سورة القلم

وهي مكية بلا خلاف

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

قوله عز و جل ن والقلم وما يسطرون ن حرف مقطع في قول الجمهور فيدخله من الاختلاف ما يدخل أوائل السور ويختص هذا الموضع من الأقوال بأن قال مجاهد وابن عباس ن اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع فيما يروي وقال ابن عباس أيضا وغيره ن اسم الدواة فمن قال بأنه اسم الحوت جعل القلم القلم الذي خلقه اللّه وأمره بكتب الكائنات وجعل الضمير في يسطرون للملائكة ومن قال بأن ن اسم للدواة جعل القلم هذا القلم المتعارف بأيدي الناس نصا على ذلك ابن عباس وجعل الضمير في يسطرون للناس فجاء القسم على هذا بمجموع أمر الكتاب الذي هو قوام للعلوم والمعارف وأمور الدنيا والآخرة فإن القلم أخو اللسان وعضد الإنسان ومطية الفطنة ونعمة من اللّه عامة

وروى معاوية بن قرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم - قال ن لوح من نور وقال ابن عباس أيضا وغيره ن هو حرف من حروف الرحمن وقالوا إنه تقطع في القرآن الروحم ون ويسطرون معناه يكتبون سطورا فإن أراد الملائكة فهو كتب الأعمال وما يؤمرون به وإن أراد بني آدم فهي الكتب المنزلة والعلوم وما جرى مجراها

قال ابن العربي في أحكامه روى الوليد بن مسلم عن مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - يقول أول ما خلق اللّه القلم ثم خلق النون وهي الدواة وذلك قوله ن والقلم ثم قال له اكتب قال وما أكتب قال ما كان وما هو كائن إلى يوم

القيامة قال ثم ختم العمل فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة ثم خلق العقل فقال الجبار ما خلقت خلقا أعجب إلي منك وعزتي لأكلمنك فيمن أجبت ولا نقصنك فيمن أبغضت قال ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - أكمل الناس عقلا أطوعهم للّه وأعملهم بطاعته انتهى ت وهذا الحديث هو الذي يعول عليه في تفسير الآية لصحته واللّه سبحانه أعلم

وقوله تعالى ما أنت بنعمة ربك بمجنون وهو جواب القسم وما هنا عاملة لها اسم وخبر وكذلك هي متى دخلت الباء في الخبر

وقوله بنعمة ربك اعتراض كما تقول لإنسان أنت بحمد للّه فاضل وسبب الآية هو ما كان من قريش في رميهم النبي صلى اللّه عليه وسلم - بالجنون فنفى اللّه تعالى ذلك عنه وأخبره بأن له الأجر وأنه على الخلق العظيم تشريفا له ومدحا

واختلف في معنى ممنون فقال أكثر المفسرين هو الواهن المنقطع يقال حبل منين أي ضعيف

وقال آخرون معناه غير ممنون عليك أي لا يكدره من به وفي الصحيح سئلت عائشة رضي اللّه عنها عن خلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فقالت كان خلقه القرآن وقال الجنيد سمي خلقه عظيما إذ لم تكن له همة سوى اللّه تعالى عاشر الخلق بخلقه وزايلهم بقلبه فكان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق وفي وصية بعض الحكماء عليك بالخلق مع الخلق وبالصدق مع الحق وحسن الخلق خير كله وقال عليه السلام إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل صائم النهار وجاء في حسن الخلق آثار كثيرة منعنا من جلبها خشية الإطالة وقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - ما يدخل الناس الجنة فقال تقوى اللّه وحسن الخلق وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال الفم والفرج قال أبو عيسى هذا حديث صحيح غريب انتهى

وروى الترمذي عن أبي الدرداء أن النبي صلى اللّه عليه وسلم - قال ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة

من خلق حسن وإن اللّه ليبغض الفاحش البذي قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح انتهى قال أبو عمر في التمهيد

قال اللّه عز و جل لنبيه ص - وإنك لعلى خلق عظيم قال المفسرون كان خلقه ما قال اللّه سبحانه خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين انتهى

وقوله تعالى فستبصر أي أنت وأمتك ويبصرون أي هم بأيكم المفتون قال الأخفش والعامل في الجملة المستفهم عنها الأبصار وأما الباء فقال أبو عبيدة معمة وقتادة هي زائدة والمعنى أيكم المفتون قال الثعلبي المفتون المجنون الذي فتنه الشيطان انتهى

٨

وقوله تعالى فلا تطع المكذبين يعني قريشا وذلك أنهم قالوا في بعض الأوقات للنبي صلى اللّه عليه وسلم - لو عبدت آلهتنا وعظمتها لعبدنا إلهك وعظمنا وودوا أن يداهنهم النبي صلى اللّه عليه وسلم - ويميل إلى ما قالوا فيميلوا هم أيضا إلى قوله ودينه والإدهان الملاينة فيما لا يحل والمداراة الملاينة فيما يحل

وقوله فيدهنون معطوف وليس بجواب لأنه لو كان لنصب والحلاف المردد لحلفه الذي قد كثر منه والمهين الضعيف الرأي والعقل قاله مجاهد وقال ابن عباس المهين الكذاب والهماز الذي يقع في الناس بلسانه قال منذر بن سعيد وبعينه وإشارته والنميم مصدر كالنميمة وهو نقل ما يسمع مما يسوء ويحرش النفوس قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه المسمى ببهجة المجالس قال النبي صلى اللّه عليه وسلم - من كف عن أعراض المسلمين لسانه أقاله اللّه يوم القيامة عثرته وقال عليه السلام شراركم أيها الناس المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون لأهل البر العثرات انتهى

وروى حذيفة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم - قال لا يدخل الجنة قتات وهو النمام وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذه الأوصاف هي أجناس لم يرد بها رجل بعينه وقالت طائفة بل نزلت في معين واختلفوا فيه فقال بعضهم هو الوليد بن المغيرة

وقيل هو الأخنس بن شريق ويؤيد ذلك أنه كانت له زنمة في

حلقه كزنمة الشاة وأيضا فكان من ثقيف ملصقا في قريش

وقيل هو أبو جهل

وقيل هو الأسود بن عبد يغوث قال ع وظاهر اللفظ عموم من اتصف بهذه الصفات والمخاطبة بهذا المعنى مستمرة باقي الزمان لا سيما لولاة الأمور

١٢

وقوله تعالى مناع للخير قال كثير من المفسرين الخير هنا المال فوصفه بالشح

وقال آخرون بل هو على عمومه في الأموال والأعمال الصالحات والمعتدى المتجاوز لحدود الأشياء والإثم فعيل من الإثم والعتل القوي البنية الغليظ الأعضاء القاسي القلب البعيد الفهم الأكول الشروب الذي هو بالليل جيفة وبالنهار حمار وكل ما عبر به المفسرون عنه من خلال النقص فعن هذه التي ذكرت تصدر وقد ذكر النقاش أن النبي صلى اللّه عليه وسلم - فسر العتل بنحو هذا وهذه الصفات كثيرة التلازم والزنيم في كلام العرب الملصق في القوم وليس منهم ومنه قول حسان

... وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد ...

فقال كثير من المفسرين هو الأخنس بن شريق وقال ابن عباس أراد بالزنيم أن له زنمة في عنقه وكان الأخنس بهذه الصفة

وقيل الزنيم المريب القبيح الأفعال

١٦

وقوله سنسمه على الخرطوم معناه على الأنف قال ابن عباس هو الضرب بالسيف في وجهه على أنفه وقد حل ذلك به يوم بدر

وقيل ذلك الوسم هو في الآخرة وقال قتادة وغيره معناه سنفعل به في الدنيا من الذم له والمقت والاشتهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى به فيكون ذلك كالوسم على الأنف

وقوله سبحانه إنا بلوناهم يريد قريشا أي امتحناهم وأصحاب الجنة فيما ذكر كانوا إخوة وكان لأبيهم جنة وحرث يغتله فكان يمسك منه قوته ويتصدق على المساكين بباقية

وقيل بل كان يحمل المساكين معه في وقت حصاده وجذه فيجديهم منه فمات الشيخ فقال ولده نحن جماعة وفعل أبينا كان خطأ فلنذهب إلى جنتنا ولا يدخلنها علينا مسكين ولا نعطى منها شيئا قال

فبيتوا أمرهم وعزمهم فبعث اللّه عليهم طائفا من نار  غير ذلك فاحترقت فقيل فأصبحت سوداء

وقيل بيضاء كالزرع اليابس المحصود فلما أصبحوا إلى جنتهم لم يروها فحسبوا أنهم قد أخطئوا الطريق ثم تبينوها فعلموا أن اللّه أصابهم فيها فتابوا حينئذ وكانوا مؤمنين أهل كتاب فشبه اللّه قريشا بهم في أنه امتحنهم بالمصائب في دنياهم لعدم اتباعهم للنبي صلى اللّه عليه وسلم - ثم التوبة معرضة لمن بقي منهم

وقوله تعالى ليصرمنها أي ليجذنها ومصبحين معناه داخلين في الصباح

وقوله تعالى ولا يستثنون أي لا ينثبنون عن رأي منع المساكين وقال مجاهد معناه ولا يقولون إن شاء اللّه والصريم قال جماعة أراد به الليل من حيث اسودت جنتهم وقال ابن عباس الصريم الرماد الأسود بلغة خزيمة وقولهم إن كنتم صارمين يحتمل أن يكون من صرام النخل ويحتمل أن يريد إن كنتم أهل عزم وإقدام على رأيكم من قولك سيف صارم ويتخافتون معناه يتكلمون كلاما خفيا وكان هذا التخافت خوفا من أن يشعر بهم المساكين وكان لفظهم الذي يتخافتون به أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين

وقوله على حرد يحتمل أن يريد على منع من قولهم حاردت الإبل إذا قلت ألبانها فمنعتها وحاردت السنة إذا كانت شهباء لا غلة لها ويحتمل أن يريد بالحرد الغضب يقال حرد الرجل حردا إذا غضب قال البخاري قال قتادة على حرد أي على جد في أنفسهم انتهى

وقوله تعالى قادرين يحتمل أن يكون من القدرة أي قادرون في زعمهم ويحتمل أن يكون من التقدير الذي هو تضييق كأنهم قد قدروا على المساكين أي ضيقوا عليهم فلما رأوها أي محترقة قالوا إنا لضالون طريق جنتنا فلما تحققوها علموا أنها قد أصيبت فقالوا بل نحن محرومون أي قد حرمنا غلتها وبركتها فقال لهم اعدلهم قولا وعقلا وخلقا وهو الأوسط ألم أقل لكم لولا تسبحون قيل هي عبارة عن تعظيم اللّه والعمل بطاعته سبحانه فبادر القوم عند

ذلك وتابوا وسبحوا واعترفوا بظلمهم في اعتقادهم منع الفقراء ولام بعضهم بعضا واعترفوا بأنهم طغوا أي تعدوا ما يلزم من مواساة المساكين ثم انصرفوا إلى رجاء اللّه سبحانه وانتظار الفضل من لدنه في أن يبدلهم بسبب توبتهم وإنابتهم خيرا من تلك الجنة قال الثعلبي قال ابن مسعود بلغني أن القوم لما أخلصوا وعلم اللّه صدقهم أبدلهم اللّه عز و جل بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل العنقود منها وعن أبي خالد اليماني أنه رأى تلك الجنة ورأى كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم انتهى وقدرة اللّه أعظم فلا يستغرب هذا إن صح سنده

٣٣

وقوله سبحانه كذلك العذاب أي كفعلنا بأهل الجنة نفعل بمن تعدى حدودنا

ولعذاب الآخرة أكبر أي أعظم مما أصابهم إن لم يتوبوا في الدنيا ثم أخبر تعالى بأن للمتقين عند ربهم جنات النعيم فروي أنه لما نزلت هذه الآية قالت قريش إن كان ثم جنات نعيم فلنا فيها أكبر الحظ فنزلت أفنجعل المسلمين كالمجرمين الآية توبيخا لهم

أم لكم كتاب منزل من عند اللّه تدرسون فيه أن لكم ما تختارون من النعيم فإن معمولة لتدرسون وكسرت الهمزة من أن لدخول اللام في الخبر وهي في معنى أن بفتح الألف وقرئ شاذان لكم بالفتح وقرأ الأعرج آن لكم فيه على الاستفهام ثم خاطب تعالى الكفار بقوله أم لكم أيمان علينا بالغة كأنه يقول هل أقسمنا لكم قسما فهو عهد لكم بأنا ننعمكم في يوم القيامة وما بعده وقرأ الأعرج آن لكم لما تحكمون على الاستفهام أيضا

سلهم أيهم بذلك زعيم أي ضامن ت قال الهروي

وقوله أيمان علينا بالغة أي موكدة انتهى

وقوله تعالى فليأتوا بشركائهم قيل هو استدعاء وتوقيف في الدنيا أي ليحضروهم حتى يرى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا

وقيل هو استدعاء وتوقيف على أن يأتوا بهم يوم القيامة يوم يكشف عن ساق وقرأ ابن عباس تكشف بضم التاء على معنى تكشف القيامة والشدة الحال

الحاضرة وقرأ ابن عباس أيضا تكشف بفتح التاء على أن القيامة هي الكاشفة وهذه القراءة مفسرة لقراءة الجماعة فما ورد في الحديث والآية من كشف الساق فهو عبارة عن شدة الهول

وقوله جلت عظمته ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون وفي الحديث الصحيح فيخرون للّه سجدا أجمعون ولا يبقى أحد كان يسجد في الدنيا رياء ولا سمعة ولا نفاقا إلا صار ظهره طبقا واحدا كلما أراد أن يسجد خر على قفاه الحديث وفي الحديث فيسجد كل مؤمن وترجع أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظما واحدا فلا يستطيعون سجود الحديث

وقوله تعالى وقد كانوا يدعون إلى السجود يريد في دار الدنيا وهم سالمون مما نال عظام ظهورهم من الاتصال والعتو

٤٤

وقوله سبحاه فذرني ومن يكذب بهذا الحديث الآية وعيد وتهديد والحديث المشار إليه هو القرآن وباقي الآية بين مما ذكر في غير هذا الموضع ثم أمر اللّه تعالى نبيه بالصبر لحكمه وأن يمضي لما أمر به من التبليغ واحتمال الأذى والمشقة ونهى عن الضجر والعجلة التي وقع فيها يونس ص - ثم اقتضب القصة وذكر ما وقع في آخرها من ندائه من بطن الحوت وهو مكظوم أي وهو كاظم لحزنه وندمه وقال الثعلبي ونحوه في البخاري وهو مكظوم أي مملوء أي مملوء غما وكربا انتهى وهو أقرب إلى المعنى وقال النقاش المكظوم الذي أخذ بكظمه وهي مجاري القلب وقرأ ابن مسعود وغيره لولا أن تداركته نعمة والنعمة التي تداركته هي الصفح والاجتباء الذي سبق له عند اللّه عز و جل لنبذ بالعراء أي لطرح بالعراء وهو الفضاء الذي لا يوارى فيه جبل ولا شجر وقد نبذ يونس عليه السلام بالعراء ولكن غير مذموم وجاء في الحديث عن أسماء بنت عميس قالت علمني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - كلمات أقولهن عند الكرب  في الكرب اللّه اللّه ربي لا أشرك به شيئا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأخرجه الطبراني في كتاب الدعاء

انتهى من السلاح ثم

قال تعالى لنبيه وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم المعنى يكادون من الغيظ والمداواة يزلقونه فيذهبون قدمه من مكانها ويسقطونه قال عياض وقد روي عن ابن عباس أنه قال كل ما في القرآن كاد فهو ما لا يكون

قال تعالى يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ولم يذهبها وأكاد أخفيها ولم يفعل انتهى ذكره إثر

قوله تعالى وإن كادوا ليفتنونك وقرأ الجمهور ليزلقونك بضم الياء من أزلق ونافع بفتحها من زلقت الرجل وفي هذا المعنى قول الشاعر

... يتقارضون إذا التقوا في مجلس ... نظرا يزل مواطىء الأقدام ...

وذهب قوم من المفسرين على أن المعنى يأخذونك بالعين وقال الحسن دواء من أصابته العين إن يقرأ هذه الآية والذكر في الآية القرآن

﴿ ٠