية قال الفخر قال قتادة ما من عبد إلا وينادي يوم القيامة يا فلان هذا نورك يا فلان لا نور لك نعوذ باللّه من ذلك واعلم أن العلم الذي هو نور البصيرة أولى بكونه نورا من نور البصر وإذا كان كذلك ظهر أن معرفة اللّه تعالى هي النور في القيامة فمقادير الأنوار يوم القيامة على حسب مقادير المعارف في الدنيا اننتهى ونحوه للغزالي وخص تعالى بين الأيدي بالذكر لأنه موضع حاجة الإنسان إلى النور

واختلف في

قوله تعالى وبأيمانهم فقال بعض المتأولين المعنى وعن إيمانهم فكأنه خص ذكر جهة اليمين تشريفا وناب ذلك مناب أن يقول وفي جميع جهاتهم وقال جمهور المفسرين المعنى يسعى نورهم بين أيديهم يريد الضوء المنبسط من أصل النور وبإيمانهم أصله والشيء الذي هو متقد فيه فتضمن هذا القول أنهم يحملون الأنوار وكونهم غير حاملين أكرم الأتري أن فضيلة عباد بن بشر وأسيد بن حضير غنما كانت بنور لا يحملانه هذا في الدنيا فكيف بالآخرة ت وفيما قاله ع عندي نظر وأيضا فأحوال الآخرة لا تقاس على احوال الدنيا

وقوله تعالى بشراكم أي يقال بشراكم جنات أي دخول جنات ت وقد جاءت بحمد اللّه أثار بتبشير هذه الأمة المحمدية وخرج ابن ماجه قال أخبرنا جبارة بن المغلس قال حدثنا عبد الأعلى عن أبي بردة

عن أبيه قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم - إذا جمع اللّه الخلائق يوم القيامة أذن لأمة صلى اللّه عليه وسلم - في السجود فسجدوا طويلا ثم يقال ارفعوا رءوسكم فقد جعلنا عدتكم فداءكم من النار قال ابن ماجه وحدثنا جبارة بن المغلس حدثنا كثير بن سليمان عن أنس بن مالك قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم - أن هذه الأمة أمة مرحومة عذابها بأيديها فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من المسلمين رجل من المشركين فيقال هذا فداؤك من النار وفي صحيح مسلم دفع اللّه لكل مسلم يهوديا  نصرانيا فيقول هذا فداؤك من النار انتهى من التذكرة

وقوله تعالى يوم يقول المنافقون قيل يوم هو بدل من الأول

وقيل العامل فيه اذكر قال ع ويظهر لي أن العامل فيه

قوله تعالى ذلك هو الفوز العظيم ويجيء معنى الفوز أفخم كأنه يقول إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده ابدع وأفخم وقول المنافقين هذه المقالة المحكية هو عند انطفاء أنوارهم كما ذكرنا قبل وقولهم انظرونا معناه انتظرونا وقرأ حمزة وحده انظرونا بقطع الألف وكسر الظاء ومعناه أخرونا منه فنظرة إلى ميسرة ومعنى قولهم أخرونا أي أخروا مشيكم لنا حتى نلتحق فنقتبس من نوركم واقتبس الرجل أخذ من نور غيره قبسا قال الفخر القبس الشعلة من النار والسراج والمنافقون طمعوا في شيء من أنوار المؤمنين وهذا منهم جهل لأن تلك الأنوار نتائج الأعمال الصالحة في الدنيا وهم لم يقدموها قال الحسن يعطى يوم القيامة كل أحد نورا على قدر عمله ثم يؤخذ من حجر جهنم ومما فيها من الكلاليب والحسك ويلقى على الطريق ثم تمضي زمرة من المؤمنين وجوههم كالقمر ليلة البدر ثم تمضي زمرة أخرى كأضوأ كوكب في السماء ثم على ذلك ثم تغشاهم ظلمة تطفىء نور المنافقين فهنالك يقول المنافقون للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم انتهى

وقوله تعالى قيل ارجعوا وراءكم يحتمل أن يكون من قول المؤمنين لهم ويحتمل أن يكون من قول الملائكة والقول لهم فالتمسوا نورا هو على معنى التوبيخ لهم أي أنكم لا تجدونه ثم أعلم تعالى أنه يضرب بينهم في هذه الحال بسور حاجز فيبقى المنافقون في ظلمة وعذاب

وقوله تعالى باطنه فيه الرحمة أي جهة المؤمنين وظاهره جهة المنافقين والظاهر هنا البادي ومنه قول الكتاب من ظاهر مدينة كذا وعبارة الثعلبي فضرب بينهم بسور وهو حاجز بين الجنة والنار قال أبو أمامة الباهلي فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور قال قتادة حائط بين الجنة والنار له باب باطنه فيه الرحمة يعني الجنة وظاهره من قبله العذاب يعني النار انتهى قال ص قال أبو البقاء الباء في بسور زائدة

وقيل ليست بزائدة قال أبو حيان والضمير في باطنه عائد على الباب وهو الأظهر لأنه الأقرب

وقيل على سور أبو البقاء والجملة صفة لباب  لسور انتهى

١٤

وقوله تعالى ينادونهم معناه ينادي المنافقون المؤمنين ألم نكن معكم في الدنيا فيرد المؤمنون عليهم بلى كنتم معنا ولكن عرضتم أنفسكم للفتنة وهي حب العاجل والقتال عليه قال مجاهد فتنتم أنفسكم بالنفاق وتربصتم معناه هنا بأيمانكم فأبطأتم به حتى متم وقال قتادة معناه تربصتم بنا وبصلى اللّه عليه وسلم - الدوائر وشككتم والارتياب التشكك والأماني التي غرتهم وهي قولهم سيهلك محمد هذا العام ستهزمه قريش ستأخذه الأحزاب إلى غير ذلك من أمانيهم وطول الأمل غرار لكل أحد وأمر اللّه الذي جاء هو الفتح وظهور الإسلام

وقيل هو موتهم على النفاق الموجب للعذاب والغرور الشيطان بإجماع المتأولين وينبغي لكل مؤمن أن يعتبر هه الآية في نفسه وتسويفه في توبته واعلم أيها الأخ أن الدنيا غرارة للمقبلين عليها فإن أردت الخلاص والفوز بالنجاة فازهد فيها وأقبل على ما يعنيك من إصلاح دينك

والتزود لآخرتك وقد روى ابن المبارك في رقائقه عن أبي الدرداء أنه قال يعني لأصحابه لئن حلفتم لي على رجل منكم أنه أزهدكم لأحلفن لكم أنه خيركم

وروى ابن المبارك بسنده عن النبي صلى اللّه عليه وسلم - أنه قال يبعث اللّه تبارك وتعالى يوم القيامة عبدين من عباده كانا على سيرة واحدة أحدهما مقتور عليه والآخر موسع عليه فيقبل المقتور عليه إلى الجنة ولا ينثني عنها حتى ينتهي إلى أبوابها فيقول حجبتها إليك إليك فيقول إذن لا أرجع قال وسيفه في عنقه فيقول أعطيت هذا السيف في الدنيا أجاهد به فلم أزل مجاهدا به حتى قبضت وأنا على ذلك فيرمي بسيفه إلى الخزنة وينطلق لا يثنونه ولا يحبسونه عن الجنة فيدخلها فيمكث فيها دهرا ثم يمر به أخوه الموسع عليه فيقول له يا فلان ما حبسك فيقول ما خلي سبيلي إلا الآن ولقد حبست ما لو أن ثلاثمائة بعير أكلت خمطا لا يردن إلا خمسا وردن على عرقي لصدرن منه ريا انتهى

وقوله تعالى فاليوم لا يؤخذ منكم فدية الآية استمرار في مخاطبة المنافقين قال قتادة وغيره

وقوله تعالى هي مولاكم قال المفسرون معناه هي أولى بكم وهذا تفسير بالمعنى وإنما هي استعارة لأنها من حيث تضمهم وتباشرهم هي تواليهم وتكون لهم مكان المولى وهذا نحو قول الشاعر

... تحية بينهم ضرب وجيع ...

١٦

وقوله تعالى ألم يأن ابتداء معنى مستأنف ومعنى ألم يأن ألم يحن يقال أنى الشيء يأنى إذا حان وفي الآية معنى الحض والتقريع قال ابن عباس عوتب المؤمنون بهذه الآية وهذه الآية كانت سبب توبة الفضيل وابن المبارك والخشوع الإخبات والتطامن وهي هيئة تظهر في الجوارح متى كان في القلب ولذلك خص تعالى القلب بالذكر

وروى شداد بن أوس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم - أنه قال أول ما يرفع من الناس الخشوع

وقوله تعالى لذكر اللّه أي لأجل ذكر اللّه تعالى ووحيه  لأجل تذكير اللّه إياهم

وأوامره فيهم والإشارة في قوله أوتوا الكتاب إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام ولذلك قال من قبل وإنما شبه أهل عصبي نبي بأهل عصر نبي

وقوله فطال عليهم الأمد قيل معناه أمد الحياة

وقيل أمد انتظار القيامة قال الفخر قال مقاتل ابن حيان الأمد هنا الأمل أي لما طالت آمالهم لا جرم قست قلوبهم انتهى وباقي الآية بين

١٧

وقوله تعالى اعلموا أن اللّه يحيي الأرض بعد موتها الآية مخاطبة لهؤلاء المؤمنين الذين ندبوا إلى الخشوع وهذا ضرب مثل واستدعاء إلى الخير برفق وتقريب بليغ أي لا يبعد عندكم أيها التاركون للخشوع رجوعكم إليه وتلبسكم به فإن اللّه يحيي الأرض بعد موتها فكذلك يفعل بالقلوب يردها إلى الخشوع بعد بعدها عنه وترجع هي إليه إذا وقعت الإنابة والتكسب من العبد بعد نفورها منها كما يحيي الأرض بعد أن كانت ميتة وباقي الآية بين والمصدقين يعني به المتصدقين وباقي الآية بين ت وقد جاءت آثار صحيحة في الحض على الصدقة قد ذكرنا منها جملة في هذا المختصر وأسند مالك في الموطأ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم - أنه قال يا نساء المؤمنات لا تحقرن إحداكن لجارتها ولو كراع شاة محرق في الموطأ عنه ص - ردوا السائل ولو بظلف محرق قال ابن عبد البر في التمهيد ففي هذا الحديث الحض على الصدقة بكل ما أمكن من قليل الأشياء وكثيرها وفي قول اللّه عز و جل فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره أوضح الدلائل في هذا الباب وتصدقت عائشة رضي اللّه عنها بحبتين من عنب فنظر إليها بعض أهل بيتها فقالت لا تعجبن فكم فيها من مثقال ذرة ومن هذا الباب قوله ص - اتقوا النار ولو بشق تمرة ولو بكلمة طيبة وإذا كان اللّه عز و جل يربي الصدقات ويأخذ الصدقة بيمينه فيربيها كما يربي أحدنا فلوه  فصيله فما بال من عرف هذا يغفل عنه وما التوفيق إلا باللّه انتهى من التمهيد

وروى ابن المبارك في رقائقه قال أخبرنا حرملة بن عمران

أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يحدث أن أبا الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر يقول سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - يقول كل امرىء في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس قال يزيد فكان أبو الخير لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو كعكة  بصلة  كذا انتهى والصديقون بناء مبالغة من الصدق  من التصديق على ما ذكر الزجاج

وقوله تعالى والشهداء عند ربهم اختلف في تأويله فقال ابن مسعود وجماعة والشهداء معطوف على الصديقين والكلام متصل ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاتصال فقال بعضهما وصف اللّه المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء فكل مؤمن شهيد قاله مجاهد

وروى البراء بن عازب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم - قال مؤمنوا أمتي شهداء وتلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - هذه الآية وإنما خص ص - ذكر الشهداء السبعة تشريفا لهم لأنهم في أعلى رتب الشهادة ألا ترى أن المقتول في سبيل اللّه مخصوص أيضا من السبعة بتشريف ينفرد به وقال بعضها الشهداء هنا من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد فكأنه قال هم أهل الصدق والشهداء على الأمم وقال ابن عباس ومسروق والضحاك الكلام تام في قوله الصديقون

وقوله والشهداء ابتداء مستأنف ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاستيناف فقال بعضها معنى الآية والشهداء بأنهم صديقون حاضرون عند ربهم وعنى بالشهداء الأنبياء عليهم السلام ت وهذا تأويل بعيد من لفظ الآية وقال بعضها قوله والشهداء ابتداء يريد به الشهداء في سبيل اللّه واستأنف الخبر عنهم بأنهم عند ربهم لهم أجرهم ونورهم فكأنه جعلهم صنفا مذكورا وحده ت وأبين هذه الأقوال الأول وهذا الأخير وإن صح حديث البراء لم يعدل عنه قال أبو حيان والظاهر أن الشهداء مبتدأ خبره ما بعده انتهى

وقوله تعالى ونورهم قال الجمهور ههو حقيقة حسبما تقدم

٢٠

وقوله سبحانه اعلموا إنما الحياة

الدنيا لعب ولهو هذه الآية وعظ وتبيين لأمر الدنيا وضعة منزلتها والحياة الدنيا في هذه الآية عبارة عن الأشغال والتصرفات والفكر التي هي مختصة بالحياة الدنيا وأما ما كان من ذلك في طاعة اللّه وما كان في الضرورات التي تقيم الأود وتعين على الطاعات فلا مدخل له في هذه الآية وتأمل حال الملوك بعد فقرهم يبن لك أن جميع ترفههم لعب ولهو والزينة التحسين الذي هو خارج عن ذات الشيء والتفاخر بالأموال والأنساب وغير ذلك على عادة الجاهلية ثم ضرب اللّه عز و جل مثل الدنيا فقال كمثل غيث الآية وصورة هذا المثال أن الإنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك فيشب في النعمة ويقوى ويكسب المال والولد ويغشاه الناس ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط ويشيب ويضعف ويسقم وتصيبه النوائب في ماله وذريته ويموت ويضمحل أمره وتصير أمواله لغيره وتتغير رسومه فأمره مثل مطر أصاب أرضا فنبت عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق ثم هاج أي يبس واصفر ثم تحطم ثم تفرق بالرياح واضمحل

وقوله أعجب الكفار أي الزراع فهو من كفر الحب أي ستره

وقيل يحتمل أن يعني الكفار باللّه لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا ثم

قال تعالى وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة الآية كأنه قال والحقيقة ها هنا وذكر العذاب أولاتهما به من حيث الحذر في الإنسان ينبغي أن يكون أولا فإذا تحرز من المخاوف مد حينئذ أمله فذكر تعالى ما يحذر قبل ما يطمع فيه وهو المغفرة والرضوان وعبارة الثعلبي ثم يهيج أي يجف وفي الآخرة عذاب شديد لأعداء اللّه ومغفرة لأوليائه وقال الفراء وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة أي إما عذاب شديد وإما مغفرة وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور هذا تزهيد في العمل للدنيا وترغيب في العمل للآخرة انتهى وهو حسن وعن طارق قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - نعمت الدار الدنيا لمن تزول منها لآخرته وبيست الدار لمن صدته عن آخرته

وقصرت به عن رضا ربه فإذا قال العبد قبح اللّه الدنيا قالت الدنيا قبح اللّه أعصانا لربه رواية الحاكم في المستدرك انتهى من السلاح ولا يشك عاقل أن حطام الدنيا مشغل عن التأهب للآخرة قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب فضل العلم وقد روي مرفوعا لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال قال أبو عمر ثم نقول إن الزهد في الحلال وترك الدنيا مع القدرة عليها أفضل من الرغبة فيها في حلالها وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء المسلمين قديما وحديثا والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين في فضل الصبر والزهد فيها وفضل القناعة والرضا بالكفاف والاقتصار على ما يكفي دون التكاثرالذي يلهي ويطغى أكثر من أن يحيط بها كتاب  يشمل عليها باب والذين زوى اللّه عنهم الدنيا من الصحابة أكثر من الذين فتحها عليهم أضعافا مضاعفة وقد روينا عن عبد الرحمن بن عوف أنه لما حضرته الوفاة بكى بكاء شديدا وقال كان مصعب بن عمير خيرا مني توفي ولم يترك ما يكفن فيه وبقيت بعده حتى أصبت من الدنيا وأصابت مني ولا أحسبني إلا سأحبس عن أصحابي بما فتح اللّه علي من ذلك وجعل يبكي حتى فاضت نفسه وفارق الدنيا رحمة اللّه عليه فإن ظن ظان جاهل أن الاستكثار من الدنيا ليس به بأس  غلب عليه الجهل فظن أن ذلك أفضل من طلب الكفاف منها وشبه عليه بقول اللّه تعالى ووجدك عائلا فأغنى فيما عدده سبحانه على نبيه ص - من نعمه عنده فإن ذلك ليس كما ظن بل ذلك غنى القلب دلت على ذلك الآثار الكثيرة كقوله عليه السلام ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس انتهى

٢١

وقوله سبحانه سابقوا إلى مغفرة من ربكم الآية لما ذكر تعالى المغفرة اتي في الآخرة ندب في هذه الآية إلى المسارعة إليها والمسابقة وهذه الآية حجة عند جميع العلماء في الندب إلى الطاعات وقد استدل بها بعضهم على أن أول أوقات الصلوات أفضل لأنه

يقتضي المسارعة والمسابقة وذكر سبحانه العرض من الجنة إذ المعهود أنه أقل من الطول وقد ورد في الحديث أن سقف الجنة العرش وورد في الحديث أن السموات السبع في الكرسي كالدرهم في الفلاة وأن الكرسي في العرش كالدرهم في الفلاة ت أيها الأخ أمرك المولى سبحانه بالمسابقة والمسارعة رحمة منه وفضلا فلا تغفل عن امتثال أمره وإجابة دعوته

... السباق السباق قولا وفعلا ... حذر النفس حسرة المسبوق ...

ذكر صاحب معالم الإيمان وروضات الرضوان في مناقب صلحاء القيروان قال ومنهم أبو خالد عبد الخالق المتعبد كان كثير الخوف والحزن وبالخوف مات رأى يوما خيلا يسابق بها فتقدمها فرسان ثم تقدم أحدهما على الآخر ثم جد التالي حتى سبق الأول فتخقق عبد الخالق الناس حتى وصل إلى الفرس السابق فجعل يقبله ويقول بارك اللّه فيك صبرت فظفرت ثم سقط مغشيا عليه انتهى

٢٢

وقوله سبحانه ما أصاب من مصيبة في الأرض الآية قال ابن زيد وغيره المعنى ما حدث من حادث خير وشر فهذا على معنى لفظ أصاب لا على عرف المصيبة فإن عرفها في الشر وقال ابن عباس ما معناه أنه أراد عرف المصيبة فقوله في الأرض يعني بالقحوط والزلازل وغير ذلك وفي أنفسكم بالموت والأمراض وغير ذلك

وقوله إلا في كتاب معناه إلا والمصيبة في كتاب ونبرأها معناه نخلقها يقال برأ اللّه الخلق أي خلقهم والضمير عائد على المصيبة

وقيل على الأرض

وقيل على الأنفس قاله ابن عباس وجماعة وذكر المهدوي جواز عود الضمير على جميع ما ذكر وهي كلها معان صحاح أن ذلك على اللّه يسير يريد تحصيل الأشياء كلها في كتاب وقال الثعلبي

وقيل المعنى إن خلق ذلك وحفظ جميعه على اللّه يسير انتهى

وقوله لكيلا تأسوا معناه فعل اللّه هذا كله وأعلمكم به ليكون سبب تسليتكم وقلة اكتراثكم بأمور الدنيا فلا

تحزنوا على فائت ولا ترفحوا الفرح المبطر يما ءاتاكم منها قال ابن عباس ليس أحد إلا يحزن  يفرح ولكن من أصابته مصيبة فليجعلها صبرا ومن أصابه خير فليجعله شكرا وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة أنهما سمعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - يقول ما يصيب المسلم من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - يقول ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال لما نزلت من يعمل سوءا يجز به بلغت من المسلمين مبلغا شديدا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - سددوا وقاربوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها انتهى وقد تقدم كثير في هذا المختصر من هذا المعنى فاللّه المسئول أن ينفع به كل من حصله  نظر فيه

وقوله تعالى واللّه لا يحب كل مختال فخور يدل على أن الفرح المنهي عنه إنما هو ما أدى إلى الاختيال والفخر وأما الفرح بنعم اللّه المقترن بالشكر والتواضع فإنه لا يستطيع أحد دفعه عن نفسه ولا حرج فيه واللّه أعلم

٢٤

وقوله الذين يبخلون قال بعضهم هو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم الذين يبخلون وقال بعضهم هو في موضع نصب صفة لكل وإن كان نكرة فهو يخصص نوعا ما فيسوغ لذلك وصفه بالمعرفة وهذا مذهب الأخفش والكتاب هنا اسم جنس لجميع الكتب المنزلة والميزان العدل في تأويل الأكثرين

وقوله تعالى وأنزلنا الحديد عبر سبحانه عن خلقه الحديد بالإنزال كما قال وأنزل لكم من الأنعام الآية قال جمهور من المفسرين الحديد هنا أراد به جنسه من المعادن وغيرها وقال حذاق من المفسرين أراد به السلاح ويترتب معنى الآية بأن اللّه أخبر أنه أرسل وأنزل كتبا وعدلا مشروعا وسلاحا يحارب به

من عاند ولم يقبل هدى اللّه إذ لم يقبل له عذر وفي الآية على هذا التأويل حض على القتال في سبيل اللّه وترغيب فيه

وقوله وليعلم اللّه من ينصره يقوي هذا التأويل

وقوله بالغيب معناه بما سمع من الأوصاف الغائبة عنه فآمن بها وباقي الآية بين

وقوله سبحانه وقفينا معناه جئنا بهم بعد الأولين وهو مأخوذ من القفا أي جيء بالثاني في قفا الأول فيجيء الأول بين يدي الثاني وقد تقدم بيانه

وقوله سبحانه وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية الجعل في هذه الآية بمعنى الخلق

وقوله ابتدعوها صفة لرهبانية وخصها بأنا ابتدعت لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها وأما الرهبانية فهي أفعال بدن مع شيء في القلب ففيها موضع للتكسب ونحو هذا عن قتادة والمراد بالرأفة والرحمة حب بعضهم في بعض وتوادهم والمراد بالرهبانية رفض النساء واتخاذ الصوامع والديارات والتفرد للعبادات وهذا هو ابتداعهم ولم يفرض اللّه ذلك عليهم لكنهم فعلوا ذلك ابتغاء رضوان اللّه هذا تأويل جماعة وقرأ ابن مسعود ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها وقال مجاهد المعنى كتبناها عليهم ابتغاء رضوان اللّه فالاستثناء على هذا متصل

واختلف في الضمير الذي في قوله فما رعوها من المراد به فقال ابن زيد وغيره هو عائد على الذين ابتدعوا الرهبانية وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل وأنه يلزمه أن يرعاه حق رعيه وقال الضحاك وغيره الضمير للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين لها

وروينا في كتاب الترمذي عن كثير بن عبد اللّه المزني عن أبيه عن جده أن النبي صلى اللّه عليه وسلم - قال لبلال بن الحارث اعلم قال ما أعلم يا رسول اللّه قال اعلم يا بلال قال ما أعلم يا رسول اللّه قال أنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن ابتدع ضلالة لا يرضى اللّه ورسوله بها كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص

ذلك من أوزار الناس شيئا قال أبو عيسى هذا حديث حسن انتهى

٢٨

وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وآمنوا برسوله قالت فرقة الخطاب بهذه الآية لأهل الكتاب ويؤيده الحديث الصحيح ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي الحديث

وقال آخرون الخطاب للمؤمنين من هذه الأمة ومعنى آمنوا برسوله أي اثبتوا على ذلك ودوموا عليه يؤتكم كفلين أي نصيبين بالإضافة إلى ما كان الأمم قبل يعطونه قال أبو موسى كفلين ضعفين بلسان الحبشة والنور هنا إما أن يكون وعدا بالنور الذي يسعى بين الأيدي يوم القيامة وإما أن يكون استعارة للّهدى الذي يمشي به في طاعة اللّه

وقوله تعالى ليلا يعلم أهل الكتاب الا يقدرون على شيء من فضل اللّه الآية روي أنه لما نزل هذا الوعد المتقدم للمؤمنين حسدهم أهل الكتاب على ذلك وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها وتزعم أنهم أحباء اللّه وأهل رضوان فنزلت هذه الآية معلمة أن اللّه فعل ذلك وأعلم به ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون ولا في قوله ليلا زائدة وقرأ ابن عباس والجحدري ليعلم أهل الكتاب

وروى إبراهيم التيمي عن ابن عباس كي يعلم

وروي عن حطان الرقاشي أنه قرأ لان يعلم

وقوله تعالى ألا يقدرون معناه أنهم لا يملكون فضل اللّه ولا يدخل تحت قدرهم وباقي الآية بين

﴿ ٠