سُورة البَقَرَة١{الم} قد ذكرت تأويله وتأويل غيره - من الحروف المقطعة - في كتاب: "المشكل" (١) . ٢{لا رَيْبَ فِيهِ} لا شكَّ فيه. {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} أي: رُشدًا لهم إلى الحق. ٣{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أي: يصدِّقون بإخبار اللّه - عز وجل - عن الجنة والنار، والحساب والقيامة، وأشباهِ ذلك. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي: يُزَكُّونَ ويتصدقون. ٥{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} من الفلاح؛ وأصله البقاء. ومنه قول عَبِيدٍ: أَفْلِحْ بِمَا شِئْتَ ; فَقَدْ يُبْلَغُ بِالضْ ... ضَعْفِ, وَقَدْ يُخْدَعُ الأَرِيبُ (٢) أي: ابق بما شئت من كَيْس أو غفلة. فكأنه قيل للمؤمنين: مفلحون؛ لفوزهم بالبقاء في النعيم المقيم. هذا هو الأصل. __________ (١) راجع تأويل مشكل القرآن ٢٣٠ - ٢٣٩. (٢) ديوانه ٧، والشعر والشعراء ١/٢٢٦ وجمهرة أشعار العرب ١٠١، وشرح القصائد العشر ٣٠٧، وتفسير الطبري١/٢٥٠، وتفسير القرطبي ١/١٨٢، ومجاز القرآن ٣٠، وفي اللسان ٣/٣٨١ " ويروى فقد يبلغ بالنوك؛ يقول: عش بما شئت من عقل وحمق فقد يرزق الأحمق ويحرم العاقل". ثم قيل ذلك لكل من عَقَلَ وحَزَمَ، وتكاملت فيه خِلالُ الخير. ٧{خَتَمَ اللّه عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} بمنزلة طَبَعَ اللّه عليها. والخَاتَمُ بمنزلة الطابَع. وإنما أراد: أنه أقفل عليها وأغلقها، فليست تعي خيرا ولا تسمعه. وأصل هذا: أن كل شيء ختمتَه، فقد سددتَه وربطتَه. ثم قال عز وجل: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} ابتداء. وتمامُ الكلام الأول عند قوله: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} (١) . والغِشَاوَة: الغِطاء. ومنه يقال: غَشِّه بثوب، أي: غَطِّه. ومنه قيل: غاشية السَّرْج؛ لأنها غِطاء له. ومثلُه قوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} (٢) . ٩وقوله: {يُخَادِعُونَ اللّه وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} ؛ يريد: أنهم يُخَادِعُونَ المؤمنين باللّه؛ فإذا خادعوا المؤمنين باللّه: فكأنهم خادعوا اللّه. وخِدَاعُهُمْ إيّاهم، قولهم لهم إذا لقُوهم: {قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} أي: مَرَدَتِهِمْ؛ {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (٣) . وما يُخَادِعون إلا أنفسهم: لأن وَبَالَ هذه الخديعة وعاقبتها راجعة عليهم؛. وهم لا يَشْعُرُون. __________ (١) جرى على هذا الرأي أبو جعفر الطبري فقال ١/٢٦٢ " وقوله: (وعلى أبصارهم غشاوة) خبر مبتدأ بعد تمام الخبر عما ختم اللّه عليه من جوارح الكفار الذين مضت قصصهم. وذلك أن "غشاوة" مرفوعة بقوله: "وعلى أبصارهم"، فذلك دليل على أنه خير مبتدأ، وأن قوله: "ختم اللّه على قلوبهم" قد تناهى عند قوله: "وعلى سمعهم" وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا". (٢) سورة الأعراف ٤١. (٣) سورة البقرة ١٤. ١٠{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: شك ونفاق (١) . ومنه يقال: فلان يُمَرِّضُ في الوعد وفي القول؛ إذا كان لا يصححه، ولا يؤكده. ١٣{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} يعني: المسلمين؛ {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} ؟! أي: الجهلة ومنه يقال: سَفِه فلانٌ رأيَه؛ إذا جَهِله (٢) . ومنه قيل [للبَذَاء] : سَفَهٌ؛ لأنه جهْل. ١٥{اللّه يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي يجازيهم جزاء الاستهزاء. ومثله قوله: {نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ} (٣) ؛ أي جازاهم جزاء النسيان. وقد ذكرت هذا وأمثاله في كتاب "المشكل" (٤) . {وَيَمُدُّهُمْ} أي: يتمادى بهم، ويطيل لهم. {فِي طُغْيَانِهِمْ} أي: في عُتُوِّهِمْ وتكبُّرهم. ومنه قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} (٥) ؛ أي: علا. {يَعْمَهُونَ} يركبون رءُوسهم فلا يُبصرون. ومثله قوله: __________ (١) اللسان ٩/٩٩ وفي الدر المنثور ١/٣٠ "عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: (في قلوبهم مرض) ؟ قال: النفاق، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر: أجامل أقواما حياء وقد أرى ... صدورهم تغلي على مراضها (٢) في اللسان ١٧/٣٩٢ " جهله وكان رأيه مضطربا لا استقامة له " وقال الزجاج في قوله تعالى: (إلا من سفه نفسه) : القول الجيد عندي في هذا: أن سفه في موضع جهل. والمعنى - واللّه أعلم - إلا من جهل نفسه، أي لم يفكر في نفسه؛ فوضع سفه في موضع جهل، وعدى كما عدى". (٣) سورة التوبة ٦٧. (٤) راجع تأويل مشكل القرآن ٢١٥ ثم قارن بين قول ابن قتيبة وقول الطبري في تفسيره ١/٣٠٢. (٥) سورة الحاقة ١١. {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ؟ (١) يقال: رجل عَمِهٌ وعَامِهٌ؛ أي: جائِرٌ [عن الطريق] . وأنشد أبو عُبَيْدَةَ: وَمَهْمَهٍ أطْرَافُهُ في مَهْمِهِ ... أعْمَى الهُدَى بالجاهِلِينَ العُمَّهِ (٢) ١٦{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} أي: استبدلوا. وأصل هذا: أن من اشترى شيئا بشيء، فقد استبدل منه. {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} والتجارةُ لا تَربح، وإنما يُربح فيها. وهذا على المجاز. ومثله: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ} (٣) ؛ وإنما يُعزم عليه. وقد ذكرت هذا وأشباهه في كتاب "المشكل" (٤) . ١٧و {الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} أي: أوْقَدَها. ١٩و (الصَّيِّبُ) المطر؛ "فَيْعِل" من "صَابَ يَصُوبُ": إذا نزل من السماء. ٢٠{يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} يَذْهَب بها. وأصل الاختطاف: [الاستلاب] ؛ يقال: اختطف الذئب الشاة من الغنم. ومنه يقال لما يخرج به الدَّلْوُ: خُطَّافٌ؛ لأنه يَخْتَطِفُ ما عَلِقَ به. قال النَّابِغَةُ: خَطَاطِيفُ حُجْنٌ فِي حِبَالٍ مَتِينَةٍ ... تَمُدُّ بها أيْدٍ إلَيْكَ نَوَازِعُ (٥) __________ (١) سورة الملك ٢٢. (٢) أنشده في مجاز القرآن ٣٢ لرؤبة بن العجاج وهو في ديوانه ١٦٦، واللسان ١٣/٧٤، ١٧/٤١٥ وتفسير الطبري ١/٢١٠. (٣) سورة محمد ٢١. (٤) راجع تأويل مشكل القرآن ٩٩. (٥) ديوانه ٧١ والكامل ٢/٧٤١ وتفسير الطبري ١/٣٥٧ واللسان ١٠/٤٢٤ وفي الشعر والشعراء ١/١٣ "قال أبو محمد: رأيت علماءنا يستجيدون معناه، ولست أرى ألفاظه جيادا ولا مبينة لمعناه، لأنه أراد: أنت في قدرتك علي كخطاطيف عقف يمد بها، وأنا كدلو تمد بتلك الخطاطيف. وعلى أني لست أرى المعنى جيدا". والحُجْنُ: المُتَعَقِّفَة. وهذا مثل ضربه اللّه للمنافقين؛ وقد ذَكرته في كتاب "المشكل" وبينته (١) . ٢٢{أَنْدَادًا} أي: شركاء أمثالا. يقال: هذا نِدُّ هذا ونَدِيدُهُ (٢) . {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: تعقِلون. ٢٣{وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} أي: ادعوهم لِيُعَاوِنُوكم على سورةٍ مثلِه. ومعنى الدعاء هاهنا الاستغاثة. ومنه دعاء الجاهلية ودعوى الجاهلية؛ وهو قولهم: يا آلَ فلان؛ إنما هو استغاثتهم. وشهداؤهم من دون اللّه: آلهتهم؛ سُموا بذلك لأنهم يشهدونهم ويحضرونهم. ٢٤{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ} أي حطَبُها. والوَقود: الحطب؛ بفتح الواو. والوُقود بضمها: تَوَقُّدُها. {وَالْحِجَارَةُ} قال المفسرون: حجارة الكبريت. ٢٥{جَنَّاتٍ} بساتين. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ذَهَبَ إلى شجرِها لا إلى أرضها. لأن الأنهار تجري تحت الشجر. {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} أي: كأنّه ذلك لِشَبَهِه به. __________ (١) راجع تأويل مشكل القرآن ٢٨١ - ٢٨٢. (٢) في الدر المنثور ١/٣٥ " عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قول اللّه عز وجل (أندادا) ؟ قال: الأشباه والأمثال. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول لبيد: أحمد اللّه فلا ند له ... بيديه الخير ما شاء فعل {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} أي يشبه بعضه بعضا في المناظر دون الطعوم. {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} من الحيض والغائط والبول وأقذار بني آدم. ٢٦{إِنَّ اللّه لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} لما ضرب اللّه المثل بالعنكبوت في سورة العنكبوت، وبالذباب في سورة الحج - قالت اليهود: ما هذه الأمثال التي لا تليق باللّه عز وجل؟! فأنزل اللّه (إِنَّ اللّه لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) من الذباب والعنكبوت (١) . وكَان أبو عبيدة [رحمه اللّه] يذهب إلى أن "فوق" هاهنا بمعنى "دون" على ما بينا في كتاب "المشكل" (٢) . فقالت اليهود: ما أراد اللّه بمثل يُنكره الناسُ فَيَضِلُّ به فريق ويَهْتدي به فريق؟ قال اللّه: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} ٢٧{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّه مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} يريد أن اللّه سبحانه أمرهم بأمور فقبلوها عنهُ، وذلك أخذ الميثاق عليهم والعهد إليهم. ونقضهم ذلك: نَبْذُهم إيّاه بعدَ القبول وتركهم العمل به. ٢٨{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} يعني نطفا في الأرحام. وكُلّ شيء فَارَقَ الجسد من شعر أو ظُفُرٍ أو نطفة فهو ميتة. {فَأَحْيَاكُمْ} في الأرحام وفي الدنيا. {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} في البعث. ومثله قوله حكاية عنهم: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (٣) __________ (١) راجع أسباب النزول للواحدي ١٤ - ١٥ وتفسير القرطبي ١/٢٤١ - ٢٤٢. (٢) راجع تأويل مشكل القرآن ١٤٦ ومجاز القرآن ٣٥. (٣) سورة غافر ١١. فالميتة الأولى: إخراج النطفة وهي حية من الرجل، فإذا صارت في الرحم فهي ميتة؛ فتلك الإماتة الأولى. ثم يحييها في الرحم وفي الدنيا، ثم يميتها ثم يحييها يوم القيامة. ٢٩{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} عَمَدَ لها. وكل من كان يعمل عملا فتركه بفراغ أو غير فراغ وعمد لغيره، فقد استوى له واستوى إليه (١) . وقوله: {فَسَوَّاهُنَّ} ذهب إلى السماوات السبع. ٣٠وقوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} أراد: وقال ربك للملائكة، و"إذْ" تزاد والمعنى إلقاؤها (٢) على ما بينت في كتاب "المشكل" (٣) . {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} يرى أهلُ النظر من أصحاب اللغة: أن اللّه جل وعزّ قال: إني جاعل في الأرض خليفة يفعل ولده كذا ويفعلون كذا. فقالت الملائكة: أتجعل فيها من يفعل هذه الأفاعيل؟ ولولا ذلك ما علمت الملائكة في وقت الخطاب أن خليفة اللّه يفعل ذلك. فاختصر اللّه الكلام على ما بينت في كتاب "المشكل". ٣١{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} يريد أسماء ما خلق في الأرض (٤) . __________ (١) قارن هذا بما في تفسير الطبري ١/٤٢٩. (٢) تبع ابن قتيبة في قوله هذا أبا عبيدة في مجاز القرآن ٣٦. وقد نقضه أبو جعفر الطبري في تفسيره ١/٤٣٩-٤٤٤. (٣) تأويل مشكل القرآن ١٩٦. (٤) قال الطبري في تفسيره ١/٤٨٥ "وأولى هذه الأقوال بالصواب وأشبهها بما دل على صحته ظاهر التلاوة، قول من قال في قوله: (وعلم آدم الأسماء كلها) إنها أسماء ذريته وأسماء الملائكة، دون سائر أسماء أجناس الخلق. وذلك أن اللّه قال: (ثم عرضهم على الملائكة) يعني بذلك أعيان المسمين بالأسماء التي علمها آدم. ولا تكاد العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة. وأما إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق سوى من وصفنا، فإنها تكني عنها بالهاء والألف أو بالهاء والنون، فقالت: عرضهن أو عرضها". {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} أي عرض أعيان الخلق عليهم {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} ٣٥{وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا} أي رزقًا واسعًا كثيرًا (١) . يقال: أرْغَدَ فلان إذا صار في خصب وسعة. ٣٦{فَأَزَلَّهُمَا} من الزلل بمعنى اسْتَزَلَّهُمَا تقول: زلّ فلان وأزْلَلْتُه. ومن قرأ: "فأَزَالَهُمَا" أراد نَحّاهما (٢) ، من قولك: أزلتك عن موضع كذا أو أزلتك عن رأيك إلى غيره. {وَقُلْنَا اهْبِطُوا} قال ابن عباس - في رواية أبي صالح عنه -: كما يقال: هبط فلان أرض كذا (٣) . {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} يعني الإنسان وإبليس ويقال: والحَيَّة (٤) . {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} موضع استقرار. {وَمَتَاعٌ} أي مُتْعة. {إِلَى حِينٍ} يريد إلى أجل. ٣٧{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} أي قبلها وأخذها، كأن اللّه أوحى إليه أن يستغفره ويستقبله بكلام من عنده (٥) ففعل ذلك آدم {فَتَابَ عَلَيْهِ} (٦) __________ (١) هذا تفسير ابن عباس. كما روى السيوطي في الدر المنثور ١/٥٢. (٢) في تفسير القرطبي ١/٣١١ "وقرأ حمزة (فأزالهما) بألف، من التنحية". (٣) في تفسير الطبري ١/٥٣٤ "يقال: هبط أرض كذا ووادي كذا: إذا حل ذلك" وفي البحر المحيط ١/١٥٩ "الهبوط: النزول، مصدر هبط، ومضارعه يهبِط ويهبُط - بكسر الباء وضمها - والهبوط بالفتح: موضع النزول. وقال المفضل: الهبوط: الخروج من البلدة، وهو أيضا الدخول فيها من الأضداد". وانظر مفردات الراغب ٥٥٧. (٤) راجع الآثار في ذلك عن أبي صالح ومجاهد في الدر المنثور ١/٥٥. (٥) راجع اختلاف أهل التأويل في أعيان الكلمات التي تلقاها آدم من ربه، في تفسير الطبري ١/٥٤٢ - ٥٤٦. (٦) قال أبو جعفر الطبري ١/٥٤١ "فمعنى ذلك إذًا: فلقَّى اللّه آدم كلمات توبة، فتلقاها آدم من ربه وأخذها عنه تائبا، فتاب اللّه عليه بقيله إياها، وقبوله إياها من ربه". وفي الحديث: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله كان يتلقى الوحي من جبريل؛ أي يَتَقَبَّله ويأخذه. ٤٠{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} أي: أوْفُوا لي بما قبِلتموه من أمري ونَهيي. {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أي: أوف لكم بما وعدتكم على ذلك من الجزاء. ٤٤{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أي: وتتركون أنفسكم، كما قال: {نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ} (١) أي: تركوا اللّه فتركهم. ٤٥{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} أي: بالصوم. في قول مجَاهِد (٢) رحمه اللّه. ويقال لشهر رمضان: شهرُ الصبر (٣) ، وللصائم صابر. وإنما سُمِّي الصائم صابرًا لأنه حبس نفسه عن الأكل والشرب. وكُلّ من حبس شيئًا فقد صَبَرَه. ومنه المَصْبُورةُ التي نُهِيَ عنها، وهي: البَهيمة تُجْعَلُ غَرَضًا وتُرْمَى حتى تقتل. وإنما قيل للصابر على المصيبة صابر لأنه حَبَسَ نفسه عن الجزع. ٤٦{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} أي: يعلمون. والظن بمعنيين: شك ويقين (٤) على ما بينا في كتاب "المشكل" (٥) . __________ (١) سورة التوبة ٦٧، بمعنى: تركوا طاعة اللّه فتركهم اللّه من ثوابه. (٢) قوله في البحر ١/١٨٤. (٣) في اللسان ٦/١٠٨ "وفي حديث الصوم: صم شهر الصبر، هو شهر رمضان ... ". (٤) عن مجاز القرآن ٣٩. (٥) راجع تأويل مشكل القرآن ١٤٤. ٤٧{وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي: على عالمي زمانهم. وهو من العام الذي أريد به الخاصّ. ٤٨{وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي: لا تقضي عنها ولا تُغْنِي. يقال: جزى عني فلان بلا همز، أي ناب عني. وأجزأني كذا - بالألف في أوله والهمز - أي: كفاني. {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي فِدْيَة قال: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} (١) أي: إن تفتد بكل شيء لا يؤخذ منها. وإنما (٢) قيل للفداء: عَدْلٌ لأنه مثل للشيء، يقال: هذا عَدْلُ هذا وعَدِيلُه. فأما العِدْل - بكسر العين - فهو ما على الظهر. ٤٩{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} قال أبو عبيدة: يولُونكم أشدّ العذاب (٣) . يقال: فلان يسومك خسفًا؛ أي: يوليك إذلالا واستخفافًا. {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي: في إنْجَاء اللّه إيّاكم من آل فرعون نعمة عظيمة. والبلاء يتصرف على وجوه قد بيّنتها في كتاب "المشكل" (٤) . ٥٠و {آلَ فِرْعَوْنَ} أهل بيته وأتباعه وأشياعه. وآل محمد أهل بيته وأتباعه وأشياعه. قال اللّه عز وجل: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (٥) . __________ (١) سورة الأنعام ٧٠، وفي تفسير الطبري ٢/٣٥ "بمعنى: وإن تفد كل فدية لا يؤخذ منها". (٢) قارن هذا بقول الطبري في تفسيره ١/٣٥. (٣) قال ذلك في مجاز القرآن ٤٠. (٤) راجع تأويل مشكل القرآن ٣٦٠. (٥) سورة غافر ٤٦. ٥٤{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} أي خالقكم. {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي ليقتلْ بعضكم بعضًا؛ على ما بينت في كتاب "المشكل" (١) . وقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي ففعلتم فتاب عليكم. مختصر (٢) . ٥٥{نَرَى اللّه جَهْرَةً} أي علانية ظاهرا، لا في نوم ولا في غيره. {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} أي الموت. يدلك على ذلك قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} (٣) . والصاعقة تتصرف على وجوه قد ذكرتها في كتاب "المشكل" (٤) . ٥٧{الْغَمَامَ} السحاب. سُمِّي بذلك لأنه يغُمُّ السماءَ أي يسترها وكُلُّ شيءٍ غطيته فقد غممتَه. ويقال: جاءنا بإناء مَغْمُوم. أي مغطى الرأس. وقيل له: سحاب بمسيره، لأنه كأنه ينسحب إذا سار (٥) . {الْمَنَّ} يقال: هو الطَّرَنْجَبِين (٦) . __________ (١) راجع تأويل مشكل القرآن ١١٥. (٢) في تفسير الطبري ٢/٧٩ "وقوله: (فتاب عليكم) أي: بما فعلتم مما أمركم به من قتل بعضكم بعضا: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتبتم، فتاب عليكم. فترك ذكر قوله: "فتبتم" إذ كان في قوله: "فتاب عليكم" دلالة بينة على اقتضاء الكلام: فتبتم". (٣) سورة البقرة ٥٦ وقال الطبري ٢/٨٥ "ويعني بقوله: (من بعد موتكم) من بعد موتكم بالصاعقة التي أهلكتكم". (٤) راجع تأويل مشكل القرآن ٣٨٣. (٥) في اللسان ١/٤٤٣ "السحابة: الغيم، والسحابة التي يكون عنها المطر، سميت بذلك لانسحابها في الهواء"، وانظر تفسير الطبري ٣/٢٧٦. (٦) ويقال له أيضا: الترنجبين بتشديد الراء وتسكين النون، وهو طل يقع من السماء، شبيه بالعسل. {وَالسَّلْوَى} طائر يشبه السُّمَانَى لا واحد له. {وَمَا ظَلَمُونَا} أي ما نقصونا. {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ينقصون. والظلم يتصرَّف على وجوه قد بينتها في كتاب "المشكل" (١) . ٥٨وقوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} رفع على الحكاية. وهي كلمة أمروا أن يقولوها في معنى الاستغفار، من حَطَطْتُ. أي حُطَّ عَنَّا ذنوبنا. ٥٩{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} أي قيل لهم: قولوا: حِطَّةٌ فقالوا: حِطَّا سُمْقَاتَا، يعني حنطة حمراء. (٢) . و (الرِّجْزُ) العذاب. ٦٠{وَلا تَعْثَوْا} من عَثِيَ. ويقال أيضا من عَثَا، وفيه لغة أخرى عَاثَ يَعيثُ. وهو أشد الفساد. وكان بعض الرواة ينشد بيت ابن الرقاع: لولا الحياءُ وأنَّ رأسي قد عَنَا ... فيه المشيبُ لزرتُ أُمَّ القاسِمِ (٣) وينكر على من يرويه: "عسا". وقال: كيف يَعْسُو الشيبُ وهو __________ (١) راجع تأويل مشكل القرآن ٣٥٩. (٢) في تفسير القرطبي ١/٤١١ "روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا وقولوا: حطة يغفر لكم خطاياكم، فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شعرة. وأخرجه البخاري وقال: "فبدلوا وقالوا: حطة حبة في شعرة" وفي غير الصحيحين: "حنطة في شعر". وقيل: قالوا: "هطا سمهاثا" وهي لفظة عبرانية تفسيرها: حنطة حمراء، حكاه ابن قتيبة، وحكاه الهروي عن السدي ومجاهد". وانظر الدر المنثور ١/٧١. (٣) البيت له في الشعر والشعراء ٢/٦٠٢ والكامل ١/١٢٧ واللسان ١٩/٢٥٤ والأغاني ٨/١٨١، ١٨٢ وأمالي المرتضى ١/٥١١ وسمط اللآلي ٥٢١. إلى أن يرقّ في كبر الرجل ويلين، أقرب منه إلى أن يغلظ ويعسوَ أو يصلب؟ واحتج بقول الآخر: * وَأَنْبَتَتْ هَامَتُهُ المِرْعِزَّى * يريد أنه لما شاخ رقَّ شعره ولان، فكأنه مِرْعِزَّى [والمرعزى: نبت أبيض] . ٦١(وَالْفُومُ) فيه أقاويل: يقال: هو الحنطة، والخُبْزُ جميعا. قال الفرّاء (١) هي لغة قديمة يقول أهلها: فَوِّمُوا، أي: اخْتَبِزُوا. ويقال: الفوم الحبوب. ويقال: هو الثوم. والعرب تبدل الثاء بالفاء فيقولون جَدَث وجَدَف. والمَغَاثِير والمَغَافِير (٢) . وهذا أعجب الأقاويل إليّ؛ لأنها في مصحف عبد اللّه: "وثومها" (٣) . {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ} أي رجعوا. يقال: بُؤْتُ بكذا فأنا أبوء به. ولا يقال: باء بالشيء. ٦٢{الَّذِينَ هَادُوا} هم: اليهود. {وَالصَّابِئِينَ} قال قتادة (٤) هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون [إلى] القبلة، ويقرأون الزَّبور. __________ (١) قال ذلك في معاني القرآن ٤١. (٢) قال الطبري في تفسيره ٢/١٣٠ "والمغافير: شبيه بالشيء الحلو، يشبه بالعسل، ينزل من السماء حلوا، يقع على الشجر ونحوها". (٣) في معاني القرآن "وثومها بالثاء" فكأنه أشبه المعنيين بالصواب؛ لأنه مع ما يشاكله من العدس والبصل وشبهه". (٤) قوله هذا في تفسير الطبري ١/١٤٧ وفي الدر المنثور ١/٧٥ "إلى غير القبلة". وأصل الحرف من صَبَأْتُ: إذا خرجت من شيء إلى شيء ومن دين إلى دين. ولذلك كانت قريش تقول في الرجل إذا أسلم واتبع النبي صلى اللّه عليه وعلى آله -: قد صبأ فلان - بالهمز - أي خرج عن ديننا إلى دينه. ٦٣و {الطُّورَ} الجبل. ورفعه فوقهم مبين في سورة الأعراف. ٦٥{اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} أي ظلموا وتَعَدَّوا ما أُمروا به من ترك الصيد في يوم السبت. {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي: مبعدين (١) . يقال: خَسَأْتُ فلانًا عني وخسأتُ الكلبَ. أي: باعدته. ومنه يقال للكلب: اخسأ، أي: تباعد. ٦٦{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا} أي: قريةَ أصحاب السبت. نَكالا أي عِبْرَة لما بين يديها من القرى، وما خلفها ليتعظوا بها. ويقال: لما بين يديها من ذنوبهمُ وما خلفها: من صيدهم الحيتان في السبت. وهو قول قتادَةَ (٢) . والأول أعجب إليّ. ٦٨{لا فَارِضٌ} أي: لا مُسِنَّة. يقال: فَرَضَتْ البقرةُ فهي فارضٌ، إذا أَسَنَّتْ. قال الشاعر: __________ (١) راجع المستدرك للحاكم ٢/٣٢٢ وأحكام القرآن للشافعي ٢/١٧٣. (٢) في تفسير الطبري ٢/١٧٨. يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ وَضَبٍّ فَارِضِ ... لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الحَائِضِ (١) أي ضِغْن قديم. {وَلا بِكْرٌ} أي ولا صغيرة لم تلد، ولكنها {عَوَانٌ} بين تَيْنِك. ومنه يقال في المثل: "العَوَانُ: لا تُعَلَّمُ الخِمْرَة" (٢) . يراد أنها ليست بمنزلة الصغيرة التي لا تحسن أن تَخْتَمِر. ٦٩{صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} أي ناصع صاف. وقد ذهب قوم إلى أن الصفراء: السوداء (٣) . وهذا غلط في نُعُوت البقر. وإنما يكون ذلك في نُعُوت الإبل. يقال: بعير أصفر، أي أسود. وذلك أن السود من الإبل يَشُوبُ سوادَها صفرة. قال الشاعر: تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ وَتِلْكَ رِكَابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أَوْلادُها كَالزَّبِيبِ (٤) أي سود. __________ (١) أنشده ابن قتيبة في المعاني الكبير ٢/٨٥٠، ١١٤٣: "يارب مولى حاسد مباغض ... علي ذي ضغن وضب فارض له قروء. . . " وقال في شرحه: " فارض: ضخم، قال اللّه تبارك وتعالى: (لا فارض ولا بكر) ، قروء: أي أوقات تهيج فيها عداوته. يقال: رجع فلان لقرئه: أي لوقته" وكذلك أنشده الجاحظ في الحيوان ٦/٦٦ نقلا عن ابن الأعرابي، ونقل عنه أيضا في اللسان ٩/٦٩ وهو كذلك في مجالس ثعلب ١/٣٦٤ وروي كروايته هنا في تفسير الطبري ٢/١٩٠ وتفسير القرطبي ١/٤٤٨ والبحر المحيط ١/٢٤٨ وفيهم "ضغن على فارض" والضب: الضغن والعداوة، كما في اللسان ٢/٢٨. (٢) يضرب للعالم بالأمر المجرب له، وهو في جمهرة الأمثال ١٣٩. (٣) في الدر المنثور ١/٧٨ عن الحسن البصري:"قال: سوداء شديدة السواد" وفي مجاز القرآن ٤٤ "إن شئت صفراء، وإن شئت سوداء، كقوله: (جمالات صفر) أي سود". (٤) البيت للأعشى، كما في ديوانه ٢١٩ واللسان ٦/١٣٠ والأضداد لابن الأنباري ١٣٨ وتأويل مشكل القرآن ٢٤٦ وتفسير القرطبي ١/٤٥٠ والخزانة ٢/٤٦٤ وتفسير الطبري ٢/٢٠٠ وتفسير الكشاف ١/٧٤ وقوله: "منه" أي من الممدوح وهو أبو الأشعث قيس بن قيس الكندي. والركاب: الإبل، لا واحد له من لفظه، وإنما يعبر عن واحده بالراحلة. ومما يدلك على أنه أراد الصفرة بعينها - قوله {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} والعرب لا تقول: أسود فَاقِع - فيما أعلم - إنما تقول: أسود حالك، وأحمر قاني، وأصفر فَاقِع (١) . ٧١{لا ذَلُولٌ} يقال في الدوابّ: دابّة ذَلُول بَيِّنةُ الذِّل - بكسر الذال (٢) وفي الناس: رجل ذليل بَيِّن الذُّل. بضم الذال. {تُثِيرُ الأَرْضَ} أي تُقَلِّبها للزراعة. ويقال للبقرة: المُثِيرَة. {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} أي لا يُسْنَى (٣) عليها فَيُسْتَقَى بها الماء لسقي الزرع (٤) . {مُسَلَّمَةٌ} من العمل. {لا شِيَةَ فِيهَا} أي: لا لَوْنَ فيها يخالف مُعْظَم لونِها - كالقُرْحَة، والرُّثْمَة، والتَّحْجِيل (٥) وأشباه ذلك. والشِّيَةُ: مأخوذة من وَشَيْتُ الثوبَ فأنا أشِيه وَشْيًا. وهي من المنقوص. أصلها وِشْيَة. مثل زِنَة، وعِدَة. ٧٢{فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} اختلفتم. والأصل: تَدَارَأْتُمْ. فأدغمت التاء في الدال، وأدخلت الألف ليسلم السكون للدال الأولى. يقال: كان بينهم __________ (١) قارن هذا بقول الطبري في تفسيره ٢/٢٠١. (٢) في اللسان ١٣/٢٧٣ "والذل - بالكسر - اللين، وهو ضد الصعوبة". (٣) في اللسان ١٩/١٣٠ "ومنه حديث البعير الذي شكا إليه فقال أهله: إنا كنا نسنو عليه: أي نستقي". (٤) قارن هذا بتفسير الطبري ٢/٢١٢. (٥) القرحة: الغرة في وسط الجبهة. وقيل: كل بياض يكون في الوجه. والرثمة: بياض في طرف الأنف، والتحجيل: بياض يكون في القوائم. تَدَارُؤٌ في كذا. أي اختلاف. ومنه قول القائل (١) في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "كان شريكي فكان خير شريك: لا يُمَارِي ولا يُدَارِي" (٢) أي لا يخالف. ٧٣{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} أي اضربوا القتيل ببعض البقرة. قال بعض المفسرين: فضربوه بالذنب. وقال بعضهم: بالفخذ فحَيِي. ٧٤{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} أي: اشتدت وصلُبت. ٧٨{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ} أي لا يعلمون الكتاب إلا أن يُحدِّثهم كبراؤُهم بشيء، فيقبلونه ويظنون أنه الحق وهو كذب. ومنه قول عثمان - رضي اللّه عنه -: "ما تَغَنَّيْتُ ولا تَمَنَّيْت" (٣) أي: ما اخْتَلَقْتُ الباطل. وتكون الأمانِيُّ (٤) التلاوة. قال اللّه عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ [فِي أُمْنِيَّتِهِ} (٥) يريد إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته] . __________ (١) قال الشافعي: إنه السائب ابن أبي السائب. وقد علق على ذلك الشيخ. "عبد الغني عبد الخالق" - في آداب الشافعي ٢٦١ - فقال: "وقد اضطربت الرواية في شريك النبي في التجارة بمكة قبل البعثة: أهو السائب؟ أم أبوه؟ أم ابنه عبد اللّه؟ أم قيس ابن السائب بن عويمر بن عائذ؟ أم أبوه؟ انظر الاستيعاب ٢/٩٩، ٣٧٢، ٢، ٣/٢٢٢ وأسد الغابة ٢/٢٥٣، ٣/١٧٠، ٤/٢١٤ والإصابة ٢/١٠، ٣٠٦، ٣/٢٣٨". (٢) راجع الكلام على هذا الحديث في هامش تفسير الطبري ٢/٢٢٣ - ٢٢٤. (٣) في كتاب الأشربة لابن قتيبة ٢٤ "ولا تفتيت" وشرحها الأستاذ محمد كرد علي بقوله: "أي ولا تشبهت بالفتيان"! وهو خطأ محض وقد شرحه ابن الأثير في النهاية ٤/١٩ فقال "أي ما كذبت. التمني: التكذب، تفعل من منى يمني: إذا قدّر؛ لأن الكاذب يقدر الحديث في نفسه ثم يقوله" قال رجل لابن دأب وهو يحدث: أهذا شيء رويته أم شيء تمنيته؟ أي اختلقته ولا أصل له" وانظر الفائق ١/١٦٣ واللسان ٢٠/١٦٤. (٤) في اللسان ٢٠/١٦٤ "قال أبو منصور الأزهري: والتلاوة سميت أمنية لأن تالي القرآن إذا مر بآية رحمة تمناها، وإذا مر بآية عذاب تمنى أن يوقاه". (٥) سورة الحج ٥٢. يقول: فهم لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة ولا يعملون به، وليسوا كمن يتلوه حَقَّ تلاوته: فيُحِلُّ حلالَه ويُحَرِّم حرامَه، ولا يحرفه عن مواضعه. ٧٩{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّه} أي يزيدون في كتب اللّه ما ليس منها؛ لينالوا بذلك غَرَضًا حقيرًا من الدنيا. ٨٠{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} قالوا: إنما نُعذَّبُ أربعين يومًا قَدْرَ ما عَبَدَ أصحابُنا العجلَ. {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّه عَهْدًا} أي أتخذتم بذلك من اللّه وعدًا؟ ٨٣{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللّه} أي أمرناهم بذلك فقبلوه؛ وهو أخذ الميثاق عليهم. {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي وَصَّيْناهم بالوالدين إحسانًا. مختصر كما قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (١) أي: ووصى بالوالدين (٢) . ٨٤{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} أي لا يَسْفِك بعضُكم دَم بعض. {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} أي لا يخرج بعضُكم بعضا من داره ويغلبه عليها. __________ (١) سورة الإسراء ٢٣. (٢) تأويل مشكل القرآن ١٦٧. {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} أي ثم قبِلتم ذلك وأقررتم به. {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} على ذلك. ٨٥{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} وقد بينت معنى هذه الآية في المشكل (١) . {تَظَاهَرُونَ} تعاونون. والتَّظَاهُر: التعاون. ومنه قوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللّه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} (٢) أي تعاونا عليه. واللّه ظَهِير أي: عَوْن. وأصل التَّظَاهُر من الظَّهْر. فكأنّ التَّظاهر: أن يجعل كُلُّ واحدٍ من الرجلين أو من القوم الآخَرَ له ظَهْرًا يَتَقَوَّى به ويَسْتَنِدُ إليه. ٨٧{وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} أي: أتْبَعْناه بهم وأرْدَفْنَاه إيَّاهم وهو من القفا مأخوذ. ومنه يقال: قَفَوْتُ الرجلَ: إذا سرت في أثره. ٨٨{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} جمع أغْلَف. أي كأنّها في غِلاف لا تفهم عنك ولا تعقل شيئا مما تقول. وهو مثل قوله: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} (٣) يقال: غَلَّفْتُ السيفَ: إذا جعلته في غلاف، فهو سيف أغْلَف. ومنه قيل لمن لم يُخْتَن: أغْلَف. __________ (١) راجع تأويل مشكل القرآن ٢٨٨. (٢) سورة التحريم ٤. (٣) سورة فصلت ٥. ومن قَرَأه (غُلُفٌ) مُثَقَّل. أراد جمع غلاف. أي هي أوعية للعلم (١) . ٨٩{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} يقول: كانت اليهود إذا قاتلت أهل الشرك استفتحوا عليهم؛ أي اسْتَنْصَرُوا اللّه عليهم. فقالوا: اللّهم انصرنا بالنبيّ المبعوث إلينا. فلما جاءهم النبي صلى اللّه عليه وسلم وعَرَفوه كفروا به. والاستفتاح: الاستنصار. ٩٣{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} أي: حُبَّ العجل. ٩٦{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} يعني اليهود. {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} يعني المجوس. وشركهم: أنهم قالوا بإلهين: النور والظلمة. {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} أراد معنى قولهم لملوكهم في تحيتهم: "عش ألف سنة وألف نَوْرُوز" (٢) . {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} أي: بِمُباعدِه من العذاب طُول عمره؛ لأن عمره ينقضي وإن طال؛ ويصير إلى عذاب اللّه. __________ (١) في تفسير الطبري ٢/٣٢٧ وفي البحر المحيط ١/٣٠١ "وقرأ ابن عباس والأعرج وابن هرمز وابن محيصن (غلف) بضم اللام". (٢) النيروز والنوروز: فارسي معرب، كما في المعرب للجواليقي ٣٤٠. ٩٧{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} من اليهود (١) . وكانوا قالوا: لا نتبع محمدا وجبريلُ يأتيه؛ لأنه يأتي بالعذاب. {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} يعني: فإن جبريل نزلَ القرآن {عَلَى قَلْبِكَ} ١٠٠{نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} (٢) تركه ولم يعمل به. ١٠٢{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي: ما تَرْوِيه الشياطين على مُلْك سليمان. والتلاوة والرواية شيء واحد. وكانت الشياطين دفنت سحرًا تحت كرسيِّه، وقالت للناس بعد وفاته: إنما هلك بالسحر. يقول: فاليهود تتبع السحر وتعمل به. {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} أي: اختبارٌ وابتلاء. (والخلاقُ) : الحظُّ من الخير، ومنه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم: " لَيُؤَيِّدَنَّ اللّه هذا الدينَ بقوم لا خَلاق لهم " (٣) أي: لا حَظَّ (٤) لهم في الخير. __________ (١) قال أبو جعفر الطبري ٢/٣٧٧ "أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم. ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك ... " وانظر أسباب نزول القرآن ١٨، وتفسير ابن كثير ١/١٣٠. (٢) الفريق: الجماعة، لا واحد له من لفظه، كالجيش والرهط. (٣) الحديث في تفسير الطبري ٢/٤٥٤ وتخريجه في هامشه. (٤) في الدر المنثور ١/١٠٣ عن ابن عباس: أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: (ما له في الآخرة من خلاق) ؟ قال: من نصيب. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت أمية بن أبي الصلت وهو يقول: يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم ... إلا سرابيلُ من قِطر وأغلالُ وقد عقب الطبري على البيت بقوله: " يعني بذلك: لا نصيب لهم ولا حظ، إلا السرابيل والأغلال". {شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي باعوها. يقال: شريتُ الشيء. وأنت تريد اشتريته وبعته. وهو حرف من حروف الأضداد. ١٠٣(الْمَثُوبَةُ) : الثواب. والثواب والأجر: هما الجزاء على العمل. ١٠٤{لا تَقُولُوا رَاعِنَا} من "رعيتُ الرجل": إذا تأمّلته، وتعرَّفْت أحواله. يقال: أرْعِني سَمْعَك. وكان المسلمون يقولون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم -: رَاعِنَا وأرْعِنا سمعَكَ. وكان اليهود يقولون: رَاعِنَا - وهي بلغتهم سب لرسول اللّه (١) صلى اللّه عليه وسلم بالرُّعُونَة - ويَنْوُون بها السبَّ؛ فأمر اللّه المؤمنين أن لا يقولوها؛ لئلا يقولَها اليهود، وأن يجعلوا مكانها {انْظُرْنَا} أي انتظرنا. يقال: نظرتك وانتظرتك بمعنى. ومن قرأها "رَاعِنًا" بالتنوين (٢) أراد: اسمًا مأخوذًا من الرَّعْن والرُّعُونَة، أي لا تقولوا: حمقا ولا جهلا. ١٠٦{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} أراد: أو نُنْسِكَهَا. من النِّسْيان. __________ (١) راجع أسباب النزول ٢٢. (٢) في البحر المحيط ١/٣٣٨ "وقرأ الحسن، وابن أبي ليلى، وأبو حيوة، وابن محيصن -: (راعنا) بالتنوين، جعله صفة لمصدر محذوف، أي قولا راعنا. . فنهوا في هذه القراءة عن أن يخاطبوا الرسول بلفظ يكون فيه أو يوهم شيئا من الغض مما يستحقه - صلى اللّه عليه وسلم - من التعظيم وتلطيف القول وأدبه". وقال الطبري ٢/٤٦٦ " ... وهذه قراءة لقراءة المسلمين مخالفة، فغير جائز لأحد القراءة بها؛ لشذوذها وخروجها من قراءة المتقدمين والمتأخرين، وخلافها ما جاءت به الحجة من المسلمين". ومن قرأها: "أو نَنْسَأْهَا". بالهمز (١) . أراد: نؤخِّرها فلا نَنْسَخها إلى مدة. ومنه النَّسِيئَةُ في البيع؛ إنما هو: البيع بالتَّأْخير. ومنه النَّسِيء في الشهور؛ إنما هو: تأخير تَحْرِيمِ "المُحَرَّم" (٢) . {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} أي: بأفضلَ منها. ومعنى فَضْلِها: سهولتُها وخفتُها (٣) . ١٠٨{فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي ضلَّ عن وسط الطريق وقَصْدِه. ١١٤{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّه أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} نزلت في "الرُّوم" حين ظهروا على "بيت المقدس" (٤) فخرَّبوه. فلا يدخله أحد أبدًا منهم إلا خائف. {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي هوان. ذكر المفسرون: أنه فتح مدينتهم رُومِيَةَ. __________ (١) في البحر المحيط ١/٣٣٤ "قرأ عمر، وابن عباس، والنخعي، وعطاء، ومجاهد، وعبيد بن عمير؛ ومن السبعة ابن كثير، وأبو عمرو -: "أو ننسأها" بفتح نون المضارعة والسين وسكون الهمزة". (٢) في اللسان ١/١٦١ " ... وذلك أن العرب كانوا إذا صدروا عن "منى" يقوم رجل منهم من "كنانة" فيقول: " أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ولا يرد لي قضاء" فيقولون: صدقت، أنسئنا شهرا. أي أخر عنا حرمة "المحرم" واجعلها في "صفر". وأحل "المحرم" لأنهم كانوا يكرهون أن يتوالى عليهم ثلاثة أشهر حرم لا يغيرون فيها؛ لأن معاشهم كان من الغارة. فيحل لهم "المحرم" فذلك الإنساء" وانظر هامش أحكام القرآن للشافعي ٢/١٩٥. (٣) قال الطبري ٢/٤٨٣ "فتأويل الآية إذًا: ما نغير من حكم آية فنبدله، أو نتركه فلا نبدله، نأت بخير لكم - أيها المؤمنون - حكما منها، أو مثل حكمها في الخفة والثقل والأجر والثواب". (٤) راجع اختلاف المفسرين في تعيين المانعين والمسجد في تفسير الطبري ٢/٥٢٠ والبحر المحيط ١/٢٥٦ وأسباب النزول ٢٤ وتفسير القرطبي ٢/٧٧ والدر المنثور ١/١٠٨. ١١٥{وَللّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} نزلت في ناس من أصحاب رسول اللّه، صلى اللّه عليه وعلى آله، كانوا في سفر فَعَمِيت عليهم القِبلَة: فصلّى ناسٌ قِبَل المشرق، وآخرون قِبَل المغرب (١) . وكان هذا قبل أن تُحَوَّل القبلة إلى الكعبة (٢) . ١١٦{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} مُقِرُّونَ بالعبودية، مُوجِبُون للطاعة. والقنوت يتصرف على وجوه قد بيّنتها في "تأويل المشكل" (٣) . ١١٧{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} مُبْتَدِعُهما. ١١٨{لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللّه} هلا يكلمنا. {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} في الكفر والفسق والقسوة. ١٢٣{وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} هذا للكافر. فليس له شافع فينفعَه؛ ولذلك قال الكافرون: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} (٤) حين رَأَوْا تَشْفيعَ اللّه في المسلمين. __________ (١) راجع القصة مفصلة في الدر المنثور ١/١٠٩ وأسباب النزول ٢٥. (٢) ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرضه اللّه في التوجه شطر المسجد الحرام، كما في تفسير الطبري ٣/٥٢٨. (٣) راجع تأويل مشكل القرآن ٣٥٠ وتفسير الطبري ٢/٥٣٩. (٤) سورة الشعراء ١٠٠ - ١٠١. ١٢٤{ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} أي: اختبر اللّه إبراهيم بكلمات يقال: هي عَشْرٌ مِنَ السُّنَّةِ (١) . {فَأَتَمَّهُنَّ} أي عمِل بهن كلِّهن. ١٢٥{جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} أي: مَعَادًا لهم، من قولك: ثُبْتُ إلى كذا وكذا: عُدْتُ إليه. وثَابَ إليه جسمه بعد العلة، أي: عاد. أراد: أن الناس يعودون إليه مرّة بعد مرّة. {وَالْعَاكِفِينَ} المقيمين. يقال: عكف على كذا؛ إذا أقام عليه. ومنه قوله: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} (٢) . ومنه الاعتكاف؛ إنما هو: الإقامة في المساجد على الصلاة والذكر للّه. ١٢٧{الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} إسَاسَه (٣) . واحدها قاعدة. فأما __________ (١) أخرج الحاكم في "المستدرك" ٢/٢٦٦ عن ابن عباس أنه قال: " ابتلاه اللّه بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل مكان الغائط والبول بالماء". وروى السيوطي في الدر المنثور ١/١١١ عن ابن عباس أنه قال: "الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فأتمهن: فراق قومه في اللّه حين أمر بمفارقتهم، ومحاجته نمروذ في اللّه حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافهم، وصبره على قذفهم إياه في النار ليحرقوه في اللّه، والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده حين أمر بالخروج عنهم، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها، وما ابتلي به من ذبح ولده. فلما مضى على ذلك كله وأخلصه البلاء، قال اللّه له: أسلم. قال: أسلمت لرب العالمين". وهناك رويات أخرى في تعيين "الكلمات" جائز أن تكون كلها مرادة، رواها الطبري ٣/٧-١٥ وانظر تفسير ابن كثير ١/١٦٥ - ١٦٦ وتفسير القرطبي ٢/٩٧ - ٩٨ والبحر المحيط ١/٣٧٥ والكشاف ١/٩٢. (٢) سورة طه ٩٧، وانظر أحكام القرآن للشافعي ١/١١٠. (٣) في اللسان ٧/٣٠١ "وجمع الأس: إساس، مثل عس وعساس. وجمع الأساس: أسس، مثل قذال وقذل". قواعد النساء فواحدها قَاعِد. وهي العجوز (١) . ١٢٨{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} أي: علِّمنا (٢) . ١٣٠{إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} أي من سَفِهَت نَفْسُه. كما تقول: غَبِنَ فلان رأيَه. والسَّفَهُ: الجهل. ١٣٥(الحَنيفُ) : المستقيم. وقيل للأعرج: حَنِيفٌ؛ نظرًا له إلى السلامة. ١٣٧{فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} أي في عداوة ومُباينة. ١٣٨{صِبْغَةَ اللّه} يقال: دينُ اللّه. أي: الزم دين اللّه. ويقال: الصِّبغة الختان. وقد بينت اشتقاق الحرف في كتاب "تأويل المشكل" (٣) . ١٤٣{جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي: عَدْلا خِيارًا. ومنه قوله في موضع آخر: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} (٤) أي: خيرهم وأعدلهم. قال الشاعر: __________ (١) عن مجاز القرآن ٥٥، وانظر الطبري ٣/٥٧. (٢) قال الطبري ٣/٧٩ "وأما "المناسك" فإنها جمع "منسك" وهو الموضع الذي ينسك للّه فيه ويتقرب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح: إما بذبح ذبيحة له وإما بصلاة أو طواف أو سعي، وغير ذلك من الأعمال الصالحة. ولذلك قيل لمشاعر الحج: "مناسكه" لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس ويترددون إليها". (٣) تأويل مشكل القرآن ١١٣. (٤) سورة القلم ٢٨. هُمُ وَسَطٌ يَرْضَى الأنَامُ بحُكْمِهِمْ ... إذا نزلَتْ إحْدى الليالي بِمُعْظَمِ (١) ومنه قيل للنبي صلى اللّه عليه وعلى آله: "هو أوْسَطُ قُرَيْش حسبا" (٢) وأصل هذا أن خير الأشياء أوساطها، وأن الغلو والتقصير مذمومان. {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أي على الأمم المتقدمة لأنبيائهم. ١٤٤{شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} نحوه وقَصْدَه. ١٤٨{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} أي: قبلة. {هُوَ مُوَلِّيهَا} أي: موليها وجهه. أي: مستقبلُها. يريد أن كل ذي مِلّة له قبلة. ١٥٠{لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: إلا أن يحتج عليكم الظالمون بباطل من الحُجَج. وهو قول اليهود: كنت __________ (١) يبدو أن ابن قتيبة نقل هذا البيت عن أستاذه الجاحظ، فقد أنشده غير منسوب في البيان والتبيين ٣/٢٢٥ وقال بعقبه: "يجعلون ذلك من قول اللّه تبارك وتعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) وفيه "يرضى الإله" وهو تحريف مفسد للمعنى. والبيت بهذه الرواية منسوب لزهير في تفسير الطبري ٣/١٤٢ وتفسير القرطبي ٢/١٥٣ والبحر المحيط ١/٤١٨ والذي في ديوان زهير ٢٧ -: لحي حلال يعصم الناس أمرهم ... إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم وقوله "بمعظم" أي بأمر عظيم. (٢) اللسان ٩/٣٠٩. وأصحابك تصلون إلى بيت المقدس؛ فإن كان ذلك ضلالا فقد مات أصحابُك عليه. وإن كان هدى فقد حُوِّلتَ عنه. فأنزل اللّه: {وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (١) أي: صلاتكم. فلم تكن لأحد حجة. ١٥٧{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} أي: مغفرة. والصلاة تتصرف على وجوه قد بينتها في كتاب "المشكل" (٢) . ١٥٨{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} أي: لا إثم عليه. {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أي: يَتَطَوَّف. فأدغمت التاء في الطاء. وكان المسلمون في صدر الإسلام يكرهون الطواف بينهما، لِصَنَمَين كانا عليهما؛ حتى أنزل اللّه هذا (٣) . وقرأ بعضهم: (ألا يَطَّوَّفَ بِهِمَا) (٤) . وفي هذه القراءة وجهان: أحدهما: أن يجعل الطواف مُرَخَّصًا في تركه بينهما. والوجه الآخر: أن يجعل "لا" مع "أن" صلة. كما قال: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ} (٥) . __________ (١) سورة البقرة ١٤٣. (٢) راجع تأويل مشكل القرآن ٣٥٥. (٣) عن معاني القرآن للفراء ٩٥. وانظر تفسير الطبري ٣/٢٣٠ والدر المنثور ١/١٥٩ - ١٦١. (٤) في البحر المحيط ٤٥٦ "وقرأ أنس، وابن عباس، وابن سيرين، وشهر -: "أن لا" وكذلك هي في مصحف أبيّ، وعبد اللّه". (٥) سورة الأعراف ١٢، وانظر تأويل مشكل القرآن ١٨٩ وتفسير الطبري ٨/٩٦. (طبع بولاق) . هذا قول الفراء (١) . ١٥٩{وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} قال ابن مسعود: إذا تلاعن اثنان وكان أحدهما غير مستحق للعن، رجعت اللعنةُ على المستحق لها؛ فإن لم يستحقها أحد منهما رجعت على اليهود (٢) . ١٦٠{إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} أي بَيَّنُوا التوبة بالإخلاص والعمل (٣) . ١٦٤{وَالْفُلْكِ} السُّفن، واحد وجمع بلفظ واحد (٤) . __________ (١) في معاني القرآن ١/٩٥، وقد نقل ابن قتيبة عنه الوجهين. (٢) عن معاني القرآن للفراء ١/٩٥ - ٩٦ وفيه بعد ذلك: "الذين كتموا ما أنزل اللّه تبارك وتعالى، فجعل اللعنة من المتلاعنين من الناس، على ما فسر" وانظر تفسير القرطبي ٢/١٨٧ والدر المنثور ١/١٦٢. (٣) أخطأ ابن قتيبة في هذا التفسير، والصواب ما قاله قتادة: "أصلحوا فيما بينهم وبين اللّه، وبينوا الذي جاءهم من اللّه فلم يكتموه ولم يجحدوا به" وإني أرى أن الطبري يقصد ابن قتيبة بقوله ٣/٢٦٠. "وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: "وبينوا" إنما هو: وبينوا التوبة بإخلاص العمل" ودليل ظاهر الكتاب والتنزيل بخلافه؛ لأن القوم (اليهود) إنما عوتبوا قبل هذه الآية، على كتمانهم ما أنزل اللّه وبينه في كتابه (التوراة) في أمر محمد ودينه، ثم استثنى منهم الذين يبينون أمر محمد ودينه، فيتوبون مما كانوا عليه من الجحود والكتمان، فأخرجهم من عداد من يلعنه اللّه ويلعنه اللاعنون. ولم يكن العتاب على تركهم تبيين التوبة بإخلاص العمل. والذين استثنى اللّه من الذين يكتمون ما أنزل اللّه من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب - عبد اللّه بن سلام وذووه من أهل الكتاب الذين أسلموا فحسن إسلامهم، واتبعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم". (٤) في الطبري ٣/٢٧٣. ١٦٦{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ} يعني: الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا. ١٦٧{لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي رَجْعَة. {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّه أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} يريد: أنهم عملوا في الدنيا أعمالا لغير اللّه، فضاعت وبطلت. ١٦٨{وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي لا تتبعوا سبيله ومسلكه. وهي جمع خُطْوَة. والخُطْوَة: ما بين القدمين - بضم الخاء - والخَطْوَة: الفَعْلة الواحدة؛ بفتح الخاء. واتباعُهم خطواته: أنهم كانوا يحرمون أشياء قد أحلها اللّه، ويُحلون أشياء حرمها اللّه. ١٧٠{نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} أي وجدنا عليه آباءنا. ١٧١{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً} أراد: مثلُ الذين كفروا ومثلُنا في وعظهم. فحذف "ومثلنا" اختصارا. إذ كان في الكلام ما يدل عليه؛ على ما بينت في "تأويل المشكل" (١) . {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} وهو: الراعي؛ [يقال: نعق بالغنم ينعق بها] ؛ إذا صاح بها. {بِمَا لا يَسْمَعُ} يعني الغَنَم. __________ (١) راجع تأويل مشكل القرآن ١٥٦. {إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً} حَسْبُ؛ ولا يفهم قولا (١) . ١٧٣{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ} أي غير باغ على المسلمين، مُفَارِقٍ لجماعتهم، ولا عَادٍ عليهم بسيفه (٢) . ويقال: غير عاد في الأكل حتى يشبع ويتزوّد (٣) . {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه} أي: ما ذُبح لغير اللّه. وإنما قيل ذلك: لأنه يذكر عند ذبحه غير اسم اللّه فيظهر ذلك، أو يرفع الصوت به. وإهلال الحج منه، إنما هو إيجابُه بالتَّلْبِيَةِ. واستهلالُ الصبيُّ منه إذا وُلِدَ، أي: صوتُه بالبكاء. ١٧٥{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} ما أجرأهم. وحكى الفراء (٤) عن __________ (١) وهذا هو أولى التأويل بالآية عند أبي جعفر الطبري ٣/٣١٣ وقد ذكر أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط ١/٤٨١-٤٨٤ تسعة أقوال في تفسير هذه الآية. وقد ذكر الشريف المرتضى في أماليه ١/٢١٥ - ٢١٩ خمسة أقوال. (٢) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن ٦٤: "أي لا يبغي فيأكله غير مضطر إليه ولا عاد شبعه". (٣) ذكرهما الطبري وردهما ثم قال ٣/٣٢٥ "وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية - قول من قال: فمن اضطر غير باغ بأكله ما حرم عليه من أكله، ولا عاد في أكله، وله عن ترك أكله - بوجود غيره مما أحله اللّه له - مندوحة وغنى". ولست أرى رأي الطبري في ترجيح هذا التأويل؛ الذي لا يتسق مع معنى الآية. ولست أدري كيف يكون مضطرا لأكل ما حرم اللّه عليه وهو يجد غيره مما أحله اللّه له؟! والرأي عندي أن يقال: فمن اضطر غير ظالم لنفسه في تقدير هذه الضرورة التي تبيح له أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير اللّه ولا متجاوز في أكله القدر الذي يحفظ عليه حياته. (٤) في معاني القرآن ١/١٠٣: أي ما أصبرك على عذاب اللّه، وانظر الكشاف ١/١٠٨. الكسائي أنه قال: أخبرني قاضي اليمن: أنه اختصم إليه رجلان، فحلف أحدهما على حق صاحبه. فقال له الآخر: ما أصْبَرك على اللّه. ويقال منه قوله: {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} (١) قال مجاهد: ما أصبرهم على النار، ما أعملهم بعمل أهل النار. وهو وجه حسن. يريد ما أدومهم على أعمال أهل النار. وتحذف الأعمال. قال أبو عبيدة: ما أصبرهم على النار. بمعنى ما الذي أصبرهم على ذلك ودعاهم إليه. وليس بتعجب (٢) . ١٧٧{ابْنَ السَّبِيلِ} الضَّيْف (٣) . و {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} أي في الفقر. وهو من البؤس. {وَالضَّرَّاءِ} المرض والزَّمَانَةُ والضُّرُّ. ومنه يقال: ضَرِيرٌ بَيِّنُ الضُّر. فأما الضَّر - بفتح الضاد - فهو ضِدُّ النفع. {وَحِينَ الْبَأْسِ} أي حين الشِّدَّة. ومنه يقال: لا بأس عليك. وقيل للحرب: البأس. __________ (١) سورة الطور ١٦. (٢) مجاز القرآن ٦٤. وقال أبو جعفر الطبري ٣/٣٣٣: "وأولى هذه الأقوال بتأويل هذه الآية قول من قال: ما أجرأهم على عذاب النار وأعملهم بأعمال أهلها.. وإنما يعجب اللّه خلقه بإظهار الخبر عن القوم الذين يكتمون ما أنزل اللّه من أمر محمد ونبوته، واشترائهم بكتمان ذلك ثمنا قليلا من السحت والرشا التي أعطوها - على وجه التعجب من تقدمهم على ذلك. مع علمهم بأن ذلك موجب لهم سخط اللّه وأليم عقابه". (٣) أخرج السيوطي في الدر المنثور ١/١٧١ عن ابن عباس "هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين" وعن مجاهد أنه "الذي يمر عليك مسافرا". وفي تفسير الطبري ٣/٣٤٦ "وإنما قيل للمسافر: ابن السبيل، لملازمته الطريق". ١٧٨{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} قال ابن عباس (١) كان القصاص في بني إسرائيل ولم تكن [فيهم] الدِّيَةُ. فقال اللّه عز وجل لهذه الأمة: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) والكتاب يتصرّف على وجوه قد بينتها في "تأويل المشكل" (٢) {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} قال (٣) قبول الدية في العَمْد، والعفو عن الدم. {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أي مطالبة بالمعروف (٤) . يريد ليطالب آخذُ الدية الجانيَ مطالبةً جميلةً لا يرهقه فيها. {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} أي لِيُؤَدِ المُطَالَبُ ما عليه أداء بإحسان لا يَبْخَسُه ولا يَمْطُلُه مطل مُدَافِع. {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} عما كان على مَنْ قَبْلَكُم. يعني القصاص. __________ (١) رواه الشافعي في الأم ٦/٧ وروي أيضا عن مقاتل أنه قال: " ... وفرض على أهل الإنجيل أن يعفى عنه ولا يقتل. ورخص لأمة محمد إن شاء قتل، وإن شاء أخذ الدية" وانظر السنن الكبرى ٨/٥١ وفتح الباري ٨/١٢٣، ١٢/١٦٨ وأحكام القرآن للشافعي ١/٢٧٧ والدر المنثور ١/١٧٣. (٢) راجع تأويل مشكل القرآن ٣٥٦. (٣) في السنن الكبرى "قال (أي ابن عباس) : فإن العفو أن يقبل الدية في العمد". وقد قال أبو منصور الأزهري: "وهذه آية مشكلة، وقد فسرها ابن عباس ثم من بعده تفسيرا قربوه على قدر أفهام أهل عصرهم. فرأيت أن أذكر قوله وأؤيده بما يزيده بيانا ووضوحا" ثم قال: "أصل العفو الفضل، يقال: عفا فلان لفلان بماله، إذا أفضل له، وعفا له عما له عليه، إذا تركه. وليس العفو في الآية عفوا من ولي الدم، ولكنه عفو من اللّه. وذلك أن سائر الأمم لم يكن لهم أخذ الدية، فجعله اللّه لهذه الأمة عفوا منه وفضلا مع اختيار ولي الدم ذلك في العمد ... والمعنى الواضح في الآية: من أحل له أخذ الدية بدل أخيه المقتول عفوا من اللّه وفضلا، مع اختياره - فليطالب بالمعروف. و "من" في قوله: (من أخيه) معناها البدل. والعرب تقول: عرضت له من حقه ثوبا. أي أعطيته بدل حقه ثوبا ... وما علمت أحدا أوضح من معنى هذه الآية ما أوضحته". (٤) هذا تفسير ابن عباس، كما في تفسير الطبري ٣/٣٦٧ والناسخ والمنسوخ للنحاس ١٨. {وَرَحْمَةٌ} لكم. {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أي قتل بعد أخذ الدية. {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال قَتَادَة: يقتل ولا تؤخذ منه الدية. وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " لا أعافي رجلا قتل بعد أخذه الدية " (١) . ١٧٩{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} يريد: أن سافِكَ الدم إذا أُقِيد منه، ارتدع من يَهُمُّ بالقتل فلم يَقْتُل خوفًا على نفسه أن يُقْتَل. فكان في ذلك حياة (٢) . ١٨٠{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} أي مالا. {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} أي يوصي لهم ويقتصد في ذلك، لا يسرف ولا يضر. وهذه منسوخة بالمواريث. __________ (١) في تفسير الطبري ٣/٣٧٦ والدر المنثور ١/١٧٣ "قال (قتادة) : وذكر لنا أن رسول اللّه" إلخ. وفي اللسان ١٩/٣٠٧ ومنه حديث القصاص "لا أعفي من قتل بعد أخذ الدية" هذا دعاء عليه. أي لا كثر ماله ولا استغنى" وانظره في تفسير القرطبي ٢/٢٥٥. (٢) راجع تأويل مشكل القرآن ٥ وقد أخرج السيوطي في الدر المنثور ١/١٧٣ عن قتادة "قال: جعل اللّه هذا القصاص حياة، يعني نكالا وعظة إذا ذكره الظالم المعتدي كف عن القتل". ١٨١{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} أي بدل الوصية. فإثْمُ ما بَدَّلَ عليه. ١٨٢(الجَنَفُ) الميل عن الحق. يقال: جَنِفَ يَجْنَفُ جَنَفًا. يقول: إن خاف أي علم من الرجل في وصيته ميلا عن الحق، فأصلح بينه وبين الورثة، وكفَّه عن الجَنَف - {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، أي على المُوصِي. قال طَاوُس: هو الرجل يوصي لولد ابنته يريد ابنته (١) . ١٨٣{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فُرِضَ. ١٨٤{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فعليه عِدّة من أيام أخر مثل عدة ما فاته. {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} وهذا منسوخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (٢) . والشهر منصوب لأنه ظرف. ولم ينصب بإيقاع شهد عليه. كأنه قال: فمن شهد __________ (١) تفسير الطبري ٣/٤٠٢. (٢) هذا هو القول الصحيح في تأويل الآية؛ لأن الهاء في قوله: "يطيقونه" راجعة إلى "الصيام" فنظم الآية إذًا: وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعام مسكين. وقد أجمع أهل الإسلام على أن الرجال الأصحاء يجب عليهم الصوم إن لم يكونوا مسافرين، ولا يجوز لهم الإفطار فيه والافتداء من إفطاره بإطعام مسكين لكل يوم. وقد ثبت بالأخبار الصحيحة أن المسلمين على عهد رسول اللّه كانوا مخيرين بين الصوم وبين الإفطار مع الافتداء حتى نزلت: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) فألزموا بالصوم وبطل الخيار وما كانوا يصنعون من الافتداء والإفطار. ومن هذه الأخبار الموثقة ما روي عن سلمة بن الأكوع أنه قال: "لما نزلت هذه الآية (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) كان من شاء منا صام، ومن شاء أن يفتدي فعل، حتى نسختها الآية التي بعدها: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) . راجع تفسير الطبري ٣/٤٣٤ والناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس ٢١ والدر المنثور ١/١٧٧. منكم في الشهر ولم يكن مسافرا فليصم. لأن الشهادة للشهر قد تكون للحاضر والمسافر (١) . ١٨٦{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} أي: يجيبوني، هذا قول أبي عبيدة، وأنشد: وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ (٢) أي: فلم يجبه. ١٨٧{الرَّفَثُ} الجماع. ورفث القول هو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه من ذكر النكاح. {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي: تخونونها بارتكاب ما حرّم اللّه عليكم (٣) . {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللّه لَكُمْ} يعني من الولد. أمْرُ تأديب لا فرض. {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} أمرُ إباحة. {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} وهو بياض النهار. __________ (١) في اللسان ٤/٢٢٧ " ... معناه: من شهد منكم المصر في الشهر، لا يكون إلا ذلك؛ لأن الشهر يشهده كل حي فيه. قال الفراء: نصب "الشهر" بنزع الصفة، ولم ينصبه بوقوع الفعل عليه. المعنى فمن شهد منكم في الشهر، أي كان حاضرا غير غائب في سفره" وانظر معاني القرآن ١/١١٣. (٢) أنشده أبو عبيدة في مجاز القرآن لكعب بن سعد الغنوي، وهو له في الصحاح ١/١٠٤ واللسان ١/١٧٥ والخزانة ٤/٣٧٥ ونوادر أبي زيد ٣٧ وتأويل مشكل القرآن ١٧٧. (٣) راجع الدر المنثور ١/١٩٧ - ١٩٨ وأسباب النزول ٣٣-٣٤، وفي تفسير القرطبي ٢/٣١٧ "تختانون" أي يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوم في ليالي الصوم، وذلك قبل نزول هذه الآية". {مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} وهو سواد الليل. ويتبين هذا [من هذا] عند الفجر الثاني (١) . {عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [أي مقيمون] والعَاكِفُ: المقيم في المسجد الذي أوْجَبَ العُكُوفَ فيه على نفسه. ١٨٨{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} أي لا يأكل بعضكم مال بعض بشهادات الزور. {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} أي تدلي بمال أخيك إلى الحاكم ليحكم لك به وأنت تعلم أنك ظالم له. فإن قضاءَه باحتيالك في ذلك عليك لا يحل لك شيئا كان محرمًا عليك (٢) . وهو مثل قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله (٣) " فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه؛ فإنما أقطَعُ له قطعة من النار ". ١٨٩وقوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} قال __________ (١) قال الطبري ٣/٥٠٩: "فتأويله على قول قائلي هذه المقالة: وكلوا بالليل في شهر صومكم واشربوا وباشروا نساءكم مبتغين ما كتب اللّه لكم من الولد، من أول الليل، إلى أن يقع لكم ضوء النهار بطلوع الفجر من ظلمة الليل وسواده". (٢) هذا تفسير قتادة بنصه، كما في الدر المنثور ١/٢٠٣ وتفسير الطبري ٣/٥٥١. (٣) في الدر المنثور ١/٢٠٣ "وأخرج مالك والشافعي وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم؛ عن أم سلمة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم أن رسول اللّه قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت ... إلخ " وانظر اللسان ١٧/٢٦٣. الزُّهْرِي: (١) كان أناس من الأنصار إذا أهلُّوا بالعُمْرَة لم يحل بينهم وبين السماء شيء، يتحرجون من ذلك. وكان الرجل يخرج مهلًّا بها فتبدو له الحاجة فيرجع فلا يدخل من باب الحجرة من أجل السقف ولكنه يقتحم الجدار من وراء. ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته. وكانت قريش وحلفاؤها الحُمس لا يبالون ذلك. فأنزل اللّه: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) أي: بِرُّ من اتقى. كما قال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (٢) أي بِرُّ من آمن باللّه. ١٩٠{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} أي لا تعتدوا على من وَادَعَكُم وعَاقَدَكُم. ١٩١{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي حيث وجدتموهم. {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} يعني من مكة. {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} يقول: الشرك أشد من القتل (٣) في الحرم. __________ (١) قول الزهري مختصر هنا، وهو بتمامه في تفسير الطبري ٣/٥٥٨ ونقله عنه السيوطي في الدر المنثور ١/٢٠٤. (٢) سورة البقرة ١٧٧. (٣) هذا نص قول قتادة، كما في تفسير الطبري ٣/٥٦٥. ١٩٣وكذلك قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (١) أي شرك (٢) . وقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} أي لا سبيل. وأصل العدوان الظلم. وأراد بالعدوان الجزاء. يقول: لا جزاء ظلم إلا على ظالم. وقد بينت هذا في كتاب "تأويل المشكل" (٣) . ١٩٤{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} قال مجاهد: (٤) فخرت قريش أن صَدَّت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، عن البيت الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام. فَأَقَصَّهُ اللّه فدخل عليهم من قَابِلٍ في الشهر الحرام في البلد الحرام إلى البيت الحرام. وأنزل اللّه (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) (٥) . وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} أي: من ظلمكم فجزاؤه __________ (١) سورة البقرة ١٩٣ والأنفال ٣٩. (٢) راجع معاني الفتنة في تأويل مشكل القرآن ٣٦٢ - ٣٦٣. (٣) راجع تأويل مشكل القرآن ٢١٥. (٤) هذا قول موجز يوضحه قول قتادة: "أقبل نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأصحابه معتمرين في ذي القعدة [سنة ست] ومعهم الهدي، حتى إذا كانوا بالحديبية صدهم المشركون، فصالحهم نبي اللّه على أن يرجع من عامه ذلك، حتى يرجع من العام المقبل فيكون بمكة ثلاث ليال، ولا يدخلوها إلا بسلاح الراكب ولا يخرج بأحد من أهل مكة. فنحروا الهدي بالحديبية، وحلقوا وقصروا، حتى إذا كان من العام المقبل أقبل نبي اللّه وأصحابه معتمرين في ذي القعدة [سنة سبع] حتى دخلوا مكة فأقاموا بها ثلاث ليال. وكان المشركون قد فخروا عليه حين ردوه يوم الحديبية. فأقصه اللّه منهم، وأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردوه فيه: في ذي القعدة. فقال اللّه: (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص) راجع الدر المنثور ١/٢٠٦ وتفسير الطبري ٣/٥٧٦. (٥) الحرمات: جمع حرمة، وهي ما منعت من انتهاكه. وأراد جل شأنه بالحرمات: الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام. راجع تفسير الطبري ٣/٥٧٩. جزاء الاعتداء. على ما بينت في كتاب "المشكل" (١) . ١٩٦{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} من الإحصار. وهو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين الحج من مرض أو كَسْرٍ (٢) أو عدو. يقال: أُحْصِرَ الرجلُ إحْصارًا فهو مُحْصَر. فإن حُبِسَ في سجن أو دار قيل: قد حُصِرَ فهو مَحْصُور. {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي فما تَيَسَّرَ من الهَدْي وأمكن. والهَدْيُ ما أُهدِيَ إلى البيت. وأصله هَدِيٌّ مشددٌ فخفف. وقد قرئ: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدِيُّ مَحِلَّهُ) بالتشديد (٣) . واحده هَدِيَّةٌ. ثم يخفف فيقال: هَدْيَة. {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} هو من حَلَّ يَحِلُّ والمَحِلُّ: الموضع الذي يحل به نحره. {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} أراد فَحَلَقَ. {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} فحذف "فحلق" اختصارا، على ما بينت في "تأويل المشكل" {أَوْ نُسُكٍ} أي ذَبْح. يقال: نَسَكْتُ للّه، أي: ذَبَحْتُ له. ١٩٧{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة. __________ (١) راجع تأويل مشكل القرآن ٢١٥. (٢) يريد به كسر الراحلة، وكذلك عبر الطبري في بسطه لهذا الكلام ٤/٢٢ وانظر معنى الإحصار واختلاف العلماء في المانع في تفسير القرطبي ٢/٣٧١ - ٣٧٢ والبحر المحيط ٢/٦٠. (٣) الذي قرأه بالتشديد الأعرج، كما في اللسان ٢٠/٢٣٤. وإنما سمي هديا لأن مهديه يتقرب به إلى اللّه، وهو بمنزلة الهدية يهديها الرجل إلى غيره، يتقرب بها إليه، كما قال الطبري ٣/٣٥. {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} أي: أحْرَمَ (١) . {فَلا رَفَثَ} أي: لا جماع. {وَلا فُسُوقَ} أي: لا سباب. {وَلا جِدَالَ} أي لا مِرَاء. ١٩٨{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} (٢) أي: نفعا بالتجارة في حجّكم. {فَإِذَا أَفَضْتُمْ} أي دَفَعْتُم (٣) {مِنْ عَرَفَاتٍ} ١٩٩{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} كانت قريش لا تخرج من الحرم، وتقول: لسنا كسائر الناس، نحن أهل اللّه وقُطَّانُ حَرَمِه: فلا نخرج منه. وكان الناس يقفون خارج الحرم ويُفِيضون منه. فأمرهم اللّه أن يقفوا حيث يقف الناس: ويفيضوا من حيث أفاض الناس. ٢٠٠{فَاذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} كانوا في الجاهلية إذا فرغوا من حجهم ذكروا آباءهم بأحسن أفعالهم. فيقول أحدهم: كان أبي يَقْرِي الضيف ويصل الرحم ويفعل كذا ويفعل كذا. قال اللّه عز وجل: فاذْكُرُونِي كذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} ؛ فأنا فعلتُ ذلك بكم وبهم. ٢٠١{آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي نعمة. وقال في موضع آخر: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} (٤) أي نعمة. __________ (١) وهذا تفسير ابن عباس كما في تفسير الطبري ٤/١٢٣. (٢) فسرها ابن عباس بقوله: "لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده" كما في تفسير الطبري ٤/١٦٣ وانظر أسباب النزول ٤٢. (٣) في مجاز القرآن ٧١ وتفسير الطبري ٤/١٧٠ "أي رجعتم من حيث جئتم" وفي اللسان ٩/٤٤٣ "وفي الحديث: أنه دفع من عرفات، أي ابتدأ السير". (٤) سورة التوبة ٥٠. ٢٠٢{أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} أي لهم نصيب من حجهم بالثواب. ٢٠٣{وَاذْكُرُوا اللّه فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} أيام التَّشْريق. والأيام المعلومات: عَشْرُ ذي الحجة (١) . ٢٠٤{أَلَدُّ الْخِصَامِ} أشَدّهم خصومة. يقال: رجل ألدُّ، بيِّنُ اللَّدَد. وقوم لُدٌّ. والخِصَام جمع خَصْم. ويجمعُ على فُعُول وفِعَال. يقال: خَصْم وخِصَام وخُصُوم. ٢٠٥{وَإِذَا تَوَلَّى} أي فارقك. {سَعَى فِي الأَرْضِ} أي: أسرع فيها. {لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ} يعني الزرع. {وَالنَّسْلَ} يريد الحيوان. أي يحرق ويقتل ويخرب. ٢٠٦{وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي الفِراش. ومنه يقال: مَهَّدْتُ فلانا إذا وطَّأْت له. ومَهْدُ الصبيّ منه. ٢٠٧{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه} أي __________ (١) عن مجاز القرآن ٧١ وفي اللسان ١٢/٤٢ "وتشريق اللحم تقطيعه وتقديده وبسطه، ومنه سميت أيام التشريق. وأيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر؛ لأن لحم الأضاحي يشرق فيها للشمس، أي يشرر. وقيل: سميت بذلك لأنهم كانوا يقولون في الجاهلية: "أشرق ثبير، كيما نغير" أي ادخل أيها الجبل في الشروق وهو ضوء الشمس كيما نغير، أي كيما ندفع للنحر، وكانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس فخالفهم رسول اللّه. وقال ابن الأعرابي: سميت بذلك لأن الهدي والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس أي تطلع. وقال أبو عبيد: فيه قولان: يقال: سميت بذلك لأنهم كانوا يشرقون لحوم الأضاحي. وقيل: بل سميت بذلك لأنها كلها أيام تشريق لصلاة يوم النحر. يقول: فصارت هذه الأيام تبعا ليوم النحر. قال: وهذا أعجب القولين إلي". يبيعها. يقال: شَرَيْتُ الشيءَ؛ إذا بعته واشتريته. وهو من الأضداد. ٢٠٨{ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} الإسلام. وتُقرأ في السَّلم بفتح السين أيضا (١) وأصل السِّلْم والسَّلْم الصلح. فإذا نصبت اللام فهو الاستسلام والانقياد. قال: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ} (٢) أي استسلم وانقاد. {كَافَّةً} أي جميعا. ٢١٠{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّه} أي: هل ينتظرون إلا ذلك يوم القيامة. {وَقُضِيَ الأَمْرُ} أي فُرِغَ منه. ٢١٣{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي مِلَّة واحدة. يعني كانوا كفارًا كلهم. ٢١٤{مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} الشدّة. {وَالضَّرَّاءُ} البلاء. {وَزُلْزِلُوا} خُوِّفوا وأُرهبوا. ٢١٥{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} أي: ماذا يُعطُون ويتصدقون؟ {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ} ما أعْطَيْتُم. {مِنْ خَيْرٍ} أي: من مال. __________ (١) راجع تفسير الطبري ٤/٢٥٢. (٢) سورة النساء ٩٤. وانظر تأويل مشكل القرآن ٣٦٦. ٢١٦{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} أي: فُرض عليكم الجهادُ. {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} أي مشقّة. ٢١٧{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} أي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام: هل يجوز؟ فأبدل قتالا من الشهر الحرام. {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} أي: القتال فيه عظيم عند اللّه. وتم الكلام. ثم قال: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّه وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وخَفض المسجد الحرام نَسَقًا على سبيل اللّه. فكأنه قال: وصَدٌّ عن سبيل اللّه وعن المسجد الحرام، وكفرٌ به؛ أي باللّه. {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} أي: أهل المسجد منه. {أَكْبَرُ عِنْدَ اللّه} يريد: من القتال في الشهر الحرام. {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} أي: الشرك أعظم من القتل. {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي بطلت. ٢١٩{وَالْمَيْسِرِ} القمار. وقد ذكرناه في سورة المائدة، وذكرنا النفع به. {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} أي: ماذا يتصدقون ويعطون؟ {قُلِ الْعَفْوَ} يعني: فضلَ المال. يريد: أن يعطي ما فضل عن قوته وقوت عياله. ويقال: "خذ ما عفا لك" أي: ما أتاك سهلا بلا إكراه ولا مشقة. ومنه قوله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} (١) ؛ أي: اقبل من الناس عفوهم، وما تطوعوا به من أموالهم؛ ولا تستَقْص عليهم. ٢٢٠{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} أي تثمير أموالهم، والتنزه عن أكلها لمن وليها - خيرٌ. {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} فتواكلوهم. {فَإِخْوَانُكُمْ} فهم إخوانكم؛ حكمهم في ذلك حكم إخوانِكم من المسلمين. {وَاللّه يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} أي: من كان يخالطهم على جهة الخيانة والإفساد لأموالهم، ومن كان يخالطهم على جهة التنزه والإصلاح. {وَلَوْ شَاءَ اللّه لأَعْنَتَكُمْ} أي: ضَيَّقَ عليكم وشدّد. ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم. ومنه يقال: أعْنَتَنِي فلان في السؤال؛ إذا شدّد عليَّ وطلب عَنَتِي، وهو الإضرَار. يقال: عَنِتت الدابة، وأعْنَتَها البيطار؛ إذا ظَلَعَت. ٢٢١{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} أي: لا تتزوجوا الإماءَ المشركاتِ (٢) . __________ (١) سورة الأعراف ١٩٩، وانظر تأويل مشكل القرآن ٣ واللسان ١٩/٣٠٧. (٢) الرأي عندي في تأويل هذه الآية أن يقال: إن اللّه سبحانه قد حرم على "المؤمنين" التزوج بالمشركات سواء أكن وثنيات ومجوسيات أم كن يهوديات ونصرانيات: قالشرك هو الكفر وكل من كفر بما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم، فهو مشرك، وأهل الكتاب لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم اللّه، ولا يدينون دين الحق. وهم يريدون إطفاء نور اللّه بأفواههم، ولكن اللّه يأبى إلا أن يتم نوره ويظهر الإسلام على "الدين كله ولو كره المشركون" وهم مشركون بنص القرآن. كما قال تعالى في سورة التوبة (وقالت اليهود عزير ابن اللّه وقالت النصارى المسيح ابن اللّه ذلك قولهم بأفوههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم اللّه أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) . وأما إباحة التزوج بالحرائر اليهوديات والنصرانيات فقد جاءت به آية أخرى من أواخر ما نزل من القرآن، وهي قوله تعالى في سورة المائدة: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) . {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} [أي: لا تزوِّجوا المشركين] المسلماتِ {حَتَّى يُؤْمِنُوا} (١) . ٢٢٢{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي: ينقطعَ عنهن الدمُ. يقال: طَهُرت وطَهَرت؛ إذا رأت الطُّهْر، وإن لم تغتسل بالماء. ومن قرأ (يَطَّهَّرْنَ) أراد: يغتسلن بالماء. والأصل: "يتطهرن". فأدغم التاء في الطاء. ٢٢٣{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} كناية (٢) . وأصل الحرث: الزَّرْع. أي: هُنَّ للولد كالأرض للزرع. __________ (١) وكما حرم اللّه المؤمنين أن يتزوجوا بالمشركات، فكذلك حرم على المسلمات أن يتزوجن بغير المسلم، ولو كان يهوديا أو نصرانيا؛ لأن اليهود والنصارى كفار "مشركون" بنص القرآن وهذه الآية نص صريح في تحريم المسلمة على كل مشرك. وقد زعم الشيخ "محمد رشيد رضا" في تفسير المنار ٣/٣٥١ أن تحريم زواج المسلمة باليهودي والنصراني لم يثبت بنص القرآن. وهو زعم باطل فتن به بعض المعاصرين. (٢) في مجاز القرآن ٧٣ "كناية وتشبيه". {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أي: كيف شئتم (١) . {وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} في طلب الولد. ٢٢٤{وَلا تَجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا} (٢) يقول: لا تجعلوا اللّه بالحلف به - مانعا لكم من أن تبروا وتتقوا. ولكن إذا حلفتم على أن لا تصلوا رحما، ولا تتصدقوا، ولا تصلحوا؛ وعلى أشباه ذلك من أبواب البر -: فكفِّروا، وأتوا الذي هو خير. ٢٢٥{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} ؛ واللغو في اليمين: ما يجري في الكلام على غير عَقْد. ويقال: اللغو أن تحلِف على الشيء تَرَى أنه كذلك وليس كذلك. يقول: لا يؤاخذُكم اللّه بهذا. {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي: بما تحلفون عليه وقلوبكم مُتَعَمِّدةٌ، وتعلمون أنكم فيه كاذبون. ٢٢٦{يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} يحلفون. يقال: أَلَيْتُ من امرأتي أُولِي __________ (١) يعني مضجعة وقائمة ومنحرفة ومقبلة ومدبرة، إذا كان في قبلها وفي غير الحيض. قال أبو جعفر الطبري ٤/٤١٥ "والذي يدل على فساد قول من تأول قول اللّه (فأتوا حرثكم أنى شئتم) ، كيف شئتم، أو تأوله بمعنى: حيث شئتم، أو بمعنى: متى شئتم، أو بمعنى: أين شئتم - أن قائلا لو قال لآخر: أنى تأتي أهلك؟ لكان الجواب أن يقول: من قبلها أو: من دبرها، كما أخبر اللّه عن مريم إذ سئلت (أنى لك هذا) أنها قالت: (هو من عند اللّه) وإذ كان ذلك هو الجواب، فمعلوم أن معنى الآية إنما هو: فأتوا حرثكم من حيث شئتم من وجوه المأتى؛ وأن ما عدا ذلك من التأويلات فليس للآية بتأويل وإذا كان ذلك هو الصحيح، فبين خطأ قول من زعم أن قوله (فأتوا حرثكم أنى شئتم) ، دليل على إباحة إتيان النساء في الأدبار. لأن الدبر لا يحترث فيه. وانظر آداب الشافعي ١١٧، ٢٩٣. (٢) العرضة في كلام العرب: القوة والشدة. يعني لا تجعلوا اللّه قوة لأيمانكم في أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس ولكن ... كما قال الطبري في تفسيره ٤/٤٢٥. إيلاء؛ إذا حلف أن لا يجامعَها. والاسم الألِيَّة. {فَإِنْ فَاءُوا} أي رجعوا إلى نسائهم. ٢٢٨{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وهي الحِيَض: (١) وهي: الأطهار أيضا (٢) . واحدها قُرْءٌ. ويُجمع على أقْرَاء أيضا. قال الأعشى: وَفِي كلِّ عام أنت جَاشِمُ غَزْوَةٍ ... تَشُدُّ لأقْصاها عَزِيمَ عَزَائِكَا (٣) مُوَرِّثةٍ مالا وفي الحَيّ رِفْعَةً ... لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا (٤) فالقُروء في هذا البيت الأطهار. لأنه لما خرج للغزو: لم يغش نساءَه، فأضاع قُرُوءَهُنَّ؛ أي أطْهَارَهُن. وقال النبي صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم في المستحاضة: " تقعد عن الصلاة أيام أقرائها " (٥) ؛ يريد أيام حِيَضها. قال الشاعر: يا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عليَّ فَارِضٍ ... لَهُ قُروءٌ كقُروء الحائضِ (٦) __________ (١) في اللسان ٨/٤١٢: "والحيضة المرة الواحدة من دفع الحيض ونوبه. والحيضات جماعة. والحيضة الاسم بالكسر، والجمع الحيض". (٢) راجع كلام الشافعي في الرسالة ٥٦٢ - ٥٨٦، وأحكام القرآن له: ١/٢٤٢ - ٢٤٧. (٣) ديوانه ٦٧، ومجاز القرآن ١/٧٤، والكامل: ١/٢٣٨ وتفسير الطبري ٤/٥١٢، وتفسير القرطبي ٣/١١٣، والأضداد لابن الأنباري ٢٤. والعزيم: العزم. والعزاء: حسن الصبر على كل مفقود. (٤) البيت في الصحاح ١/٦٤. وفي الأضداد: "معناه من أطهار نسائك، أي ضيعت أطهار النساء فلم تغشهن مؤثرا للغزو؛ فأورثك ذاك المال والرفعة" وهو مع شرحه في اللسان ١/١٢٦ وفي ديوانه: "وفي المجد رفعة". وفي المصادر الأخرى: "وفي الأصل". (٥) اللسان ١/١٢٥، ١٢٦. (٦) سبق في صفحة ٥٣. فالقُرُوء في هذا البيت: الحِيَضُ. يريد: أن عدواته تَهِيجُ في أوقات معلومة، كما تحيض المرأة لأوقات معلومة. وإنما جُعل الحيضُ قرأً والطهر قرأً: لأن أصل القرء في كلام العرب: الوقت. يقال: رجع فلان لقرئه، أي لوقته الذي كان يرجع فيه. ورجع لقارئه أيضا. قال الهذَليّ: كَرِهْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَنِي شُلَيْلٍ ... إذا هَبَّت لقارِئِها الرِّياحُ (١) أي لوقتها. فالحيض يأتي لوقت، والطهر يأتي لوقت. {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّه فِي أَرْحَامِهِنَّ} يعني: الحمل (٢) . {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} ؛ يريد: الرجعة ما لم تنقض الحيضة الثالثة. {وَلَهُنَّ} على الأزواج، {مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} للأزواج. {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ} فِي الْحَقِّ {دَرَجَةٌ} أي: فضيلةٌ (٣) . __________ (١) البيت لمالك بن الحارث، كما في ديوان الهذليين: ٣/٨٣، والأضداد لابن الأنباري ٢٢ ومعجم ما استعجم للبكري ٣/٩٥٠ وغير منسوب في تفسير الطبري ٤/٥١١ وتفسير القرطبي ٣/١١٣ واللسان ٦/٢٧٦ والعقر: اسم مكان كرهه لأنه قوتل فيه. وفسره الأصمعي بالقصر، وأنشد البيت شاهدا عليه كما في معجم ما استعجم. وشليل: جد جرير ابن عبد اللّه البجلي. (٢) راجع قول الشافعي في الأم ٥/١٩٥ وأحكام القرآن ١/٢٤٨. (٣) وقيل: بل تلك الدرجة: الإمرة والطاعة، وقيل غير ذلك. قال أبو جعفر الطبري ٤/٥٣٥ "وأولى هذه الأقوال بتأويل تلك الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن "الدرجة: الصفح من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وإغضاؤه لها عنه، وأداء كل الواجب لها عليه. . . وهذا القول من اللّه وإن كان ظاهره ظاهر الخبر، فمعناه معنى ندب الرجال إلى الأخذ على النساء بالفضل، ليكون لهم عليهن فضل درجة" وانظر بقية كلام الطبري، فهو رائع بالغ الروعة، دقيق عظيم الدقة. ٢٢٩{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} يقول: الطلاق الذي يملك فيه الرجعةَ تطليقتان. {فَإِمْسَاكٌ} بَعْدَ ذَلِكَ، {بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أي: تطليق الثالثة بإحسان. {إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللّه} أي: يعلمان أنهما لا يقيمان حدود اللّه. {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللّه} أي: علمتم ذلك. {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي: لا جناح على المرأة والزوج. {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} المرأة نفسها من الزوج. ٢٣٠{إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللّه} يريد: إن علما أنهما يقيمان حدوده. ٢٣١{وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} ؛ كانوا إذا طلق أحدهم امرأته: فهو أحقُّ برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة؛ فإذا أراد أن يضر بامرأته: تركها حتى تحيضَ الحيضة الثالثة، ثم راجعها. ويفعل ذلك في التطليقة الثالثة. فتطويله عليها هو: الضِّرار. ٢٣٢{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} أي: لا تحبسوهن. يقال: عضل الرجل أيِّمَه؛ إذا منعها من التزويج (١) . {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} يعني: تزويجًا صحيحًا. __________ (١) راجع كلام الشافعي في الأم ٥/١١ وأحكام القرآن ١/١٧١. ٢٣٣{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي: على الزوج إطعام المرأةِ والوليدِ والكسوة على قدر الجِدَة. {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا} أي: طاقتها. {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} بمعنى: لا تضارَر. ثم أدغم الراء في الراء. أي: لا ينزعْ الرجل ولدها منها فيدفعَه إلى مُرْضع أخرى، وهي صحيحة لها لبن. {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} يعني: الأب. يقال: إذا أرضعت المرأة صبيها وأَلِفَها، دفعتهُ إلى أبيه: تُضارُّه بذلك. {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} يقول: إذا لم يكن للصبي أب، فعلى وارثه نفقته. و (الفِصَالُ) : الفطام. يقال: فَصَلتُ الصبيَّ؛ إذا فطمته. ومنه قيل للحُوَار (١) - إذا قطع عن الرضاع -: فصيل. لأنه فُصِل عن أمه. وأصل الفصل: التفريق. ٢٣٤{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي: منتهى العدة (٢) . {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي: لا جناح عليهن في التزويج الصحيح. ٢٣٥{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} وهو: أن يُعَرِّض للمرأة في عدتها بتزويجه لها، من غير تصريح بذلك. فيقول لها: واللّه __________ (١) الحوار: ولد الناقة في عامه الأول، وفصاله في أول الثاني كما في آداب الشافعي ٢٤٢. (٢) راجع ما قاله الشافعي في الأم ٥/٢٢٩ - ٢٣٠. إنك لجميلة، وإنك لشابّة. وإن النساء لمنْ حاجتي (١) ؛ ولعل اللّه أن يسوق إليك خيرًا. هذا وما أشبهه. {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} أي: نكاحا (٢) . يقول: لا تواعدوهن بالتزويج - وهن في العدة - تصريحا بذلك. {إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} لا تذكرون فيه نكاحا ولا رَفَثا. {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أي لا تُوَاقِعوا عُقْدَة النكاح (٣) . {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} ؛ يريد: حتى تنقضيَ العدة التي كُتب على المرأة أن تَعْتَدَّها. أي فُرض عليها. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} أي: يعلم ما تحتالون به في ذلك على مخالفة ما أراد؛ فاحذروه. ٢٣٦{أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} يعني: المهر. {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} أي: أعطوهن مُتْعَةَ الطلاق على قدر الغنى والفقر. ٢٣٧{فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} من المهر. أي: فلهن نصف ذلك. {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} __________ (١) هذا من قول مجاهد، كما في تفسير الطبري ٥/٩٧. (٢) يرى الطبري أن السر في هذا الموضع: الزنا، فانظر رأيه في تفسيره ٥/١١٠ - ١١٣. (٣) في تفسير الطبري ٥/١١٥ "لا تصححوا عقدة النكاح في عدة المعتدة.." وانظر البحر المحيط ٢/٢٢٩. أي: يَهَبْنَ. {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} يعني: الزوجَ. وهذا في المرأة: تُطلَّق من قبل أن يُدخل بها، وقد فُرِضَ لها المهرُ. فلها نِصْفُ ما فُرِض لها؛ إلا أن تهبَه، أو يتممَ لها الزوجُ الصداق كاملا. وقد قيل: إن الذي بيده عقدة النكاح: الأبُ (١) . يراد: إلا أن يعفو النساء عما يجب لهن من نصف المهر، أو يعفو الأب عن ذلك؛ فيكون عفوه جائزا عن ابنته. {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} حضّهم اللّه على العفو. ٢٣٨{وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} (٢) صلاة العصر. لأنها بين صلاتين في النهار، وصلاتين في الليل. {وَقُومُوا للّه قَانِتِينَ} أي: مطيعين. ويقال: قائمين. ويقال: ممسكين عن الكلام. والقنوت يتصرف على وجوه قد بينتها في "المشكل" (٣) . __________ (١) راجع أحكام القرآن للشافعي ١/٢٠٠ - ٢٠١ وتفسير الطبري ٥/١٤٦ - ١٥٨ وأولى الأقوال عند الطبري قول من قال: إنه الزوج، كما في ٥/١٥٨. (٢) راجع تفسير الطبري ٥/١٦٧ - ٢٢٧. وذهب الشافعي إلى أنها صلاة الفجر، كما في أحكام القرآن ١/٥٩ ورجح الطبري أنها صلاة العصر. (٣) راجع تأويل مشكل القرآن ٣٥٠ وفتح الباري ٢/٣٣٥ وأحكام القرآن ١/٧٨. ٢٣٩{فَإِنْ خِفْتُمْ} يريد: إن خفتم عدوًّا. {فَرِجَالا} أي: مُشَاةً؛ جمع رَاجِل. مثل قائم وقِيام. {أَوْ رُكْبَانًا} يقول: تصلي ما أمِنتَ قائما؛ فإذا خفتَ صلّيت: راكبًا، وماشيًا. والخوف هاهنا بالتَّيقُّن، لا بالظن (١) . ٢٤٣{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} على جهة التعجب. كما تقول: ألا ترى ما يصنع فلان!! ٢٤٦{الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} وجوههم وأشرافهم. ٢٤٧{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} أي: سَعَةً في العلم والجسم. وهو من قولك: بسطت الشيء؛ إذا كان مجموعا: ففتحتَه ووسعتَه. ٢٤٨{إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} أي: علامةَ ملكه. {فِيهِ سَكِينَةٌ} السكينةُ فعِيلةٌ: من السكون (٢) . {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} ؛ يقال: شيءٌ من المَنِّ الذي كان ينزل عليهم، وشيء من رُضَاضِ (٣) الألواح. ٢٤٩{مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} أي: مُخْتَبِرُكُم. __________ (١) راجع تحديد معنى الخوف الذي يجيز الصلاة على هذا النحو في تفسير الطبري ٥/٢٤٤ - ٢٤٧. (٢) قال الطبري ٥/٣٢٩ " وأولى الأقوال بالحق في معنى السكينة ما قاله عطاء بن أبي رباح: من الشيء تسكن إليه النفوس من الآيات التي يعرفونها، وذلك أن السكينة في كلام العرب الفعيلة ... ". (٣) في اللسان ٩/١٤ "ورضاض الشيء فتاته وكساره". {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللّه} أي يعلمون. {كَمْ مِنْ فِئَةٍ} الفِئَة: الجماعة. ٢٥٠{أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أي صُبَّه علينا، كما يُفرغ الدّلوُ. ٢٥٤{وَلا خُلَّةٌ} أي: ولا صداقة تنفع يومئذ. ومنه الخليل. ٢٥٥و (السِّنَةُ) : النُّعَاسُ من غير نوم. قال ابن الرِّقاع: وَسْنَانُ أقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ ... فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ (١) فأعلمك أنه وسنان؛ أي: ناعس، وهو غير نائم. وفَرْقُ اللّه سبحانه بين السِّنة والنوم، يَدُلُّك على ذلك. {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي: لا يُثقله. يقال: آدَهُ الشيءُ يؤُودُهُ وآدَه يَئِيدُه، والوَأْد: الثّقل. ٢٥٦{لا انْفِصَامَ لَهَا} أي: لا انكسار. يقال: فَصمتُ القدَح؛ إذا كسرتَه وقصمته. ٢٥٨{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّه الْمُلْكَ} أي: حَاجَّه لأن آتاه اللّه الملك؛ فأعجب بنفسه وملكه فقال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} __________ (١) البيت له في مجاز القرآن ٧٨ وتفسير الطبري ٥/٣٨٩ والشعر والشعراء ٢/٦٠٢ والأغاني ٨/١٨١ وأمالي المرتضى ١/٥١١ والكامل ١/١٢٧ وتفسير القرطبي ٣/٢٧٢ والكشاف ١/١٥٣ واللسان ١١/٤١٩، ١٧/٣٤٠ وعنوان المرقصات والمطربات لابن سعيد المغربي ٣٠ وسمط اللآلي ١/٥٢١ يقال: امرأة وسنى ووسنانة: فاتزة الطرف، شبهت بالمرأة الوسنى من النوم. والإقصاد: أن يصيبه السهم فيقتله من فوره، وهو هاهنا استعارة، أي أقصده النعاس فأنامه. رنقت: دارت وماجت. أي: أعفو عمن استحق القتل فأحييه؛ و "أميت": أقتل من أريد قتله فيموت. {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} أي: انقطعت حجته. ٢٥٩{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} أي: هل رأيت [أحدا كالذي حاج إبراهيم في ربه] أو كالذي مر (١) على قرية؟! على طريق التعجب. {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} أي: خراب. و {عُرُوشِهَا} سقوفها (٢) . وأصل ذلك أن تسقط السقوف ثم تسقط الحيطان عليها. {ثُمَّ بَعَثَهُ} اللّه، أي: أحياه. {لَمْ يَتَسَنَّهْ} لم يتغيرْ بممر السنين عليه. واللفظ مأخوذ من السَّنة. يقال: سانَهَتْ النَّخْلَةُ؛ إذا حملت عاما، وحَالَتْ (٣) عاما. قال الشاعر: وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلا رُجَّبِيَّةٍ ... وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ (٤) __________ (١) راجع اختلاف أهل التأويل في تعيين الذي مر والقرية التي مر بها في تفسير الطبري ٥/٤٣٩ - ٤٤٤. (٢) في تفسير الطبري ٥/٤٤٥ " وأما العروش، فإنها الأبنية والبيوت، واحدها: عرش". (٣) يقال: حالت تحيل حيالا؛ إذا لم تحمل. (٤) البيت لسويد بن الصامت الأنصاري، كما في اللسان ١/٣٩٧، ٣/٢٥٦، ٣٩٧، ١٧/٣٩٦، ١٩/٢٧٨، وسمط اللآلي ١/٣٦١ وهو غير منسوب في معاني القرآن للفراء ١/١٧٣، وأمالي القالي ١/١٢١، وتفسير الطبري ٥/٤٦١، والصحاح ١/١٣٤، وتفسير القرطبي ٣/٢٩٣، والبحر المحيط ٢/٢٨٥ يصف نخله بالجودة وأنها ليس فيها سنهاء، وقد قيل في تفسير السنهاء، غير ما قاله ابن قتيبة أقوال شتى، فقال الفراء؛ إنها القديمة، وقال الأصمعي: إنها التي أصابتها السنة، يعني أضر بها الجدب. والرجبية: التي يبنى تحتها لضعفها - رجبة. والرجبة والرُّجمة: أن تعمد النخلة الكريمة - إذا خيف عليها أن تقع لطولها وكثرة حملها - ببناء من حجارة ترجَّب بها أي تعمد به. ويكون ترجيبها: أن يجعل حول النخلة شوك لئلا يرقى إليها راق فيجنى ثمرها. والعرايا: جمع عرية، وهي التي يوهب ثمرها. والجوائح: السنون الشداد التي تجيح المال، أي تهلكه. وكأن "سَنةً" من المنقوص: وأصلها: "سَنْهَةٌ". فَمَن ذهب إلى هذا قرأها - في الوصل والوقف - بالهاء: "يَتَسَنَّهْ". قال أبو عَمْرو الشّيباني (١) "لم يَتَسَنَّهْ": لم يتغير؛ من قوله: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (٢) ؛ فأبدلوا النون من "يَتَسَنَّنْ" هاء. كما قالوا: تَظَنَّيْتُ (٣) وَقَصَّيْتُ أظفاري، وخرجنا نَتَلَعّى (٤) . أي نَأْخُذ اللّعَاع. وهو: بقل ناعم. {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} أي: دليلا للناس، وعَلَما على قُدرتنا. وأضمر "فَعلْنا ذلك" (٥) . (كَيْفَ نُنْشِرُهَا) بالراء، أي: نحييها. يقال: أنشرَ اللّه الميت فنَشَر. وقال: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} (٦) ومن قرأ {نُنْشِزُهَا} بالزاي، أراد: نحرك بعضها إلى بعض ونزعجه (٧) . ومنه يقال: نَشزَ الشيءُ، ونَشَزَتْ المَرْأةُ على زوجها. __________ (١) قول أبي عمرو في اللسان ١٧/٣٩٧. (٢) سورة الحجر ٢٦، ٢٨، ٣٣. (٣) في اللسان ١٧/١٤٤ عن أبي عبيدة: "تظنيت من ظننت، وأصله تظننت، فكثرت النونات، فقلبت إحداهما ياء، كما قالوا: قصيت أظفاري والأصل: قصصت أظفاري". (٤) في اللسان ١٠/١٩٥ "كان في الأصل نتلعع، مكرر العينات، فقلبت إحداهما ياء، كما قالوا: تظنيت من الظن". (٥) في معاني القرآن للفراء ١/١٧٣ "إنما أدخلت فيه الواو لنية فعل بعدها مضمر، كأنه قال: ولنجعلك آية فعلنا ذلك، وهو كثير في القرآن ". وقال الطبري ٥/٤٧٣ "ولنجعلك آية للناس؛ أمتناك مائة عام ثم بعثناك ... وكان بعض أهل التأويل يقول: كان آية للناس بأنه جاء بعد مائة عام إلى ولده وولد ولده - شابا وهم شيوخ". (٦) سورة عبس ٢٢. (٧) عبارة الطبري ٥/٤٧٦ "كيف نرفعها من أماكنها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد". وقرأ الحسن: "نَنْشُرُها". كأنه من النَّشْر عن الطَّيِّ (١) . أو على أنه يجوز "أنشرَ اللّه الميت ونشره": إذا أحياه. ولم أسمع به [في "فَعَل" و "أفْعَلَ"] . ٢٦٠{قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بالنظر. كأن قلبه كان معلَّقا بأن يرى ذلك (٢) . فإذا رآه اطمأن وسكن، وذهبت عنه محبة الرؤية. {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أي: فضُمَّهُنَّ إليك. يقال: صُرْتُ الشيء فانْصار؛ أي: أمَلتُه فمال. وفيه لغة أخرى: "صِرْته" بكسر الصاد. {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} أي: رُبعا من كل طائر. فأضمر "فقطعهن"، واكتفى بقوله: (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ) عن قوله: فقطعهن. لأنه يدل عليه. وهذا كما تقول: خذ هذا الثوب، واجعل على كل رمح عندك منه عَلما. __________ (١) في البحر المحيط ٢/٢٩٣ "ويحتمل أن يكون ضد الطي، كأن الموت طي العظام والأعضاء، وكأن جمع بعضها إلى بعض نشر". (٢) أي كيفية إحياء الموتى، قيل: إن إبراهيم رأى دابة قد تقسمتها السباع والطير، فسأل ربه كيفية إحيائه إياها، مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض، ليرى ذلك عيانا، فيزداد يقينا برؤيته ذلك عيانا إلى علمه به خبرا. وقيل غير ذلك، راجع أسباب النزول للواحدى ٥٩ وتفسير الطبري ٥/٤٨٥ والدر المنثور ١/٣٣٤. {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} يقال: عَدْوًا. ويقال: مشيًا على أرجلهن ولا يقال للطائر إذا طار: سعى. ٢٦٤و (الصَّفْوَانُ) : الحجر. و (الوَابِلُ) : أشدُّ المطر و (الصَّلْدُ) : الأملس. ٢٦٥{وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي تحقيقًا من أنفسهم. (الرَّبْوة) : الارتفاع. يقال: رَبْوَة، ورُبوة أيضا. {أُكُلَهَا} : ثَمَرُها. (الطَّلُّ) : أضعف المطر. ٢٦٦(الإعْصَارُ) : ريح شديدة تعصف وترفع ترابا إلى السماء كأنه عمود (١) . قال الشاعر: *إِنْ كُنْتَ رِيحًا فَقَدْ لاقَيْتَ إعْصَارًا* (٢) أي: لاقيتَ ما هو أشد منك. ٢٦٧{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} يقول: تصدقوا من طيبات __________ (١) تفسير الطبري ٥/٥٥١ وفي مجاز القرآن ٨٢ "عمود فيه نار". (٢) في مجمع الأمثال ١/٣٠ "قال أبو عبيدة: الإعصار: ريح تهب شديدة فيما بين السماء والأرض. يضرب مثلا للمدل بنفسه إذا صلى بمن هو أدهى منه وأشد". ما تكسبون: الذهب والفضة. {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} أي: لا تقصدون للرديء والحشف من التمر، وما لا تأخذونه أنتم إلا بالإغماض فيه. أي: بأن تترخَّصوا (١) . ٢٧٢{يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي: تُوَفَّوْن أجره. ٢٧٣{يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ} لم يُرِد الجهل الذي هو ضد العقل؛ وإنما أراد الجهل الذي هو ضد الخِبرَة. يقول: يحسبهم من لا يَخْبُر أمرهم. {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} أي: إلحاحًا. يقال: ألحف في المسألة؛ إذا ألح. ٢٧٥{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ} من قبورهم يوم القيامة. {إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} أي: من الجنون؛ [يقال: رجل ممسوس] . ٢٧٩{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّه} أي: اعْلَمُوا. ومن قرأ: "فآذِنُوا بحرب". أراد: آذِنوا غيركم من أصحابكم. يقال: آذَنَنِي فأَذِنْت. __________ (١) في تفسير الطبري ٥/٥٦٣ "إلا أن تتجافوا في أخذكم إياه عن بعض الواجب لكم من حقكم، فترخِّصوا فيه لأنفسكم". ٢٨٠{فَنَظِرَةٌ إِلَى [مَيْسَرَةٍ} أي انتظارٌ (١) . {وَأَنْ تَصَدَّقُوا} بما لَكُم على المعسر {خَيْرٌ لَكُمْ} ٢٨٢{فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} أي] : وَليُّ الحق (٢) . {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} أي: تنسى إحداهما الشهادة، فتذكرها الأخرى. ومنه قول موسى عليه السلام: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} (٣) أي: من الناسين. {وَلا تَسْأَمُوا} أي: لا تملوا. {أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا} من الدَّيْن كان {أَوْ كَبِيرًا} {أَقْسَطُ عِنْدَ اللّه} أعْدَلُ. {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} لأن الكِتَابَ يُذَكِّرُ الشهودَ جميعَ ما شهدوا عليه. {وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} أي: أن لا تَشُكُّوا (٤) . {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} أي: تَتَبايَعُونها بينكم. __________ (١) في تفسير الطبري ٦/٢٩ "والميسرة المفعلة من اليسر، مثل المرحمة والمشأمة. ومعنى الكلام: وإن كان من غرمائكم ذو عسرة، فعليكم أن تنظروه حتى يوسر بالدين الذي لكم فيصير من أهل اليسر به". (٢) في معاني القرآن للفراء ١/١٨٣ "يعني صاحب الحق، فإن شئت جعلت "الهاء" للذي ولي الدين، وإن شئت جعلتها للمطلوب، كل ذلك جائز. وأورد الطبري الرأيين في تفسيره ٦/٥٩ - ٦٠ وقال القرطبي في تفسيره ٣/٣٨٨ "ذهب الطبري إلى أن الضمير في "وليه" عائد على "الحق" وأسند ذلك عن الربيع وابن عباس. وقيل هو عائد على "الذي عليه الحق" وهو الصحيح. وما روي عن ابن عباس لا يصح. وكيف تشهد البينة على شيء وتدخل مالا في ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين! هذا شيء ليس في الشريعة" والذي يقرأ هذا النقد لا يرتاب في أنه من كلام القرطبي، ولكنه منقول بنصه وفصه من تفسير ابن عطية، راجع البحر المحيط ٢/٣٤٥. (٣) سورة الشعراء ٢٠. (٤) قارن ما سبق في الآية بما قاله الطبري في تفسيرها ٦/٨٦. {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ} فيكتبَ ما لم يُمْلَلْ عليه. {وَلا شَهِيدٌ} فيشهدَ ما لم يستشهد. ويقال: هو أن يمتنعا إذا دُعِيا. ويقال: "لا يُضَار" بمعنى لا يُضارَر "كاتب" أي: يأتيه فيشغله عن سوقه وصنعته. هذا قول مُجَاهد (١) والكلبي. ٢٨٣{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} جمع "رَهْن". ومن قرأ (فَرُهُنٌ مَقْبُوضة) أراد جمع "رِهَان" فكأنه جمع الجمع. ٢٨٥{لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ["أحد" في معنى جميع. كأنه قال: لا نفرق بين رسله] ، فنؤمنَ بواحد، ونكفرَ بواحد. ٢٨٦{وُسْعَهَا} طاقتها. (الإصْر) : الثِّقْل أي: لا تثقل علينا من الفرائض، ما ثقلته على بني إسرائيلَ. {أَنْتَ مَوْلانَا} أي وليُّنا. __________ (١) راجع تفسير الطبري ٦/٨٨ والدر المنثور ١/٣٧١ وتفسير القرطبي ٣/٤٠٥. |
﴿ ٠ ﴾