سورة البقرة١بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (١) قال ابن عباس : هي أول ما نزل بالمدينة قيل سوى آية وهي قوله تعالى : وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّه فإنها نزلت يوم النحر بمكة في حجة الوداع وهي مائتان وست وقيل سبع وثمانون آية وستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة وخمسة وعشرون ألف حرف وخمسمائة حرف. (فصل : في فضلها) (م) عن أبي أمامة قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما اقرءوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة) قال معاوية بن سلام بلغني أن البطلة السحرة (قوله اقرءوا الزهراوين) سميتا بذلك لنورهما يقال لكل مستنير زاهر. قوله : كأنهما غمامتان أو غيايتان : قال أهل اللغة الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغيرها والمعنى أن ثوابهما يأتي كغمامتين (قوله : فرقان من طير صواف) الفرقان الجماعة من الطير والصواف جمع صافة وهي التي تصف أجنحتها عند الطيران يحاجان. المحاجة المجادلة والمخاصمة وإظهار الحجة والبطلة السحرة كما جاء في الحديث مبينا يقال أبطل إذا جاء بالباطل. وفي الحديث دليل على جواز قول سورة البقرة وسورة آل عمران وكذا باقي السور ، وأنه لا كراهة في ذلك وكرهه بعض المتقدمين. وقال : إنما يقال السورة التي يذكر فيها البقرة وكذا باقي السور والصواب هو الأول وبه قال الجمهور لورود النص به (م) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) وعنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب (بسم اللّه الرّحمن الرّحيم) قوله عز وجل : الم قيل إن حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر اللّه بعلمه ، وهي سر اللّه في القرآن ، فنحن نؤمن بظاهرها ، ونكل العلم فيها إلى اللّه تعالى ، وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها قال أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه ، في كل كتاب سر وسر اللّه في القرآن أوائل السور وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي. وأورد على هذا القول بأنه لا يجوز أن يخاطب اللّه عباده بما لا يعلمون ، وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكلف اللّه عباده بما لا يعقل معناه كرمي الجمار فإنه مما لا يعقل معناه والحكمة فيه هو كمال الانقياد والطاعة فكذلك هذه الحروف يجب الإيمان بها ولا يلزم البحث عنها. وقال آخرون من أهل العلم : هي معروفة المعاني. ثم اختلفوا فيها فقيل كل حرف منها مفتاح اسم من أسماء اللّه تعالى فالألف مفتاح اسمه اللّه واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد وقيل الألف آلاء اللّه واللام لطفه والميم ملكه ، ويؤيد هذا أن العرب تذكر حرفا من كلمة تريد كلها قال الراجز : قلت لها قفي فقالت قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف قولها : قاف أي وقفت فاكتفت بجزء الكلمة عن كلها ، والإيجاف الإسراع في السير قال ابن عباس : الم أنا اللّه أعلم. وقيل : هي أسماء اللّه مقطعة لو علم الناس تأليفها لعلموا اسم اللّه الأعظم ألا ترى أنك تقول الر وحم ون فيكون مجموعها الرحمن وكذلك سائرها ، ولكن لم يتهيأ تأليفها جميعا وقيل أسماء السور وبه قال جماعة من المحققين وقال ابن عباس : هي أقسام فقيل أقسم اللّه بهذه الحروف لشرفها وفضلها لأنها مباني كتبه المنزلة وأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، وإنما اقتصر على بعضها وإن كان المراد كلها فهو كما تقول قرأت الحمد للّه ، وتريد أنك قرأت السورة بكمالها فكأنه تعالى أقسم بهذه الحروف أو هذا الكتاب هو الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ وقيل إن اللّه تعالى لما تحداهم بقوله : فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وفي آية بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فعجزوا عنه أنزل هذه الأحرف ومعناه أن القرآن ليس هو إلّا من هذه الأحرف وأنتم قادرون عليها فكان يجب أن تأتوا بمثله فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند اللّه لا من عند البشر. وقيل : إنهم لما أعرضوا عن سماع القرآن وأراد اللّه صلاح بعضهم أنزل هذه الأحرف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين اسمعوا إلى ما يجيء به محمد فإذا أصغوا إليه وسمعوه رسخ في قلوبهم ، فكان ذلك سببا لإيمانهم ، وقيل : إن اللّه تعالى غير عقول الخلق في ابتداء خطابه ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى معرفة خطابه إلّا باعترافهم بالعجز عن معرفة كنه حقيقة خطابه. واعلم أن مجموع الأحرف المنزلة في أوائل السور أربعة عشر حرفا في تسع وعشرين سورة وهي الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون وهي نصف حروف المعجم ، وسيأتي الكلام على باقيها في مواضعها إن شاء اللّه تعالى. ٢وقوله تعالى : ذلِكَ الْكِتابُ أي هذا الكتاب هو القرآن وقيل فيه إضمار ، والمعنى هذا الكتاب الذي وعدتك به وكان اللّه قد وعد نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الرد ، فلما أنزل القرآن قال هذا ذلك الكتاب الذي وعدتك به وقيل إن اللّه وعد بني إسرائيل أن ينزل كتابا ويرسل رسولا من ولد إسماعيل. فلما هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة وبها من اليهود خلق كثير أنزل اللّه تعالى هذه الآية الم ذلِكَ الْكِتابُ أي هذا الكتاب الذي وعدت به على لسان موسى أن أنزله على النبي الذي هو من ولد إسماعيل والكتاب مصدر بمعنى المكتوب وأصله الضم والجمع ومنه يقال للجند كتيبة لاجتماعها فسمي الكتاب كتابا لأنه يجمع الحروف بعضها إلى بعض والكتاب اسم من أسماء القرآن لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أنه من عند اللّه وأنه الحق والصدق ، وقيل : هو خبر بمعنى النهي أي لا ترتابوا فيه. فإن قلت قد ارتاب به قوم فما معنى لا ريب فيه. قلت معناه أنه في نفسه حق وصدق فمن حقق النظر عرف حقيقة ذلك هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الهدى عبارة عن الدلالة وقيل دلالة بلطف وقيل الهداية الإرشاد والمعنى هو هدى للمتقين وقيل هو هاد لا ريب في هدايته والمتقي اسم فاعل من وقاه فاتقى والتقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف وقيل التقوى في عرف الشرع حفظ النفس مما يؤثم وذلك بترك المحظور وبعض المباحات قال ابن عباس : المتقي من يتقي الشرك والكبائر والفواحش ، وهو مأخوذ من الاتقاء وأصله الحجز بين الشيئين ، يقال : اتقى بترسه إذا جعله حاجزا بينه وبين ما يقصده وفي الحديث (كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم) معناه أنا كنا إذا اشتد الحرب جعلنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حاجزا بيننا وبين العدو فكأن المتقي يجعل امتثال أوامر اللّه واجتناب نواهيه حاجزا بينه وبين النار وقيل المتقي هو من لا يرى نفسه خيرا من أحد. وقيل : التقوى ترك ما حرم اللّه وأداء ما افترض. وقيل التقوى ترك الإصرار على المعصية وترك الاغترار بالطاعة. وقيل : التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك وقيل : التقوى الاقتداء بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه وفي الحديث (جماع التقوى في قوله تعالى : إِنَّ اللّه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية) وقيل المتقي هو الذي يترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس ، وخص المتقين بالذكر تشريفا لهم ، لأن مقام التقوى مقام شريف عزيز ، لأنهم هم المنتفعون بالهداية ، ولو لم يكن للمتقين فضل إلّا قوله تعالى هدى للمتقين لكناهم. فإن قلت كيف قال هدى للمتقين والمتقون هم المهتدون قلت هو كقولك للعزيز الكريم أعزك اللّه وأكرمك تريد طلب الزيادة له إلى ما هو ثابت فيه كقوله تعالى : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ٣الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي يصدقون بالغيب ، وأصل الإيمان في اللغة التصديق قال اللّه تعالى : وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدق فإذا فسر الإيمان بهذا فإنه لا يزيد ولا ينقص لأن التصديق لا يتجزأ حتى يتصور كما له مرة ونقصانه أخرى. والإيمان في لسان الشرع عبارة عن التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان ، وإذا فسر بهذا فإنه يزيد وينقص وهو مذهب أهل السنة من أهل الحديث وغيرهم ، وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة وهي أن المصدق بقلبه إذا لم يجمع إلى تصديقه العمل بموجب الإيمان من الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك من أركان الدين هل يسمى مؤمنا أم لا؟ فيه خلاف ، والمختار عند أهل السنة أنه لا يسمى مؤمنا لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فنفى عنه اسم الإيمان أو كمال الإيمان وأنكر أكثر المتكلمين زيادة الإيمان ونقصانه ، وقالوا : متى قبل الزيادة والنقص كان ذلك شكا وكفرا. وقال المحققون من متكلمي أهل السنة : إن نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة الأعمال ونقصانها وبهذا أمكن الجمع بين ظواهر نصوص الكتاب والسنة التي جاءت بزيادة الإيمان ونقصانه وبين أصله من اللغة. وقال بعض المحققين : إن نفس التصديق قد يزيد وينقص بكثرة النظر في الأدلة والبراهين وقلة إمعان النظر في ذلك ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى وأثبت من إيمان غيرهم لأنهم لا تعتريهم شبهة في إيمانهم ولا تزلزل ، وما غيرهم من آحاد الناس فليس كذلك ، إذ لا يشك عاقل أن نفس تصديق أبي بكر رضي اللّه عنه لا يساويه تصديق غيره من آحاد الأمة وقيل إنما سمي الإقرار والعمل إيمانا لوجه المناسبة لأنه من شرائعه ، والدليل على أن الأعمال من الإيمان ما روي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلّا اللّه ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان) أخرجاه في الصحيحين. البضع بكسر الباء ما بين الثلاثة إلى العشرة والشعبة القطعة من الشيء وإماطة الأذى عن الطريق وهو عزل الحجر والشوك ونحو ذلك عنه. والحياء بالمد وهو انقباض النفس عن فعل القبيح وإنما جعل من الإيمان وهو اكتساب لأن المستحيي ينزجر باستحيائه عن المعاصي فصار من الإيمان ، وقيل الإيمان مأخوذ من الأمن فسمي المؤمن مؤمنا لأنه يؤمن نفسه من عذاب اللّه. والإسلام هو الانقياد والخضوع فكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا إن لم يكن معه تصديق وذلك أن الرجل قد يكون مسلما في الظاهر غير مصدق في الباطن (ق) عن أبي هريرة قال : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال يا رسول اللّه ما الإيمان (قال أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر) قال يا رسول اللّه ما الإسلام؟ قال : (أن تعبد اللّه ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان). قال : يا رسول اللّه ما الإحسان؟ قال (أن تعبد اللّه كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك). قال : يا رسول اللّه متى الساعة؟ قال : (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، ولكن سأحدثك عن أشراطها. إذا ولدت الأمة ربها فذاك من أشراطها ، وإذا كانت الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك من أشراطها ، وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها ، وخمس لا يعلمهن إلّا اللّه) ثم تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إِنَّ اللّه عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ إلى قوله : عَلِيمٌ خَبِيرٌ قال ثم أدبر الرجل فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ردوا عليّ هذا الرجل) فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم) وفي أفراد مسلم من حديث عمر بن الخطاب نحو هذا الحديث وبمعناه ، وقد تقدم الكلام على معنى الإيمان والإسلام. وبقي أشياء تتعلق بمعنى الحديث ، فقوله كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوما بارزا أي ظاهرا ، وقوله : أن تؤمن باللّه ولقائه وتؤمن بالبعث الآخر هو بكسر الخاء. وقيل في الجامع بين قوله وتؤمن بلقاء اللّه وبالبعث فإن اللقاء يحصل بمجرد الانتقال إلى الدار الآخرة وهو الموت والبعث هو بعده عند قيام الساعة وفي تقييده بالآخر وجه آخر وهو أن خروجه إلى الدنيا بعث من الأرحام وخروجه من القبر إلى الآخرة بعث آخر. قوله ما الإحسان هو هنا الإخلاص في العمل وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام لأن من أتى بلفظ الشهادة وأتى بالعمل من غير إخلاص لم يكن محسنا ، وقيل أراد بالإحسان المراقبة وحسن الطاعة ، فإن من راقب اللّه حسن عمله ، وهو المراد بقوله ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، وأشراط الساعة علاماتها التي تظهر قبلها. قوله : إذا ولدت الأمة ربها يعني سيدها والمعنى أن الرجل تكون له الأمة فتلد له ولدا فيكون ذلك الولد ابنها وسيدها ، ورعاء البهم بكسر الراء وفتح الباء وإسكان الهاء من البهم وهي الصغار من أولاد الضأن ، والمعنى أنه يبسط المال على أهل البادية وأشباههم حتى يتباهون في البناء ويسودون الناس فذلك من أشراط الساعة واللّه أعلم. قوله تعالى بِالْغَيْبِ ، والغيب هنا مصدر وضع موضع الاسم ، فقيل : الغائب غيب وهو ما كان مغيبا عن العيون قال ابن عباس : الغيب هنا كل ما أمرت بالإيمان به مما غاب عن بصرك من الملائكة والبعث والجنة والنار والصراط والميزان. وقيل : الغيب هنا هو اللّه تعالى وقيل القرآن وقيل بالآخرة وقيل بالوحي وقيل بالقدر وقال عبد الرحمن بن يزيد كنا عند عبد اللّه بن مسعود فذكرنا أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وما سبقونا به فقال عبد اللّه بن مسعود إن أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم كان بينا لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ إلى قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يداومون عليها في مواقيتها بحدودها وإتمام أركانها وحفظها من أن يقع فيها خلل في فرائضها وسنتها وآدابها ، يقال : قام بالأمر وأقام الأمر إذا أتى به معطى حقوقه ، والمراد به الصلوات الخمس. والصلاة في اللغة الدعاء والرحمة ومنه وصل عليهم أي ادع لهم وأصله من صليت العود إذا لينته فكأن المصلي يلين ويخشع. وفي الشرع اسم لأفعال مخصوصة من قيام وركوع وسجود وقعود ودعاء مع النية وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أي أعطيناهم من الرزق وهو اسم لما ينتفع به من مال وولد و أصله الحظ والنصيب يُنْفِقُونَ أي يخرجون ويتصدقون في طاعة اللّه تعالى وسبيله ، ويدخل فيه إنفاق الواجب كالزكاة والنذر والإنفاق على النفس وعلى من تجب نفقته عليه والإنفاق في الجهاد إذا وجب عليه والإنفاق في المندوب ، وهو صدقه التطوع ومواساة الإخوان ، وهذه كلها مما يمدح بها وأدخل من التي هي للتبعيض صيانة لهم وكفا عن السرف والتبذير المنهي عنهما في الإنفاق. ٤وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ أي يصدقون بالقرآن المنزل عليك وبالكتب المنزلة على الأنبياء من قبل كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء كلها فيجب الإيمان بذلك كله وَبِالْآخِرَةِ يعني بالدار الآخرة سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا وكونها بعدها هُمْ يُوقِنُونَ من الإيقان وهو العلم والمعنى يستيقنون ويعلمون أنها كائنة. ٥أُولئِكَ أي الذين هذه صفتهم عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أي على رشاد ونور من ربهم وقيل على استقامة وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الناجون الفائزون نجوا من النار وفازوا بالجنة والمفلح الظافر بالمطلوب أي الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه ويكون الفلاح بمعنى البقاء قال الشاعر : لو كان حيّ مدرك الفلاح أدركه ملاعب الرماح يريد البقاء فيكون المعنى أولئك هم الباقون في النعيم المقيم والفلاح والظفر وإدراك البغية من السعادة والعز والبقاء والغنى وأصل الفلاح الشق كما قيل : إن الحديد بالحديد يفلح ، أي يقطع ، فعلى هذا يكون المعنى أولئك هم المقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة. واعلم أن اللّه عزّ وجلّ صدر هذه السورة بأربع آيات أنزلها في المؤمنين وبآيتين أنزلهما في الكافرين وبثلاث عشرة آية أنزلها في المنافقين فأما التي في الكفار فقوله تعالى : ٦إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا وأنكروا وأصل الكفر في اللغة الستر والتغطية ، ومنه سمي الليل كافرا لأنه يستر الأشياء بظلمته قال الشاعر ، في ليلة كفر النجوم غمامها ، أي سترها والكفر على أربعة أضرب : كفر إنكار وهو أن لا يعرف اللّه أصلا ككفر فرعون وهو قوله ما علمت لكم من إله غيري ، وكفر جحود وهو أن يعرف اللّه بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر إبليس ، وكفر عناد وهو أن يعرف اللّه بقلبه ويقر بلسانه ولا يدين به ككفر أمية بن أبي الصلت وأبي طالب حيث يقول في شعر له : ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لو لا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا وكفر نفاق ، وهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد صحة ذلك بقلبه ، فجميع هذه الأنواع كفر. وحاصله أن من جحد اللّه أو أنكر وحدانيته أو أنكر شيئا مما أنزله على رسوله أو أنكر نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أو أحدا من الرسل فهو كافر فإن مات على ذلك فهو في النار خالدا فيها ولا يغفر اللّه له نزلت في مشركي العرب. وقيل في اليهود سَواءٌ عَلَيْهِمْ أي متساو لديهم أَأَنْذَرْتَهُمْ أي خوفتهم وحذرتهم والإنذار إعلام مع تخويف فكل منذر معلم وليس كل معلم منذرا أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يصدقون وهذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة العذاب في سابق علم اللّه الأزلي أنهم لا يؤمنون. ثم ذكر سبب تركهم الإيمان ٧فقال تعالى : خَتَمَ اللّه عَلى قُلُوبِهِمْ أي طبع اللّه عليها فلا تعي خيرا ولا تفهمه وأصل الختم التغطية وحقيقة الاستيثاق من الشيء لكي لا يخرج منه ما حصل فيه ولا يدخله ما خرج ، منه ومنه ختم الكتاب. قال أهل السنة : ختم اللّه على قلوبهم بالكفر لما سبق في علمه الأزلي فيهم وإنما خص القلب بالختم لأنه محل الفهم والعلم وَعَلى سَمْعِهِمْ أي وختم على موضوع سمعهم فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به لأنها تمجه وتنبو عن الإصغاء إليه كأنها مستوثق منها بالختم أيضا ، وذكر السمع بلفظ التوحيد ومعناه الجمع قيل إنما وحده لأنه مصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ هذا ابتداء كلام والغشاوة الغطاء ، ومنه غاشية السرج أي وجعل على أبصارهم غشاوة فلا يرون الحق وهي غطاء التعامي عن آيات اللّه ودلائل توحيده وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني في الآخرة وقيل الأسر والقتل في الدنيا والعذاب الدائم في العقبى. وحقيقة العذاب هو كل ما يؤلم الإنسان ويعيبه ويشق عليه وقيل هو الإيجاع الشديد وقيل هو ما يمنع الإنسان من مراده ومنه الماء العذب لأنه يمنع العطش والعظيم ضد الحقير. ٨قوله عزّ وجلّ : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللّه نزلت في المنافقين عبد اللّه بن أبي ابن سلول ومعتب بن قشير وجد بن قيس وأصحابهم وذلك أنهم أظهروا كلمة الإسلام ليسلموا بها من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه وأسروا الكفر واعتقدوه وأكثرهم من اليهود. وصفة المنافق أن يعترف بلسانه بالإيمان ويقربه وينكره بقلبه ويصبح على حال ويمسي على غيرها ، والناس جمع إنسان سمي به لأنه عهد إليه فنسي قال الشاعر. سميت إنسانا لأنك ناسي ، وقيل سمي إنسانا لأنه يستأنس بمثله وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ أي وآمنا باليوم الآخر وهو يوم القيامة سمي بذلك لأنه يأتي بعد الدنيا وهو آخر الأيام المحدودة المعدودة وما بعده فلا حد له ولا آخر قال اللّه تعالى ردا على المنافقين وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ نفى عنهم الإيمان بالكلية. ٩يُخادِعُونَ اللّه وَالَّذِينَ آمَنُوا أي يخالفون اللّه والخديعة الحيلة والمكر وأصله في اللغة لإخفاء والمخادع يظهر ضد ما يضمر ليتخلص فهو بمنزلة النفاق ، وهو خادعهم أي يظهر لهم نعيم الدنيا ويعجله لهم بخلاف ما يغيب عنهم من عذاب الآخرة. فإن قلت المخادعة مفاعلة ، وإنما تجيء في الفعل المشترك ، واللّه تعالى منزه عن المشاركة قلت المفاعلة قد ترد لا على وجه المشاركة تقول عافاك اللّه وطارقت النعل وعاقبت اللص ، فالمخادعة هنا عبارة عن فعل الواحد واللّه تعالى منزه عن أن يكون منه خداع. فإن قلت : كيف يخادع اللّه وهو يعلم الضمائر والأسرار؟ فمخادعة اللّه ممتنعة فكيف يقال يخادعون اللّه؟ قلت إن اللّه تعالى ذكر نفسه وأراد به رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وذلك تفخيم لأمره وتعظيم لشأنه ، وقيل أراد به المؤمنين وإذا خادعوا المؤمنين فكأنهم خادعوا اللّه تعالى وذلك أنهم ظنوا أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين لم يعلموا حالهم ولتجري عليهم أحكام الإسلام في الظاهر وهم ، على خلافه في الباطن وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي إن اللّه تعالى يجازيهم على ذلك ويعاقبهم عليه فلا يكونون في الحقيقة إلّا خادعين أنفسهم ، وقيل : إن وبال ذلك الخداع راجع إليهم لأن اللّه تعالى يطلع نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم على نفاقهم فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب في العقبى. والنفس ذات الشيء وحقيقته. وقيل للدم نفس لأن به قوة البدن وَما يَشْعُرُونَ أي لا يعلمون أن وبال خداعهم راجع عليهم. ١٠فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق وأصل المرض الضعف والخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان وسمي الشك في الدين والنفاق مرضا لأنه يضعف الدين كالمرض يضعف البدن فَزادَهُمُ اللّه مَرَضاً يعني أن الآيات كانت تنزل تترى ، أي آية بعد آية فلما كفروا بآية ازدادوا بعد ذلك كفرا ونفاقا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم يخلص وجعه إلى قلوبهم بِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي بتكذيبهم اللّه ورسوله في السر ، وقرئ بالتخفيف أي بكذبهم إذ قالوا آمنا وهم غير مؤمنين ١١وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني المنافقين وقيل اليهود والمعنى إذا قال لهم المؤمنون لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي بالكفر وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبالقرآن قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ يعني يقولونه كذبا ١٢الا كلمة تنبيه ينبه بها المخاطب إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ يعني في الأرض بالكفر وهو أشد الفساد وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ وذلك لأنهم يظنون أن ما هم عليه من النفاق وإبطان الكفر صلاح وهو عين الفساد. وقيل لا يشعرون ما أعد اللّه لهم من العذاب ١٣وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني المنافقين وقيل اليهود آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ يعني المهاجرين والأنصار. وقيل عبد اللّه بن سلام وأصحابه من مؤمني أهل الكتاب ، والمعنى أخلصوا في إيمانكم كما أخلص هؤلاء في إيمانهم لأن المنافقين كانوا يظهرون الإيمان قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أي الجهال. فإن قلت كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقولهم : أنؤمن كما آمن السفهاء قلت كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين فأخبر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين بذلك فرد اللّه ذلك عليهم بقوله أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ يعني الجهال. وأصل السفه خفة العقل ورقة العلم وإنما سمى اللّه المنافقين سفهاء لأنهم كانوا عند أنفسهم عقلاء رؤساء فقلب ذلك عليهم وسماهم سفهاء وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ يعني أنهم كذلك. قوله تعالى : ١٤وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا يعني هؤلاء المنافقين إذا لقوا المهاجرين والأنصار قالُوا آمَنَّا كإيمانكم وَإِذا خَلَوْا أي رجعوا. وقيل هو من الخلوة إِلى قيل بمعنى الباء أي ب شَياطِينِهِمْ وقيل بمعنى مع أي مع شياطينهم والمراد بشياطينهم رؤساؤهم وكهنتهم قال ابن عباس وهم خمسة نفر : كعب بن الأشرف من اليهود بالمدينة وأبو بردة من بني أسلم ، وعبد الدار في جهينة وعوف بن عامر في بني أسد وعبد اللّه بن السوداء بالشام ، ولا يكون كاهن إلّا ومعه شيطان تابع لهم ، وقيل لهم رؤساؤهم الذين شابهوا الشياطين في تمردهم قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي على دينكم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ أي بمحمد وأصحابه بما نظهر لهم من الإسلام لنأمن شرهم ونقف على سرهم ونأخذ من غنائمهم وصدقاتهم. قال ابن عباس نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن أبي وأصحابه ، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال عبد اللّه بن أبي لأصحابه انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم؟ فذهب فأخذ بيد أبي بكر الصديق فقال : مرحبا بالصديق سيد بني تميم وشيخ الإسلام وثاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الغار الباذل نفسه وماله لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم أخذ بيد عمر فقال : مرحبا بسيد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين اللّه الباذل نفسه وماله لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم أخذ بيد علي فقال : مرحبا يا ابن عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وختمه وسيد بني هاشم ما خلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقال له علي : اتق اللّه يا عبد اللّه ولا تنافق فإن المنافقين شر خليقة اللّه. فقال مهلا يا أبا الحسن إني لا أقول هذا نفاقا واللّه إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم ثم تفرقوا فقال عبد اللّه لأصحابه كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا. ١٥اللّه يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي يجازيهم جزاء استهزائهم بالمؤمنين فسمي الجزاء باسمه لأنه في مقابلته قال ابن عباس يفتح لهم باب الجنة فإذا انتهوا إليه سدّ عنهم وردوا إلى النار وَيَمُدُّهُمْ أي يتركهم ويمهلهم. والمد والإمداد واحد وأصله الزيادة وأكثر ما يأتي المد في الشر والإمداد في الخير فِي طُغْيانِهِمْ أي في ضلالهم وأصل الطغيان مجاوزة الحد يَعْمَهُونَ أي يترددون في الضلالة متحيرين ١٦أُولئِكَ يعني المنافقين الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أي استبدلوا الكفر بالإيمان وإنّما أخرجه بلفظ الشراء والتجارة توسعا على سبيل الاستعارة لأن الشراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر. فإن قلت كيف قال اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى. قلت جعلوا لتمكنهم منه كأنه في أيديهم فإذا تركوه إلي الضلالة فقد عطلوه واستبدلوه بها. والضلالة الجور عن القصد وفقد الاهتداء فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ أي ما ربحوا في تجارتهم والربح الفضل عن رأس المال وأضاف الربح إلى التجارة لأن الربح يكون فيها وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أي مصيبين في تجارتهم ، لأن رأس المال هو الإيمان فلما أضاعوه واعتقدوا الضلالة فقد ضلوا عن الهدى. وقيل وما كانوا مهتدين في ضلالتهم. قوله عزّ وجلّ ١٧مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً المثل عبارة عن قول يشبه ذلك القول قولا آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره ، ولهذا ضرب اللّه تعالى الأمثال في كتابه ، وهو أحد أقسام القرآن السبعة ولما ذكر اللّه تعالى حقيقة وصف المنافقين عقبه بضرب المثل زيادة في الكشف والبيان ، لأنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ، ولأن المثل تشبيه الخفي بالجلي ، فيتأكد الوقوف على ماهيته وذلك هو النهاية في الإيضاح ، وشرطه أن يكون قولا فيه غرابة من بعض الوجوه كمثل الذي استوقد نارا لينتفع بها فَلَمَّا أَضاءَتْ يعني النار ما حَوْلَهُ يعني حول المستوقد ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ فإن قلت كيف وحد أولا ثم جمع ثانيا قلت يجوز وضع الذي يوضع الذين كقوله : وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا وقيل إنما شبه قصتهم بقصة المستوقد ، وقيل معناه مثل الواحد منهم كمثل الذي استوقد نارا وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ قال ابن عباس : نزلت في المنافقين يقول مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستدفأ ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف ، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي في ظلمة حائرا متخوفا ، فكذلك حال المنافقين أظهروا كلمة الإيمان فأمنوا بها على أنفسهم وأموالهم وأولادهم وناكحوا المسلمين وقاسموهم في الغنائم فذلك نورهم ، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف. وقيل : ذهاب نورهم عقيدتهم للمؤمنين على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. وقيل ذهاب نورهم في القبر أو على الصراط. فإن قلت ما وجه تشبيه الإيمان بالنور والكفر بالظلمة؟ قلت : وجه تشبيه الإيمان بالنور أن النور أبلغ الأشياء في الهداية إلى المحجة القصوى وإلى الطريق المستقيم وإزالة الحيرة وكذلك الإيمان هو الطريق الواضح إلى اللّه تعالى وإلى جنانه ، وشبه الكفر بالظلمة لأن الضال عن الطريق المسلوكة في الظلمة لا يزداد إلّا حيرة وكذلك الكفر لا يزداد صاحبه في الآخرة إلّا حيرة. وفي ضرب المثل للمنافقين بالنار ثلاث حكم : إحداها أن المستضيء بالنار مستضيء بنور غيره فإذا ذهب ذلك بقي هو في ظلمته فكأنهم لما أقروا بالإيمان من غير اعتقاد قلوبهم كان إيمانهم كالمستعار. . الثانية أن النار تحتاج في دوامها إلى مادة الحطب لتدوم فكذلك الإيمان يحتاج إلى مادة الاعتقاد ليدوم الثالثة أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد قبلها ضياء فشبه حالهم بذلك. ثم وصفهم اللّه تعالى فقال ١٨صُمٌّ أي عن سماع الحق لأنهم لا يقبلونه وإذا لم يقبلوه فكأنهم لم يسمعوه بُكْمٌ أي خرس عن النطق بالحق فهم لا يقولونه عُمْيٌ أي لا بصائر لهم يميزون بها بين الحق والباطل ومن لا بصيره له كمن لا بصر له فهو أعمى ، كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن سماع الحق آذانهم وأبوا أن تنطق به ألسنتهم وأن ينظروا إليه بعيونهم جعلوا كمن تعطلت حواسه وذهب إدراكه قال الشاعر : صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء كلهم أذن فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أي عن ضلالتهم ونفاقهم. ١٩قوله تعالى : أَوْ كَصَيِّبٍ أي كأصحاب صيّب وهو المطر ، وكل ما أنزل من الأعلى إلى الأسفل فهو صيب مِنَ السَّماءِ أي من السحاب لأن كل ما علاك فأظلك فهو سماء ومنه قيل لسقف البيت سماء وقيل من السماء بعينها ، وإنما ذكر اللّه تعالى السماء وإن كان المطر لا ينزل إلّا منها ليرد على من زعم أن المطر ينعقد من أبخرة الأرض فأبطل مذهب الحكماء بقوله من السماء ليعلم أن المطر ليس من أبخرة الأرض كما زعم الحكماء فِيهِ أي الصيّب ظُلُماتٌ جمع ظلمة وَرَعْدٌ هو الصوت الذي يسمع من السحاب وَبَرْقٌ يعني النار التي تخرج منه. قال ابن عباس : الرعد اسم ملك يسوق السحاب والبرق لمعان سوط من نور يزجر به السحاب. وقيل الرعد اسم ملك يزجر السحاب إذا تبددت جمعها وضمها فإذا اشتد غضبه يخرج من فيه النار فهي البرق والصواعق ، وقيل الرعد تسبيح الملك. وقيل اسمه يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ جمع صاعقة وهي الصيحة التي يموت كل من يسمعها أو يغشى عليه ، وقيل الصاعقة قطعة من العذاب ينزلها اللّه على من يشاء. عن ابن عمر (أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال : اللّهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب حَذَرَ الْمَوْتِ أي مخافة الهلاك وَاللّه مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ أي عالم بحالهم وقيل يجمعهم ويعذبهم. يَكادُ الْبَرْقُ أي يقرب ، يقال كاد يفعل ولم يفعل يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ أي يختلسها. والخطف استلاب الشيء بسرعة كُلَّما أي متى ما جاء أَضاءَ لَهُمْ يعني البرق مَشَوْا فِيهِ أي في إضاءته ونوره وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا أي وقفوا متحيرين ، وهذا مثل آخر ضربه اللّه تعالى للمنافقين ، ووجه التمثيل أن اللّه عزّ وجلّ شبههم في كفرهم ونفاقهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة أصابهم مطر فيه ظلمات وهي ظلمة الليل وظلمة المطر وظلمة السحاب من صفة تلك الظلمات أن الساري لا يمكنه المشي فيها ، ورعد من صفته أن يضم سامعوه أصابعهم إلى آذانهم من هوله ، وبرق من صفته أن يخطف أبصارهم ويعميها من شدته فهذا مثل ضربه اللّه تعالى للقرآن وصنيع الكافرين والمنافقين معه ، فالمطر هو القرآن لأنه حياة القلوب كما أن المطر حياة الأرض ، والظلمات ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك والنفاق. والرعد ما خوفوا به من الوعيد وذكر النار والبرق ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة فالكافرون والمنافقون يسدون آذانهم عند قراءة القرآن وسماعه مخافة أن تميل قلوبهم إليه لأن الإيمان به عندهم كفر والكفر موت ، وقيل هذا مثل ضربه اللّه تعالى للإسلام ، فالمطر هو الإسلام ، والظلمات ما فيه من البلاء والمحن ، والرعد ما فيه من ذكر الوعيد والمخاوف في الآخرة ، والبرق ما فيه من الوعد ، يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ يعني المنافقين إذا رأوا في الإسلام بلاء وشدة هربوا حذرا من الهلاك وَاللّه مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يعني لا ينفعهم الهرب لأن اللّه من ورائهم يجمعهم ويعذبهم. ٢٠يَكادُ الْبَرْقُ يعني دلائل الإسلام تزعجهم إلى النظر لولا ما سبق لهم من الشقاوة كلمة أضاء لهم يعني المنافقين ، وإضاءته لهم هو تركهم بلا ابتلاء ولا امتحان مَشَوْا فِيهِ يعني على المسالمة بإظهار كلمة الإيمان وقيل كلما نالوا غنيمة وراحة في الإسلام ثبتوا وقالوا إنا معكم ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا يعني إذا رأوا شدة وبلاء تأخروا وَلَوْ شاءَ اللّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ أي بصوت الرعد وَأَبْصارِهِمْ بوميض البرق. وقيل : أي لذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما أذهب أسماعهم وأبصارهم الباطنة إِنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي هو الفاعل لما يشاء لا منازع له فيه. ٢١قوله عزّ وجلّ : يا أَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس : يا أيها الناس خطاب لأهل مكة ويا أيها الذين آمنوا خطاب لأهل المدينة ، وهو هنا خطاب عام لسائر المكلفين اعْبُدُوا رَبَّكُمُ قال ابن عباس : وحدوا ربكم وكل ما ورد في القرآن من العبادة فمعناه التوحيد. وأصل العبودية التذلل والعبادة غاية التذلّل ولا يستحقها إلّا من له غاية الإفضال والإنعام وهو اللّه تعالى الَّذِي خَلَقَكُمْ أي ابتدع خلقكم على غير مثال سبق وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي وخلق الذين من قبلكم لَعَلَّكُمْ لعل وعسى حرفا ترجّ وهما أي كل منهما من اللّه واجب تَتَّقُونَ أي لكي تنجوا من العذاب ، وقيل معناه تكونوا على رجاء التقوى بأن تصيروا في ستر ووقاية من عذاب اللّه وحكم اللّه من ورائكم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ٢٢الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً أي خلق لكم الأرض بساطا ووطاء مذللة ولم يجعلها حزنة لا يمكن القرار عليها ، والحزن ما غلط من الأرض وَالسَّماءَ بِناءً أي سقفا مرفوعا قيل إذا تأمل الإنسان المتفكر في العالم وجده كالبيت المعمور فيه كل ما يحتاج إليه فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض مفروشة كالبساط والنجوم كالمصابيح والإنسان كمالك البيت وفيه ضروب النبات المهيأة لمنافعه وأصناف الحيوان مصروفة في مصالحه ، فيجب على الإنسان المسخر له هذه الأشياء شكر اللّه تعالى عليها وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ يعني السحاب ماءً يعني المطر فَأَخْرَجَ بِهِ أي بذلك الماء مِنَ الثَّمَراتِ يعني من ألوان الثمرات وأصناف النبات رِزْقاً لَكُمْ أي وعلفا لدوابكم فَلا تَجْعَلُوا للّه أَنْداداً يعني أمثالا تعبدونهم كعادته ، والندّ المثل وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني أنكم بعقولكم تعلمون أن هذه الأشياء والأمثال لا يصح جعلها أندادا للّه ، وأنه واحد خالق لجميع الأشياء وأنه لا مثل له ولا ضد له. ٢٣قوله تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ أي إن كنتم في شك لأن اللّه تعالى عليهم أنهم شاكون مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا أي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لما تقرر إثبات الربوبية للّه سبحانه وتعالى وأنه الواحد الخالق وأنه لا ضد له ولا ندّ أتبعه بإقامة الحجة على إثبات نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ما يدحض الشبهة في كون القرآن معجزة ، وأنه من عند اللّه تعالى لا من عند نفسه كما تدّعون فيه ، وقوله على عبدنا إضافة تشريف لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأن القرآن منزل عليه من عند اللّه سبحانه وتعالى فَأْتُوا أمر تعجيز بِسُورَةٍ والسورة قطعة من القرآن معلومة الأول والآخر وقيل السورة اسم للمنزلة الرفيعة ، ومنه سور البلد لارتفاعه ، سميت سورة لأن القارئ ينال بها منزلة رفيعة حتى يستكمل المنازل باستكمال سور القرآن مِنْ مِثْلِهِ أي مثل القرآن ، وقيل الضمير في مثله راجع إلى عبدنا ، يعني من مثل محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أميّ لم يحسن الكتابة ولم يجالس العلماء ولم يأخذ العلم عن أحد ، ورد الضمير إلى القرآن أوجه وأولى ويدل عليه أن ذلك مطابق لسائر الآيات الواردة في التحدي وإنما وقع الكلام في المنزل ألا ترى أن المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند اللّه فأتوا أنتم بسورة مما يماثله ويجانسه ، ولو كان الضمير مردودا إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لقال وإن ارتبتم في أن محمدا منزل عليه فهاتوا قرآنا مثل محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، ويدل على كون القرآن معجزا ما اشتمل عليه من الفصاحة والبلاغة في طرفي الإيجاز والإطالة فتارة يأتي بالقصة باللفظ الطويل ثم يعيدها باللفظ الوجيز ولا يخل بالمقصود الأول ، وأنه فارقت أساليبه أساليب الكلام وأوزانه أوزان الأشعار والخطب والرسائل ولهذا تحديت العرب به ، فعجزوا عنه وتحيروا فيه واعترفوا بفضله وهم معدن البلاغة وفرسان الفصاحة ولهم النظم و النثر من الأشعار والخطب والرسائل ، حتى قال الوليد بن المغيرة في وصف القرآن : واللّه إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أصله لمغدق وإن أعلاه لمثمر وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه أي استعينوا بآلهتكم التي تعبدونها من دون اللّه والمعنى إن كان الأمر كما تقولون أنها تستحق العبادة فاجعلوا الاستعانة بها في دفع ما نزل بكم من أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وإلّا فاعلموا أنكم مبطلون في دعواكم أنها إلهة. وقيل معناه وادعوا أناسا يشهدون لكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم تقوله من تلقاء نفسه. ٢٤فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي فيما مضى وَلَنْ تَفْعَلُوا فيما بقي وهذه الآية دالة على عجزهم وأنهم لم يأتوا بمثله ولا بمثل شيء منه. وذلك أن النفوس الأبية إذا قرعت بمثل هذا التقريع استفرغت الوسع في الإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه ولو قدروا على ذلك لأتوا به فحيث لم يأتوا بشيء ظهرت المعجزة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبان عجزهم وهم أهل الفصاحة والبلاغة ، والقرآن من جنس كلامهم ، وكانوا حراصا على إطفاء نوره وإبطال أمره ثم مع هذا الحرص الشديد لم توجد المعارضة من أحدهم ورضوا بسبى الذراري وأخذ الأموال والقتل وإذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وإذا كان الأمر كذلك وجب ترك العناد وهو قوله تعالى : فَاتَّقُوا النَّارَ أي فآمنوا واتقوا بالإيمان النار الَّتِي وَقُودُهَا أي حطبها النَّاسُ وَالْحِجارَةُ قال ابن عباس يعني حجارة الكبريت لأنها أكثر التهابا. وقيل جميع الحجارة وفيه دليل على عظم تلك النار وقوتها. وقيل أراد بها الأصنام لأن أكثر أصنامهم كانت من الحجارة وإنما قرن الناس مع الحجارة لأنهم كانوا يعبدونها معتقدين فيها أنها تنفعهم وتشفع لهم فجعلها اللّه عذابهم في نار جهنم أُعِدَّتْ أي هيئت لِلْكافِرِينَ ٢٥قوله عزّ وجلّ : وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أي أخبر المؤمنين ، وهذا أمر للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم. والبشارة إيراد الخبر السار على سامع يستبشر به ويظهر السرور في بشرة وجهه لأن الإنسان إذا فرح بشيء وسر به ظهر ذلك على بشرة وجهه ثم كثر حتى وضع موضع الخير والشر ومنه قوله : فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ولكن هو في السرور والخير أغلب وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الفعلات الصالحات وهي الطاعات. قيل العمل الصالح ما كان فيه أربعة أشياء : العلم والنية والصبر والإخلاص. وقال عثمان بن عفان : وعملوا الصالحات أي أخلصوا الأعمال يعني عن الرياء أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ جمع جنة وهي البستان الذي فيه أشجار مثمرة سميت جنة لاجتنابها وتسترها بالأشجار والأوراق. وقيل : الجنة ما فيه نخيل والفردوس ما فيه كرم تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت أشجارها ومساكنها الْأَنْهارُ أي تجري المياه في الأنهار لأن الأنهار لا تجري وقيل معناه تجري بأمرهم وفي الحديث (إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود) أي في غير شق والخد الشق كُلَّما رُزِقُوا أي أطعموا مِنْها أي من الجنة مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً أي طعاما قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ أي في الدنيا ، وقيل : إن ثمار الجنة متشابهة في اللون مختلفة في الطعم فإذا رزقوا ثمرة بعد أخرى ظنوا أنها الأولى وَأُتُوا بِهِ أي بالرزق مُتَشابِهاً قال ابن عباس مختلفا في الطعوم وقيل يشبه بعضه بعضا في الجودة لا رداءة فيها وقيل يشبه ثمار الدنيا في الاسم لا في الطعم (م) عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يبزقون يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس طعامهم جشاء ورشح كرشح المسك) وفي رواية (و رشحهم المسك). قوله : يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس أي يجري على ألسنتهم كما يجري النفس فلا يشغلهم عن شيء كما أن النفس لا يشغل عن شيء قوله طعامهم جشاء ، يعني أن فضول طعامهم يخرج في الجشاء وهو تنفس المعدة. والرشح العرق وقوله العرق. وقوله تعالى وَلَهُمْ فِيها أي في الجنات أَزْواجٌ أي من الحور العين مُطَهَّرَةٌ يعني من البول والغائط والحيض والولد وسائر الأقذار وقيل هن عجائزكم الغمص العمش طهرن من قذرات الدنيا وقيل طهرن من مساوي الأخلاق قيل في الجنة جماع ما شئت ولا ولد وَهُمْ فِيها خالِدُونَ أي لا يخرجون منها ولا يموتون. والخلد البقاء الدائم الذي لا انقطاع له (ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبصقون ولا يمتخطون ولا يتغوطون ولا يبولون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوّة وأزواجهم الحور العين على خلق رجل واحد وعلى صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء) وفي رواية (و لكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب رجل واحد يسبحون اللّه بكرة وعشيا) (ق) عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا) عن أبي هريرة قال : (قلت يا رسول اللّه ممّ خلق اللّه الخلق؟ قال من الماء ، قلت الجنة ما بناؤها؟ قال لبنة من فضة ولبنة من ذهب وملاطها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وتربتها الزعفران من يدخلها ينعم ولا ييأس ويخلد ولا يموت ولا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم) أخرجه الترمذي بزيادة وقال ليس إسناده بذلك القوي. عن عبادة بن الصامت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس) أخرجه الترمذي (م) عن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم واللّه لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون وأنتم واللّه لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا) عن علي رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن في الجنة لمجتمعا للحور العين يرفعن بأصوات لم تسمع الخلائق مثلها يقلن : نحن الخالدات فلا نبيد ونحن الناعمات فلا نبأس ونحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا وكنا له) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. قوله تعالى : ٢٦إِنَّ اللّه لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها سبب نزول هذه الآية أن اللّه تعالى لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت وذكر النحل والنمل قالت اليهود. ما أراد اللّه بذكر هذه الأشياء الخسيسة. وقيل قال المشركون إنا لا نعبد إلها يذكر هذه الأشياء وذلك لأن الكفار كانوا متفقين على إيذاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا ذلك ، فأنزل اللّه تعالى إِنَّ اللّه لا يَسْتَحْيِي الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم عليه. وقيل هو انقباض النفس عن القبائح هذا أصله في وصف الإنسان ، واللّه تعالى منزه عن ذلك كله فإذا وصف اللّه تعالى به يكون معناه الترك ، وذلك لأن لكل فعل بداية ونهاية ، فبداية الحياء هو التغير الذي يلحق الإنسان من خوف أن ينسب إليه ذلك الفعل القبيح ، ونهايته ترك ذلك الفعل القبيح ، فإذا ورد وصف الحياء في حق اللّه تعالى فليس المراد منه بدايته وهو التغير والخوف ، بل المراد منه ترك الفعل الذي هو نهاية الحياء وغايته فيكون معنى إن اللّه لا يستحي أن يضرب مثلا أي لا يترك المثل لقول الكفار واليهود (ما) قيل ما صلة فيكون المعنى أن يضرب مثلا بعوضة ، وقيل ليس هي بصلة بل هي للإبهام والنكرة ، والبعوض صغار البق وهو من عجيب خلق اللّه تعالى فإنه في غاية الصغر وله خرطوم مجوف وهو مع صغره يغوص خرطومه في جلد الفيل والجاموس والجمل فيبلغ منه الغاية حتى أن الجمل يموت من قرصه فما فوقها يعني الذباب والعنكبوت وما هو أعظم منهما في الجثة. وقيل معناه فما دونها وأصغر منها ، وهذا القول أشبه بالآية لأن الغرض بيان أن اللّه تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الصغير الحقير وقد ضرب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مثلا للدنيا بجناح البعوضة وهو أصغر منها ، وقد ضربت العرب المثل بالمحقرات ، فقيل : هو أحقر من ذرة وأجمع من نملة وأطيش من ذبابة وألح من ذبابة فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا يعني بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ يعني ضرب المثل الْحَقُّ يعني الصدق مِنْ رَبِّهِمْ الثابت الذي لا يجوز إنكاره لأن ضرب المثل من الأمور المستحسنة في العقل وعند العرب وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللّه بِهذا مَثَلًا أي بهذا المثل يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً أي من الكفار وذلك أنهم يكذبونه فيزدادون به ضلالا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً يعني المؤمنين يصدقونه ويعلمون أنه حق وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ يعني الكافرين وقيل المنافقين. وقيل اليهود ، والفسق الخروج عن طاعة اللّه وطاعة رسوله ثم وصفهم ٢٧فقال تعالى : الَّذِينَ يَنْقُضُونَ أي يخالفون ويتركون وأصل النقض الفسخ وفك المركب عَهْدَ اللّه أي أمر اللّه وأصل العهد حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ أي من بعد عقده وتوكيده وفي معنى هذا العهد أقوال أحدها أنه الذي أخذه عليهم يوم الميثاق وهو قوله تعالى : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى الثاني المراد به الذي أخذه على إجبار اليهود في التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ويبينوا نعته وصفته الثالث المراد به الكفار والمنافقون الذين نقضوا عهدا أبرمه اللّه تعالى وأحكمه بما أنزل في كتابه من الآيات الدالة على توحيده وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّه بِهِ أَنْ يُوصَلَ يعني الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وجميع الرسل فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وهم اليهود. وقيل أراد به قطع الأرحام التي أمر اللّه بوصلها وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يعني بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي المغبونون. وأصل الخسار النقص ثم قال تعالى لمشركي العرب على وجه التعجب لكن فيه تبكيت وتعنيف لهم. ٢٨كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه يعني بعد نصب الدلائل ووضع البراهين الدالة على وحدانيته ثم ذكر الدلائل فقال تعالى : وَكُنْتُمْ أَمْواتاً يعني نطفا في أصلاب آبائكم فَأَحْياكُمْ يعني في الأرحام والدنيا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ أي عند انقضاء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يعني بعد الموت للبعث ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم. ٢٩قوله عز وجل : هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يعني من المعادن والنبات والحيوان والجبال والبحار والمعنى كيف تكفرون باللّه وقد خلق لكم ما في الأرض جميعا لتنتفعوا به في مصالح الدين والدنيا أما مصالح الدين فهو الاعتبار والتفكر في عجائب مخلوقات اللّه تعالى الدالة على وحدانيته وأما مصالح الدنيا فهو الانتفاع بما خلق فيها ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي قصد وأقبل على خلقها وقيل عمد ، وقال ابن عباس : ارتفع وفي رواية عنه صعد. قال الأزهري معناه صعد أمره وكذا ذكره صاحب المحكم وذلك أن اللّه تعالى خلق الأرض أولا ثم عمد إلى خلق السماء. فإن قلت كيف الجمع بين هذا وقوله تعالى : وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها قلت : الدحو البسط فيحتمل أن اللّه تعالى خلق جرم الأرض ولم يبسطها ثم خلق السماء وبسط جرم الأرض بعد ذلك ، فإن قلت هذا مشكل أيضا لأن قوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا يقتضي أن ذلك لا يكون إلّا بعد الدحو. قلت : يحتمل أنه ليس هنا ترتيب وإنما هو على سبيل تعداد النعم كقوله الرجل لمن يذكره ما أنعم به عليه : ألم أعطك؟ ألم أرفع قدرك؟ ألم أدفع عنك؟ ولعل بعض هذه النعم متقدمة على بعض واللّه أعلم فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ خلقهن سبع سموات مستويات لا صدع فيها ولا فطور وسيأتي ذكر خلق الأرض عند قوله تعالى : قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ في سورة حم السجدة إن شاء اللّه تعالى وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعني يعلم الجزئيات كما يعلم الكليات قوله تعالى : ٣٠وَإِذْ قالَ رَبُّكَ أي واذكر يا محمد إذ قال ربك وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله ، وقيل إذ زائدة والأول أوجه لِلْمَلائِكَةِ جمع ملك وأصله مألك من المألكة والألوكة وهي لفظ البغوي وهي الرسالة وأراد بالملائكة الذين كانوا في الأرض وذلك أن اللّه تعالى خلق الأرض والسماء وخلق الملائكة والجن فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجن الأرض ، فعبدوا دهرا طويلا ، ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا وقتلوا ، فبعث اللّه إليهم جنا من الملائكة يقال لهم الجان ورأسهم إبليس وهم خزان الجنان فهبطوا إلى الأرض وطردوا الجن إلى جزائر البحور وشعوب الجبال وسكنوا هم الأرض وخفف اللّه عنهم العبادة وأعطى اللّه إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة ، وكان رئيسهم ومرشدهم وأكثرهم علما فكان يعبد اللّه تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب وقال في نفسه : ما أعطاني اللّه هذا الملك إلّا لأني أكرم الملائكة عليه فقال له ولجنده إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أي إني خالق خليفة يعني بدلا منكم ورافعكم إليّ فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة والمراد بالخليفة هنا آدم عليه الصلاة والسلام لأنه خلف الجن وجاء بعدهم. وقيل لأنه يخلفه غيره والصحيح إنه إنما سمي خليفة لأنه خليفة اللّه في أرضه لإقامة حدوده وتنفيذ قضاياه قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها أي بالمعاصي وَيَسْفِكُ الدِّماءَ أي بغير حق كما فعل الجن. فإن قلت من أين عرفوا ذلك حتى قالوا هذا القول؟ قلت يحتمل أن يكونوا عرفوا ذلك بإخبار اللّه إياهم أو قاسوا الشاهد على الغائب ، وقيل إنهم لما رأوا أن آدم خلق من أخلاط مركبة علموا أنه يكون فيه الحقد والغضب ومنهما يتولد الفساد وسفك الدماء فلهذا قالوا ذلك. وقيل لما خلق اللّه تعالى النار خافت الملائكة ، وقالوا لمن خلقت هذه النار؟ قال لمن عصاني فلما قال إني جاعل في الأرض خليفة قالوا هو ذلك. فإن قلت الملائكة معصومون فكيف وقع منهم هذا الاعتراض قلت ذهب بعضهم إلى أنهم غير معصومين واستدل على ذلك بوجوه منها قوله أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ومن ذهب إلى عصمتهم أجاب عنه بأن هذا السؤال إنما وقع على سبيل التعجب لا على سبيل الإنكار والاعتراض فإنهم تعجبوا من كمال حكم اللّه تعالى وإحاطة علمه بما خفي عليهم ، ولهذا أجابهم بقوله إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ وقيل : إن العبد المخلص في حب سيده يكره أن يكون له عبد آخر يعصيه فكان سؤالهم على وجه المبالغة في إعظام اللّه عز وجل : وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أي نقول : سبحان اللّه وبحمده وهي صلاة الخلق وعليها يرزقون (م) عن أبي ذر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل أي الكلام أفضل قال (ما اصطفى اللّه لملائكته أو لعباده سبحان اللّه وبحمده) قال ابن عباس رضي اللّه عنهما كل ما جاء في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة فيكون المعنى ونحن نصلي لك. وقيل أصل التسبيح تنزيه اللّه عما لا يليق بجلاله فيكون المعنى ، ونحن ننزهك عن كل سوء ونقيصة. ومعنى بحمدك حامدين لك أو متلبسين بحمدك ، فإنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق لم نتمكن من ذلك وَنُقَدِّسُ لَكَ أصل التقديس التطهير أن نطهرك عن النقائص وكل سوء ونصفك بما يليق بعزك وجلالك من العلو والعظمة واللام صلة وقيل معناه نطهر أنفسنا لطاعتك وعبادتك قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ قيل إنه جواب لقول الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها فقال تعالى : أَعْلَمُ من وجوه المصلحة والحكمة ما لا تعلمون. وقيل أعلم أن فيهم من يعبدني ويطيعني وهم الأنبياء والأولياء والصالحون ، ومن يعصيني منكم وهو إبليس ، وقيل أعلم أنهم يذنبون ويستغفرون فاغفر لهم. (فصل : في ماهية الملائكة وقصة خلق آدم عليه السلام) قيل إن الملائكة أجسام لطيفة هوائية خلقت من النور تقدر أن تتشكل بأشكال مختلفة ، مسكنهم السموات عن أبي ذر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إنى أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلّا وملك واضع جبهته للّه ساجدا) أخرجه الترمذي بزيادة ، وقال حديث حسن غريب. وأما صفة خلق آدم عليه السلام فقال وهب بن منبه : لما أراد اللّه تعالى أن يخلق آدم أوحى إلى الأرض أني خالق منك خليقة منهم من يطيعني ومنهم من يعصيني فمن أطاعني أدخلته الجنة ، ومن عصاني أدخلته النار. قالت الأرض أتخلق مني خلقا يكون للنار قال نعم. فبكت الأرض فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة ، فبعث اللّه إليها جبريل ليأتيه بقبضة منها من أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها ، فلما أتاها ليقبض منها قالت : أعوذ بعزة اللّه الذي أرسلك إليّ أن لا تأخذ مني شيئا فرجع جبريل إلى مكانه وقال : يا رب استعاذت بك مني فكرهت أن أقدم عليها فقال اللّه تعالى لميكائيل : انطلق فأتني بقبضة منها فلما أتاها ليقبض منها قالت له مثل ما قالت لجبريل ، فرجع إلى ربه فقال ما قالت له ، فقال لعزرائيل انطلق فأتني بقبضة من الأرض فلما أتاها قالت له الأرض ، أعوذ بعزة اللّه الذي أرسلك أن لا تأخذ مني شيئا ، فقال : وأنا أعوذ بعزته أن أعصي له أمرا. وقبض منها قبضة من جميع بقاعها من عذبها ومالحها وحلوها ومرها وطيبها وخبيثها ، وصعد بها إلى السماء فسأله ربه عز وجل وهو أعلم بما صنع فأخبره بما قالت له الأرض وبما رد عليها فقال اللّه تعالى : وعزتي وجلالي لأخلقن مما جئت به خلقا ولأسلطنك على قبض أرواحهم لقلة رحمتك. ثم جعل اللّه تلك القبضة نصفها في الجنة ونصفها في النار ثم تركها ما شاء اللّه ثم أخرجها فعجنها طينا لازبا مدة ثم حمأ مسنونا مدة ثم صلصالا ثم جعلها جسدا وألقاه على باب الجنة فكانت الملائكة يعجبون من صفة صورته لأنهم لم يكونوا رأوا مثله ، وكان إبليس يمر عليه ويقول لأمر ما خلق هذا ونظر إليه فإذا هو أجوف فقال هذا خلق لا يتمالك ، وقال يوما للملائكة إن فضل هذا عليكم ما تصنعون؟ فقالوا نطيع ربنا ولا نعصيه فقال إبليس في نفسه لئن فضل علي لأعصينه ولئن فضلت عليه لأهلكنه فلما أراد اللّه تعالى أن ينفخ فيه الروح أمرها أن تدخل في جسد آدم فنظرت فرأت مدخلا ضيقا فقال يا رب كيف أدخل هذا الجسد؟ قال اللّه عز وجل لها ادخليه كرها وستخرجين منه كرها فدخلت في يافوخه فوصلت إلى عينيه فجعل ينظر إلى سائر جسده طينا فصارت إلى أن وصلت منخريه فعطس فلما بلغت لسانه قال : الحمد للّه رب العالمين وهي أول كلمة قالها فناداه اللّه تعالى رحمك ربك يا أبا محمد ولهذا خلقتك. ولما بلغت الروح إلى الركبتين همّ ليقوم فلم يقدر ، قال اللّه تعالى : خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ فلما بلغت إلى الساقين والقدمين استوى قائما بشرا سويا لحما ودما وعظاما وعروقا وعصبا وأحشاء وكسي لباسا من ظفر يزداد جسده جمالا وحسنا كل يوم ، وجعل في جسده تسعة أبواب سبعة في رأسه وهي الأذنان يسمع بهما والعينان يبصر بهما والمنخران يشم بهما والفم فيه اللسان يتكلم به والأسنان يطحن بها ما يأكله ويجد لذة المطعومات بها وبابين في أسفل جسده وهما القبل والدبر يخرج منهما ثفل طعامه وشرابه وجعل عقله في دماغه وفكره وصرامته في قلبه وشرهه في كليته وغضبه في كبده ورغبته في رئته وضحكه في طحاله وفرجه وحزنه في وجهه فسبحان من جعله يسمع بعظم ويبصر بشحم وينطق بلحم ويعرف بدم وركب فيه الشهوة وحجزه بالحياء (ق) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : خلق اللّه تعالى آدم عليه السلام وطوله ستون ذراعا ثم قال اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال : السلام عليكم فقالوا : السلام عليك ورحمة اللّه فزاده ورحمة فكل من يدخل الجنة على صورة آدم. قال : فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن (م) عن أنس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : لما صور اللّه آدم تركه ما شاء اللّه أن يتركه ، فجعل إبليس يطوف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه لا يتمالك. عن أبي موسى قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : إن اللّه تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك و السهل والحزن والخبيث والطيب. أخرجه الترمذي وأبو داود. ٣١قوله عز وجل وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض. وقيل لأنه كان آدم اللون وكنيته أبو محمد ، وقيل : أبو البشر ولما خلق اللّه آدم وتم خلقه علمه أسماء الأشياء كلها ، وذلك أن الملائكة قالوا ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أكرم علم منا وإن كان فنحن أعلم منه لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره ، فأظهر اللّه فضل آدم عليهم بالعلم. وفيه دليل لمذهب أهل السنة أن الأنبياء أفضل من الملائكة وإن كانوا رسلا ، قال ابن عباس : علمه اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة ، وقيل : خلق اللّه كل شيء من الحيوان والجماد وغير ذلك ، وعلم آدم أسماءها كلها فقال يا آدم هذا بعير وهذا فرس وهذه شاة حتى أتى على آخرها. وقيل علم آدم أسماء الملائكة وقيل أسماء ذريته وقيل علمه اللغات كلها ثُمَّ عَرَضَهُمْ يعني تلك الأشخاص ، وإنما قال عرضهم ولم يقل عرضها لأن المسميات إذا جمعت من يعقل ومن لا يعقل عبر عنه بلفظ من يعقل لتغليب العقلاء عليهم كما يعبر عن الذكور والإناث بلفظ الذكور عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ يعني تعجيزا لهم أَنْبِئُونِي أي أخبروني بِأَسْماءِ هؤُلاءِ يعني تلك الأشخاص إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إني لم أخلق خلقا إلّا كنتم أفضل منه وأعلم ٣٢قالُوا يعني الملائكة سُبْحانَكَ تنزيها لك وذلك لما ظهر عجزهم لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا أي إنك أجل من أن نحيط بشيء من علمك إلّا ما علمتنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ أي بخلقك وهو من أسماء الصفات التامة وهو المحيط بكل المعلومات الْحَكِيمُ أي في أمرك ، وله معنيان أحدهما أنه القاضي العدل والثاني المحكم للأمر كيلا يتطرق إليه الفساد. ٣٣قالَ يعني اللّه تعالى يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ وذلك لما ظهر عجز الملائكة فسمى كل شيء باسمه وذكر وجه الحكمة التي خلق لها فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ يعني اللّه تعالى أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ يعني يا ملائكتي إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني ما كان وما سيكون وذلك أنه سبحانه وتعالى علم أحوال آدم قبل أن يخلقه فلهذا قال لهم : إني أعلم ما لا تعلمون وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ يعني قول الملائكة : أتجعل فيها وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يعني قولكم لن يخلق اللّه تعالى خلقا أكرم عليه منا وقال ابن عباس أعلم ما تبدون من الطاعة وما كنتم تكتمون ، يعني إبليس من المعصية. ٣٤قوله عز وجل : وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ قيل هذا الخطاب كان مع الملائكة الذين كانوا سكان الأرض والأصح أنه خطاب مع جميع الملائكة بدليل قوله : (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلّا إبليس) فَسَجَدُوا يعني الملائكة وفي هذا السجود قولان أصحهما أنه كان لآدم على الحقيقة ولم يكن فيه وضع الجبهة على الأرض وإنما هو الانحناء وكان سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادة كسجود إخوة يوسف له في قوله : وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام. وفي سجود الملائكة لآدم معنى الطاعة للّه تعالى والامتثال لأمره. والقول الثاني أن آدم كان كالقبلة ، وكان السجود للّه تعالى ، كما جعلت الكعبة قبلة للصلاة والصلاة للّه تعالى ، وفي هذه الآية دليل لمذهب أهل السنة في تفضيل الأنبياء على الملائكة إِلَّا إِبْلِيسَ سمي به لأنه أبلس من رحمة اللّه أي يئس ، وكان اسمه عزازيل بالسريانية وبالعربية الحارث فلما عصى غير اسمه فسمي إبليس وغيرت صورته قال ابن عباس كان إبليس من الملائكة بدليل أنه استثناه منهم وقيل إنه من الجن لأنه خلق من النار ولملائكته خلقوا من النور ولأنه أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس والأول أصح لأن الخطاب كان مع الملائكة فهو داخل فيهم ثم استثناه منهم أَبى أي امتنع من السجود فلم يسجد وَاسْتَكْبَرَ أي تكبر وتعظم عن السجود لآدم وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي في علم اللّه تعالى فإنه وجبت له النار لسابق علم اللّه تعالى بشقاوته (م) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله) وفي رواية يا ويلتاه أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار. ٣٥قوله عز وجل وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ أي اتخذها مأوى ومنزلا وليس معناه الاستقرار لأنه لم يقل أسكنتك الجنة لأنه خلق لعمارة الأرض ولما أسكن اللّه آدم في الجنة بقي وحده ليس معه من يستأنس به ويجالسه فألقى اللّه عليه النوم ثم أخذ ضلعا من أضلاع جنبه الأيسر ، وهو الأقصر فخلق منه زوجته حواء ، ووضع مكان الضلع لحما من غير أن يحس بذلك آدم ولم يجد ألما ، ولو وجد ألما لما عطف رجل على امرأة قط ، وسميت حواء لأنها خلقت من حي ، فلما استيقظ آدم من نومه ورآها جالسة كأحسن ما خلق اللّه تعالى فقال لها : من أنت؟ قالت : أنا زوجتك حواء قال : ولما ذا خلقت؟ قالت : لتسكن إلي وأسكن إليك. واختلفوا في الجنة التي أمر آدم بسكناها فقيل إنها جنة كانت في الأرض بدليل أنه لو كانت الجنة التي هي دار الجزاء والثواب لما أخرج منها. وأجاب صاحب هذا القول عن قوله تعالى : اهْبِطا بأن المراد من الهبوط التحول والانتقال فهو كقوله تعالى : اهْبِطُوا مِصْراً والقول الصحيح أنها الجنة التي هي دار الجزاء والثواب لأن الألف واللام للعهد والجنة بين المسلمين وفي عرفهم التي هي دار الجزاء. وقيل : كلا القولين ممكن فلا وجه للقطع وَكُلا مِنْها رَغَداً أي واسعا كثيرا حَيْثُ شِئْتُما أي كيف شئتما ومتى شئتما وأين شئتما والمقصود منه الإطلاق في الأكل من الجنة بلا منع إلّا ما نهى عنه ، وهو قوله تعالى : وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ يعني للأكل قيل إنما وقع هذه النهي عن جنس الشجرة. وقيل عن شجرة مخصوصة قال ابن عباس هي السنبلة وقيل الكرمة. وقيل هي شجرة التين وقيل هي شجرة العلم. وقيل الكافور. وقيل : ليس في ظاهر الكلام ما يدل على التبيين إذ لا حاجة إليه لأنه ليس المقصود تعرّف عين تلك الشجرة وما لا يكون مقصود لا يجب بيانه فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ يعني إن أكلتما من هذه الشجرة ظلمتما أنفسكما فمن جوّز ارتكاب الذنوب على الأنبياء قال ظلم نفسه بالمعصية. وأصل الظلم وصنع الشيء في غير موضعه ومن لم يجوز ذلك على الأنبياء جعل الظلم على أنه فعل ما كان الأولى أن لا يفعله. وقيل : يحمل على أنه فعل هذا قبل النبوة. فإن قلت : هل يجوز وصف الأنبياء بالظلم أو بظلم أنفسهم؟ قلت : لا يجوز أن يطلق عليهم ذلك لما فيه من الذم. قوله عز وجل : ٣٦فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ أي استزل آدم وحواء ودعاهما إلى الزلة وهي الخطيئة ، وسيأتي الكلام إن شاء اللّه تعالى على عصمة الأنبياء والجواب عما صدر منهم عند قوله عز وجل : وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى في سورة طه عَنْها أي الجنة فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ يعني من النعيم وذلك أن إبليس أراد أن يدخل الجنة ليوسوس لآدم وحواء فمنعه الخزنة فأتى الحية وكانت صديقة لإبليس وكانت من أحسن الدواب لها أربع قوائم كقوائم البعير وكانت من خزّان الجنة فسألها أن تدخله الجنة في فيها فأدخلته ومرت به على الخزنة وهم لا يعلمون. وقيل إنما رآهما على باب الجنة لأنهما كانا يخرجان منهما ، وكان إبليس بقرب الباب فوسوس لهما وذلك أن آدم لما دخل الجنة ورأى ما فيها من النعيم قال لو أن خلدا فاغتنم ذلك الشيطان منه وأتاه من قبل الخلد. وقيل لما دخل الجنة وقف على آدم وحواء وهما لا يعلمان أنه إبليس فبكى وناح نياحة أحزنتهما وهو أول من ناح فقالا ما يبكيك قال أبكي عليكما لأنكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة فوقع ذلك في أنفسهما واغتما ومضى إبليس ثم أتاهما بعد ذلك وقال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد فأبى أن يقبل منه فقاسمهما باللّه إني لكما لمن الناصحين ، فاغترا وما ظنا أن أحدا يحلف باللّه كاذبا ، فبادرت حواء إلى أكل الشجرة ، ثم ناولت آدم فأكل منها. قال إبراهيم بن أدهم : أورثتنا تلك الأكلة حزنا طويلا ، قال ابن عباس : قال اللّه تعالى : (يا آدم ألم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة قال بلى يا رب وعزتك ولكن ما ظننت أن أحدا يحلف بك كاذبا. قال : فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش فيها إلّا نكدا فاهبط من الجنة وعلم صنعة الحديد ، وأمر بالحرث فحرث وزرع وسقى حتى إذا بلغ واشتد حصده ثم درسه ثم ذراه ثم طحنه ثم عجنه وخبزه ثم أكله فلم يبلغه حتى بلغ منه الجهد). وفي رواية أخرى عن ابن عباس : إن آدم لما أكل من الشجرة التي نهى عنها قال اللّه تعالى : يا آدم ما حملك على ما صنعت؟ قال يا رب زينته لي حواء قال : فإني أعقبتها أن لا تحمل إلّا كرها ولا تضع إلّا كرها ودميتها في الشهر مرتين ، فرنت حواء عند ذلك فقيل عليك الرنة وعلى بناتك. والرنة الصوت ، فلما أكلا من الشجرة تهافتت عنهما ثيابهما ، وأخرجا من الجنة ، فذلك قوله عز وجل وَقُلْنَا اهْبِطُوا أي انزلوا إلى الأرض يعني آدم وحواء وإبليس والحية فهبط آدم بسرنديب من أرض الهند على جبل يقال له نود ، وأهبطت حواء بجدة وإبليس بالأبلة من أعمال البصرة والحية بأصبهان بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يعني العداوة التي بين المؤمنين من ذرية آدم وبين إبليس وإليه الإشارة ب قوله عز وجل : إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا والعداوة التي بين ذرية آدم والحية. عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من ترك الحيات مخافة طلبهن فليس منا ، ما سالماهن منذ حاربناهن) أخرجه أبو داود ، وله عن ابن مسعود أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (اقتلوا الحيات كلهن فمن خاف من ثأرهن فليس مني) وفي رواية (اقتلوا الكبار كلها إلّا الجان الأبيض الذي كأنه قضيب فضة) (م) عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن بالمدينة جنّا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان) وفي رواية (إن بهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم منها شيئا فاخرجوا عليه ثلاثا فإن ذهب وإلّا فاقتلوه فإنه كافر) وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي موضع قرار وَمَتاعٌ أي بلغة ومستمتع إِلى حِينٍ أي إلى وقت انقضاء آجالكم. ٣٧قوله عز وجل فَتَلَقَّى آدَمُ أي فتلقن ، والتلقي هو قبول عن فطنة وفهم. وقيل هو التعلم مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ أي كانت سبب توبته. وقيل إن تلك الكلمات هي قوله ربنا ظلمنا أنفسنا الآية وقيل هي لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين ، وقيل قال آدم : يا رب أرأيت ما أتيت أشيء ابتدعته من تلقاء نفسي أم شيء قدرته عليّ قبل أن تخلقني؟ قال : بل شيء قدرته عليك قبل أن أخلقك. قال : يا رب فكما قدرته علي فاغفر لي. وقيل : إن اللّه تعالى أمر آدم بالحج وعلمه أركانه فطاف بالبيت سبعا وهو يومئذ ربوة حمراء ثم صلّى ركعتين ثم استقبل البيت وقال اللّهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي ، فأوحى اللّه تعالى إليه يا آدم قد غفرت لك ذنوبك. وقيل : إن آدم لما أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من اللّه تعالى. وقيل هي ثلاثة أشياء : الحياء والدعاء والبكاء. قال ابن عباس : بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوما. وقيل : لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حيث أصاب الخطيئة لو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حيث أخرجه اللّه من الجنة فَتابَ عَلَيْهِ أي فتجاوز عنه وغفر له. وأصل التوبة من تاب يتوب إذا رجع فكأن التائب رجع عن ذلك الذنب الذي كان عليه ، ولا تتحقق التوبة منه إلّا بثلاثة أمور. علم وحال وعمل. أما العلم فهو أن يعلم العبد ضرر الذنب وأنه حجاب عن اللّه تعالى ، فإذا حصل هذا العلم تألم القلب فعند ذلك يحصل الندم وهو الحال فيترك العبد الذنب ، ويعزم في المستقبل أن لا يعود إليه وهو العمل فإذا تحققت هذه الثلاثة الأمور وحصلت التوبة ، وسيأتي بسط هذا عند قوله تعالى : تُوبُوا إِلَى اللّه تَوْبَةً نَصُوحاً في سورة التحريم إن شاء اللّه تعالى إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ أي الرجاع على عباده بقبول التوبة. والتواب في وصف اللّه سبحانه وتعالى : المبالغ في قبول توبة عباده الرَّحِيمُ أي بخلقه وصف سبحانه وتعالى نفسه مع كونه بأنه رحيم ٣٨قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً يعني هؤلاء الأربعة. وقيل إن الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا والهبوط الثاني من السماء الدنيا إلى الأرض ، وفيه ضعف لأنه قال في الهبوط الأول (و لكم في الأرض مستقر) فدل على أنه كان من الجنة إلى الأرض ، والأصح أنه للتأكيد فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فيه تنبيه على عظم نعم اللّه على آدم وحواء كأنه قال وإن أهبطتكم من الجنة إلى الأرض فقد أنعمت عليكم بهدايتي التي تؤديكم إلى الجنة مرة أخرى على الدوام الذي لا ينقطع وقيل المخاطب هم ذرية آدم يعني يا ذرية آدم إما يأتينكم مني رشد وبيان وشريعة وقيل كتاب ورسول فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يعني فيما يستقبلهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي على ما خلفوا وقيل لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الآخرة. ٣٩وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي بالقرآن أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي يوم القيامة هُمْ فِيها خالِدُونَ أي لا يخرجون منها ولا يموتون فيها ٤٠قوله عز وجل يا بَنِي إِسْرائِيلَ اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلّى اللّه عليهم وسلّم أجمعين ومعنى إسرائيل عبد اللّه وقيل صفوة اللّه والمعنى يا أولاد يعقوب اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أي اشكروا نعمتي وإنما عبر عنه بالذكر لأن من ذكر النعمة فقد شكرها ومن جحدها فقد كفرها وقيل الذكر يكون بالقلب ويكون باللسان ووحد النعمة لأنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ومعناه أن المضرة المحضة لا تكون نعمة ولو فعل الإنسان منفعة وقصد نفسه بها لا تسمى نعمة إذا لم يقصد بها الغير ثم إن النعم ثلاثة : نعمة تفرد بها اللّه تعالى وهي إيجاد الإنسان ورزقه ونعمة وصلت إلى الإنسان بواسطة الغير لكن اللّه مكنه من ذلك فالمنعم بها في الحقيقة هو اللّه تعالى ونعمة حصلت للإنسان بسبب الطاعة وهي أيضا من اللّه تعالى ، فاللّه هو المنعم المطلق في الحقيقة لأن أصول النعم كلها منه. وأما النعم المختصة ببني إسرائيل فكثيرة لأن قوله اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ لفظها واحد ومعناها الجمع فمن النعم أن اللّه تعالى أنقذهم من فرعون وفلق البحر لهم وأغرق فرعون وتظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى في التيه عليهم وإنزال التوراة ونعم غير هذه كثيرة فإن قلت إذا فسر النعمة بهذا فما كانت على المخاطبين بها بل كانت على آبائهم فكيف تكون نعمة عليهم حتى يذكروها قلت إنما ذكر المخاطبين بها لأن فخر الآباء فخر الأبناء ولأن الأبناء إذا تيقنوا أن اللّه قد أنعم على آبائهم بهذه النعم فقد وجب عليهم ذكرها وشكرها. وقيل إن هذه النعم هي إدراك المخاطبين بها زمن محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وذكرها الإيمان به وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أي امتثلوا أمري أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أي بالقول والثواب وأصل للعهد حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال ومنه سمي الموثق الذي تلزم مراعاته عهدا وقيل أراد بالعهد جميع ما أمر اللّه به من غير تخصيص ببعض التكليف دون بعض وقيل أراد به ما ذكر في سورة المائدة وهو قوله : وَلَقَدْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً إلى قوله لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ فهذا قوله : أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وقيل هو قوله : وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ يعني شريعة التوراة. وقيل هو قوله : وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللّه. وقيل أراد بهذا العهد ما أثبته في كتب الأنبياء المتقدمة من وصف محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأنه مبعوث في آخر الزمان ، وذلك أن اللّه عهد إلى بني إسرائيل على لسان موسى عليه الصلاة والسلام أني باعث من بني إسماعيل نبيا أميا فمن تبعه وصدق النور الذي يأتي به غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين ، وهو قوله : وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ يعني أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وصفته وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أي فخافون في نقضكم العهد ٤١وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ يعني بالقرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ يعني أن القرآن موافق لما في التوراة من التوحيد والنبوة والأخبار ونعمت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فالإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن تصديق للتوراة لأن التوراة فيها الإشارة إلى نعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأنه نبي مبعوث فمن آمن به فقد آمن بما في التوراة ومن كذبه وكفر به فقد كذب التوراة وكفر بها وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ الخطاب لليهود ، نزلت في كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود ، والمعنى ولا تكونوا يا معشر اليهود أول من كفر به. فإن قلت كيف جعلوا أول من كفر به وقد سبقهم إلى الكفر به مشركو العرب من أهل مكة وغيرهم؟ قلت : هذا تعريض لهم والمعنى كان يجب أن تكونوا أول من آمن به لأنكم تعرفون صفته ونعته بخلاف غيركم وكنتم تستفتحون به على الكفار فلما بعث كان أمر اليهود بالعكس. وقيل معناه ولا تكونوا أول كافر به من اليهود فيتبعكم غيركم على ذلك فتبوءوا بإثمكم وإثم غيركم ممن تبعكم على ذلك وَلا تَشْتَرُوا أي ولا تستبدلوا بِآياتِي أي ببيان صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم التي في التوراة ثَمَناً قَلِيلًا أي عوضا يسيرا من الدنيا لأن الدنيا بالنسبة إلى الآخرة كالشيء اليسير الحقير الذي لا قيمة له والذي كانوا يأخذونه من الدنيا كالشيء اليسير بالنسبة إلى جميعها فهو قليل القليل فلهذا قال اللّه تعالى : وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وذلك أن كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود وعلماءهم كانوا يصيبون المآكل من سفلتهم وجهالهم وكانوا يأخذون منهم في كل سنة شيئا معلوما من زرعهم وثمارهم ونقودهم وضروعهم فخافوا إن بينوا صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وتابعوه أن تفوتهم تلك المآكل فغيروا نعته وكتموا اسمه واختاروا الدنيا على الآخرة وأصروا على الكفر وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ أي فخافون في أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم. والتقوى قريب من معنى الرهبة والفرق بينهما أن الرهبة خوف مع حزن واضطراب والتقوى جعل النفس في وقاية مما تخاف. ٤٢قوله عز وجل : وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ أي ولا تكتبوا في التوراة ما ليس فيها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم. وقيل معناه ولا تخلطوا الحق الذي أنزل عليكم من صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في التوراة الباطل الذي تكتبونه بأيديكم من تغيير صفته وقيل لا تخلطوا صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم التي هي الحق بالباطل أي بصفة الدجال وذلك أنه لما بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حسده اليهود وقالوا ليس هو الذي ننتظره وإنما هو المسيح ابن داود يعني الدجال وكذبوا فيما قالوا : وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم نبي مرسل. وفيه تنبيه لسائر الخلق وتحذير من مثله فصار هذا الخطاب وإن كان خاصا في الصورة لكنه عام في المعنى فعلى كل أحد أن لا يلبس الحق بالباطل ولا يكتم الحق لما فيه من الضرر والفساد وفيه دلالة أيضا على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه ٤٣وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودها وجميع أركانها وَآتُوا الزَّكاةَ أي أدوا الزكاة المفروضة عليكم في أموالكم وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أي صلوا مع المصلين ، يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه وعبر عن الصلاة بالركوع لأنه ركن من أركانها وهذا خطاب لليهود لأن صلاتهم ليس فيها ركوع فكأنه قال لهم صلوا صلاة ذات ركوع فلهذا المعنى أعاده بعد قوله وأقيموا الصلاة لأن الأول خطاب الكافة والثاني خطاب قوم مخصوصين وهم اليهود. وفيه حث على إقامة الصلاة في الجماعة فكأنه قال صلوا مع المصلين في الجماعة. ٤٤قوله عز وجل : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ الاستفهام فيه للتقرير مع التقريع والتعجب من حالهم. والبر اسم جامع لجميع أعمال الخير والطاعات ، نزلت هذه الآية في علماء اليهود ، وذلك أن الرجل منهم كان يقول لقريبه وحليفه من المسلمين إذا سأله عن أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم اثبت على دينه فإن أمره حق وقوله صدق وقيل إن جماعة من اليهود قالوا لمشركي العرب : إن رسولا سيظهر منكم ويدعوكم إلى الحق ، وكانوا يرغبونهم في اتباعه فلما بعث اللّه محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم حسدوه وكفروا به فبكتهم اللّه ووبخهم بذلك حيث إنهم كانوا يأمرون الناس باتباعه قبل ظهوره ، فلما ظهر تركوه وأعرضوا عنه. وقيل كانوا يأمرون الناس بالطاعة والصلاة والزكاة وأنواع البر ولا يفعلونه فوبخهم اللّه بذلك وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ أي وتعدلون عما لها فيه نفع والنسيان عبارة عن السهو الحادث بعد حصول العلم والمعنى أتتركون أنفسكم ولا تتبعون محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ يعني تقرؤون التوراة وتدرسونها وفيها نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وصفته وفيها أيضا الحث على الأفعال الحسنة والإعراض عن الأفعال القبيحة والإثم أَفَلا تَعْقِلُونَ يعني أنه حق فتتبعونه والعقل قوة يهيئ قبول العلم ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل ومنه قول علي بن أبي طالب : وإن العقل عقلان فمطبوع ومسموع ولا ينفع مطبوع إذا لم يك مسموع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع وأصل العقل الإمساك لأنه مأخوذ من عقال الدابة كعقل البعير بالعقال ليمنعه من الشرود فكذلك العقل يمنع صاحبه من الكفر والجحود والأفعال القبيحة. ومعنى الآية أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو إرشاد الغير إلى تحصيل المصلحة وتحذيره عما يوقعه في المفسدة والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير وذلك لأن الإنسان إذا وعظ غيره ولم يتعظ هو فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل فلهذا قال أفلا تعقلون وقيل إن من وعظ الناس يجتهد أن ينفذ موعظته إلى القلوب فإذا خالف قوله فعله كان ذلك سبب تنفير القلوب عن قبول موعظته (ق) عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بل كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه) قوله فتندلق ، أي تخرج أقتاب بطنه أي أمعاء بطنه واحدها قتب وروى البغوي بسنده عن أنس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون قيل مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه. وقيل من وعظ بقوله ضاع كلامه ، ومن وعظ بفعله نفذت سهامه ، وقال بعضهم : ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يسمع ما تقول ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم ٤٥قوله عز وجل : وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ قيل إن المخاطبين بهذا هم المؤمنون لأن من ينكر الصلاة والصبر على دين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لا يقال له استعن بالصبر والصلاة فلا جرم وجب صرفه إلى من صدّق محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وآمن به. وقيل يحتمل أن يكون الخطاب لبني إسرائيل لأن صرف الخطاب إلى غيرهم يوجب تفكيك نظم القرآن ولأن اليهود لم ينكروا أصل الصلاة والصبر لكن صلاتهم غير صلاة المؤمنين ، فعلى هذا القول أن اللّه تعالى لما أمرهم بالإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والتزام شريعته وترك الرياسة وحب الجاه والمال قال لهم استعينوا بالصبر أي بحبس النفس عن اللذات وإن ضممتم إلى ذلك الصلاة هان عليكم ترك ما أنتم فيه من حب الرياسة والجاه والمال. وعلى القول الأول يكون معنى الآية واستعينوا على حوائجكم إلى اللّه. وقيل : على ما يشغلكم من أنواع البلاء. وقيل : على طلب الآخرة بالصبر وهو حبس النفس عن اللذات وترك المعاصي. وقيل بالصبر على أداء الفرائض. وقيل الصبر هو الصوم لأن فيه حبس النفس عن المفطرات وعن سائر اللذات وفيه انكسار النفس والصلاة ، أي اجمعوا بين الصبر والصلاة وقيل معناه واستعينوا بالصبر على الصلاة وعلى ما يجب فيها من تصحيح النية وإحضار القلب ومراعاة الأركان والآداب مع الخشوع والخشية ، فإن من اشتغل بالصلاة ترك ما سواها. وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، أي إذا أهمه أمر لجأ إلى الصلاة وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه نعي له أخوه قثم وهو في سفره فاسترجع ثم تنحى عن الطريق ، فصلى ركعتين أطال فيهما السجود ، ثم قام إلى راحلته وهو يقول : فاستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّها يعني الصلاة وقيل الاستعانة لَكَبِيرَةٌ أي ثقيلة إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ يعني المؤمنين وقيل الخائفين : وقيل المطيعين المتواضعين للّه وأصل الخشوع السكون فالخاشع ساكن إلى الطاعة وقيل الخشوع الضراعة وأكثر ما تستعمل في الجوارح وإنما كانت الصلاة ثقيلة على غير الخاشعين لأن من لا يرجو لها ثوابا ولا يخاف على تركها عقابا فهي ثقيلة عليه. وأما الخاشع الذي يرجو لها ثوابا ويخاف على تركها عقابا فهي سهلة عليه ٤٦الَّذِينَ يَظُنُّونَ أي يستيقنون وقيل يعلمون أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ يعني في الآخرة وفيه دليل على ثبوت رؤية اللّه تعالى في الآخرة وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ يعني بعدت فيجزيهم بأعمالهم. ٤٧قوله عز وجل : يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ إنما أعاد هذا الكلام مرة أخرى توكيدا للحجة عليهم وتحذيرا من ترك اتباع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ يعني على عالمي زمانكم وهذا التفضيل وإن كان في حق الآباء ولكن يحصل به الشرف للأبناء ٤٨وَاتَّقُوا يَوْماً أي واخشوا عذاب يوم لا تَجْزِي أي لا تقضى نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً يعني حقا لزمها. وقيل معناه لا تنوب نفس عن نفس يوم القيامة ، ولا ترد عنها شيئا مما أصابها ، بل يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه ولا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ أي في ذلك اليوم والمعنى لا تقبل الشفاعة إذا كانت النفس كافرة ، وذلك أن اليهود قالوا يشفع لنا آباؤنا فرد اللّه عليهم ذلك بقوله ولا تقبل منها شفاعة وقيل إن طاعة المطيع لا تقضي عن العاصي ما كان واجبا عليه وقيل معناه أن النفس الكافرة لو جاءت بشفيع لا يقبل منها وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ أي فدية وهو مماثلة الشيء بالشيء وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي لا يمنعون من العذاب. ٤٩قوله عز وجل : وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ أي واذكروا إذ خلصنا أسلافكم وأجوادكم فاعتدها نعمة ومنة عليهم لأنهم نجوا بنجاة أسلافهم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي من أتباعه وأهل دينه وفرعون اسم علم لمن كان يملك مصر من القبط والعماليق وفرعون هذا كان اسمه الوليد بن مصعب بن الريان وعمر أكثر من أربعمائة سنة يَسُومُونَكُمْ أي يكلفونكم ويذيقونكم سُوءَ الْعَذابِ أي أشد العذاب وأسوأه ، وقيل : يصرفونكم في العذاب مرة كذا ومرة كذا ، وذلك أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا ، وصنفهم في الأعمال أصنافا : صنف يبنون ويزرعون ، وصنف يخدمونه ومن لم يكن في عمل وضع عليه الجزية وقال ابن وهب : كانوا أصنافا في أعمال فرعون فذوو القوة يسلخون السواري من الجبال ، حتى تقرعت أيديهم وأعناقهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها وصنف ينقلون الحجارة والطين يبنون له القصور ، وطائفة يضربون اللبن ويطبخون الآجر ، وطائفة نجارون وحدادون ، والضعفة منهم يضرب عليهم الخراج يعني الجزية ضريبة يؤدونها كل يوم ، فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤدي ضريبته ، غلبت يداه إلى عنقه شهرا والنساء يغزلن الكتان وينسجنه وقيل تفسير يسومونكم سوء العذاب ، ما بعده وهو قوله عز وجل : يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي يتركونهن أحياء. وذلك أن فرعون رأى في منامه كأن نارا أقبلت من بيت المقدس وأحاطت بمصر ، وأحرقت كل قبطي بها ولم تتعرض لبني إسرائيل فهاله ذلك ، وسأل الكهنة عن رؤياه فقالوا : يولد غلام يكون على يديه هلاكك وزوال ملكك فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل ، ووكل بالقوابل فكنّ يفعلن ذلك حتى قتل في طلب موسى اثني عشر ألفا وقيل : سبعين ألفا ، وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤساء القبط على فرعون وقالوا : إن الموت قد وقع ببني إسرائيل فتذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة ، فولد هارون في السنة التي لا يذبح فيها وولد موسى في السنة التي يذبح فيها وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أي اختيار وامتحان ، والبلاء يطلق على النعمة العظيمة وعلى المحنة الشديدة ليختبر اللّه العبد على النعمة بالشكر ، وعلى الشدة بالصبر فإن حمل قوله : وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ على صنع فرعون كان من البلاء والمحنة وإن حمل على الإنجاء كان من النعمة. قوله عز وجل : وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ أي فصلنا بعضه من بعض وجعلنا فيه مسالك بسبب دخولكم البحر وسمي بحرا لاتساعه. (ذكر سياق القصة) وذلك أنه لما دنا هلاك فرعون ، أمر اللّه موسى عليه الصلاة والسلام أن يسري ببني إسرائيل من مصر بالليل ، فأمر موسى قومه أن يسرجوا في بيوتهم السرج إلى الصبح ، وأن يستعيروا حلى القبط لتبقى لهم أو ليتبعوهم لأجل المال ، وأخرج اللّه كل ولد زنا كان في القبط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل وكل ولد زنا كان في بني إسرائيل من القبط إلى القبط حتى يرجع كل ولد إلى أبيه وألقى اللّه الموت على القبط فمات كل بكر لهم فاشتغلوا بدفنهم وقيل : بلغ ذلك فرعون فقال لا أخرج في طلبهم حتى يصيح الديك فما صاح تلك الليلة ديك وخرج موسى في بني إسرائيل وهم ستمائة ألف وعشرون ألفا لا يعدون ابن عشرين سنة لصغره ، ولا ابن ستين سنة لكبره ، وكانوا يوم دخلوا مصر مع يعقوب اثنين وسبعين إنسانا ما بين رجل وامرأة فلما أرادوا السير ضرب عليهم التيه فلم يدروا أين يذهبون فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل وسألهم عن ذلك فقالوا : إن يوسف لما حضره الموت أخذ على إخوته عهدا أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم فلذلك انسد علينا الطريق فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموه فقال موسى. ينادي أنشد اللّه كل من يعلم أين قبر يوسف إلا أخبرني به ومن لم يعلم صمت أذناه عن سماع قولي : فكان يمر بالرجل وهو ينادي فلا يسمع صوته حتى سمعته عجوز منهم فقالت له : أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كل ما أسألك فأبى عليها وقال : حتى أسأل ربي فأمره أن يعطيها سؤالها فقالت : إني عجوز لا أستطيع المشي فاحملني معك وأخرجني من مصر هذا في الدنيا وأما في الآخرة فأسألك أن لا تنزل غرفة من غرف الجنة إلا نزلتها معك قال : نعم ، قالت : إنه في النيل في جوف الماء فادع اللّه أن يحسر عنه الماء فدعا اللّه فحسر عنه الماء ، ودعا اللّه أن يؤخر عنه طلوع الفجر حتى يفرغ من أمر يوسف ، ثم حفر موسى ذلك الموضع فاستخرجه وهو في صندوق من مرمر وحمله معه حتى دفنه بالشام ، فعند ذلك فتح لهم الطريق فسار موسى ببني إسرائيل هو في ساقتهم وهارون في مقدمتهم ، ثم خرج فرعون في طلبهم في ألف ألف وسبعمائة ألف وكان فيهم سبعون ألفا من دهم الخيل سوى سائر الشيات وقيل : كان معهن مائة ألف حصان أدهم وكان فرعون في الدهم وكان على مقدمة عسكر هامان ، وكان فرعون في سبعة آلاف ألف وكان بين يديه مائة ألف ألف ناشب ومائة ألف ألف حراب ومائة في ألف ألف ، معهم الأعمدة وسار بنو إسرائيل حتى وصلوا البحر والماء في غاية الزيادة ، ونظروا حين أشرقت الشمس فإذا هم بفرعون في جنوده فبقوا متحيرين وقالوا : يا موسى أين ما وعدتنا به فكيف نصنع هذا فرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا والبحر أمامنا إن دخلناه غرقنا ، فأوحى اللّه إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فلم يطعه فأوحى اللّه إليه أن كنه فضربه ، وقال : انفلق يا أبا خالد فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، وظهر فيه اثنا عشر طريقا لكل سبط منهم طريق وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل وأرسل اللّه الريح والشمس على قعر البحر ، حتى صار يبسا وخاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق عن جوانبهم الماء كالجبال الضخم لا يرى بعضهم بعضا فخافوا ، وقال : كل سبط منهم قد هلك إخواننا فأوحى اللّه إلى جبال الماء أن تشبكي فصار الماء كالشباك يرى بعضهم بعضا ، ويسمع بعضهم كلام بعض حتى عبروا البحر سالمين فذلك قوله تعالى : ٥٠وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ يعني من فرعون وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ. وذلك أن فرعون لما وصل إلى البحر فرآه منفلقا ، قال لقومه : انظروا إلى البحر كيف انفلق من هيبتي حتى أدرك عبيدي الذين أبقوا مني ادخلوا البحر فهاب قومه أن يدخلوا ، وقيل : قالوا له : إن كنت ربا فادخل البحر كما دخل موسى وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى فجاء جبريل عليه السلام على فرس أنثى وديق فتقدمه ، وخاض البحر فلما شم أدهم فرعون ريحها اقتحم البحر في أثرها ولم يملك فرعون من أمره شيئا ، واقتحمت الخيول خلفه في البحر وجاء ميكائيل خلفهم يسوقهم وهو على فرس ويقول : الحقوا بأصحابكم حتى صاروا كلهم في البحر وخرج جبريل من البحر وهم أولهم بالخروج فأمر اللّه البحر أن يأخذهم ، فالتطم عليهم وأغرقهم أجمعين وكان بين طرفي البحر أربع فراسخ وهو بحر القلزم وهو على طرف من بحر فارس ، وقيل : هو بحر من وراء مصر يقال له : إساف وكان إغراق آل فرعون بمرأى من بني إسرائيل فذلك قوله : وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ يعني إلى هلاكهم وقيل : إلى مصارعهم وقيل : إن البحر قذفهم حتى نظروا إليهم ووافق ذلك يوم عاشوراء فصام موسى عليه السلام ذلك اليوم شكرا للّه تعالى. قوله عز وجل : ٥١وَإِذْ واعَدْنا من المواعدة وهو من اللّه الأمر ومن موسى القبول وذلك أن اللّه وعده بمجيء الميقات مُوسى اسم عبري معرب فموسى بالعبرية الماء والشجر سمي موسى لأنه أخذ من بين الماء والشجر ثم قلبت الشين سينا فسمي موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً أي انقضاء أربعين ليلة ثلاثين من ذي القعدة وعشر من ذي الحجة ، وقرن التاريخ بالليل دون النهار لأن الأشهر العربية وضعت على سير القمر وقيل لأن الظلمة أقدم من الضوء. (ذكر القصة في ذلك) قال العلماء : لما أنجى اللّه بني إسرائيل من البحر وأغرق عدوهم ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليهما ، وعد اللّه موسى أن ينزل عليه التوراة فقال موسى لقومه : إني ذاهب إلى ميقات ربي لآتيكم منه بكتاب فيه بيان ما تأتون وما تذرون ، ووعدهم أربعين ليلة واستخلف عليهم أخاه هارون فلما جاء الموعد أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام على فرس يقال له : فرس الحياة لا يصيب شيئا إلا حيي ليذهب بموسى إلى ميقات ربه فرآه السامري ، وكان صائغا اسمه ميخا وقال ابن عباس : اسمه موسى بن ظفر ، وقيل : كان من أهل ماحرا وقيل كرمان وقيل من بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة وكان منافقا يظهر الإسلام وكان من قوم يعبدون البقر فلما رأى جبريل على ذلك الفرس ورأى موضع قدم الفرس يخضر في الحال فقال في نفسه إن لهذا لشأنا وقيل رأى جبريل حين دخل البحر قدام فرعون فقبض قبضة من تراب فرسه وألقى في روعه ، أنه إذا ألقي في شيء حيي فلما ذهب موسى إلى الميقات ، ومكث على الطور أربعين ليلة وأنزل اللّه عليه التوراة في الألواح وكانت الألواح من زبرجد ، وقربه نجيا وأسمعه صرير الأقلام وقيل : إنه بقي أربعين ليلة لم يحدث فيها حدثا حتى هبط من الطور ، وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حليا كثيرا من القبط حين أرادوا الخروج من مصر بعلة عرس لهم فلما هلك فرعون وقومه بقي ذلك الحلي في أيديهم فلما فصل موسى قال لهم السامري : إن الحلي الذي استعرتموه من القبط غنيمة لا تحل لكم فاحفروا حفيرة وادفنوه فيها حتى يرجع موسى ، ويرى فيها رأيه وقيل : إن هارون أمرهم بذلك فلما اجتمعت الحلي أخذها السامري وصاغها عجلا في ثلاثة أيام ، ثم ألقى فيها القبضة التي أخذها من تراب فرس جبريل عليه الصلاة والسلام فصار عجلا من ذهب مرصعا بالجواهر وخار خورة وقيل : كان يخور ويمشي ، فقال لهم السامري (هذا إلهكم وإله موسى فنسي) أي فتركه هاهنا وخرج يطلبه وكان بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد ، فعدوا اليوم مع الليلة يومين فلما مضى عشرون يوما ، ولم يرجع موسى وقعوا في الفتنة وقيل : كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة ثم زيدت العشرة فكانت فتنتهم في تلك العشرة فلما مضت الثلاثون ولم يرجع موسى ، ظنوا أنه قد مات ورأوا العجل وسمعوا قول السامري فعكف عليه ثمانية آلاف رجل يعبدونه ، وقيل : عبده كلهم إلا هارون مع اثني عشر ألف رجل وهذا أصح فذلك قوله عز وجل : ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ يعني إلها مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد موسى وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ أي وأنتم ضارون لأنفسكم بالمعصية حيث وضعتم العبادة في غير موضعها ٥٢ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ أي محونا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد عبادتكم لعجل لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لكي تشكروا عفوي عنكم ، وحسن صنيعي إليكم وأصل الشكر هو تصور النعمة وإظهارها ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها والشكر على ثلاث أضرب : شكر القلب وهو تصور النعمة. وشكر اللسان وهو الثناء على النعمة. وشكر بسائر الجوارح وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقها ، وقيل الشكر هو الطاعة بجميع الجوارح في السر والعلانية وقيل : حقيقة الشكر العجز عن الشكر. وحكي أن موسى عليه الصلاة والسلام قال : إلهي أنعمت عليّ النعم السوابغ وأمرتني بالشكر وإنما شكري إياك نعمة منك فأوحى اللّه تعالى إليه يا موسى تعلمت العلم الذي لا فوقه علم حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهي مني. وقال داود عليه الصلاة والسلام : سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكرا كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة وقال الفضيل : شكر كل نعمة أن لا يعصى بعدها بتلك النعمة وقيل شكر النعمة ذكرها وقيل : شكر النعمة أن لا يراها البتة ويرى المنعم وقيل الشكر لمن فوقك بالطاعة والثناء ولنظيرك بالمكافأة ولمن دونك بالإحسان والإفضال. ٥٣قوله عز وجل : وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة وَالْفُرْقانَ قيل : هو نعت الكتاب والواو زائدة. والمعنى الكتاب المفرق بين الحلال والحرام والكفر والإيمان وقيل : الفرقان هو النصر على الأعداء والواو أصلية لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ يعني بالتوراة ٥٤وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يعني الذين عبدوا العجل يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ يعني إلها تعبدونه فكأنهم قالوا ما نصنع قال فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ أي ارجعوا إلى خالقكم بالتوبة قالوا كيف نتوب قال فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يعني ليقتل البريء منكم المجرم. فإن قلت التوبة عبارة عن الندم على فعل القبيح والعزم على أن لا يعود إليه وهذا مغاير للقتل. فكيف يجوز تفسير التوبة بالقتل. قلت : ليس المراد تفسير التوبة بالقتل بل بيان أن توبتهم لا تتم إلا بالقتل ، وإنما كان كذلك لأن اللّه أوحى إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن توبة المرتد لا تتم إلا بالقتل. فإن قلت : التائب من الردة لا يقتل فكيف استحقوا القتل وقد تابوا من الردة قلت ذلك مما تختلف فيه الشرائع فلعل شرع موسى كان يقتضي أن يقتل التائب من الردة إما عاما في حق الكل أو خاصا في حق الذين عبدوا العجل ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ يعني القتل وتحمل هذه الشدة لأن الموت لا بد منه فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا : نصبر لأمر اللّه تعالى فجلسوا محتبين من الحبوة وهو ضم الساق إلى البطن بثوب ، وقيل لهم من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون مردودة توبته ، وأصلت القوم الخناجر والسيوف ، وأقبلوا عليهم فكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه وصديقه وجاره فيرق له ، فما يمكنهم المضي لأمر اللّه تعالى فقالوا يا موسى كيف نفعل؟ فأرسل اللّه تعالى عليهم سحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضا فكانوا يقتلون إلى المساء فلما كثر القتل دعا موسى وهارون اللّه وبكيا وتضرّعا إليه وقال : يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية فكشف اللّه السحابة عنهم وأمرهم أن يكفوا عن القتل ، فتكشف عن ألوف من القتلى قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : كان عدد القتلى سبعين ألفا فاشتد ذلك على موسى فأوحى اللّه إليه أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول الجنة ، فكان من قتل منهم شهيدا ومن بقي مكفرا عنه ذنوبه فذلك قوله تعالى : فَتابَ عَلَيْكُمْ أي فعلتم ما أمرتم به فتجاوز عنكم إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ أي الرجاع بالمغفرة القابل التوبة الرَّحِيمُ بخلقه. قوله عز وجل : ٥٥وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ أي لن نصدقك حَتَّى نَرَى اللّه جَهْرَةً أي عيانا وذلك أن اللّه عز وجل أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ، فاختار موسى من قومه سبعين رجلا من خيارهم وقال لهم : صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم ، ففعلوا وخرج بهم موسى إلى طور سيناء لميقات ربه فقالوا لموسى : اطلب لنا أن نسمع كلام ربنا قال : أفعل فلما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله فدخل موسى في الغمام ، وقال للقوم : ادنوا حتى دخلوا تحت الغمام وخروا سجدا وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجه نور ساطع فلا يستطيع أحد أن ينظر إليه فضرب دونهم الحجاب وسمعوه يكلم موسى يأمره وينهاكم وأسمعهم اللّه تعالى : (إني أنا اللّه لا إله إلا أنا ذو بكة أخرجتكم من أرض مصر بيد شديدة فاعبدوني ولا تعبدوا غيري فلما فرغ موسى وانكشف الغمام أقبل إليهم فقالوا لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة) وإنما قالوا : جهرة توكيد للرؤية لئلا يتوهم متوهم أن المراد بالرؤية العلم فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ قيل : هي الموت وفيه ضعف لأن قوله وأنتم تنظرون يرده إذ لو كان المراد منها الموت لامتنع كونهم ناظرين إليها وقيل : إن الصاعقة هي سبب الموت واختلفوا في ذلك السبب فقيل : إن نارا نزلت من السماء فأحرقتهم. وقيل : جاءت صيحة من السماء وقيل : أرسل جموعا من الملائكة فسمعوا بحسهم فخروا صعقين وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي ينظر بعضكم إلى بعض كيف يأخذه الموت فلما هلكوا جعل موسى يبكي ويتضرع ويقول إلهي ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد هلك خيارهم (لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم اللّه رجلا بعد رجل ، بعد ما ماتوا يوما وليلة ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون فذلك قوله تعالى : ٥٦ثُمَّ بَعَثْناكُمْ أي أحييناكم مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ أي لتستوفوا بقية آجالكم وأرزاقكم ولو أنهم كانوا قد ماتوا لانقضاء آجالهم لم يبعثوا إلى يوم القيامة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٥٧قوله عز وجل : وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ يعني في التيه يقيكم حر الشمس ، وذلك أنه لم يكن لهم في التيه شيء يسترهم ولا يستظلون به فشكوا إلى موسى فأرسل اللّه غماما أبيض رقيقا يسترهم من الشمس وجعل لهم عمودا من نور يضيء لهم الليل إذا لم يكن قمر وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى أي في التيه الأكثرون على أن المن هو الترنجبين وقيل : هو شيء كالصمغ يقع على الشجر طعمه كالشهد. وقال وهب : هو الخبز الرقاق ، وأصل المن هو ما يمن اللّه به من غير تعب (ق) عن سعيد بن زيد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (الكماة من المن وماؤها شفاء للعين) ومعنى الحديث أن الكمأة شيء أنبته اللّه من غير سعي أحد ولا مؤنة وهو بمنزلة المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل ، وقوله : وماؤها شفاء للعين معناه أن يخلط مع الأدوية فينتفع به لا أنه يقطر ماؤها بحتا في العين وقيل : إن تقطيره في العين ينفع لكن لوجع مخصوص ، وليس يوافق كل وجع العين وكان هذا المن ينزل على أشجارهم في كل ليلة من وقت السحر إلى طلوع الشمس ، كالثلج لكل إنسان صاع فقالوا : يا موسى قد قتلنا هذا المن بحلاوته ، فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم فأرسل اللّه عليهم السلوى ، وهو طائر يشبه السماني وقيل هو السماني بعينه فكان الرجل يأخذ ما يكفيه يوما وليلة ، فإذا كان يوم الجمعة يأخذ ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت شيء كُلُوا أي وقلنا لهم كلوا مِنْ طَيِّباتِ أي حلالات ما رَزَقْناكُمْ أي ولا تدخروا لغد فخالفوا وادخروا فدود وفسد ، فقطع اللّه عنهم ذلك (ق) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لو لا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر) قوله : لم يخنز اللحم لم ينتن ولم يتغير وَما ظَلَمُونا أي وما بخسوا حقنا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يعني بأخذهم أكثر مما حولهم فاستحقوا بذلك عذابي وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مؤنة ولا تعب في الدنيا ولا حساب في العقبى. قوله عز وجل : ٥٨وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ سميت قرية لاجتماع الناس فيها قال ابن عباس : هي أريحاء قرية الجبارين وقيل : كان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم : العمالقة ورأسهم عوج بن عنق ، فعلى هذا يكون القائل يوشع بن نون لأنه هو الذي فتح أريحاء بعد موت موسى لأن موسى مات في التيه ، وقيل : هي بيت المقدس وعلى هذا فيكون القائل موسى. والمعنى إذا خرجتم من التيه بعد مضي الأربعين سنة ، ادخلوا بيت المقدس فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً أي موسعا عليكم وَادْخُلُوا الْبابَ فمن قال : إن القرية أريحاء قال ادخلوا من أي باب كان من أبوابها وكان لها سبعة أبواب ومن قال إن القرية هي بيت المقدس قال هو باب حطة سُجَّداً منحنين خضعا متواضعين كالراكع ولم يرد به نفس السجود وَقُولُوا حِطَّةٌ أي حط عنا خطايانا أمروا بالاستغفار. وقال ابن عباس قولوا لا إله إلا اللّه لأنها تحط الذنوب والخطايا على تقدير مسألتنا حطة نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ أي نسترها عليكم من الغفر وهو الستر لأن المغفرة تستر الذنوب وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ يعني ثوابا ٥٩فَبَدَّلَ أي فغير الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أي قالوا قولا غير ما قيل لهم ، وذلك أنهم بدلوا قول الحطة بالحنطة ، وقالوا بلسانهم حطانا سمقاثا أي حنطة حمراء ، وذلك استخفافا منهم بأمر اللّه تعالى. وقيل : طؤطئ لهم للباب ليخفضوا رؤوسهم فأبوا ذلك ودخلوا زحفا على أستاههم فخالفوا في الفعل كما خالفوا في القول ، وبدلوه (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة) فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ يعني عذابا من السماء ، قيل : أرسل اللّه عليهم طاعونا فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفا بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي يعصون ويخرجون عن أمر اللّه تعالى. ٦٠قوله عز وجل : وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ أي طلب السقيا لقومه ، وذلك أنهم عطشوا في التيه فسألوا موسى أن يستسقي لهم ففعل فأوحى اللّه إليه كما قال مبينا فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ وكانت العصا من آس الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى عليه الصلاة والسلام ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا واسمها عليق ، وقيل : نبعة حملها آدم معه من الجنة فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى الْحَجَرَ قال وهب : لم يكن حجرا معينا بل كان موسى يضرب أي حجر كان فيتفجر عيونا لكل سبط عين ، وكانوا اثني عشر سبطا ، وقيل : كان حجرا معينا بدليل أنه عرفه بالألف واللام قال ابن عباس : كان حجرا خفيفا مربعا قدر رأس الرجل وكان موسى عليه الصلاة والسلام يضعه في مخلاة ، فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه وقيل : كان للحجر أربعة وجوه في كل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين وقيل كان من الرخام وقيل ، كان من الكذان وهي الحجارة الليّنة وقيل : هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه ليغتسل ، ففر به فأتاه جبريل وقال إن اللّه يأمرك أن ترفع هذا الحجر فلي فيه قدرة ولك فيه معجزة فوضعه في مخلاة فلما سألوه السقيا قيل اضرب بعصاك الحجر فكان إذا احتاجوا إلى الماء ، وضعه وضربه بعصاه فتتفجر منه عيون لكل سبط عين تسيل إليهم في جدول ، وكان إذا أراد حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء وييبس الحجر فذلك قوله تعالى : فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً يعني على عدد أسباط بني إسرائيل ، والمعنى فضربه فانفجرت قال المفسرون : انفجرت وانبجست : بمعنى واحد وقيل انبجست أي عرقت وانفجرت أي سالت قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ أي موضع شربهم لا يدخل سبط على غيره كُلُوا وَاشْرَبُوا أي وقلنا لهم كلوا واشربوا مِنْ رِزْقِ اللّه يعني المن والسلوى والماء فهذا كله من رزق اللّه كان يأتيهم بلا مشقة ولا كلفة وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ العيث أشد الفساد في هذه الآية معجزة عظيمة لموسى عليه الصلاة والسلام ، حيث انفجر من الحجر الصغير ما روى منه الجمع الكثير ومعجزة نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أعظم لأنه انفجر الماء من بين إصبعيه فروى منه الجم الغفير ، لأن انفجار الماء من الدم واللحم أعظم من انفجاره من الحجر. قوله عز وجل : ٦١وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ وذلك أنهم سئموا من المن والسلوى وملوه ، فاشتهوا عليه غيره لأن المواظبة على الطعام الواحد تكون سببا لنقصان الشهوة. فإن قلت : هما طعامان فما بالهم قالوا على طعام واحد. قلت : أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل ولو كان على مائدة الرجل عدة ألوان يداوم عليها في كل يوم لا يبدلها كانت بمنزلة الطعام الواحد فَادْعُ لَنا رَبَّكَ أي فاسأل لنا ربك يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها قال ابن عباس : الفوم الخبز وقيل هو الحنطة ، وقيل هو الثوم وَعَدَسِها وَبَصَلِها إنما طلبوا هذه الأنواع لأنها تعين على تقوية الشهوة أو لأنهم ملوا من البقاء في التيه ، فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد وكان غرضهم الوصول إلى البلاد لا تلك الأطعمة قالَ يعني موسى أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى أي الذي هو أخس وأردأ وهو الذي طلبوه بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ يعني بالذي هو أشرف وأفضل وهو ما هم فيه اهْبِطُوا مِصْراً يعني إن أبيتم إلا ذلك ، فأتوا مصرا من الأمصار ، وقيل : بل هو مصر البلد الذي كانوا فيه ودخول التنوين عليه كدخوله على نوح ولوط ، والقول هو الأول فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ يعني من نبات الأرض وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أي جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم وألزموا الذل والهوان وقيل : الذلة الجزية وزي اليهودية وفيه بعد لأنه لم تكن ضربت عليهم الجزية بعد وَالْمَسْكَنَةُ أي الفقر والفاقة وسمي الفقير مسكينا لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة ، فترى اليهود وإن كانوا أغنياء مياسير كأنهم فقراء فلا ترى أحدا من أهل الملل أذل ولا أحرص على المال من اليهود وَباؤُ أي رجعوا ولا يقال باء إلا بشر بِغَضَبٍ مِنَ اللّه وغضب اللّه إرادة الانتقام ممن عصاه ذلِكَ أي الغضب بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّه أي بصفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وآية الرجم التي في التوراة ويكفرون بالإنجيل والقرآن وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ النبي معناه المخبر من أنبأ ينبئ وقيل هو بمعنى الرفيع مأخوذ من النبوة وهو المكان المرتفع بِغَيْرِ الْحَقِّ أي بغير جرم. فإن قلت : قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير حق فما فائدة ذكره. قلت : ذكره وصفا للقتل والقتل يوصف تارة بالحق وهو ما أمر اللّه به وتارة بغير الحق وهو قتل العدوان فهو كقوله : قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ فالحق وصف للحكم ، لا أن حكمه ينقسم إلى حق وجور. يروى أن اليهود قتلت سبعين نبيا في أول النهار ، وقامت إلى سوق بقلها في آخره وقتلوا زكريا ويحيى وشعياء وغيرهم من الأنبياء ذلِكَ بِما عَصَوْا أي ذلك القتل والكفر بما عصوا أمري وَكانُوا يَعْتَدُونَ أي يتجاوزون أمري ويرتكبون محارمي قوله عز وجل : ٦٢إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا يعني اليهود سموا بذلك لقولهم : (إنا هدنا إليك) أي ملنا إليك وقيل : هادوا أي تابوا عن عبادة العجل وقيل إنهم مالوا عن دين الإسلام ودين موسى عليه السلام وَالنَّصارى سموا بذلك لقول الحواريين نحن (أنصار اللّه) وقيل : لاعتزائهم إلى قرية يقال لها ناصرة وكان المسيح ينزلها وَالصَّابِئِينَ أصله من صبأ إذا خرج من دين إلى دين آخر سموا بذلك لخروجهم من الدين قال عمر وابن عباس : هم قوم من أهل الكتاب قال عمر ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب وقال ابن عباس : لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم وقيل : هم قوم بين اليهود والمجوس لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم وقيل : هم بين اليهود والنصارى يحلقون أوساط رؤوسهم وقيل : هم قوم يقرون باللّه ويقرءون الزبور ويعبدون الملائكة ويصلون إلى الكعبة أخذوا من كل دين شيئا ، والأقرب أنهم قوم يعبدون الكواكب وذلك أنهم يعتقدون أن اللّه تعالى خلق هذا العالم وجعل الكواكب مدبرة له فيجب على البشر عبادتها وتعظيمها ، وأنها هي التي تقرب إلى اللّه تعالى. ولما ذكر هذه الوظائف قال مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فإن قلت : كيف قال في أول الآية إن الذين آمنوا وقال في آخرها من آمن باللّه فما فائدة التعميم أولا ثم التخصيص آخرا قلت : اختلف العلماء في حكم الآية فلهم فيه طريقان أحدهما أنه أراد أن الذين آمنوا على التحقيق ثم اختلفوا فيهم فقيل هم الذين آمنوا في زمن الفطرة وهم طلاب الدين مثل حبيب النجار وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل وبحيرا الراهب وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي ، فمنهم من أدرك النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وتابعه ومنهم من لم يدركه فكأنه تعالى قال : إن الذين آمنوا قبل مبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والذين كانوا على الدين الباطل المبدل من اليهود والنصارى والصابئين من آمن منهم باللّه واليوم الآخر وبمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم فلهم أجرهم عند ربهم ، وقيل : هم المؤمنون من الأمم الماضية وقيل : هم المؤمنون من هذه الأمة والذين هادوا يعني الذين كانوا على دين موسى ولم يبدلوا والنصارى الذين كانوا على دين عيسى ولم يغيروا والصابئين يعني في زمن استقامة أمرهم من آمن منهم ومات وهو مؤمن لأن حقيقة الإيمان تكون بالوفاة. وأما الطريقة الثانية فقالوا إن المذكورين بالإيمان في أول الآية إنما هو على طريق المجاز دون الحقيقة وهم الذين آمنوا بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك وقيل : هم المنافقون الذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم واليهود والنصارى والصابئون ، فكأنه تعالى قال هؤلاء المطلوبون كل من آمن منهم الإيمان الحقيقي صار مؤمنا عند اللّه ، وقيل : إن المراد من قوله إن الذين آمنوا يعني بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم في الحقيقة حين الماضي ، ثبتوا على ذلك في المستقبل وهو المراد من قوله تعالى : مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً أي في إيمانه فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي جزاء أعمالهم وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي في الآخرة. ٦٣قوله عز وجل : وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ أي عهدكم يا معشر اليهود وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ يعني الجبل العظيم قال ابن عباس : أمر اللّه جبلا من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام على رؤوسهم وسبب ذلك أن اللّه تعالى لما أنزل التوراة على موسى ، وأمرهم أن يعملوا بأحكامها فأبوا أن يقبلوها لما فيها من الآصار يعني الأثقال والتكاليف الشاقة أمر اللّه تعالى جبريل عليه السلام ، أن يقلع جبلا على قدر عسكرهم وكان قدره فرسخا في فرسخ فرفعه فوق رؤوسهم قدر قامة كالظلة وقيل لهم : إن لم تقبلوا ما في التوراة وإلا أرسلت هذا الجبل عليكم خُذُوا أي قلنا لهم خذوا ما آتَيْناكُمْ أي ما أعطيناكم بِقُوَّةٍ أي بجد واجتهاد وَاذْكُرُوا ما فِيهِ أي ادرسوا ما فيه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي لكي تنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى وإلا رضت رؤوسكم بهذا الجبل فلما رأوا ذلك نازلا بهم قبلوا وسجدوا ، وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود فصار ذلك سنة في سجود اليهود لا يسجدون إلا على أنصاف وجوههم ، ويقولون : بهذا السجود رفع عنا العذاب. ٦٤ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ما قبلتم التوراة فَلَوْ لا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي بالإمهال لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ أي المغبونين بذهاب الدنيا والعذاب في العقبى. ٦٥قوله عز وجل : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ أي جاوزوا الحد فِي السَّبْتِ يقال : سبت اليهود لأنهم يعظمونه ويقطعون فيه أعمالهم ، وأصل السبت القطع. (ذكر الإشارة إلى القصة) قال العلماء : بالأخبار إنهم كانوا في زمن داود عليه الصلاة والسلام بقرية بأرض أيلة وحرم اللّه عليهم صيد السمك يوم السبت ، فكان إذا دخل يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا اجتمع هناك حتى لا يرى الماء من كثرتها. فإذا مضى السبت تفرقت الحيتان ولزمن قعر البحر فذلك قوله تعالى : إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ثم إن الشيطان وسوس إليهم ، وقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت ولم تنهوا عن أخذها في غيره فعمد رجال منهم فحفروا حياضا كبارا حول البحر ، وشرعوا منه إليها أنهارا فإذا كان عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار فيقبل الموج من البحر بالحيتان إلى تلك الحياض فيقعن فيها ولا يقدرن على الخروج منها لعمقها ، فإذا كان يوم الأحد أخذوها وقيل : إنهم كانوا ينصبون الشخوص والحبائل يوم الجمعة ، ويخرجونها يوم الأحد ففعلوا ذلك زمانا ولم تنزل بهم عقوبة فتجرؤوا على السبت وقالوا ما نرى السبت إلا قد أحل لنا فأخذوا وملحوا وأكلوا وباعوا واشتروا فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية ثلاثة أصناف ، وكانوا نحو سبعين ألفا صنف أمسك عن الصيد ونهى عن الاصطياد وصنف أمسك ولم ينه وصنف انهمكوا في الذنب وهتكوا الحرمة وكان الصنف الناهون اثني عشر ألفا ، فلما أبى المجرمون قبول نصيحتهم قالوا : واللّه لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بينهم بجدار فغيروا على ذلك سنين ، ثم لعنهم داود وغضب اللّه عليهم لإصرارهم على المعصية فخرج الناهون ذات يوم من بابهم ولم يخرج من المجرمين أحد ، ولم يفتحوا الباب فلما أبطئوا تسوروا عليهم الجدار فإذا هم جميع قردة لهم أذناب وهم تتعاوون ، وقيل : صار الشباب قردة والشيوخ خنازير فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يمكث مسخ فوق ثلاث ولم يتولدوا. قال اللّه عز وجل : فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أمر تحويل وتكوين ، ومعنى خاسئين مبعدين مطرودين وقيل فيه تقديم وتأخير معناه كونوا خاسئين قردة ولهذا لم يقل خاسئات ٦٦فَجَعَلْناها يعني عقوبتهم بالمسخ نَكالًا أي عقوبة وعبرة لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها قيل : معناه عقوبة لما مضى من ذنوبهم وعبرة لمن بعدهم وقيل : جعلنا عقوبة قرية أصحاب السبت عبرة لمن بين يديها من القرى التي كانت عامرة في الحال وما خلفها أي. ما يحدث بعدها من القرى ليتعظوا بذلك و قوله عز وجل : وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي المؤمنين من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لئلا يفعلوا مثل فعلهم. ٦٧قوله عز وجل : وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً البقرة واحدة البقر وهي الأنثى وأصلها البقر وهو الشق سميت بذلك لأنها تشق الأرض للحراثة. (ذكر الإشارة إلى القصة في ذلك) قال علماء السير والأخبار : إنه كان في زمن بني إسرائيل رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه فلما طال عليه موته قتله ليرثه وحمله إلى قرية أخرى ، وألقاه على بابها ثم أصبح يطلب ثاره وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم بالقتل ، فجحدوا واشتبه أمر القتيل على موسى عليه الصلاة والسلام. فسألوا موسى أن يدعو اللّه ليبين لهم ما أشكل عليم ، فسأل موسى ربه في ذلك فأمره بذبح بقرة ، وأمره أن يضربه ببعضها فقال لهم : إن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً أي نحن نسألك أمر القتيل ، وأنت تستهزئ بنا وتأمرنا بذبح بقرة وإنما قالوا ذلك لبعد ما بين الأمرين في الظاهر ، ولم يعلموا ما وجه الحكمة فيه قالَ يعني موسى أَعُوذُ بِاللّه أي أمتنع باللّه أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أي المستهزئين بالمؤمنين وقيل : من الجاهلين بالجواب لا على وفق السؤال فلما علموا أن ذبح البقرة عزم من اللّه تعالى استوصفوه إياها ولو أنهم عمدوا إلى أي بقرة كانت فذبحوها لأجزأت عنهم ولكن شددوا فشدد عليهم وكان في ذلك حكمة اللّه عز وجل ، وذلك أنه كان رجل صالح في بني إسرائيل ، وله ابن طفل وله عجلة فأتى بها غيضة وقال : اللّهم إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى يكبر ومات ذلك الرجل ، وصارت العجلة في الغيضة عوانا وكانت تهرب من الناس ، فلما كبر ذلك الطفل ، وكان بارا بأمه وكان يقسم ليله ثلاثة أجزاء يصلي ثلثا وينام ثلثا ، ويجلس عند رأس أمه ثلثا فإذا أصبح انطلق فيحتطب ويأتي به السوق فيبيعه بما يشاء اللّه فيتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي أمه ثلثه ، فقالت له أمه يوما : يا بني إن أباك ورثك عجلة استودعها اللّه في غيضة كذا فانطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أن يردها عليك وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها ، وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها ، فأتى الفتى غيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، فأقبلت البقرة حتى وقفت بين يديه فقبض على قرنها يقودها فتكلمت البقرة بإذن اللّه تعالى ، وقالت : أيها الفتى البار بأمه اركبني فإنه أهون عليك. فقال الفتى : إن أمي لم تأمرني بذلك فقالت البقرة واللّه لو ركبتني ما كنت تقدر عليّ أبدا فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله لانقلع لبرك بأمك فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له أمه : إنك رجل فقير ولا مال لك ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع البقرة ، فقال : بكم أبيعها قالت : بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير فانطلق بها الفتى إلى السوق ، وبعث اللّه ملكا ليرى خلقه قدرته ، وليختبر الفتى كيف بره بأمه ، وهو أعلم فقال له الملك : بكم هذه البقرة؟ قال بثلاثة دنانير ، وأشترط عليك رضى أمي فقال له الملك : لك ستة دنانير ولا تستأمر أمك فقال له الفتى لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلا برضا أمي. ورجع الفتى إلى أمه فأخبرها بالثمن فقالت له : ارجع فبعها بستة دنانير ولا تبعها إلا برضاي فرجع بها إلى السوق وأتى الملك فقال له : استأمرت أمك فقال الفتى : نعم. إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة على رضاها. فقال الملك : إني أعطيتك اثني عشر دينارا ولا تستأمرها فأبى الفتى ورجع إلى أمه فأخبرها بذلك فقالت له أمه : إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليجربك ، فإذا أتاك فقل له : أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا ففعل فقال له الملك : اذهب إلى أمك فقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل ، فلا تبعها إلا بملء مسكها ذهبا والمسك الجلد فأمسكتها وقدر اللّه على بني إسرائيل ذبح البقرة بعينها ، فما زالوا يستوصفون البقرة حتى وصفت لهم تلك البقرة بعينها مكافأة بذلك الفتى على بره بأمه فضلا من اللّه تعالى ورحمة فذلك قوله تعالى : ٦٨قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أي ما سنها قالَ يعني موسى إِنَّهُ يَقُولُ يعني اللّه عز وجل : إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ أي لا كبيرة ولا صغيرة والفارض المسنة التي لم تلد ، والبكر الفتية التي لم تلد عَوانٌ أي نصف بَيْنَ ذلِكَ أي بين السنين فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ أي من ذبح البقرة ولا تكثروا السؤال ٦٩قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها قال ابن عباس شديد الصفرة وقيل : لونها صاف وقيل الصفراء السوداء والأول أصح لأنه يقال أصفر فاقع وأسود حالك تَسُرُّ النَّاظِرِينَ أي يعجبهم حسنها وصفاء لونها ٧٠قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أي سائمة أو عاملة إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا أي التبس واشتبه أمرها علينا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللّه لَمُهْتَدُونَ أي إلى وصفها قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (و ايم اللّه لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الدهر) ٧١قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ أي ليست مذللة بالعمل تُثِيرُ الْأَرْضَ أي تقلبها للزراعة وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ أي ليست بسنانية والسانية هي التي تستسقي الماء من البئر لسقي الأرض مُسَلَّمَةٌ أي بريئة من العيوب لا شِيَةَ فِيها أي لا لون فيها غير لونها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أي بالبيان التام الذي لا إشكال فيه فطلبوها فلم يجدوا بقرة بكمال وصفها ، إلا بقرة ذلك الفتى فاشتروها منه بملء مسكها ذهبا فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ أي وما قاربوا أن يفعلوا ما أمروا به ، قيل لغلاء ثمنها وقيل : لخوف الفضيحة وقيل : لعزة وجودها بهذه الأوصاف جميعا. قوله عز وجل : ٧٢وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً خوطبت الجماعة بذلك لوجود القتل فيهم فَادَّارَأْتُمْ فِيها قال ابن عباس أي اختلفتم واختصمتم من الدرء وهو الدفع لأن المتخاصمين يدفع بعضهم بعضا وَاللّه مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أي مظهر ما كنتم من أمر القتيل لا محالة ولا يتركه مكتوما ٧٣فَقُلْنا اضْرِبُوهُ يعني القتيل بِبَعْضِها أي ببعض البقرة قال ابن عباس ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف ، وهو أصل الأذن وقيل : ضربوه بلسانها وقيل : بعجب الذنب وقيل : بفخذها اليمين والأقرب أنهم كانوا مخيرين في ذلك البعض وإنهم إذا ضربوه بأي جزء منها أجزأ وحصل المقصود وإنه ليس في القرآن ما يدل على ذلك البعض ما هو. وذلك يقتضي التخيير وفي الآية إضمار تقديره فضربوه فحيي وقام بإذن اللّه تعالى ، وأوداجه تشخب دما وقال قتلني فلان يعني ابن عمه ثم سقط ميتا مكانه. فحرم قاتله الميراث وفي الخبر ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة كَذلِكَ أي كما أحيا اللّه عاميل صاحب البقرة يُحْيِ اللّه الْمَوْتى يعني يوم القيامة وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي تمنعون أنفسكم عن المعاصي. فإن قلت كان حق هذه القصة أن يقدم ذكر القتيل أولا ، ثم ذكر ذبح البقرة بعد ذلك ، فما وجه ترتيب هذه القصة على هذا الترتيب؟ قلت : وجهه أن اللّه لما ذكر من قصص بني إسرائيل وما وجد من خياناتهم تقريعا لهم على ذلك وما وجد فيهم من الآيات العظيمة ، وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين في نفس الأمر ، فالأولى لتقريعهم على ترك المسارعة إلى امتثال الأمر وما يتبعه والثانية لتقريعهم على قتل النفس المحرمة فلو قدم قصة القتيل على قصة الذبح لكانت قصة واحدة ولذهب الغرض من تثنية التقريع ، فلهذا قدم ذكر الذبح أولا ثم عقبه بذكر القتل. فإن قلت ما فائدة ضرب القتيل ببعض البقرة واللّه تعالى قادر على أن يحييه ابتداء من غير ضرب بشي ء؟ قلت : الفائدة فيه أن تكون الحجة أوكد وعن الحيلة أبعد لاحتمال أن يتوهم متوهم أن موسى عليه السلام ، إنما أحياه بضرب من السحر والحيلة فإذا أحيى القتيل ، عند ما ضرب ببعض البقرة انتفت الشبهة ، وعلم أن ذلك من عند اللّه تعالى وبأمره كان ذلك. فإن قلت : هلا أمروا بذبح غير البقرة؟ قلت : الكلام في غير البقرة لو أمروا به كالكلام في البقرة ثم في ذبح البقرة فوائد منها التقرب بالقربان على ما كانت العادة جارية عندهم ، ومنها أن هذا القربان كان عندهم من أعظم القرابين ومنها تحمل المشقة العظيمة في تحصيلها بتلك الصفة ومنها حصول ذلك المال العظيم الذي أخذه صاحبها من ثمنها. (فصل : في حكم هذه المسألة في شريعة الإسلام إذا وقعت) وذلك أن : إذا وجد قتيل في موضع ، ولا يعرف قاتله فإن كان ثم لوث على إنسان ادعى به. واللوث أن يغلب على الظن صدق المدعى بأن اجتمع جماعة في بيت أو صحراء ثم تفرقوا عن قتيل فيغلب على الظن أن القاتل فيهم أو وجد قتيل في محلة أو قرية وكلهم أعداء القتيل لا يخالطهم غيرهم ، فيغلب على الظن أنهم قتلوه فإن ادعى الولي على بعضهم حلف خمسين يمينا على من يدعي عليه ، وإن كان الأولياء جماعة توزع الإيمان عليهم فإذا حلفوا أخذوا الدية من عاقلة المدعى عليه ، إن ادعوا قتل خطأ ، وإن ادعوا قتل عمد فمن مال المدعى عليه ولا قود عليه في قول الأكثرين ، وذهب عمر بن عبد العزيز إلى وجوب القود وبه قال مالك وأحمد فإن لم يكن ثم لوث فالقول قول المدعي عليه لأن الأصل براءة ذمته من القتل وهل يحلف يمينا واحدة أم خمسين يمينا؟ فيه قولان : أحدهما : أنه يحلف يمينا واحدة كما في سائر الدعاوى. والثاني : أنه يحلف خمسين يمينا تغليظا لأمر القتيل ، وعند أبي حنيفة لا حكم للوث ولا يبدأ بيمين المدعي بل إذا وجد قتيل في محلة ، يختار الإمام خمسين رجلا من صلحاء أهلها فيحلفهم أنهم ما قتلوه ولا يعرفون له قاتلا ، فإن حلفوا وإلا أخذ الدية من سكانها. والدليل على أن البداءة بيمين المدعي عند وجود اللوث. ما روى عن سهل بن أبي خيثمة قال : انطلق عبد اللّه بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد اللّه بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه. ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (كبر كبر وهو أحدث القوم سنا) فسكت ، فتكلما فقال أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو قال صاحبكم قالوا : كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال : فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم قالوا : كيف نأخذ بأيمان قوم كفار فعقله النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من عنده وفي رواية يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته وذكر نحوه وزاد في رواية فكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يبطل دمه ، فوداه بمائة من إبل الصدقة أخرجاه في الصحيحين ، ووجه الدليل من هذا الحديث أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بدأ بأيمان المدعين ليقوى جانبهم باللوث لأن اليمين أبدا تكون لمن يقوى جانبه وعند عدم اللوث تكون من جانب المدعى عليه من حيث إن الأصل براءة ذمته ، فكان القول قوله مع يمينه واللّه أعلم. ٧٤قوله عز وجل : ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ أي يبست وجفت وقساوة القلب انتزاع الرحمة منه ، وقيل معناه غلظت واسودت مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ظهور الدلالات التي جاء بها موسى ، وقيل : هي إشارة إلى إحياء القتيل بعد ضربه ببعض البقرة فَهِيَ يعني القلوب في الغلظ والشدة كَالْحِجارَةِ أي كالشيء الصلب الذي لا تخلخل فيه أَوْ قيل : أو بمعنى بل وقيل بمعنى الواو أي وأَشَدُّ قَسْوَةً فإن قلت : لم شبه قلوبهم بالحجارة ولم يشبهها بالحديد وهو أشد من الحجارة وأصلب. قلت : لأن الحديد قابل للين بالنار وقد لان لداود عليه الصلاة والسلام والحجارة ليست قابلة للين فلا تلين قط. ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ قيل : أراد به جميع الحجارة وقيل أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى ليسقي الأسباط والتفجير التفتح بالسعة والكثرة وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ يعني العيون الصغار التي دون الأنهار وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه أي ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله ، وخشيتها عبارة عن انقيادها لأمر اللّه وأنها لا تمتنع عما يريد منها ، وقلوبكم يا معشر اليهود لا تلين ولا تخشع. فإن قلت : الحجر جماد لا يعقل ولا يفهم فكيف يخشى؟ قلت : إن اللّه تعالى قادر على إفهام الحجر والجمادات فتعقل وتخشى بإلهامه لها ، ومذهب أهل السنة إن اللّه تعالى أودع في الجمادات والحيوانات ، علما وحكمة لا يقف عليهما غيره فلها صلاة وتسبيح وخشية يدل عليه قوله : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وقال تعالى : وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ فيجب على المرء الإيمان به وبكل علمه إلى اللّه تعالى (م) عن جابر بن سمرة قال ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث ، وإني لأعرفه الآن) عن علي قال كنت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بمكة فخرجنا إلى بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب (خ) عن جابر بن عبد اللّه قال : (كان في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جذع في قبلته يقوم إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في خطبته فلما وضع المنبر سمعنا للجذع حنينا مثل صوت العشار حتى نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فوضع يده عليه ، وفي رواية : صاحت النخلة صياح الصبي فنزل صلّى اللّه عليه و سلّم حتى أخذها فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي لا يسكت حتى استقرت. قال : بكت على ما كانت تسمع من الذكر) قال مجاهد : ما ينزل حجر من أعلى إلى أسفل إلا من خشية اللّه وذلك يشهد لما قلنا وَمَا اللّه بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيه وعيد وتهديد والمعنى أن اللّه بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم حتى يجازيهم بها في الآخرة. قوله عز وجل : ٧٥أَفَتَطْمَعُونَ خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه هو الداعي إلى الإيمان وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيما له ، وقيل : هو خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه لأنهم كانوا يدعونهم إلى الإيمان أيضا ومعنى أفتطمعون أفترجعون أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ أي يصدقكم اليهود بما تخبرونهم وقيل : معناه أفتطمعون أن يؤمنوا لكم مع أنهم لم يؤمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام وكان هو السبب في خلاصهم من الذل وظهور المعجزات على يده وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّه قيل المراد بالفريق : هم الذين كانوا مع موسى يوم الميقات ، وهم الذين سمعوا كلام اللّه تعالى ، وقيل المراد بهم : الذي كانوا في زمن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهو الأقرب لأن الضمير راجع إليهم في أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ، فعلى هذا يكون معنى يسمعون كلام اللّه يعني التوراة ، لأنه يصح أن يقال لمن يسمع التوراة يسمع كلام اللّه ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ أي يغيرون كلام اللّه ، ويبدلونه فمن فسر الفريق الذين يسمعون كلام اللّه بالفريق الذين كانوا مع موسى عليه السلام استدل بقول ابن عباس رضي اللّه عنهما إنها نزلت في السبعين الذين اختارهم موسى لميقات ربه ، وذلك لأنهم لما رجعوا إلى قومهم بعد ما سمعوا كلام اللّه أما الصادقون منهم فإنهم أدوا كما سمعوا وقالت طائفة منهم : سمعنا اللّه يقول في آخر كلامه إن استطعتم أن تفعلوا فافعلوا وإن شئتم فلن تفعلوا ، فكان هذا تحريفهم ومن فسر الفريق الذين كانوا يسمعون كلام اللّه بالذين كانوا في زمن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال كان تحريفهم تبديلهم صفة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وآية الرجم في التوراة مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ أي علموا صحة كلام اللّه ومراده فيه ثم مع ذلك خالفوه وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي فساد مخالفته ويعلمون أيضا أنهم كاذبون. ٧٦قوله عز وجل وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا نزلت هذه الآية في اليهود ، الذين كانوا في زمن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال ابن عباس رضي اللّه عنهما : إن منافقي اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا لهم : آمنا بالذي آمنتم به وإن صاحبكم صادق وقوله حق وإنا نجد نعته وصفته في كتابنا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يعني كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ووهب بن يهودا ورؤساء اليهود لاموا منافقي اليهود على ذلك وقالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللّه عَلَيْكُمْ يعني قص اللّه عليكم في كتابكم من صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأنه حق وقوله صدق لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ أي ليخاصمكم أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ويحتجوا عليكم بقولكم فيقولون لكم قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم لم لا تتبعونه ، وذلك أن اليهود قالوا لأهل المدينة حين شاوروهم في إتباع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم : آمنوا به فإنه نبي حق ثم لام بعضهم بعضا ، وقالوا : أتحدثونهم بما فتح اللّه عليكم لتكون لهم الحجة عليكم عِنْدَ رَبِّكُمْ أي في الدنيا والآخرة وقيل : هو قول يهود بني قريظة بعضهم لبعض. حين قال لهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : يا إخوان القردة والخنازير. قالوا : من أخبر محمدا بهذا؟ هذا ما خرج إلا منكم وقيل : إن اليهود أخبروا المؤمنين بما عذبهم اللّه به من الجنايات. فقال بعضهم لبعض : أتحدثونهم بما قضى اللّه عليكم من العذاب ليروا الكرامة لأنفسهم عليكم عند اللّه أَفَلا تَعْقِلُونَ أي إن ذلك لا يليق بما أنتم عليه. ٧٧أَوَلا يَعْلَمُونَ يعني اليهود أَنَّ اللّه يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ أي ما يخفون وَما يُعْلِنُونَ أي ما يبدون وما يظهرون. ٧٨قوله عز وجل : وَمِنْهُمْ أي من اليهود أُمِّيُّونَ أي لا يحسنون الكتابة ولا القراءة جمع أمي وهو المنسوب إلى أمه كأنه باق على ما انفصل من الأم لم يتعلم كتابة ولا قراءة لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ جمع أمنية وهي التلاوة ، ومنه قول الشاعر : تمنى كتاب اللّه أول ليلة تمنى داود الزبور على رسل أي تلا كتاب اللّه. وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما : معناه غير عارفين بمعاني كتاب اللّه تعالى وقيل الأماني الأحاديث الكاذبة المختلفة وهي الأشياء التي كتبها علماؤهم من عند أنفسهم وأضافوها إلى اللّه تعالى وذلك من تغيير نعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وصفته وغير ذلك ، وقيل : هو من التمني وهو قولهم : لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً وغير ذلك مما تمنوه فعلى هذا يكون المعنى لا يعلمون الكتاب. لكن يتمنون أشياء لا تحصل لهم وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ أي على يقين ٧٩فَوَيْلٌ الويل كلمة تقولها العرب لكل من وقع في هلكة وأصلها في اللغة العذاب والهلاك وقال ابن عباس : الويل شدة العذاب وعن أبي سعيد الخدري. قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. الخريف سنة لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ تأكيد للكتابة لأنه يحتمل أن يأمر غيره بأن يكتب فقال : بأيديهم لنفي هذه الشبهة والمراد بالذين يكتبون الكتاب اليهود وذلك أن رؤساء اليهود خافوا ذهاب مآكلهم وزوال رئاستهم حين قدم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة فاحتالوا في تعويق سفلتهم عن الإيمان به فعمدوا إلى صفته في التوراة فغيروها ، وكانت صفته فيها حسن الوجه حسن الشعر أكحل العينين ربعة فغيروا ذلك وكتبوا مكانه طوال أزرق العينين سبط الشعر فكانوا إذا سألهم سفلتهم عن ذلك قرءوا عليهم ما كتبوا ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّه يعني هذه الصفة التي كتبوها. فإذا نظروا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإلى تلك وجدوه مخالفا لها فيكذبونه ويقولون إنه ليس به لِيَشْتَرُوا بِهِ أي بما كتبوا ثَمَناً قَلِيلًا أي المآكل والرشا التي كانوا يأخذونها من سفلتهم ، قال اللّه تعالى : فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ. قوله عز وجل : ٨٠وَقالُوا أي اليهود لَنْ تَمَسَّنَا أي لن تصيبنا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً أي قدرا مقدرا ثم يزول عنا العذاب قال ابن عباس : قالت اليهود : مدة الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنا نعذب بكل ألف سنة يوما ثم ينقطع عنا العذاب بعد سبعة أيام وقيل : إنهم عنوا بالأيام الأربعين يوما التي عبدوا فيها العجل وقيل : إن اليهود زعموا أن اللّه تعالى عتب عليهم في أمر فأقسم ليعذبنهم أربعين يوما تحلة القسم فقال اللّه ردا عليهم وتكذيبا لهم قُلْ أي يا محمد لليهود أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّه عَهْداً أي موثقا أن لا يعذبكم إلا هذه المدة فَلَنْ يُخْلِفَ اللّه عَهْدَهُ أي وعده أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّه ما لا تَعْلَمُونَ ٨١بَلى إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله : لن تمسنا النار والمعنى بلى تمسكم النار أبدا مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً السيئة اسم يتناول جميع المعاصي كبيرة كانت أو صغيرة ، والسيئة هنا الشرك في قول ابن عباس وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أي أحدقت به من جميع جوانبه قال ابن عباس : هي الشرك يموت عليه صاحبه وقيل : أحاطت به أي أهلكته خطيئته وأحبطت ثواب طاعته فعلى مذهب أهل السنة يتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية ، بالكفر والشرك لقوله تعالى : فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فإن الخلود في النار هو للكفار والمشركين. ٨٢وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. فإن قلت : العمل الصالح خارج عن اسم الإيمان لأنه تعالى قال : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فلو دل الإيمان على العمل الصالح لكان ذكر العمل الصالح بعد الإيمان تكرارا. قلت : أجاب بعضهم بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة إلا أن قوله : آمن لا يفيد إلا أنه فعل فعلا واحدا من أفعال الإيمان فإذا حسن أن يقول : والذين آمنوا وعملوا الصالحات وقيل : إن قوله آمنوا يفيد الماضي وعملوا الصالحات يفيد المستقبل فكأنه تعالى قال آمنوا أولا ثم داوموا عليه آخرا ويدخل فيه جميع الأعمال الصالحات أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ٨٣قوله عز وجل : وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ يعني في التوراة. والميثاق العهد الشديد لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللّه أي أمر اللّه تعالى بعبادته فيدخل تحته النهي عن عبادة غيره لأن اللّه تعالى هو المستحق للعبادة لا غيره وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي برا بهما ورحمة لهما ونزولا عند أمرهما فيما لا يخالف أمر اللّه تعالى ويوصل إليهما ما يحتاجان إليه ، ولا يؤذيهما البتة وإن كانا كافرين بل يجب عليه الإحسان إليهما ومن الإحسان إليهما أن يدعوهما إلى الإيمان بالرفق واللين ، وكذا إن كانا فاسقين يأمرهما بالمعروف بالرفق ، واللين من غير عنف وإنما عطف بر الوالدين على الأمر بعبادته ، لأن شكر المنعم واجب ، وللّه على عبده أعظم النعم لأنه هو الذي خلقه وأوجده بعد العدم فيجب تقديم شكره على شكر ، غيره ثم إن للوالدين على الولد نعمة عظيمة ، لأنهما السبب في كون الولد ووجوده ثم إن لهما عليه حق التربية أيضا فيجب شكرهما ثانيا وَذِي الْقُرْبى أي القرابة لأن حق القرابة تابع لحق الوالدين والإحسان إليهم : إنما هو بواسطة الوالدين فلهذا حسن عطف القرابة على الوالدين وَالْيَتامى جمع يتيم وهو الذي مات أبوه وهو طفل صغير ، فإذا بلغ الحلم زال عنه اليتم وتجب رعاية حقوق اليتيم لثلاثة أمور : لصغره ويتمه ولخلوه ، عمن يقوم بمصلحته إذ لا يقدر هو أن ينتفع بنفسه ، ولا يقوم بحوائجه وَالْمَساكِينِ جمع مسكين وسيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى وإنما تأخرت درجة المساكين عن اليتامى ، لأنه قد يمكن أن ينتفع بنفسه وينفع غيره بالخدمة وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً فيه وجهان : أحدهما : أنه خطاب للحاضرين من اليهود في زمن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلهذا عدل من الغيبة إلى الحضور ، والمعنى قولوا : حقا وصدقا في شأن محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فمن سألكم عنه فأصدقوه وبينوا صفته ولا تكتموها قاله ابن عباس. الوجه الثاني إن المخاطبين به هم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام ، وأخذ عليهم الميثاق وإنما عدل من الغيبة إلى الحضور على طريق الالتفات كقوله : حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ وقيل : فيه حذف تقديره وقلنا لهم : في الميثاق وقولوا : للناس حسنا ومعناه مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر وقيل هو اللين في القول والعشرة وحسن الخلق وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ولما أمرهم اللّه تعالى بهذه التكاليف الثمانية لتكون لهم المنزلة عنده بما التزموا به أخبر عنهم أنهم ما وفوا بذلك بقوله تعالى : ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن العهد إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ يعني من الذين آمنوا كعبد اللّه بن سلام وأصحابه فإنهم وفوا بالعهد وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ أي كإعراض آبائكم. ٨٤قوله عز وجل : وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ قيل : هو خطاب لمن كان في زمن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من اليهود وقيل : هو خطاب لآبائهم وفيه تقريع لهم لا تَسْفِكُونَ أي لا تريقون دِماءَكُمْ أي لا يسفك بعضكم دم بعض وقيل : معناه لا تسفكوا دماء غيركم فيسفك دماءكم فكأنكم أنتم سفكتم دماء أنفسكم وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي لا يخرج بعضكم بعضا من داره ، وقيل : لا تفعلوا شيئا فتخرجوا بسببه من دياركم ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ أي بهذا العهد أنه حق وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يعني أنتم يا معشر اليهود اليوم تشهدون على ذلك. ٨٥ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ يعني يا هؤلاء اليهود تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ أي يقتل بعضكم بعضا وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ أي يخرج بعضكم بعضا من ديارهم تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ أي تتعاونون عليهم بالمعصية والظلم وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى جمع أسير تُفادُوهُمْ أي بالمال وهو استنقاذهم بالشراء ، وقرئ تفادوهم أي تبادلوهم وهو مفاداة الأسير بالأسير ، ومعنى الآية أن اللّه تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا. ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد أو أمة من بني إسرائيل وجدتموه فاشتروه بما قام من ثمنه ، وأعتقوه وكانت قريظة حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج ، وكان بين الأوس والخزرج حروب فكانت بنو النضير تقاتل مع حلفائهم وبنو قريظة تقاتل مع حلفائهم فإذا غلب أحد الفريقين أخرجوهم من ديارهم وخربوها. وكان إذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له مالا يفدونه به فعيرتهم العرب. وقالوا : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟ فقالوا : إنا أمرنا أن نفديهم فقالوا : كيف تقاتلونهم؟ فقالوا : إنا نستحي أن تذل حلفاؤنا فعيرهم اللّه تعالى فقال : ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وفي الآية تقديم وتأخير تقديره وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ وإن يأتوكم أسارى تفدوهم فكان اللّه تعالى أخذ عليهم أربعة عهود ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهر مع أعدائهم وفك أسراهم فأعرضوا عن الكل إلا الفداء قال اللّه عز وجل : أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ معناه إن وجدتموهم في يد غيركم فديتموهم وأنتم تقتلونهم بأيديكم فكان إيمانهم الفداء وكفرهم قتل بعضهم بعضا فذمهم على مناقضة أفعالهم لا على الفداء لأنهم أتوا ببعض ما وجب عليهم وتركوا البعض فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ يعني يا معشر اليهود إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي عذاب وهوان فكان خزي بني قريظة القتل والسبي وخزي بني النضير الإجلاء والنفي من منازلهم إلى أريحاء وأذرعات من أرض الشام وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ يعني عذاب النار وَمَا اللّه بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيه وعيد وتهديد عظيم. ٨٦أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا أي استبدلوا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ لأن الجمع بين لذات الدنيا والآخرة غير ممكن فمن اشتغل بتحصيل لذات الدنيا فاتته لذات الآخرة فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أي فلا يهون عليهم وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي ولا يمنعون من عذاب اللّه تعالى. ٨٧قوله عز وجل : وَلَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة جملة واحدة وَقَفَّيْنا أي وأتبعنا من التقفية وهو أن يقفو أثر الآخر مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ يعني رسولا بعد رسول وكانت الرسل بعد موسى إلى زمن عيسى عليهم السلام متواترة يظهر بعضهم في أثر بعض ، والشريعة واحدة : قيل إن الرسل بعد موسى يوشع بن نون وأشمويل وداود وسليمان وأرمياء وحزقيل وإلياس ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم ، وكانوا يحكمون بشريعة موسى إلى أن بعث اللّه تعالى عيسى عليه السلام فجاءهم بشريعة جديدة ، وغير بعض أحكام التوراة فذلك قوله تعالى : وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي الدلالات الواضحات وهي المعجزات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وقيل هي الإنجيل. واسم عيسى بالسريانية أيشرع ومريم بمعنى الخادم وقيل هو اسم علم لها كزيد من الرجال وَأَيَّدْناهُ أي وقويناه بِرُوحِ الْقُدُسِ قيل : أراد بالروح الذي نفخ فيه والقدس هو اللّه تعالى وأضاف روح عيسى إليه تشريفا وتكريما وتخصيصا له كما تقول عبد اللّه وأمة اللّه وبيت اللّه وناقة اللّه وقال ابن عباس هو اسم اللّه الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى وقيل هو الإنجيل لأنه حياة القلوب سماه روحا كما سمى القرآن روحا وقيل هو جبريل ووصف بالقدس وهو الطهارة لأنه لم يفترق ذنبا قط وقيل القدس هو اللّه تعالى والروح جبريل كما تقول عبد اللّه ، سمي جبريل روحا للطافته لأنه روحاني خلق من النور وقيل سمى روحا لمكانه من الوحي الذي هو سبب حياة القلوب وحمل روح القدس هنا على جبريل أولى لأنه تعالى قال وأيدناه أي قويناه بجبريل وذلك أنه أمر أن يكون مع عيسى ويسير معه حيث سار فلم يفارقه حتى صعد به إلى السماء فلما سمعت اليهود بذكر عيسى قالوا يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم عملت ولا كما يقص علينا من أخبار الأنبياء فعلت فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقا قال اللّه تعالى : أَفَكُلَّما جاءَكُمْ يعني يا معشر اليهود رَسُولٌ بِما لا تَهْوى تقبل أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ أي تعظمتم عن الإيمان به فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ يعني مثل عيسى ومحمد صلّى اللّه عليهما وسلم وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ يعني مثل زكريا ويحيى وسائر من قتلوه ، وذلك أن اليهود كانوا إذا جاءهم رسول بما لا يهوون كذبوه فإن تهيأ لهم قتله قتلوه وإنما كانوا كذلك لإرادتهم الدنيا وطلب الرياسة ٨٨وَقالُوا يعني اليهود قُلُوبُنا غُلْفٌ جمع أغلف وهو الذي عليه غشاوة فلا يعي ولا يفقه. قال ابن عباس غلف بضم اللام جمع غلاف والمعنى أن قلوبنا أوعية للعلم فلا تحتاج إلى علمك وقيل أوعية من الوعي لا تسمع حديثا إلا وعته إلا حديثك فإنها لا تعيه ولا تعقله ولو كان خيرا لفهمته ووعته قال اللّه تعالى : بَلْ لَعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ أي طردهم وأبعدهم من كل خير. وسبب كفرهم أنهم اعترفوا بنبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ثم إنهم أنكروه وجحدوه فلهذا لعنهم اللّه تعالى : فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ أي لم يؤمن منهم إلا قليل لأن من آمن من المشركين كان أكثر منهم. قوله عز وجل : ٨٩وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه يعني القرآن مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ يعني التوراة وهذا التصديق في صحة نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لأن نبوته وصفته ثابتة في التوراة وَكانُوا يعني اليهود مِنْ قَبْلُ أي من قبل مبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يَسْتَفْتِحُونَ أي يستنصرون به عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مشركي العرب وذلك أنهم كانوا إذا أحزنهم أمر ودهمهم عدو يقولون : اللّهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة فكانوا ينصرون ، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا أي الذي عرفوه يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم عرفوا نعته وصفته وأنه من غير بني إسرائيل كَفَرُوا بِهِ أي جحدوه وأنكروه بغيا وحسدا فَلَعْنَةُ اللّه عَلَى الْكافِرِينَ ٩٠بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أي بئس شيء اشتروا به أنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق واشتروا بمعنى باعوا والمعنى بئس ما باعوا به حظ أنفسهم أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللّه يعني القرآن بَغْياً أي حسدا أَنْ يُنَزِّلَ اللّه مِنْ فَضْلِهِ يعني الكتاب والنبوة عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم فَباؤُ أي فرجعوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ أي مع غضب قال ابن عباس الغضب الأول بتضييعهم التوراة وتبديلها والثاني بكفرهم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم. وقيل الأول بكفرهم بعيسى والإنجيل والثاني بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن. وقيل : الأول بعبادتهم العجل والثاني : بكفرهم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وَلِلْكافِرِينَ يعني الجاحدين نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من الناس كلهم عَذابٌ مُهِينٌ أي يهانون فيه. ٩١وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللّه يعني بالقرآن وقيل : بكل ما أنزل اللّه قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعني التوراة وما أنزل على أنبيائهم وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أي بما سواه من الكتب وقيل : بما بعده يعني الإنجيل والقرآن وَهُوَ الْحَقُّ يعني القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ يعني التوراة قُلْ يا محمد فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللّه مِنْ قَبْلُ إنما أضاف القتل للمخاطبين من اليهود ، وإن كان سلفهم قتلوا لأنهم رضوا بفعلهم قيل : إذا عملت المعصية في الأرض فمن كرهها وأنكرها بريء منها ، ومن رضيها كان من أهلها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي بالتوراة وقد نهيتم فيها عن قتل الأنبياء. ٩٢قوله عز وجل وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ أي بالدلالات الواضحة والمعجزات الباهرة ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد موسى لما ذهب إلى الميقات وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ إنما كرره تبكيتا لهم وتأكيدا للحجة عليهم ٩٣وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا أي استجيبوا وأطيعوا أي فيما أمرتم به قالُوا سَمِعْنا يعني قولك وَعَصَيْنا يعني أمرك وقيل إنهم لم يقولوا بألسنتهم ، ولكن لما سمعوه وتلقوه تلقوه بالعصيان فنسب ذلك إليهم وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ أي تداخل حبه في قلوبهم والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ في الثوب. وقيل : إن موسى أمر أن يبرد العجل ويذرى في النهر وأمرهم أن يشربوا منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل ، ظهر سحالة الذهب على شاربه قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ أي بأن تعبدوا العجل والمعنى بئس الإيمان إيمان يأمر بعبادة العجل إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي بزعمكم وذلك أنهم قالوا : نؤمن بما أنزل علينا فكذبهم اللّه تعالى بذلك في قوله تعالى : ٩٤قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللّه خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ وذلك أن اليهود ادعوا دعاوى باطلة منها قولهم : لن يدخل الجنة إلّا من كان هودا وقولهم : نحن أبناء اللّه وأحباؤه فكذبهم اللّه وألزمهم الحجة فقال : قل يا محمد لليهود إن كانت لكم الدار الآخرة يعني الجنة خالصة لكم دون الناس فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أي فاطلبوه واسألوه لأن من علم أن الجنة مأواه وأنها له حن إليها ولا سبيل إلى دخولها إلّا بعد الموت فاستعجلوه بالتمني إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في قولكم ودعواكم ، روي ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : (لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلّا مات) قال اللّه تعالى : ٩٥وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً أي لعلمهم أنهم في دعواهم كاذبون بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني من الأعمال السيئة ، وإنما أضاف العمل إلى اليد لأن أكثر جنايات الإنسان تكون من يده وَاللّه عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فيه تخويف وتهديد لهم ، وإنما خصهم بالظلم لأنه أعم من الكفر لأن كل كافر ظالم وليس كلّ ظالم كافرا فلهذا كان أعم وكانوا أولى به ٩٦وَلَتَجِدَنَّهُمْ اللام للقسم والنون للتوكيد تقديره واللّه لتجدنهم يا محمد يعني اليهود أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ أي حياة متطاولة ، والحرص أشد الطلب وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قيل هو متصل بما قبله ومعطوف عليه والمعنى وأحرص من الذين أشركوا. فإن قلت : الذين أشركوا قد دخلوا تحت الناس في قوله أحرص الناس فلم أفردهم بالذكر؟. قلت : أفردهم بالذكر لشدّة حرصهم وفيه توبيخ عظيم لليهود لأن الذين لا يؤمنون بالمعاد ولا يعرفون إلّا الحياة الدنيا لا يستبعد حرصهم عليها ، فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالبعث والجزاء كان حقيقا بالتوبيخ العظيم وقيل : إن الواو واو استئناف تقديره ومن الذين أشركوا أناس يَوَدُّ أَحَدُهُمْ وهم المجوس سموا بذلك لأنهم يقولون : بالنور والظلمة يود أن يتمنى أحدهم لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ أي تعمير ألف سنة وإنما خص الألف لأنها نهاية العقود ولأنها تحية المجوس فيما بينهم يقولون : زه هزار سال أي عش ألف سنة أو ألف نيروز أو ألف مهرجان فهذه تحيتهم. والمعنى أن اليهود أحرص من المجوس الذين يقولون ذلك وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ أي بمباعده مِنَ الْعَذابِ أي النار أَنْ يُعَمَّرَ أي لو عمر طول عمره لا ينقذه من العذاب وَاللّه بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي لا يخفى عليه خافية من أحوالهم. قوله عز وجل : ٩٧قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ قال ابن عباس سبب نزول هذه الآية أن عبد اللّه بن صوريا حبر من أحبار اليهود قال للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم أي ملك يأتيك من السماء؟ قال جبريل قال ذلك عدونا ولو كان ميكائيل لآمنا بك إن جبريل ينزل بالعذاب والشدّة والخسف ، وإنه عادانا مرارا وأشد ذلك علينا أن اللّه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب على يد رجل يقال له : بختنصر فلما كان زمنه بعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاما مسكينا ، فأخذه ليقتله فدفع عنه جبريل وقال : إن كان اللّه أمره بهلاككم فلن تسلط عليه وإن لم يكن هو فعلى أي حق تقتله فلما كبر ذلك الغلام وقوى غزانا وخرب بيت المقدس ، فلهذا نتخذه عدوا فأنزل اللّه هذه الآية وقيل : قالوا إن اللّه أمره أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا فاتخذناه عدوا. وقيل إن عمر بن الخطاب كان له أرض بأعلى المدينة وكان ممره إليها على مدارس اليهود فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا يوما ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك وإنا لنطمع فيك فقال عمر واللّه ما آتيكم لحبكم ولا أسألكم ، لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأرى آثاره في كتابكم فقالوا من صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة قال جبريل قالوا ذلك عدونا يطلع محمدا على سرنا وهو صاحب كل عذاب وخسف وشدة ، وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلامة ، فقال لهم : تعرفون جبريل وتنكرون محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم؟ قالوا : نعم قال فأخبروني عن منزلة جبريل وميكائيل من اللّه تعالى قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وميكائيل عدو لجبريل فقال عمر أشهد أن من كان عدوا ل أحدهما كان عدوا للآخر. ومن كان عدوا لهما كان عدوا للّه ثم رجع عمر إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هذه الآيات وقال : لقد وافقك ربك يا عمر ، فقال عمر : واللّه لقد رأيتني بعد ذلك في ديني أصلب من الحجر. والأقرب أن سبب هذه العداوة كون جبريل كان ينزل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالوحي لأن قوله : فإنه نزله على قلبك مشعر بذلك وقوله فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ يعني جبريل نزل بالقرآن كناية عن غير مذكور عَلى قَلْبِكَ يا محمد وإنما خص القلب بالذكر لأنه محل الحفظ بِإِذْنِ اللّه أي بأمره مُصَدِّقاً أي موافقا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لما قبله من الكتب وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي في القرآن هداية للمؤمنين إلى الأعمال الصالحة التي يترتب عليها الثواب وبشرى لهم بثوابها إذا أتوا بها. ٩٨مَنْ كانَ عَدُوًّا للّه وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ لما بين في الآية الأولى أن من كان عدوا لجبريل لأجل ، أنه نزل بالقرآن على قلب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وجب أن يكون عدوا للّه. لأن اللّه تعالى هو الذي نزله على محمد بين في هذه الآية أن كل من كان عدوا لأحد هؤلاء ، فإنه عدو لجميعهم وبين أن اللّه عدوه بقوله : فَإِنَّ اللّه عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ فأما عداوتهم للّه فإنها لا تضره ولا تؤثر وعداوته لهم تؤديهم إلى العذاب الدائم ، الذي لا ضرر أعظم منه ، وقيل : المراد من عداوتهم للّه وعداوتهم لأوليائه وأهل طاعته فهو كقوله (إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله) أي يحاربون أولياء اللّه وأهل طاعته. وقوله وملائكته ورسله ، يعني أن من عادى واحدا منهم فقد عادى جميعهم ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بجميعهم وجبريل وميكائيل إنما خصهما بالذكر وإن كانا داخلين في جملة الملائكة لبيان شرفهما وفضلهما وعلو منزلتهما وقدم جبريل على ميكائيل لفضله عليه لأن جبريل ينزل بالوحي الذي هو غذاء الأرواح وميكائيل ينزل بالمطر الذي هو سبب غذاء الأبدان ، وجبريل وميكائيل اسمان أعجميان. ومعناهما : عبد اللّه وعبد اللّه لأن جبر وميك بالسريانية هو العبد وإيل هو اللّه ٩٩وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ قال ابن عباس : هذا جواب لابن صوريا حيث قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها فأنزل اللّه هذه الآيات ، ومعنى بينات واضحات مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام وَما يَكْفُرُ بِها أي وما يجحد بهذه الآيات إِلَّا الْفاسِقُونَ أي الخارجون عن طاعتنا وما أمروا به ١٠٠أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً قال ابن عباس : لما ذكرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما أخذ عليهم من العهود في محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأن يؤمنوا به قال مالك بن الصيف : واللّه ما عهد إلينا في محمد عهد فأنزل اللّه هذه الآية أو كلما استفهام إنكار عاهدوا عهدا هو قولهم : إنه قد أظلّ زمان نبي مبعوث وإنه في كتابنا وقيل إنهم عاهدوا اللّه عهودا كثيرة ثم نقضوها نَبَذَهُ أي طرح العهد ونقضه فَرِيقٌ مِنْهُمْ يعني اليهود بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يعني كفر فريق منهم بنقض العهد وكفر فريق منهم بالجحد للحق. ١٠١وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّه يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ يعني مصدق بصحة التوراة ونبوة موسى عليه الصلاة والسلام وقيل : إن التوراة بشرت بنبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فلما بعث محمد صلّى اللّه عليه وسلّم كان مجرد مبعثه مصدقا للتوراة نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللّه وَراءَ ظُهُورِهِمْ قيل : أراد بالكتاب القرآن. وقيل : التوراة وهو الأقرب لأن النبذ لا يكون إلّا بعد التمسك ، ولم يتمسكوا بالقرآن. أما نبذهم التوراة فإنهم كانوا يقرءونها ولا يعملون بها. وقيل : إنهم أدرجوها في الحرير وحلوها بالذهب ولم يعملوا ما فيها كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني أنهم نبذوا كتاب اللّه ورفضوه عن علم به ومعرفة ، وإنما حملهم على ذلك عداوة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهم علماء اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وكتموا أمره وكان أولئك النفر قليلا. ١٠٢قوله عز وجل : وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ يعني اليهود نبذوا كتاب اللّه واتبعوا ما تتلو الشياطين ، ومعنى تتلو تقرأ من التلاوة وقيل معناه تفتري وتكذب عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وهو قولهم : إن سليمان ملك الناس بالسحر وقيل : على ملك سليمان أي على عهده وزمانه. وقصة ذلك أن الشياطين كتبوا السحر والنيرنجيات على لسان آصف : هذا ما علم آصف بن برخيا سليمان الملك وكتبوه ودفنوه تحت كرسيه وذلك حين نزع اللّه عنه الملك ولم يشعر بذلك وقيل : إن بني إسرائيل اشتغلوا بتعليم السحر في زمانه فمنعهم سليمان من ذلك وأخذ كتبهم ودفنها تحت سريره ، فلما مات استخرجها الشياطين. وقالوا للناس إنما ملككم سليمان بهذا فتعلموه فأما صلحاء بني إسرائيل وعلماؤهم فأنكروا ذلك. وقالوا : معاذ اللّه أن يكون هذا العلم من علم سليمان وأما السفلة منهم. فقالوا : هذا هو علم سليمان وأقبلوا على تعليمه وتركوا كتب أنبيائهم وفشت الملامة لسليمان. فلم تزل هذه حالهم إلى أن بعث اللّه تعالى محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وأنزل عليه براءة سليمان عليه السلام فقال تعالى : وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ يعني بالسحر ولم يعمل به ، وفيه تنزيه سليمان عن السحر ، وذلك أن اليهود أنكروا نبوة سليمان ، وقالوا : إنما حصل له هذا الملك وسخرت الجن والإنس له بسبب السحر وقيل : إن السحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان فبرأه اللّه من ذلك ، وقيل إن بعض أحبار اليهود قال ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبيا وما كان إلّا ساحرا فأنزل اللّه تعالى : وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ يعني أن سليمان كونه نبيا ينافي كونه ساحرا كافرا ثم بين اللّه تعالى أن الذي برأه منه لا حق بغيره فقال وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يعني أن الذين اتخذوا السحر لأنفسهم هم الذين كفروا ثم بين سبب كفرهم فقال تعالى : يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ يعني ما كتب لهم الشياطين من كتب السحر. وقيل : يحتمل أن يكون يعلمون يعني اليهود الذين عنوا بقوله : واتبعوا. وسمي السحر سحرا لخفاء سببه ، فلا يفعل إلّا في خفية وقيل : معنى السحر الإزالة وصرف الشيء عن وجهه تقول العرب ما سحرك عن كذا أي ما صرفك عنه فكأن الساحر لما رأى الباطل في صورة الحق فقد سحر الشيء عن وجهه أي صرفه هذا أصله من حيث اللغة ، وأما حقيقته فقد قيل : إنه عبارة عن التمويه والتخييل ، ومذهب أهل السنة أن له وجودا أو حقيقة والعمل به كفر وذلك إذا اعتقد أن الكواكب هي المؤثرة في قلب الأعيان وروي عن الشافعي أنه قال : السحر يخيل ويمرض وقد يقتل حتى أوجب القصاص على من قتل به وقيل إن السحر يؤثر في قلب الأعيان فيجعل الإنسان على صورة الحمار ، والحمار على صورة الكلب وقد يطير الساحر في الهواء ، وهذا القول ضعيف عند أهل السنة لأنهم قالوا : إن اللّه تعالى هو الخالق الفاعل لهذه الأشياء عند عمل الساحر لذلك إلّا أن الساحر هو الفاعل لها المؤثر فيها والأصح ، أن السحر يخيل ويؤثر في الأبدان بالأمراض والجنون والموت ، ويدل على ذلك أن للكلام تأثيرا في الطباع فقد يسمع الإنسان ما يكره فيحم ، وقد مات قوم بكلام سمعوه فالسحر بمنزلة العلل في الأبدان وأما حكمه فإنه من الكبائر التي نهى عنها ، ويحرم تعلمه لما روي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول اللّه وما هن؟ قال : الإشراك باللّه والسحر وقتل النفس التي حرم اللّه إلّا بالحق ، وأكل مال اليتيم والزنا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) أخرجاه في الصحيحين. فعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم السحر من الكبائر وثناه بالشرك وأمرنا باجتنابه ، وقوله : الموبقات يعني المهلكات والسحر على قسمين : أحدهما ، يكفر به صاحبه وهو أن يعتقد أن القدرة لنفسه في ذلك ، وهو المؤثر أو يعتقد أن الكواكب هي المؤثرة الفعالة فإذا انتهى به السحر إلى هذه الغاية صار كافرا باللّه تعالى ، ويجب قتله لما روي عن جندب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (حد الساحر ضربه بالسيف) أخرجه الترمذي. والقسم الثاني ، من السحر وهو التخييل الذي يشاكل النيرنجيات والشعبذة ، ولا يعتقد صاحبه لنفسه فيه قدرة ولا أن الكواكب هي المؤثرة ويعتقد أن القدرة للّه تعالى ، وأنه هو المؤثر فهذا القدر لا يكفر به صاحبه ولكنه معصية وهو من الكبائر ، ويحرم فعله فإن قتل بسحره قتل قصاصا لما روي عن مالك أنه بلغه أن حفصة زوج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قتلت جارية لها سحرتها وقد كانت دبرتها ، فأمرت بها فقتلت أخرجه في الموطأ. قوله عز وجل : وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ أي ويعلمون الذي أنزل على الملكين والإنزال هنا بمعنى الإلهام والتعليم أي ما ألهما وعلما وقرئ في الشاذ الملكين بكسر اللام. قال : هما رجلان ساحران كانا ببابل. وقيل : علجان ووجهه أن الملائكة لا يعلمون السحر والقراءة المشهورة بفتح اللام. فإن قلت : كيف يجوز أن يضاف إلى اللّه تعالى إنزال ذلك على الملائكة وكيف يجوز للملائكة تعليم السحر؟ قلت : قال ابن جرير الطبري إن اللّه تعالى عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه ، ولو كان الأمر على غير ذلك لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم ، والسحر مما نهى عباده من بني آدم عنه فغير منكر أن يكون اللّه تعالى علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم كما أخبر عنهما أنهم يقولان : لمن جاء يتعلم ذلك منهما : إنما نحن فتنة فلا تكفر ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن السحر وعن التفريق بين المرء وزوجه فيتمحض المؤمن بتركه التعليم منهما ، ويجري للكافر بتعلمه الكفر والسحر منهما ويكون الملكان في تعليمهما ما علما من ذلك مطيعين للّه تعالى إذ كان عن إذن اللّه تعالى ، لهما بتعليم ذلك وغير ضارهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما ما بعد نهيهما إياه عنه بقولهما إنما نحن فتنة فلا تكفر ، إذ كانا قد أديا ما أمرا به. وقال غيره إنهما لا يتعمدان ذلك بل يصفان السحر ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه فالشقي من ترك نصحهما ، وتعلم السحر من وصفهما ، والسعيد من قبل نصحهما وترك تعلم السحر منهما. وقيل : إن اللّه تعالى امتحن الناس بهما في ذلك الزمان فالشقي من تعلم السحر منهما فيكفر به والسعيد من تركه فيبقى على إيمانه ، وللّه تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بني إسرائيل بنهر طالوت بقوله : (فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني) بِبابِلَ قيل : هي بابل العراق بأرض الكوفة سميت بذلك لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود. وقيل : إنها بابل نهاوند والأول أصح وأشهر هارُوتَ وَمارُوتَ اسمان سريانيان. وقصة الآية على ما ذكره ابن عباس وغيره. قالوا : إن الملائكة لما رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس عليه السلام عيروهم. وقالوا : هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض واخترتهم وهم يعصونك فقال اللّه تعالى : لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لركبتم مثل ما ركبوا قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك قال اللّه تعالى : فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض فاختاروا هاروت وماروت ، وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم وكان اسم هاروت عزا وماروت عزايا ، فغير اسمهما لما قارفا الذنب وركب اللّه فيهما الشهوة وأهبطهما إلى الأرض وأمرهما أن يحكما بين الناس بالحق ونهاهما عن الشرك ، والقتل بغير الحق والزنا وشرب الخمر ، فكانا يقضيان بين الناس يومهما فإذا أمسيا ذكرا اسم اللّه الأعظم وصعدا إلى السماء فما مر عليهما شهر حتى افتتنا. وقيل : بل افتتنا في أول يوم وذلك أنه اختصم إليهما امرأة يقال لها : الزهرة وكانت من أجمل أهل فارس. وقيل : كانت ملكة فلما رأياها أخذت بقلوبهما فقال أحدهما لصاحبه هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي. قال : نعم فراوداها عن نفسها فأبت وانصرفت. ثم عادت في اليوم الثاني ففعلا مثل ذلك فأبت وقالت : لا إلّا أن تعبدا هذا الصنم وتقتلا النفس وتشربا الخمر فقالا : لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن اللّه تعالى قد نهانا عنها. فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث ، ومعها قدح خمر وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها فراوداها عن نفسها فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا : الصلاة لغير اللّه عظيم وقتل النفس عظيم وأهون الثلاثة شرب الخمر فشربا فلما انتشيا وقعا بالمرأة فزنيا بها فرآهما إنسان فقتلاه خوف الفضيحة. وقيل : إنهما سجدا للصنم. وقيل : جاءتهما امرأة من أحسن الناس تخاصم زوجها. فقال : أحدهما للآخر هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي؟ قال : نعم قال هل لك أن تقضي لها على زوجها فقال له صاحبه أما تعلم ما عند اللّه من العقوبة والعذاب. فقال له صاحبه : أما تعلم ما عند اللّه من العفو والرحمة فسألاها نفسها فقالت : لا إلّا أن يقضيا لي على زوجي فقضيا. ثم سألاها نفسها فقالت : لا إلّا أن تقتلاه فقال أحدهما : لصاحبه أما تعلم ما عند اللّه من العقوبة والعذاب؟ فقال له صاحبه أما تعلم ما عند اللّه من العفو والرحمة؟ فقتلاه ثم سألاها نفسها فقالت : لا إلّا أن لي صنما أعبده إن أنتما صليتما معي عنده فعلت. فقال أحدهما : لصاحبه مثل القول الأول فرد عليه مثله فصليا معها عنده فمسخت شهابا. وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : قالت لهم لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء فقالا : اسم اللّه الأكبر. قالت : فما أنتما بمدركي حتى تعلماني إياه فقال أحدهما للآخر : علمها. فقال : إني أخاف اللّه فقال الآخر فأين رحمة اللّه فعلمها ذلك فتكلمت به وصعدت إلى السماء فمسخها اللّه كوكبا ، فذهب بعضهم إلى أنها هي الزهرة بعينها وأنكر آخرون ذلك وقالوا : إن الزهرة من الكواكب السيارة السبعة التي أقسم اللّه بها فقال : فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ والتي فتنت هاروت وماروت كانت امرأة تسمى الزهرة لجمالها وحسنها فلما بغت مسخها اللّه تعالى شهابا. قالوا : فلما أمسى هاروت وماروت بعد ما قارفا الذنب ، هما بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما ، فعلما ما حل بهما فقصدا إدريس النبي عليه السلام وأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى اللّه عز وجل. وقالا له : رأينا يصعد لك من العبادة مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض فاشفع لنا إلى ربك ففعل ذلك إدريس فخيرهما اللّه بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فاختاروا عذاب الدنيا إذ علما أنه ينقطع ، فهما ببابل يعذبان قيل : إنهما معلقان بشعورهما إلى قيام الساعة. وقيل : إنهما منكوسان يضربان بسياط الحديد. وقيل : إن رجلا قصدهما ليتعلم السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما مزرقة عيونهما مسودة جلودهما ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلّا قدر أربع أصابع وهما يعذبان بالعطش ، فلما رأى ذلك هاله فقال : لا إله إلّا اللّه فلما سمعا كلامه قالا : لا إله إلّا اللّه من أنت؟ قال : رجل من الناس. فقالا : من أي أمة أنت؟ قال : من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قالا؟ أو قد بعث محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قال : نعم فقال : الحمد للّه وأظهر الاستبشار فقال الرجل مم استبشاركما؟ قالا : إنه نبي الساعة وقد دنا انقضاء عذابنا. (فصل : في القول بعصمة الملائكة) أجمع المسلمون على أن الملائكة معصومون فضلا ، واتفق أئمة المسلمين على أن حكم الرسل من الملائكة حكم النبيين ، سواء في العصمة في باب البلاغ عن اللّه عز وجل وفي كل شيء ثبتت فيه عصمة الأنبياء فكذلك الملائكة وأنهم مع الأنبياء في التبليغ إليهم ، كالأنبياء مع أممهم ، ثم اختلفوا في غير المرسلين من الملائكة فذهب طائفة من المحققين. وجميع المعتزلة إلى عصمة جميع الملائكة عن جميع الذنوب والمعاصي ، واحتجوا على ذلك بوجوه سمعية وعقلية ، وذهب طائفة إلى أن غير المرسلين من الملائكة غير معصومين ، واحتجوا على ذلك بوجوه سمعية وعقلية منها قصة هاروت وماروت عن علي وما نقله أهل الأخبار والسير. ونقله ابن جرير الطبري في تفسيره عن جماعة من الصحابة والتابعين فنقل قصة هاروت وماروت بألفاظ متقاربة. عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وكعب الأحبار والسدي والربيع ومجاهد. وأجاب من ذهب إلى عصمة جميع الملائكة عن قصة هاروت وماروت ، بأن ما نقله المفسرون وأهل الأخبار في ذلك لم يصح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منه شيء وهذه الأخبار إنما أخذت من اليهود ، وقد علم افتراؤهم على الملائكة والأنبياء وقد ذكر اللّه عز وجل في هذه الآيات ، افتراء اليهود على سليمان أولا ، ثم عطف على ذلك قصة هاروت وماروت ثانيا ، قالوا : ومعنى الآية وما كفر سليمان يعني بالسحر الذي افتعله عليه الشياطين ، واتبعتهم في ذلك اليهود فأخبر عن افترائهم وكذبهم ، وذكروا أيضا في الجواب عن هذه القصة وأنها باطلة وجوها : الأول : إن في القصة أن اللّه تعالى قال : للملائكة لو ابتليتم بما ابتليت به بنو آدم لعصيتموني ، قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك وفيه رد على اللّه تعالى وذلك كفر وقد ثبت أنهم كانوا معصومين قبل ذلك فلا يقع هذا منهم. الوجه الثاني : أنهما خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وذلك فاسد لأن اللّه تعالى لا يخير من أشرك ، وإن كان قد صحت توبتهما فلا عقوبة عليهما. الوجه الثالث أن المرأة لما فجرت فكيف يعقل أنها صعدت إلى السماء وصارت كوكبا وعظم اللّه قدرها بحيث أقسم بها في قوله : فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ فبان بهذه الوجوه ركة هذه القصة ، واللّه أعلم بصحة ذلك وسقمه. والأولى تنزيه الملائكة عن كل ما لا يليق بمنصبهم وقوله تعالى : وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا يعني وما يعلمان أحدا حتى ينصحاه أولا ويقولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي ابتلاء ومحنة فَلا تَكْفُرْ أي لا تتعلم السحر فتعمل به فتكفر ، قيل : يقولان إنما نحن فتنة فلا تكفر سبع مرات فإن أبى قبول نصحهما وصمم على التعليم يقولان له : ائت هذا الرماد فبل عليه فإذا فعل ذلك خرج منه نور ساطع في السماء فذلك الإيمان والمعرفة. وينزل شيء أسود مثل الدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب اللّه تعالى : فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما يعني من الملكين ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ أي علم السحر الذي يكون سببا في التفريق بين الزوجين ، كالتمويه والتخييل والنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث اللّه عنده البغضاء والنشوز ، والخلاف بين الزوجين ابتلاء من اللّه تعالى لا أن السحر له تأثير في نفسه بدليل قوله : وَما هُمْ يعني السحرة بِضارِّينَ بِهِ أي بالسحر مِنْ أَحَدٍ أي أحدا إِلَّا بِإِذْنِ اللّه أي بعلمه وقضائه وتكوينه فالساحر يسحر واللّه تعالى يقدر ويكون ذلك بقضائه تعالى وقدرته ومشيئته وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ يعني السحر لأنهم يقصدون به الشر وَلَقَدْ عَلِمُوا يعني اليهود لَمَنِ اشْتَراهُ أي اختار السحر ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ يعني ما له نصيب في الجنة وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أي باعوا حط أنفسهم حيث اختاروا السحر والكفر على الدين والحق لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فإن قلت : كيف أثبت اللّه لهم العلم أولا في قوله : ولقد علموا على التوكيد القسمي ثم نفاه عنهم آخر في قوله لو كانوا يعلمون. قلت : قد علموا أن من اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق ثم مع هذا العلم خالفوا واشتغلوا بالسحر وتركوا العمل بكتاب اللّه تعالى وما جاءت به الرسل عنادا منهم وبغيا ، وذلك على معرفة منهم بما لمن فعل ذلك منهم من العقاب فكأنهم حين لم يعملوا بعلمهم كانوا منسلخين منه. ١٠٣وَلَوْ أَنَّهُمْ يعني اليهود آمَنُوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن وَاتَّقَوْا يعني اليهودية والسحر ، وما يؤثمهم لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّه أي لكان ثواب اللّه إياهم خَيْرٌ لهم يعني هذا الثواب لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يعني ذلك. ١٠٤قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا سبب نزول هذه الآية : أن المسلمين كانوا يقولون : راعنا يا رسول اللّه من المراعاة أي ارعنا سمعك وفرغه لكلامنا وكانت هذه اللفظة سبا قبيحا ، بلغة اليهود ومعناها عندهم اسمع لا سمعت. وقيل : من الرعونة إذا أرادوا أن يحمقوا إنسانا قالوا : راعنا يعني أحمق فلما سمعت اليهود هذه الكلمة من المسلمين قالوا فيما بينهم كنا نسب محمدا سرا فأعلنوا به الآن فكانوا يأتونه ويقولون راعنا يا محمد ويضحكون فيما بينهم فسمعها سعد بن معاذ رضي اللّه تعالى عنه ففطن لها وكان يعرف لغتهم فقال لليهود لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأضربن عنقه فقالوا : أولستم تقولونها فأنزل اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا أي لكي لا يجد اليهود بذلك سبيلا إلى شتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وَقُولُوا انْظُرْنا أي انظر إلينا. وقيل معناه انتظرنا وتأن بنا وفهمنا وَاسْمَعُوا أي ما تؤمرون به وأطيعوا نهى اللّه تعالى عباده المؤمنين أن يقولوا لنبيه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم راعنا لئلا يتطرق أحد إلى شتمه وأمرهم بتوقيره وتعظيمه وأن يتخيروا لخطابه صلّى اللّه عليه وسلّم من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أدقها ، وإن سألوه بتبجيل وتعظيم ولين لا يخاطبوه بما يسر اليهود وَلِلْكافِرِينَ يعني اليهود عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم. ١٠٥ما يَوَدُّ أي ما يحب الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني اليهود وَلَا الْمُشْرِكِينَ يعني عبدة الأوثان لأن الكفر اسم جنس تحته نوعان أهل الكتاب وهم الذين بدلوا كتابهم وكذبوا الرسل وعبدة الأوثان وهم من عبدوا غير اللّه أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ يعني ما أنزل اللّه عز وجل على نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم من الوحي والنبوة ، وإنما كرهت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك حسدا وبغيا منهم على المؤمنين ، وذلك أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا : ما هذا الذي تدعوننا إليه بخير مما نحن فيه ولوددنا لو كان خيرا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية تكذيبا لهم وَاللّه يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ يعني أنه تعالى يختص بنبوته ورسالته من يشاء من عباده ، ويتفضل بالإيمان والهداية على من أحب من خلقه رحمة منه لهم وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يعني أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم ، فإنه منه ابتداء وتفضلا عليهم من غير استحقاق أحد منهم لذلك بل له الفضل والمنة على خلقه. ١٠٦قوله عز وجل : ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها الآية. وسبب نزولها أن المشركين قالوا : إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول : اليوم قولا ويرجع عنه غدا ما يقول : إلا من تلقاء نفسه كما أخبر اللّه تعالى عنهم بقوله : إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللّه أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ فأنزل ما ننسخ من آية فبين بهذه الآية وجه الحكمة في النسخ وأنه من عنده لا من عند محمد صلّى اللّه عليه وسلّم. وأصل النسخ في اللغة يكون بمعنى النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب ، وهو أن ينقل من كتاب إلى كتاب آخر كذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى بل يقتضي إثبات مثله في كتاب آخر ، فعلى هذا المعنى يكون القرآن كله منسوخا ، وذلك أنه نسخ من اللوح المحفوظ ونزل جملة واحدة إلى سماء الدنيا ، ويكون النسخ بمعنى الرفع والإزالة وهو إزالة شيء بشيء يعقبه كنسخ الشمس الظل ، والشيب الشباب فعلى هذا المعنى يكون بعض القرآن منسوخا وبعضه ناسخا ، وهو المراد من حكم هذه الآية وهو إزالة الحكم بحكم يعقبه. (فصل في حكم النسخ) هو في اصطلاح العلماء ، عبارة عن رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه ، والنسخ جائز عقلا وواقع سمعا خلافا لليهود ، فإن منهم من ينكره عقلا لكنه منعه سمعا ، وشذت طائفة قليلة من المسلمين فأنكرت النسخ احتج الجمهور من المسلمين على جواز النسخ ، ووقوعه بأن الدلائل قد دلت على نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ونبوته لا تصح ، إلا مع القول ، بالنسخ وهو نسخ شرع من قبله فوجب القطع بالنسخ. ولنا على اليهود إلزامات : منها أن اللّه تعالى حرم عليهم العمل في يوم السبت ، ولم يحرمه على من كان قبلهم. ومنها أنه قد جاء في التوراة أن اللّه تعالى قال لنوح عليه الصلاة والسلام عند خروجه من الفلك : إني جعلت كل دابة مأكولا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم. ثم إنه تعالى حرم على موسى عليه الصلاة والسلام وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوانات. ومنها إن آدم عليه الصلاة والسلام كان يزوج الأخ للأخت وقد حرمه على من بعده وعلى موسى عليه الصلاة والسلام فثبت بهذا جواز النسخ ، وحيث ثبت جواز النسخ فقد اختلفوا فيه على وجوه : أحدها أن القرآن نسخ جميع الشرائع والكتب القديمة كالتوراة والإنجيل وغيرهما. الوجه الثاني المراد من النسخ هو نسخ القرآن ونقله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا الوجه الثالث ، وهو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء أن المراد من النسخ هو رفع حكم بعض الآيات بدليل آخر يأتي بعده وهو المراد بقوله تعالى : ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها لأن الآية إذ أطلقت ، فالمراد به آيات القرآن لأنه هو المعهود عندنا. مسألة : قال الشافعي رضي اللّه عنه الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة ، واستدل بهذه الآية وهو أنه تعالى قال : ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها وذلك يفيد أنه تعالى هو الآتي والمؤتي به هو من جنس القرآن ، وما كان من جنس القرآن فهو قرآن. وقوله : نأت بخير منها يفيد أنه هو المنفرد بالإتيان بذلك الخير ، وهو القرآن الذي هو كلام اللّه دون السنة ولأن السنة لا تكون خيرا من القرآن ولا مثله. واحتج الجمهور على جواز نسخ الكتاب بالسنة بأن آية الوصية للأقربين منسوخة بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا وصية لوارث) أجاب الشافعي رضي اللّه عنه : بأن هذا ضعيف لأن كون الميراث حقا للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية ، وتقرير هذا وبسطه معروف في أصول الفقه. ثم النسخ في القرآن على وجوه : أحدها ما رفع حكمه وتلاوته كما روى عن أبي إمامة بن سهل : أن قوما من الصحابة قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، فغدوا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبروه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (تلك السورة رفعت بتلاوتها وحكمها) أخرجه البغوي بغير سند. وقيل : إن سورة الأحزاب كانت مثل سورة البقرة فرفع بعضها تلاوة وحكما. الوجه الثاني ، ما رفع تلاوته وبقي حكمه مثل آية الرجم روي عن ابن عباس قال : قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إن اللّه بعث محمدا بالحق ، وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ، ووعيناها وعقلناها ورجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب اللّه فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه ، وإن الرجم في كتاب اللّه حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف. أخرجه مسلم وللبخاري نحوه. والوجه الثالث ما رفع حكمه وثبت خطه وتلاوته وهو كثير في القرآن ، مثل آية الوصية للأقربين نسخت بآية الميراث عند الشافعي وبالسنة عند غيره وآية عدة الوفاة بالحول ، نسخت بآية أربعة أشهر وعشرا وآية القتال وهي قوله : إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ الآية نسخت بقوله : الْآنَ خَفَّفَ اللّه عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً الآية ومثل هذا كثير في القرآن. وأما معنى الآية فقوله : ما ننسخ من آية أي نرفعها أو نرفع حكمها أو ننسها قرئ بضم النون وكسر السين ، ومعناها نثبتها على قلبك وقال ابن عباس : نتركها لا ننسخها. وقيل : معناه نأمر بتركها فعلى هذا يكون النسخ الأول رفع الحكم ، وإقامة غيره مقامه والإنساء نسخ من غير إقامة غيره مقامه وقرئ ننسأها بفتح النون والسين وبالهمزة ومعناها : نؤخرها فلا ننزلها أو نرفع تلاوتها ونؤخر حكمها كآية الرجم فعلى هذا يكون النسخ الأول بمعنى رفع التلاوة ، والحكم قال سعيد بن المسيب وعطاء : ما ننسخ من آية فهو ما نزل من القرآن جعلاه من نسخت الكتاب إذا نقلته إلى كتاب آخر وننسأها أن نؤخرها ونتركها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أي بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجوركم وليس معناه أن آية خير من آية لأن كلام اللّه تعالى كله واحد أَوْ مِثْلِها أي في المنفعة والثواب فما نسخ إلى الأيسر كان أسهل في العمل كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل ، ثم نسخ ذلك فكان خيرا لهم في عاجلهم لسقوط التعب والمشقة عليهم ، وما نسخ إلى الأشق كان أكمل في الثواب كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة فنسخ ذلك ، وفرض صيام شهر رمضان فكان صوم شهر كامل في كل سنة أثقل على الأبدان ، وأشق من صيام أيام معدودات فكان ثوابه أكمل وأكثر. أما المثل فكنسخ التوجه إلى بيت المقدس ، وصرفه إلى المسجد الحرام واستواء الأجر في ذلك لأن على المصلي التوجه إلى حيث أمره اللّه تعالى : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي على النسخ والتبديل ، والمعنى ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي ، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين وأنفع لك ولهم عاجلا وآجلا. ١٠٧أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أنه تعالى هو المتصرف في السموات والأرض ، وله سلطانهما دون غيره يحكم فيهما وفيما فيهما بما شاء من أمر ونهي ونسخ وتبديل هذا الخبر وإن كان خطابا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لكن فيه تكذيب لليهود الذين أنكروا النسخ ، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام فأخبرهم اللّه أن له ملك السموات والأرض ، وأن الخلق كلهم عبيده وتحت تصرفه يحكم فيهم بما يشاء ، وعليهم السمع والطاعة وَما لَكُمْ يعني يا معشر الكفار عند نزول العذاب مِنْ دُونِ اللّه أي مما سوى اللّه مِنْ وَلِيٍّ أي قريب وصديق ، وقيل من وال وهو المقيم بالأمور وَلا نَصِيرٍ أي ناصر يمنعكم من العذاب وقيل في معنى الآية ، وليس لكم أيها المؤمنين بعد اللّه من قيم يأمركم ولا نصير يؤيدكم ، ويقويكم على أعدائكم. ١٠٨قوله عز وجل : أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ نزلت في اليهود ، وذلك أنهم قالوا يا محمد ائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة ، وقيل : إنهم سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : لن نؤمن لك حتى تأتي باللّه والملائكة قبيلا كما سئل قوم موسى فقالوا : أرنا اللّه جهرة فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ، والمعنى أتريدون وقيل بل تريدون أن تسألوا رسولكم يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وذلك أن موسى سأله قومه فقالوا : أرنا اللّه جهرة ففي الآية منعهم ونهيهم عن السؤالات المقترحة بعد ظهور الدلالات والمعجزات وثبوت الحجج والبراهين على صحة نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم. وَمَنْ يَتَبَدَّلِ أي يستبدل الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي أخطأ قصد الطريق ، وقيل : إن قوله ومن يتبدل الكفر بالإيمان خطاب للمؤمنين أعلمهم أن اليهود أهل غش وحسد ، وأنهم يتمنون للمؤمنين المكاره فنهاهم اللّه تعالى أن يقبلوا من اليهود شيئا ينصحونهم به في الظاهر ، وأخبرهم أن من ارتد عن دينه فقد أخطأ قصد السبيل. قوله عز وجل : . ١٠٩وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ نزلت هذه الآية في نفر من اليهود ، وذلك أنهم قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد : لو كنتم على الحق ما هربتم فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم ، فقال عمار بن ياسر. كيف نقض العهد فيكم قالوا شديد قال : إني عاهدت أن لا أكفر بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ما عشت قالت اليهود ، أما هذا فقد ، صبأ وقال حذيفة : أما أنا فقد رضيت باللّه ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا. ثم إنهما أتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبراه بذلك ، فقال : أصبتما الخير وأفلحتما فأنزل اللّه تعالى : وَدَّ أي تمنى كثير من أهل الكتاب يعني اليهود لَوْ يَرُدُّونَكُمْ أي يا معشر المؤمنين مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً أي ترجعون إلى ما كنتم عليه من الكفر حَسَداً أي يحسدونكم حسدا وأصل الحسد تمني زوال النعمة عمن يستحقها ، وربما يكون مع ذلك سعي في إزالتها ، والحسد مذموم لما روي عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو قال العشب) أخرجه أبو داود ، فإذا أنعم اللّه على عبده نعمة فتمنى آخر زوالها عنه ، فهذا هو الحسد وهو حرام فإن استعان بتلك النعمة على الكفر ، والمعاصي فتمنى آخر زوالها عنه فليس بحسد ، ولا يحرم ذلك لأنه لم يحسده على تلك النعمة ، من حيث إنها نعمة بل من حيث إنه يتوصل بتلك النعمة إلى الشر والفساد وقوله : مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ أي من تلقاء أنفسهم لم يأمرهم اللّه بذلك مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ يعني في التوراة أن قول محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ودينه ، حق لا يشكون فيه فكفروا به حسدا وبغيا فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا أي فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وحسد وكان هذا الأمر بالعفو ، والصفح قبل أن يؤمر بالقتال حَتَّى يَأْتِيَ اللّه بِأَمْرِهِ أي بعذابه وهو القتل والسبي لبني قريظة والإجلاء والنفي لبني النضير قال ابن عباس : هو أمر اللّه له بقتالهم في قوله : قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية إِنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيه وعيد وتهديد لهم ١١٠وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ لما أمر اللّه المؤمنين بالعفو والصفح عن اليهود أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة الواجبتين ، ونبه بذلك على سائر الواجبات ثم قال تعالى : وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي من طاعة وعمل صالح ، وقيل أراد بالخير المال يعني صدقة التطوع ، لأن الزكاة تقدم ذكرها تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّه يعني ثوابه وأجره حتى التمرة واللقمة مثل أحد إِنَّ اللّه بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي لا يخفى عليه شيء من قليل الأعمال ، وكثيرها ففيه ترغيب في الطاعات ، وأعمال البر وزجر عن المعاصي. قوله عز وجل : ١١١وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً يعني يهوديا ، وقيل هو جمع هائد أَوْ نَصارى وذلك أن اليهود قالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ولا دين إلا دين اليهودية ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ولا دين إلا دين النصرانية قيل : نزلت في وفد نجران وكانوا نصارى اجتمعوا مع اليهود في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكذب بعضهم بعضا في دعواه قال اللّه : تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ أي شهواتهم الباطلة التي تمنوها على اللّه بغير حق قُلْ يعني يا محمد هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي حجتكم على دعواكم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهوديا أو نصرانيا دون غيرهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني فيما تدعون. ثم قال تعالى ردا عليهم : ١١٢بَلى أي ليس الأمر كما تزعمون ولكن مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه وَهُوَ مُحْسِنٌ فإنه الذي يدخل الجنة وينعم فيها ومعنى أسلم وجهه للّه أخلص في دينه للّه ، وقيل : أخلص عبادته للّه. وقيل خضع وتواضع للّه ، لأن أصل الإسلام الاستسلام وهو الخضوع ، وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء ، وإذا جاد الإنسان بوضع وجهه على الأرض في السجود فقد جاد بجميع أعضائه ، قال عمرو بن نفيل : وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا يعني بذلك استسلمت لطاعة من استسلم لطاعته الأرض والمزن ، وهو محسن أي في عمله للّه فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ثواب عمله وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي في الآخرة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي على ما فاتهم من الدنيا. ١١٣قوله عز وجل : وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ ، وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ نزلت في يهود المدينة ونصارى نجران ، وذلك أن وفد نجران لما قدموا على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أتاهم أحبار اليهود وتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت اليهود للنصارى : ما أنتم على شيء من الذين وكفروا بعيسى والإنجيل وقالت النصارى لليهود ما أنتم على شيء من الذين وكفروا بموسى والتوراة فأنزل اللّه تعالى : وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ يعني وكلا الفريقين يقرءون الكتاب ، وليس في كتابهم هذا الاختلاف فدلت تلاوتهم الكتاب ومخالفتهم لما فيه على كفرهم وكونهم على الباطل. وقيل : إن الإنجيل الذي تدين بصحته النصارى يحقق ما في التوراة من نبوة موسى وما فرض اللّه فيها على بني إسرائيل من الفرائض ، وإن التوراة التي تدين بصحتها اليهود تحقق نبوة عيسى وما جاء به من عند ربه من الأحكام ثم كلا الفريقين ، قالوا : ما أخبر اللّه عنهم بقوله : وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ مع علم كل واحد من الفريقين ببطلان ما قاله : كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ يعني مشركي العرب قالوا في نبيهم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه إنهم ليسوا على شيء مِثْلَ قَوْلِهِمْ يعني مثل قول اليهود للنصارى والنصارى لليهود. وقيل : أمم كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. قالوا في أنبيائهم : ليسوا على شيء فَاللّه يَحْكُمُ أي يقضي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني بين المحق والمبطل فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يعني من أمر الدين قوله عز وجل : ١١٤وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّه أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ نزلت في خراب بيت المقدس وذلك أن ططوس الرومي غزا بني إسرائيل فقتل مقاتلتهم ، وسبى ذراريهم وحرق التوراة وخرب بيت المقدس فلم يزل خرابا حتى بناه المسلمون في زمن عمر بن الخطاب فأنزل اللّه تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ أي ومن أكفر وأبغى ممن منع مساجد اللّه ، يعني بيت المقدس ومحاريبه أن يذكر فيها اسمه أي يعبد ويصلي له فيها وَسَعى فِي خَرابِها وقيل : أن بختنصر المجوسي من أهل بابل هو الذي غزا بني إسرائيل وخرب بيت المقدس وأعانه على ذلك النصارى من أجل اليهود ، قتلوا يحيى بن زكريا أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ وذلك أن بيت المقدس موضع حج النصارى وزيارتهم قال ابن عباس : لم يدخلها بعد عمارتها رومي أو نصراني إلّا خائفا إن علم به قتل وقيل أخيفوا بالجزية والقتل فالجزية على الذمي ، والقتل على الحربي وقيل : خوفهم هو فتح مدائنهم الثلاث قسطنطينية ورومية وعمورية لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ يعني الصغار والذل والقتل والسبي وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني النار. وقيل : إن الآية نزلت في مشركي مكة وأراد بالمساجد المسجد الحرام وذلك أنهم منعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه أن يصلوا فيه في ابتداء الإسلام ، ومنعوهم من حجه والصلاة فيه عام الحديبية ، وإذا منعوا من يعمره بذكر اللّه تعالى وصلواته فيه فقد سعوا في خرابه أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلّا خائفين يعني مشركي مكة يقول اللّه تعالى : أفتحها عليكم أيها المسلمون حتى تدخلوها وتكونوا أولى بها منهم ففتحها عليهم وأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن ينادى بالموسم لما نزلت سورة براءة : ألا لا يحجن البيت بعد هذا العام مشرك فكان هذا خوفهم وثبت في الشرع أن لا يمكن مشرك من دخول الحرم. فإن قلت كيف قيل مساجد اللّه وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو إما بيت المقدس أو المسجد الحرام؟. قلت يجوز أن يجيء الحكم عاما وإن كان السبب خاصا كما تقول لمن آذى صالحا واحدا ومن أظلم ممن آذى الصالحين. فإن قلت أي القولين أرجح؟ قلت رجح الطبري القول الأول وقال إن النصارى هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس بدليل أن مشركي مكة لم يسعوا في خراب المسجد الحرام ، وإن كانوا قد منعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في بعض الأوقات من الصلاة فيه ، وأيضا فإن الآية التي قبل هذه والتي بعدها في ذم أهل الكتاب ، ولم يجر لمشركي مكة ذكر ولا للمسجد الحرام فتعين أن يكون المراد بهذه بيت المقدس ، ورجح غيره القول الثاني بدليل أن النصارى يعظمون بيت المقدس أكثر من اليهود فكيف يسعون في خرابه وهو موضع حجهم. وذكر ابن العربي في أحكام القرآن قولا ثالثا ، وهو أنه كل مسجد قال وهو الصحيح لأن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع فتخصيصه ببعض المساجد أو ببعض الأزمنة محال. ١١٥قوله عز وجل : وَللّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه سبب نزول هذه الآية قال ابن عباس : خرج نفر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سفر قبل تحويل القبلة إلى الكعبة فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة ، فتحروا القبلة وصلوا فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا ، فلما قدموا سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن ذلك فنزلت هذه الآية. وعن عامر بن ربيعة عن أبيه ، قال : كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل منا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب. وقال ابن عمر نزلت في المسافر يصلي التطوع حيثما توجهت به راحلته (ق) عن ابن عمر قال : (إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ) وكان ابن عمر يفعله وفي رواية لمسلم (كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي على دابته وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيثما توجهت وفيه نزلت فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه الآية. وقيل : نزلت في تحويل القبلة إلى الكعبة وذلك أن اليهود عيرت المؤمنين وقالوا : ليس لهم قبلة معلومة فتارة يستقبلون هكذا وتارة يستقبلون هكذا فأنزل اللّه هذه الآية. وقيل : إنها نزلت في تخيير النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه ليصلوا حيث شاؤوا من النواحي ثم إنها نسخت بقوله تعالى : فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ومعنى الآية إن للّه المشرق والمغرب وما بينهما خلقا وملكا ، وإنما خص المشرق والمغرب اكتفاء عن جميع الجهات لأن له كلها وما بينهما خلقه وعبيده ، وإن على جميعهم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه فما أمرهم باستقباله فهو القبلة فإن القبلة ليست قبلة لذاتها بل لأن اللّه تعالى جعلها قبلة ، وأمر بالتوجه إليها فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه أي فهنالك قبلة اللّه التي وجهكم إليها ، وقيل معناه فثم وجه اللّه تعالى بعلمه وقدرته. والوجه صفة ثابتة للّه تعالى لا من حيث الصورة. وقيل : فثم رضا اللّه أي يريدون بالتوجه إليه رضاه إِنَّ اللّه واسِعٌ من السعة وهو الغني أي يسع خلقه كلهم بالكفاية ، والإفضال والجود والتدبير. وقيل واسع المغفرة عَلِيمٌ أي بأعمالكم ونياتكم حيثما تصلوا ، وتدعوا لا يغيب عنه منها شيء. (مسألة تتعلق بحكم الآية) وهي أن المسافر إذا كان في مفازة أو بلاد الشرك ، واشتبهت عليه القبلة فإنه يجتهد في طلها بنوع من الدلائل ويصلي إلى الجهة التي أدى إليها اجتهاده ولا إعادة عليه وإن لم يصادف القبلة فإن جهة الاجتهاد قبلته ، وكذا الغريق في البحر إذا بقي على اللوح فإنه يصلي على حسب حاله ، وتصح صلاته وكذلك المشدود على جذع بحيث لا يمكنه الاستقبال. قوله عز وجل : ١١٦وَقالُوا اتَّخَذَ اللّه وَلَداً نزلت في يهود المدينة حيث قالوا : عزيز ابن اللّه ، وفي نصارى نجران حيث قالوا المسيح ابن اللّه وفي مشركي العرب حيث قالوا الملائكة بنات اللّه سُبْحانَهُ أي تنزيها للّه فنزه اللّه نفسه عن اتخاذ الولد وعن قولهم : وافترائهم عليه (خ) عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : قال اللّه عز وجل : (كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم إني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي ، فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا) بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني عبيدا وملكا فكيف ينسب إليه الولد وهو داخل فيهما. وقيل : إن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد واللّه تعالى منزه عن الشبيه والنظير. وقيل : إن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه والانتفاع به عند عجز الوالد وكبره ، واللّه تعالى منزه عن ذلك كله فإضافة الولد إليه محال كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ يعني أن أهل السموات والأرض مطيعون للّه ومقرون له بالعبودية ، وأصل القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع. وقيل : أصله : القيام ومنه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (أفضل الصلاة طول القنوت) فعلى هذا يكون معنى الآية كل له قائمون بالشهادة ومقرون له بالوحدانية. وقيل : قانتون أي مذللون مسخرون لما خلقوا له. واختلف العلماء في حكم الآية فقال بعضهم : هو خاص ثم سلكوا في تخصيصه طريقين. أحدهما : قالوا هو راجع إلى عزير والمسيح والملائكة. الثاني : قال ابن عباس رضي اللّه عنهما : هو راجع إلى أهل طاعته دون سائر الكفار وذهب جماعة إلى أن حكم الآية عام لأن لفظة كل تقتضي الشمول والإحاطة ثم سلكوا في الكفار طريقين. أحدهما أن ظلالهم تسجد للّه وتطيعه. والثاني أن هذه الطاعة تكون في يوم القيامة. ومن ذهب إلى تخصيص حكم الآية أجاب عن لفظة كل بأنها لا تقتضي الشمول والإحاطة بدليل قوله تعالى : وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ ولم تؤت ملك سليمان فدل على أن لفظة كل لا تقتضي ذلك. قوله عز وجل : ١١٧بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقها ومبدعها ومنشئها على غير مثال سبق. وقيل : البديع الذي يبدع الأشياء أي يحدثها مما لم يكن وَإِذا قَضى أَمْراً أي قدره وأراد خلقه. وقيل : إذا أحكم أمرا وحتمه وأتقنه. وأصل القضاء الحكم والفراغ والقضاء في اللغة على وجوه كلها ترجع إلى انقطاع الشيء وتمامه والفراغ منه فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي إذا أحكم أمرا وحتمه فإنما يقول له فيكون ذلك الأمر على ما أراد اللّه تعالى وجوده. فإن قلت المعدوم لا يخاطب فكيف قال فإنما يقول له كن فيكون. قلت : إن اللّه تعالى عالم بكل ما هو كائن قبل تكوينه وإذا كان كذلك كانت الأشياء التي لم تكن كأنها كائنة لعلمه بها فجاز أن يقول لها : كوني ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود وقيل اللام في قوله : لَهُ لام أجل فيكون المعنى إذا قضى أمرا ، فإنما يقول : لأجل تكوينه وإرادته له كن فيكون فعلى هذا يذهب معنى الخطاب. ١١٨قوله عز وجل : وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ قال ابن عباس هم اليهود الذين كانوا في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقيل : هم النصارى وقيل : هم مشركو العرب لَوْلا أي هلا يُكَلِّمُنَا اللّه أي عيانا بأنك رسوله أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ أي دلالة وعلامة على صدقك كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كفار الأمم الخالية مِثْلَ قَوْلِهِمْ وذلك أن اليهود سألوا موسى أن يريهم اللّه جهرة ، وأن يسمعهم كلام اللّه. وسألوه من الآيات ما ليس لهم مسألته فأخبر اللّه عن الذين كانوا في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنهم قالوا : مثل ما قال من كان قبلهم تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ يعني أن المكذبين للرسل تشابهت أقوالهم وأفعالهم. وقيل تشابهت في الكفر والقسوة والتكذيب وطلب المحال قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ أي الدلالات على نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يعني أن آيات القرآن وما جاء به محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من المعجزات الباهرات كافية لمن كان طالبا لليقين ، وإنما خص أهل الإيقان بالذكر لأنهم هم أهل التثبت في الأمور ومعرفة الأشياء على يقين. ١١٩قوله عز وجل : إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي بالصدق وقال ابن عباس : بالقرآن وقيل : بالإسلام وقيل : معناه إنا لم نرسلك عبثا ، بل أرسلناك بالحق بَشِيراً أي مبشرا لأوليائي ، وأهل طاعتي بالثواب العظيم وَنَذِيراً أي منذرا ومخوفا لأعدائي وأهل معصيتي بالعذاب الأليم وَلا تُسْئَلُ قرئ بفتح التاء على النهي قال ابن عباس : وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال ذات يوم : (ليت شعري ما فعل أبواي) فنزلت هذه الآية ، والمعنى إنا أرسلناك لتبليغ ما أرسلت به ولا تسأل عن أصحاب الجحيم. وقرئ ولا تسأل بضم التاء ورفع اللام على الخبر. وقيل : على النفي والمعنى إنا أرسلناك بالحق لتبليغ ما أرسلت به ، فإنما عليك البلاغ ولست مسؤولا عمن كفر عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ أي عن أهل النار ، سميت النار جحيما لشدة تأججها. وقيل : الجحيم معظم النار. قوله عز وجل : ١٢٠وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وذلك أنهم كانوا يسألون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الهدنة ويطمعونه أنه إن أمهلهم اتبعوه فأنزل اللّه هذه الآية والمعنى إنك وإن هادنتهم فلا يرجون بها وإنما يطلبون ذلك تعللا ولا يرجون منك إلا باتباع ملتهم. وقال ابن عباس : هذا في أمر القبلة وذلك أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، حين كان يصلي إلى بيت المقدس ، فلما صرف اللّه القبلة إلى الكعبة أيسوا منه أن يوافقهم على دينهم فأنزل اللّه تعالى : وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ يعني إلا باليهودية ، وَلَا النَّصارى يعني إلا بالنصرانية وهذا شيء لا يتصور إذ لا يجتمع في رجل واحد شيئان في وقت واحد وهو قوله : حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ يعني دينهم وطريقتهم قُلْ أي يا محمد إِنَّ هُدَى اللّه يعني دين اللّه الذي هو الإسلام هُوَ الْهُدى أي يصح أن يسمى هدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ يا محمد أَهْواءَهُمْ يعني أهواء اليهود والنصارى ، فيما يرضيهم عنك وقيل : أهواءهم أقوالهم التي هي أهواء وبدع بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي البيان لأن دين اللّه هو الإسلام وأن القبلة هي قبلة إبراهيم عليه السلام وهي الكعبة ما لَكَ مِنَ اللّه مِنْ وَلِيٍّ يعني يلي أمرك ويقوم بك وَلا نَصِيرٍ أي ينصرك ويمنعك من عقابه وقيل : في قوله ولئن اتبعت أهواءهم أنه خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد به أمته ، والمعنى إياكم أخاطب ولكم أؤدب وأنهى فقد علمتم أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم قد جاءكم بالحق والصدق وقد عصيته فلا تتبعوا أنتم أهواء الكافرين. ولئن اتبعتم أهواءهم بعد الذي جاءكم من العلم والبينات ما لكم من اللّه من ولي ولا نصير. ١٢١قوله عز وجل : الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ قال ابن عباس : نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب وكانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون رجلا من الحبشة وثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا الرهب ، وقيل : هم مؤمنو أهل الكتاب مثل عبد اللّه بن سلام وأصحابه. وقيل : هم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خاصة وقيل : هم مؤمنون عامة يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يقرءونه كما أنزل لا يغيرونه ولا يحرّفونه ولا يبدلون ما فيه من نعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. وقيل : معناه يتبعونه حق اتباعه فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويقفون عنده ويكلون علمه إلى اللّه تعالى. وقيل : معناه تدبروه حق تدبره وتفكروا في معانيه وحقائقه وأسراره أُولئِكَ يعني الذين يتلونه حق تلاوته يُؤْمِنُونَ بِهِ أي يصدقون به. فإن قلنا : إن الآية في أهل الكتاب فيكون المعنى إن المؤمن بالتوراة الذي يتلوها حق تلاوتها هو المؤمن بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم لأن في التوراة نعته وصفته. وإن قلنا : إنها نزلت في المؤمنين عامة فظاهر وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي يجحد ما فيه من فرائض اللّه ونبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي خسروا أنفسهم حيث استبدلوا الكفر بالإيمان. قوله عز وجل : ١٢٢يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أي أيادي لديكم وصنعي بكم واستنقاذي إياكم من أيدي عدوكم في نعم كثيرة أنعمت بها عليكم وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي واذكروا تفضيلي إياكم على عالمي زمانكم ، وفي هذه الآية عظة لليهود الذي كانوا في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وكررها في أول السورة وهنا للتوكيد وتذكير النعم ١٢٣وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وفي هذه الآية ترهيب لهم والمعنى يا معشر بني إسرائيل المبدلين كتابي المحرفين له ، خافوا عذاب يوم لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ أي لا يقبل منها فدية ولا يشفع لها شافع وهذا من العام الذي يراد به الخاص كقوله تعالى وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ومعنى الآية ولا تنفعها شفاعة إذا وجب عليها العذاب ولم تستحق سواه. وقيل : إنه رد على اليهود في قولهم إن آباءنا يشفعون لنا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي ولا ناصر لهم ينصرهم من اللّه إذا انتقم منهم ١٢٤قوله عز وجل : وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ إبراهيم اسم أعجمي ومعناه أب رحيم وهو إبراهيم بن تارخ وهو آزر بن ناخور بن شاروع بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام ، وكان مولد إبراهيم بالسوس من أرض الأهواز وقيل : ببابل وقيل بكوثى وهي قرية من سواد الكوفة. وقيل : بحران ولكن أباه نقله إلى أرض بابل وهي أرض نمروذ الجبار. وإبراهيم عليه السلام تعترف بفضله جميع الطوائف قديما ، وحديثا فأما اليهود والنصارى فإنهم مقرون بفضله ويتشرفون بالنسبة إليه وأنهم من أولاده وأما العرب في الجاهلية فإنهم أيضا يعترفون بفضله ويتشرفون على غيرهم به لأنهم من أولاده ، ومن ساكني حرمه وخدام بيته ، ولما جاء الإسلام زاده اللّه شرفا وفضلا فحكى اللّه تعالى عن إبراهيم أمورا توجب على المشركين والنصارى واليهود قبول قول محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، والاعتراف بدينه والانقياد لشرعه لأن ما أوجبه اللّه على إبراهيم عليه السلام هو من خصائص دين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وفي ذلك حجة على اليهود والنصارى ومشركي العرب في وجوب الانقياد لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والإيمان به وتصديقه. وأصل الابتلاء الامتحان والاختبار ليعرف حال الإنسان وسمي التكليف بلاء لأنه يشق على الأبدان. وقيل : ليختبر به حال الإنسان فإذا قيل : ابتلى فلان بكذا يتضمن أمرين : أحدهما تعرف حاله والوقوف على ما يجهل من أمره. والثاني ظهور جودته ورداءته وابتلاء اللّه العباد ليس ليعلم أحوالهم ، والوقوف على ما يجهل منها لأنه عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد. ولكن ليعلم العباد أحوالهم من ظهور جودة ورداءة وعلى هذا ينزل قوله تعالى : وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ. واختلفوا في تلك الكلمات التي ابتلى اللّه بها إبراهيم عليه السلام قال ابن عباس : هي ثلاثون سماهن شرائع الإسلام لم يبتل بها أحد فأقامها كلها إلا إبراهيم فكتب اللّه له البراءة فقال : وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ومعنى هذا الكلام إنه لم يبتل أحد قبل إبراهيم فأما بعده فقد أتى الأنبياء بجميع ما أمروا به من الدين خصوصا ، نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فقد أتى بجميع ما أمر به ، وهي عشرة مذكورة في سورة براءة في قوله : التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الآية وعشرة في سورة الأحزاب في قوله : إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية وعشرة في سورة المؤمنون في قوله : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ الآيات وهي مذكورة أيضا في سورة سأل سائل. وعن ابن عباس أيضا قال : ابتلاه اللّه بعشرة أشياء هن الفطرة خمس في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس وخمس في الجسد تقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء (ق). عن أبي هريرة قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (الفطرة خمس ، وفي رواية خمس من الفطرة الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط) (م) عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك والاستنشاق بالماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء). يعني الاستنجاء قال مصعب : ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. قال وكيع : انتقاص الماء يعني الاستنجاء قال العلماء : الفطرة السنة. وقيل : الملة وقيل : الطريقة وهذه الأشياء المذكورة في الحديث وأنها من الفطرة قيل كانت على إبراهيم عليه السلام فرضا وهي لنا سنة واتفقت العلماء على أنها من الملة وأما معانيها فقد قيل : أما قص الشارب وإعفاء اللحية فمخالفة للأعاجم فإنهم كانوا يقصون لحاهم ، أو يوفرون شواربهم أو يوفرونهما معا ، وذلك عكس الجمال والنظافة وأما السواك والمضمضة والاستنشاق فلتنظيف الفم ، والأنف من الطعام والقلح والوسخ ، وأما قص الأظفار فللجمال ، والزينة فإنها إذا طالت قبح منظرها ، واحتوى الوسخ فيها وأما غسل البراجم وهي العقد التي في ظهور الأصابع فإنه يجتمع فيها الوسخ ويشين المنظر ، وأما حلق العانة ونتف الإبط فللتنظف عما يجتمع من الوسخ في الشعر وأما الاستنجاء ، فلتنظيف ذلك المحل عن الأذى وأما الختان فلتنظيف القلفة ، عما يجتمع فيها من البول. واختلف العلماء في وجوبه فذهب الشافعي إلى أن الختان واجب لأنه تنكشف له العورة ، ولا يباح ذلك إلا في الواجب وذهب غيره إلى أنه سنّة. وأول من ختن إبراهيم عليه السلام ولم يختتن أحد قبله (ق) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (اختتن إبراهيم بالقدوم) يروى القدوم بالتخفيف والتشديد ، فمن خفف ذهب إلى أنه اسم للآلة التي يقطع بها ومن شدد قال : إنه اسم موضع. عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : (كان إبراهيم خليل الرحمن أول الناس ضيف الضيف وأول الناس قص شاربه وأول الناس رأى الشيب. قال : رب ما هذا قال الرب تبارك وتعالى وقارا يا إبراهيم قال يا رب زدني وقارا) أخرجه مالك في الموطأ وقيل : في الكلمات إنها مناسك الحج. وقيل : ابتلاه اللّه بسبعة أشياء بالكوكب والقمر والشمس فأحسن النظر فيهن وبالنار والهجرة وذبح ولده والختان ، فصبر عليها وقيل : إن اللّه اختبر إبراهيم بكلمات أوحاها إليه وأمره أن يعمل بهن فأتمهن أي أداهن حق التأدية ، وقام بموجبهن حق القيام وعمل بهن من غير تفريط وتوان ولم ينتقص منهن شيئا. واختلفوا هل كان هذا الابتلاء قبل النبوة أو بعدها فقيل : كان قبل النبوة بدليل قوله في سياق الآية : إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً والسبب يتقدم على المسبب. وقيل : بل كان هذا الابتلاء بعد النبوة لأن التكليف لا يعلم إلا من جهة الوحي الإلهي وذلك بعد النبوة. والصواب أنه إن فسر الابتلاء بالكوكب والقمر والشمس كان ذلك قبل النبوة ، وإن فسر بما وجب عليه من شرائع الدين كان ذلك بعد النبوة. وقوله تعالى : قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً أي يقتدى بك في الخير ويأتمون بسنّتك وهديك ، والإمام هو الذي يؤتم به قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي قال إبراهيم : واجعل من ذريتي وأولادي أئمة يقتدى بهم قالَ اللّه لا يَنالُ أي لا يصيب عَهْدِي أي نبوتي. وقيل الإمامة الظَّالِمِينَ يعني من ذريتك والمعنى لا ينال ما عاهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالما من ذريتك وولدك. قوله عز وجل : ١٢٥وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ يعني البيت الحرام ، وهو الكعبة ويدخل فيه الحرم فإن اللّه تعالى وصفه بكونه آمنا وهذه صفة جميع الحرم مَثابَةً لِلنَّاسِ أي مرجعا من ثاب يثوب إذا رجع ، والمعنى يثوبون إليه من كل جانب يحجونه وَأَمْناً أي موضعا ذا أمن يؤمنون فيه من أذى المشركين فإنهم كانوا لا يتعرضون لأهل مكة. ويقولون : هم أهل اللّه. وقال ابن عباس : معاذا وملجأ (ق) عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم فتح مكة : (إن هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة اللّه تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاه فقال العباس : يا رسول اللّه إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم فقال : إلا الإذخر). معنى الحديث : أنه لا يحل لأحد أن ينصب القتال والحرب في الحرم وإنما أحل ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم فتح مكة فقط ولا يحل لأحد بعده. قوله : لا يعضد شوكه أي لا يقطع شوك الحرم وأراد به ما لا يؤذي منه أما ما يؤذي منه كالعوسج فلا بأس بقطعه. قوله : ولا ينفر صيده أي لا يتعرض له بالاصطياد ولا يهاج. قوله : ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها أي ينشدها. والنشد رفع الصوت بالتعريف. واللقطة في جميع الأرض لا تحل إلا لمن يعرفها حولا فإن جاء صاحبها أخذها. وإلا انتفع بها الملتقط بشرط الضمان. وحكم مكة في اللقطة أن يعرفها على الدوام بخلاف غيرها من البلاد فإنه محدود بسنة. قوله : ولا يختلى خلاه. الخلي مقصور الرطب من النبات الذي يرعى وقيل : هو اليابس من الحشيش وخلاه قطعه. وقول : لقينهم القين الحداد وقوله تعالى : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى قيل : الحرم كله مقام إبراهيم ، وقيل : أراد بمقام إبراهيم جميع مشاهد الحج مثل عرفة والمزدلفة والرمي وسائر المشاهد ، والصحيح أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة ، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت ، وقيل : كان أثر أصابع رجلي إبراهيم عليه السلام فيه فاندرست بكثرة المسح بالأيدي وقيل : إنما أمروا بالصلاة عنده ولم يؤمروا بمسحه وتقبيله (ق) عن أنس بن مالك قال قال عمر : (وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فنزلت : (و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى) الحديث. وكان بدء قصة المقام على ما رواه البخاري في صحيحه ، عن ابن عباس قال : أول ما اتخذت النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم من أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هناك ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل. فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء فقالت له : ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له : اللّه أمرك بهذا قال : نعم قالت إذا لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه وقال ربنا : إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع حتى بلغ يشكرون وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت ، وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال : يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى بلغت الوادي ، ورفعت طرف درعها وسعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ، فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس : قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلذلك سعى الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت يا من قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول : بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها ، وهو يفور بعد ما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يرحم اللّه أم إسماعيل لو تركت زمزم ، أو قال : لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا. قال : فشربت وأرضعت ولدها. فقال : لها الملك لا تخافي الضيعة ، فإن هاهنا بيتا للّه يبتنيه هذا الغلام ، وأبوه وإن اللّه لا يضيع أهله ، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية ، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله فكانت كذلك ، حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء ، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء ، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك قالت : نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا : نعم. قال ابن عباس قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فألقى ذلك أم إسماعيل ، وهي تحب الأنس فأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم ، وشب الغلام وتعلم العربية منهم ، وآنسهم وأعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم ، وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته ، فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا وفي رواية ذهب يصيد لنا ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بشر نحن في ضيق وشدة وشكت إليه فقال إذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام وقولي له : يغير عتبة بابه فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا فقال : هل جاءكم من أحد؟ قالت : نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد ، وشدة فقال : هل أوصاك بشيء قالت : نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول لك غير عتبة بابك قال ذلك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك فطلقها ، وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء اللّه أن يلبث ، ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسأل عنه. فقالت : خرج يبتغي لنا ، قال : كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بخير وسعة وأثنت على اللّه عز وجل فقال : وما طعامكم؟ قالت اللحم قال : وما شرابكم قالت : الماء قال : اللّهم بارك لهم في اللحم والماء قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم حب دعا لهم فيه ، قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه وفي رواية فجاء فقال : أين إسماعيل؟ فقالت امرأته : قد ذهب يصيد ، فقالت امرأته : ألّا تنزل عندنا فتطعم وتشرب. قال : وما طعامكم وشرابكم قالت : طعامنا اللحم وشرابنا الماء قال اللّهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم. قال : فقال أبو القاسم بركة دعوة إبراهيم. قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه أن يثبت عتبة بابه فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد؟ قالت : نعم أتانا شيخ حسن الهيئة ، وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير قال فأوصاك بشيء قالت : نعم يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك فقال : ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك ثم لبث عنهم ما شاء اللّه ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم ، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ، ثم قال : يا إسماعيل إن اللّه أمرني بأمر قال : فاسمع ما أمرك ربك ، قال : وتعينني قال وأعينك قال : فإن اللّه أمرني أن أبني بيتا هاهنا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها فعند ذلك رفع القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاءه بهذا الحجر فوضعه له ، فقام إبراهيم عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم : وفي رواية حتى إذا ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام ، فجعل يناوله الحجارة ويقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وقيل : إن امرأة إسماعيل قالت لإبراهيم : انزل اغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بالمقام فوضعته عند شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولته إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدميه عليه. عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس اللّه نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب) أخرجه الترمذي. وقال هذا يروى عن ابن عمر موقوفا. واختلفوا في قوله : مصلى فمن فسر المقام بمشاهد الحج ومشاعره قال مصلّى مدعى من الصلاة التي هي الدعاء ، ومن فسر المقام بالحجر قال معناه واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى قبلة ، أمروا بالصلاة عنده وهذا القول هو الصحيح ، لأن لفظ الصلاة إذا أطلق لا يعقل منه إلا الصلاة المعهودة ذات الركوع والسجود ، ولأن مصلى الرجل هو الموضع الذي يصلي فيه وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أي أمرناهما وألزمناهما وأوجبنا عليهما. قيل : إنما سمي إسماعيل لأن إبراهيم كان يدعو اللّه أن يرزقه ولدا ، ويقول في دعائه : اسمع يا إيل وإيل بلسان السريانية هو اللّه. فلما رزق الولد سماه به أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ يعني الكعبة أضافه إليه تشريفا وتفضيلا وتخصيصا ، أي ابنياه على الطهارة والتوحيد ، وقيل طهراه من سائر الأقذار والأنجاس ، وقيل طهراه من الشرك والأوثان وقول الزور لِلطَّائِفِينَ يعني الدائرين حوله وَالْعاكِفِينَ يعني المقيمين به والمجاورين له وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ جمع راكع وساجد وهم المصلون وقيل : الطائفين يعني الغرباء الواردين إلى مكة والعاكفين يعني أهل مكة المقيمين بها. قيل : إن الطواف للغرباء أفضل والصلاة لأهل مكة بمكة أفضل. قوله عز وجل : ١٢٦وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا إشارة إلى مكة وقيل إلى الحرم بَلَداً آمِناً أي ذا أمن يأمن فيه أهله ، وإنما دعا إبراهيم له بالأمن لأنه بلد ليس فيه زرع ولا ثمر فإذا لم يكن آمنا ، لم يجلب إليه شيء من النواحي فيتعذر المقام به. فأجاب اللّه تعالى دعاء إبراهيم وجعله بلدا آمنا فما قصده جبار إلا قصمه اللّه تعالى كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم من الجبابرة. فإن قلت : قد غزا مكة الحجاج وخرب الكعبة قلت لم يكن قصده بذلك مكة ولا أهلها ولا إخراب الكعبة ، وإنما كان قصده خلع ابن الزبير من الخلافة ولم يتمكن من ذلك إلا بذلك فلما حصل قصده أعاد بناء الكعبة فبناها وشيدها وعظم حرمتها وأحسن إلى أهلها. واختلفوا هل كانت مكة محرمة قبل دعوة إبراهيم عليه السلام أو حرمت بدعوته على قولين : أحدهما أنها كانت محرمة قبل دعوته بدليل قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (إن اللّه حرم مكة يوم خلق السموات والأرض) وقول إبراهيم عليه السلام : (إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) فهذا يقتضي أن مكة كانت محرمة قبل دعوة إبراهيم. القول الثاني : أنها إنما حرمت بدعوة إبراهيم بدليل قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة) وهذا يقتضي أن مكة كانت قبل دعوة إبراهيم حلالا كغيرها من البلاد ، وإنما حرمت بدعوة إبراهيم ، ووجه الجمع بين القولين وهو الصواب أن اللّه تعالى حرم مكة يوم خلقها كما أخبر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله : (إن اللّه حرم مكة يوم خلق السموات والأرض) ولكن لم يظهر ذلك التحريم على لسان أحد من أنبيائه ورسله ، وإنما كان تعالى يمنعها ممن أرادها بسوء ، ويدفع عنها وعن أهلها الآفات والعقوبات فلم يزل ذلك من أمرها حتى بوأها اللّه تعالى إبراهيم وأسكن بها أهله فحينئذ سأل إبراهيم ربه عز وجل أن يظهر تحريم مكة لعباده على لسانه فأجاب اللّه تعالى دعوته ، وألزم عباده تحريم مكة فصارت مكة حراما بدعوة إبراهيم ، وفرض على الخلق تحريمها والامتناع من استحلالها واستحلال صيدها وشجرها فهذا وجه الجمع بين القولين وهو الصواب ، واللّه أعلم وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ إنما سأل إبراهيم ذلك لأن مكة لم يكن بها زرع ولا ثمر فاستجاب اللّه تعالى له وجعل مكة حرما آمنا يجبي إليه ثمرات كل شيء مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني ارزق المؤمنين من أهله خاصة. وسبب هذا التخصيص أن إبراهيم عليه السلام لما سأل ربه عز وجل أن يجعل النبوة والإمامة في ذريته فأجابه اللّه بقوله : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ صار ذلك تأديبا له في المسألة ، فلا جرم خص هاهنا بدعائه المؤمنين دون الكافرين ثم أعلمه أن الرزق في الدنيا يستوي فيه المؤمن والكافر بقوله : قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ أي سأرزق الكافر أيضا قَلِيلًا أي في الدنيا إلى منتهى أجله وذلك قليل لأنه ينقطع ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ أي ألجئه وأكرهه وأدفعه إلى عذاب النار ، والمضطر هو الذي لا يملك لنفسه الامتناع مما اضطر إليه وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي وبئس المكان الذي يصير إليه الكافر وهو العذاب. ١٢٧قوله تعالى : وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ وكانت قصة بناء البيت على ما ذكره العلماء ، وأصحاب السير أن اللّه تعالى خلق موضع البيت قبل أن يخلق الأرض بألفي عام فكانت زبدة بيضاء على وجه الماء ، فدحيت الأرض من تحتها فلما أهبط اللّه آدم إلى الأرض استوحش فشكا إلى اللّه تعالى ، فأنزل البيت المعمور وهو من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر باب شرقي ، وباب غربي فوضعه على موضع البيت ، وقال يا آدم إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي ، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي وأنزل اللّه عليه الحجر الأسود ، وكان أبيض فاسودّ من مس الحيض في الجاهلية فتوجه آدم من الهند ماشيا إلى مكة ، وأرسل اللّه إليه ملكا يدله على البيت فحج آدم البيت وأقام المناسك ، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا له برّ حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. قال ابن عباس : حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أيام الطوفان فرفعه اللّه إلى السماء الرابعة ، وهو البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه ، وبعث اللّه جبريل حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له ، من الغرق فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم عليه السلام. ثم إن اللّه تعالى أمر إبراهيم بعد ما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيت يذكر فيه ويعبد فسأل اللّه أن يبين له موضعه ، فبعث اللّه السكينة لتدله على موضع البيت وهي ريح خجوج لها رأسان تشبه الحية ، والخجوج من الرياح هي الشديدة السريعة الهبوب وقيل : هي المتلوية في هبوبها ، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فتبعها إبراهيم ، حتى أتت موضع البيت فتطوقت عليه كتطويق الحجفة ، وقال ابن عباس : بعث اللّه سبحانه وتعالى سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير ، وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وقفت على موضع البيت ، ونودي منها يا إبراهيم ابن على قدر ظلها لا تزد ولا تنقص. وقيل : إن الريح كنست له ما حول الكعبة حتى ظهر له أساس البيت الأول فذلك قوله تعالى : وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت فكان إبراهيم يبنيه ، وإسماعيل يناوله الحجارة فذلك قوله تعالى : وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ جمع قاعدة وهي أس البيت. وقيل جدرة من البيت. قال ابن عباس : بنى إبراهيم البيت من خمسة أجبل : من طور سيناء وطور زيتا ولبنان جبل بالشام والجودي جبل بالجزيرة ، وبنى قواعده من حراء جبل بمكة فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل : ائتني بحجر حسن يكون للناس علما فأتاه بحجر فقال ائتني بأحسن منه فمضى إسماعيل ليطلب حجرا أحسن منه فصاح أبو قبيس : يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها فقذف بالحجر الأسود فأخذه إبراهيم فوضعه مكانه وقيل : إن اللّه أمد إبراهيم وإسماعيل بسبعة أملاك يعينونهما في بناء البيت فلما فرغا من بنائه قالا : رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا وفي الآية إضمار تقديره ويقولان ربنا تقبل منا أي ما عملنا لك ، وتقبل طاعتنا إياك وعبادتنا لك إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ أي لدعائنا الْعَلِيمُ يعني بنياتنا. قوله عز وجل : ١٢٨رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ يعني موحدين مخلصين مطيعين خاضعين لك. فإن قلت : الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد أو الاستسلام والانقياد وقد كانا كذلك حالة هذا الدعاء فما فائدة هذا الطلب؟ قلت فيه وجهان أحدهما أن الإسلام عرض قائم بالقلب وقد لا يبقى ، فقوله : واجعلنا مسلمين لك يعني في المستقبل وذلك لا ينافي حصوله في الحال. الوجه الثاني يحتمل أن يكون المراد منه طلب الزيادة في الإيمان فكأنهما طلبا زيادة اليقين والتصديق وذلك لا ينافي حصوله في الحال وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أي من أولادنا أُمَّةً أي جماعة مُسْلِمَةً أي خاضعة منقادة لَكَ وإنما أدخل من التي هي للتبعيض لأن اللّه تعالى أعلمهما بقوله : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ إن في ذريتهما الظالم فلهذا خص بعض الذرية بالدعاء. فإن قلت : لم خص ذريتهما بالدعاء. قلت : لأنهم أحق بالشفقة والنصيحة ، قال اللّه تعالى : قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم ألا ترى أن المتقدمين من العلماء والكبراء : إذا كانوا على السداد كيف يتسببون لسداد من وراءهم. وقيل : أراد بالأمة أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بدليل قوله تعالى : وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وَأَرِنا أي علمنا وبصرنا مَناسِكَنا أي شرائع ديننا وأعلام حجنا ، وقيل : مناسكنا يعني مذابحنا والنسك الذبيحة ، وقيل متعبداتنا وأصل النسك العبادة والناسك العابد فأجاب اللّه دعاءهما وبعث جبريل فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغ عرفات قال : عرفت يا إبراهيم. قال إبراهيم : نعم فسمي ذلك الوقت عرفة والموضع عرفات وَتُبْ عَلَيْنا أي تجاوز عنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ أي المتجاوز عن عباده الرَّحِيمُ بهم واحتج بقوله (و تب علينا) من جوز الذنوب على الأنبياء. ووجهه أن التوبة لا تطلب من اللّه إلّا بعد تقدم الذنب فلو لا تقدم الذنب لم يكن لطلب التوبة وجه. وأجيب عنه بأن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه عز وجل فإنه لا ينفك عن تقصير في بعض الأوقات. أما على سبيل السهو أو ترك الأولى والأفضل ، وكان هذا الدعاء لأجل ذلك ، وقيل : يحتمل أن اللّه تعالى لما أعلم إبراهيم أن في ذريته من ظالم فلا جرم سأل ربه التوبة لأولئك الظلمة ، والمعنى وتب على الظلمة من أولادنا حتى يرجعوا إلى طاعتك فيكون ظاهر الكلام الدعاء لأنفسهما والمراد به ذريتهما. وقيل : يحتمل أنهما لما رفعا قواعد البيت وكان ذلك المكان أحرى الأماكن بالإجابة دعوا اللّه بذلك الدعاء ليجعلا ذلك سنة وليقتدى من بعدهما في ذلك الدعاء لأن ذلك المكان هو موضع التنصل من الذنوب وسؤال التوبة والمغفرة من اللّه تعالى. ١٢٩قوله عز وجل : رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يعني وابعث في الأمة المسلمة أو الذرية وهم العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. وقوله : رسولا منهم يعني ليدعوهم إلى الإسلام ويكمل الدين والشرع ، وإذا كان الرسول منهم يعرفون نسبه ومولده ومنشأه كان أقرب لقبول قوله ويكون هو أشفق عليهم من غيره ، وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله (رسولا منهم) هو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لأن إبراهيم عليه السلام إنما دعا لذريته وهو بمكة ولم يبعث من ذريته بمكة غير محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فدل على أن المراد به محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وروى البغوي بإسناده عن العرباض بن سارية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إني عند اللّه مكتوب خاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم بأول أمري أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني ، وقد خرج لها نور ساطع أضاءت لها منه قصور الشام) وقوله : لمنجدل في طينته معناه أنه مطروح على وجه الأرض صورة من طين لم تجر فيه الروح وأراد بدعوة إبراهيم قوله : رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ، فاستجاب اللّه دعاء إبراهيم وبعث محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم في آخر الزمان وأنقذهم به من الكفر والظلم وأراد ببشارة عيسى عليه السلام قوله في سورة الصف : وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ أي يقرأ عليهم آياتِكَ يعني ما توحيه إليه وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لأن الذي كان يتلوه عليهم هو القرآن فوجب حمله عليه وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ يعني معاني الكتاب وحقائقه لأن المقصود الأعظم تعليم ما في القرآن من دلائل التوحيد والنبوة والأحكام الشرعية فلما ذكر اللّه تعالى أولا أمر التلاوة ، وهي حفظ القرآن ودراسته ليبقى مصونا عن التحريف ، والتبديل ذكر بعده تعليم حقائقه وأسراره وَالْحِكْمَةَ أي ويعلمهم الحكمة وهي الإصابة في القول والعمل ولا يسمى الرجل حكيما إلّا إذا اجتمع فيه الأمران. وقيل : الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ وذلك إنما يكون بما ذكرناه من الإصابة في القول والعمل ووضع كل شيء موضعه ، وقيل الحكمة معرفة الأشياء بحقائقها. واختلف المفسرون في المراد بالحكمة هاهنا فروى ابن وهب قال : قلت لمالك ما الحكمة. قال : المعرفة بالدين والفقه فيه والاتباع له. وقال قتادة : الحكمة هي السنة وذلك لأن اللّه تعالى ذكر تلاوة الكتاب وتعليمه ثم عطف عليه الحكمة فوجب أن يكون المراد بها شيئا آخر وليس ذلك إلّا السنة. وقيل الحكمة : هي العلم بأحكام اللّه تعالى التي لا يدرك علمها إلّا ببيان الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم والمعرفة بها منه. وقيل الحكمة : هي الفصل بين الحق والباطل. وقيل : هي معرفة الأحكام والقضاء وقيل : هي فهم القرآن ، والمعنى ويعلمهم ما في القرآن من الأحكام والحكمة وهي ما فيه من المصالح الدينية والأحكام الشرعية. وقيل : كل كلمة وعظتك أودعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وَيُزَكِّيهِمْ أي ويطهرهم من الشرك وعبادة الأوثان ، وسائر الأرجاس والرذائل والنقائص ، وقيل : يزكيهم من التزكية أي يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة ، إذا شهدوا للأنبياء بالبلاغ ثم ختم إبراهيم الدعاء بالثناء على اللّه تعالى فقال إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ قال ابن عباس : العزيز الذي لا يوجد مثله. وقيل : هو الذي يقهر ولا يقهر وقيل هو المنيع الذي لا تناله الأيدي ، وقيل العزيز القوي والعزة القوة من قولهم أرض عزاز أي صلبة قوية الْحَكِيمُ أي العالم الذي لا تخفى عليه خافية ، وقيل هو العالم بالأشياء وإيجادها على غاية الإحكام. قوله عز وجل : ١٣٠وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ سبب نزول هذه الآية أن عبد اللّه بن سلام دعا ابني أخيه إلى الإسلام مهاجرا وسلمة ، وقال لهما : قد علمتما أن اللّه تعالى قال في التوراة إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون ، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فأنزل اللّه تعالى : وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ أي يترك دينه وشريعته ، وفيه تعريض باليهود والنصارى ومشركي العرب لأن اليهود والنصارى يفتخرون بالانتساب إلى إبراهيم والوصلة إليه ، لأنهم من بني إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، والعرب يفتخرون به لأنهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم وإذا كان كذلك كان إبراهيم هو الذي طلب بعثة هذا الرسول في آخر الزمان فمن رغب عن الإيمان بهذا الرسول الذي هو دعوة إبراهيم فقد رغب عن ملة إبراهيم ومعنى يرغب عن ملة إبراهيم أي يترك دينه وشريعته يقال : رغب في الشيء إذا أراده ورغب عنه إذا تركه إلّا من سفه نفسه قال ابن عباس : خسر نفسه وقيل : أهلك نفسه وقيل : امتهنها واستخف بها وأصل السفه الخفة. وقيل : الجهل وضعف الرأي فكل سفيه جاهل لأن من عبد غير اللّه فقد جهل نفسه لأنه لم يعترف بأن اللّه خالقها وقد جاء (من عرف نفسه فقد عرف ربه) ومعناه : أن يعرف نفسه بالذل والعجز والضعف والفناء ، ويعرف ربه بالعز والقدرة والقوة والبقاء ويدل على هذا أن اللّه تعالى أوحى إلى داود عليه السلام اعرف نفسك واعرفني قال : يا رب وكيف أعرف نفسي وكيف أعرفك؟ قال : اعرف نفسك بالعجز والضعف والفناء واعرفني بالقوة والقدرة والبقاء وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ أي اخترناه فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ يعني الفائزين وقيل : مع الأنبياء في الجنة ١٣١إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ أي استقم على الإسلام واثبت عليه لأنه كان مسلما لأن الأنبياء إنما نشئوا على الإسلام والتوحيد ، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما : قال له ذلك حين خرج من السرب وذلك عند استدلاله بالكواكب والشمس والقمر واطلاعه على أمارات الحدوث فيها ، وافتقارها إلى محدث مدبر فلما عرف ذلك قال له ربه : أسلم قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي قال إبراهيم : خضعت بالطاعة وأخلصت العبادة لمالك الخلائق ومدبرها ومحدثها. وقيل : معنى أسلم أخلص دينك وعبادتك للّه واجعلها سليمة. وقيل : الإيمان من صفات القلب والإسلام من صفات الجوارح وإن إبراهيم كان مؤمنا بقلبه عارفا باللّه فأمره اللّه أن يعمل بجوارحه وقيل : معناه أسلم نفسك إلى اللّه تعالى وفوض أمرك إليه. قال : أسلمت أي فوضت أمري لرب العالمين. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما : وقد حقق ذلك حيث لم يستعن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار. قوله عز وجل : ١٣٢وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ يعني بكلمة الإخلاص ، وهي لا إله إلّا اللّه. وقيل هي الملة الحنيفية وكان لإبراهيم ثمانية أولاد إسماعيل وأمه هاجر القبطية وإسحاق وأمه سارة ومدين ومدان ويقنان وزمران وشيق وشوخ وأمهم قطورا بنت يقطن الكنعانية تزوجها إبراهيم حين وفاة سارة ، فإن قلت ، لم قال : وصى بها إبراهيم بنيه ولم يقل أمرهم؟. قلت : لأن لفظ الوصية أوكد من لفظ الأمر لأن الوصية إنما تكون عند الخوف من الموت وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لولده أشد وأعظم ، وكانوا هم إلى قبول وصيته أقرب وإنما خص بنيه بهذه الوصية لأن شفقة الرجل على بنيه أكثر من شفقته على غيرهم. وقيل : لأنهم كانوا أئمة يقتدى بهم فكان صلاحهم صلاحا لغيرهم وَيَعْقُوبُ أي ووصى يعقوب بمثل ما وصي به إبراهيم ، وسمي يعقوب لأنه هو والعيص كانا توأمين في بطن واحد فتقدم العيص وقت الولادة في الخروج من بطن أمه وخرج يعقوب على أثره آخذا بعقبه قال ابن عباس : وقيل سمي يعقوب لكثرة عقبه وكان له من الولد اثنا عشر وهم : روبيل وشمعون ولاوى ويهوذا وربالون ويشجرودان ونفتالى وجاد وآشر ويوسف وبنيامين ، ثم خاطب يعقوب بنيه فقال يا بَنِيَّ إِنَّ اللّه اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ أي اختار لكم دين الإسلام فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي مؤمنون مخلصون فالمعنى دوموا على إسلامكم حتى يأتيكم الموت وأنتم مسلمون لأنه لا يعلم في أي وقت يأتي الموت على الإنسان. وقيل : في معنى وأنتم مسلمون أي محسنون الظن باللّه عز وجل يدل عليه ما روي عن جابر قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل موته بثلاثة أيام يقول : (لا يموتن أحدكم إلّا وهو يحسن الظن بربه) أخرجاه في الصحيحين. ١٣٣قوله عز وجل : أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ جمع شهيد بمعنى الحاضر أي ما كنتم حاضرين إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ أي حين احتضر وقرب من الموت نزلت في اليهود ، وذلك لأنهم قالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم إن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية فأنزل اللّه تعالى هذه الآية تكذيبا لهم ، والمعنى أم كنتم يا معشر اليهود شهودا على يعقوب إذ حضره الموت ، أي إنكم لم تحضروا ذلك فلا تدّعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل وتنسبوهم إلى اليهودية فإني ما ابتعثت خليلي إبراهيم ، وولده وأولادهم إلّا بدين الإسلام ، وبذلك وصوا أولادهم وبه عهدوا إليهم ثم بين ما قال يعقوب لبنيه فقال تعالى : إِذْ قالَ يعني يعقوب لِبَنِيهِ يعني لأولاده الاثني عشر ما تَعْبُدُونَ أي أي شيء تعبدون مِنْ بَعْدِي قيل إن اللّه تعالى لم يقبض نبيا حتى يخيره : بين الحياة والموت ، فلما خير يعقوب وكان قد رأى أهل مصر يعبدون الأوثان والنيران فقال انظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم فأمهله فجمع ولده وولد ولده قال لهم قد حضر أجلي ما تعبدون من بعدي؟ قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إنما قدم إسماعيل لأنه كان أكبر من إسحاق وأدخله في جملة الآباء وإن كان عما لهم لأن العرب تسمي العم أبا والخالة أمّا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (عم الرجل صنو أبيه) وقال في عمه العباس (ردوا عليّ أبي) إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مخلصون العبودية ١٣٤تِلْكَ إشارة إلى الأمة المذكورة ، يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ أي مضت لسبيلها والمعنى يا معشر اليهود والنصارى دعوا ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق والمسلمين من أولادهم ، ولا تقولوا عليهم ما ليس فيهم لَها ما كَسَبَتْ يعني من العمل وَلَكُمْ يعني يا معشر اليهود والنصارى ما كَسَبْتُمْ أي من العمل وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ يعني كل فريق يسأل عن عمله لا عن عمل غيره. ١٣٥قوله عز وجل : وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قال ابن عباس : نزلت في رؤساء اليهود : كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وأبي ياسر بن أخطب وفي نصارى نجران السيد ، والعاقب وأصحابهما ، وذلك أنهم خاصموا المؤمنين في الدين ، فكل فريق منهم يزعم أنه أحق بدين اللّه فقالت اليهود : نبينا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن وقالت النصارى كذلك ، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين : كونوا على ديننا فلا دين إلّا ذلك فأنزل اللّه عز وجل : قُلْ يعني يا محمد بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ يعني إذا كان لا بد من الاتباع فنتبع ملة إبراهيم لأنه مجمع على فضله حَنِيفاً أصله من الحنف وهو ميل واعوجاج يكون في القدم ، قال ابن عباس : الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ، قال الشاعر : ولكنا خلقنا إذ خلقنا حنيفا ديننا عن كل دين والعرب تسمي كل من حج أو اختتن حنيفا تنبيها على أنه على دين إبراهيم ، وقيل : الحنيفية الختان وإقامة المناسك مسلما ، يعني أن الحنيفية هي دين الإسلام وهو دين إبراهيم عليه السلام وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني إبراهيم وفيه تعريض لليهود والنصارى وغيرهم ممن يدعي اتباع ملة إبراهيم وهو على الشرك ، ثم علم المؤمنين طرائق الإيمان فقال تعالى : ١٣٦قُولُوا آمَنَّا بِاللّه يعني قولوا أيها المؤمنون لهؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لكم : كونوا هودا أو نصارى تهتدوا : آمنا باللّه أي صدقنا باللّه وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا يعني القرآن وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ يعني وآمنا بما أنزل إلى إبراهيم وهو عشر صحائف وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر واحدهم سبط وكانوا أنبياء ، وقيل : السبط هو ولد الولد وهو الحافد ومنه قيل : للحسن والحسين سبطا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب من بني إسماعيل وكان في الأسباط أنبياء وَما أُوتِيَ مُوسى يعني التوراة وَعِيسى يعني الإنجيل وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ والمعنى آمنا أيضا بالتوراة والإنجيل والكتب التي أوتي جميع النبيين وصدقنا أن ذلك كله حق وهدى ونور وأن الجميع من عند اللّه وأن جميع ما ذكر اللّه من أنبيائه كانوا على هدى وحق لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض وكما تبرأت اليهود من عيسى ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأقرت ببعض الأنبياء وكما تبرأت النصارى من محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأقرت ببعض الأنبياء بل نؤمن بكل الأنبياء وأن جميعهم كانوا على حق وهدى وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي ونحن للّه تعالى خاضعون بالطاعة مذعنون له بالعبودية (خ) عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم. قُولُوا آمَنَّا بِاللّه وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا. الآية. ١٣٧قوله عز وجل : فَإِنْ آمَنُوا يعني اليهود والنصارى بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ أي بما آمنتم به ومثل صلة فهو كقوله : (ليس كمثله شي ء) أي ليس مثله شيء وقيل : فإن أتوا بإيمان كإيمانكم وتوحيد كتوحيدكم فَقَدِ اهْتَدَوْا والمعنى إن حصلوا دينا آخر يساوي هذا الدين في الصحة ، والسداد فقد اهتدوا ولكن لما استحال أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في الصحة والسداد استحال الاهتداء بغيره لأن هذا الدين مبناه على التوحيد والإقرار بكل الأنبياء وما أنزل إليهم وقيل معناه فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم فقد اهتدوا وَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي في خلاف ومنازعة وقيل : في عداوة ومحاربة وقيل : في ضلال ، وأصله من الشق كأنه صار في شق غير شق صاحبه بسبب عداوته وقيل هو من المشقة لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّه أي يكفيك اللّه يا محمد شر اليهود والنصارى وهو ضمان من اللّه تعالى لإظهار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، لأنه إذا تكفّل بشيء أنجزه وهو إخبار بغيب نفيه معجزة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقد أنجز اللّه وعده بقتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير وضرب الجزية على اليهود والنصارى وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بأحوالهم يسمع جميع ما ينطقون به ، ويعلم جميع ما يضمرون من الحسد ، والغل وهو مجازيهم ، ومعاقبهم عليه. قوله عز وجل : ١٣٨صِبْغَةَ اللّه قال ابن عباس : دين اللّه وإنما سماه اللّه صبغة لأن أثر الدين يظهر على المتدين كما يظهر أثر الصبغ على الثوب وقيل : فطرة اللّه وقيل : سنة اللّه وقيل : أراد به الختان لأنه يصبغ المختتن بالدم قال ابن عباس : إن النصارى إذا ولد لأحدهم مولود وأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر يسمونه ماء المعمودية وصبغوه به ليطهروه به مكان الختان ، فإذا فعلوا ذلك به قالوا الآن صار نصرانيا حقا ، فأخبر اللّه أن دينه الإسلام لا ما تفعله النصارى وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً أي دينا وقيل تطهيرا لأنه يطهر من أوساخ الكفر وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ أي مطيعون ١٣٩قُلْ يعني يا محمد لليهود والنصارى الذين قالوا إن دينهم خير من دينكم وأمروكم باتباعهم أَتُحَاجُّونَنا فِي اللّه أي أتخاصموننا وتجادلوننا في دين اللّه الذي أمرنا أن نتدين به والمحاجة المجادلة لإظهار الحجة ، وذلك أنهم قالوا : إن ديننا أقدم من دينكم وإن الأنبياء منا وعلى ديننا فنحن أولى باللّه منكم ، فأمر اللّه تعالى المؤمنين أن يقولوا لهم : أتحاجوننا في اللّه وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أي ونحن وأنتم في اللّه سواء فإنه ربنا وربكم وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ يعني أن لكل أحد جزاء عمله وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أي مخلصو الطاعة والعبادة له وفيه توبيخ لليهود والنصارى والمعنى وأنتم به مشركون. والإخلاص أن يخلص العبد دينه ، وعمله للّه تعالى فلا يشرك في دينه ولا يرائي بعمله ، قال الفضيل بن عياض : ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك اللّه منهما وهذه الآية منسوخة بآية السيف. ١٤٠قوله عز وجل : أَمْ تَقُولُونَ يعني اليهود والنصارى وهو استفهام ومعناه التوبيخ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى يعني أتزعمون أن إبراهيم وبنيه كانوا على دينكم وملتكم وإنما حدثت اليهودية والنصرانية بعدهم فثبت كذبكم يا معشر اليهود والنصارى على إبراهيم وبنيه قُلْ يا محمد أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ يعني بدينهم أَمِ اللّه؟ أي اللّه أعلم بذلك. وقد أخبر أن إبراهيم وبنيه لم يكونوا على اليهودية والنصرانية ولكن كانوا مسلمين حنفاء وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ يعني أخفى شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّه وهي علمهم بأن إبراهيم وبنيه كانوا مسلمين وأن محمدا أحق بنعته وصفته وجدوا ذلك في كتبهم وكتموه وجحدوه ، والمعنى ومن أظلم ممن كتم شهادة جاءته من عند اللّه فكتمها وأخفاها وَمَا اللّه بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ يعني من كتمانكم الحق فيما ألزمكم به في كتابه من أن إبراهيم وبنيه كانوا مسلمين حنفاء. وأن الدين هو الإسلام لا اليهودية والنصرانية ، والمعنى وما اللّه غافل عن عملكم بل هو محصيه عليكم ثم يعاقبكم عليه في الآخرة. ١٤١تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ يعني إبراهيم وبنيه لَها ما كَسَبَتْ أي جزاء ما كسبت وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ أي جزاء ما كسبتم وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ يعني أن كل إنسان إنما يسأل يوم القيامة عن كسبه وعمله لا عن كسب غيره وعمله ، وفيه وعظ وزجر لليهود ولمن يتكل على فضل الآباء ، وشرفهم أي لا تتكلوا على فضل الآباء فكل يؤخذ بعمله وإنما كررت هذه الآية لأنه إذا اختلف مواطن الحجاج ، والمجادلة حسن تكريره للتذكير به وتأكيده. وقيل : إنما كرره تنبيها لليهود لئلا يغتروا بشرف آبائهم. ١٤٢قوله عز وجل : سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ أي الجهال من الناس والسفه خفة في النفس لنقصان العقل في الأمور الدينية والدنيوية ، ولا شك أن ذلك في باب الدين أعظم لأن العادل عن الأمر الواضح في أمر دنياه يعد سفيها ، فمن كان كذلك في أمر دينه ، كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلّا وهو سفيه ولهذا أمكن حمل هذا اللفظ على اليهود والمشركين ، والمنافقين فقيل : نزلت هذه الآية في اليهود وذلك أنهم طعنوا في تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة لأنهم لا يرون النسخ. وقيل : نزلت في مشركي مكة وذلك أنهم قالوا قد تردد على محمد أمره واشتاق مولده ، وقد توجه إلى نحو بلدكم فلعله يرجع إلى دينكم وقيل نزلت في المنافقين وإنما قالوا ذلك استهزاء بالإسلام وقيل : يحتمل أن لفظ السفهاء للعموم فيدخل فيه جميع الكفار والمنافقين واليهود ويحتمل وقوع هذا الكلام من كلهم إذ لا فائدة في التخصيص ، ولأن الأعداء يبالغون في الطعن والقدح فإذا وجدوا مقالا قالوا أو مجالا جالوا ما وَلَّاهُمْ يعني أي شيء صرفهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها يعني بيت المقدس ، والقبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان وإنما سميت قبلة لأن المصلي يقابلها وتقابله ولما قال السفهاء ذلك رد اللّه تعالى عليهم بقوله : قُلْ يا محمد للّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يعني أن له قطري المشرق والمغرب وما بينهما ملكا فلا يستحق شيء أن يكون لذاته قبلة لأن الجهات كلها شيء واحد ، وإنما تصير قبلة لأن اللّه تعالى هو الذي جعلها قبلة فلا اعتراض عليه وهو قوله : يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يعني من عباده إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني إلى جهة الكعبة وهي قبلة إبراهيم عليه السلام. ١٤٣قوله عز وجل : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً الكاف في قوله وكذلك كاف التشبيه جاء لمشبه به وفيه وجوه أحدها أنه معطوف على ما تقدم من قوله في حق إبراهيم : ولقد اصطفيناه في الدنيا ، وكذلك جعلناكم أمة وسطا الثاني أنه معطوف على قوله : يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وكذلك هديناكم وجعلنا قبلتكم وسطا بين المشرق والمغرب كذلك جعلناكم أمة وسطا يعني عدولا خيارا ، وخير الأمور أوسطها ، قال زهير : هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم وقيل : متوسطة والمعنى أهل دين وسط بين الغلو والتقصير ، لأنهما مذمومان في أمر الدين لا كغلو النصارى في عيسى ، ولا كتقصير اليهود في الدين وهو تحريفهم وتبديلهم. وسبب نزول هذه الآية أن رؤساء اليهود قالوا لمعاذ بن جبل : ما ترك محمد قبلتنا إلّا حسدا وإن قبلتنا قبلة الأنبياء ولقد علم محمد أنّا أعدل الناس فقال معاذ : إنا على حق وعدل فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها ، وخيرها وأكرمها على اللّه تعالى). وقوله تعالى : لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ يعني يوم القيامة أن الرسل قد بلغتهم رسالات ربهم ، وقيل : إن أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين وَيَكُونَ الرَّسُولُ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم عَلَيْكُمْ شَهِيداً يعني عدلا مزكيا لكم وذلك أن اللّه تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ثم يقول لكفار الأمم : ألم يأتكم نذير فينكرون ويقولون ما جاءنا من نذير فيسأل اللّه الأنبياء عن ذلك فيقولون : كذبوا قد بلغناهم فيسألهم البينة وهو أعلم بهم إقامة الحجة فيقولون أمة محمد تشهد لنا فيؤتى بأمة محمد عليه الصلاة والسلام ، فيشهدون لهم بأنهم قد بلغوا فتقول الأمم الماضية من أين علموا وإنما أتوا بعدنا؟ فيسأل هذه الأمة. فيقولون : أرسلت إلينا رسولا وأنزلت عليه كتابا أخبرتنا فيه بتبليغ الرسل وأنت صادق فيما أخبرت ثم يؤتى بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم (خ) عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (يجاء بنوح وأمته يوم القيامة فيقال له : هل بلغت؟ فيقول نعم أي رب فيسأل أمته هل بلغكم؟ فيقولون ما جاءنا من نذير فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول : محمد وأمته فيجاء بكم فتشهدون) ثم قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً زاد الترمذي وسطا عدولا. قوله عز وجل : وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها أي وما جعلنا صرفك عن القبلة التي كنت عليها ، وهي بيت المقدس ، وإنما حذف ذكر الصرف اكتفاء بدلالة اللفظ عليه ، وقيل : معناه وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة وقيل : معناه وما جعلنا القبلة التي كنت عليها وهي الكعبة وإِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ فإن قلت ما معنى قوله : إلّا لنعلم وهو عالم بالأشياء كلها قبل كونها قلت : أراد به العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب فإنه لا يتعلق بما هو عالم به في الغيب إنما يتعلق بما يوجد. والمعنى لنعلم العلم الذي يستحق العامل عليه الثواب والعقاب ، وقيل : العلم هنا بمعنى الرؤية أي لنرى ونميز من يتبع الرسول في القبلة ممن ينقلب على عقبيه وقيل : معناه إلّا لتعلم رسلي وحزبي وأوليائي من المؤمنين من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وكان من شأن العرب إضافة ما فعله الاتباع إلى الكبير. كقولهم : فتح عمر العراق وجبى خراجها وإنما فعل ذلك أتباعه عن أمره ، وقيل إنما قال إلّا لنعلم وهو بذلك عالم قبل كونه على وجه الرفق بعباده ومعناه إلّا لتعلموا ، أنتم إذ كنتم جهالا به قبل كونه فإضافة العلم إلى نفسه رفقا بعباده المخاطبين. وقيل : معناه لعلمنا لأنه تعالى سبق في علمه أن تحويل القبلة سبب لهداية قوم وضلالة آخرين ومعنى من يتبع الرسول أي يطيعه في أمر القبلة وتحويلها مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أي يرجع إلى ما كان عليه من الكفر فيرتد ، وفي الحديث (إنه لما تحولت القبلة إلى الكعبة ارتد قوم إلى اليهودية وقالوا رجع محمد إلى دين آبائه) وَإِنْ كانَتْ أي وقد كانت لَكَبِيرَةً يعني تولية القبلة ثقيلة شاقة وقيل هي التولية من بيت المقدس إلى الكعبة وقيل الكبيرة هي القبلة التي وجهه إليها قيل التحويل وهي بيت المقدس ، وأنث الكبيرة لتأنيث القبلة وقيل : لتأنيث التولية إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّه يعني الصادقين في اتباع الرسول وَما كانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ يعني صلاتكم إلى بيت المقدس ، وذلك أن حيي بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين : أخبرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس إن كانت على هدى فقد تحولتم عنه وإن كانت على ضلالة فقد دنتم اللّه بها مدة ، ومن مات عليها فقد مات على ضلالة فقال المسلمون : إنما الهدى فيما أمر اللّه به والضلالة نهى اللّه عنه قالوا : فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا وكان قد مات قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة أسعد بن زرارة من بني النجار والبراء بن معرور من بني سلمة وكانا من النقباء ورجال آخرون فانطلق عشائرهم إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا يا رسول اللّه قد صرفك اللّه إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل اللّه تعالى : وَما كانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ يعني صلاتكم إلى بيت المقدس إِنَّ اللّه بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني لا يضيع أجورهم ، والرأفة أخص من الرحمة وأرق ، وقيل : الرأفة أشد من الرحمة. وقيل : الرأفة الرحمة وقيل : في الفرق بين الرأفة والرحمة. أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة ، وهي دفع المكروه وإزالة الضرر وأما الرحمة فإنها اسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه أيضا جميع الإفضال والإنعام فذكر اللّه الرأفة ، ولا بمعنى أنه لا نضيع أعمالهم ثم ذكر الرحمة ثانيا لأنها أعم وأشمل. قوله عز وجل : ١٤٤قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ سبب نزول هذه الآية أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة ، فلما هاجر إلى المدينة أحب أن يستقبل بيت المقدس يتألف بذلك اليهود وقيل إن اللّه تعالى أمره بذلك ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه ، إذا صلّى إلى قبلتهم مع ما يجدون من نعته وصفته في التوراة فصلّى إلى بيت المقدس بعد الهجرة ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ، وكان يحب أن يتوجه إلى الكعبة لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، وقيل : كان يحب ذلك من أجل أن اليهود قالوا : يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لجبريل : وددت لو حولني اللّه إلى الكعبة فإنها قبلة أبي إبراهيم فقال : جبريل صلّى اللّه عليه وسلّم إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربك فسل أنت ربك فإنك عند اللّه بمكان ثم عرج جبريل وجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يديم النظر إلى السماء ، رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القبلة فأنزل اللّه عز وجل قد نرى تقلب وجهك في السماء يعني ، تردد وجهك وتصرف نظرك في السماء أي إلى جهة السماء ، وهذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدمة في المعنى لأنها رأس القصة وأول ما نسخ من أحكام الشرع أمر القبلة فَلَنُوَلِّيَنَّكَ أي فلنحولنك ولنصرفنك قِبْلَةً أي ولنصرفنك عن بيت المقدس إلى قبلة تَرْضاها أي تحبها وتميل إليها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي نحوه وتلقاءه وأراد به الكعبة (ق) عن ابن عباس قال : لما دخل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه ولما خرج ركع ركعتين قبل الكعبة وقال هذه القبلة يعني أن أمر القبلة قد استقر على هذا البيت فلا ينسخ بعد اليوم فصلوا إلى الكعبة أبدا فهي قبلتكم (ق) عن البراء بن عازب أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده ، أو قال أخواله من الأنصار وأنه صلّى قبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأنه صلّى أول صلاة صلاها صلاة العصر ، وصلّى معه قوم فخرج رجل ممن صلّى معه ، فمر على أهل مسجد قباء وهم راكعون فقال أشهد باللّه لقد صليت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل الكعبة فداروا كما هم قبل البيت وكانت اليهود قد أعجبهم إذ ذاك أنه يصلّي قبل بيت المقدس ، وهي قبلة أهل الكتاب فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك. قال البراء في حديثه هذا : وأنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل اللّه تعالى : وَما كانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ واختلفت العلماء في وقت تحويل القبلة فقال الأكثرون : كان في يوم الاثنين بعد الزوال للنصف من رجب ، على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة وقيل : كان يوم الثلاثاء لثمانية عشر شهرا وقيل : كان لستة عشر شهرا وقيل : لثلاثة عشر شهرا وقيل : نزلت ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في مسجد بني سلمة وقد صلّى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر ، فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال ، فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين ، ووصل الخبر إلى أهل قباء في صلاة الصبح (ق) عن ابن عمر قال : بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وقوله تعالى : وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ أي من بر أو بحر مشرق أو مغرب فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي نحو البيت وتلقاءه ، عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ما بين المشرق والمغرب قبلة) أخرجه الترمذي. وقال : حديث حسن صحيح ، قيل : أراد بالمشرق مشرق الشتاء في أقصر يوم من السنة وبالمغرب مغرب الصيف في أطول يوم من السنة فمن جعل مغرب الصيف في هذا الوقت عن يمينه ومشرق الشتاء عن يساره كان مستقبلا للقبلة ، وهذا في حق أهل المشرق لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل ، والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خط الاستواء والذي بينهما فقوسها مكة. والفرض لمن بمكة في القبلة إصابة عين الكعبة ، ولمن بعد من مكة إصابة الجهة ، ويعرف ذلك بدلائل القبلة وليس هذا موضع ذكرها ، ولما تحولت القبلة إلى الكعبة قالت اليهود : يا محمد ما هو إلّا شيء ابتدعته من تلقاء نفسك فتارة تصلّي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره فأنزل اللّه تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ يعني أمر القبلة وتحويلها إلى الكعبة ثم هددهم فقال تعالى : وَمَا اللّه بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ يعني وما أنا بساه عما يفعل هؤلاء اليهود ، فأنا أجازيهم عليه في الدنيا والآخرة وقرئ تعملون بالتاء. قال ابن عباس : يريد أنكم يا معشر المؤمنين تطلبون مرضاتي وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم فأنا أثيبكم على طاعتكم أفضل الثواب ، وأجزيكم أحسن الجزاء. قوله عز وجل : ١٤٥وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى بِكُلِّ آيَةٍ أي بكل معجزة وقيل : بكل حجة وبرهان وذلك بأنهم قالوا : ائتنا بآية على ما تقول فأنزل اللّه تعالى هذه الآية : ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ يعني الكعبة وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ يعني أن اليهود تصلي إلى بيت المقدس والنصارى إلى المشرق وأنت يا محمد تصلّي إلى الكعبة. فكيف يكون سبيل إلى اتباع قبلة أحد هؤلاء مع اختلاف جهاتها فالزم أنت قبلتك التي أمرت بالصلاة إليها وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ يعني وما اليهود بتابعة قبلة النصارى ولا النصارى بتابعة قبلة اليهود ، لأن اليهود والنصارى لا يجتمعون على قبلة واحدة وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ يعني مرادهم ورضاهم لو رجعت إلى قبلتهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي في أمر القبلة وقيل معناه : من بعد ما وصل إليك من العلم بأن اليهود والنصارى مقيمون على باطل ، وعناد للحق إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ يعني أنك إن فعلت ذلك كنت بمنزلة من ظلم نفسه وضرها. قيل : هذا خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد به الأمة لأنه صلّى اللّه عليه وسلّم لا يتبع أهواءهم أبدا. وقيل : هو خطاب له خاصة فيكون ذلك على سبيل التذكير والتنبيه. قوله عز وجل : ١٤٦الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني علماء اليهود والنصارى وقيل : أراد به مؤمني أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام وأصحابه يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم معرفة جلية بالوصف المعين الذي يجدونه عندهم كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ أي لا يشكون فيه ولا تشتبه عليهم كما لا يشتبه عليهم أبناؤهم من أبناء غيرهم ، روي أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال لعبد اللّه بن سلام : إن اللّه أنزل على نبيه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم : الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد اللّه : يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ومعرفتي بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم أشد من معرفتي بابني فقال عمر وكيف ذلك فقال : أشهد أنه رسول اللّه حق من اللّه وقد نعته اللّه في كتابنا ولا أدري ما تصنع النساء ، فقبل عمر رأس عبد اللّه وقال : وفقك اللّه يا ابن سلام فقد صدقت. وقيل : الضمير في يعرفونه يعود إلى أمر القبلة والمعنى أن علماء اليهود والنصارى يعرفون أن القبلة التي صرفتك إليها هي قبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء قبلك كما يعرفون أبناءهم لا يشكون في ذلك وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ أي من علماء أهل الكتاب لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ يعني صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم. وقيل أمر القبلة وَهُمْ يَعْلَمُونَ يعني أن كتمان الحق معصية. وقيل يعلمون أن صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل وهم مع ذلك يكتمونه ١٤٧الْحَقَّ أي الذي يكتمونه هو الحق مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي من الشاكين في أن الذين تقدم ذكرهم ، علموا صحة نبوتك وقيل : يرجع إلى أمر القبلة والمعنى أن بعضهم عاند وكتم الحق فلا تشك في ذلك. فإن قلت : النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم يمتر ولم يشك فما معنى هذا النهي؟. قلت : هذا الخطاب وإن كان للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولكن المراد غيره والمعنى فلا تشكوا أنتم أيها المؤمنون وقد تقدم نظير هذا. ١٤٨قوله عز وجل : ولِكُلٍّ وِجْهَةٌ أي ولكل أهل ملة قبلة ، والوجهة اسم للمتوجه إليه. وقيل الوجهة الهيئة والحالة في التوجه إلى القبلة ، وقيل في قوله : ولِكُلٍّ وِجْهَةٌ إن المراد به جميع المؤمنين، أي ولكل أهل جهة من الآفاق وجهة من الكعبة يصلون إليها. وقيل : المراد بالوجهة المنهاج والشرع والمعنى ولكل قوم شريعة وطريقة لأن الشرائع مصالح للعباد فلهذا اختلفت الشرائع بحسب اختلاف الزمان والأشخاص وَمُوَلِّيها أي مستقبلها والمعنى أن لكل أهل ملة وجهة هو مول وجهه إليها ، وقيل : متوليها أي مختارها وقيل : إن هو عائد على اسم اللّه تعالى ، والمعنى إن اللّه موليها إياه ، وقرئ مولّاها أي مصروف إليهااسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي بادروا بالطاعات وقبول الأوامر وفيه حث على المبادرة إلى الأولوية والأفضلية. فعلى هذا تكون الآية دليلا لمذهب الشافعي في أن الصلاة أول الوقت أفضل لقوله : فاستبقوا الخيرات لأن ظاهر الأمر للوجوب ، فإذا لم يتحقق الوجوب فلا أقل من الندب أَيْنَما تَكُونُوا يعني أنتم وأهل الكتاب أْتِ بِكُمُ اللّه جَمِيعاً يعني يوم القيامة فهو وعد لأهل الطاعة بالثواب ووعيد لأهل المعصية بالعقاب نَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي على الإعادة بعد الموت والإثابة لأهل الطاعة والعقاب لمستحق العقوبة. قوله عز وجل : ١٤٩وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي من أي موضع خرجت في سفر وغيره فول وجهك يا محمد قبل المسجد الحرام ونحوه وَإِنَّهُ يعني التوجه إليه لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي الحق الذي لا شك فيه فحافظ عليه وَمَا اللّه بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي ليس هو بساه عن أعمالكم ، ولكنه محصها لكم ، وعليكم فيجازيكم بها يوم القيامة ١٥٠وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فإن قلت : هل في هذا التكرار فائدة. قلت : فيه فائدة عظيمة جليلة وهي أن هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا ، فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير وإزالة الشبهة ، وإيضاح البيان فحسن التكرار فيهم لنقلهم من جهة إلى جهة لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ قيل : أراد بالناس أهل الكتاب : وقيل : هو على العموم وقيل هم قريش واليهود فأما قريش فقالوا : رجع محمد إلى الكعبة لأنه علم أنها الحق وأنها قبلة أبيه وسيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا وقالت اليهود : لم ينصرف محمد عن بيت المقدس مع علمه أنه حق إلّا أنه يعمل برأيه فعلى هذا يكون الاستثناء في قوله : إلّا الذين ظلموا منهم متصلا صحيحا والمعنى ، لا حجة لأحد عليكم إلّا مشركو قريش واليهود فإنهم يجادلونك الباطل والظلم ، وإنما سمي الاحتجاج بالباطل حجة ، لأن اشتقاقها من حجه إذا غلبه فكما تكون صحيحة فكذلك تسمى حجة وتكون باطلة قال اللّه تعالى : حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وقيل : هذا الاستثناء منقطع عن الكلام الأول ، ومعناه لكن الذين ظلموا منهم يجادلونك بالباطل كما قال النابغة : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب أي لكن سيوفهم بهن فلول ، وليس بعيب وقيل : في معنى الآية إن اليهود عرفوا أن الكعبة قبلة إبراهيم ووجدوا في التوراة أن محمدا سيحول إليها فتكون حجتهم أنهم يقولون إن النبي الذي نجده في كتابنا سيحول إلى الكعبة ولم تحول أنت فلما حول إلى الكعبة ذهبت حجتهم إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي إلّا أن يظلموا فيكتموا ما عرفوا من الحق. فَلا تَخْشَوْهُمْ أي فلا تخافوهم في انصرافكم إلى الكعبة في تظاهرهم عليكم بالمجادلة الباطلة فإني وليكم وناصركم ، أظهركم عليهم بالحجة والنصرة وَاخْشَوْنِي أي احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم به وفرضته عليكم وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ولكي أتم نعمتي عليكم بهدايتي إلى قبلة إبراهيم لتتم لكم الملة الحنيفية. وقيل : تمام النعمة الموت على الإسلام ثم دخول الجنة ثم رؤية اللّه تعالى : وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تهتدوا من الضلالة. ولعل وعسى من اللّه واجب. قوله عز وجل : ١٥١كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ كاف التشبيه تحتاج إلى شيء ترجع إليه فقيل ترجع إلى ما قبلها ومعناه ولأتم نعمتي عليكم كما أرسلنا فيكم وقيل إن إبراهيم قال : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم وقال : ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، فبعث اللّه فيهم رسولا منهم وهو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ووعده إجابة الدعوة الثانية بأن يجعل في ذريته أمة مسلمة ، والمعنى كما أجبت دعوته ببعثة الرسول كذلك أجبت دعوته بأن أهديكم لدينه ، وأجعلكم مسلمين ، وأتم نعمتي عليكم ببيان شرائع الملة الحنيفية. وقيل : إن الكاف متعلقة بما بعدها وهو قوله : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ والمعنى كما أرسلنا فيكم رسولا منكم فاذكروني ، ووجه التشبيه أن النعمة بالذكر جارية مجرى النعمة بإرسال الرسول ، وإن قلنا : إنها متعلقة بما قبلها كان وجه التشبيه أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة ، وفيكم خطاب لأهل مكة والعرب وكذا قوله منكم ، وفي إرساله رسولا منهم نعمة عظيمة عليه لما فيه من الشرف لهم ولأن المعروف من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير فكان بعثة الرسول منهم وفيهم أقرب إلى قبول قوله والانقياد له ، والمعنى كما أرسلنا فيكم يا معشر العرب رَسُولًا مِنْكُمْ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا يعني القرآن وذلك من أعظم النعم لأنه معجزة باقية على الدهر وَيُزَكِّيكُمْ أي ويطهركم من دنس الشرك والذنوب وقيل يعلمكم ما إذا فعلتموه صرتم أزكياء مثل محاسن الأخلاق ومكارم الأفعال وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ يعني أحكام الكتاب وهو القرآن وقيل إن التعليم غير التلاوة فليس بتكرار وَالْحِكْمَةَ يعني السنة والفقه في الدين وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ يعني يعلمكم من أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية وقصص الأنبياء والخبر عن الحوادث المستقبلية مما لم تكونوا تعلمون وذلك قبل بعثة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ١٥٢فَاذْكُرُونِي قيل الذكر يكون باللسان ، وهو أن يسبحه ويحمده ويمجده ونحو ذلك من الأذكار ، ويكون بالقلب وهو أن يتفكر في عظمة اللّه تعالى ، وفي الدلائل الدالة على وحدانيته ، ويكون بالجوارح وهو أن تكون مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها ، مثل الصلاة وسائر الطاعات التي للجوارح فيها فعل أَذْكُرْكُمْ أي بالثواب والرضا عنكم قال ابن عباس : اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي وقيل : اذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء ، وقال أهل المعاني : اذكروني بالتوحيد والإيمان : أذكركم بالجنان والرضوان. وقيل : اذكروني بالإخلاص أذكركم بالخلاص اذكروني بالقلوب ، أذكركم بغفران الذنوب. اذكروني بالدعاء أذكركم بالعطاء (ق) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (يقول اللّه عز وجل : (أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ، وإن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليّ ذراعا ، تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) قوله عز وجل : (أنا عند ظن عبدي بي) قيل : معناه بالغفران إذا استغفر وبالقبول والإجابة ، إذا دعا ، وبالكفاية إذا طلب الكفاية. وقيل : المراد منه تحقيق الرجاء وتأميل العفو وهذا أصح قوله : وأنا معه إذا ذكرني يعني بالرحمة والتوفيق والهداية والإعانة. وقوله : (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي). النفس في اللغة لها معان : منها ذات الشيء واللّه تعالى له ذات حقيقة. ومنها الغيب فعلى هذا يكون المعنى فإن ذكرني خاليا ذكرته بالإثابة والمجازاة مما لا يطلع عليه أحد. قوله : (و إن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه). الملأ أشراف الناس وعظماؤهم الذين يرجع إلى رأيهم وهذا مما استدلت به المعتزلة ومن وافقهم على تفضيل الملائكة على الأنبياء. وأجيب عنه بأن الذكر غالبا يكون في جماعة لا نبي فيهم. قوله : (و إن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا إلخ). وهذا من أحاديث الصفات ويستحيل إرادة ظاهره فلا بد من التأويل فعلى هذا يكون ذكر الشبر والذراع والباع والمشي والهرولة استعارة ، ومجازا فيكون المراد بقرب العبد من اللّه تعالى القرب بالذكر والطاعة والعمل الصالح والمراد بقرب اللّه من العبد قرب نعمه وألطافه وبره وكرمه وإحسانه إليه ، وفيض مواهبه ورحمته عليه والمعنى كلما زاد بالطاعة والذكر زدت بالبر والإحسان وإن أتاني في طاعتي أتيته هرولة أي صببت عليه الرحمة صبا وسبقته بها (ق) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : (قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : يقول اللّه عز وجل : (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) (ق) عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت (م) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول اللّه قال الذاكرون اللّه كثيرا والذاكرات) المفردون الذين ذهب القرن الذي كانوا فيه ، وبقوا وهم يذكرون اللّه تعالى. ويقال : تفرد الرجل إذا تفقه واعتزل. وقوله تعالى : وَاشْكُرُوا لِي يعني بالطاعة وَلا تَكْفُرُونِ أي بالمعصية فمن أطاع اللّه فقد شكره ومن عصاه فقد كفره. قوله عز وجل : ١٥٣يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنما خصهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات أما الصبر فهو حبس النفس على احتمال المكاره في ذات اللّه وتوطينها على تحمل المشاق في العبادات ، وسائر الطاعات وتجنب الجزع وتجنب المحظورات ومن الناس من حمل الصبر على الصوم وفسره به ، ومنهم من حمله على الجهاد وأما الاستعانة بالصلاة فلأنها تجب أن تفعل على طريق الخضوع والتذلل للمعبود والإخلاص له. وقيل : استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض ، وبالصلوات الخمس في مواقيتها على تمحيص الذنوب إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ أي بالعون والنصر ١٥٤وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّه أَمْواتٌ نزلت فيمن قتل ببدر من المسلمين وكانوا أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وهم : عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وعمير بن أبي وقاص بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة الزهري أخو سعد بن أبي وقاص وذو الشمالين واسمه عمير بن عبد عمرو بن العاص بن نضلة بن عمرو بن خزاعة ثم بني غبشان وعاقل بن البكير من بني سعد بن ليث بن كنانة ومهجع مولى لعمر بن الخطاب ، وصفوان بن بيضاء من بني الحارث بن فهر ومن الأنصار ثمانية ، وهم سعد بن خيثمة ومبشر بن عبد بن المنذر ، ويزيد بن الحارث بن قيس بن فسحم وعمير بن الحمام ورافع بن المعلى وحارثة بن سراقة ، وعوف ومعوذ ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد وهما ابنا عفراء وهي أمهما ، كان الناس يقولون لمن قتل في سبيل اللّه مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذاتها فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ، وقيل : إن الكفار والمنافقين قالوا : إن الناس يقتلون أنفسهم ظلما لمرضاة محمد من غير فائدة فنزلت هذه الآية وأخبر أن من قتل في سبيل اللّه فإنه حي بقوله تعالى : بَلْ أَحْياءٌ وإنما أحياهم اللّه عز وجل في الوقت لإيصال الثواب إليهم. وعن الحسن أن الشهداء أحياء عند اللّه تعالى تعرض أرزاقهم على أرواحهم ، ويصل إليهم الروح والريحان والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشيا فيصل إليهم ، الألم والوجع ففيه دليل على أن المطيعين للّه يصل إليهم ثوابهم وهم في قبورهم في البرزخ وكذا العصاة يعذبون في قبورهم. فإن قلت : نحن نراهم موتى فما معنى قوله بل أحياء وما وجه النهي ، في قوله ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه أموات. قلت : معناه لا تقولوا أموات بمنزلة غيرهم من الأموات بل هم أحياء تصل أرواحهم إلى الجنان كما ورد ، (إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة) فهم أحياء من هذه الجهة ، وإن كانوا أمواتا من جهة خروج الروح من أجسادهم ، وجواب آخر وهو أنهم أحياء عند اللّه تعالى في عالم الغيب ، لأنهم صاروا إلى الآخرة فنحن لا نشاهدهم كذلك ويدل على ذلك قوله تعالى : وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ أي لا ترونهم أحياء فتعلموا ذلك حقيقة ، وإنما تعلمون ذلك بإخباري إياكم به. فإن قلت : ليس سائر المطيعين من المسلمين للّه يصل إليهم من نعيم الجنة في قبورهم فلم خصص الشهداء بالذكر؟. قلت : إنما خصهم لأن الشهداء فضلوا على غيرهم بمزيد النعيم وهو أنهم يرزقون من مطاعم الجنة ومآكلها وغيرهم ينعمون بما دون ذلك ، وجواب آخر أنه رد لقول من قال : إن من قتل في سبيل اللّه قد مات وذهب عنه نعيم الدنيا ولذاتها فأخبر اللّه تعالى بقوله : بَلْ أَحْياءٌ بأنهم في نعيم دائم. قوله عز وجل : ١٥٥وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي لنختبرنكم يا أمة محمد واللام جواب القسم تقديره ، واللّه لنبلونكم ، والابتلاء لإظهار الطائع من العاصي لا ليعلم شيئا ، لم يكن عالما به فإنه سبحانه وتعالى عالم بجميع الأشياء قبل كونها وحدوثها بِشَيْءٍ إنما قال : بشيء ولم يقل بأشياء لئلا يوهم أن أشياء تدل على ضروب من الخوف. وكذا الباقي فلما قال بشيء كان التقدير بشيء من الخوف ، وبشيء من الجوع. وقيل : معناه بشيء قليل من هذه الأشياء مِنَ الْخَوْفِ قال ابن عباس : يعني خوف العدو والخوف توقع مكروه يحصل منه ألم في القلب وَالْجُوعِ يعني القحط وتعذر حصول القوت وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ يعني بالهلاك والخسران وَالْأَنْفُسِ أي ونقص من الأنفس بالموت أو القتل وَالثَّمَراتِ يعني الجوائح في الثمار وقيل : قد يكون بالجدب أيضا وبترك العمل والعمارة في الأشجار. وحكي عن الشافعي رضي اللّه عنه في تفسير هذه الآية قال : الخوف خوف اللّه تعالى والجوع صيام شهر رمضان ونقص من الأموال يعني إخراج الزكاة والصدقات والأنفس يعني بالأمراض ، والثمرات يعني موت الأولاد ، لأن الولد ثمرة القلب. عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى لملائكته أقبضتم ولد عبدي؟ قالوا : نعم. قال : أقبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا نعم قال فماذا قال؟ قالوا : حمدك واسترجع قال : ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد) أخرجه الترمذي ، وقال حديث حسن. فإن قلت ما الحكمة في تقديم تعريف هذا الابتلاء في قوله : ولنبلونكم قلت فيه حكم : منها أن العبد إذا علم أنه مبتلي بشيء ، وطن نفسه على الصبر ، فإذا نزل به ذلك البلاء لم يجزع. ومنها أن الكفار إذا شاهدوا المؤمنين مقيمين على دينهم ثابتين عند نزول البلاء صابرين له علموا بذلك صحة الدين فيدعوهم ذلك إلى متابعته والدخول فيه. ومنها أن اللّه تعالى أخبر بهذا الابتلاء ، قبل وقوعه فإذا وقع كان ذلك إخبارا عن غيب فيكون معجزة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومنها أن المنافقين إنما أظهروا الإيمان طمعا في المال وسعة الرزق من الغنائم فلما أخبر اللّه أنه مبتلي عباده فعند ذلك تميز المؤمن من المنافق والصادق من الكاذب ، ومنها أن الإنسان في حال الابتلاء أشد إخلاصا للّه منه في حال الرخاء ، فإذا علم أنه مبتلي دام على التضرع والابتهال إلى اللّه تعالى لينجيه مما عسى أن ينزل به من البلاء ثم قال تعالى : وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ يعني عند نزول البلاء والمعنى وبشر يا محمد الصابرين على امتحاني بما أمتحنهم به من الشدائد والمكاره ، ثم وصفهم بقوله تعالى : ١٥٦الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أي نائبة وابتلاء قالُوا إِنَّا للّه أي عبيدا وملكا وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ يعني في الآخرة (م) عن أم سلمة قالت : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا للّه وإنا إليه راجعون اللّهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلّا آجره اللّه في مصيبته وأخلف له خيرا منها) قيل : ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة يعني الاسترجاع عند المصيبة ولو أعطيها أحد لأعطى يعقوب عليه السلام ألا تسمع إلى قوله عند فقد يوسف يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ. وقيل : في قول العبد إنا للّه وإنا إليه راجعون تفويض منه إلى اللّه وأنه راض بكل ما نزل به من المصائب. ١٥٧أُولئِكَ يعني من هذه صفتهم عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ قال ابن عباس : أي مغفرة من ربهم ومنه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (اللّهم صل على آل أبي أوفى) أي أغفر لهم وأرحمهم وإنما جمع الصلوات لأنه عنى مغفرة ، بعد مغفرة ورحمة بعد رحمة وَرَحْمَةٌ قال ابن عباس : ونعمة والرحمة من اللّه إنعامه وإفضاله وإحسانه ، ومن الآدميين رقة وتعطف. وقيل : إنما ذكر الرحمة بعد الصلوات لأن الصلاة من اللّه الرحمة لاتساع المعنى واتساع اللفظ وتفعل ذلك العرب كثيرا ، إذا اختلف اللفظ ، واتفق المعنى ، وقيل : كررهما للتأكيد أي عليهم رحمة بعد رحمة وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ يعني إلى الاسترجاع. وقيل : إلى الجنة الفائزون بالثواب. وقيل : المهتدون إلى الحق والصواب. وقال عمر بن الخطاب : نعم العدلان ونعمت العلاوة فالعدلان الصلاة والرحمة والعلاوة الهداية. (فصل : في ذكر أحاديث وردت في ثواب أهل البلاء وأجر الصابرين) (خ) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من يرد اللّه به خيرا يصب منه) يعني يبتليه بالمصائب حتى يأجره على ذلك (ق) عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلّا كفر اللّه عنه بها خطاياه) النصب التعب والإعياء والوصب المرض (ق) عن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلّا حط اللّه عنه من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها) (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تفيئه ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تحصد) الأرزة شجر معروف بالشام ويعرف في العراق ، ومصر بالصنوبر والصنوبر ثمرة الأرزة وقيل : الأرزة الثابتة في الأرض. عن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إذا أراد اللّه بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد اللّه بعبد شرّا أمسك عنه حتى يوافي يوم القيامة) وبهذا الإسناد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن اللّه إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط) أخرجه الترمذي. وله عن جابر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض) وله عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده حتى يلقى اللّه وما عليه خطيئة) وقال حديث حسن صحيح (خ) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (قال اللّه تعالى : ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلّا الجنة عن سعد بن أبي وقاص وقال : قلت يا رسول اللّه أي الناس أشد بلاء قال : (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة هون عليه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ، وما عليه خطيئة) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن. ١٥٨قوله عز وجل : إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّه الصفا جمع صفاة ، وهي الصخرة الصلبة الملساء ، وقيل هي الحجارة الصافية. والمروة الحجر الرخو ، وجمعها مرو ومروات وهذان أصلهما في اللغة ، وإنما عنى اللّه بهما الجبلين المعروفين بمكة في طرفي المسعى ، ولذلك أدخل فيهما الألف واللام وشعائر اللّه أعلام دينه وأصلها من الإشعار وهو الإعلام واحدتها شعيرة وكل ما كان معلما لقربان يتقرب به إلى اللّه تعالى من صلاة ، ودعاء وذبيحة فهو شعيرة من شعائر اللّه. ومشاعر الحج معالمه الظاهرة للحواس ويقال : شعائر الحج فالمطاف والموقف والمنحر ، كلها شعائر والمراد بالشعائر هنا المناسك التي جعلها اللّه أعلاما لطاعته فالصفا ، والمروة منها حيث يسعى بينهما فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ قصد البيت هذا أصله في اللغة وفي الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة لإقامة المناسك أَوِ اعْتَمَرَ أي زار البيت والعمرة الزيارة ففي الحج والعمرة المشروعين قصد وزيارة فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أي فلا إثم عليه وأصله من جنح إذا مال عن القصد المستقيم أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أي يدور بهما ويسعى بينهما. وسبب نزول هذه الآية ، أنه كان على الصفا والمروة صنمان يقال لهما إساف ونائلة فكان إساف على الصفات ونائلة على المروة وكان أهل الجاهلية يطوفون بين الصفا ، والمروة تعظيما للصنمين فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام ، تحرج المسلمون عن السعي بين الصفا والمروة فأنزل اللّه هذه الآية وأذن في السعي بينهما وأخبر أنه من شعائر اللّه (ق) عن عاصم بن سليمان الأحول قال قلت لأنس : أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ فقال : نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل اللّه إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما. وفي رواية قال : كانت الأنصار يكرهون أن يطوفوا بين الصفا والمروة حتى نزلت إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّه. (فصل) اختلف العلماء في حكم السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة ، فذهب جماعة إلى وجوبه وهو قول ابن عمر وجابر وعائشة وبه قال الحسن : وإليه ذهب مالك والشافعي وذهب قوم إلى أنه تطوع. وهو قول ابن عباس : وبه قال ابن سيرين وذهب الثوري وأبو حنيفة إلى أنه ليس بركن وعلى من تركه دم وروي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء أن من تركه فلا شيء عليه واختلفت الرواية عن أحمد في ذلك فروي عنه أن من ترك السعي بين الصفا والمروة لم يجزه حجه وروي عنه أنه لا شيء في تركه عمدا ، ولا سهوا ولا ينبغي أن يتركه ونقل الجمهور عنه أنه تطوع وسبب هذا الاختلاف أن قوله تعالى : فَلا جُناحَ عَلَيْهِ يصدق عليه أنه لا إثم عليه في فعله ، فدخل تحته الواجب والمندوب والمباح فظاهر هذه الآية ، لا يدل على أن السعي بين الصفا والمروة واجب أو ليس بواجب ، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الأقسام الثلاثة لا دلالة فيه على خصوصية أحدهما ، فإذا لا بد من دليل خارج يدل على أن السعي واجب أو غير واجب فحجة الشافعي ومن وافقه في أن السعي بين الصفا والمروة ، ركن من أركان الحج والعمرة ، ما روى الشافعي بسنده عن صفية بنت شيبة ، قالت : أخبرتني بنت أبي تجزاة واسمها حبيبة إحدى نساء بني عبد الدار قالت : دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يسعى بين الصفا والمروة ، فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي حتى لأقول : إني لأرى ركبته وسمعته يقول : (اسعوا فإن اللّه كتب عليكم السعي) وصححه الدار قطني (ق) عن عروة بن الزبير قال : قلت لعائشة زوج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أرأيت قول اللّه : إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما فقالت عائشة : كلا لو كان كما تقول كانت فلا جناح عليه ، أن لا يطوف بهما إنما نزلت هذه الآية في الأنصار ، كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، فلما جاء الإسلام سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه تعالى : إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّه الآية (م) عن جابر في حديثه الطويل في صفة حجة الوداع قال : (ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ : (إن الصفا والمروة من شعائر اللّه أبدأ بما بدأ اللّه به فبدأ بالصفا) الحديث فإذا ثبت أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سعى وجب علينا السعي لقوله تعالى : فاتبعوه ، ولقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (خذوا عني مناسككم) والأمر للوجوب ومن القياس أن السعي أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم ويؤتى به في إحرام كامل فكان ركنا كطواف الزيارة واحتج أبو حنيفة ومن لا يرى وجوب السعي بقوله : (فلا جناح عليه أن يطوف بهما). وهذا لا يقال في الواجبات ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله : وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فبين أنه تطوع وليس بواجب. وأجيب عن الأول بأن قوله تعالى : فَلا جُناحَ عَلَيْهِ ليس فيه إلّا أنه لا إثم على فعله وهذا القدر مشترك بين الواجب ، وغيره كما تقدم بيانه فلا يكون فيه دلالة على نفي الوجوب. وعن الثاني وهو التمسك بقوله تعالى : وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فضعيف لأن هذا لا يقتضي أن يكون المراد من هذا التطوع هو الطواف المذكور ، أولا بل يجوز أن يكون المقصود منه شيئا آخر يدل على ذلك قول الحسن : إن المراد من قوله : وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً جميع الطاعات في الدين يعني فعل فعلا زائدا على ما افترض عليه من صلاة وصدقة وصيام وحج وعمرة ، وطواف ، وغير ذلك من أنواع الطاعات. وقال مجاهد : ومن تطوع خيرا بالطواف بهما وهذا على قول من لا يرى الطواف بهما فرضا وقيل معناه ومن تطوع خيرا فزاد في الطواف بعد الواجب و القول الأول أولى للعموم فَإِنَّ اللّه شاكِرٌ أي مجاز على الطاعة عَلِيمٌ أي بنيته وحقيقة الشاكر في اللغة هو المظهر للأنعام عليه والشكر هو تصور النعمة ، وإظهارها واللّه تعالى لا يوصف بذلك لأنه لا يلحقه المنافع والمضار ، فالشاكر في صفة اللّه تعالى مجاز فإذا وصف به أريد به أنه المجازي على الطاعة بالثواب ، إلّا أن اللفظ خرج مخرج التلطف للعباد مظاهرة في الإحسان إليهم. قوله عز وجل : ١٥٩إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى نزلت في علماء اليهود الذين كتموا صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وآية الرجم وغيرها من الأحكام التي كانت في التوراة. وقيل : إن الآية على العموم فيمن كتم شيئا من أمر الدين لأن اللفظ عام والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبت ، ومن قال ب القول الأول ، وإنها في اليهود قال : إن الكتم لا يصح إلّا منهم لأنهم كتموا صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ومعنى الكتمان ترك إظهار الشيء مع الحاجة إلى بيانه وإظهاره ، فمن كتم شيئا من أمر الدين فقد عظمت مصيبته (ق) عن أبي هريرة قال : لولا آيتان أنزلهما اللّه في كتابه ما حدثت شيئا أبدا : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى وقوله : وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ إلى آخر الآيتين ، وهل إظهار علوم الدين فرض كفاية أو فرض عين؟ فيه خلاف والأصح ، أنه إذا ظهر للبعض بحيث يتمكن كل واحد من الوصول إليه لم يبق مكتوما ، وقيل : متى سئل العالم عن شيء يعلمه من أمر الدين يجب عليه إظهاره وإلّا فلا مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ يعني في التوراة من صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فعلى هذا يكون المراد بالناس علماء بني إسرائيل ، ومن قال : إن المراد بالكتاب جميع ما أنزل اللّه على أنبيائه من الأحكام قال المراد بالناس العلماء كافة أُولئِكَ يعني الذين يكتمون ما أنزل اللّه من البينات والهدى يَلْعَنُهُمُ اللّه أي يبعدهم من رحمته وأصل اللعن في اللغة الطرد والإبعاد وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ قال ابن عباس : جميع الخلائق إلّا الجن والإنس وذلك أن البهائم تقول إنما منعنا القطر بمعاصي بني آدم. وقيل : اللاعنون هم الجن والإنس لأنه وصفهم بوصف من يعقل وقيل : ما تلا عن اثنان من المسلمين إلّا رجعت إلى اليهود والنصارى الذين كتموا صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ثم استثنى ١٦٠فقال تعالى : إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي ندموا على ما فعلوا فرجعوا عن الكفر إلى الإسلام وَأَصْلَحُوا يعني الأعمال فيما بينهم وبين اللّه تعالى وَبَيَّنُوا يعني ما كتموا من العلم فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أي أتجاوز عنهم وأقبل توبتهم وَأَنَا التَّوَّابُ أي المتجاوز عن عبادي الرجاع بقلوبهم المنصرفة عني إلي الرَّحِيمُ يعني بهم بعد إقبالهم علي. ١٦١قوله عز وجل : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّه وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قيل : هذا اللعن يكون يوم القيامة يؤتى بالكافر فيوقف فيلعنه اللّه ثم تلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس أجمعون. فإن قلت : الكافر لا يلعن نفسه ولا يلعنه أهل دينه وملته فما معنى قوله والناس أجمعين قلت فيه أوجه : أحدها : أنه أراد بالناس من يعتد بلعنه وهم المؤمنون. الثاني : أن الكفار يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة. الثالث : أنهم يلعنون الظالمين والكفار من الظالمين فيكون قد لعن نفسه ١٦٢خالِدِينَ فِيها أي مقيمين في اللعنة وقيل : في النار وإنما أضمرت لعظم شأنها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون ولا يؤجلون. وقيل : لا ينظرون ليعتذروا. وقيل : لا ينظر إليهم نظر رحمة. (فصل فيما يتعلق بهذه الآية من الحكم) قال العلماء : لا يجوز لعن كافر معين لأن حاله عند الوفاة لا يعلم فلعله يموت على الإسلام وقد شرط اللّه في هذه الآية إطلاق اللعنة على من مات على الكفر ويجوز لعن الكفار يدل عليه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها) وذهب بعضهم إلى جواز لعن إنسان معين من الكفار ، بدليل جواز قتاله وأما العصاة من المؤمنين فلا يجوز لعنة أحد منهم على التعيين وأما على الإطلاق فيجوز لما روي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لعن اللّه السارق يسرق البيضة والحبل فتقطع يده) ولعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الواشمة والمستوشمة وآكل الربا ومؤكله ولعن من غير منار الأرض ، ومن انتسب لغير أبيه وكل هذه في الصحيح. ١٦٣قوله عز وجل : وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ سبب نزول هذه الآية ، أن كفار قريش قالوا : يا محمد صف لنا ربك وانسبه ، فأنزل اللّه هذه الآية وسورة الإخلاص ومعنى الوحدة الانفراد ، وحقيقة الواحد هو الشيء الذي لا يتبعض ولا ينقسم والواحد في صفة اللّه أنه واحد لا نظير له وليس كمثله شيء وقيل واحد في ألوهيته وربوبيته ليس له شريك لأن المشركين أشركوا معه الآلهة فكذبهم اللّه تعالى بقوله : وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ يعني لا شريك له في ألوهيته ولا نظير له في الربوبية والتوحيد ، هو نفي الشريك والقسيم والشبيه فاللّه تعالى واحد في أفعاله لا شريك له يشاركه في مصنوعاته وواحد في ذاته لا قسيم له وواحد في صفاته لا يشبهه شيء من خلقه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير للوحدانية بنفي غيره من الألوهية وإثباتها له سبحانه وتعالى : الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ يعني أنه المولى لجميع النعم وأصولها وفروعها فلا شيء سواه بهذه الصفة لأن كل ما سواه إما نعمة وأما منعم عليه. وهو المنعم على خلقه الرحيم بهم. عن أسماء بنت يزيد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (اسم اللّه الأعظم في هاتين الآيتين : وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ، وفاتحة آل عمران : الم اللّه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح. وقيل : لما نزلت هذه الآية. قال المشركون : إن محمدا يقول : (إلهكم إله واحد فليأتنا بآية إن كان صادقا) فأنزل اللّه تعالى : ١٦٤إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وعلمه كيفية الاستدلال على وحدانية الصانع ، وردهم إلى التفكر في آياته والنظر في عجائب مصنوعاته وإتقان أفعاله ففي ذلك دليل على وحدانيته إذ لو كان في الوجود صانعان لهذه الأفعال ، لاستحال اتفاقهما على أمر واحد ولامتنع في أفعالهما التساوي في صفة الكمال فثبت بذاك أن خالق هذا العالم والمدبر له واحد قادر مختار ، فبين سبحانه وتعالى من عجائب مخلوقاته ثمانية أنواع أولها : إن في خلق السموات والأرض وإنما جمع السموات لأنها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الأخرى ووحد الأرض لأنها جنس واحد وهو التراب ، والآية في السماء هي سمكها وارتفاعها بغير عمد ، ولا علاقة وما يرى فيها من الشمس والقمر والنجوم ، والآية في الأرض مدها وبسطها على الماء ، وما يرى فيها من الجبال والبحار والمعادن والجواهر والأنهار والأشجار والثمار والنبات. النوع الثاني قوله تعالى : وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي تعاقبهما في المجيء والذهاب وقيل اختلافهما في الطول والقصر والزيادة والنقصان والنور والظلمة. وإنما قدم الليل على النهار لأن الظلمة أقدم. والآية في الليل والنهار أن انتظام أحوال العباد بسبب طلب الكسب والمعيشة يكون في النهار وطلب النوم والراحة يكون في الليل فاختلاف الليل والنهار إنما هو لتحصيل مصالح العباد. النوع الثالث قوله تعالى : وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ أي السفن واحدة وجمعه سواء ، وسمي البحر بحرا لاتساعه وانبساطه ، والآية في الفلك تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقرة بالأثقال والرجال فلا ترسب وجريانها بالريح مقبلة ومدبرة ، وتسخير البحر لحمل الفلك مع قوة سلطان الماء ، وهيجان البحر فلا ينجي منه إلّا اللّه تعالى النوع الرابع قوله تعالى : بِما يَنْفَعُ النَّاسَ يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات لطلب الأرباح ، والآية في ذلك أن اللّه تعالى لو لم يقو قلب من يركب هذه السفن لما تم الغرض في تجاراتهم ، ومنافعهم وأيضا فإن اللّه تعالى خص كل قطر من أقطار العالم بشيء معين ، وأحوج الكل إلى الكل فصار ذلك سببا يدعوهم إلى اقتحام الأخطار في الأسفار من ركوب السفن وخوض البحر وغير ذلك فالحامل ينتفع ، لأنه يربح والمحمول إليه ينتفع بما حمل إليه. النوع الخامس قوله تعالى : وَما أَنْزَلَ اللّه مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ يعني المطر قيل أراد بالسماء السحاب سمي سماء لأن كل ما علاك فأظلك فهو سماء خلق اللّه الماء في السحاب ، ومنه ينزل إلى الأرض وقيل : أراد السماء بعينها خلق اللّه الماء في السماء ومنه ينزل إلى السحاب ثم منه إلى الأرض فَأَحْيا بِهِ أي بالماء الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي يبسها وجدبها سماه موتا مجازا لأنها إذا لم تنبت شيئا ، ولم يصبها المطر فهي كالميتة ، والآية في إنزال المطر وإحياء الأرض به أن اللّه تعالى جعله سببا لإحياء الجميع من حيوان ونبات ونزوله عند وقت الحاجة إليه بمقدار المنفعة ، وعند الاستسقاء والدعاء وإنزاله بمكان دون مكان. النوع السادس قوله تعالى : وَبَثَّ أي فرق فِيها أي في الأرض مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ قال ابن عباس : يريد كل ما دب على وجه الأرض من جميع الخلق من الناس وغيرهم ، والآية في ذلك أن جنس الإنسان يرجع إلى أصل واحد وهو آدم ثم ما فيهم من الاختلاف في الصور والأشكال والألوان والألسنة والطبائع والأخلاق والأوصاف إلى غير ذلك ثم يقاس على بني آدم سائر الحيوان. النوع السابع قوله تعالى : وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ يعني في مهابّها قبولا ودبورا وشمالا وجنوبا ونكباء وهي الريح التي تأتي من غير مهب صحيح ، فكل ريح تختلف مهابها تسمى : نكباء وقيل : تصريفها في أحوال مهابها لينة وعاصفة وحارة وباردة وسميت ريحا لأنها تريح قال ابن عباس : أعظم جنود اللّه الريح وقيل ما هبت ريح إلّا لشفاء سقيم أو ضده. وقيل : البشارة في ثلاث رياح الصبا والشمال والجنوب والدبور : هي الريح العقيم التي أهلكت بها عاد فلا بشارة فيها ، والآية في الريح أنها جسم لطيف لا يمسك ولا يرى وهي مع ذلك في غاية القوة تقلع الشجر والصخر وتخرب البنيان العظيم وهي مع ذلك حياة الوجود فلو أمسكت طرفة عين لمات كل ذي روح وأنتن ما على وجه الأرض. النوع الثامن قوله تعالى : وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي الغيم المذلل سمي سحابا لسرعة سيره كأنه يسحب. والآية في ذلك أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة التي تسيل منها الأدوية العظيمة يبقى معلقا بين السماء والأرض ، ففي هذه الأنواع الثمانية المذكورة في هذه الآية دلالة عظيمة على وجود الصانع القادر المختار ، وأنه الواحد في ملكه فلا شريك له ولا نظير وهو المراد من قوله : (و إلهكم إله واحد لا إله إلّا هو) وقوله : لَآياتٍ أي فيما ذكر من دلائل مصنوعاته الدالة على وحدانيته قيل إنما جمع آيات لأن في كل واحد مما ذكر من هذه الأنواع آيات كثيرة تدل على أن لها خالقا مدبرا مختارا لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي ينظرون بصفاء عقولهم ويتفكرون بقلوبهم ، فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقا ومدبرا مختارا وصانعا قادرا على ما يريد. قوله عز وجل : ١٦٥وَمِنَ النَّاسِ يعني المشركين مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّه أَنْداداً يعني أصناما يعبدونها والند المثل المنازع فعلى هذا الأصنام أندادا بعضها لبعض وليست أندادا للّه تعالى وتعالى اللّه أن يكون له ند ، أوله مثل منازع وقيل : الأنداد الأكفاء من الرجال وهم رؤساؤهم وكبراؤهم الذين يطيعونهم في معصية اللّه تعالى : يُحِبُّونَهُمْ أي يودونهم ويميلون إليهم والحب نقيض البغض وأحببت فلانا أي جعلته معرضا بأن تحبه والمحبة الإرادة كَحُبِّ اللّه أي كحب المؤمنين للّه والمعنى : يحبون الأصنام كما يحب المؤمنون ربهم عزّ وجلّ. وقيل : معناه يحبونهم كحب اللّه فيكون المعنى أنهم يسوون بين الأصنام وبين اللّه في المحبة فمن قال ب القول الأول لم يثبت للكفار محبة اللّه تعالى ومن قال ب القول الثاني أثبت للكفار محبة اللّه تعالى لكن جعلوا الأصنام شركاء له في الحب وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للّه أي أثبت وأدوم على محبته لأنهم لا يختارون مع اللّه سواه ، والمشركون إذا اتخذوا صنما ثم رأوا آخر أحسن منه طرحوا الأول واختاروا الثاني. وقيل : إن الكفار يعدلون عن أصنامهم في الشدائد ويقبلون إلى اللّه تعالى كما أخبر عنهم فإذا ركبوا في الفلك دعوا اللّه مخلصين له الدين. والمؤمنون لا يعدلون عن اللّه تعالى في السراء ولا في الضراء ولا في الشدة ولا في الرخاء وقيل : إن المؤمنين يوحدون ربهم والكفار يعبدون أصناما كثيرة فتنقص المحبة لصنم واحد. وقيل : إنما هو قال وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للّه لأن اللّه أحبهم أولا فأحبوه ومن شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته أتم وسيأتي بسط الكلام في معنى المحبة عند قوله : يحبهم ويحبونه وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قرئ بالتاء والمعنى ولو ترى يا محمد الذين ظلموا. يعني أشركوا في شدة العذاب ، لرأيت أمرا عظيما وقرئ بالياء ومعناه ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم عند رؤية العذاب حين يقذف بهم في النار لعرفوا مضرة الكفر وأن ما اتخذوه من الأصنام لا ينفعهم إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للّه جَمِيعاً معناه لو رأى الذين كانوا يشركون في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرون العذاب أن القوة ثابتة للّه جميعا ، والمعنى أنهم شاهدوا من قدرة اللّه تعالى ما تيقنوا معه أن القوة له جميعا ، وأن الأمر ليس على ما كانوا عليه من الشرك والجحود وَأَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعَذابِ قوله عز وجل : ١٦٦إِذْ تَبَرَّأَ أي تنزه وتباعد الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ أي القادة من مشركي الإنس من الأتباع وذلك يوم القيامة حين يجمع القادة والأتباع فيتبرأ بعضهم من بعض عند نزول العذاب بهم وعجزهم عن دفعه عن أنفسهم فكيف عن غيرهم. وقيل : هم الشياطين يتبرؤون من الإنس ، والقول هو الأول وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ يعني الوصلات التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها من قرابة وصداقة. وقيل : الأعمال التي كانت بينهم يعملونها في الدنيا. وقيل : العهود والحلف التي كانت بينهم يتوادون عليها. وأصل السبب في اللغة الحبل الذي يصعد به النخل وسمي كل ما يتوصل به إلى شيء من ذريعة أو قرابة أو مودة سببا تشبيها بالحبل الذي يصعد به ١٦٧وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا يعني الأتباع لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي رجعة إلى الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ أي من المتبوعين كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا اليوم كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللّه أي كما أراهم العذاب يريهم اللّه أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ لأنهم أيقنوا بالهلاك. والحسرة الغم على ما فاته وشدة الندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه ، والمعنى أن اللّه تعالى يريهم السيئات التي عملوها ، وارتكبوها في الدنيا فيتحسرون لم عملوها؟. وقيل : يريهم ما تركوا من الحسنات فيندمون على تضييعها. وقيل : يرفع لهم منازلهم في الجنة فيقال لهم تلك مساكنكم لو أطعتم اللّه ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يتحسرون ويندمون على ما فاتهم ولا ينفعهم الندم وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ قوله عز وجل : ١٦٨يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة وبني مدلج فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام. والحلال المباح الذي أحله الشرع وانحلت عقدة الحظر عنه ، وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد. والطيب ما يستلذ ، والمسلم لا يستطيب إلّا الحلال ويعاف الحرام. وقيل : الطيب هو الطاهر لأن النجس تكرهه النفس وتعافه وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي لا تسلكوا سبيله. وقيل معناه لا تأثموا به ولا تتبعوا آثاره وزلاته ، والمعنى احذروا أن تتعدوا ما أحل اللّه لكم إلى ما يدعوكم إليه الشيطان. قيل : هي النذور في المعاصي. وقيل : هي المحقرات من الذنوب ثم بين علة هذا التحذير ، بقوله تعالى : إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة وقد أظهر اللّه تعالى عداوته بآية السجود لآدم ثم بين عداوته ما هي ١٦٩فقال تعالى : إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ يعني بالإثم. والسوء ما يسوء صاحبه ويخزيه وَالْفَحْشاءِ يعني بها المعاصي وما قبح من قول أو فعل. قال ابن عباس : السوء ما لا حد فيه ، والفحشاء ما يجب فيه الحد. وقيل الفحشاء الزنا. وقيل هو البخل وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّه ما لا تَعْلَمُونَ يعني من تحريم الحرث والأنعام ويتناول ذلك جميع المذاهب الفاسدة التي لم يأذن فيها اللّه ولم ترد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. واعلم أن أمر الشيطان ووسوسته عبارة عن هذه الخواطر التي يجدها الإنسان في قلبه ، وماهية هذه الخواطر حروف وأصوات منتظمة خفية تشبه الكلام في الخارج ، ثم إن فاعل هذه الخواطر هو اللّه تعالى وهو المحدث لها في باطن الإنسان ، وإنما الشيطان كالعرض ، واللّه هو المقدر له على ذلك وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) وإنما أقدر على ذلك لإيصال هذه الخواطر إلى باطن الإنسان. ١٧٠قوله عز وجل : وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللّه هذه قصة مستأنفة والضمير في (لهم) يعود إلى غير مذكور. قال ابن عباس : دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اليهود إلى الإسلام. فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فهم كانوا خيرا منا وأعلم منا فأنزل اللّه هذه الآية. وقيل : إن الآية متصلة بما قبلها والضمير في (لهم) يعود إلى قوله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّه أَنْداداً وهم مشركو العرب. قالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا يعني من عبادة الأصنام. وقيل : بل الضمير في (لهم) يعود على قوله : يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ والمعنى وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل اللّه يعني في تحليل ما حرموا على أنفسهم قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا يعني وجدنا عَلَيْهِ آباءَنا من التحريم والتحليل ، قال اللّه تعالى : أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ يعني الذين يتبعونهم لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً يعني لا يعلمون شيئا من أمر الدين ، لفظه عام ومعناه خاص وذلك أنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا وَلا يَهْتَدُونَ أي إلى الصواب. ثم ضرب لهم مثلا فقال تعالى : ١٧١وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً النعيق صوت الراعي بالغنم ، ولا يقال نعق إلّا للراعي بالغنم وحدها ، ومعنى الآية : ومثلك يا محمد ومثل الكفار في وعظهم ودعائهم إلى اللّه كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم وهي لا تسمع إلّا صوتا فصار الداعي إلى اللّه وهو الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بمنزلة الراعي ، وصار الكفار بمنزلة الغنم المنعوق بها ، ووجه المثل أن الغنم تسمع الصوت ولا تفطن للمراد وكذلك الكفار يسمعون صوت الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ولكن لا ينتفعون به ، وقيل معناه ومثل الذين كفروا في قلة عقلهم وفهمهم عن اللّه ورسوله كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفهم من الأمر والنهي إلّا الصوت فيكون المعنى بالمثل المنعوق به خارج عن الناعق. وقيل : معناه ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام التي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بالغنم ، فهو لا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه غني عن الدعاء والنداء ، فكذلك الكافر ليس له من دعاء الأصنام وعبادتها إلّا العناء والبلاء ، والفرق بين هذا القول والقول الذي قبله أن المحذوف هنا هو المدعو وهي الأصنام وفي القول الأول المحذوف هو الداعي وهو الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ لما شبههم بالبهائم زاد في تبكيتهم فقال : صم لأنهم إذا سمعوا الحق ودعاء الرسول ، ولم ينتفعوا به صاروا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع ولا يعقل كأنه أصم ، بكم أي عن النطق بالحق عمي أي عن طريق الهدى فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ قيل المراد به العقل الكسبي لأن العقل الطبيعي كان حاصلا فيهم ١٧٢قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ قيل إن الأمر في قوله : كلوا قد يكون للوجوب كالأكل لحفظ النفس ودفع الضرر عنها ، وقد يكون للندب كالأكل مع الضيف وقد يكون للإباحة إذا خلا من هذه العوارض. والطيب هو الحلال (م) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إن اللّه طيب ولا يقبل إلّا الطيب وإن اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا وقال : يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء : يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك). قوله : أشعث أغبر هو البعيد العهد بالدهن والغسل والنظافة. وقيل الطيب المستلذ من الطعام فلعل قوما تنزهوا عن أكل المستلذ من المطاعم فأباح اللّه تعالى لهم ذلك وَاشْكُرُوا للّه يعني على نعمه إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي اشكروا اللّه الذي رزقكم هذه النعم إن كنتم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه إلهكم لا غيره وقيل إن كنتم عارفين باللّه وبنعمه فاشكروه عليها. ١٧٣قوله عز وجل : إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ لما أمرنا اللّه تعالى في الآية التي تقدمت بأكل الطيبات التي هي الحلالات بين في هذه الآية أنواعا من المحرمات ، أما الميتة فكل ما فارقته روحه من غير ذكاة مما يذبح. وأما الدم فهو الجاري وكانت العرب تجعل الدم في المصارين ثم تشويه وتأكله فحرم اللّه الدم. وأما الخنزير فإنه أراد بلحمه جميع أجزائه وإنما خص اللحم بالذكر لأنه المقصود لذاته بالأكل وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه يعني وما ذبح للأصنام والطواغيت وأصل الإهلال رفع الصوت وذلك أنهم كانوا يرفعون أصواتهم بذكر آلهتهم إذا ذبحوا لها فجرى ذلك مجرى أمرهم وحالهم حتى قيل لكم ذابح مهل وإن لم يجهر بالتسمية فَمَنِ اضْطُرَّ يعني إلى أكل الميتة وأحوج إليها غَيْرَ باغٍ أصل البغي الفساد وَلا عادٍ أصله من العدوان وهو الظلم ومجاوزة الحد فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي فأكل فلا إثم عليه ، أي فلا حرج في أكلها إِنَّ اللّه غَفُورٌ أي لما أكله في حال الضرورة رَحِيمٌ يعني حيث رخص لعباده في ذلك. (فصل في حكم هذه الآية وفيه مسائل) الأولى في حكم الميتة أجمعت الأمة على تحريم أكل الميتة ، وأنها نجسة واستثنى الشرع منها السمك والجراد ، أما السمك فلقوله صلّى اللّه عليه وسلّم في البحر : (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) أخرجه الجماعة غير البخاري ومسلم. قال الترمذي : فيه حديث حسن صحيح. وأما الجراد فلما روي عن ابن أبي أوفى قال : (غزونا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سبع غزوات ، أو ستا وكنا نأكل الجراد ونحن معه) أخرجاه في الصحيحين. واختلف في السمك الميت الطافي على الماء فقال مالك والشافعي لا بأس به وقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حي إنه مكروه وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال : ما طفى من صيد البحر فلا تأكله وعن ابن عباس وجابر بن عبد اللّه مثله وروي عن أبي بكر الصديق وأبي أيوب إباحته. واختلف في الجراد ، فقال الشافعي وأبو حنيفة : لا بأس بأكل الجراد كله ما أخذته وما وجدته ميتا. وروى مالك أن ما وجد ميتا فلا يحل وما أخذ حيا يذكى زكاة مثله بأن يقطع رأسه ويشوى فإن غفل عنه حتى يموت فلا يحل. المسألة الثانية في حكم الدم : اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ، ولا ينتفع به. قال الشافعي : تحرم جميع الدماء سواء كان مسفوحا أو غير مسفوح. وقال أبو حنيفة : دم السمك ليس بحرام قال لأنه إذا يبس ابيض واستثنى الشارع من الدم الكبد والطحال. روى الدار قطني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبد اللّه بن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (أحل لنا من الدم دمان ومن الميتة ميتتان الحوت والجراد ومن الدم الكبد والطحال) وفي لفظ آخر : (أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالجراد والحوت ، وأما الدمان فالطحال والكبد) أخرجه ابن ماجة وأحمد بن حنبل. قال أحمد وعلي بن المديني : عبد الرحمن بن زيد ضعيف. وأخوه عبد اللّه بن زيد قوي. ثقة. وقد أخرج الدار قطني هذا الحديث من رواية عبد اللّه بن زيد عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا وضعف أبو بكر بن العربي هذا الحديث وقال : يروى عن عمر بما لا يصح سنده وقال البيهقي : يروى هذا الحديث عن ابن عمر موقوفا ومرفوعا والصحيح الموقوف. واختلف في تخصيص هذا العموم في الكبد والطحال فقال : مالك لا تخصيص لأن الكبد والطحال لحم ، ويشهد لذلك العيان الذي لا يفتقر إلى برهان وقال الشافعي : هما دمان ويشهد له الحديث فهو تخصيص من العموم. المسألة الثالثة في الخنزير : أجمعت الأمة على أن الخنزير بجميع أجزائه محرم ، وإنما ذكر اللّه تعالى لحمه لأن معظم الانتفاع متعلق به ثم اختلفوا في نجاسته فقال جمهور العلماء إنه نجس وقال مالك : إنه طاهر. وكذا كل حيوان عنده ، لأن علة الطهارة هي الحياة وللشافعي قولان : في ولوغ الخنزير الجديد أنه كالكلب والقديم يكفي في ولوغه غسلة واحدة. والفرق بينهما أن التغليظ في الكلب لأن العرب كانت تألفه بخلاف الخنزير. وقيل : إن التغليظ في الكلب تعبدي لا يعقل معناه فلا يتعدى إلى غيره. المسألة الرابعة في حكم قوله : وما أهل به لغير اللّه : من الناس من زعم أن المراد بذلك ذبائح عبدة الأوثان التي كانوا يذبحونها لأصنامهم ، وأجاز ذبيحة النصارى إذا سمي عليها باسم المسيح وهو مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب لعموم قوله : وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة : لا يحل ذلك والحجة فيه أنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فقد أهلوا به لغير اللّه فوجب أن يحرم. وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال : إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير اللّه فلا تأكلوا وإذا لم تسمعوهم فكلوا ، فإن اللّه قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. المسألة الخامسة في حكم المضطر : المضطر هو المكلف بالشيء ، الملجأ إليه المكره عليه والمراد بالمضطر في قوله فمن اضطر أي خاف التلف حتى قيل : من اضطر إلى أكل فلم يأكل الميتة فلم يأكل منها حتى مات دخل النار. والمضطر على ثلاثة أقسام : إما بإكراه أو بجوع في مخمصة أو بفقر لا يجد شيئا البتة فإن التحريم يرتفع مع وجود هذه الأقسام بحكم الاستثناء في قوله : فلا إثم عليه وتباح له الميتة فأما الإكراه فيبيح ذلك إلى زوال الإكراه وأما المخمصة فلا يخلو إن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع منها ، وإن كانت نادرة فاختلف العلماء فيه. وللشافعي قولان أحدهما أنه يأكل ما يسد به الرمق ، وبه قال أبو حنيفة. والثاني يأكل قدر الشبع ، وبه قال مالك. المسألة السادسة في قوله غير باغ ولا عاد : قال ابن عباس : معنى غير باغ غير خارج على السلطان ولا عاد أي معتد يعني العاصي بسفره بأن يخرج لقطع الطريق أو أبق من مولاه فلا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل من الميتة إذا اضطر إليها ، ولا يترخص برخص المسافرين حتى يتوب ، وبه قال الشافعي : لأن إباحة الميتة له إعانة له على فساده وذهب قوم إلى أن البغي والعدوان يرجعان إلى الأكل وبه قال أبو حنيفة. وأباح أكل الميتة للمضطر وإن كان عاصيا ، وقيل في معنى قوله غير باغ أي غير طالب الميتة وهو يجد غيرها ولا عاد أي غير متعد ما حدّ له ، وقيل : غير مستحل لها ولا متزود منها. قوله عز وجل : ١٧٤إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللّه مِنَ الْكِتابِ نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم وذلك أنهم كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمآكل وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم ، فلما بعث محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وهو من غيرهم خافوا على ذهاب مآكلهم وزوال رئاستهم فعمدوا إلى صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكتموها فأنزل اللّه : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللّه مِنَ الْكِتابِ أي في الكتاب من صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ونعته ووقت نبوته هذا قول المفسرين قال الإمام فخر الدين الرازي وعند المتكلمين هذا ممتنع لأن التوراة والإنجيل قد بلغا من الشهرة والتواتر إلى حيث تعذر ذلك فيهما بل كانوا يكتمون التأويل لأنه قد كان منهم من يعرف الآيات الدالة على نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة ويصرفونها عن محالها الصحيحة الدالة على نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فهذا هو المراد بالكتمان فيصير المعنى ، إن الذين يكتمون معاني ما أنزل اللّه من الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ أي بالكتمان وقيل يعود الضمير إلى ما أنزل اللّه من الكتاب ثَمَناً قَلِيلًا أي عوضا يسيرا وهي المآكل التي كانوا يأخذونها من سفلتهم أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ يعني ما يؤديهم إلى النار وهو الرشا والحرام فلما كان يفضي بهم ذلك إلى النار فكأنهم أكلوها وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللّه يَوْمَ الْقِيامَةِ أي كلام رحمة وما يسرهم بل يكلمهم بالتوبيخ ، وهو قوله اخسئوا فيها وقيل أراد به الغضب يقال فلان لا يكلم فلانا إذا غضب عليه وَلا يُزَكِّيهِمْ أي ولا يطهرهم من دنس الذنوب وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي وجيع يصل ألمه إلى قلوبهم ١٧٥أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ معناه : أنهم اختاروا الضلالة على الهدى واختاروا العذاب على المغفرة لأنهم كانوا عالمين بالحق ، ولكن كتموه وأخفوه وكان في إظهاره الهدى والمغفرة وفي كتمانه الضلالة والعذاب فلما أقدموا على إخفاء الحق وكتمانه كانوا بائعين الهدى بالضلالة والمغفرة بالعذاب فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ أي ما الذي صبرهم وأي شيء جسرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل ، فهو استفهام بمعنى التوبيخ وقيل : إنه بمعنى التعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم ، فلما أقدموا على ما يوجب النار مع علمهم بذلك صاروا كالراضين بالعذاب والصابرين عليه ، تعجب من حالهم بقوله : فما أصبرهم على النار. ١٧٦ذلِكَ بِأَنَّ اللّه نَزَّلَالْكِتابَ يعني ذلك العذاب بسبب إن اللّه نزل الكتاب بِالْحَقِّ فكفروا به وأنكروه وقيل معناه فعلنا بهم ذلك ، لأن اللّه أنزل الكتاب بالحق فحرفوه فعلى هذا يكون المراد بالكتاب التوراة وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ يعني اختلفوا في معانيه وتأويله فحرفوها وبدلوها ، وقيل : آمنوا ببعض وكفروا ببعض لَفِي شِقاقٍ أي خلاف ومنازعة بَعِيدٍ يعني عن الحق. ١٧٧قوله عز وجل : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ هذا خطاب لأهل الكتاب لأن النصارى تصلي قبل المشرق واليهود قبل المغرب إلى بيت المقدس ، وزعم كل طائفة منهم أن البر في ذلك ، فأخبر اللّه تعالى أن البر ليس فيما زعموا ولكن فيما بينه في هذه الآية. وقال ابن عباس : هو خطاب للمؤمنين وذلك أن الرجل كان في ابتداء الإسلام إذا أتى بالشهادتين وصلى إلى أي جهة كانت ثم مات على ذلك ، وجبت له الجنة فلما هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ونزلت الفرائض وصرفت القبلة إلى الكعبة ، أنزل اللّه هذه الآية فقال تعالى : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ أي في صلاتكم قبل المشرق والمغرب ولا تعملوا ذلك وَلكِنَّ الْبِرَّ يعني ما بينته لكم والبر اسم جامع لكل الطاعات وأعمال الخير المقربة إلى اللّه الموجبة للثواب والمؤدية إلى الجنة ثم بين خصالا من البر فقال تعالى : مَنْ آمَنَ بِاللّه أي ولكن البر من آمن باللّه فالمراد بالبر هنا الإيمان باللّه والتقوى من اللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وإنما ذكر الإيمان باليوم الآخر ، لأن عبدة الأوثان كانوا ينكرون البعث بعد الموت وَالْمَلائِكَةِ أي ومن البر الإيمان بالملائكة كلهم لأن اليهود قالوا : إن جبريل عدونا وَالْكِتابِ قيل : أراد به القرآن وقيل جميع الكتب المنزلة لسياق ما بعده وهو قوله وَالنَّبِيِّينَ يعني أجمع وإنما خص الإيمان بهذه الأمور الخمسة لأنه يدخل تحت كل واحد منها أشياء كثيرة مما يلزم المؤمن أن يصدق بها وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ يعني من أعمال البر إيتاء المال على حبه قيل إن الضمير راجع إلى المال فالتقدير على هذا وآتى المال على حب المال (ق) عن أبي هريرة قال : (جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللّه أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان) قوله حتى إذا بلغت الحلقوم يعني الروح وإن لم يتقدم لها ذكر وقوله لفلان كذا هو كناية عن الموصى له وقوله وقد كان لفلان كناية عن الوارث وقيل الضمير في حبه راجع إلى اللّه تعالى أي وآتي المال على حب اللّه وطلب مرضاته ذَوِي الْقُرْبى يعني أهل قرابة المعطي وإنما قدمهم لأنهم أحق بالإعطاء. عن سليمان بن عامر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذوي الرحم ثنتان صدقة وصلة) أخرجه النسائي (ق) : (إن ميمونة رضي اللّه عنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت أشعرت يا رسول اللّه أني أعتقت وليدتي قال أو قد فعلت قالت نعم قال أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) الوليدة الجارية وَالْيَتامى اليتيم هو الذي لا أب له مع الصغر وقيل : يقع على الصغير والبالغ أي وآتى الفقراء من اليتامى وَالْمَساكِينَ جمع مسكين سمي بذلك لأنه دائم السكون إلى الناس لأنه لا شيء له وَابْنَ السَّبِيلِ يعني المسافر المنقطع عن أهله سمي المسافر ابن السبيل لملازمته الطريق ، وقيل هو الضيف ينزل بالرجل لأنه إنما وصل إليه من السبيل وهو الطريق والأول أشبه لأن ابن السبيل اسم جامع جعل للمسافر وَالسَّائِلِينَ يعني الطالبين المستطعمين. عن علي بن أبي طالب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (للسائل حق ولو جاء على فرس) أخرجه أبو داود عن زيد بن أسلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (أعطوا السائل ولو جاء على فرس) أخرجه مالك في الموطأ عن أم نجيد قالت : قلت يا رسول اللّه إن المسكين ليقوم على بابي فلم أجد شيئا أعطيه إياه قال : (إن لم تجدي إلّا ظلفا محرقا فادفعيه إليه في يده) أخرجه أبو داود والترمذي. وقال حديث حسن صحيح. وفي رواية مالك في الموطأ عنها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ردوا المسكين ولو بظلف محرق) قوله ردوا المسكين ، لم يرد به رد الحرمان وإنما أراد به ردوه بشيء تعطونه إياه ولو كان ظلفا وهو خف الشاة وفي كونه محرقا مبالغة في قلة ما يعطي وَفِي الرِّقابِ يعني المكاتبين. وقيل : هو فك النسمة وعتق الرقبة وفداء الأسارى وَأَقامَ الصَّلاةَ يعني المفروضة في أوقاتها وَآتَى الزَّكاةَ يعني الواجبة وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ يعني ما أخذه اللّه من العهود على عباده بالقيام بحدوده والعمل بطاعته. وقيل : أراد بالعهد ما يجعله الإنسان على نفسه ابتداء من نذر وغيره. وقيل : العهد الذي كان بينه وبين الناس مثل الوفاء بالمواعيد وأداء الأمانات إِذا عاهَدُوا يعني إذا وعدوا أنجزوا وإذا نذروا أوفوا وإذا حلفوا بروا في أيمانهم وإذا قالوا صدقوا في أقوالهم وإذا ائتمنوا أدوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ أي في الشدة والفقر والفاقة وَالضَّرَّاءِ يعني المرض والزمانة وَحِينَ الْبَأْسِ يعني القتال والحرب في سبيل اللّه. وسمي الحرب بأسا لما فيه من الشدة (ق) عن البراء قال كنا واللّه إذا احمر البأس نتقي به وأن الشجاع منا الذي يحاذي به يعني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قوله احمر البأس : أي اشتد الحرب ونتقي به أي نجعله وقاية لنا من العدو أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي أهل هذه الأوصاف هم الذين صدقوا في إيمانهم وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ قوله عز وجل : ١٧٨يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى نزلت في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية بسبب قتيل ، فكانت بينهم قتلى وحروب وجراحات كثيرة ، ولم يأخذ بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام. وقيل نزلت في الأوس والخزرج ، وكان لأحد الحيين طول على الآخر في الكثرة والشرف وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهر ، وأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين ، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك فرفعوا أمرهم إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه هذه الآية وأمره بالمساواة فرضوا وسلموا. وقيل : إنما نزلت هذه الآية لإزالة الأحكام التي كانت قبل مبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وذلك أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط بلا عفو والنصارى يوجبون العفو بلا قتل والعرب في الجاهلية كانوا يوجبون القتل تارة ويوجبون أخذ الدية تارة وكانوا يتعدون في الحكمين فإن وقع القتل على شريف قتلوا به عددا ويأخذون دية الشريف أضعاف دية الخسيس ، فلما بعث محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أوجب اللّه رعاية العدل وسوى بين عباده في حكم القصاص فأنزل اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ أي فرض عليكم الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى . فإن قلت : كيف يكون القصاص فرضا والولي مخير فيه بين العفو والقصاص وأخذ الدية؟ قلت : إن القصاص فرض على القاتل للولي لا على الولي. وقيل إذا أردتم القصاص فقد فرض عليكم. والقصاص المساواة والمماثلة في القتل والدية والجراح من قص الأثر إذا اتبعه فالمفعول به يتبع ما فعل فيفعل به مثل ذلك ، فلو قتل رجل رجلا بعصا أو خنقه أو شدخ رأسه بحجر فمات فيقتل القاتل بمثل الذي قتل به وهو قول مالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وقيل يقتل بالسيف وهو قول أبي حنيفة والرواية الثانية عن أحمد الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ومعناه أنه إذا تكافأ الدمان من الأحرار المسلمين أو العبيد من المسلمين أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم فيقتل كل صنف إذ قتل بمثله الذكر بالذكر والأنثى بالأنثى وبالذكر ولا يقتل مؤمن بكافر ولا حر بعبد ولا والد بولد ويقتل الذمي بالمسلم والعبد بالحر والولد بالوالد هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد ويدل عليه ما روى البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة قال : سألت عليا هل عندكم من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم شيء سوى القرآن قال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلّا أن يؤتى اللّه عبدا فهما في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت : وما في هذه الصحيفة قال : العقل وفك الأسير وأن لا يقتل مؤمن بكافر ، وقد أخرج مسلم عن علي نحو هذا من غير رواية أبي جحيفة. العقل هنا هو الدية والعاقلة الجماعة من أولياء القاتل الذين يعقلون. عن ابن عباس قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (لا تقام الحدود في المساجد ، ولا يقتل الوالد بالولد) أخرجه الترمذي ، وذهب أصحاب الرأي إلى أن المسلم يقتل الذمي والحر بالعبد وهذه الآية مع الأحاديث حجة لمذهب الشافعي ومن وافقه ويقولون هي مفسرة لما أبهم في قوله : (النفس بالنفس) وأن تلك واردة لحكاية ما كتب على بني إسرائيل في التوراة وهذه الآية خطاب للمسلمين بما كتب عليهم وذهب أصحاب الرأي إلى أن هذه منسوخة بقوله (النفس بالنفس) وتقتل الجماء بالواحد يدل عليه ما روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر أن غلاما قتل غيلة فقال عمر : لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به. قال البخاري وقال مغيرة بن حكيم عن أبيه : أن أربعة قتلوا صبيا فقال عمر مثله. وروى مالك في الموطأ عن ابن المسيب أن عمر قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم جميعا. الغيلة أن يقتل الرجل خديعة ومكرا من غير أن يعلم ما يراد به. وقوله لقتلتهم لو تمالأ أي تعاونوا واجتمعوا عليه. وقوله تعالى : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أي ترك له وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد ، ورضي بالدية أو العفو عنها ، أو قبول الدية في قتل العمد من أخيه أي من دم أخيه وأراد بالأخ ولي المقتول ، وإنما قيل له أخ لأنه لابسه من قبل أنه ولي الدم والمطالب به. وقيل : إنما ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بما هو ثابت بينهما من الجنسية وأخوة الإسلام. وفي قوله شيء دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا سقط القود وثبتت الدية لأن شيئا من الدم قد بطل فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ أي فليتبع الولي القاتل بالمعروف فلا يأخذ أكثر من حقه ولا يعنفه وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أي على القاتل أداء الدية إلى ولي الدم من غير مماطلة ، أمر كل واحد منهما بالإحسان فيما له وعليه وقيل في تقدير الآية : وإذا عفا ولي الدم عن شيء يتعلق بالقاتل ، وهو وجوب القصاص فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف وليؤد ما وجب عليه من الدية إلى ولي الدم بإحسان من غير مطل ولا مدافعة. وفي الآية دليل على أن القاتل يصير كافرا وأن الفاسق مؤمن ووجه ذلك من وجوه : الأول إن اللّه تعالى خاطبه بعد القتل بالإيمان وسماه مؤمنا بقوله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فسماه مؤمنا حال ما وجب عليه من القصاص. وإنما وجب عليه بعد صدور القتل منه وقتل العمد والعدوان من الكبائر بالإجماع فدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن. الوجه الثاني : أنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وولي الدم بقوله : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أراد بالأخوة أخوة الإيمان فلو لا أن الإيمان باق على القاتل لم تثبت له الأخوة. الوجه الثالث : أنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل ، والعفو لا يليق إلّا عن المؤمن لا عن الكافر. وقوله تعالى : ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ يعني الذي ذكر من الحكم بشرع القصاص والعفو عن القصاص وأخذ الدية تخفيف من ربكم ، يعني في حقكم ورحمة ، وذلك لأن العفو وأخذ الدية كان حراما على اليهود وكان القصاص حتما في التوراة ، وكان في شرع النصارى أخذ الدية ولم يكتب عليهم القصاص ، وقيل : كان عليهم العفو دون القصاص وأخذ الدية فخير اللّه هذه الأمة بين القصاص أو العفو وأخذ الدية توسعة عليهم وتيسيرا وتفضيلا لهم على غيرهم فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ يعني بعد هذا التخفيف فقتل الجاني بعد العفو أو قبول الدية فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ وهو أن يقتل قصاصا ولا تقبل منه دية ولا يعفى عنه. وقيل : المراد بالعذاب الأليم عذاب الآخرة .. ١٧٩قوله عز وجل : وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أي بقاء ، وذلك أن القاصد للقتل إذا علم أنه إذا قتل قتل ترك القتل وامتنع عنه فيكون فيه بقاؤه وبقاء من هم بقتله. وقيل : إن نفس القصاص سبب للحياة وذلك أن القاتل إذا اقتص منه ارتدع غيره ممن كان يهم بالقتل. واعلم أن هذا الحكم ليس مختصا بالقصاص الذي هو القتل بل يدخل فيه جميع الجراح والشجاج وغير ذلك لأن الجارح إذا علم أنه إذا جرح جرح لم يجرح ، فيصير ذلك سببا لبقاء الجارح والمجروح ، وربما أفضت الجراحة إلى الموت فيقتص من الجارح. وقيل في معنى الآية إن الحياة سلامته من قصاص الآخرة فإنه إذا اقتص منه في الدنيا لم يقتص منه في الآخرة ، وفي ذلك حياته وإذا لم يقتص منه في الدنيا اقتص منه في الآخرة يا أُولِي الْأَلْبابِ أي يا ذوي العقول الذين يعرفون الصواب لأن العاقل لا يريد إتلاف نفسه بإتلاف غيره لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني لعلكم تنتهون عن القتل خوف القصاص. ١٨٠قوله عز وجل : كُتِبَ أي فرض وأوجب عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي قرب ودنا منه ، وظهرت آثاره عليه من العلل والأمراض المخوفة وليس المراد منه معاينة الموت لأنه في ذلك الوقت يعجز عن الإيصاء إِنْ تَرَكَ خَيْراً يعني مالا قيل يطلق على القليل والكثير وهو قول الزهري : فتجب الوصية في الكل وقيل : إن لفظة الخير لا تطلق إلّا على المال الكثير وهو قول الأكثرين واختلفوا في مقدار الكثير الذي تقع فيه الوصية فقيل : ألف درهم فما زاد عليها. وقيل : سبعمائة فما فوقها. وقيل : ستون دينارا فما فوقها. وقيل : إنه من خمسمائة إلى ألف وقيل : إنه المال الكثير الفاضل عن العيال ، روي أن رجلا قال لعائشة : إني أريد أن أوصي فقالت كم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف درهم قالت : كم عيالك؟ قال أربعة. قالت إنما قال اللّه : إِنْ تَرَكَ خَيْراً وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك. الْوَصِيَّةُ أي الإيصاء والوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به وقيل : هي القول المبين لما يستأنف من العمل والقيام به بعد الموت لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ كانت الوصية في ابتداء الإسلام فريضة للوالدين والأقربين على من مات وله مال. وسبب ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يوصون للأبعدين طلبا للفخر والشرف والرياء ويتركون الأقربين فقراء فأوجب اللّه تعالى الوصية للأقربين ، ثم نسخت هذه الآية بآية المواريث ، وبما روي عن عمرو بن خارجة قال : كنت آخذا بزمام ناقة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يخطب فسمعته يقول : (إن اللّه أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) أخرجه النسائي والترمذي ، نحوه وذهب ابن عباس إلى أن وجوبها صار منسوخا في حق من يرث ، وبقي وجوبها في حق من لا يرث من الوالدين والأقربين. وهو قول الحسن ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار وحجة هؤلاء أن الآية دالة على وجوب الوصية للوالدين والأقربين ثم نسخ ذلك الوجوب في حق من يرث بآية الميراث وبالحديث ، المذكور فوجب أن تبقى الآية دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يرث فعلى قول هؤلاء النسخ يتناول بعض أحكام الآية ، وذهب الأكثرون من المفسرين والعلماء وفقهاء الحجاز والعراق إلى أن وجوبها صار منسوخا في حق الكافة وهي مستحبة في حق من لا يرث ويدل على استحباب الوصية والحث عليها ما روي عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه) وفي رواية : (له شيء يريد أن يوصي به أن يبيت ليلتين) وفي رواية : (ثلاث ليال إلّا ووصيته مكتوبة عنده) قال نافع سمعت عبد اللّه بن عمر يقول : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول ذلك إلّا ووصيتي مكتوبة عندي أخرجه الجماعة. قوله : ما حق امرئ الحق يشتمل معناه على الوجوب والندب والحث ، فيحمل هنا على الحث في الوصية لأنه لا يدري متى يأتيه الموت فربما أتاه بغتة فيمنعه عن الوصية. وقوله تعالى : بِالْمَعْرُوفِ أي بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط فلا يزيد على الثلث ولا يوصي للغني ويدع الفقير (ق) عن سعد بن أبي وقاص قال : (جاءني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت يا رسول اللّه إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى ، وأنا ذو مال ولا يرثني إلّا ابنة لي أفأتصدق بثلثي ما لي قال لا قلت فالشطر يا رسول اللّه قال لا قلت فالثلث قال الثلث والثلث كثير أو قال والثلث كبير إنك إن تذر ذريتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) العالة الفقراء وقوله يتكففون الناس التكفف. المسألة : من الناس كأنه من الطلب بالأكف (ق) عن ابن عباس قال : في الوصية : لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال لسعد والثلث كثير وقال علي بن أبي طالب لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث فمن أوصى بالثلث فلم يترك) وقيل يوصي بالسدس أو بالخمس أو الربع حَقًّا أي ثابتا ثبوت ندب لا ثبوت فرض ووجوب عَلَى الْمُتَّقِينَ أي على المؤمنين الذين يتقون الشرك. ١٨١فَمَنْ بَدَّلَهُ أي غير الوصية من الأولياء والأوصياء وذلك التغيير يكون إما في الكتابة أو في قسمة الحقوق ، أو الشهود بأن يكتموا الشهادة أو يغيروها. وإنما ذكر الكناية في بدله مع أن الوصية مؤنثة لأن الوصية بمعنى الإيصاء كقوله : (فمن جاءه موعظة) أي وعظ والتقدير فمن بدل قول الميت ، أو ما أوصي به بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي من الموصي وتحققه فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ أي إن إثم ذلك التبديل لا يعود إلّا على المبدل ، والموصي والموصى له بريئان منه إِنَّ اللّه سَمِيعٌ يعني لما أوصى به الموصي عَلِيمٌ يعني بتبديل المبدل. ١٨٢فَمَنْ خافَ أي علم وهو خطاب عام لجميع المسلمين مِنْ مُوصٍ جَنَفاً يعني جورا في الوصية وعدولا عن الحق ، والجنف الميل أَوْ إِثْماً أي ظلما فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ وقيل الجنف الخطأ في الوصية والإثم العمد. وقيل في معنى الآية : إنه إذا حضر رجل مريضا وهو يوصي فرآه يميل في وصيته إما بتقصير أو إسراف أو وضع الوصية في غير موضعها فلا حرج عليه أن يأمره بالعدل في وصيته وينهاه عن الجنف والميل ، وقيل إنه أراد به إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف متعمدا فلا حرج على وليه أو وصيه أو ولي أمور المسلمين أن يصلح بعد موته بين ورثته وبين الموصى لهم ، ويرد الوصية إلى العدل والحق فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي فلا حرج عليه في الصلح إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن أصلح وصيته بعد الجنف والميل. عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن الرجل والمرأة ليعمل بطاعة اللّه ستين سنة ، ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار) ثم قرأ أبو هريرة : (من بعد وصية يوصي بها أو دين) إلى قوله : (ذلك الفوز العظيم) أخرجه أبو داود والترمذي. قوله : فيضار إن المضارة إيصال الضرر إلى شخص ومعنى المضارة في الوصية أن لا تمضى أو ينقص بعضها أو يوصي لغير أهلها أو يحيف في الوصية ونحو ذلك. ١٨٣قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ أي فرض عَلَيْكُمُ الصِّيامُ. والصوم في اللغة : الإمساك يقال صام النهار إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة ومنه قوله تعالى : إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي صمتا لأنه إمساك عن الكلام ، والصوم في الشرع : عبارة عن الإمساك عن الأكل والشرب والجماع في وقت مخصوص وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني من الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم والمعنى أن الصوم عبادة قديمة أي في الزمن الأول ما أخلى اللّه أمة لم يفرضه عليهم كما فرضه عليكم وذلك لأن الصوم عبادة شاقة والشيء الشاق إذا عم سهل عمله وقيل إن صيام شهر رمضان كان واجبا على النصارى كما فرض علينا فصاموا رمضان زمانا فربما وقع في الحر الشديد والبر الشديد وكان يشق ذلك عليهم في أسفارهم ويضرهم في معايشهم فاجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم أن يجعلوه في فصل من السنة معتدل بين الصيف والشتاء : فجعلوه في فصل الربيع ثم زادوا فيه عشرة أيام كفارة لما صنعوا فصاموا أربعين يوما ، ثم بعد زمان اشتكى ملكهم فمه فجعل للّه عليه إن هو برأ من وجعه أن يزيد في صومهم أسبوعا فبرأ فزاد فيه أسبوعا ، ثم مات ذلك الملك بعد زمان ووليهم ملك آخر فقال : ما شأن هذه الثلاثة أيام أتموه خمسين يوما فأتموه وقيل أصابهم موتان فقالوا : زيدوا في صيامكم فزادوا عشرا قبله وعشرا بعده. وقيل : إن النصارى فرض اللّه عليهم صوم رمضان فصاموا قبله يوما وبعده يوما ثم لم يزالوا يزيدونه يوما بعد يوم حتى بلغ خمسين فلذلك نهى عن صوم يوم الشك لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني ما حرم عليكم في صيامكم لأن الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من كسر النفس وترك الشهوات من الأكل والجماع وغيرهما. وقيل : معناه لعلكم تتقون ما فعله النصارى من تغيير الصوم وقيل : لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين لأن الصوم من شعارهم. ١٨٤أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي مقدرات. وقيل قليلات. قيل : إنه كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجبا وصوم يوم عاشوراء ثم نسخ ذلك بفريضة صوم شهر رمضان. قال ابن عباس أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة ثم الصوم (ق) عن عائشة قالت : كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصومه في الجاهلية فلما قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه وقيل إن المراد من قوله أياما معدودات أيام شهر رمضان ووجهه أن اللّه تعالى قال أولا : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ وهذا يحتمل صوم يوم أو يومين ثم بينه بقوله : معدودات على أنه أكثر من ذلك لكنها غير منحصرة بعدد ثم بين حصرها بقوله : شهر رمضان فإذا أمكن ذلك فلا وجه لحمل الأيام المعدودات على غير رمضان فتكون الآية غير منسوخة يقال : إن فريضة رمضان نزلت في السنة الثانية من الهجرة وذلك قبل غزوة بدر بشهر وأيام ، وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ أي فأفطر فعليه فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يعني غير أيام مرضه وسفره وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي يطيقون الصوم. واختلف العلماء في حكم هذه الآية فذهب أكثرهم إلى أنها منسوخة وهو قول عمر بن الخطاب وسلمة بن الأكوع وغيرهما ، وذلك أنهم كانوا في ابتداء الإسلام مخيرين بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويفدوا وإنما خيرهم اللّه تعالى لئلا يشق عليهم ، لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم ثم نسخ التخيير ونزلت العزيمة بقوله تعالى : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فصارت هذه الآية ناسخة للتخيير (ق) عن سلمة بن الأكوع قال لما نزلت هذه الآية وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ كان من أراد أن يفطر ويفتدي فعل حتى نزلت هذه الآية التي بعدها فنسخها وفي رواية حتى نزلت هذه الآية فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ، وقال قتادة : هي خاصة في حق الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ولكن يشق عليه رخص له أن يفطر ويفتدي ثم نسخ ذلك. وقال الحسن : هذا في المريض الذي يقع عليه اسم المرض وهو يستطيع الصوم خير بين الصيام وبين أن يفطر ويفتدي ثم نسخ. وذهب جماعة منهم ابن عباس إلى أن الآية محكمة غير منسوخة ، ومعناها وعلى الذين كانوا يطيقونه في حال الشباب ، ثم عجزوا عنه عند الكبر فعليهم الفدية بدل الصوم وقرأ ابن عباس : وعلى الذين يطوقونه بضم الياء وفتح الطاء وبالواو المشددة المفتوحة عوض الياء ومعناه يكلفون الصوم (خ) عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ : (و على الذين يطوقونه فدية طعام مسكين) قال ابن عباس : ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ الفدية الجزاء وهو القدر الذي يبذله الإنسان ، يقي به نفسه من تقصير وقع منه في عبادة ونحوها ويجب على من أفطر في رمضان ولم يقدر على القضاء ، لكبر أن يطعم مكان كل يوم مسكينا مدا من غالب قوت البلد وهذا قول فقهاء الحجاز ، وقال بعض فقهاء العراق عليه لكل مسكين نصف صاع عن كل يوم وقال بعضهم نصف صاع من البر وصاع من غيره ، وقال ابن عباس يعطي كل مسكين عشاءه وسحوره فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ يعني زاد على مسكين واحد فأطعم عن كل يوم مسكينين فأكثر ، وقيل فمن زاد على قدر الواجب عليه فأطعم صاعا وعليه مد فهو خير له وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ قيل هو خطاب مع الذين يطيقونه فيكون المعنى وأن تصوموا أيها المطيقون وتتحملوا المشقة فهو خير لكم من الإفطار والفدية ، وقيل : هو خطاب مع الكافة وهو الأصح لأن اللفظ عام فرجوعه إلى الكل أولى إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني أن الصوم خير لكم وقيل : معناه إذا صمتم علمتم ما في الصوم من المعاني المورثة للخير والتقوى. واعلم أنه لا رخصة لأحد من المسلمين المكلفين في إفطار رمضان بغير عذر والأعذار المبيحة للفطر ثلاثة : أحدها السفر والمرض والحيض والنفاس فهؤلاء إذا أفطروا فعليهم القضاء دون الكفارة. الثاني الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء والكفارة وإليه ذهب الشافعي ، وذهب أهل الرأي إلى أنه لا فدية عليهما. الثالث الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة والمريض الذي لا يرجى برؤه فعليهم الكفارة دون القضاء. ١٨٥قوله عز وجل : شَهْرُ رَمَضانَ يعني وقت صيامكم شهر رمضان ، سمي الشهر شهرا لشهرته يقال : للسر إذا أظهره شهره وسمي الهلال شهرا لشهرته وبيانه وقيل : سمي الشهر شهرا باسم الهلال ، وأما رمضان فاشتقاقه من الرمضاء وهي الحجارة المحماة في الشمس وقيل : إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسموه به. وقيل : إن رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى فيكون معناه شهر اللّه والأصح أن رمضان اسم لهذا الشهر كشهر رجب وشهر شعبان وشهر رمضان الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ لما خص اللّه شهر رمضان بهذه العبادة العظيمة بين سبب تخصيصه بإنزال أعظم كتبه فيه ، والقرآن اسم لهذا الكتاب المنزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم روي عن الشافعي أنه كان يقول القرآن اسم وليس بمهموز وليس هو من القراءة ولكنه اسم لهذا الكتاب كالتوراة والإنجيل فعلى هذا القول إنه ليس بمشتق وذهب الأكثرون إلى أنه مشتق من القرء وهو الجمع فسمي قرآنا لأنه يجمع السور والآيات بعضها إلى بعض ، ويجمع الأحكام والقصص والأمثال والآيات الدالة على وحدانية اللّه تعالى. قال ابن عباس أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا ، ثم نزل به جبريل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم نجوما في ثلاث وعشرين سنة فذلك قوله : (فلا أقسم بمواقع النجوم) وروى أبو داود عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : (أنزلت صحف إبراهيم في ثلاث ليال مضين من رمضان ، وفي رواية في أول ليلة من رمضان وأنزلت توراة موسى في ست ليال مضين من رمضان وأنزل إنجيل عيسى في ثلاث عشرة ليلة مضت من رمضان ، وأنزل زبور داود في ثمان عشرة ليلة مضت من رمضان ، وأنزل الفرقان على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في الرابعة والعشرين لست بقين بعدها) فعلى هذا يكون ابتداء نزول القرآن على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في شهر رمضان ، وهو قول ابن إسحاق وأبي سليمان الدمشقي وقيل في معنى الآية شهر رمضان الذي نزل بفرض صيامه القرآن كما تقول نزلت هذه الآية في الصلاة والزكاة ونحو ذلك من الفرائض يروى ذلك عن مجاهد والضحاك وهو اختيار الحسن بن الفضل هُدىً لِلنَّاسِ يعني من الضلال وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ. فإن قلت هذا فيه إشكال وهو أنه يقال ما معنى قوله : وبينات من الهدى بعد قوله هدى للناس؟ قلت إنه تعالى ذكر أولا أنه هدى ثم الهدى على قسمين : تارة يكون هدى جليا وتارة لا يكون كذلك ، فكأنه قال هو هدى في نفسه ثم قال : هو المبين من الهدى الفارق بين الحق والباطل وقيل : إن القرآن هدى في نفسه فكأنه قال : إن القرآن هدى للناس على الإجمال وبينات من الهدى والفرقان على التفصيل ، لأن البينات هي الدلالات الواضحات التي تبين الحلال الحرام والحدود والأحكام ، ومعنى الفرقان الفارق بين الحق والباطل. قوله عز وجل : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ أي فمن كان حاضرا مقيما غير مسافر فأدركه الشهر فليصمه والشهود الحضور ، وقيل : هو محمول على العادة بمشاهدة الشهر وهي رؤية الهلال ولذلك قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) أخرجاه في الصحيحين ، ولا خلاف أنه يصوم رمضان من رأى الهلال ومن أخبر به واختلف العلماء في وجه الخبر عنه منهم من قال يجزئ فيه خبر الواحد ، قاله أبو ثور : ومنهم من أجراه مجرى الشهادة في سائر الحقوق قاله مالك : ومنهم من أجرى أوله مجرى الأخبار فقبل فيه خبر الواحد وأجرى آخره مجرى الشهادة فلا يقبل في آخر أقل من اثنين قاله الشافعي : وهذا للاحتياط في أمر العبادة لدخولها وخروجها وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ إنما كرره لأن اللّه تعالى ذكر في الآية الأولى تخيير المريض والمسافر والمقيم الصحيح ثم نسخ تخيير المقيم الصحيح بقوله : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فلو اقتصر على هذا لاحتمل أن يشمل النسخ الجميع ، فأعاد بعد ذكر الناسخ الرخصة للمريض والمسافر ليعلم أن الحكم باق على ما كان عليه. (فصل في حكم الآية) وفيه مسائل : الأولى : اختلفوا في المرض المبيح للنظر على ثلاثة أقوال : أحدها وهو قول أهل الظاهر أي مرض كان وهو ما يطلق عليه اسم المرض ، فله أن يفطر تنزيلا للفظ المطلق على أقل أحواله ، وإليه ذهب الحسن وابن سيرين. القول الثاني وهو قول الأصم إن هذه الرخصة مختصة بالمريض الذي لو صام ، لوقع في مشقة عظيمة تنزيلا للفظ المطلق على أكمل أحواله. القول الثالث وهو قول أكثر الفقهاء إن المرض المبيح للفطر ، هو الذي يؤدي إلى ضرر في النفس أو زيادة علة محتملة كالمحموم إذا خاف أنه لو صام اشتدت حماه وصاحب وجع العين يخاف لو صام أن يشتد وجع عينه فالمراد بالمرض ، ما يؤثر في تقويته قال الشافعي إذا أجهده الصوم أفطر ، وإلّا فهو كالصحيح. المسألة الثانية : الفطر في السفر مباح ، والصوم جائز وبه قال عامة العلماء وقال ابن عباس وأبو هريرة وبعض أهل الظاهر : لا يجوز الصوم في السفر ، ومن صام فعليه القضاء واحتجوا بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (ليس من البر الصيام في السفر) وحمله عامة العلماء على من يجهده الصوم في السفر فالأولى له الفطر ويدل على ذلك ما روي عن جابر قال : (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال ما هذا؟ قالوا صائم قال : ليس من البر الصيام في السفر) أخرجه البخاري ومسلم ، وحجة الجمهور على جواز الصوم والفطر في السفر ما روي عن أنس قال : (سافرنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم) أخرجاه في الصحيحين. المسألة الثالثة : اختلف العلماء في قدر السفر المبيح للفطر. فقال داود : الظاهري أي سفر كان ولو كان فرسخا. وقال الأوزاعي : السفر المبيح للفطر مسيرة يوم واحد. وقال الشافعي وأحمد ومالك : أقله مسيرة ستة عشر فرسخا يومان وقال أبو حنيفة وأصحابه أقله مسيرة ثلاثة أيام. المسألة الرابعة : إذا استهل الشهر وهو مقيم ثم أنشأ السفر في أثنائه جاز له أن يفطر حالة السفر ويجوز له أن يصوم في بعض السفر وأن يفطر في بعضه إن أحب ، يدل عليه ما روي عن ابن عباس : (أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس معه ، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم) أخرجاه في الصحيحين. الكديد اسم موضع وهو على ثمانية وأربعين ميلا من مكة. المسألة الخامسة : اختلفوا في الأفضل. فذهب الشافعي إلى أن الصوم أفضل من الفطر في السفر ، وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال أحمد الفطر ، أفضل من الصوم في السفر ، وقالت طائفة من العلماء : هما سواء ، وأفضل الأمرين أيسرهما ، لقوله تعالى : يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. المسألة السادسة : يبيح الفطر كل سفر مباح ليس سفر معصية ولا يجوز للعاصي بسفره أن يترخص برخص الشرع وقوله تعالى : فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ معناه فأفطر فعليه عدة من أيام آخر فظاهر هذا أنه يجوز قضاء الصوم متفرقا وإن كان التتابع أولى ، وفيه أيضا وجوب القضاء من غير تعيين لزمن القضاء فيدل على جواز التراخي في القضاء ويدل عليه أيضا ما روي عن عائشة قالت : (كان يكون على الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلّا في شعبان ذاك من الشغل بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم) أخرجاه في الصحيحين يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ أي التسهيل في هذه العبادة وهي إباحة الفطر للمسافر والمريض وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ أي وقد نفى عنكم الحرج في أمر الدين قيل : ما خير رجل بين أمرين فاختار أيسرهما إلّا كان ذلك أحب إلى اللّه تعالى : وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ أي عدد الأيام التي أفطرتم فيها بعذر السفر والمرض والحيض ، لتقضوا بعددها وقيل : أراد عدد أيام الشهر (ق) عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له ، وفي رواية فأكملوا العدة ثلاثين) وَلِتُكَبِّرُوا اللّه فيه قولان أحدهما أنه تكبير ليلة العيد ، قال ابن عباس : حق على المسلمين إذا رأوا إهلال شوال أن يكبروا. وقال الشافعي : واجب إظهار التكبير في العيدين ، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة : لا يكبر في عيد الفطر ويكبر في عيد الأضحى حجة الشافعي ومن وافقه قوله تعالى : وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللّه عَلى ما هَداكُمْ قالوا : معناه ولتكملوا عدة صوم رمضان ولتكبروا اللّه على ما هداكم إلى آخر هذه العبادة القول الثاني في معنى قوله لتكبروا اللّه ، أي ولتعظموا اللّه شكرا على ما أنعم به عليكم ووفقكم للقيام بهذه العبادة عَلى ما هَداكُمْ أي أرشدكم إلى طاعته وإلى ما يرضى به عنكم وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اللّه على نعمه. (فصل : في فضل شهر رمضان وفضل صيامه) (ق) عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إذا دخل شهر رمضان صفدت الشياطين وفتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار) الصفد الغل أي شدت بالأغلال (ق) عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. قوله إيمانا واحتسابا أي طلبا لوجه اللّه تعالى وثوابه وقيل إيمانا بأنه فرض عليه ، واحتسابا ثوابه عند اللّه وقيل : معناه نية وعزيمة وهو أن يصوم على التصديق به والرغبة في ثوابه طيبة بها نفسه غير كارهة (ق) عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (كل عمل ابن آدم له يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال اللّه تعالى : (إلّا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي ، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ، ولخلوف فم الصائم عند اللّه أطيب من ريح المسك) زاد في رواية (و الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب فإن شتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم). قوله : كل عمل ابن آدم له معناه أن له فيه حظا لاطلاع الخلق عليه إلّا الصوم فإنه لا يطلع عليه أحد وإنما خص الصوم بقوله تعالى لي وإن كانت جميع الأعمال الصالحة له وهو يجزى عليها لأن الصوم لا يظهر من ابن آدم بقول ولا فعل حتى تكتبه الحفظة وإنما هو من أعمال القلوب بالنية ولا يطلع عليه إلّا اللّه تعالى لقول اللّه تعالى : إنما أتولى جزاءه على ما أحب لا على حساب ولا كتاب له. وقوله : وللصائم فرحتان فرحة عند فطره أي بالطعام لما بلغ به من الجوع لتأخذ النفس حاجتها منه وقيل فرحة بما وفق له من إتمام الصوم الموعود عليه بالثواب وهو قوله : وفرحة عند لقاء ربه لما يرى من جزيل ثوابه. وقوله : ولخلوف بضم الخاء وفتحها لغتان وهو تغير طعم الفم وريحه لتأخير الطعام ومعنى كونه أطيب عند اللّه من ريح المسك هو الثناء على الصائم والرضا بفعله ، لئلا يمتنع من المواظبة على الصوم الجالب للخلوف والمعنى أن خلوف فم الصائم أبلغ عند اللّه في القبول من ريح المسك عند أحدكم. قوله : الصيام جنة أي حصن من المعاصي لأن الصوم يكسر الشهوة فلا يواقع المعاصي قوله فلا يرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الإنسان من المرأة ، وقيل : هو التصريح بذكر الجماع. والصخب الضجر والجلبة والصياح (ق) عن سهل بن سعد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إن في الجنة بابا يقال له باب الريان يدخل منه الصائمون يوم القيام يقال أين الصائمون فيقومون. لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلا يدخل منه أحد وفي رواية إن في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريان لا يدخله إلّا الصائمون) عن أبي أمامة قال : أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت يا رسول اللّه مرني بأمر ينفعني اللّه به قال : (عليك بالصوم فإنه لا مثل له) وفي رواية : (أي العمل أفضل فقال عليك بالصوم فإنه لا عدل له) أخرجه النسائي. ١٨٦قوله عز وجل : وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ قال ابن عباس قال يهود المدينة : يا محمد كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام وأن غلظ كل سماء مثل ذلك فنزلت هذه الآية. وقيل سأل بعض الصحابة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه وقيل إنهم سألوه في أي ساعة ندعو ربنا فنزلت. وقيل : إنهم قالوا أين ربنا؟ فنزلت هذه الآية وهذا السؤال لا يخلو إما أن يكون عن ذات اللّه أو عن صفاته أو عن أفعاله أما السؤال عن ذات اللّه فهو سؤال عن القرب والبعد بحسب الذات ، وأما السؤال عن صفاته تعالى فهو أن يكون السائل سأل هل يسمع ربنا دعاءنا ، وأما السؤال عن أفعاله تعالى فهو أن يكون السائل سأل هل يجيب ربنا إذا دعوناه؟ فقوله تعالى : وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فيحتمل هذه الوجوه كلها ، وقوله تعالى فَإِنِّي قَرِيبٌ معناه قريب بالعلم والحفظ لا يخفى علي شيء ، وفيه إشارة إلى سهولة إجابته لمن دعاه وإنجاح حاجة من سأله (ق) عن أبي موسى الأشعري قال : لما غزا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خبير ، أو قال : توجه إلى خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير : اللّه أكبر لا إله إلّا اللّه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا بصيرا قريبا وهو معكم) قوله اربعوا على أنفسكم أي ارفقوا بها وقيل معناه أمسكوا عن الجهر فإنه قريب يسمع دعاءكم. وقوله تعالى : أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ أي أسمع دعاء عبدي الداعي إذا دعاني وقيل : الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على اللّه تعالى كقول العبد : يا اللّه لا إله إلّا أنت فقولك يا اللّه فيه دعاء ، وقولك : لا إله إلّا أنت فيه توحيد وثناء على اللّه تعالى فسمي هذا دعاء بهذا الاعتبار وسمي قبوله إجابة لتجانس اللفظ ، وفيه إشارة إلى أن العبد يعلم أن له ربا ومدبرا يسمع دعاءه إذا دعاه ولا يخيب رجاء من رجاه وذلك ظاهر فإن العبد إذا دعا ، وهو يعلم أن له ربا بإخلاص وتضرع أجاب اللّه دعوته. فإن قلت : إنا نرى الداعي يبالغ في الدعاء والتضرع فلا يجاب له فما وجه : قوله أجيب دعوة الداع؟ وقوله تعالى : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قلت ذكر العلماء فيه أجوبة : أحدها أن هذه الآية مطلقة وقد وردت آية أخرى مقيدة وهي قوله : (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء) والمطلق يحمل على المقيد. وثانيها أن معنى الدعاء هنا هو الطاعة ومعنى الإجابة هو الثواب وذلك في الآخرة. وثالثها أن معنى الآيتين خاص. وإن كان لفظهما عاما فيكون معناه أجيب دعوة الداعي إذا وافق القضاء أو أجيبه إن كانت الإجابة خيرا له أو أجيبه إذا لم يسأل إثما أو محالا. ورابعها أن معناها عام أي أسمع وهو معنى الإجابة المذكورة في الآية ، وأما إعطاء الأمنية فليس بمذكور فالإجابة حاصلة عند وجود الدعوة وقد يجيب السيد عبده ولا يعطيه سؤله. وخامسها أن للدعاء آدابا وشرائط وهي أسباب الإجابة ، فمن استكملها وأتى بها كان من أهل الإجابة ومن أخطأها كان من أهل الاعتداء في الدعاء فلا يستحق الجواب واللّه أعلم. وقوله تعالى فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي يعني إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة كما أني أجبتهم إذا دعوني لحوائجهم. والإجابة في اللغة الطاعة. فالإجابة من العبد الطاعة ومن اللّه الإثابة والعطاء وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أي لكي يهتدوا إلى مصالح دينهم ودنياهم. (فصل : في فضل الدعاء وآدابه) (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول : من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له) هذا الحديث من أحاديث الصفات ، وفيه مذهبان مشهوران للعلماء : أحدهما وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين أنه يجب الإيمان به وبأنه حق على ما يليق به ونكل علمه إلى اللّه تعالى ورسوله وإن ظاهره المتعارف في حقنا غير مراد ولا نتكلم في تأويله مع اعتقادنا تنزيه اللّه تعالى عن صفات المخلوقين وعن الانتقال والحركات. والمذهب الثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعة من السلف أنها تؤول على ما يليق فعلى هذا نقل عن مالك وغيره أن معناه تنزل رحمته وأمره وملائكته وقيل : إنه على الاستعارة ومعناه الإقبال على الداعين بالإجابة واللطف وفي الحديث الحث على الدعاء والترغيب فيه عن سلمان قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين) أخرجه أبو داود والترمذي. وقال حديث حسن غريب. الصفر الخالي يقال بيت صفر ليس فيه متاع. عن عبادة بن الصامت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ما على الأرض مسلم يدعو اللّه بدعوة إلّا آتاه اللّه إياها أو صرف عنه من الشر مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل من القوم إذا نكثر قال اللّه أكثر) أخرجه الترمذي. قوله اللّه أكثر معناه اللّه أكثر إجابة عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ادعوا اللّه وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن اللّه لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه) أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب. عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ليس شيء أكرم على اللّه من الدعاء) أخرجه الترمذي. وله عن أنس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (الدعاء مخ العبادة) وله عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (من فتح له باب من الدعاء فتحت له أبواب الرحمة وما سئل اللّه شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية وإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل) وله عن سلمان أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لا يرد القضاء إلّا الدعاء ولا يزيد في العمر إلّا البر) وله عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (من لم يسأل اللّه يغضب عليه) (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل بقوله قد دعوت فلم يستجب لي) ولمسلم قال : (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل قيل : يا رسول اللّه ما الاستعجال؟ قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم يستجب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء). قوله يستحسر أي يستنكف عن السؤال وأصله من حسر الطرف إذا كلّ وضعف (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إذا دعا أحدكم فلا يقل اللّهم اغفر لي إن شئت اللّهم ارحمني إن شئت ولكن ليعزم المسألة فإن اللّه لا مكره له) زاد البخاري (ارزقني إن شئت ليعزم مسألته فإنه يفعل ما يشاء لا مكره له) قوله ليعزم المسألة أي لا تكن في دعائك ربك مترددا بل أعزم وجد في المسألة. عن فضالة بن عبيد قال : (سمع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رجلا يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره : إذا صلّى أحدكم فليبدأ بحمد اللّه والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ثم ليدع بما شاء) أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح. قوله عز وجل : ١٨٧أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ سبب نزول هذه الآية أنه كان في ابتداء الأمر بالصوم إذا أفطر الرجل حل له الطعام والشراب والجماع إلى أن يصلي العشاء الأخيرة أو يرقد قبلها فإذا صلى ، أو رقد حرم عليه ذلك كله إلى الليلة القابلة ثم إن عمر بن الخطاب واقع أهله بعد ما صلّى العشاء فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه ثم أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا رسول اللّه أعتذر إلى اللّه وإليك من هذه الخطيئة إني رجعت إلى أهلي بعد ما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي فجامعت أهلي فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : (ما كنت بذلك جديرا يا عمر فقام رجال فاعترفوا بمثل ذلك فنزلت في عمر وأصحابه أحل لكم أي أبيح لكم ليلة أراد بالليلة ليالي الصيام الرفث إلى نسائكم الرفث كلام يستقبح لفظه من ذكر الجماع ودواعيه وهو هنا كناية عن الجماع قال ابن عباس إن اللّه تعالى حي كريم يكنى فما ذكره من المباشرة والملامسة وغير ذلك إنما هو الجماع هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ أي سكن لكم وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ أي سكن لهن قيل لا يسكن شيء إلى شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر وسمي كل واحد من الزوجين لباسا لتجردهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد وقيل اللباس اسم لما يوارى فيكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل كما جاء في الحديث (من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه) عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ قال ابن عباس يريد فيما ائتمنكم عليه وخيانتهم أنهم كانوا يباشرون في ليالي الصوم ، والمعنى يظلمونها بالمجامعة بعد العشاء وهو من الخيانة وأصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي فيه الأمانة ويقال للعاصي خائن لأنه مؤتمن على دينه فَتابَ عَلَيْكُمْ أي فتبتم فتاب عليكم وتجاوز عنكم وَعَفا عَنْكُمْ أي ومحا ذنوبكم (خ) عن البراء قال لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله فكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل اللّه : عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ الآية قال ابن عباس : فكان ذلك مما نفع اللّه به الناس ورخص لهم ويسر فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ أي جامعوهن فهو حلال لكم في ليالي الصوم ، وسميت المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة واحد بصاحبه وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ أي ما قضى لكم في اللوح المحفوظ يعني الولد ، وقيل : وابتغوا الرخصة التي كتب اللّه لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع في اللوح المحفوظ يعني الولد. وقيل : اطلبوا ليلة القدر. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ نزلت في صرمة بن قيس بن صرمة الأنصاري ، ويقال قيس بن صرمة وذلك أنه ظل يعمل في أرض له وهو صائم فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر ، وقال لأهله قدمي الطعام فأرادت المرأة أن تطعمه شيئا سخنا فأخذت تعمل له ذلك فلما فرغت فإذا هو قد نام وكان قد أعيا من التعب ، فأيقظته فكره أن يعصي اللّه ورسوله وأبى أن يأكل وأصبح صائما مجهودا فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه فلما أفاق أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلما رآه قال : يا أبا قيس ما لك أمسيت طليحا فذكر له حاله فاغتم لذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه هذه الآية وقوله : طليحا أي مهزولا مجهودا (خ) عن البراء قال كان أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم إذا كان الرجل صائما ، فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال أعندك طعام؟ قالت : لا ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عينه فجاءته امرأته فلما رأته قالت خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت هذه الآية : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ففرحوا بها فرحا شديدا ونزلت : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ومعنى الآية : وكلوا واشربوا في ليالي الصوم ، حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود : بياض النهار من سواد الليل ، وسميا خيطين لأن كل واحد منهما يبدو في الأفق ممتدا كالخيط ، قال الشاعر : فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا السدف اختلاط الظلام وأسدف الفجر أضاء (ق) عن سهل بن سعد قال لما نزلت : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ولم ينزل (من الفجر) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولا يزال يأكل حتى تتبين له رؤيتهما فأنزل اللّه عز وجل بعده مِنَ الْفَجْرِ فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار (ق) عن عدي بن حاتم : (لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود عمدت إلى عقال أسود وعقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي وجعلت أنظر في الليل فلا يتبين لي فغدوت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فذكرت له ذلك فقال : إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار) (ق) عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) قال : وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له : أصبحت أصبحت. واعلم أن الفجر الذي يحرم به على الصائم الطعام والشراب والجماع هو الفجر الصادق المستطير المنتشر في الأفق سريعا ، لا الفجر الكاذب المستطيل. فإن قلت كيف شبه الصبح الصادق بالخيط والخيط مستطيل والصبح الصادق ليس بمستطيل؟. قلت إن القدر الذي يبدو من البياض هو أول الصبح يكون رقيقا صغيرا ثم ينتشر فلهذا شبه بالخيط ، والفرق بين الفجر الصادق والفجر الكاذب أن الفجر الكاذب يبدو في الأفق فيرتفع مستطيلا ثم يضمحل ويذهب ثم يبدو الفجر الصادق بعده منتشرا في الأفق مستطيرا (م) عن سمرة بن جندب قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا) وحكاه حماد بيديه قال يعني معترضا وفي رواية الترمذي : (لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق) فإذا تحقق طلوع الفجر الثاني وهو الصادق حرم على الصائم الطعام والشراب والجماع إلى غروب الشمس وهو قوله تعالى : ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ يعني منتهى الصوم إلى الليل فإذا دخل الليل حصل الفطر (ق) عن عمر بن الخطاب قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم) وهل يلزم الصائم أن يتناول عند تحقق غروب الشمس شيئا؟ فيه وجهان : أحدهما نعم يلزم ذلك لنهيه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الوصال. والثاني لا ، لأنه قد حصل الفطر بمجرد دخول الليل سواء أكل أو لم يأكل ، وتمسكت الحنفية بهذه الآية في أن الصوم النفل يجب إتمامه وقالوا : لأن قوله تعالى : ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أمر وهو للوجوب وهو يتناول كل الصيام. أجاب أصحاب الشافعي عنه بأن هذا إنما ورد في بيان أحكام صوم الفرض فكان المراد منه صوم الفرض ويدل على إباحة الفطر من النفل ما روي عن عائشة قالت : (دخل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذات يوم فقال هل عندكم شيء ، قلنا لا قال : فإني إذا صائم ثم أتانا يوما آخر فقلت يا رسول اللّه أهدي لنا حيس. قال : أرنيه فلقد أصبحت صائما فأكل) أخرجه مسلم. الحيس هو خلط الأقط والتمر والسمن وقد يجعل عوض الأقط دقيق أو فتيت وقيل هو التمر ينزع نواه ويخلط بالسويق والأول أعرف. قوله عز وجل : وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ الاعتكاف هو الإقبال على الشيء والملازمة له على سبيل التعظيم. وهو في الشرع عبارة عن الإقامة في المسجد على عبادة اللّه تعالى. وسبب نزول هذه الآية أن نفرا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كانوا يعتكفون في المسجد ، فإذا عرض لرجل منهم حاجة إلى أهله خرج إليها وخلا بها ، ثم اغتسل ورجع إلى المسجد فنهوا عن ذلك حتى يفرغوا من اعتكافهم. واعلم أن اللّه تعالى بين أن الجماع يحرم على الصائم بالنهار ويباح له في الليل ، فكان يحتمل أن يكون حكم الاعتكاف كحكم الصوم فبين اللّه تعالى في هذه الآية أن الجماع يحرم على المعتكف في النهار والليل حتى يخرج من اعتكافه. (فصل في حكم الاعتكاف) الاعتكاف سنة ولا يجوز في غير المسجد ، وذلك لأن المسجد يتميز عن سائر البقاع بالفضل لأنه بني لإقامة الطاعات والعبادات فيه. ثم اختلفوا فنقل عن علي أنه لا يجوز إلّا في المسجد الحرام لقوله : وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فخصه به وقال عطاء : لا يجوز إلّا في المسجد الحرام ومسجد المدينة. وقال حذيفة : يجوز في هذين المسجدين ومسجد بيت المقدس. وقال الزهري : لا يصح إلّا في الجامع وقال أبو حنيفة : لا يجوز إلّا في مسجد له إمام ومؤذن وقال الشافعي ومالك وأحمد يجوز في سائر المساجد لعموم قوله : وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ إلّا أن المسجد الجامع أفضل حتى لا يحتاج إلى الخروج من معتكفه لصلاة الجمعة (ق) عن عائشة : أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه اللّه عز وجل ثم اعتكف أزواجه بعده (ق) عن ابن عمر : (أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان). (فروع : الأول : ) يجوز الاعتكاف بغير صوم والأفضل أن يصوم معه ، وقال أبو حنيفة : الصوم شرط في الاعتكاف ولا يصح إلّا به ، وحجة الشافعي ما روي عن عمر : (قال يا رسول اللّه إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال فأوف بنذرك) أخرجاه في الصحيحين ومعلوم أنه لا يصح الصوم في الليل. (الفرع الثاني) لا يقدر للاعتكاف زمان عند الشافعي وأقله لحظة ، ولا حد لأكثره ، فلو نذر اعتكاف ساعة صح نذره ، ولو نذر أن يعتكف مطلقا يخرج من نذره باعتكاف ساعة. قال الشافعي : وأحب أن يعتكف يوما ، وإنما قال ذلك للخروج من الخلاف فإن أقل زمن الاعتكاف عند مالك وأبي حنيفة يوم بشرط أن يدخل فيه قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس. (الفرع الثالث) الجماع حرام في حال الاعتكاف ويفسد به وأما ما دون الجماع كالقبلة ونحوها فمكروه ولا يفسد به عند أكثر العلماء ، وهو أظهر قول الشافعي والثاني يبطل به وهو قول مالك ، وقيل إن أنزل بطل اعتكافه وإن لم ينزل فلا ، وهو قول أبي حنيفة ، وأما الملامسة بغير شهوة فجائز ، ولا يفسد به الاعتكاف لما روي عن عائشة : (أنها كانت ترجل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهي حائض وهو معتكف في المسجد ، وهي في حجرتها يناولها رأسه) زاد في رواية : (و كان لا يدخل البيت إلّا لحاجة إذا كان معتكفا) وفي رواية : (و كان لا يدخل البيت إلّا لحاجة الإنسان) أخرجاه في الصحيحين. الترجيل تسريح الشعر ، وقولها إلّا لحاجة حوائج الإنسان كثيرة والمراد منها هاهنا كل ما يضطر الإنسان إليه مما لا يجوز له فعله في المسجد وموضع معتكفه. وقوله تعالى : تِلْكَ حُدُودُ اللّه يعني تلك الأحكام التي ذكرت في الصيام والاعتكاف من تحريم الأكل والشرب والجماع حدود اللّه وقيل حدود اللّه فرائض اللّه. وأصل الحد في اللغة المنع ، والحد الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر وحد الشيء بالوصف المحيط بمعناه المميز له عن غيره وقيل معنى حدود اللّه المقادير التي قدرها ومنع من مخالفتها فَلا تَقْرَبُوها أي فلا تأتوها ولا تغشوها. فإن قلت في الآية إشكالان : أما الأول فهو أنه قال : تلك حدود اللّه وهو إشارة إلى ما تقدم من الأحكام وبعضها فيه إباحة وبعضها فيه حظر فكيف قال في الجميع فلا تقربوها؟. الإشكال الثاني هو أنه تعالى قال في هذه الآية : تِلْكَ حُدُودُ اللّه فَلا تَقْرَبُوها وقال في آية أخرى : تِلْكَ حُدُودُ اللّه فَلا تَعْتَدُوها وقال في آية أخرى : وَمَنْ يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ فكيف الجمع بين هذه الآيات؟. قلت : الجواب عن السؤالين من وجهين : أما الإشكال الأول ، فجوابه أن الأحكام التي تقدمت فيما قبل ، وإن كانت كثيرة إلّا أن أقربها إلى هذه الآية قوله تعالى : وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ وذلك يوجب تحريم الجماع في حال الاعتكاف ، وقال قبلها : ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وذلك يوجب تحريم الأكل والشرب في النهار فلما كان الأقرب إلى هذه الآية جانب التحريم قال تِلْكَ حُدُودُ اللّه فَلا تَقْرَبُوها والجواب عن الإشكال الثاني أن من كان في طاعة اللّه تعالى والعمل بفرائضه فهو منصرف في حيزي الحق فنهي أن يتعداه فيقع في حيز الباطل ثم بولغ في ذلك فنهي أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل لئلا يداني الباطل فيقع فيه فهو كقوله صلّى اللّه عليه وسلّم (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه) وقيل أراد بحدوده هنا محارمه ومناهيه لقوله : وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ونحو هذا التحريم فهي حدود لا تقرب كَذلِكَ أي كما بين لكم ما أمركم به ونهاكم عنه كذلك يُبَيِّنُ اللّه آياتِهِ أي معالم دينه وأحكام شريعته لِلنَّاسِ مثل هذا البيان الشافي الوافي لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي لكي يتقوا ما حرم عليهم فينجوا من العذاب. قوله عز وجل : ١٨٨وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي ادّعى عليه ربيعة بن عبدان الحضرمي عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في أرض فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للحضرمي : ألك بينة قال لا قال فلك يمينه فانطلق ليحلف فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أما إن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين اللّه وهو عنه معرض فأنزل اللّه هذه الآية. والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل أي من غير الوجه الذي أباحه اللّه له. وأصل الباطل الشيء الذاهب. (فصل) أما حكم الآية فأكل المال بالباطل على وجوه : الأول : أن يأكله بطريق التعدي والنهب والغصب. الثاني : أن يأكله بطريق اللّهو كالقمار وأجرة المغني وثمن الخمر والملاهي ونحو ذلك. الثالث : أن يأكله بطريق الرشوة في الحكم وشهادة الزور. الرابع : الخيانة وذلك في الوديعة والأمانة ونحو ذلك. وإنما عبر عن أخذ المال بالأكل لأنه المقصود الأعظم ، ولهذا وقع في التعارف فلان يأكل أموال الناس بمعنى يأخذها بغير حلها وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ أي وتلقوا أمور تلك الأموال التي فيها الحكومة إلى الحكام. قال ابن عباس هذا في الرجل يكون عليه المال وليس عليه بينة فيجحد ويخاصم إلى الحكام وهو يعلم أن الحق عليه وهو آثم بمنعه وقيل : هو أن يقيم شهادة الزور عند الحاكم وهو يعلم ذلك. وقيل معناه ولا تأكلوا المال بالباطل وتنسبوه إلى الحكام ، وقيل : لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم فإن قضاءه لا يحل حراما وكان شريح القاضي يقول إني لأقضي لك وإني لأظنك ظالما ولكن لا يسعني إلّا أن أقضي بما يحضرني من البينة وإن قضائي لا يحل لك حراما (ق) عن أم سلمة (أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال : إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض) وفي رواية (ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها) قوله سمع جلبة خصم يعني أصوات خصم قوله ألحن بحجته ، يقال : فلان ألحن بحجته من فلان أي أقوم بها منه وأقدر عليها ، من اللحن بفتح الحاء وهو الفطنة لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً أي طائفة وقطعة مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ يعني بالظلم وقال ابن عباس باليمين الكاذبة وقيل بشهادة الزور وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني أنكم على الباطل. قوله عز وجل : ١٨٩يَسْئَلُونَكَ أي يا محمد عَنِ الْأَهِلَّةِ نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاريين قالا يا رسول اللّه ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلئ نورا ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود دقيقا كما بدا ولا يكون على حال واحدة فأنزل اللّه : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ وكان هذا سؤالا منهم على وجه الفائدة عن وجه الحكمة في تبيين حال الهلال في الزيادة والنقصان والأهلة جمع هلال وهو أول حال القمر حين يراه الناس أول ليلة من الشهر قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ جمع ميقات ، والمعنى أن فعلنا ذلك لمصالح دينية ودنيوية ليعلم الناس أوقات حجهم وصومهم وإفطارهم ومحل ديونهم وأجائرهم وعدد النساء وأوقات الحيض وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالأهلة ولهذا خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة وَالْحَجِّ أي وللحج ، وإنما أفرد الحج بالذكر وإن كان داخلا في جملة العبادات لفائدة عظيمة وهي أن العرب في الجاهلية كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور فأبطل اللّه ذلك من فعلهم وأخبر أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها لفرض الحج بالأهلة ، وأنه لا يجوز نقل الحج عن تلك الأشهر التي عينها اللّه تعالى له كما كانت العرب تفعل بالنسيء وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها (ق) عن البراء قال : نزلت هذه الآية فينا فكانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عير بذلك فنزلت : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها ، وفي رواية كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها فأنزل اللّه هذه الآية وقيل كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم لم يدخل حائطا ولا دارا ولا فسطاطا من بابه ، فإن كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته منه يدخل ويخرج أو يتخذ سلما يصعد منه ، وإن كان من أهل الوبر دخل وخرج من خلف الخباء ولا يدخل ولا يخرج من الباب ويرون ذلك برا ، وكانت الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة ومن دان بدينهم ، سموا حمسا لتشددهم في دينهم والحماسة الشدة كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا بيتا البتة ولم يستظلوا بظل ، ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دخل حائطا فدخل رجل من الأنصار معه وقيل كانت الحمس لا يبالون بذلك ، ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دخل ذات يوم بيتا فدخل على أثره رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن التابوت من الباب وهو محرم فأنكروا عليه فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم دخلت من الباب وأنت محرم فقال : رأيتك دخلت فدخلت على أثرك فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إني أحمسي فقال الرجل إن كنت أحمسيا فأنا أحمسي رضيت بهديك وسمتك ودينك فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وقال الزهري كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يجعلوا بينهم وبين السماء شيئا ، وكان الرجل يخرج مهلا بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما خرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء فيفتح الجدار من ورائه ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته ثم بلغنا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أهلّ زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرة فدخل رجل من الأنصار من بني سلمة على أثره فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم فعلت ذلك؟ قال : لأني رأيتك دخلت فقال عليه الصلاة والسلام : إني أحمسي فقال الأنصاري وأنا أحمسي يقول أنا على دينك فأنزل اللّه تعالى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها يعني في حال الإحرام وغيره وَاتَّقُوا اللّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. ١٩٠قوله عز وجل : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه أي في طاعة اللّه وطلب رضوانه (ق) عن أبي موسى الأشعري قال سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل اللّه؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّه الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ كان في ابتداء الإسلام أمر اللّه رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بالكف عن قتال المشركين ثم لما هاجر إلى المدينة أمر بقتال من قاتله منهم بهذه الآية. قال الربيع بن أنس : هذه أول آية نزلت في القتال ثم أمر اللّه بقتال المشركين كافة قاتلوا أو لم يقاتلوا بقوله تعالى : وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً. وبقوله : اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ فصارت آية السيف ناسخة لهذه الآية وقيل إنها محكمة ومعناها على هذا القول وقاتلوا في سبيل اللّه الذين أعدوا أنفسهم للقتال ، فأما من لم يعدّ نفسه للقتال كالرهبان والشيوخ والزمنى والمكافيف والمجانين فلا تقاتلوهم لأنهم لم يقاتلوكم ، وهو قوله تعالى : وَلا تَعْتَدُوا وقال ابن عباس ولا تقتلوا النساء والصبيان والشيوخ والرهبان ولا من ألقى إليكم السلام (م) عن بريدة قال : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى اللّه ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : اغزوا بسم اللّه في سبيل اللّه قاتلوا من كفر باللّه اغزوا ولا تغلوا ولا تعتدوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا. قوله : لا تَغْلُوا الغلول الخيانة وهو ما يخفيه أحد الغزاة من الغنيمة وقوله : وَلا تَعْتَدُوا أي ولا تنقضوا العهد وقيل في معنى الآية : لا تعتدوا أي لا تبدؤوهم بالقتال فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بآية القتال قال ابن عباس : لما صد المشركون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف بالبيت ، فلما تجهز رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه لعمرة القضاء خافوا أن لا تفي قريش بما قالوا ويصدّوهم عن البيت وكره المسلمون قتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم ، فأنزل اللّه : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ فأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم في الشهر الحرام وفي الحرم ورفع عنهم الحرج والجناح في ذلك وقال ولا تعتدوا بابتداء القتال إِنَّ اللّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ قوله عز وجل : ١٩١وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي حيث وجدتموهم وأدركتموهم في الحل والحرم ، وتحقيق القول فيه أن اللّه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على القتال وفي هذه الآية أمرهم بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي وأخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم من دياركم وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ يعني أن شركهم باللّه أشد وأعظم من قتلكم إياهم في الحرم والإحرام وإنما سمي الشرك باللّه فتنة لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى الظلم. وإنما جعل أعظم من القتل لأن الشرك باللّه ذنب يستحق صاحبه الخلود في النار وليس القتل كذلك ، والكفر يخرج صاحبه من الأمة وليس القتل كذلك فثبت أن الفتنة أشد من القتل وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ اختلف العلماء في هذه الآية فذهب مجاهد في جماعة من العلماء إلى أنها محكمة وأنه لا يحل أن يقاتل في المسجد الحرام إلّا من قاتل فيه وهو قوله : فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ أي فقاتلوهم ، وثبت في الصحيح عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : (إن مكة لا تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما إلى يوم القيامة) فثبت بهذا تحريم القتال في الحرم إلّا أن يقاتلوا فيقاتلوا ويكون دفعا لهم وذهب قتادة إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فأمر بقتالهم في الحل والحرم. وقيل إنها منسوخة بقوله : وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ١٩٢فَإِنِ انْتَهَوْا يعني عن القتال. وقيل عن الشرك والكفر فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ يعني لما سلف رَحِيمٌ يعني بعباده حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ١٩٣وَقاتِلُوهُمْ أي وقاتلوا المشركين حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي شرك والمعنى وقاتلوهم حتى يسلموا ولا يقبل من الوثني إلّا الإسلام والقتل بخلاف الكتابي والفرق بينهما أن أهل الكتاب معهم كتب منزلة فيها شرائع وأحكام يرجعون إليها وإن كانوا قد حرفوا وبدلوا فأمهلهم اللّه تعالى بحرمة تلك الكتب من القتل وأمر بإصغارهم وأخذ الجزية منهم لينظروا في كتبهم ويتدبروها فيقفوا على الحق منها فيتبعوه كفعل مؤمني أهل الكتاب الذين عرفوا الحق فأسلموا ، وأما عبدة الأصنام فلم يكن لهم كتاب يرجعون إليه ويرشدهم إلى الحق فكان إمهالهم زيادة في شركهم وكفرهم فأبى اللّه عز وجل أن يرضى منهم إلّا بالإسلام أو القتل وَيَكُونَ الدِّينُ للّه أي الطاعة والعبادة للّه وحده فلا يعبد من دونه شيء فَإِنِ انْتَهَوْا يعني عن القتال وقيل عن الشرك والكفر فَلا عُدْوانَ أي فلا سبيل إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ قاله ابن عباس فعلى القول الأول تكون الآية منسوخة بآية السيف وعلى القول الآخر الآية محكمة. وقيل : معناه فلا تظلموا إلّا الظالمين ، سمي جزاء الظالمين ظلما على سبيل المشاكلة ، وسمي الكافر ظالما لوضعه العبادة في غير موضعها. ١٩٤الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ نزلت في عمرة القضاء وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خرج معتمرا في ذي القعدة سنة ست من الهجرة فصده المشركون عن البيت بالحديبية فصالح أهل مكة على أن ينصرف عامه ذلك ويرجع من قابل فيقضي عمرته فانصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم رجع في ذي القعدة سنة سبع فقضى عمرته وذلك قوله تعالى : الشَّهْرُ الْحَرامُ يعني ذا القعدة الذي دخلتم فيه مكة وقضيتم عمرتكم بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الذي صددتم فيه عن البيت وَالْحُرُماتُ جمع حرمة وإنما جمعت لأنه أراد حرمة الشهر وحرمة البلد وحرمة الإحرام قِصاصٌ القصاص المساواة والمماثلة وهو أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل ، والمعنى أنهم لما منعوكم عن العمرة وأضاعوا هذه الحرمات في سنة ست ، فقد وفقتم حتى قضيتموها على رغمهم في سنة سبع. وقيل : هذا في القتال ، ومعناه : فإن بدءوكم بالقتال في الشهر الحرام فاقتلوهم فيه فإنه قصاص فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ أي بالقتال فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ أي فقاتلوه بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ سمي الجزاء بالاعتداء على سبيل المشاكلة وَاتَّقُوا اللّه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ قوله عز وجل : ١٩٥وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّه يعني به الجهاد وذلك أن اللّه تعالى لما أمر بالجهاد والاشتغال به يحتاج إلى الانفاق فأمر به ، والإنفاق هو صرف المال في وجوه المصالح الدينية كالإنفاق في الحج والعمرة وصلة الرحم والصدقة وفي الجهاد وتجهيز الغزاة وعلى النفس والعيال وغير ذلك مما فيه قربة للّه تعالى لأن كل ذلك مما هو في سبيل اللّه لكن إطلاق هذه اللفظة ينصرف إلى الجهاد (خ) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (من احتبس فرسا في سبيل اللّه إيمانا واحتسابا للّه وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة) يعني حسنات. عن خريم بن فاتك قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من أنفق نفقة في سبيل اللّه كتب اللّه له سبعمائة ضعف) أخرجه الترمذي والنسائي وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ قيل : الباء زائدة ومعناه لا تلقوا أيديكم إلى التهلكة ، والمراد بالأيدي الأنفس والمعنى ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة ، عبر بالأيدي عن الأنفس ، وقيل الباء على أصلها وفي الكلام حذف تقديره : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة ، كما يقال : أهلك فلان نفسه بيده ، إذا تسبب في هلاكها وقيل التهلكة كل شيء تصير عاقبته إلى الهلاك وقيل التهلكة ما يمكن الاحتراز عنه والهلاك ما لا يمكن الاحتراز عنه ، ومعنى الآية النهي عن ترك الانفاق في سبيل اللّه لأنه سبب الإهلاك قال ابن عباس : أنفق في سبيل اللّه وإن لم يكن لك إلّا سهم أو مشقص ولا يقول أحدكم لا أجد شيئا. السهم هنا هو ما يرمى به ، والمشقص سهم فيه نصل عريض وقيل كان رجال يخرجون في البعوث بغير نفقة فإمّا أن ينقطع بهم وإما أن يكونوا عالة فأمرهم اللّه تعالى بالإنفاق على أنفسهم في سبيل اللّه ومن لم يكن عنده شيء ينفق عليه في الغزو فلا يخرج لئلا يلقي نفسه في التهلكة وهو أنه يهلك من الجوع والعطش والمشي. وقيل نزلت الآية في ترك الجهاد (ت) عن أبي عمران واسمه أسلم قال : كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس. سبحان اللّه يلقي بيديه إلى التهلكة فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : (أيها الناس إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز اللّه الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرّا دون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن أموالنا قد ضاعت وإن اللّه قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل اللّه تعالى على نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم يرد علينا ما قلنا : وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّه وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل اللّه حتى دفن بأرض الروم) وقال حديث غريب صحيح مات أبو أيوب في آخر غزوة غزاها بأرض قسطنطينية ودفن في أصل سورها فهم يتبركون بقبره ويستسقون به (م) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من مات ولم يغزو لم يحدث نفسه به مات على شعبة من النفاق) قال ابن المبارك فنرى أن ذلك كان على عهد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم. وقيل الإلقاء إلى التهلكة هو أن يقنط من رحمة اللّه ، وهو أن الرجل يصيب الذنب فيقول قد هلكت ليس لي توبة فييأس من رحمة اللّه وينهمك على المعاصي فهو القنوط فنهى اللّه عن ذلك. وقيل في معنى الآية : أنفقوا في سبيل اللّه ولا تقولوا إنا نخاف الفقر إن أنفقنا فنهلك فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق (خ) عن حذيفة قال : أنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة قال نزلت في النفقة وَأَحْسِنُوا أي بالإنفاق على من تلزمكم مؤنته ونفقته وقيل أحسنوا في الإنفاق ولا تسرفوا ولا تقتروا ، نهوا عن الإسراف والإقتار في الإنفاق وقيل معناه : وأحسنوا في أداء فرائض اللّه تعالى إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي يثيبهم على إحسانهم .. ١٩٦قوله عز وجل : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه قال ابن عباس وهو أن يتمهما بمناسكهما وحدودهما وسننهما وقيل إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك وقيل هو أن تفرد لكل واحد منهما سفرا وقيل إتمامها أن تكون النفقة حلالا وتنتهي عما نهى اللّه عنه. وقيل إتمامها أن تخرج من أهلك لهما لا للتجارة ولا لحاجة. وقيل إذا شرع فيهما وجب عليه الإتمام. (فصل) واتفقت الأمة على وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلا (م) عن أبي هريرة قال خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : (أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل أفي كل عام يا رسول اللّه؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم) وفي وجوب العمرة قولان للشافعي أصحهما إنها واجبة وهو قول علي وابن عمر وابن عباس والحسن وابن سيرين وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير ومجاهد وإليه ذهب أحمد بن حنبل ، والقول الثاني إنها سنة ويروى ذلك عن ابن مسعود وجابر وإبراهيم والشعبي وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة. حجة من أوجب العمرة ما روي في حديث الضبي بن معبد أنه قال لعمر بن الخطاب إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ وإني أهلك بهما فقال أهديت لسنة نبيك محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أخرجه أبو داود والنسائي بأطول من هذا وجه الدليل أنه أخبر عن وجوبهما عليه وصوبه عمر وبين أنه مهتد بما رآه في وجوبهما عليه لسنة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم. وروي عن ابن عباس أنها كقرينها في كتاب اللّه : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه وعن ابن عمر قال : (الحج والعمرة فريضتان) وعنه : (ليس أحد من خلق اللّه إلّا وعليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع إلى ذلك سبيلا) وعن ابن عباس قال : (العمرة واجبة كوجوب الحج) وعن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس لحجة مبرورة ثواب إلّا الجنة) أخرجه النسائي والترمذي وزاد : (و ما من مؤمن يظل يومه محرما إلّا غابت الشمس بذنوبه) وقال حديث حسن صحيح. وجه الدليل أنه أمر بالمتابعة بين الحج والعمرة والأمر للوجوب ولأنها قد نظمت مع الحج في الأمر بالإتمام فكانت واجبة كالحج ، وحجة من قال بأنها سنة ما روي عن جابر قال : (سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن العمرة أواجبة هي؟ قال : لا وأن تعتمروا خير لكم) أخرجه الترمذي. وأجيب عنه بأن هذا الحديث يرويه حجاج بن أرطأة وحجاج ليس ممن يقبل منه ما تفرد به لسوء حفظه وقلة مراعاته لما يحدث به واجتمعت الأمة على جواز أداء الحج والعمرة على ثلاثة أنواع إفراد وتمتع وقران فصورة الإفراد أن يحج ثم بعد فراغه منه يعتمر من أدنى الحل أو يعتمر قبل أشهر الحج ثم يحج في تلك السنة. وصورة التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بأعمالها فإذا فرغ من أعمالها أحرم بالحج من مكة في تلك السنة وإنما سمي تمتعا لأنه يستمتع بمحظورات الإحرام بعد التحلل من العمرة إلى أن يحرم بالحج. وصورة القرآن أن يحرم بالحج والعمرة معا في أشهر الحج فينويهما بقلبه وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم أدخل عليها الحج قبل أن يفتتح الطواف فيصير قارنا. واختلفوا في الأفضل فذهب مالك والشافعي إلى أن الإفراد أفضل ثم التمتع ثم القران يدل عليه ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أفرد الحج ، أخرجه مسلم وله عن ابن عمر قال : أهللنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الحج مفردا ، وفي رواية إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أهل بالحج مفردا ، وله عن جابر قال : قدمنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ونحن نصرخ بالحج صراخا. وعن ابن عمر قال : افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإن ذلك أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج. أخرجه مالك في الموطأ وذهب الثوري وأبو حنيفة إلى أن القران أفضل يدل عليه ما روي عن أنس قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يلبي بالحج والعمرة جميعا وفي رواية سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول لبيك عمرة وحجا ، أخرجاه في الصحيحين. وذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إلى أن التمتع أفضل ، يدل عليه ما روي عن ابن عباس قال : (تمتع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو بكر وعمر وعثمان فأول من نهى عنهما معاوية) أخرجه الترمذي (ق) عن ابن عمر قال تمتع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالعمرة إلى الحج وكان من الناس من أهدى ومنهم لم يهد فلما قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكة قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت والصفا والمروة وليقصر وليتحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وطاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين قدم مكة فاستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف من السبع ومشى أربعة أطواف ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم سلم فانصرف فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أشواط ثم لم يحل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض وطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من أهدى فساق الهدي من الناس). اختلفت الروايات في حجة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هل كان مفردا أو متمتعا أو قارنا؟ وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة ورجحت كل طائفة نوعا وادّعت أن حجة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كذلك وطريق الجمع بين روايات الصحابة واختلافهم في حجته صلّى اللّه عليه وسلّم أنه كان أولا مفردا ثم إنه صلّى اللّه عليه وسلّم أحرم بالعمرة بعد ذلك وأدخلها على الحج فصار قارنا فمن روى أنه كان مفردا فهو الأصل ومن روي القرآن اعتمد آخر الأمر ومن روي التمتع أراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع والارتفاق وقد ارتفق بالقرآن كارتفاق التمتع وزيادة وهو الاقتصار على فعل واحد ، وبهذا أمكن الجمع بين الأحاديث المختلفة في صفة حجة الوداع وهو الصحيح وذكر الشافعي في كتاب اختلاف الحديث كلاما موجزا في ذلك فقال إن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان منهم المفرد والقارن والمتمتع وكل كان يأخذ منه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر به وأذن فيه ويجوز في لغة العرب إضافة الفعل إلى الأمر به كما تجوز إضافته إلى فاعله كما يقال بنى فلان داره وأريد به أنه أمر ببنائها وكما يروى : (أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رجم ماعزا) وإنما أمر برجمه ، واختار الشافعي الإفراد واحتج في ترجيحه بأنه صح ذلك من رواية جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة وهؤلاء لهم مزية في حجة الوداع على غيرهم ، فأما جابر فهو أحسن الصحابة سياقة لرواية حديث حجة الوداع فإنه ذكرها من حين خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلم من المدينة إلى آخرها فهو أضبط لها من غيره ، وأما ابن عمر فصح عنه أنه كان آخذا بخطام ناقة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في حجة الوداع وإنما سمعه يلبي بالحج. وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه والدين معروف مع كثرة بحثه عن أحوال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأما عائشة فقربها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم معروف واطلاعها على باطن أمره وظاهره مع كثرة فقهها وعلمها ، ومن دلائل ترجيح الإفراد أن الخلفاء الراشدين أفردوا الحج بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وواظبوا عليه. وأركان الحج خمسة الإحرام والوقوف بعرفة والطواف والسعي بين الصفا والمروة وحلق الرأس أو التقصير في أصح القولين. وأركان العمرة أربعة : الإحرام والطواف والسعي والحلق أو التقصير ، وبهذه الأركان تمام الحج والعمرة. قوله تعالى : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ أصل الحصر في اللغة الحبس والتضييق ، ثم اختلف أهل اللغة في الحصر والإحصار فقيل إذا رد الرجل عن وجه يريده فقد أحصر ، وإذا حبس فقد حصر وقال ابن السكيت أحصره المرض إذا منعه من السفر أو حاجة يريدها وحصره العدو إذا ضيق عليه. وقال الزجاج : الرواية عن أهل اللغة يقال للذي يمنعه الخوف أو المرض أحصر والمحبوس حصر ، وقال ابن قتيبة في قوله : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ هو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين الحج من مرض أو كسر أو عد ويقال أحصر فهو محصر فإن حبس في دار أو سجن قيل حصر فهو محصور وذهب قوم إلى أنهما بمعنى واحد. قال الزجاج : يقال الرجل من حصرك هنا ومن أحصرك وقال أحمد بن يحيى أصل الحصر والإحصار الحبس وحصر في الحبس أقوى من أحصر وقيل الإحصار يقال في المنع الظاهر كالعدو والمنع الباطن كالمرض والحصر لا يقال إلّا في المنع الباطن وأما قوله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فمحمول على الأمرين وبحسب اختلاف أهل اللغة في معناها اختلف الفقهاء في حكمها فذهب قوم إلى أن كل مانع من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة فإنه يبيح له التحلل من إحرامه وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة وهو مذهب أبي حنيفة ويدل عليه ما روي عن عكرمة قال حدّثني الحجاج بن عمرو قال قال : رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من كسر أو عرج فقد حلّ وعليه حجة أخرى) قال عكرمة : فذكرت ذلك لأبي هريرة وابن عباس فقالا : صدق ، أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن وذهب قوم إلى أنه لا يباح له التحلل إلّا بحبس العدو وهو قول ابن عمر وابن عباس وأنس وبه قال مالك والليث والشافعي وأحمد وقالوا الحصر والإحصار بمعنى واحد واحتجوا بأن نزول الآية كان في قصة الحديبية في سنة ست وكان ذلك حبسا من جهة العدو لأن كفار مكة منعوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه من الطواف بالبيت فنزلت هذه الآية فحل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من عمرته ونحر هديه وقضاها من قابل ويدل عليه أيضا سياق الآية وهو قوله : فَإِذا أَمِنْتُمْ والأمن لا يكون إلّا من خوف وثبت عن ابن عباس أنه قال لا حصر إلّا حصر العدو فثبت بذلك أن المراد من الإحصار هو حصر العدو دون المرض وغيره. وأجيب عن حديث الحجاج بن عمرو بأنه محمول على من شرط التحلل بالمرض ونحوه إحرامه ويدل على جواز الاشتراط في الإحرام ما روي عن ابن عباس أن ضباعة بنت الزبير أتت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت يا رسول اللّه إني أريد الحج أفأشترط؟ قال نعم قالت كيف أقول؟ قال قولي لبيك اللّهم لبيك محلي من الأرض حيث تحبسني أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. ولغيره أن ضباعة بنت الزبير كانت وجعة فقال لها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : حجي واشترطي وقولي اللّهم محلى حيث حبستني فذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إذا اشترط في الحج فعرض له مرض أو عذر أن يتحلل ويخرج من إحرامه ثم المحصر يتحلل بذبح الهدي وحلق الرأس وهو المراد من قوله تعالى : فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ومعنى الآية فإن أحصرتم دون تمام الحج أو العمرة فحللتم فعليكم ما استيسر من الهدي والهدي ما يهدى إلى البيت وأعلاه بدنة وأوسطه بقرة وأدناه شاة. قال ابن عباس : شاة لأنه أقرب إلى اليسر ، ومحل ذبح هدي المحصر حيث أحصر وإليه ذهب الشافعي لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذبح الهدي عام الحديبية بها ، وذهب أبو حنيفة إلى أنه يقيم على إحرامه ويبعث بهديه إلى الحرم ويواعد من يذبحه هناك ثم يحل في ذلك الوقت. وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ أي مكانه الذي يجب أن يذبح فيه ، وفيه قولان أحدهما أنه الحرم فإن كان حاجا فمحله يوم النحر وإن كان معتمرا فمحله يوم يبلغ هديه إلى الحرم وهو قول أبي حنيفة والقول الثاني محل ذبحه حيث أحصر سواء كان في الحل أو في الحرم ، ومعنى محله يعني حيث يحل ذبحه وأكله وهو قول مالك والشافعي وأحمد ويدل عليه ما روي عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم معتمرين فحال كفار قريش دون البيت فنحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وحلق رأسه ، أخرجه البخاري. قوله عز وجل : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ معناه ولا تحلقوا رؤوسكم في حال الإحرام إلّا أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو أذى وهو القمل أو الصداع فَفِدْيَةٌ فيه إضمار تقديره فحلق رأسه فعليه فدية ، نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة (ق) عن كعب بن عجرة قال : أتى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأنا أوقد تحت قدر لي والقمل يتناثر على وجهي فقال : أيؤذيك هوام رأسك؟ قال قلت نعم قال فاحلق وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك نسيكة لا أدري بأي ذلك بدأ وفي رواية قال نزلت هذه الآية : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ وذكر نحوه وفي أخرى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم وذكره ، وفي أخرى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال له : ما كنت أرى أن الوجع بلغ منك ما أرى أو ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك ما أرى أتجد شاة؟ قلت لا قال : فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع). قال كعب فنزلت في خاصة وهي لكم عامة ومعنى قوله تعالى فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أي صوم ثلاثة أيام أَوْ صَدَقَةٍ يعني إطعام ثلاثة أصوع ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أَوْ نُسُكٍ واحدتها نسيكة أى ذبيحة وأعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدناها شاة وهذه الفدية على التخيير إن شاء ذبح أو صام أو تصدق وكل هدي أو طعام يلزم المحرم فإنه لمساكين الحرم إلّا هدي المحصر فإنه يذبحه حيث أحصر. وأما الصوم فله أن يصوم حيث شاء. قوله تعالى : فَإِذا أَمِنْتُمْ يعني من خوفكم وبرأتم من مرضكم وقيل إذا أمنتم من الإحصار فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ قال ابن الزبير معناه فمن أحصر حتى فاته الحج ولم يتحلل فقدم مكة فخرج من إحرامه بعمل عمرة فاستمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السنة المستقبلة ثم حج فيكون متمتعا بذلك الإحلال إلى إحرامه الثاني في العام المقبل وقيل معناه فإذا أمنتم وقد أحللتم من إحرامكم بعد الإحصار ولم تعتمروا في تلك السنة ثم اعتمرتم في السنة القابلة في أشهر الحج ثم أحللتم فاستمتعتم بإحلالكم إلى الحج ثم أحرمتم بالحج فعليكم ما استيسر من الهدي وقال ابن عباس : هو الرجل يقدم معتمرا من أفق الآفاق في أشهر الحج فقضى عمرته وأقام بمكة حلالا حتى أنشأ منها الحج فحج من عامه ذلك فيكون مستمتعا بالإحلال عن العمرة إلى إحرامه بالحج. ومعنى التمتع في اللغة هو الاستمتاع بعد الخروج من العمرة والتلذذ بما كان محظورا عليه في حال الإحرام إلى إحرامه بالحج فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ يعني فعليه ما استيسر من الهدي وهو شاة يذبحها يوم النحر ، فلو ذبح قبله بعد ما أحرم بالحج أجزأه عند الشافعي كدم الجبرانات ولا يجزئه ذبحه عند أبي حنيفة قبل يوم النحر كدم الأضحية. ولوجوب دم التمتع خمس شرائط : أحدها : أن يقدم العمرة على الحج. الثاني : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج. الثالث : أن يحج بعد الفراغ من العمرة في هذه السنة. الرابع : أن يحرم من مكة ولا يعود إلى ميقات بلده ، فإن رجع إلى الميقات وأحرم منه لم يكن متمتعا. الخامس : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام فهذه الشروط معتبرة في وجوب دم التمتع ومتى فقد شيء منها لم يكن متمتعا ودم التمتع دم جبران عند الشافعي فلا يجوز أن يأكل منه. وقال أبو حنيفة : هو دم نسك فيجوز أن يأكل منه وقوله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ يعني الهدي فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أي فعليه صيام ثلاثة أيام في وقت اشتغاله بالحج. قيل : يصوم يوما قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة وقيل بل المستحب أن يصوم في أيام الحج بحيث يكون يوم عرفة مفطرا فإن لم يصم قبل يوم النحر فقيل يصوم أيام التشريق وبه قال مالك وأحمد وهو أحد قولي الشافعي. وقيل : بل يصوم بعد أيام التشريق وهو رواية عن أحمد والقول الآخر للشافعي وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ يعني وصوموا سبعة أيام إذا رجعتم إلى أوطانكم وأهليكم قاله ابن عباس وبه قال الشافعي ، فلو صام قبل الرجوع إلى أهله لم يجزه عنده وقيل المراد من الرجوع هو الفراغ من أعمال الحج والأخذ في الرجوع فعلى هذا يجزئه أن يصوم السبعة أيام بعد الفراغ من أعمال الحج وقبل الرجوع إلى أهله وبه قال أبو حنيفة : تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ يعني في الثواب والأجر وقيل كاملة في قيامها مقام الهدي لأنه قد يحتمل أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدي فاعلم اللّه أن العشرة بكمالها هي القائمة مقام الهدي وقيل فائدة التكرار التوكيد كقول الفرزدق : ثلاث واثنتان فهن خمس وسادسة تميل إلى سهام ولأن القرآن أنزل بلغة العرب والعرب تكرر الشيء تريد به التوكيد وقيل فائدة ذلك الفذلكة في علم الحساب وهو أن يعلم العدد مفصلا ثم يعلمه جملة ليحتاط به من جهتين فكذلك قوله تعالى : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ وقيل إن العرب لما كانوا لا يعلمون الحساب وكانوا يحتاجون إلى زيادة بيان وإيضاح فلذلك قال تلك عشرة كاملة وقيل لفظه خبر ومعناه أمر أي أكملوها ولا تنقصوها ذلِكَ أي هذا الحكم الذي تقدم لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قيل حاضر والمسجد الحرام هم أهل مكة وهو قول مالك. وقيل : هم أهل الحرم وبه قال طاوس. وقال ابن جريج : هم أهل عرفة والرجيع وضجنان ونخلة. وقال الشافعي : كل من كان وطنه من مكة على أقل من مسافة القصر فهو من حاضري المسجد الحرام وقيل هم من دون الميقات وقال أبو حنيفة حاضر والمسجد الحرام أهل الميقات والمواقيت ذو الحليفة والجحفة وقرن ويلملم وذات عرق فمن كان من أهل هذه المواضع فما دونها إلى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام. وقيل حاضرو المسجد الحرام من تلزمه الجمعة فيه ومعنى الآية أن المشار إليه في قوله : ذلِكَ يرجع إلى أقرب مذكور وهو لزوم الهدي أو بدله على المتمتع وهو الآفاقي فأما المكي إذا تمتع أو قرن فلا هدي عليه ولا بد له لأنه لا يجب عليه أن يحرم من الميقات فإقدامه على التمتع لا يوجب خللا في حجه فلا يجب عليه الهدي ويدل على ذلك ما أخرجه البخاري تعليقا من حديث عكرمة قال سئل ابن عباس عن متعة الحج فقال : (أهلّ المهاجرون والأنصار وأزواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلّا من قلد الهدي فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب وقال : من قلد الهدي فإنه لا يحل من شيء حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي كما قال تعالى فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى أمصاركم والشاة تجزئ فجمعوا بين النسكين في عام بين الحج والعمرة فإن اللّه أنزله في كتابه وسنة نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم وأباحه للناس من غير أهل مكة قال اللّه تعالى : ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وفي الحديث زيادة قال الحميدي قال أبو مسعود الدمشقي هذا حديث غريب ولم أجده إلّا عند مسلم بن الحجاج ولم يخرجه في صحيحه ، من أجل عكرمة فإنه لم يرو عنه في صحيحه وعندي أن البخاري إنما أخذه من مسلم. وقوله تعالى : وَاتَّقُوا اللّه أي فيما فرضه عليكم ونهاكم عنه في الحج وفي غيره وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقابِ يعني لمن خالف أمره وتهاون بحدوده وارتكب مناهيه .. ١٩٧قوله عز وجل : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ يعني أشهر الحج أشهر معلومات وقيل وقت الحج أشهر معلومات وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر وبه قال عبد اللّه بن مسعود وجابر بن عبد اللّه وعبد اللّه بن الزبير ومن التابعين الحسن وابن سيرين والشعبي وهو قول الشافعي والثوري وأبي ثور وحجة الشافعي ومن وافقه أن الحج يفوت بطلوع الفجر الثاني من يوم النحر والعبادة لا تفوت مع بقاء وقتها فدل على أن يوم النحر ليس من أشهر الحج وأيضا فإن الإحرام بالحج فيه لا يجوز فدل على أنه وما بعده ليس من أشهر الحج. وقال ابن عباس أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة آخرها يوم النحر وبه قال ابن عمر وعروة بن الزبير وطاوس وعطاء والنخعي وقتادة ومكحول والضحاك والسدي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وهي إحدى الروايتين عن مالك وحجة هذا القول أن يوم النحر وهو يوم الحج الأكبر لأن فيه يقع طواف الإفاضة وهو تمام أركان الحج ، وقيل إن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله ، وهو رواية عن ابن عمر وبه قال الزهري : وهي الرواية الأخرى عن مالك وحجة هذا القول إن اللّه تعالى ذكر أشهر الحج بلفظ الجمع وأقل الجمع المطلق ثلاث ، ولأن كل شهر كان أوله من أشهر الحج كان آخره كذلك. فإن قلت هنا إشكال. وهو أن اللّه تعالى قال قبل هذه الآية : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج قلت قوله هي مواقيت للناس والحج وعام وهذه الآية وهي قوله تعالى : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ خاص والخاص مقدم على العام. وقيل : إن الآية الأولى مجملة وهذه الآية مفسرة لها. فإن قلت إنما قال الحج أشهر بلفظ الجمع وعند الشافعي أشهر الحج شهران وعشر ليال وعند أبي حنيفة وعشرة أيام فما وجه هذا؟ قلت : إن لفظ الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله تعالى : فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وقيل إنه نزل بعض الشهر منزلة كله كما يقال رأيتك سنة كذا وإنما رآه في ساعة منها ولا إشكال فيه على القول الثالث وهو قول من قال إن أشهر الحج ثلاث شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ يعني فمن ألزم نفسه وأوجب عليها فيهن الحج والمراد بهذا الفرض ما به يصير حاجا وهو فعل يفعله ثم اختلفوا في ذلك الفعل فقال الشافعي : ينعقد الإحرام بمجرد النية من غير حاجة إلى التلبية ووجهه أن فرض الحج عبارة عن النية فوجب أن تكون النية كافية في انعقاد الحج وقال أبو حنيفة : لا يصح الشروع في الإحرام بمجرد النية حتى تنضم إليه التلبية أو سوق الهدي ووجهه أن الحج عبادة لها تحليل وتحريم فلا به من انضمام شيء إلى النية كتكبيرة الإحرام مع النية في الصلاة ، وفي الآية دليل على أن الإحرام بالحج لا ينعقد إلّا في أشهره وهو قول ابن عباس وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق لأن اللّه تعالى خصص هذه الأشهر بفرض الحج فيها فلو انعقد في غيرها لم يكن لهذا التخصيص وجه ولا فائدة وقال مالك والثوري وأبو حنيفة : ينعقد إحرامه بالحج في جميع شهور السنة ووجهه أن الإحرام إلزام الحج فجاز تقديمه على الوقت كالنذر لأن اللّه تعالى جعل الأهلة كلها مواقيت للحج بقوله : هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وقد تقدم الجواب عنه. وقوله تعالى فَلا رَفَثَ قال ابن عباس الرفث الجماع وفي رواية عنه أن الرفث غشيان النساء والتقبيل والغمز وأن يعرض لهن بالفحش من الكلام فعلى هذا القول التلفظ به في غيبة النساء لا يكون رفثا ، قال حصين بن قيس أخذ ابن عباس بذنب بعيره يلويه وهو يحدو ويقول : وهن يمشين بنا هميسا إن يصدق الطير ننك لميسا فقلت : أترفث وأنت محرم؟ فقال : إن الرفث ما قيل عند النساء وقوله لميسا هو اسم امرأة وقيل الرفث كلام متضمن لما يستقبح ذكره من ذكر الجماع ودواعيه وقوله فلا رفث يحتمل أن يكون نهيا عن تعاطي الجماع وأن يكون نهيا عن الحديث في ذلك لأنه من دواعيه وقيل الرفث هو الفحش والخنا والقول القبيح. وقيل الرفث اللغو من الكلام ويدل عليه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب) وَلا فُسُوقَ أصله الخروج عن الطاعة قال ابن عباس : هي المعاصي كلها وهو قول طاوس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والزهري والربيع والقرظي وقال ابن عمر : هو ما نهي عنه المحرم في حال الإحرام من قتل الصيد وتقليم الأظافر ، وأخذ الشعر وما أشبه ذلك وقيل هو السباب والتنابز بالألقاب (ق) عن أبي هريرة قال سمعت رسول صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ قال ابن عباس الجدال هو المراء وهو أن يماري الرجل صاحبه ويخاصمه حتى يغضبه وقيل : هو قول الرجل الحج اليوم يقول آخر الحج غما وقيل هو أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال في حجة الوداع وقد أحرموا بالحج (اجعلوا أهلا لكم بالحج عمرة إلّا من قلد الهدي قالوا كيف نجعلها عمرة وقد سمينا الحج فهذا كان جدالهم. وقيل : هو ما كان عليه أهل الجاهلية كان بعضهم يقف بعرفة وبعضهم بمزدلفة وكان بعضهم يحج في ذي القعدة وبعضهم في ذي الحجة وكل يقول الصواب فيما فعلته فأنزل اللّه : وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ فأخبر أن أمر الحج قد استقر على ما فعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلا خلاف فيه بعده وذلك معنى قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : (ألا أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض) وقيل : معناه ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة فأبطل النسيء وقيل : ظاهر الآية خبر ومعناه نهي أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الحج وإنما نهي عن ذلك وأمر باجتنابه في الحج وإن كان اجتناب ذلك في كل الأحوال والأزمان واجبا لأن الرفث والفسوق والجدال في الحج أسمج وأفظع منه في غيره وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّه أي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، وهو الذي يجازيكم عليها ، حث اللّه على فعل الخير عقيب النهي عن الشر وهو أن يستعملوا مكان الرفث الكلام الحسن ومكان الفسوق البر والتقوى ومكان الجمال الوفاق والأخلاق الجميلة ، وقيل : جعل فعل الخير عبارة عن ربط الأنفس عن الشر حتى لا يوجد منهم ما نهوا عنه. وقيل : إنما ذكر الخير وإن كان عالما بجميع أفعال العباد من الخير والشر لفائدة ، وهي أنه تعالى إذا علم من العبد الخير ذكره وشهره وإذا علم منه الشر ستره وأخفاه فإذا كان هذا فعله مع عبده في الدنيا فكيف يكون في العقبى وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى نزلت في أناس من أهل اليمن كانوا يخرجون للحج من غير زاد ويقولون نحن متوكلون ويقولون نحج بيت ربنا أفلا يطعمنا فإذا قدموا مكة سألوا الناس وربما أفضى بهم الحال إلى النهب والغصب فأنزل اللّه وتزودوا أي ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم عن الناس واتقوا إبرامهم والتثقيل عليهم فإن خير الزاد التقوى وقيل في معنى الآية وتزودوا من التقوى فإن الإنسان لا بد له من سفر في الدنيا ، ولا بد فيه من زاد ويحتاج فيه إلى الطعام والشراب والمركب وسفر من الدنيا إلى الآخرة ، ولا بد فيه من زاد أيضا وهو تقوى اللّه والعمل بطاعته وهذا الزاد أفضل من الزاد الأول ، فإن زاد الدنيا يوصل إلى مراد النفس وشهواتها ، وزاد الآخرة يوصل إلى النعيم المقيم في الآخرة وفي هذا المعنى قال الأعشى : إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا وَاتَّقُونِ أي وخافوا عقابي وقيل معناه واشتغلوا بتقواي وفيه تنبيه على كمال عظمة اللّه جل جلاله : يا أُولِي الْأَلْبابِ يا ذوي العقول الذين يعلمون حقائق الأمور. قوله عز وجل : ١٩٨لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ يعني رزقا ونفعا وهو الربح في التجارة (خ) عن ابن عباس قال كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فلما كان الإسلام فكأنهم تأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مواسم الحج. وقرأها ابن عباس هكذا وفي رواية أن تبتغوا في مواسم الحج فضلا من ربكم. وعكاظ سوق معروف بقرب مكة ، ومجنة بفتح الميم وكسرها سوق بقرب مكة أيضا ، قال الأزرقي : هي بأسفل مكة على بريد منها وذو المجاز سوق عند عرفة كانت العرب في الجاهلية يتجرون في هذه الأسواق ولها مواسم فكانوا يقيمون بعكاظ عشرين يوما من ذي القعدة ثم ينتقلون إلى مجنة فيقيمون بها ثمانية عشر يوما عشرة أيام من آخر ذي القعدة ، وثمانية أيام من أول ذي الحجة ثم يخرجون إلى عرفة في يوم التروية وقال الداودي : مجنة عند عرفة وعن أبي أمامة التيمي قال : كنت رجلا أكري في هذا الوجه وكان الناس يقولون لي : إنه ليس لك حج فلقيت ابن عمر فقلت له يا أبا عبد الرحمن إني رجل أكري في هذا الوجه وإن أناسا يقولون إنه ليس لك حج فقال ابن عمر أليس تحرم وتلبي وتطوف بالبيت وتفيض من عرفات وترمي الجمار؟ فقلت بلى قال فإن ذلك حجا جاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فسأله عن مثل ما سألتني عنه فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فأرسل إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (و قرأها عليه وقال لك حج) أخرجه أبو داود والترمذي. وقال بعض العلماء : إن التجارة إن أوقعت نقصا في أعمال الحج لم تكن مباحة وإن لم توقع نقصا فيه كانت من المباحات التي الأولى تركها لتجريد العبادة عن غيرها لأن الحج بدون التجارة أفضل وأكمل. قوله تعالى : فَإِذا أَفَضْتُمْ أي دفعتم والإفاضة دفع بكثرة مِنْ عَرَفاتٍ جمع عرفة سميت بذلك وإن كانت بقعة واحدة لأن كل موضع من تلك المواضع عرفة فسمي مجموع تلك المواضع عرفات وقيل. إن اسم الموضع عرفات. واسم اليوم عرفة قال عطاء كان جبريل يرى إبراهيم المناسك ويقول له : عرفت فيقول عرفت فسمي ذلك المكان عرفات واليوم عرفة. وقال الضحاك : إن آدم لما أهبط وقع بالهند وحواء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات في يوم عرفة فتعارفا فسمي اليوم عرفة والموضع عرفات ، وقال السدي : إن إبراهيم لما أذن في الناس بالحج وأجابوه بالتلبية وأبى من أبى أمره اللّه تعالى أن يخرج إلى عرفات ونعتها له ، فخرج فلما بلغ الشجرة استقبله الشيطان يرده فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبر فطار فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبر فطار فلما رأى الشيطان أنه لا يطيعه ذهب فانطلق إبراهيم حتى أتى ذا المجاز فنظر إليه فلم يعرفه فجازه فسمي ذا المجاز ، ثم انطلق إبراهيم حتى وقع بعرفات فعرفها بالنعت ، فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع فسمي ذلك الموضع المزدلفة. وفي رواية عن ابن عباس أن إبراهيم رأى ليلة التروية في منامه أنه يؤمر بذبح ولده فلما أصبح تروى يومه أجمع أي تفكر هل هذه الرؤيا من اللّه تعالى أم من الشيطان فسمي يوم التروية ، ثم رأى ذلك في ليلة عرفة ثانيا فلما أصبح عرف أن ذلك من اللّه فسمي اليوم عرفة. وقيل : سمي بذلك لأن الناس يعترفون في ذلك اليوم بذنوبهم وقيل : سمي عرفة من العرف وهو الطيب وسميت منى لما يمنى فيها من الدماء أي يصبّ فيكون فيه الفروث والدماء ، فلا يكون الموضع طيبا وعرفات طاهرة عن مثل هذا فتكون طيبة. واعلم أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج ولا يتم الحج إلّا به ، ومن فاته الوقوف في وقته فقد فاته الحج. ويدخل وقت الوقوف بعرفة بزوال الشمس من يوم عرفة ويمتد إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر وذلك نصف يوم وليلة كاملة فمن وقف بعرفات في هذا الوقت ولو لحظة واحدة من ليل أو نهار ، فقد حصل له الوقوف ويتم حجه وقال أحمد : وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوعه من يوم النحر ووقت الإفاضة من عرفات ، بعد غروب الشمس فإذا غربت الشمس دفع من عرفات وأخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بمزدلفة (ق) عن أسامة بن زيد قال دفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء ، ف قلت : الصلاة يا رسول اللّه فقال الصلاة أمامك ثم ركب فلما جاء المزدلفة ، نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره ، في منزله ، ثم أقيمت العشاء فصلى ولم يصل بينهما شيئا. وقوله تعالى : فَاذْكُرُوا اللّه عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ سمي مشعرا من الشعار وهي العلامة لأنه من معالم الحج وأصل الحرام المنع فهو ممنوع من أن يفعل فيه ما لم يؤذن فيه ، والمشعر الحرام هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر ، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام وقيل المشعر الحرام هو المزدلفة وسماه اللّه بذلك لأن الصلاة والمبيت به والدعاء عنده من معالم الحج وقيل المشعر الحرام ، هو قزح وهو آخر حد المزدلفة والأول أصح. وسميت المزدلفة من الازدلاف وهو الاقتراب ، لأنها منزلة من اللّه تعالى وقربة. وقيل : لنزول الناس بها زلف الليل : وقيل : لاجتماع الناس بها وتسمى المزدلفة جمعا لأنه يجمع فيها بين المغرب والعشاء ، قيل المراد بالذكر عند المشعر الحرام هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء هناك. ويدل عليه أن قوله : فاذكروا اللّه أمر وهو للوجوب ولا يجب هناك إلّا الصلاة ، والذي عليه جمهور العلماء أن المراد بالذكر هو الدعاء والتلبية والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير (ق) عن ابن عباس أن أسامة بن زيد كان رديف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، من عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى فكلاهما قال : لم يزل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يلبي حتى رمى جمرة العقبة ، عن جابر قال دفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ، ثم اضطجع حتى طلع الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة وكبره وهللّه ووحده ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا ودفع قبل أن تطلع الشمس هذا الحديث ذكره البغوي بغير سند. ولم أجده في الأصول ، قال طاوس كانوا في الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس ومن المزدلفة بعد طلوعها وكانوا يقولون : أشرق ثبير كيما نغير ، فنسخ اللّه تعالى أحكام الجاهلية فأخر الإفاضة من عرفة إلى ما بعد غروب الشمس وقدم الإفاضة من المزدلفة إلى ما قبل طلوعها. وثبير جبل بمكة ومعنى قولهم أشرق ثبير أدخل أيها الجبل في الشروق وهو نور الشمس وقولهم كيما نغير أي ندفع للنحر يقال أغار إذا أسرع ودفع في عدوه (خ) عن عمرو بن ميمون قال قال عمر كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس وكانوا يقولون : أشرق ثبير فخالفهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأفاض قبل طلوع الشمس. وقوله تعالى : وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أي اذكروه بالتوحيد والتعظيم كما ذكركم بالهداية فهداكم لدينه ومناسك حجه وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ أي لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه ، والهاء في من قبله راجعة إلى الهدي وقيل إلى الرسول أي من قبل إرسال الرسول لمن الضالين ، وهو كناية عن غير مذكور وقيل يرجع إلى القرآن والمعنى واذكروه كما هداكم بكتابه الذي أنزله عليكم ، وإن كنتم من قبل إنزاله لمن الضالين. قوله عز وجل : ١٩٩ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس ، وفي المخاطبين بهذا قولان أحدهما أنه خطاب لقريش قال أهل التفسير : كانت قريش ومن دان بدينها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة ويقولون : نحن أهل اللّه وقطان حرمه فلا نخلف الحرم ولا نخرج منه ويتعاظمون أن يقفوا مع سائر الناس بعرفات ، وكان سائر الناس يقفون بعرفات فإذا أفاض الناس من عرفات أفاض الحمس من المزدلفة فأمرهم اللّه أن يقفوا بعرفات مع سائر الناس ، ثم يفيضوا منها إلى جمع وأخبرهم أنه سنة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام (ق) عن عائشة رضي اللّه عنها قالت كان قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة ، وكان يسمون الحمس وكانت سائر العرب يقفون بعرفة فلما جاء الإسلام أمر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى : ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ قولها : كانوا يسمون الحمس هو جمع أحمس وأصله من الشدة والشجاعة وإنما سميت قريش وكنانة حمسا لتشددهم في دينهم فعلى هذا القول الناس معناهم جميع العرب سوى الحمس ، والقول الثاني : إنه خطاب لسائر المسلمين أمرهم اللّه أن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم ، وهو المراد بقوله من حيث أفاض الناس ، وقيل : الناس هم آدم وحده بدليل قراءة سعيد بن جبير ثم أفيضوا من حيث أفاض الناسي بالياء وقال هو آدم عهد إليه فنسي ، ووجه هذا أن الوقوف بعرفات والإفاضة منها شرع قديم وما سواه مبتدع محدث ، وقيل : المراد من هذه الآية أن الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر ، قبل طلوع الشمس للرمي والنحر ، وأراد بالناس إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما لأنه كانت إفاضتهم من المزدلفة قبل طلوع الشمس ، ووجه هذا القول أن الإفاضة من عرفات قد تقدم ذكرها في قوله : فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ثم قال بعد ذلك ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ فدل على أن هذه الإفاضة من المزدلفة إلى منى لكن القول الأول هو الأصح الذي عليه جمهور المفسرين. فإن قلت على القول الأول الذي هو قول جمهور المفسرين إشكال ، وهو أن ظاهر الكلام لا يقتضي ذلك لأن قوله : فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللّه والإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من جمع فكيف قال ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ فكأنه قال فإذا أفضتم من عرفات فأفيضوا من عرفات وذلك غير جائز. قلت : أجيب عن هذا الإشكال بأن فيه تقديما وتأخيرا وتقديره ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا اللّه إن اللّه غفور رحيم ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات ، فاذكروا اللّه فعلى هذا الترتيب يصح أن تكون هذه الإفاضة تلك الإفاضة بعينها وقيل : إن ثم في قوله ثم أفيضوا بمعنى الواو أي وأفيضوا كقوله ثم كان من الذين آمنوا والإفاضة الدفع (ق) عن هشام بن عروة عن أبيه قال سأل أسامة بن زيد وأنا جالس كيف كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يسير في حجة الوداع قال : كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص قال هشام والنص فوق العنق. العنق بفتح العين ضرب من السير سريع ، هو أشد من المشي والفجوة : الفرجة وهي المتسع من الأرض ، والنص السير السريع حتى يستخرج من الناقة أقصى وسعها (خ) عن ابن عباس أنه دفع مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يوم عرفة فسمع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال : يا أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع ، الإيضاع السير السريع الشديد. قوله تعالى : وَاسْتَغْفِرُوا اللّه أي من مخالفتكم في الموقف ولجميع ذنوبكم إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني أن اللّه هو الساتر لذنوب عباده برحمته والغفور يفيد المبالغة في الغفر وكذا الرحيم وفيه دليل على أنه تعالى يقبل التوبة من عباده التائبين ويغفر لهم ، لأنه تعالى أمر المذنب بالاستغفار ثم وصف نفسه تعالى بأنه كثير الغفران كثير الرحمة فدل ذلك على أنه تعالى يغفر للمستغفرين ويرحم المذنبين بمنه وكرمه. قوله عز وجل : ٢٠٠فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ أي فرغتم من حجكم وعبادتكم وذبحتم نسائككم أي ذبائحكم وذلك بعد رمي جمرة العقبة والاستقرار بمنى فَاذْكُرُوا اللّه يعني بالتحميد والتمجيد والتهليل والتكبير والثناء عليه كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ قال أهل التفسير ، كانت العرب في الجاهلية إذا فرغوا من حجهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل ، وقيل : عند البيت فيذكرون مفاخر آبائهم ومآثرهم وفضائلهم ومحاسنهم ومناقبهم ، فيقول أحدهم : كان أبي كبير الجفنة رحب الفناء يقرى للضيف وكان كذا وكذا يعد مفاخره ومناقبه ويتناشدون الأشعار في ذلك ويتكلمون بالمنثور والمنظوم من الكلام الفصيح وغرضهم الشهرة والسمعة والرفعة بذكر مناقب سفلهم وآبائهم ، فلما من اللّه عليهم بالإسلام أمرهم أن يكون ذكرهم للّه لا لآبائهم وقال : اذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبهم وأحسنت إليكم وإليهم قال ابن عباس : معناه فاذكروا اللّه كذكر الصبيان الصغار الآباء وذلك أن الصبي أول ما يفصح بالكلام ويقول : أبه أمه لا يعرف غير ذلك فأمرهم أن يذكروه كذكر الصبيان الصغار الآباء أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً أي بل أشد ذكرا ، وقيل : أو بمعنى الواو أي وأشد ذكرا أي وأكثر ذكرا للآباء لأنه هو المنعم عليهم وعلى الآباء ، فهو المستحق للذكر والحمد مطلقا ، وسئل ابن عباس عن هذه الآية قيل له قد يأتي على الرجل اليوم ولا يذكر فيه أباه فقال : ليس كذلك ولكن أن تغضب للّه عز وجل إذا عصى أشد من غضبك لوالديك إذا شتما فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا يعني أن المشركين كانوا يسألون اللّه في حجهم للدنيا ، ونعيمها كانوا يقولون : اللّهم أعطنا إبلا وغنما و بقرا وعبيدا وإماء وكان أحدهم بقوم فيقول : اللّهم إن أبي كان عظيم الفئة كبيرا الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته. قال قتادة : هذا عبد نيته الدنيا لها أنفق ولها عمل ونصب (خ) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط تعس ، وانتكس وإذا شيك فلا انتقش) قوله : تعس عبد الدينار هذا دعاء عليه بالهلاك وهو الوقوع على الوجه من العثار والخميصة ثوب من خز أو صوف معلم ، وقوله وانتكس هذا دعاء عليه أيضا لأن من انتكس على رأسه أو في أمره فقد خاب ، وخسر وقوله وإذا شيك هذا فعل ما لم يسم فاعله ، تقول شاكته الشوكة إذا دخلت في جسمه والانتقاش إخراج الشوكة من الجسم وإنما كان سؤال المشركين للدينار ولم يطلبوا التوبة والمغفرة ونعيم الآخرة لأنهم كانوا ينكرون البعث وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أي وما له في الآخرة من حظ ولا نصيب. ٢٠١وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ يعني المؤمنين. واعلم أن اللّه تعالى قسم الداعين فريقين البعث : فريق اقتصروا في الدعاء على طلب الدنيا وهم الكفار لأنهم كانوا لا يعتقدون البعث والآخرة ، والفريق الثاني : هم المؤمنون الذين جمعوا في الدعاء بين طلب الدنيا والآخرة وذلك لأن الإنسان خلق ضعيفا محتاجا لا طاقة له بآلام الدنيا ومتاعبها فالأولى له أن يستعيذ باللّه من شرها وآلامها لأنه لو اضطرب على الإنسان عرق من عروقه ، لشوش عليه حياته في الدنيا ، وتعطل عن الاشتغال بطاعة اللّه تعالى فثبت بذلك أن طلب الدنيا في الدعاء من أمر الدين ، فلذلك قال اللّه تعالى : إخبارا عن المؤمنين : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً قيل : إن الحسنة في الدنيا عبارة عن الصحة والأمن والكفاية والتوفيق إلى الخير والنصر على الأعداء والولد الصالح والزوجة الصالحة (م) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) وقيل : الحسنة في الدنيا العلم والعبادة وفي الآخرة الجنة وقيل : الحنسة في الدنيا الرزق الحلال والعمل الصالح وفي الآخرة المغفرة والثواب. وقيل : من آتاه اللّه الإسلام والقرآن وأهلا ومالا فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة يعني في الدنيا عافية وفي الآخرة عافية. (م) عن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عاد رجلا من المسلمين قد خف فصار مثل الفرخ ، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (هل كنت تدعو اللّه بشيء أو تسأله إياه؟ قال : نعم كنت أقول اللّهم ما كنت معاقبني به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : سبحان اللّه لا تطيقه ولا تستطيعه أفلا قلت : اللّهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) قال : فدعا اللّه به فشفاه (ق) عن أنس بن مالك. قال كان أكثر دعاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : اللّهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. عن عبد اللّه بن السائب قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول بين الركنين : (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) أخرجه أبو داود. ٢٠٢أُولئِكَ إشارة إلى المؤمنين الداعين بالحسنتين ووجه هذا القول أن اللّه ذكر حكم الفريق بكماله. فقال : وما له في الآخرة من خلاق وقيل : يرجع إلى الفريقين لَهُمْ جميعا أي لكل فريق من هؤلاء نَصِيبٌ أي حظ مِمَّا كَسَبُوا يعني من الخير والدعاء بالثواب والجزاء على الدعاء بالدنيا من جنس ما كسب ودعا وَاللّه سَرِيعُ الْحِسابِ ذكروا في معنى الحساب أن اللّه تعالى يعلم العباد بما لهم وعليهم بمعنى أن اللّه تعالى يخلق العلوم الضرورية في قلوبهم بمقادير أعمالهم وكمياتها وكيفياتها وبمقادير ما لهم من الثواب وعليهم من العقاب. وقيل : إن المحاسبة عبارة عن المجازاة ويدل عليه قوله تعالى : وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وقيل : إن اللّه تعالى يكلم عباده يوم القيامة ويعرفهم أحوال أعمالهم وما لهم من الثواب والعقاب. وقيل : إنه تعالى إذا حاسب عباده فحسابه سريع لأنه تعالى لا يحتاج إلى عقد يد وروية فكر وصف اللّه نفسه تعالى بسرعة الحساب مع كثرة الخلائق وكثرة أعمالهم ليدل بذلك على كمال قدرته لأنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن ولا يحتاج إلى آلة ولا مادة ولا مساعد ، فلا جرم كان قادرا على أن يحاسب جميع الخلائق في أقل من لمح البصر ، وروي أنه تعالى يحاسب الخلائق في قدر حلب شاة أو ناقة ، وقيل : في معنى كونه تعالى سريع الحساب أي سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم ، وذلك أنه تعالى يسأله السائلون في الوقت الواحد كل واحد منهم أشياء مختلفة من أمور الدنيا والآخرة فيعطي كل واحد من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك ، لأنه تعالى عالم بجميع أحوال عباده وأعمالهم وقيل في معنى الآية إن إتيان القيامة قريب لأن كل ما هو كائن وآت قريب لا محالة ، وفيه إشارة إلى المبادرة بالدعاء والذكر وسائر الطاعات وطلب الآخرة. ٢٠٣قوله عز وجل : وَاذْكُرُوا اللّه يعني بالتوحيد والتعظيم والتكبير في أدبار الصلوات وعند رمي الجمرات ، وذلك أنه يكبر مع كل حصاة من حصى الجمار فقد ورد في الصحيح أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كبر مع كل حصاة فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ يعني أيام التشريق وهي أيام منى ورمي الجمار سميت معدودات لقلتهن وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، أولها اليوم الحادي عشر من ذي الحجة وهو قول ابن عمر وابن العباس والحسن وعطاء ومجاهد وقتادة وهو مذهب الشافعي. وقيل : إن الأيام المعدودات يوم النحر ويومان بعده. وهو قول علي بن أبي طالب ويروى عن ابن عمر أيضا وهو مذهب أبي حنيفة (م) عن نبيشة الهذلي قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر اللّه) ومن الذكر في هذه الأيام التكبير (خ) عن ابن عمر أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات ، وعلى فراشه وفي فسطاطه وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا وفي رواية أنه كان يكبر في قبته فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى أخرجه البخاري بغير إسناد وأجمع العلماء على أن المراد بهذا هو التكبير عند رمي الجمار ، وهو أن يكبر مع كل حصاة يرمي بها في جميع أيام التشريق ، وأجمعوا أيضا على أن التكبير في عيد الأضحى وفي هذه الأيام في إدبار الصلوات سنة واختلفوا في وقت التكبير فقيل يبتدئ به من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق فيكون التكبير على هذا القول في خمسة عشر صلاة ، وهو قول ابن عباس وابن عمر ، وبه قال الشافعي : في أصح أقواله قال الشافعي : لأن الناس فيه تبع للحاج وذكر الحاج قيل : هذا الوقت هو التلبية ويأخذون في التكبير يوم النحر من صلاة الظهر. وقيل : إنه يبتدئ به من صلاة المغرب ليلة النحر ويختم بصلاة الصبح من آخر أيام التشريق ، وهو القول الثاني الشافعي فيكون التكبير على هذا القول : في ثمانية عشر صلاة والقول الثالث للشافعي إنه يبتدئ بالتكبير من صلاة الصبح يوم عرفة ، ويختم به بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق ، فيكون التكبير على هذا القول في ثلاث وعشرين صلاة وهو قول علي بن أبي طالب ، ومكحول وبه قال أبو يوسف ومحمد ، وقال ابن مسعود يبتدأ به من صبح يوم عرفة ويختم بصلاة العصر من يوم النحر ، فعلى هذا القول يكون التكبير في ثمان صلوات ، وبه قال أبو حنيفة وقال أحمد بن حنبل : إذا كان حلالا كبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة أولها الصبح من يوم عرفة وآخرها صلاة العصر من آخر أيام التشريق وإن كان محرما كبر عقيب سبعة عشر صلاة أولها الظهر من يوم النحر وآخرها عصر آخر أيام التشريق. ولفظ التكبير عند الشافعي ثلاثا نسقا اللّه أكبر اللّه أكبر اللّه أكبر وهو قول سعيد بن جبير والحسن ، وهو قول أهل المدينة ، قال الشافعي : وما زاد من ذكر اللّه فحسن ويروى عن ابن مسعود أنه يكبر مرتين فيقول اللّه أكبر اللّه أكبر وهو قول أهل العراق. وقوله تعالى : فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ أي فمن تعجل النفر الأول وهو في الثاني من أيام التشريق فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي فلا حرج عليه وذلك أنه يجب على الحاج المبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من ليالي أيام التشريق ، ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة يرمي عند كل جمرة سبع حصيات ثم من رمى في اليوم الثاني وأراد أن ينفر ويدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمى يومها فذلك واسع له لقوله تعالى : فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني فلا إثم على من تعجل فنفر في اليوم الثاني في تعجيله وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني ومن تأخر إلى النفر الثاني ، وهو اليوم الثالث من أيام التشريق فلا إثم عليه في تأخره. واعلم أنه إنما يجوز التعجيل لمن نفر بعد الزوال من اليوم الثاني من أيام التشريق وقبل غروب الشمس ، من ليلة ذلك اليوم وإن غربت عليه الشمس ، وهو بمنى لزمه المبيت بها لرمي اليوم الثالث ، هذا مذهب الشافعي وأكثر الفقهاء وقال أبو حنيفة : يجوز له أن ينفر ما لم يطلع الفجر لأنه لم يدخل وقت الرمي ، بعد ورخص لرعاة الإبل وأهل سقاية الحاج ترك المبيت بمنى ليالي منى. فإن قلت : قوله ومن تأخر فلا إثم عليه فيه إشكال وهو أن الذي أتى بأفعال الحج كاملة تامة فقد أتى بما يلزمه ، فما معنى قوله فلا إثم عليه إنما يخاف من الإثم من قصر فيما يلزمه قلت فيه أجوبة أحدها أنه تعالى لما أذن في التعجيل على سبيل الرخصة احتمل أن يخطر ببال قوم أن من لم يجر على موجب هذه الرخصة ، فإنه يأثم فأزال اللّه تعالى هذه الشبهة وبين إنه لا إثم عليه في الأمرين فإن شاء عجل وإن شاء أخر. الجواب الثاني أن من الناس من كان يتعجل ومنهم من كان يتأخر ، وكل فريق يصوب فعله على فعل الفريق الآخر فبين اللّه تعالى أن كل واحد من الفريقين مصيب في فعله وأنه لا إثم عليه. الجواب الثالث إنما قال : ومن تأخر فلا إثم عليه لمشاكلة اللفظة الأولى فهو كقوله : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ومعلوم أن جزاء السيئة ليس بسيئة. الجواب الرابع أن فيه دلالة على جواز الأمرين فكأنه تعالى قال : فتعجلوا أو تأخروا فلا إثم في التعجيل ولا في التأخير لِمَنِ اتَّقى أي ذلك التخيير ونفي الإثم للحاج المتقي وقيل لمن اتقى أن يصيب في حجه شيئا مما نهاه اللّه عنه من قتل صيد وغيره ، مما هو محظور في الحج ، وقيل : معناه أنه ذهب إثمه إن اتقى فيمن بقي من عمره ، وذلك أن الحاج يرجع مغفورا له بشرط أن لا يرتكب ما نهي عنه فيما بقي من عمره وهو قوله : وَاتَّقُوا اللّه أي في المستقبل والتقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي فيجازيكم بأعمالكم وفيه حث على التقوى. قوله عز وجل : ٢٠٤وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة ، واسمه أبي وإنما سمي الأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة ، عن قتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وذلك أنه أشار على بني زهرة الرجوع يوم بدر ، وقال لهم : إن محمدا ابن أختكم فإن يك كاذبا كفاكموه الناس وإن يك صادقا كنتم أسعد الناس به قالوا : نعم ما رأيت قال إني سأخنس بكم فاتبعوني فخنس فسمي الأخنس بذلك وكان الأخنس حلو الكلام حلو المنظر ، وكان يأتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ويجالسه ويظهر الإسلام ويقول : إني لأحبك ويحلف باللّه على ذلك وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يدني مجلسه وكان الأخنس منافقا فنزل فيه ، ومن الناس من يعجبك قوله ، أي يروقك وتستحسنه ويعظم في قلبك في الحياة الدنيا ، يعني أن حلاوة كلامه فيما يتعلق بأمر الدنيا وَيُشْهِدُ اللّه عَلى ما فِي قَلْبِهِ يعني قوله : واللّه إني بك مؤمن ولك محبّ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ أي شديد الجدال في الباطل ، وقيل : هو كاذب القول ، وقيل : هو شديد القسوة في المعصية جدل بالباطل يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة (ق) عن عائشة رضي اللّه عنها عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن أبغض الرجال إلى اللّه الألد الخصم) يعني الشديد في الخصومة. ٢٠٥وَإِذا تَوَلَّى أي أدبر وأعرض عنك بعد إلانة القول وحلاوة المنطق سَعى فِي الْأَرْضِ أي سار ومشى في الأرض لِيُفْسِدَ فِيها يعني بقطع الأرحام وسفك دماء المسلمين وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وذلك أن الأخنس بن شريق كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلا ، فأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم ، وقيل : خرج إلى الطائف مقتضيا دينا كان له على غريم فأحرق له كدسا وعقر له أتانا وقيل معناه إذا تولى أي صار واليا وملك الأمر سعى في الأرض ليفسد فيها يعني بالظلم والعدوان كما يفعله ولاة السوء والظلمة ، وقيل : يظهر ظلمه حتى يمنع اللّه بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل بسبب منع المطر وقيل أن الآية عامة في حق كل من كان موصوفا بهذه الصفات المذكورة ولا يمتنع أن تنزل في رجل واحد ثم تكون عامة في حق كل من كان موصوفا بهذه الصفات وَاللّه لا يُحِبُّ الْفَسادَ قال ابن عباس : لا يرضى بالمعاصي واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن المحبة عبارة عن الإرادة. وأجيب عنه بأن الإرادة معنى غير المحبة ، فإن الإنسان قد يريد شيئا ولا يحبه وذلك لأنه قد يتناول الدواء المر ولا يحبه فبان الفرق بين الإرادة والمحبة ، وقيل : إن المحبة مدح الشيء وتعظيمه والإرادة بخلاف ذلك ٢٠٦وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّه أي خف اللّه في سرك وعلانيتك أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ أي حملته العزة وحمية الجاهلية على فعل الإثم وقيل بأن يعمل الإثم وهو الظلم وترك الالتفات إلى الوعظ وعدم الإصغاء إليه. وأصل العزة المنعة والتكبر فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أي كافية له جهنم جزاء وعذابا ، وجهنم اسم من أسماء النار التي يعذب بها الكفار في الآخرة ، وقيل : هو اسم أعجمي وقيل بل هو عربي سميت النار بذلك لبعد قعرها وَلَبِئْسَ الْمِهادُ أي الفراش والمهاد التوطئة أيضا والمعنى أن العذاب بالنار يجعل تحته وفوقه قال ابن مسعود إن من أكبر الذنوب عند اللّه أن يقال للعبد : اتق اللّه فيقول : عليك بنفسك. وروي أنه قيل لعمر اتق اللّه فوضع خده على الأرض تواضعا للّه تعالى. ٢٠٧قوله عز وجل : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّه قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في سرية الرجيع وكانت بعد أحد (خ) عن أبي هريرة قال بعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سرية عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا الحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رام فاقتفوا آثارهم حتى أتوا منزلا نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة فقالوا هذا تمر يثرب ، فتبعوا أثرهم حتى لحقوهم. فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد ، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا : لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلا ، فقال عاصم : أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر اللّهم أخبر عنا رسولك فقاتلوهم فرموهم حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر بالنبل وبقي خبيب وزيد ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق. فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها فقال الرجل الثالث الذي معهم : هذا أول الغدر ، فأبى أن يصحبهم فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة ، فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل ، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر فمكث عندهم أسيرا حتى إذا اجتمعوا على قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحدّ بها فأعارتها ، فقالت : فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني وفي يده الموسى ، فقال : أتخشين مني أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك إن شاء اللّه تعالى وكانت تقول : ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ تمرة ، وإنه لموثق في الحديد. وما كان إلّا رزقا رزقه اللّه خبيبا ، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه قال : دعوني أصلي ركعتين ، فصلى ركعتين ثم انصرف فقال : لولا ترون أن ما بي جزع من الموت لزدت ، فكان أول من سن ركعتين عند القتل ، وقال : اللّهم أحصهم عددا وقال : فلست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في اللّه مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله ، وبعثت قريش إلى عاصم ليأتوا بشيء من جسده بعد موته وكان قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر ، فبعث اللّه عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم ، فلم يقدروا منه على شيء زاد في رواية وأخبر يعني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أصحابه يوم أصيبوا خبرهم. الفدفد : الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع. وقوله عالجوه : أي مارسوه ، وأراد به أنهم يخدعونه ليتبعهم فأبى. وقوله ليستحد الاستحداد حلق العانة. والقطف العنقود من العنب : قوله على أوصال شلو. الشلو العضو من أعضاء الإنسان. والممزع : المفرق. والظلة : الشيء الذي يظل من فوق الإنسان. والدبر : جماعة النحل والزنابير. وقال أهل التفسير : إن كفار قريش بعثوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو بالمدينة أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفرا من علماء أصحابك يعلمونا دينك ، وكان ذلك مكرا منهم فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خبيب بن عدي الأنصاري ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن بكر وعبد اللّه بن طارق بن شهاب البلوي وزيد بن الدثنة وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي أفلح الأنصاري ، وذكر نحو حديث البخاري ، زاد عليه : فقالوا : نصلب خبيبا حيا ، فقال : اللّهم إنك تعلم أنه ليس لي أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي ، فقام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله ويقال كان رجل من المشركين يقال له أبو ميسرة سلامان معه رمح فوضعه بين ثديي خبيب فقال له خبيب : اتق اللّه ، فما زاده ذلك إلّا عتوا فطعنه فأنفذه فذلك قوله تعالى : وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّه أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ يعني سلامان. وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف فبعثه مع مولى له يسمى نسطاس إلى التنعيم ليقتله في الحل ، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل أنشدك اللّه يا زيد أتحب محمدا عندنا الآن مكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك قال زيد واللّه ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي ، فقال أبو سفيان : ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا ثم قتله نسطاس ، فلما بلغ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هذا الخبر قال لأصحابه أيكم ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة فقال الزبير : أنا يا رسول اللّه وصاحبي المقداد بن الأسود ، فخرجا يمشيان الليل ويكمنان النهار حتى أتيا التنعيم ليلا ، فإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نشاوى وهم نيام ، فأنزلاه عن خشبته ، فإذا هو رطب ينثني ولم يتغير منه شيء بعد أربعين يوما ويده على جراحته وهي تبض دما اللون لون الدم والريح ريح المسك ، فحمله الزبير على فرسه وسار فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيبا فأخبروا قريشا فركب معهم سبعون فارسا فلما لحقوهم قذف الزبير خبيبا فابتلعته الأرض فسمي بليغ الأرض وقال الزبير ما أجرأكم علينا يا معشر قريش ثم رفع العمامة عن رأسه وقال : أنا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان ضاريان يدفعان عن أشبالهما. فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم ، فانصرفوا إلى مكة ، وقدم الزبير وصاحبه المقداد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وجبريل عنده فقال يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك ، ونزل في الزبير والمقداد : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّه حين شريا أنفسهما بإنزال خبيب عن خشبته. وقال أكثر المفسرين : نزلت في صهيب ابن سنان الرومي ، وإنما نسب إلى الروم لأن منازلهم كانت بأرض الموصل فأغارت الروم على تلك الناحية فسبوه وهو غلام صغير فنشأ بالروم ، وإنما كان من العرب ابن النمر بن قاسط قال سعيد بن المسيب وعطاء أقبل صهيب مهاجرا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فاتبعه نفر من مشركي قريش فنزل عن راحلته ونثل ما كان في كنانته وقال : واللّه لا تصلوا إليّ أو أرمي بكل سهم معي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي ، وإن شئتم دللتكم على مال دفنته بمكة وخليتم سبيلي. فقالوا نعم ، ففعل ، فلما قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نزلت : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّه الآية فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ربح البيع أبا يحيى ، وتلا عليه هذه الآية. وقال الحسن : أتدرون فيم نزلت هذه الآية؟ نزلت في المسلم يلقي الكافر فيقول له قل : لا إله إلّا اللّه فيأبى أن يقولها فيقولها المسلم واللّه لأشرين نفسي للّه فتقدم فقاتل وحده حتى قتل ، وقيل نزلت هذه الآية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقال ابن عباس : رضي اللّه عنهما : أرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه يقوم فيأمر هذا بتقوى اللّه فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم قال وأنا أشري نفسي للّه فقاتله ، وكان علي كرم اللّه وجهه إذا قرأ هذه الآية يقول اقتتلا ورب الكعبة. وسمع عمر رجلا يقرأ هذه الآية : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّه فقال عمر : إنا للّه وإنا إليه راجعون قام رجل فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقتل. عن أبي سعيد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر) أخرجه الترمذي ، وقال حديث حسن غريب. وأما تفسير الآية فذكر المفسرون أن المراد بهذا الشراء البيع ومنه قوله : وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ أي باعوه والمعنى أن المسلم باع نفسه بثواب اللّه تعالى في الدار الآخرة ، وهذا البيع هو أن يبذل نفسه في طاعة اللّه من صلاة وصيام ، وحج وجهاد وأمر بمعروف ونهي عن المنكر ، فكان ما يبذله من نفسه كالسلعة فصار كالبائع ، واللّه تعالى المشتري ، والثمن هو ثواب اللّه تعالى في الآخرة ابتغاء مرضاة اللّه أي طلب رضا اللّه وَاللّه رَؤُفٌ بِالْعِبادِ أي من رأفة اللّه بعباده أن جعل النعيم الدائم في الجنة جزاء على العمل القليل المنقطع ، ومن رأفته أنه يقبل توبة عبده ومن رأفته أن نفس العباد وأموالهم له ، ثم إنه تعالى يشتري ملكه بملكه فضلا منه ورحمة وإحسانا قوله عز وجل : ٢٠٨يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد اللّه بن سلام وأصحابه ، وذلك لما أسلموا قاموا على تعظيم شرائع موسى فعظموا السبت وكرهوا لحوم الإبل وألبانها ، وقالوا : إن ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام وواجب في التوراة ، وقالوا أيضا : يا رسول اللّه إن التوراة كتاب اللّه دعنا فلنقم به في صلاتنا بالليل ، فأنزل اللّه هذه الآية وأمرهم أن يدخلوا في السلم أي في شرائع الإسلام ولا يتمسكوا بالتوراة فإنها منسوخة. والمعنى استسلموا للّه وأطيعوه فيما أمركم به وقيل هو خطاب لمن لم يؤمن بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم من أهل الكتاب. والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في السلم كافة أي في الإسلام. وروى جابر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حين أتاه عمر فقال إنا نسمع أحاديث من يهود وتعجبنا فنرى أن نكتب بعضها فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : (أ تتهوكون كما تهوكت اليهود والنصارى ، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو أن موسى حي ما وسعه إلّا اتباعي) قوله أتتهوكون أي تتحيرون أنتم في دينكم حتى تأخذوه من اليهود والنصارى ، وقوله لقد جئتكم بها يعني بالملة الحنيفية بيضاء نقية ، أي لا تحتاج إلى شيء ، وقيل يحتمل أن يكون خطابا للمنافقين من المؤمنين ، والمعنى يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا في السلم أي الانقياد والطاعة لأن أصل السلم الاستسلام ، وهو الانقياد كافة ، أي بأجمعكم ولا تتفرقوا ، وقيل يحتمل أن يرجع إلى الإسلام والمعنى ادخلوا في أحكام الإسلام وشرائعه كافة وهذا المعنى أليق بظاهر التفسير لأنهم أمروا بالقيام بها كلها. قال حذيفة بن اليمان في هذه الآية : للإسلام ثمانية أسهم فعل الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال : وقد خاب من لا سهم له وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ يعني آثاره فيما زين لكم من تحريم السبت ولحوم الإبل وغير ذلك ، وقيل : لا تلتفتوا إلى الشبهات التي يلقيها إليكم أصحاب الضلالة والغواية والأهواء المضلة لأن من اتبع سنة إنسان فقد تبع آثره إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ يعني الشيطان. فإن قلت عداوته بإيصال الضرر وإلقاء الوسوسة فكيف يصح ذلك مع الاعتقاد ، فإن اللّه هو الفاعل لجميع الأشياء. قلت : إنه يحاول إيصال الضرر والبلاء إلينا ، ولكن اللّه منعه عن ذلك وأما معنى الوسوسة فمعلوم أنه يزين المعاصي وإلقاء الشبهات ، وكل سبب لوقوع الإنسان في مخالفة اللّه تعالى فيصده بذلك عن الثواب ، فهذا من أعظم جهات العداوة. فإن قلت : كيف يصح وصف الشيطان بأنه مبين مع أنا لا نراه؟ قلت : إن اللّه تعالى بين عداوته ما هي فكأنه بين وإن لم يشاهد ٢٠٩فَإِنْ زَلَلْتُمْ أي ملتم وضللتم وقال ابن عباس أشركتم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أي الدلالات الواضحات فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه عَزِيزٌ أي في نقمته ممن خالفه غالب لا يعجزه شيء حَكِيمٌ يعني أنه لا ينتقم إلّا بحق والحكيم ذو الإصابة في الأمور كلها وفي الآية وعيد وتهديد لمن في قلبه شك ونفاق ، أو عنده شبهة في الدين قوله عز وجل : ٢١٠هَلْ يَنْظُرُونَ أي ينتظرون التاركون الدخول في السلم والمتبعون خطوات الشيطان إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ جمع ظلة مِنَ الْغَمامِ يعني السحاب الأبيض الرقيق سمي غماما لأنه يغم ويستر وقيل هو شيء غير السحاب ولم يكن إلّا لبني إسرائيل في تيههم وهو كهيئة الضباب الأبيض وَالْمَلائِكَةُ أي وتأتيهم الملائكة. وروى الطبري في تفسيره بسند متصل عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (من الغمام طاقات يأتي اللّه عزّ وجلّ فيها محفوظا ، وذلك قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ قال عكرمة : والملائكة حوله وقيل معناه حول الغمام وقيل حول الرب تبارك وتعالى. واعلم أن هذه الآية من آيات الصفات وللعلماء في آيات الصفات وأحاديث الصفات مذهبان أحدهما وهو مذهب سلف هذه الأمة وأعلام أهل السنة : الإيمان والتسليم لما جاء في آيات الصفات وأحاديث الصفات ، وأنه يجب علينا الإيمان بظاهرها ونؤمن بها كما جاءت ونكل علمها إلى اللّه تعالى وإلى رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم مع الإيمان ، والاعتقاد بأن اللّه تعالى منزه عن سمات الحدوث وعن الحركة والسكون. قال الكلبي : هذا من الذي لا يفسر وقال سفيان بن عيينة : كل ما وصف اللّه به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عليه ليس لأحد أن يفسره إلّا اللّه ورسوله. وكان الزهري والأوزاعي ومالك وابن المبارك وسفيان الثوري والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يقولون في هذه الآية وأمثالها اقرءوها كما جاءت بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل هذا مذهب أهل السنة ومعتقد سلف الأمة ، وأنشد بعضهم في المعنى : عقيدتنا أن ليس مثل صفاته ولا ذاته شيء عقيدة صائب نسلم آيات الصفات بأسرها وأخبارها للظاهر المتقارب ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا وتأويلنا فعل اللبيب المغالب ونركب للتسليم سفنا فإنها لتسليم دين المرء خير المراكب (المذهب الثاني) وهو قول جمهور علماء المتكلمين ، وذلك أنه أجمع جميع المتكلمين من العقلاء والمعتبرين من أصحاب النظر على أنه تعالى منزه عن المجيء والذهاب ، ويدل على ذلك أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب لا ينفك عن الحركة والسكون وهما محدثان ، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث ، واللّه تعالى منزه عن ذلك فيستحيل ذلك في حقه تعالى فثبت بذلك أن ظاهر الآية ليس مرادا ، فلا بد من التأويل على سبيل التفصيل ، فعلى هذا قيل في معنى الآية هل ينظرون إلّا أن يأتيهم اللّه الآيات فيكون مجيء الآيات مجيئا للّه تعالى على سبيل التفخيم لشأن الآيات وقيل معناه إلّا أن يأتيهم أمر اللّه ووجه هذا التأويل أن اللّه تعالى فسره في آية أخرى فقال : هل ينظرون إلّا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك ، فصار هذا الحكم مفسرا لهذا المجمل في هذه الآية. وقيل : معناه يأتيهم اللّه بما أوعد من الحساب والعقاب فحذف ما يأتي به تهويلا عليهم إذ لو ذكر ما يأتي به كان أسهل عليهم في باب الوعيد ، وإذا لم يذكر كان أبلغ وقيل يحتمل أن تكون الفاء بمعنى الباء لأن بعض الحروف يقوم مقام بعض فيكون المعنى هل ينظرون إلّا أن يأتيهم اللّه بظلل من الغمام والملائكة ، والمراد العذاب الذي يأتي من الغمام مع الملائكة ، وقيل معناه ما ينظرون إلّا أن يأتيهم قهر اللّه وعذابه في ظلل من الغمام. فإن قلت : لم كان إتيان العذاب في الغمام؟ قلت : لأن الغمام مظنة الرحمة ومنه ينزل المطر ، فإذا نزل منه العذاب كان أعظم وأفظع وقيل إن نزول الغمام علامة لظهور القيامة وأهوالها وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي وجب العذاب وفرغ من الحساب ، وذلك فصل اللّه القضاء بين العباد يوم القيامة وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي إلى اللّه تصير أمور العباد في الآخرة. فإن قلت : هل كانت ترجع إلى غيره؟ قلت : إن أمور جميع العباد ترجع إليه في الدنيا والآخرة ، ولكن المراد من هذا إعلام الخلق إنه المجازي على الأعمال بالثواب والعقاب ، وجواب آخر وهو أنه لما عبد قوم غيره في الدنيا أضافوا أفعاله إلى سواه ثم فإذا كان يوم القيامة وانكشف الغطاء ردوا إلى اللّه ما أضافوه إلى غيره في الدنيا. ٢١١قوله عز وجل : سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم أمره أن يسأل يهود المدينة ، وليس المراد بهذا السؤال العلم بالآيات لأنه كان صلّى اللّه عليه وسلّم قد علمها بإعلام اللّه إياه ، ولكن المراد بهذا السؤال التقريع والتوبيخ والمبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل اللّه وترك الشكر ، وقيل المراد بهذا السؤال التقرير وتذكير النعم التي أنعم بها على سلفهم كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أي من دلالة واضحة على نبوة موسى عليه السلام مثل العصا واليد البيضاء وفلق البحر وإنزال المن والسلوى وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّه مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ يعني يغير الآية التي جاءته من اللّه لأنها هي سبب الهدى والنجاة من الضلالة ، وقيل هي حجج اللّه الدالة على نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وذلك أنهم أنكروها وبدلوها ، وقيل المراد بنعم اللّه عهده الذي عهد إليهم فلم يفوا به فَإِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقابِ يعني لمن بدل نعمة اللّه. قوله عز وجل : ٢١٢زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا نزلت في مشركي العرب أبي جهل وأصحابه لأنهم كانوا يتنعمون بما بسط لهم في الدنيا من المال ويكذبون بالمعاد ، وقيل : نزلت في المنافقين عبد اللّه بن أبيّ وأصحابه. وقيل : نزلت في رؤساء اليهود. ويحتمل أنها نزلت في الكلّ. والمزين هو اللّه تعالى بدليل قراءة من قرأ زين بفتح الزاي وذلك أنه لا يمتنع أن يكون اللّه تعالى هو المزين لهم بما أظهره في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب واللذة وخلق الأشياء العجيبة والمناظر الحسنة ، وإنما فعل ذلك ابتلاء العبادة وذلك أنه جعل دار الدنيا ابتلاء وامتحان وركب في الطباع الميل إلى اللذات وحب الشهوات لا على سبيل الإلجاء والقسر الذي لا يمكن تركه ، بل على سبيل التحبب الذي تميل النفس إليه مع إمكان. ردها عنه فنظر الخلق إلى الدنيا أكثر من قدرها فأعجبهم حسنها وزهرتها وزينتها فأحبوها وفتنوا بها. وقيل : إن المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا حتى أقبلوا عليها وأحبوها ، فكان هذا الإمهال هو التزين. وقيل : إن المزين هو الشيطان وغواة الجن والإنس ، وذلك أنهم زينوا للكفار الحرص على الدنيا وطلبها وقبحوا لهم أمر الآخرة. وقيل : أوهموهم أن لا آخرة ليقبلوا على لذات الدنيا وطلب الحرص عليها ، وهذا التأويل ضعيف لأن قوله تعالى زين الذين كفروا يتناول جميع الكفار فيدخل فيه الشيطان وغواة الجن والإنس وأن كلهم مزين لهم وهذا المزين لا بد وأن يكون مغايرا لهم فثبت بهذا ضعف قول المعتزلة وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني أن الكفار يستهزئون بفقراء المؤمنين ، قال ابن عباس : مثل عبد اللّه بن مسعود وعمار بن ياسر وصهيب وبلال ونظرائهم. وقيل : كانوا يقولون انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم وَالَّذِينَ اتَّقَوْا يعني الفقراء من المؤمنين فَوْقَهُمْ أي فوق الكفار يَوْمَ الْقِيامَةِ لأن الفقراء في عليين والكفار والمنافقين في أسفل السافلين (ق) عن حارثة بن وهب أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على اللّه لأبره ألا أخبركم بأهل النار كل عتلّ جوّاظ جعظري مستكبر) العتل الفظ الغليظ الشديد في الخصومة الذي لا ينقاد لخير. والجواظ الفاجر المختال في مشيته ، وقيل هو القصير البطين. والجعظري الفظ الغليظ ، وقيل هو الذي يتمدح بما ليس فيه أو عنده (ق) عن أسامة بن زيد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء) الجد بفتح الجيم هو الحظ والغنى وكثرة المال وَاللّه يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ قال ابن عباس : يعطي كثيرا بغير مقدار لأن كل ما يدخل عليه الحساب فهو قليل ، والمعنى أنه يوسع لمن يشاء من عباده وقيل يرزقه في الدنيا ولا يحاسبه في الآخرة ، وقيل معناه أنه يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب وقيل معناه أنه يرزقه بغير استحقاق وقيل معناه أنه تعالى لا يخاف نفاد ما في خزائنه حتى يحتاج إلى حساب لما يخرج منها لأن الحساب إنما يكون ليعلم قدر ما يعطي واللّه غني عالم بما يعطي ولا يخاف نفاد خزائنه لأنها بين الكاف والنون وقيل معناه إن اللّه يقتر الرزق على ما يشاء ويبسط الرزق لمن يشاء ، ولا يعطي كل واحد على قدر حاجته ، بل يعطي الكثير لمن لا يحتاج إليه ، ولا معارض له في حكمه ، ويحاسب فيما رزق ، ولا يقال له لم أعطيت هذا وحرمت هذا ، ولا لم أعطيت هذا أكثر من ذاك؟ لأنه تعالى لا شريك له في ملكه ينازعه ولا يسأل عما يفعل. وقيل : يحتمل أن يكون المراد منه ما يعطي اللّه المتقين في الآخرة من الثواب والكرامة بغير محاسبة منه لهم على ما من به عليهم وذلك أن نعيم الجنة لا نفاد له ولا انقطاع. وقيل : إنه تعالى يعطي أهل الجنة الثواب والأجر بقدر أعمالهم ثم يتفضل عليهم فذلك الفضل منه إليهم بغير حساب قوله عز وجل. ٢١٣كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أي على دين واحد. قيل هو آدم وذريته كانوا مسلمين على دين واحد إلى أن قتل قابيل هابيل فاختلفوا. وقيل كان الناس على شريعة واحدة من الحق والهدى من وقت آدم إلى مبعث نوح ثم اختلفوا ، فبعث اللّه نوحا ، وهو أول رسول بعث ، ثم بعث بعده الرسل. وقيل هم أهل السفينة الذين كانوا مع نوح وكانوا مؤمنين ثم اختلفوا بعد وفاته. وقيل إن العرب كانت على دين إبراهيم عليه السلام إلى أن غيره عمرو بن لحي. وقيل كانت الناس أمة واحدة حين أخرجوا من ظهر آدم لأخذ الميثاق فقال : ألست بربكم؟ قالوا بلى ، فاعترفوا بالعبودية ولم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم ، ثم لما ظهروا إلى الوجود اختلفوا بسبب البغي والحسد. وقيل إن آدم وحده كان أمة واحدة يعني إماما وقدوة يقتدى به وإنما ظهر الاختلاف بعده. وقيل كان الناس أمة واحدة على الكفر والباطل بدليل قوله فَبَعَثَ اللّه النَّبِيِّينَ فإن قيل : أليس قد كان فيهم من هو مسلم نحو هابيل وشيث وإدريس ونحوهم؟ فالجواب أن الغالب في ذلك الزمان كان الكفر والحكم للغالب. وقيل إن الآية دلت على أن الناس كانوا أمة واحدة وليس فيها ما يدل على أنهم كانوا على إيمان أو كفر فهو موقوف على دليل من خارج فَبَعَثَ اللّه النَّبِيِّينَ وجملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر المذكورون منهم في القرآن بأسماء الأعلام ثمانية وعشرون نبيا مُبَشِّرِينَ بالثواب لمن آمن وأطاع وَمُنْذِرِينَ يعني مخوفين بالعقاب لمن كفر وعصى ، وإنما قدم البشارة على الإنذار لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة للأبدان والإنذار يجري مجرى إزالة المرض ، ولا شك أن المقصود هو الأول فكان أولى بالتقديم وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ أي الكتب أو يكون التقدير وأنزل مع كل واحد الكتاب بِالْحَقِّ أي بالعدل والصدق وجملة الكتب المنزلة من السماء مائة وأربعة كتب أنزل على آدم عشر صحائف ، وعلى شيث ثلاثون ، وعلى إدريس خمسون ، وعلى موسى عشر صحائف والتوراة ، وعلى داود الزبور ، وعلى عيسى الإنجيل ، وعلى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وعليهم القرآن لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ يعني الكتاب وإنما أضيف الحكم إلى الكتاب وإن كان الحاكم هو اللّه تعالى لأنه أنزله. والمعنى ليحكم اللّه بالكتاب الذي أنزله وقيل معناه ليحكم بين الناس كل نبي بكتابة المنزل عليه فإسناد الحكم إلى الكتاب أو للنبي مجاز واللّه هو الحاكم في الحقيقة فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في الحق الذي اختلفوا فيه من بعد ما كانوا متفقين عليه وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي في الحق إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي أعطوا الكتاب والمراد به التوراة والإنجيل والذين أوتوه اليهود والنصارى واختلافهم هو تكفير بعضهم بعضا بغيا وحسدا. وقيل اختلافهم هو تحريفهم وتبديلهم. وقيل الكناية فيه راجعة إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم والمعنى وما اختلف في أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بعد وضوح الدلالات على صحة نبوته صلّى اللّه عليه وسلّم إلّا اليهود الذين أوتوا الكتاب بغيا منهم وحسدا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الدلالات الواضحات على صحة نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بَغْياً بَيْنَهُمْ أي إنهم لم يبق لهم عذر في العدول عنه وترك ما جاء وإنما تركوا إتباعه بغيا وحسدا ، وهو طلب الدنيا وطلب الرياسة فَهَدَى اللّه الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي إلى ما اختلفوا فيه مِنَ الْحَقِّ والمعنى فهدى اللّه الذين آمنوا لمعرفة ما اختلفوا فيه من الحق وقيل هو من المقلوب والمعنى فهدى اللّه الذين آمنوا للحق الذي اختلفوا فيه وكان اختلافهم الذي اختلفوا فيه الجمعة فهدى اللّه تعالى هذه الأمة الإسلامية إليها (ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (نحن الآخرون السابقون يقوم القيامة أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا اللّه فغدا لليهود وبعد غد للنصارى) وفي رواية قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض اللّه عليهم فاختلفوا فيه فهدانا اللّه له) زاد النسائي : يعني يوم الجمعة ، ثم اتفقا فالناس لنا تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد (م) عن حذيفة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (أضل اللّه عن يوم الجمعة من كان قبلنا ، فكان لليهود يوم السبت ، وللنصارى يوم الأحد ، فجاء اللّه بنا فهدانا ليوم الجمعة فجعل اللّه الجمعة والسبت والأحد وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا الأولون يوم القيامة المقضي لهم يوم القيامة قبل الخلائق. وقيل اختلفوا في شأن القبلة فصلت اليهود نحو المغرب إلى بيت المقدس ، وصلت النصارى إلى المشرق ، وهدانا اللّه إلى الكعبة. وقيل اختلفوا في الصيام فهدانا اللّه لشهر رمضان ، واختلفوا في إبراهيم فقالت اليهود كان يهوديا ، وقالت النصارى كان نصرانيا ، فهدانا إلى الحق فقلنا : كان حنيفا مسلما. واختلفوا في عيسى ابن مريم فاليهود فرطوا فيه والنصارى أفرطوا فيه ، فهدانا اللّه في ذلك كله للحق. والمعنى فهدى اللّه الذين آمنوا إلى الحق الذي اختلف فيه من اختلف بِإِذْنِهِ يعني بعلمه وأمره وإرادته وَاللّه يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. ٢١٤قوله عز وجل : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ نزلت في غزوة الأحزاب وهي غزوة الخندق ، وذلك أن المسلمين أصابهم ما أصابهم من الجهد والشدة والخوف والبرد وضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذ. وقيل : نزلت في غزوة أحد. وقيل : لما دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه المدينة في أول الهجرة اشتد عليهم الضر لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا أموالهم وديارهم بأيدي المشركين ، وآثروا رضا اللّه ورسوله ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وآثر قوم النفاق فأنزل اللّه هذه الآية تطييبا لقلوبهم. ومعنى الآية : أحسبتم والميم صلة. وقيل : هل حسبتم والمعنى أظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة بمجرد الإيمان ولم يصبكم مثل ما أصاب من كان قبلكم من إتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والابتلاء والاختبار وهو قوله : وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي شبه الذين مضوا قبلكم من النبيين وأتباعهم من المؤمنين ومثل محنتهم مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ أي أصابهم الفقر والشدة والمسكنة وهو اسم من البؤس وَالضَّرَّاءُ يعني المرض والزمانة وضروب الخوف وَزُلْزِلُوا أي وحركوا بأنواع البلايا والرزايا وأصل الزلزلة الحركة وذلك لأن الخائف لا يستقر بل لا يزال يضطرب ويتحرك لقلقه حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللّه وذلك لأن الرسل أثبت من غيرهم وأصبر وأضبط للنفس عند نزول البلاء وكذا أتباعهم من المؤمنين. والمعنى أنه بلغ بهم الجهد والشدة والبلاء ولم يبق لهم صبر وذلك هو الغاية القصوى في الشدة فلما بلغ بهم الحال في الشدة إلى هذه الغاية واستبطئوا النصر قيل لهم أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّه قَرِيبٌ إجابة لهم في طلبهم. والمعنى : هكذا كان حالهم لم يغيرهم طول البلاء والشدة عن دينهم إلى أن يأتيهم نصر اللّه فكونوا يا معشر المؤمنين كذلك وتحملوا الأذى والشدة والمشقة في طلب الحق فإن نصر اللّه قريب (خ) عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تنتصر لنا ألا تدعو لنا فقال : (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه واللّه ليتمنّ اللّه هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلّا اللّه والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون). ٢١٥قوله عز وجل : يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ نزلت في عمرو بن الجموح ، وكان شيخا كبيرا ذا مال ، فقال يا رسول اللّه بما ذا نتصدق وعلى من ننفق؟ فأنزل اللّه تعالى يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ أي مال والمعنى : وما تفعلوا من إنفاق شيء من المال قل أو كثر فَلِلْوالِدَيْنِ وإنما قدم الإنفاق على الوالدين لوجوب حقهما على الولد لأنهما كانا السبب في إخراجه من العدم إلى الوجود وَالْأَقْرَبِينَ وإنما ذكر بعد الوالدين الأقربين لأن الإنسان لا يقدر أن يقوم بمصالح جميع الفقراء فتقديم القرابة أولى من غيرهم وَالْيَتامى وإنما ذكر بعد الأقربين اليتامى لصغرهم ، ولأنهم لا يقدرون على الاكتساب ، ولا لهم أحد ينفق عليهم وَالْمَساكِينِ وإنما أخرهم لأن حاجتهم أقل من حاجة غيرهم وَابْنِ السَّبِيلِ يعني المسافر فإنه بسبب انقطاعه عن بلده قد يقع في الحاجة والفقر فانظر إلى هذا الترتيب الحسن العجيب في كيفية الإنفاق. ثم لما فصل اللّه هذا التفصيل الحسن الكامل أتبعه بالإجمال فقال تعالى : وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ وما تفعلوا من خير مع هؤلاء أو غيرهم طلبا لوجه اللّه تعالى ورضوانه فإن اللّه به عليم فيجازيكم عليه وذكر علماء التفسير أن هذه الآية منسوخة قال ابن مسعود نسختها آية الزكاة وقال الحسن إنها محكمة ووجه إحكامها أن اللّه ذكر فيها من تجب النفقة عليه مع فقره وهما الوالدان. وقال ابن زيد : هذا في النفل ، وهو ظاهر الآية فمن أحب التقرب إلى اللّه تعالى بالإنفاق فالأولى به أن ينفق في الوجوه المذكورة في الآية ، فيقدم الأول فالأول. (بقي في الآية سؤال : وهو أنه كيف طابق السؤال الجواب وهو أنهم سألوا عن بيان ما ينفق فأجيبوا ببيان المصرف ، وأجيب عن هذا السؤال بأنه قد تضمن قوله : ما أنفقتم من خير بيان ما ينفقونه وهو المال ثم ضم إلى جواب السؤال ما يكمل به المقصود ، وهو بيان المصرف لأن النفقة لا تعد نفقة إلّا أن تقع موقعها قال الشاعر : إن الصنيعة لا تعد صنيعة حتى يصاب بها طريق المصنع ٢١٦قوله عز وجل : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أي فرض عليكم الجهاد. واختلف العلماء في حكم الآية فقال عطاء الجهاد تطوع والمراد من الآية أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دون غيرهم وإليه ذهب الثوري وحكى عن الأوزاعي نحوه ، وحجة هذا القول أن قوله كتب يقتضي الإيجاب ويكفي العمل به مرة واحدة وحجة من أوجبه على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن قوله عليكم يقتضى تخصيص هذا الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت ، وقيل : بل الآية على ظاهرها والجهاد فرض على كل مسلم ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا) أخرجه أبو داود بزيادة فيه (ق) عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم الفتح : (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا) وقيل : إن الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط الفرض عن الباقين وهذا القول : هو المختار الذي عليه جمهور العلماء. قال الزهري كتب اللّه القتال على الناس جاهدوا أو لم يجاهدوا فمن غزا فيها ونعمت ومن قعد عدة إن استعين به أعان وإن استنفر نفر وإن استغنى عنه قعد قال اللّه تعالى : فَضَّلَ اللّه الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللّه الْحُسْنى ولو كان القاعد تاركا فرضا لم يعده بالحسنى ، واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال : أحدها أنها محكمة ناسخة للعفو عن المشركين. القول الثاني : إنها منسوخة لأن فيها وجوب الجهاد على الكافة ثم نسخ بقوله تعالى : وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً القول الثالث : إنها ناسخة من وجه ومنسوخة من وجه فالناسخ منها إيجاب الجهاد مع المشركين بعد المنع منه ، والمنسوخ إيجاب الجهاد على الكافة. وقوله تعالى : وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أي القتال شاق عليكم وهذا الكره إنما حصل من حيث نفور الطبع عن القتال ، لما فيه من مؤنة المال ومشقة النفس وخطر الروح والخوف لا أنهم كرهوا أمر اللّه قيل : نسخ هذا الكره بقوله تعالى إخبارا عنهم : (و قالوا سمعنا وأطعنا) وقيل : إنما كان كراهتهم القتال قبل أن يفرض عليهم لما فيه من الخوف والشدة وكثرة الأعداء فبين اللّه تعالى أن الذين تكرهون من القتال هو خير لكم من تركه لئلا يكرهونه بعد أن فرض عليهم وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لفظة عسى توهم الشك مثل لعل ، وهي من اللّه يقين. وقيل : إنها كلمة مطمعة فهي لا تدل على حصول الشك للقائل وتدل على حصول الشك للمستمع ، والمعنى أن الغزو فيه إحدى الحسنيين إما الظفر والغنيمة وإما الشهادة والجنة وقيل : ربما كان الشيء شاقا في الحال وهو سبب المنافع الجليلة في المستقبل ، ومثله شرب الدواء المر فإنه ينفر عنه الطبع في الحال ويكرهه لكن يتحمل هذه الكراهة والمشقة لتوقع حصول الصحة في المستقبل وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً يعني القعود عن الغزو وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ يعني لما فيه من فوت الغنيمة والأجر وطمع العدو فيكم ، لأنه إذا علم ميلكم إلى الراحة والدعة والسكون قصد بلادكم وحاول قتالكم وإذا علم أن فيكم شهامة وجلادة على القتال كف عنكم وَاللّه يَعْلَمُ يعني ما في الجهاد من الغنيمة والأجر والخير وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ يعني ذلك والمعنى أن العبد إذا علم قصور علمه وكمال علم اللّه ثم إن اللّه تعالى أمره بأمر كان ذلك الأمر فيه مصلحة عظيمة فيجب على العبد امتثال أمر اللّه تعالى وإن كان يشق على النفس في الحال. قوله عز وجل : ٢١٧يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ سبب نزول هذه الآية. أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعث عبد اللّه بن جحش وهو ابن عمته في سرية في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين وأمره على السرية وكتب له كتابا ، وقال : سر على اسم اللّه ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين ، فإذا نزلت فافتح الكتاب فاقرأه على أصحابك ثم امض لما أمرتك به ، ولا تستكرهنّ أحدا منهم على السير معك فسار عبد اللّه يومين ، ثم نزل وفتح الكتاب ، فإذا فيه : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم أما بعد فسر على بركة اللّه تعالى ، بمن معك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فارصد بها عيرا لقريش لعلك تأتينا منها بخير. فقال : سمعا وطاعة ثم قال لأصحابه ذلك وقال إنه نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان يريد الشهادة فلينطلق ومن كان يكره فليرجع ، ثم مضى ومضى أصحابه معه وكانوا ثمانية رهط ، ولم يتخلف عنه أحد منهم حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع بموضع من الحجاز ، يقال له نجران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يتعقبانه فتخلفا في طلبه ، ومضى عبد اللّه ببقية أصحابه حتى نزل في بطن نخلة بين مكة والطائف فبينما هم كذلك إذ مرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وأدما ، وتجارة من تجارة الطائف وفي العير عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد اللّه بن المغيرة ونوفل بن عبد اللّه بن المخزوميان فلما رأوا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم فقال عبد اللّه بن جحش : إن القوم قد ذعروا منكم ، فاحلقوا رأس رجل منكم وليتعرض لهم فإذا رأوه محلوقا أمنوا ، فحلقوا رأس عكاشة بن محصن ، ثم أشرف عليهم فلما رأوه آمنوا وقالوا : قوم عمار فلا بأس علينا وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة وكانوا يرون أنه من رجب فتشاور القوم فيهم ، وقالوا : متى تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم وليمتنعن منكم فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم فرمى واقد بن عبد اللّه السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم ، فقتله فكان أول قتيل من المشركين وأسر الحكم بن كيسان وعثمان وكانا أول أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل فأعجزهم واستاق المسلمون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقالت قريش : قد استحل محمد الشهر الحرام وسفك الدماء وأخذ الحرائب يعني المال ، وعير بذلك أهل مكة من كان بها من المسلمين. وقالوا : يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام ، وقاتلتم فيه فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال لعبد اللّه بن جحش وأصحابه : ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام ، ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ شيئا من ذلك وعنف المسلمون أصحاب السرية فيما صنعوا ، وقالوا لم صنعتم ما لم تؤمروا به ، فعظم ذلك على أصحاب السرية وظنوا أنهم قد هلكوا وسقط في أيديهم وقالوا يا رسول اللّه إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى وأكثر الناس في ذلك فأنزل اللّه هذه الآية فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم العير فعزل منها الخمس ، وكان أول خمس في الإسلام وأول غنيمة قسمت فقسم الباقي على أصحاب السرية وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم. فقال بل نبقيهما حتى يقدم سعد وعقبة ، وإن لم يقدما قتلناهما بهما. فلما قدما فاداهما فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيدا وأما عثمان بن عبد اللّه فرجع إلى مكة فمات بها كافرا. وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا ، وقتله اللّه ، فطلب المشركون جيفته بالثمن. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية وأما تفسير الآية فقوله تعالى : يَسْئَلُونَكَ يعني يا محمد عن الشهر الحرام يعني رجبا وسمي بذلك لتحريم القتال فيه وفي السائلين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قولان : أحدهما أنهم المسلمون سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هل أخطئوا أم أصابوا وقيل : إن المسلمين كانوا يعلمون أن القتال في الحرم وفي الشهر الحرام لا يحل فلما كتب عليهم القتال سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن القتال في الشهر الحرام فنزلت هذه الآية : والقول الثاني أن السائلين هم المشركون وإنما سألوه على وجه العيب على المسلمين فنزلت هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ أي قل لهم يا محمد قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ أي عظيم مستكبر واختلف العلماء في حكم هذه الآية على قولين أحدهما أنها محكمة وأنه لا يجوز الغزو في الشهر الحرام إلّا أن يقاتلوا فيه فيقاتلوا على سبيل الدفع. روي عن عطاء أنه كان يحلف باللّه ما يحل للناس ، أن يغزوا في الشهر الحرام ، ولا أن يقاتلوا فيه وما نسخت. والقول الثاني الذي عليه جمهور العلماء وهو الصحيح أنها منسوخة. قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار. القتال جائز في الشهر الحرام وهذه الآية منسوخة بقوله : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وبقوله : وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً يعني في الأشهر الحرم وغيرها وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّه هذا ابتداء كلام والمعنى وصدكم المسلمين عن الحج أو وصدكم عن الإسلام من يريده وَكُفْرٌ بِهِ أي باللّه وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي وصدكم عن المسجد الحرام وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين حين آذوهم حتى هاجروا وتركوا مكة ، وإنما جعلهم اللّه أهله لأنهم كانوا هم القائمين بحقوق المسجد الحرام دون المشركين أَكْبَرُ عِنْدَ اللّه أي أعظم وزرا عند اللّه من القتال في الشهر الحرام وَالْفِتْنَةُ أي الشرك الذي أنتم عليه أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ يعني قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام فلما نزلت هذه الآية كتب عبد اللّه بن أنيس وقيل : عبد اللّه بن جحش إلى مؤمني مكة إن عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وبإخراج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من مكة والمسلمين ، ومنعهم إياهم من البيت وَلا يَزالُونَ يعني مشركي مكة يُقاتِلُونَكُمْ يعني يا معشر المؤمنين حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ يعني إلى دينهم وهو الكفر إِنِ اسْتَطاعُوا يعنى إن قدروا على ذلك وفيه استبعاد لاستطاعتهم فهو كقول الرجل لعدوه إن ظفرت بي فلا تبق علي وهو واثق أنه لا يظفر به وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ يعني ومن يطاوعهم منكم فيرجع إلى دينهم فيمت على ردته قبل أن يتوب فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطلت أعمالهم فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وهو أن المرتد يقتل وتبين زوجته منه ، ولا يستحق الميراث من أقاربه المؤمنين ولا ينصر إن استنصر ولا يمدح ولا يثنى عليه ويكون ماله فيئا للمسلمين هذا في الدنيا ، ولا يستحق الثواب على أعماله ويحبط أجرها في الآخرة وظاهر الآية يقتضي أن الارتداد إنما تتفرع عليه الأحكام إذا مات المرتد على الكفر ، أما إذا أسلم بعد الردة لم يثبت عليه شيء من أحكام الردة وفيه دليل للشافعي أن الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت المرتد على ردته. وعند أبي حنيفة أن الردة تحبط العمل وإن أسلم وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ يعني الذين ماتوا على الردة والكفر هم أصحاب النار هُمْ فِيها خالِدُونَ أي لا يخرجون منها أبدا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّه نزلت في عبد اللّه بن جحش وأصحابه وذلك أن أصحاب السرية قالوا : يا رسول اللّه هل نؤجر على وجهنا هذا ونطمع أن يكون لنا غزو. فأنزل اللّه هذه الآية ، وعن جندب بن عبد اللّه قال : لما كان من أمر عبد اللّه بن جحش وأصحابه وأمر ابن الحضرمي ما كان قال بعض المسلمين : إن لم يكونوا أصابوا في سفرهم وزرا فليس لهم فيه أجر فأنزل اللّه هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا أي فارقوا مساكنهم وعشائرهم وأموالهم وفارقوا مساكنة المشركين في أمصارهم ، ومجاورتهم في ديارهم فتحولوا عن المشركين وعن بلادهم إلى غيرها ، وجاهدوا يعني المشركين في سبيل اللّه أي في طاعة اللّه فجعل اللّه لأصحاب هذه السرية جهادا أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّه أي يطمعون في نيل رحمة اللّه أخبر أنهم على رجاء الرحمة. وقيل : المراد من الرجاء هنا القطع في أصل الثواب وإنما دخل الظن في كميته ووقته. قال قتادة : أثنى اللّه تعالى على أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أحسن الثناء فقال : ٢١٨إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه أولئك يرجون رحمة اللّه هؤلاء هم خيار هذه الأمة ثم جعلهم اللّه أهل رجاء كما تسمعون وأنه من رجا طلب ومن خاف هرب وَاللّه غَفُورٌ أي لذنوب عباده رَحِيمٌ بهم والمعنى أنه تعالى غفر لعبد اللّه بن جحش وأصحابه ما لم يعلموا به قوله عز وجل : ٢١٩يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الآية نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وجماعة من الأنصار أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : يا رسول اللّه أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال فأنزل اللّه هذه الآية : وأصل الخمر في اللغة الستر والتغطية وسميت الخمر خمرا لأنها تخامر العقل أي تخالطه. وقيل : لأنها تستره وتغطيه وجملة القول في تحريم الخمر أن اللّه عز وجل أنزل في الخمر أربع آيات نزلت بمكة : وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً فكان المسلمون يشربونها في أول الإسلام ، وهي لهم حلال ثم نزل بالمدينة في جواب سؤال عمر ومعاذ : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ فتركها قوم لقوله ، إثم كبير وشربها قوم لقوله ومنافع للناس ثم إن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما ، ودعا إليه ناسا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأطعمهم وسقاهم الخمر وحضرت صلاة المغرب فقدموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون بحذف حرف لا إلى آخر السورة فأنزل اللّه عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فحرم اللّه السكر في أوقات الصلوات فكان الرجل يشربها بعد صلاة العشاء ، فيصبح وقد زال سكره فيصلي الصبح ، ويشربها بعد صلاة الصبح ، فيصحو وقت الظهر ثم إن عتبان بن مالك اتخذ صنيعا يعني وليمة ودعا رجالا من المسلمين ، وفيهم سعد بن أبي وقاص ، وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت منهم فافتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار ، فأنشد سعد قصيدة فيها فخر قومه وهجاء الأنصار ، فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة فانطلق سعد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وشكا إليه الأنصاري فقال عمر : اللّهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، ويروى أن حمزة بن عبد المطلب ، شرب الخمر يوما وخرج فلقي رجلا من الأنصار وبيده ناضح له والأنصاري يتمثل ببيتين لكعب بن مالك يمدح قومه وهما : جمعنا مع الإيواء نصرا وهجرة فلم ير حيّ مثلنا في المعاشر فأحياؤنا من خير أحياء من مضى وأمواتنا من خير أهل المقابر فقال حمزة : أولئك المهاجرون وقال الأنصاري ، بل نحن الأنصار فتنازعا فجرد حمزة سيفه وعدا على الأنصاري فهرب الأنصاري وترك ناضحه فقطعه حمزة فجاء الأنصاري مستعديا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبره بفعل حمزة فغرم له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ناضحا فقال عمر : اللّهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فأنزل اللّه تعالى الآية التي في المائدة إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر : انتهينا يا رب ، وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن اللّه تعالى علم أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بذلك كثيرا فعلم أنه لو منعهم من الخمر دفعة واحدة لشق ذلك عليهم فلا جرم استعمل هذا التدريج وهذا الرفق. قال أنس : حرمت الخمر ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها وما حرم عليهم شيء أشد من الخمر (ق) عن أنس قال : ما كان لنا خمر غير فضيخكم وإني لقائم أسقي أبا طلحة وأبا أيوب وفلانا وفلانا إذ جاء رجل ، فقال : حرمت الخمر فقالوا : أهرق هذه القلال يا أنس فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر هذا الرجل. الفضيخ بالضاد والخاء المعجمتين شراب يتخذ من بسر مطبوخ والمفضوخ المشدوخ والمكسور والإهراق الصب والقلال جمع قلة وهي الجرة الكبيرة. (فصل : في تحريم الخمر ووعيد من شربها) أجمعت الأمة على تحريم الخمر ، وأنه يحد شاربها ويفسق بذلك مع اعتقاد تحريمها فإن استحل كفر بذلك ويجب قتله (ق) عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا ، ومات وهو يدمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة) لفظ مسلم (م) عن جابر : (أن رجلا قدم من جيشان وجيشان من اليمن فسأل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له : المزر. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أو مسكر هو؟ قال : نعم. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : كل مسكر حرام وإن على اللّه عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال. قالوا : وما طينة الخبال يا رسول اللّه. قال : عرق أهل النار أو عصارة أهل النار) وعن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا فإن تاب تاب اللّه عليه فإن عاد الرابعة كان حقا على اللّه أن يسقيه من طينة الخبال. قيل : وما طينة الخبال يا رسول اللّه قال : صديد أهل النار) أخرجه أبو داود. عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (من شرب الخمر فجعلها في بطنه لم تقبل منه صلاة سبعا وإن مات فيها مات كافرا فإن أذهبت عقله عن شيء من الفرائض. وفي رواية عن القرآن لم تقبل صلاته أربعين يوما وإن مات فيها مات كافرا) أخرجه النسائي. عن عثمان بن عفان قال : اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث فإنه واللّه لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلّا يوشك أن يخرج أحدهما صاحبه أخرجه النسائي موقوفا عليه وفيه قصة عن أنس قال لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وواهبها وآكل ثمنها أخرجه الترمذي. (فصل : في أحكام تتعلق بالخمر) وفيه مسائل : الأولى في ماهيتها : قال الشافعي : الخمرة عبارة عن عصير العنب النيء الشديد الذي قذف بالزبد وكذلك نقيع الزبيب والتمر المتخذ من العسل والحنطة والشعير والأرز والذرة ، وكل ما أسكر فهو خمر ، وقال أبو حنيفة : الخمر من العنب والرطب ونقيع التمر والزبيب فإن طبخ حتى ذهب ثلثاه حل شربه والمسكر منه حرام واحتج على ذلك بما روي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى بعض عماله أن ارزق المسلمين من الطلاء ، ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وفي رواية : أما بعد فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان فإن له اثنين ولكم واحد أخرجه النسائي. الطلاء بكسر الطاء والمد الشراب المطبوخ من عصير العنب الذي ذهب ثلثاه وبقي ثلثه ، واحتج أيضا بما روي عن ابن عباس قال : حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب أخرجه النسائي. واستدل أيضا على أن السكر حرام لما روي عن أبي الأحوص عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بردة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (اشربوا ولا تسكروا) وعن عائشة نحوه أخرجه النسائي. وقال هذا حديث غير ثابت ، واستدل الشافعي على أن الخمر في عدة أشياء بما روي عن ابن عمر أن عمر قال على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أما بعد أيها الناس أنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل ثلاث ، وددت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا أخرجه البخاري ومسلم (ق) عن عائشة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن البتع فقال كل شراب أسكر فهو حرام. البتع شراب يتخذ من العسل كان أهل اليمن يشربونه. عن النعمان بن بشير أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن من العنب خمرا وإن من البر خمرا وإن من الشعير خمرا وإن من التمر خمرا) أخرجه أبو داود. وزاد في رواية والذرة وإني أنهاكم عن كل مسكر وللترمذي نحوه وزاد وإن من العسل خمرا (خ) عن ابن عباس أنه سئل عن الباذق فقال : سبق حكم محمد في الباذق ، فما أسكر فهو حرام عليك والشراب الحلال الطيب ليس بعد الحلال الطيب ليس بعد الحلال الطيب إلّا الحرام الخبيث قال صاحب المطالع : الباذق بفتح الذال المعجمة هو الطلاء المطبوخ من عصير العنب كان أول من صنعه وسماه بنو أمية لينقلوه عن اسم الخمر ، وكل ما أسكر فهو خمر لأن الاسم لا ينقله عن معناه الموجود فيه. وقال ابن الأثير في النهاية الباذق الخمر تعريب باذه وهو اسم للخمر بالفارسية أي لم يكن في زمانه أو سبق. قوله : فيها وفي غيرها من جنسها. وقيل معناه سبق حكم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم إن ما أسكر فهو حرام. عن أم سلمة قالت : نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن كل مسكر ومفتر أخرجه أبو داود : والمفتر كل شراب أحمى الجسد وصار فيه فتور وضعف وانكسار واستدل الشافعي على ما أسكر كثيره فقليله حرام ، مما روي عن جابر بن عبد اللّه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ما أسكر كثيره فقليله حرام) أخرجه الترمذي وأبو داود. عن عائشة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام) أخرجه أبو داود والنسائي. وفي رواية له (و الحسوة منه حرام) الفرق بالتحريك مكيال يسع تسعة عشر رطلا بالبغدادي ، وأجيب عن حديث عمر في الطلاء بأنه معارض بما روي عن السائب يزيد أن عمر قال : وجدت من فلان ريح شراب وزعم أنه شرب الطلاق وأنا سائل عنه فإن كان يسكر جلدته فسأل عنه فقيل له : إنه يسكر فجلده عمر الحد تاما أخرجه مالك في الموطأ. وأما حديث ابن عباس ، فموقوف عليه ومعارض بما روي عنه في الباذق ، وقوله : والسكر من كل شراب قد رواه الحفاظ السكر بفتح السين. قال صاحب الغريبين : السكر خمر الأعاجم ، ويقال لما يسكر السكر وروى هذا الحديث ابن حنبل وقال فيه : والمسكر من كل شراب ، وقال موسى بن هارون : وهو الصواب ، وأما حديث أبي الأحوص ففيه وهمان : أحدهما في سنده حيث قال : عن أبي بردة ، وإنما يرويه سماك عن القاسم عن ابن بريدة عن أبيه والوهم الثاني في متنه حيث قال : اشربوا ولا تسكروا ، وإنما يرويه الناس ولا تشربوا مسكرا ، ويدل على صحة هذا ما روى مسلم في صحيحه عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا) وقال النسائي : في حديث أبي الأحوص هذا حديث منكر غلط فيه أبو الأحوص سلام بن سليم لا يعلم أن أحدا تابعه عليه من أصحاب سماك ، وأما حديث عائشة فيه فهو غير ثابت كما تقدم في قول النسائي. المسألة الثانية : في الحكم بنجاسة الخمر. الخمر وما يلحق بها نجسة العين ويدل على نجاستها قوله تعالى : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ والرجس في اللغة النجس والشيء المستقذر وقوله تعالى : فَاجْتَنِبُوهُ فأمر باجتنابها فكانت نجسة العين ويدل على نجاستها أيضا أنها محرمة التناول لا للاحترام ، ولأن الناس مشغوفون بها فينبغي أن يحكم بنجاستها تأكيدا للزجر عنها. المسألة الثالثة : في تحريم بيعها والانتفاع بها. أجمعت الأمة على تحريم بيع الخمر والانتفاع بها وتحريم ثمنها ويدل على ذلك ما روي عن جابر قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول عام فتح مكة : (إن اللّه تعالى حرم بيع الخمر والانتفاع بها والميتة والخنزير والأصنام) أخرجاه في الصحيحين مع زيادة اللفظ (ق). عن عائشة قالت خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : (حرمت التجارة في الخمر) (ق) عن ابن عباس قال بلغ عمر بن الخطاب أن فلانا باع خمرا فقال قاتل اللّه فلانا ألم يعلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها) عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من باع الخمر فليشقص الخنازير) أخرجه أبو داود. وقوله فليشقص الخنازير أي فليقطعها قطعا قطعا كما تقطع الشاة للبيع والمعنى من استحل بيع الخمر فليستحل بيع الخنازير فإنهما في التحريم سواء. عن أبي طلحة قال يا نبي اللّه إني اشتريت خمرا لأيتام في حجري. فقال : أهرق الخمر واكسر الدنان أخرجه الترمذي. وقال وقد روي عن أنس إن أبا طلحة كان عنده خمر لأيتام وهو أصح. فإن قلت فما وجه قوله تعالى : وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ قلت : منافعها اللذة التي توجد عند شربها والفرح والطرب معها وما كانوا يصيبون من الربح في ثمنها ، وذلك قبل التحريم فلما حرمت الخمر حرم ذلك كله. (فصل) وأما الميسر فهو القمار واشتقاقه من اليسر لأنه أخذ مال بسهولة من غير تعب ، وكذا قال ابن عباس كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله فأنزل اللّه هذه الآية. وأصل الميسر أن أهل الثروة من العرب في الجاهلية كانوا يشترون جزورا فينحرونها ويجزئونها ثمانية وعشرين جزءا ، ثم يسهمون عليها بعشرة قداح يقال لها : الأزلام والأقلام وأسماؤها الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد وكانوا يسهمون لسبعة منها أنصباء فللفذ سهما وللتوأم سهمين وللرقيب ثلاثة أسهم وللحلس أربعة وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة وللمعلى سبعة وثلاثة من القداح لا أنصباء لها وهي المنيح والسفيح والوغد قال بعضهم : فلي في الدنيا سهام ليس فيهن ربيح إنما سهمي وغد ومنيح وسفيح ثم يجمعون القداح في خريطة يسمونها الريابة ، ويضعونها على يد رجل عدل عندهم يسمونه المحيل والمفيض فيحيلها في الخريطة ، ويخرج منها قدحا باسم رجل منهم فأيهم خرج اسمه أخذ نصيبه على قدر ما يخرج من القداح ، وإن خرج له قدح من الثلاثة التي لا أنصباء لها لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله وقيل : لا يأخذ ولا يغرم ويسمون ذلك القدح لغوا ثم يدفعون ذلك الجزور إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئا وكانوا يفتخرون بذلك ويذمون من لا يفعله ويسمونه البرم يعني البخيل الذي لا يخرج شيئا بين الأصحاب لبخله. وأما حكم الآية فالمراد به جميع أنواع القمار. فكل شيء فيه قمار فهو من الميسر روي عن ابن سيرين ومجاهد وعطاء كل شيء فيه خطر يعني الرهن فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب وأما النرد فيحرم اللعب به سواء كان بخطر أم لا يدل على تحريمه ما روي عن بريدة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في دم خنزير. أخرجه مسلم. وعن أبي موسى قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من لعب بنرد أو نردشير فقد عصى اللّه ورسوله) أخرجه أبو داود. وعن علي بن أبي طالب قال النرد والشطرنج من الميسر. واختلفوا في الشطرنج فمذهب أبي حنيفة أنه يحرم اللعب به سواء كان برهن أو بغير رهن ، ومذهب الشافعي أنه مباح بشروط ذكرها الشافعي فقال : إذا خلا الشطرنج عن الرهان واللسان عن الطغيان ويروى عن الهذيان والصلاة عن النسيان لم يكن حراما ، وهو خارج عن الميسر لأن الميسر ما يوجب دفع مال ، وأخذ مال وهذا ليس كذلك وقوله تعالى : قُلْ فِيهِما يعني في الخمر والميسر إِثْمٌ كَبِيرٌ أي وزر عظيم وقيل : إن الخمر عدو للعقل فإذا غلبت على عقل الإنسان ارتكب كل قبيح ففي ذلك آثام كبيرة منها إقدامه على شرب المحرم ومنها فعل ما لا يحل فعله. وأما الإثم الكبير في الميسر فهو أكل المال الحرام بالباطل وما يجري بينهما من الشتم والمخاصمة والمعاداة وكل ذلك فيه آثام كثيرة وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ يعني أنهم كانوا يربحون في بيع الخمر قبل تحريمها. وأما منافع الميسر فهو أخذ مال بغير كد ولا تعب. قيل ربما أن الواحد منهم كان يقمر في المجلس الواحد مائة بعير ، فيحصل له المال الكثير ، وربما كان يصرفه إلى المحتاجين فيكسب بذلك الثناء والمدح ، وهو المنفعة وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما يعني إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم ، وقيل : إثمهما قوله تعالى : إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّه وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فهذه ذنوب يترتب عليها آثام كبيرة بسبب الخمر والميسر. قوله تعالى : وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حضهم على الصدقة فقالوا ماذا ننفق فقال اللّه تعالى : قُلِ الْعَفْوَ يعني الفضل والعفو ما فضل عن قدر الحاجة. فكانت الصحابة يكتسبون المال ويمسكون قدر النفقة. ويتصدقون بالفاضل بحكم هذه الآية ثم نسخ ذلك بآية الزكاة وقيل : هو التصدق عن ظهر غنى (ق) عن الزهري قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول) وقيل : هو الوسط في الإنفاق من غير إسراف ولا إقتار وقيل : هو في صدقة التطوع إذ لو كان المراد بهذا الإنفاق الواجب لبين اللّه قدره فلما لم يبينه دل ذلك على أن المراد به صدقة التطوع كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمُ الْآياتِ أي يبين لكم الأمور التي سألتم عنها من وجوه الإنفاق ومصارفه لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. يعني فتأخذون ما يصلحكم في الدنيا وتنفقون الباقي فينفعكم وقيل : لعلكم تتفكرون في زوال الدنيا فتزهدوا فيها وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبوا فيها. قوله عز وجل : ٢٢٠وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قال ابن عباس لما نزلت : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً تخرج المسلمون من أموال اليتامى تحرجا شديدا حتى عزلوا أموالهم عن أموالهم وتركوا مخالطتهم ، وربما كان يصنع لليتيم الطعام فيفضل منه فيتركونه ولا يأكلونه ، فاشتد ذلك عليهم فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه تعالى ويسألونك عن اليتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ أي إصلاح أموال اليتامى من غير أخذ أجرة ، ولا عوض خير لكم أي أعظم أجرا. وقيل : هو أن يوسع على اليتيم من طعام نفسه ولا يوسع من طعام اليتيم وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ يعني في الطعام والخدمة والسكنى وهذا فيه إباحة المخالطة أي شاركوهم في أموالهم واخلطوها بأموالكم ونفقاتكم ومساكنكم وخدمكم ودوابكم ، فتصيبوا من أموالهم عوضا من قيامكم بأمورهم أو تكافئوهم على ما تصيبون من أموالهم فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم والإخوان يعين بعضهم بعضا ويصيب بعضهم من مال بعض على وجه الإصلاح والرضا وَاللّه يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ يعني المفسد لمال اليتيم والمصلح له ، ويعلم الذي يقصد بالمخالطة الخيانة وأكل مال اليتيم بغير حق والذي يقصد الإصلاح. وَلَوْ شاءَ اللّه لَأَعْنَتَكُمْ أي لضيق عليكم وما أباح لكم مخالطتهم وأصل العنت الشدة والمشقة ، والمعنى لكلفكم في كل شيء ما يشق عليكم إِنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي غالب يقدر أن يشق على عباده ويعنتهم ولكنه حكيم لا يكلف عباده إلّا ما تتسع فيه طاقتهم. قوله عز وجل : ٢٢١وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ نزلت في أبي مرثد بن أبي مرثد الغنوي واسم أبي مرثد يسار بن حصين بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين سرا ، فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها عناق وكانت خليلته في الجاهلية فأتته فقالت : ألا تخلو فقال ويحك يا عناق إن الإسلام حال بيني وبين ذلك فقالت له : هل لك أن تتزوج بي؟ قال نعم ولكن أرجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أستأمره فقالت : أبي تتبرم واستعانت عليه فضربوه ضربا شديدا ، ثم خلوا سبيله فلما قضى حاجته بمكة ، وانصرف إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أعلمه بما كان من أمره ، وأمر عناق وما لقي بسببها وقال يا رسول اللّه : أيحل لي أن أتزوجها فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وأصل النكاح في اللغة الوطء ثم كثر حتى قيل العقد نكاح. ومعنى الآية : ولا تنكحوا أيها المؤمنون المشركات حتى يؤمنّ أي يصدقن باللّه ورسوله وهو الإقرار بالشهادتين والتزام أحكام المسلمين واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقيل : إنها تدل على أن كل مشركة يحرم نكاحها على كل مسلم من أي أجناس الشرك كانت كالوثنية والمجوسية والنصرانية وغيرهن من أصناف المشركات ، ثم استثنى اللّه تعالى من ذلك نكاح الحرائر الكتابيات بقوله تعالى : وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فأباح اللّه تعالى نكاحهن بهذه الآية قال ابن عباس في قوله تعالى : وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ثم استثنى نساء أهل الكتاب فقال : وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وقيل : إن حكم الآية نزل في مشركات العرب الوثنيات خاصة ولم ينسخ منها شيء ولم يستثن وإنما حكمها عام مخصوص ، قال قتادة : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن يعني مشركات العرب اللاتي ليس فيهن كتاب يقرأنه. وبيان هذا في مسألة وهي أن لفظ الشرك على من يطلق؟ فالأكثرون من العلماء وهو القول الصحيح المختار أن لفظ الشرك يندرج فيه أهل الكتاب من اليهود والنصارى وكذلك عبدة الأصنام والمجوس وغيرهم. ويدل على أن اليهود والنصارى يطلق عليهم اسم الشرك. قوله تعالى : وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّه ثم قال تعالى : اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّه وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ فهذه الآية صريحة في شرك اليهود والنصارى وقيل : كل من كفر بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإن زعم أن اللّه تعالى واحد فهو مشرك وذلك أن من كفر بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم مع صحة نبوته ، وظهور معجزاته فقد زعم أن ما أتى به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، هو من عند غير اللّه فقد أشرك مع اللّه غيره فعلى هذا القول أيضا يدخل فيه اليهود والنصارى لإنكارهم نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم. وقيل : إن اسم الشرك لا يتناول إلّا عبدة الأوثان فقط والأول أصح لما تقدم من الأدلة فعلى قول من قال : إن اسم الشرك لا يتناول إلا الوثنيات تكون الآية محكمة وعلى قول الأكثرين أن اسم الشرك يتناول الوثنيات والكتابيات وغيرهن تكون الآية محكمة في حق الوثنيات منسوخة في حق الكتابيات وقوله تعالى : وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ يعني أنفع وأصلح وأفضل مِنْ مُشْرِكَةٍ يعني حرة وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ يعني بجمالها ومالها ونسبها فالأمة المؤمنة خير وأفضل عند اللّه من الحرة المشركة ، نزلت في خنساء وليدة كانت لحذيفة بن اليمان فقال : يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى على سوادك ودمامتك ثم أعتقها وتزوجها. وقيل : نزلت في عبد اللّه بن رواحة كانت عنده أمة سوداء فغضب عليها يوما فلطمها ، ثم فزع فأتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبره فقال : وما هي يا عبد اللّه قال : هي تشهد أن اللّه لا إله إلّا اللّه وأنك رسول اللّه وتصوم رمضان وتحسن الوضوء وتصلي. فقال : هذه أمة مؤمنة. قال عبد اللّه : فو الذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا أتنكح أمة وعرضوا عليه حرة مشركة فأنزل اللّه هذه الآية : وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا هذا خطاب لأولياء المرأة أي لا تزوجوا المسلمة من المشركين. حرم على المؤمنات أن ينكحن مشركين من أي أصناف الشرك كان ، وانعقد الإجماع على أنه لا يجوز للمسلمة أن تتزوج وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ يعني حرا وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ بحسنه وماله وجماله أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ يعني يدعون إلى الشرك الذي يؤدي إلى النار وَاللّه يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ يعني أنه تعالى بين هذه الأحكام وأباح بعضها ، وحرم بعضها ، فاعملوا بما أمركم به ، وانتهوا عما نهاكم عنه فإن من عمل بذلك استحق الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ أي بتسير اللّه وإرادته وتوفيقيه وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ أي يوضح أدلته وحججه في أوامره ونواهيه وأحكامه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي فيتعظون. قوله عز وجل : ٢٢٢وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ (م) عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ، ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه عز وجل : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ الآية فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (اصنعوا كل شيء إلّا النكاح) فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلّا خالفنا فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا : يا رسول اللّه إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن فتغير وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى ظننا أنه قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفنا أنه لم يجد عليهما الوجد الغضب ، وأصل الحيض السيلان والانفجار. يقال : حاض الوادي إذا سال وفاض ماؤه قُلْ هُوَ أَذىً أي هو شيء قذر والأذى في اللغة ما يكره من كل شيء فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ أي فاجتنبوا مجامعتهن وَلا تَقْرَبُوهُنَّ يعني بالوطء والمجامعة فهو كالتوكيد لقوله : فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ يعني في الحيض والمعنى ولا تقربوهن حتى يزول عنهن الدم ، وقرئ يطهرن بتشديد الطاء ومعناه حتى يغتسلن فَإِذا تَطَهَّرْنَ أي اغتسلن من حيضهن فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه قال ابن عباس : طئوهن في الفرج ولا تعتدوا إلى غيره فإنه هو الذي أمر اللّه به ولا تأتوهن إلى غير المأتي وقيل : فأتوهن من الوجه الذي أمركم اللّه به وهو الطهر. وقيل : معناه وأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن وذلك بأن لا يكن صائمات ولا معتكفات ولا محرمات. (فصل : في حكم هذه الآية وفيه مسائل) المسألة الأولى : أجمع المسلمون على تحريم الجماع في زمن الحيض ، ومستحله كافر عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد) أخرجه الترمذي. وقال : إنما معنى هذا عند أهل العلم على التغليظ ومن فعله وهو عالم بالتحريم عزره الإمام وفي وجوب الكفارة قولان أحدهما أنه يستغفر اللّه ويتوب إليه ولا كفارة عليه وهو قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد ، والقول الثاني أنه تجب عليه الكفارة ، وهو القول القديم للشافعي وبه قال أحمد بن حنبل : لما روي عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في الرجل يقع على امرأته وهي حائض ، قال : يتصدق بنصف دينار وفي رواية. قال : إذا كان دما أحمر فدينار وإن كان دما أصفر فنصف دينار أخرجه الترمذي. وقال : رفعه بعضهم عن ابن عباس ووقفه بعضهم. المسألة الثانية : أجمع العلماء على جواز الاستمتاع بالمرأة الحائض بما فوق السرة ودون الركبة وجواز مضاجعتها وملامستها ، ويدل على ذلك ما روي عن عائشة قالت : كانت إحدانا إذا كانت حائضا وأراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يباشرها أمرها أن تأتزر بإزار في فور حيضها ، ثم يباشرها وأيكم يملك إربه كما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يملك إربه وفي رواية قالت : كنت اغتسل أنا ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من إناء واحد وكلانا جنب وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض أخرجاه في الصحيحين المراد بالمباشرة الاستمتاع بما دون الفرج ، وفور كل شيء أوله وابتناؤه وقولها يملك إربه يروى بسكون الراء وهو العضو وبفتحها وهو الحاجة (م) عن عائشة قالت : قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ناوليني الخمرة من المسجد قلت : أنا حائض. قال إن حيضتك ليس في يدك. الخمرة حصير صغير مضفور من سعف النخل أو غيره بقدر الكف وقولها : من المسجد يعني ناداها من المسجد لأنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان معتكفا في المسجد ، وعائشة في حجرتها فطلب منها الخمرة وهي حائض. المسألة الثالثة : يحرم على الحائض الصلاة والصوم ودخول المسجد وقراءة القرآن ومس المصحف وحمله ، فلو أمنت الحائض من التلويث في عبور المسجد جاز في أحد الوجهين قياسا على الجنب والثاني لا لأن حدثها أغلظ ، ويجب على الحائض قضاء الصوم دون الصلاة لما روي عن معاذة العدوية ، قالت : سألت عائشة ف قلت : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة قالت : أحرورية أنت؟ قلت لست بحرورية ولكني أسأل قالت : كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة أخرجاه في الصحيحين. المسألة الرابعة : لا يرتفع شيء مما منعه الحيض بانقطاع الدم ما لم تغتسل ، أو تتيمم عند عدم الماء إلا الصوم ، فإنه إذا انقطع دمها بالليل ونوت الصوم فإنه يصح ، وإن اغتسلت في النهار وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز للزوج غشيانها إذا انقطع الدم لأكثر الحيض ، وهو عشرة أيام عنده قبل الغسل ، ومذهب الشافعي وغيره من العلماء أنه لا يجوز للزوج غشيانها ما لم تغتسل من الحيض أو تتيمم عند عدم الماء لأن اللّه تعالى علق جواز وطء الحائض بشرطين : أحدهما انقطاع الدم والثاني الغسل فقال : وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ يعني من الحيض فَإِذا تَطَهَّرْنَ يعني اغتسلن فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه فدل ذلك على أن الوطء لا يحل قبل الغسل. وقوله تعالى : إِنَّ اللّه يُحِبُّ التَّوَّابِينَ يعني من الذنوب ، والتواب الذي كلما أذنب جدد توبة ، وقيل : التواب هو الذي لا يعود إلى الذنب وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ يعني من الأحداث وسائر النجاسات بالماء. وقيل : المتطهرين من الشرك وقيل : هم الذين لم يصيبوا الذنوب. ٢٢٣قوله عز وجل : نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الآية (ق) عن جابر قال : كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فنزلت : نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وفي رواية للترمذي كانت اليهود تقول : من أتى المرأة في قبلها من دبرها وذكر الحديث وعن ابن عباس قال : جاء عمر إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا رسول اللّه هلكت. قال : وما أهلكك قال : حولت رحلي الليلة قال : فلم يرد عليه شيئا فأوحى اللّه إلى رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بهذه الآية : نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح. قوله : حولت رحلي هو كناية عن الإتيان في غير المحل المعتاد هذا ظاهره ، ويجوز أن يريد به أنه أتاها في المحل المعتاد لكن من جهة ظهرها ، وعن ابن عباس قال : كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب فكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ، وكان من شأن أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرف وذلك أشق ما تكون المرأة ، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب أن يصنع بها ذلك فأنكرته عليه. وقالت : إنا كنا نؤتي على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني حتى سرى أمرهما فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه عز وجل : نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات يعني بذلك موضع الولد ، أخرجه أبو داود والوثن الصنم. وقيل : الصورة لا جثة لها. وقوله : على حرف ، الحرف الجانب وحرف كل شيء جانبه وقوله : يشرحون النساء. يقال شرح فلان جاريته إذا وطئها على قفاها وأصل الشرح البسط وقوله : سرى أمرهما أي ارتفع وعظم وتفاخم وأصله من سرى البرق إذا لج في اللمعان. عن أم سلمة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال في قوله تعالى : نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ في صمام واحد ويروى سمام بالسين أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن وقوله تعالى : حَرْثٌ لَكُمْ معناه مزرع لكم ومنبت للولد ، وهذا على سبيل التشبيه فجعل فرج المرأة كالأرض والنطفة كالبذر والولد كالنبات الخارج فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ يعني كيف شئتم وحيث شئتم ، إذا كان في القبل والمعنى كيف شئتم مقبلة ومدبرة ، على كل حال إذا كان في الفرج وفي الآية دليل على تحريم إتيان النساء في أدبارهن لأن محل الحرث والزرع هو القبل لا الدبر ، ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ملعون من أتى امرأة في دبرها) أخرجه أبو داود. وقال سعيد بن المسيب : هذا في العزل يعني إن شئتم فاعزلوا وإن شئتم لا تعزلوا ، وسئل ابن عباس عن العزل فقال : حرثك إن شئت فعطش وإن شئت فارو ويروى عنه أنه قال : تستأمر الحرة في العزل ولا تستأمر الجارية وبه قال أحمد : وكره جماعة العزل وقالوا : هو الوأد الخفي وروى نافع قال كنت أمسك على ابن عمر المصحف فقرأ هذه الآية : نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ قال : تدري فيم نزلت هذه الآية؟ قلت : لا. قال : نزلت في رجل أتى امرأته في دبرها فشق ذلك عليه فنزلت هذه الآية وروى عبد اللّه بن الحسن أنه لقي سالم بن عبد اللّه بن عمر فقال له : يا عم ما حديث يحدثه نافع عن عبد اللّه أنه لم يكن يرى بأسا بإتيان النساء في أدبارهن فقال : كذب العبد وأخطأ إنما قال عبد اللّه : يؤتون في فروجهن من أدبارهن ، ويحكى عن مالك إباحة ذلك وأنكره أصحابه ، وأجمع جمهور العلماء على تحريم إتيان النساء في أدبارهن ، وقالوا : لأن اللّه حرم الفرج في حال الحيض لأجل النجاسة العارضة وهو الدم فأولى أن يحرم الدبر لأجل النجاسة اللازمة ولأن اللّه تعالى نص على ذكر الحرث والحرث به يكون نبات الولد فلا يحل العدول عنه إلى غيره. وقوله تعالى : وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ يعني الولد وقيل : قدموا التسمية والدعاء عند الجماع (ق) عن ابن عباس قال : قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم اللّه اللّهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدا) وقيل : أراد به تقديم الإفراط (ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم) قوله إلا تحلة القسم يعني قدر ما يبر اللّه قسمه فيه وهو قوله تعالى : وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها فإذا وردها جاوزها فقد أبر اللّه قسمه ، وقيل : قدموا لأنفسكم يعني من الخير والعمل الصالح بدليل سياق الآية وَاتَّقُوا اللّه أي احذروا أن تأتوا شيئا مما نهاكم اللّه عنه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ أي صائرون إليه في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يعني بالكرامة من اللّه تعالى. قوله عز وجل : ٢٢٤وَلا تَجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ نزلت في عبد اللّه بن رواحة كان بينه وبين ختنه بشير بن النعمان شيء ، فحلف عبد اللّه لا يدخل عليه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين خصم له فكان إذا قيل له : فيه يقول : قد حلفت باللّه أن لا أفعل فلا يحل لي إلا أن تبر يميني فأنزل اللّه هذه الآية ، وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق حين حلف ألا ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفك والعرضة ما يجعل معرضا للشيء ، وقيل : العرضة الشدة والقوة وكل ما يعترض فيمنع عن الشيء ، فهو عرضة ، والمعنى : ولا تجعلوا الحلف باللّه سببا مانعا لكم من البر والتقوى يدعى أحدكم إلى بر وصلة رحم فيقول قد حلفت باللّه لا أفعله فيعتل بيمينه في ترك البر والإصلاح أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ قبل معناه لا تحلفوا باللّه أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس. (م) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأتها وليكفر عن يمينه) وقيل : معناه لا تكثروا الحلف باللّه وإن كنتم بارين متقين مصلحين فإن كثرة الحلف باللّه ضرب من الجراءة عليه وَاللّه سَمِيعٌ أي لحلفكم عَلِيمٌ يعني بنياتكم. قوله عز وجل : لا يُؤاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اللغو كل ساقط مطرح من الكلام ، وما لا يعتد به ، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر. واللغو في اليمين هو الذي لا عقد معه كقول القائل : لا واللّه بلى واللّه على سبق اللسان من غير قصد ونية وبه قال الشافعي : ويعضده ما روي عن عائشة قالت نزل قوله تعالى : ٢٢٥لا يُؤاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ في قول الرجل : لا واللّه وبلى واللّه أخرجه الترمذي. موقوفا ورفعه أبو داود قال : قالت عائشة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (هو قول الرجل في يمينه كلا واللّه وبلى واللّه) ورواه عنها أيضا موقوفا ، وقيل : في معنى اللغو هو أن يحلف الرجل على شيء يرى أنه صادق ثم يتبين له خلاف ذلك ، وبه قال أبو حنيفة : ولا كفارة فيه ولا إثم عليه عنده ، قال مالك في الموطأ : أحسن ما سمعت في ذلك أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يتيقن أنه كذا ثم يوجد بخلافه فلا كفارة فيه. قال : والذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه فيه آثم كاذب ليرضى به أحدا ويعتذر المخلوق أو يقطع به مالا ، فهذا أعظم من أن تكون فيه كفارة وإنما الكفارة على من حلف أن لا يفعل الشيء المباح له فعله ، ثم يفعله أو أن يفعله ثم لا يفعله مثل أن يحلف لا يبيع ثوبه بعشرة دراهم ، ثم يبيعه بذلك أو يحلف ليضربن غلامه ، ثم لا يضربه ، وفائدة الخلاف الذي بين الشافعي وأبي حنيفة في لغو اليمين أن الشافعي لا يوجب الكفارة في قول الرجل ، لا واللّه وبلى واللّه ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن وأبو حنيفة يحكم بضد ذلك ، ومذهب الشافعي هو قول : عائشة والشعبي وعكرمة ومذهب أبي حنيفة هو قول ابن عباس والحسن ومجاهد والنخعي والزهري وسليمان بن يسار وقتادة ومكحول. وقيل : في معنى اللغو إنه اليمين في الغضب وقيل : هو ما يقع سهوا من غير قصد البتة ومعنى لا يؤاخذكم أي لا يعاتبكم اللّه بلغو اليمين. وقيل : لا يُؤاخِذُكُمُ أي لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ يعني لكن يؤاخذكم بما عزمتم عليه وقصدتم له ، وكسب القلب هو العقد والنية. (فصل في بيان حكم الآية : وفيه مسائل) المسألة الأولى : لا تنعقد اليمين إلا باللّه وبأسمائه وصفاته ، فأما اليمين باللّه فهو كقول الرجل : والذي نفسي بيده والذي أعبده ، ونحو ذلك ، والحلف بأسمائه كقوله واللّه والرحمن والرحيم والمهيمن ونحو ذلك والحلف بصفاته كقوله وعزة اللّه ، وقدرته وعظمته ونحوه ، فإذا حلف بشيء من ذلك ثم حنث فعليه الكفارة. المسألة الثانية : لا يجوز الحلف بغير اللّه كقوله : والكعبة والنبي وأبي ونحو ذلك ، فإذا حلف بشيء من ذلك لا تنعقد يمينه ولا كفارة عليه ، ويكره الحلف به لما روى عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أدرك عمر وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إن اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف باللّه أو ليصمت) أخرجاه في الصحيحين. المسألة الثالثة : إذا حلف على أمر في المستقبل ، فحنث فعليه الكفارة وإن كان على أمر ماض ولم يكن ، أو على أنه لم يكن فكان فإن كان عالما به حال حلفه بأن يقول : واللّه ما فعلت وقد فعل أو لقد فعلت وما فهل فهذه اليمين الغموس ، وهي من الكبائر سميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في الإثم وتجب فيها الكفارة عند الشافعي سواء كان عالما أو جاهلا ، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا كفارة عليه ، فإن كان عالما فهي كبيرة ، وإن كان جاهلا فهي من لغو اليمين وَاللّه غَفُورٌ يعني لعباده فيما لغوا من أيمانهم التي أخبر أنه لا يؤاخذكم عليها ، ولو شاء آخذهم وألزمهم للكفارة في العاجل والعقوبة عليها في الآجل حَلِيمٌ يعني في ترك معاجلة أهل العصيان بالعقوبة ، قال الحليمي في معنى الحليم : إنه الذي لا يحبس إنعامه وأفضاله عن عباده لأجل ذنوبهم ، ولكنه يرزق العاصي كما يرزق المطيع ويبقيه وهو منهمك في معاصيه كما يبقى البر المتقي وقد يقيه الآفات والبلايا ، وهو غافل لا يذكره فضلا عن أن يدعوه كما يقيها الناسك الذي يدعوه ويسأله ، وقال أبو سليمان الخطابي : الحليم ذو الصفح والأناة الذي لا يستفزه غضب ولا يستخفه جهل جاهل ولا عصيان عاص ولا يستحق الصافح مع العجز اسم الحليم ، إنما الحليم الصفوح مع القدرة على الانتقام المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة قوله عز وجل : ٢٢٦لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يؤلون أي يحلفون والألية اليمين قال كثير : قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت والإيلاء في عرف الشرع ، هو اليمين على ترك الوطء كما إذا قال : واللّه لا أجامعك أو لا أباضعك أو لا أقربك قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئا فأبت أن تعطيه حلف لا يقربها السنة والسنتين والثلاث فيدعها لا أيّما ، ولا ذات بعل ، فلما كان الإسلام جعل اللّه ذلك للمسلمين أربعة أشهر ، وأنزل هذه الآية ، وقال سعيد بن المسيب : كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية فكان الرجل يريد امرأته ، ولا يحب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها أبدا فيتركها لا أيما ولا ذات بعل ، وكانوا عليه في ابتداء الإسلام فجعل اللّه تعالى له الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر ، وأنزل هذه الآية للذين يؤلون من نسائهم تَرَبُّصُ أي انتظار أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ والتربص التثبت والانتظار. فَإِنْ فاؤُ أي رجعوا عن اليمين بالوطء ، والمعنى فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك جماعها فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ للزوج إذا تاب من إضراره بامرأته فإنه غفور رحيم لكل التائبين. (فروع) تتعلق بحكم الآية : (الفرع الأول) : إذا حلف أنه لا يقرب زوجته أبدا أو مدة هي أكثر من أربعة أشهر فهو مول ، فإذا مضت أربعة أشهر ، يوقف الزوج ، ويؤمر بالفيء وهو الرجوع أو الطلاق ، وذلك بعد مطالبة الزوجة فإن رجع عما قال بالوطء إن قدر عليه أو بالقول مع العجز عنه ، فإن لم يفيء ولم يطلق طلق عليه الحاكم واحدة ، وهو قول عمر وعثمان وأبي الدرداء وابن عمر ، قال سليمان بن يسار : أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كلهم يقول : يوقف المولي. وذهب إليه سعيد بن جبير وسليمان بن يسار ومجاهد. وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق ، وقال ابن عباس وابن مسعود : إذا مضت مدة أربعة أشهر يقع عليها طلقة بائنة. وبه قال سفيان الثوري وأبو حنيفة ، وقال سعيد بن المسيب والزهري : يقع عليها طلقة رجعية. (الفرع الثاني) : لو حلف أن لا يطأها أقل من أربعة أشهر فليس بمول بل هو حالف فإن وطئها قبل مضي المدة لزمه كفارة يمين. (الفرع الثالث) : لو حلف أن لا يطأها أربعة أشهر ، فليس بمول بعد مضي المدة عند الشافعي لأن بقاء المدة شرط للوقوف ، وثبوت المطالبة بالفيء أو الطلاق ، وقد مضت المدة ، وعند أبي حنيفة يكون موليا ويقع الطلاق بمضي المدة. (الفرع الرابع) : مدة الإيلاء أربعة أشهر في حق الحر والعبد ، جميعا عند الشافعي لأنها مدة ضربت لمعنى يرجع إلى الطبع وهو قلة صبر المرأة عن الزوج فيستوي فيه الحر والعبد كمدة العنة وعن مالك وأبي حنيفة تتنصف مدة الإيلاء بالرق غير أن عند أبي حنيفة تنتصف مدة الإيلاء برق المرأة ، وعند مالك برق الزوج كما في الطلاق. (الفرع الخامس) : إذا وطئ خرج من الإيلاء ويجب عليه كفارة يمين ، وهذا قول أكثر العلماء وقيل : لا كفارة عليه لأن اللّه تعالى وعده المغفرة فقال : فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ ومن قال : بوجوب الكفارة عليه ، قال : ذلك في إسقاط العقوبة عنه لا في الكفارة. ٢٢٧قوله تعالى : وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ أي تحققوه بالإيقاع فَإِنَّ اللّه سَمِيعٌ يعني أي لأقوالهم عَلِيمٌ يعني بنياتهم وفيه دليل على أنها لا تطلق ما لم يطلقها زوجها ، لأنه تعالى شرط فيها العزم. قوله عز وجل : ٢٢٨وَالْمُطَلَّقاتُ أي المخليات من حبال أزواجهن والمطلقة هي التي أوقع الزوج عليها الطلاق يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أي ينتظرن فلا يتزوجن ثَلاثَةَ قُرُوءٍ جمع قرء والقرء اسم يقع على الحيض ، والطهر ، قال أبو عبيدة : الأقراء من الأضداد كالشفق اسم للحمرة ، والبياض وقيل : إنه حقيقة في الحيض مجاز في الطهر. وقيل : بالعكس واختلفوا في أصله فقيل أصله الجمع من قرأ أي جمع لأن في وقت الحيض يجتمع الدم في الرحم وفي وقت الطهر يجتمع في البدن وقيل : أصله الوقت. يقال رجع فلان لقرئه أي لوقته الذي كان فيه لأن الحيض يأتي لوقت والطهر يأتي لوقت وبحسب اختلاف أهل اللغة في الأقراء اختلف الفقهاء على قولين : أحدهما أن الأقراء هي الحيض روى ذلك عن عمرو علي وابن مسعود وابن عباس وأبي موسى وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء ، وبه قال عكرمة والضحاك والسدي والأوزاعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه ، وقال أحمد بن حنبل : كنت أقول إن الأقراء هي الأطهار وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض ، القول الثاني أنها الأطهار ، يروى ذلك عن زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة وبه قال الزهري وأبان بن عثمان ومالك والشافعي وحجة من يقول إن الأقراء هي الحيض قوله صلّى اللّه عليه وسلّم للمستحاضة دعي الصلاة أيام أقرائك يعني أيام حيضك لأن المرأة لا تدع الصلاة إلا أيام حيضها وحجة من يقول : إنها الأطهار أن ابن عمر لما طلق امرأته وهي حائض قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : لعمر مره فليراجعها حتى تطهر ، ثم إن شاء أمسكها وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة ، التي أمر اللّه أن يطلق لها فأخبر أن زمان العدة هو الطهر لا الحيض ويعضد من اللغة قول الأعشى : ففي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عرائكا مورثة مالا وفي الحي رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا أراد أنه كان يخرج للغزو ولم يغش نساءه فتضيع أقراؤهن وإنما تضيع بالسفر زمان الطهر لا زمان الحيض ، وفائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر ، وعند غيره أطول وذلك أن المعتدة إذا شرعت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها ، وحلت للأزواج ويحسب بقية الطهر الذي وقع فيه الطلاق قرءا على قول من يجعل الأقراء الأطهار ، قالت عائشة رضي اللّه عنها : إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلت للأزواج وروي عنها أنها قالت : القرء الطهر ليس بالحيضة. قال الشافعي : والنساء بهذا أعلم لأن هذا مما يبتلي به النساء وإن طلقها في حال الحيض فإذا شرعت في الحيضة الرابعة انقضت عدتها ، وعلى قول من يجعل الأقراء حيضا وهو مذهب أبي حنيفة لا تنقضي عدتها ما لم تطهر من الحيضة الثالثة. إن كان وقع الطلاق في حال الطهر أو من الحيضة الرابعة ، إن وقع في حال الحيض فإن قلت ما معنى الإخبار عنهن بالتربص في قوله : والمطلقات يتربصن بأنفسهن. قلت : هو خبر في صورة الأمر ، وأصل الكلام وليتربص المطلقات فاخرج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر ، وإشعار بأنه مما يجب أن يلتقي بالمسارعة إلى امتثاله فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عن موجود ونظيره قولهم في الدعاء : يرحمك اللّه أخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة فكأنه قال : وجدت الرحمة فهو يخبر عنها. (فصل في أحكام العدة وفيه مسائل) المسألة الأولى : عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل سواء المطلقة والمتوفى عنها زوجها ، وسواء في ذلك الحرة والأمة. المسألة الثانية : عدة المتوفى عنها سوى الحامل أربعة أشهر وعشرة أيام سواء مات عنها زوجها قبل الدخول أو بعده وسواء في ذلك الحيض والأمة والآيسة. المسألة الثالثة : عدة المطلقة المدخول بها وهي ضربان : أحدهما الحيض فعدتها بالإقراء ، وهي ثلاثة أقراء الضرب الثاني الآيسات من الحيض وإما الكبر ، أو تكون لم تحض قط فعدتها ثلاثة أشهر وأما المطلقة قبل الدخول فلا عدة عليها. المسألة الرابعة : عدة الإماء نصف عدة الحرائر فيما له نصف وفي الأقراء قرآن لأنه لا يتنصف قال عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه : ينكح العبد اثنتين ويطلق طلقتين وتعتد الأمة بحيضتين وقوله تعالى : وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّه فِي أَرْحامِهِنَّ قال ابن عباس : يعني الولد ، وقيل : الحيض والمعنى أنه لا يحل للمرأة كتمان ما خلق اللّه في رحمها من الحيض أو الحمل لتبطل بذلك الكتمان حق الزوج من الرجعة والولد إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ هذا وعيد شديد لتأكيد تحريم الكتمان وإيجاب أداء الأمانة في الإخبار عما في الرحم من الحيض أو الولد ، والمعنى أن هذا من فعل المؤمنات وإن كانت المؤمنة والكافرة فيه سواء ، فهو كقولك أدّ حقي إن كنت مؤمنا يعنى أن أداء الحقوق من أفعال المؤمنين وتقول للذي يظلم : إن كنت مؤمنا فلا تظلمني والمعنى ينبغي أن يمنعك إيمانك من الظلم ، وفي سبب وعيد النساء بهذا قولان أحدهما أنه لأجل ما يستحقه الزوج من الرجعة. قاله ابن عباس والثاني أنه لأجل إلحاق الولد بغير أبيه قاله قتادة وقيل : كانت المرأة إذا رغبت في زوجها تقول : إني حائض وإن كانت قد طهرت ليراجعها وإن كانت زاهدة فيه كتمت حيضها وتقول قد طهرت لتفوته فنهاهن اللّه عن ذلك وأمرن بأداء الأمانة وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ يعني أزواجهن سمي الزوج بعلا لقيامه بأمر زوجته ، وأصل البعل السيد والمالك والمعنى وأزواجهن أولى برجعتهن وردهن إليهم في ذلك أي في حال العدة فإذا انقضى وقت العدة فقد بطل حق الرد والرجعة إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً يعني إن أراد الزوج بالرجعة الإصلاح وحسن العشرة لا الإضرار بهن ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يراجعون ، ويريدون بذلك الإضرار فنهى اللّه المؤمنين عن مثل ذلك ، وأمرهم بالإصلاح وحسن العشرة بعد الرجعة وَلَهُنَّ يعني وللنساء على الأزواج مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ يعني للأزواج بِالْمَعْرُوفِ وذلك أن حق الزوجية لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما يراعي حق الآخر فيما له ، وعليه فيجب على الزوج أن يقوم بجميع حقها ، ومصالحها ويجب على الزوجة الانقياد والطاعة له ، قال ابن عباس في معنى الآية : إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي لأن اللّه تعالى. قال : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ (م) عن جابر أنه ذكر خطبة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في حجة الوداع وقال : فيها قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (فاتقوا اللّه في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانات اللّه واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. قوله : (فاتقوا اللّه في النساء) فيه الحث على الوصية بهن ومراعاة حقوقهن ومعاشرتهن بالمعروف. قوله : (فإنكم أخذتموهن بأمانات اللّه) ويروى بأمانة وقوله : (و استحللتم فروجهن بكلمة اللّه) معناه بإباحة اللّه والكلمة هي قوله : فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ وقيل : الكلمة هي قوله فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وقيل : الكلمة هي كلمة التوحيد وهي لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم وقوله : لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه معناه ولا يأذن لأحد أن يتحدث إليهن ، وكان من عادة العرب أن يتحدث الرجال مع النساء ولا يرون ذلك عيبا ولا يعدونه ريبة إلى أن نزلت آية الحجاب فنهوا عن ذلك وليس المراد بوطء الفرش نفس الزنا فإن ذلك محرم على كل الوجوه ، فلا معنى لاشتراط الكراهة فيه ، ولو كان المراد ذلك لم يكن الضرب فيه ضربا غير مبرح إنما كان فيه الحد ، والضرب المبرح هو الشديد. وقول : ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف يعني بالعدل وفيه وجوب نفقة الزوجة ، وكسوتها وذلك ثابت بالإجماع. وقوله تعالى : وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ أي منزلة ورفعة قال ابن عباس : بما ساق إليها من المهر وأنفق عليها من المال. وقيل : إن فضيلة الرجال على النساء بأمور منها العقل والشهادة والميراث والدية وصلاحية الإمامة والقضاء وللرجال أن يتزوج عليها ويتسرى ، وليس لها ذلك وبيد الرجل الطلاق فهو قادر على تطليقها وإذا طلقها رجعية فهو قادر على رجعتها وليس شيء من ذلك بيدها وَاللّه عَزِيزٌ أي غالب لا يمتنع عليه شي ء حَكِيمٌ أي في جميع أفعاله وأحكامه. روى البغوي بسنده عن أبي ظبيان أن معاذ بن جبل خرج في غزاة بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيها ، ثم رجع فرأى رجالا يسجد بعضهم لبعض فذكر ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : (لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها). قوله عز وجل : ٢٢٩الطَّلاقُ مَرَّتانِ عن عروة بن الزبير قال : كان الرجل إذا طلق زوجته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها ، كان له ذلك وإن طلقها ألف مرة ، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها ثم قال : واللّه لا آويك إليّ ولا تحلين أبدا فأنزل اللّه تعالى : الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فاستقبل الناس الطلاق جديدا من ذلك اليوم من كان طلق أو لم يطلق أخرجه الترمذي. وله عن عائشة قالت : كان الناس والرجل يطلق امرأته ما شاء اللّه أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة أو أكثر حتى قال رجل لامرأته : واللّه لا أطلقك فتبيني مني ولا آويك أبدا. قالت : وكيف ذلك؟ قال : أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها فسكتت عائشة حتى جاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبرته فسكت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حتى نزل القرآن الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ قالت عائشة : فاستأنف الطلاق مستقبلا من كان قد طلق ومن لم يطلق ، ومعنى الآية أن الطلاق الرجعي مرتان ولا رجعة بعد الثالثة إلا أن تنكح زوجا آخر ، وهذا التفسير هو قول من جوز الجمع بين الطلاق الثلاث في دفعة واحدة وهو الشافعي ، وقيل في معنى الآية : إن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة وهذا التفسير هو قول من قال : إن الجمع بين الثلاثة حرام إلا أن أبا حنيفة قال : يقع الثلاث وإن كان حراما وقيل : إن الآية دالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعة على زوجته والعدد الذي تبين به زوجته منه ، والمعنى أن عدد الطلاق الذي لكم فيه رجعة على أزواجكم إذا كن مدخولا بهن تطليقتان ، وأنه لا رجعة له بعد التطليقتين إن سرحها فطلقها الثالثة فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ يعني بعد الرجعة وذلك أنه إذا راجعها بعد التطليقة الثانية فعليه أن يمسكها بالمعروف وهو كل ما عرف في الشرع من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ يعني أنه يتركها بعد الطلاق حتى تنقضي عدتها من غير مضارة. وقيل هو أنه إذا طلقها أدى إليها جميع حقوقها المالية ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها. (فروع) : تتعلق بأحكام الطلاق : (الفرع الأول) : صريح اللفظ الذي يقع به الطلاق ، من غير نية ثلاث الطلاق والفراق والسراح ، وعند أبي حنيفة الصريح هو لفظ الطلاق فقط. (الفرع الثاني) : الحر إذا طلق زوجته طلقة أو طلقتين بعد الدخول بها فله مراجعتها من غير رضاها مادامت في العدة فإذا لم يراجعها حتى انقضت عدتها أو طلقها قبل الدخول بها أو خالعها ، فلا تحل له إلا بنكاح جديد بإذنها وإذن وليها. (الفرع الثالث) : العبد يملك على زوجته الأمة تطليقتين. واختلف فيما إذا كان أحد الزوجين حرا فالحر يملك على زوجته الأمة ثلاث تطليقات ، والعبد يملك على زوجته الحرة تطليقتين فالاعتبار بحال الزوج في عدد الطلاق وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وذهب أبو حنيفة إلى أن الاعتبار بالمرأة فالعبد يملك على زوجته الحرة ثلاث تطليقات ، والحر يملك على زوجته الأمة تطليقتين وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ يعني أعطيتموهن شيئا يعني من مهر أو غيره ، ثم استثنى الخلع فقال تعالى : إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللّه نزلت في جميلة بنت عبد اللّه بن أبي أوفى ويقال حبيبة بنت سهل الأنصاري كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها ، وكان بينهما كلام فأتت أباها تشكو إليه زوجها وقالت : إنه يسب أبي ويضربني فقال : ارجعي إلى زوجك فإنى أكره للمرأة أن لا تزال رافعة يديها تشكو زوجها قال : فرجعت إليه الثالثة وبها أثر الضرب فقال : ارجعي إلى زوجك فلما رأت إن أباها لا يشكيها أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فشكت إليه زوجها وأرته أثارا بها من ضربه وقالت : يا رسول اللّه لا أنا ولا هو فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى ثابت فقال : مالك ولأهلك فقال : والذي بعثك بالحق نبيا ما على وجه الأرض أحب إلى منها غيرك فقال : لها ما تقولين؟ فكرهت أن تكذب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين سألها فقالت : صدق يا رسول اللّه ولكني خشيت أن يهلكني فأخرجني منه. وقالت : يا رسول اللّه ما كنت أحدثك حديثا ينزل عليك خلافه هو أكرم الناس حبا لزوجته ولكني أبغضه فلا أنا ولا هو قال ثابت أعطيتها حديقة نخل فقل لها فلتردها علي ، وأخلى سبيلها ، فقال لها : تردين عليه حديقته وتملكين أمرك قالت : نعم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يا ثابت خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلها ففعل. (خ) عن ابن عباس (أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت يا رسول اللّه إن ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا مال ولكني أكره الكفر في الإسلام. قال أبو عبد اللّه : يعني تبغضه : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : تردين عليه حديقته؟ قالت : نعم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) قوله : ما أعتب عليه يعني ما أجد عليه والعتبى الموجدة والحديقة البستان من النخل إذا كان عليه الحائط ومعنى قوله تعالى : إِلَّا أَنْ يَخافا أي يعلما الزوجان من أنفسهما أن لا يقيما حدود اللّه والمعنى تخاف المرأة أن تعصي اللّه في أمور زوجها ، ويخاف الزوج أنه إذا لم تطعه أن يعتدي عليها ، فنهى اللّه الرجل أن يأخذ من امرأته شيئا مما أعطاها إلا أن يكون النشوز من قبلها ، وذلك أن تقول لا أطيع لك أمرا ولا أطأ لك مضجعا ، ونحو ذلك ، وقرئ يخافا بضم الياء ، ومعناه إلا أن يعلم ذلك من حالهما يعني يعلم القاضي والوالي فَإِنْ خِفْتُمْ يعني فإن خشيتم وأشفقتم ، وقيل : معناه فإن ظننتم أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللّه يعني ما أوجب اللّه على كل واحد منهما من طاعته فيما أمره به من حسن الصحبة ، والمعاشرة بالمعروف وقيل : هو يرجع إلى المرأة وهو سوء خلقها واستخفافها بحق زوجها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أي لا جناح على المرأة في النشوز إذا خشيت الهلاك ، والمعصية فيما افتدت به نفسها أو أعطت من المال لأنها ممنوعة من إتلاف المال بغير حق ، ولا على الزوج فيما أخذ من المال إذا أعطته المرأة طائعة راضية. (فصل : في حكم الخلع وفيه مسائل) الأولى : قال الزهري والنخعي وداود : لا يباح الخلع إلا عند الغضب والخوف من أن لا يقيما حدود اللّه فإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فهو فاسد ، وحجة هذا القول : أن الآية صريحة في أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ من المرأة شيئا عند طلاقها ، ثم استثنى اللّه تعالى حالة مخصوصة فقال : إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللّه فكانت هذه صريحة في أنه لا يجوز الأخذ في غير حالة الغضب ، والخوف من أن لا يقيما حدود اللّه ، وذهب جمهور العلماء إلى أنه يجوز الخلع من غير نشوز ولا غضب ، غير أنه يكره لما فيه من قطع الوصلة بلا سبب عن ثوبان أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة) أخرجه أبو داود والترمذي. عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق) أخرجه أبو داود ودليل الجمهور على جواز الخلع من غير نشوز قوله تعالى : فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن يحصل لها شيء فإذا بذلت كان ذلك في الخلع الذي تصير بسببه مالكة أمر نفسها أولى. وأجيب عن الاستثناء المذكور في هذه الآية أنه محمول على الاستثناء المنقطع. المسألة الثانية : الخلع جائز على أكثر مما أعطاها وبه قال أكثر العلماء ، وقال بعضهم : لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهو قول علي ، وبه قال الزهري والشعبي والحسن وعطاء وطاوس وقال سعيد بن المسيب : بل يأخذ دون ما أعطاها حتى يكون الفضل فيه وحجة الجمهور أن الخلع عقد على معاوضة ، فوجب أن لا يقيد بمقدار معين كما أن للمرأة أن لا ترضى عند عقد النكاح إلا بالكثير فكذلك للزوج أن لا يرضى عند الخلع إلا بالبذل الكثير ، لا سيما وقد أظهرت الاستخفاف بالزوج حيث أظهرت بغضه وكراهته. المسألة الثالثة : اختلف العلماء في الخلع هل هو فسخ أو طلاق؟ فقال الشافعي في القديم : إنه فسخ وهو قول ابن عباس وطاوس وعكرمة. وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وقال الشافعي في الجديد : إنه طلاق وهو الأظهر وهو قول عثمان وعلي وابن مسعود والحسن والشعبي والنخعي وعطاء وابن المسيب ومجاهد ومكحول والزهري. وبه قال أبو حنيفة ومالك وسفيان الثوري. وحجة القول القديم أن اللّه تعالى ذكر الطلاق مرتين ثم ذكر بعده الخلع ثم ذكر الطلقة الثالثة فقال : فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ولو كان الخلع طلاقا لكان الطلاق أربعا وحجة القول الجديد أنه لو كان فسخا لما صح بالزيادة على المهر المسمى كالإقالة في البيع وأيضا لو كان الخلع فسخا فإذا خالعها ولم يذكر مهرا وجب أن يجب المهر عليها كالإقالة ، فإن الثمن يجب رده وإن لم يذكره فثبت أن الخلع ليس بفسخ وإذا بطل ذلك ثبت أنه طلاق وأيضا فإن الطلقة الثالثة قوله : أو تسريح بإحسان. وفائدة الخلاف أنا إذا جعلناه طلاقا ينقص به عدد الطلاق فإن تزوجها بعده كانت معه على طلقتين وإن جعلناه فسخا بانت منه بثلاث. قوله تعالى : تِلْكَ حُدُودُ اللّه يعني هذه أوامر اللّه ونواهيه وهو ما تقدم من أحكام الطلاق والرجعة والخلع وحدود اللّه ما منع من مجاوزتها وهو قوله : فَلا تَعْتَدُوها أي فلا تجاوزها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه أي يجاوزها فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ٢٣٠قوله عز وجل : فَإِنْ طَلَّقَها يعني الطلقة الثالثة فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ أي لا تحل له رجعتها بعد الثلاث حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ يعني حتى تتزوج زوجا آخر غير المطلق فيجامعها ، والنكاح يتناول العقد والوطء جميعا والمراد هنا الوطء ، نزلت في تميمة وقيل : عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك القرظي وكانت تحت ابن عمها رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي فطلقها ثلاثا (ق) عن عائشة قالت : (جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب فتبسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته) قولها : فبت طلاقي أي قطعه والبت القطع وقولها : مثل هدبة الثوب أي طرفة وهو كناية عن استرخاء الذكر قوله : حتى يذوق عسيلتك بضم العين تصغير العسل شبة لذة الجماع بالعسل وهو كناية عنه وإنما أنث العسل لأن من العرب من يؤنثه ، وقيل : أنثه حملا له على المعنى ، لأن المراد منه النطفة ، وعبد الرحمن المذكور هو عبد الرحمن بن الزبير بفتح الزاي وكسر الباء مشددة ، وروي أنها لبثت ما شاء اللّه ثم رجعت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت : إن زوجي قد مسني فقال لها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : كذبت بقولك الأول فلن أصدقك في الآخر ، فلبثت حتى قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأتت أبا بكر فقالت يا خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أرجع إلى زوجي الأول فإن زوجي الآخر قد مسني و طلقني ، فقال لها أبو بكر : قد شهدت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين أتيته وقال له ما قالت لك ما قال فلا ترجعي إليه ، فلما قبض أبو بكر أتت عمر وقالت له ما قالت لأبي بكر فقال لها : لئن رجعت إليه لأرجمنك. قوله تعالى : فَإِنْ طَلَّقَها يعني الزوج الثاني بعد وطئها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما يعني على المرأة والزوج الأول أَنْ يَتَراجَعا يعني بنكاح جديد إِنْ ظَنَّا أي علما وأيقنا وقيل : إن رجوا لأن أحدا لا يعلم ما هو كائن إلّا اللّه تعالى : أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللّه يعني يقيما بينهما الصلاح وحسن العشرة والصحبة وقيل : معناه إن علما أن نكاحها على غير دلسة ، والمراد بالدلسة التحليل. فرعان : الأول : مذهب جمهور العلماء أن المطلقة بالثلاث لا تحل للزوج المطلقة منه بالثلاث إلّا بشرائط ، وهي أن تعتد منه ثم تتزوج بزوج آخر ويطأها ، ثم يطلقها ، ثم تعتد منه ، فإذا حصلت هذه الشرائط فقد حلت للأول وإلّا فلا ، وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب : تحل بمجرد العقد والمذهب الأول هو الأصح ، واختلف العلماء في اشتراط الوطء هل ثبت بالكتاب أو بالسنة؟ على ثلاثة أقوال : الثالث وهو المختار أنه ثبت بهما (الثاني) إذا تزوج بالمطلقة ثلاثة ليحلها للأول فهذا نكاح باطل وعقد فاسد وبه قال : مالك وأحمد لما روي عن ابن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : (أنه لعن المحلل والمحلل له) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وروي أنه قال هو التيس المستعار ولو تزوجها ولم يشترط في النكاح أنه يفارقها فالنكاح صحيح ويحصل به التحليل إذا طلقها وانقضت العدة غير أنه يكره إذا كان في عزمهما ذلك ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، ودليل ذلك أن الآية دلت على أن الحرمة تنتهي بوطء مسبوق بعقد وقد وجد ذلك فوجب القول بانتهاء الحرمة ، وقال نافع : (أتى رجل إلى ابن عمر فقال : إن رجلا طلق امرأته ثلاثا فانطلق أخ له من غير مؤامرة فتزوجها ليحلها للأول فقال : لا إلّا نكاح رغبة ، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم) وقوله تعالى : وَتِلْكَ حُدُودُ اللّه يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني يعلمون ما أمرهم به ونهاهم عنه ، وإنما خص العلماء لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك البيان. ٢٣١قوله عز وجل : وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ نزلت في ثابت بن يسار رجل من الأنصار طلق امرأته حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها يقصد بذلك مضارّتها فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي قاربن انقضاء عدتهن وشارفن منتهاها ، ولم يرد انقضاء العدة لأنه لو انقضت عدتها لم يكن للزوج إمساكها فالبلوغ هنا بلوغ مقاربة كما يقال : بلغ فلان البلد إذا قاربه وشارفه ، فهذا من باب المجاز الذي يطلق اسم الكل فيه على الأكثر. وقيل إن الأجل اسم للزمان فيحمل على الزمان الذي هو آخر زمان يمكن إيقاع الرجعة ، فيه بحيث إذا فات لا يبقى بعده مكنة إلى الرجعة وعلى هذا التأويل فلا حاجة لنا إلى المجاز فَأَمْسِكُوهُنَّ أي راجعوهن بِمَعْرُوفٍ وهو أن يشهد على رجعتها وأن يراجعها بالقول لا بالوطء أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً أي لا تقصدوا بالرجعة المضارة بتطويل الحبس. وقيل : كانوا يضاروهن لتفتدي المرأة منه بمالها لِتَعْتَدُوا أي لتظلموهن بمجاوزتكم في أمورهن حدود اللّه التي بينها لكم. وقيل معناه : لا تضاروهن على قصد الاعتداء عليهن وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي ضر نفسه بمخالفة أمر اللّه وتعريضها عذاب اللّه وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللّه هُزُواً يعني بذلك ما بين من حلاله وحرامه وأمره ونهيه في وحيه وتنزيله ، فلا تتخذوا ذلك استهزاء ولعبا ، فمن وجب عليه طاعة اللّه وطاعة رسوله ثم وصل إليه هذه الأحكام التي تقدم ذكرها في العدة والرجعة والخلع وترك المضارة فلا يتخذها هزوا ، ففيه تهديد عظيم ووعيد شديد ، وقيل : هو راجع إلى قوله فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، فكل من خالف أمرا من أمور الشرع فهو متخذ آيات اللّه هزوا. وقيل : كان الرجل يطلق ويعتق ويتزوج ويقول كنت لاعبا فنهوا عن ذلك. عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة) أخرجه أبو داود والترمذي. وقوله تعالى : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ يعني بالإيمان الذي أنعم به اللّه عليكم فهداكم له وسائر نعمه التي أنعم بها عليكم وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ أي واذكروا نعمته فيما أنزله عليكم مِنَ الْكِتابِ يعني القرآن وَالْحِكْمَةِ يعني السنة التي علمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وسنها لكم. وقيل : المراد بالحكمة مواعظ القرآن يَعِظُكُمْ بِهِ أي بالكتاب الذي أنزله على نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم وَاتَّقُوا اللّه يعني خافوا اللّه فيما أمركم به ونهاكم عنه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعني أن اللّه تعالى يعلم ما أخفيتم من طاعة ومعصية في سر وعلن لا يخفى عليه شيء من ذلك. قوله عز وجل : ٢٣٢وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ نزلت في معقل بن يسار المزني عضل أخته جميلة ، وكانت تحت أبي القداح عاصم بن عدي فطلقها معقل بن يسار قال : كانت لي أخت تخطب إلي وأمنعها من الناس فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فاصطحبا ما شاء اللّه ثم طلقها طلاقا له رجعة ثم تركها حتى انقضت عدتها ، فلما خطبت إلى أتاني يخطبها مع الخطاب ، فقلت له : خطبت إلي فمنعتها الناس وآثرتك بها فزوجتك ثم طلقتها طلاقا لك فيه رجعة ، ثم تركتها حتى انقضت عدتها ، فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب واللّه لا أنكحتها لك أبدا ، ففي ذلك نزلت هذه الآية : وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ الآية ، فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه أخرجه البخاري ، وقيل إن جابر بن عبد اللّه كانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة ، فلما انقضت عدتها أراد أن يرتجعها فأبى جابر وقال : طلقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها الثانية ، وكانت المرأة تريد زوجها قد رضيته فنزلت هذه الآية : وأراد ببلوغ الأجل في قوله فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ انقضاء العدة بخلاف الآية التي قبل هذه الآية. قال الشافعي : دل اختلاف الكلامين على افتراق البلوغين فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ خطاب للأولياء ، والمعنى لا تضيقوا عليهن أيها الأولياء ، فتمنعوهن من مراجعة أزواجهن بنكاح جديد تبتغون بذلك مضارتهن فهو خطاب عام لجميع الأولياء ، وإن كان سبب الآية خاصا. وأصل العضل المنع والتضييق ومنه قول أوس بن حجر : وليس أخوك الدائم العهد بالذي يذمك إن ولى ويرضيك مقبلا ولكنه النائي إذا كنت آمنا وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا يعني إذا أضاق الأمر ، وفي الآية دليل للشافعي ومن وافقه في أن المرأة لا تلي عقد النكاح ولا تأذن فيه إذ لو كانت تملك ذلك لم يكن عضل ولا لنهي الولي عن العضل معنى. وقوله تعالى : إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ يعني إذا تراضى الخطاب والنساء ، والمعروف هنا ما وافق الشرع من عقد حلال ومهر جائز. وقيل هو أن يرضى كل واحد منهما بما التزمه لصاحبه بحق العقد حتى تحصل الصحبة الحسنة والعشرة الجميلة ذلِكَ أي ذلك الذي ذكر من النهي يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني أن المؤمن هو الذي ينتفع بالوعظ دون غيره ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ يعني أنه خير لكم وأطهر لقلوبكم وأطيب عند اللّه وَاللّه يَعْلَمُ يعني ما في ذلك من الزكاة والتطهير وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ يعني ذلك. قوله عز وجل : ٢٣٣وَالْوالِداتُ يعني المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن وقيل المراد بهن جميع الوالدات سواء كن مطلقات أو متزوجات ، ويدل عليه أن اللفظ عام ، وما قام على دليل التخصيص فوجب تركه على عمومه ، ولأنه ظاهر اللفظ فوجب حمله عليه يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ هذا خبر بمعنى الأمر ، والتقدير والوالدات يرضعن أولادهن في حكم اللّه الذي أوجبه ، وهذا الأمر ليس أمر إيجاب ، وإنما هو أمر ندب واستحباب لأن تربية الطفل بلبن الأم أصلح له من لبن غيرها ولكمال شفقتها عليه ويدل على أنه لا يجب على الوالدة إرضاع الولد. قوله : فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ولو وجب عليها الرضاع لما استحقت الأجرة وقال تعالى : وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى هذا نص صريح في ذلك ، فإن لم يوجد من يرضع الطفل أو لم يقبل غير لبن أمه وجب عليها إرضاعه كما يجب على كل أحد مواساة المضطر ، فإن رغبت الأم في إرضاع ولدها ، فهي أولى به من غيرها حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ الحول السنة ، وأصله من حال يحول إذا انقلب ، وإنما قال كاملين للتوكيد لأنه مما يتسامح فيه ، تقول : أقمت عند فلان حولا وإن لم تستكمله ، فبين اللّه أنهما حولان كاملان أربعة وعشرون شهرا ، وهذا التحديد بالحولين ليس تحديد إيجاب ، ويدل على ذلك قوله بعده : لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ فلما علق الإتمام بإرادتنا علمنا أن هذا الإتمام غير واجب ، فثبت أن المقصود من هذا التجديد قطع النزاع بين الزوجين في مقدار زمن الرضاعة فقدر اللّه تعالى ذلك بالحولين حتى يرجعا إليه عند التنازع ، قال ابن عباس في رواية عكرمة : إذا وضعت الولد لستة أشهر أرضعته حولين وإن وضعته لسبعة أشهر أرضعته ثلاثا وعشرين شهرا ، وإن وضعته لتسعة أشهر أرضعته أحدا وعشرين شهرا ، كل ذلك ثلاثون شهرا ، لقوله تعالى : وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وقال في رواية الوالي عنه : هو حد لكل مولود في أي وقت ولد لا ينقص رضاعه عن حولين إلّا باتفاق من الأبوين ، فأيهما أراد فطام الولد قبل الحولين فليس له ذلك إلّا إذا اتفقا عليه يدل على ذلك قوله : فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وقيل : فرض اللّه على الوالدات إرضاع الولد حولين ثم أنزل التخفيف فقال : لمن أراد أن يتم الرضاعة ، أي هذا منتهى الرضاع لمن أراد إتمام الرضاعة ، وليس فيما دون ذلك حد محدود ، وإنما هو على مقدار إصلاح الطفل وما يعيش به وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ يعني الأب ، وإنما عبر عنه بهذا لأن الوالدات إنما ولدن للآباء ، ولذلك ينسب الولد للأب دون الأم قال بعضهم : وإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللآباء أبناء وقيل : إن هذا تنبيه على أن الولد إنما يلتحق بالوالد لكونه مولود على فراشه ، فكأنه قال : إذا ولدت المرأة الولد لأجل الرجل وعلى فراشه وجب عليه رعاية مصالحه رِزْقُهُنَّ أي طعامهن وَكِسْوَتُهُنَّ أي لباسهن بِالْمَعْرُوفِ أي على قدر الميسرة لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها يعني طاقتها ، والمعنى أن أبا الولد لا يكلف في الإنفاق عليه وعلى أمه إلّا قدر ما تتسع به مقدرته ولا يبلغ إسراف القدرة لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها يعني لا ينزع الولد من أمه بعد أن رضيت بإرضاعه ولا يدفع إلى غيرها وقيل معناه لا تكره الأم على إرضاع الولد إذا قبل الصبي لبن غيرها لأن ذلك ليس بواجب عليها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ يعني لا تلقي المرأة الولد إلى أبيه وقد ألفها تضاره بذلك ، وقيل معناه لا يلزم الأب أن يعطي أم الولد أكثر مما يجب عليه لها إذا لم يرضع الولد من غير أمه ، فعلى هذا يرجع الضرار إلى الوالدين فيكون المعنى : لا يضار كل واحد منهما صاحبه بسبب الولد. وقيل يحتمل أن يكون الضرر راجعا إلى الولد. والمعنى : لا يضار كل واحد من الأبوين الولد فلا ترضعه حتى يموت فيتضرر بذلك ولا ينفق عليه الأب أو ينزعه من أمه فيضره بذلك ، فعلى هذا تكون الباء صلة ، والمعنى لا تضار والدة ولدها ولا أب ولده وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ يعني وعلى وارث أبي الولد إذا مات مثل ما كان يجب عليه من النفقة والكسوة فيلزم وارث الأب أن يقوم مقامه في القيام بحق الولد. وقيل : المراد بالوارث وارث الصبي الذي لو مات الصبي ورثه فعلى هذا الوارث مثل ما كان على أبي الصبي في حال حياته ، واختلف في أي وارث هو فقيل هم عصبة الصبي كالجد والأخ والعم وابنه. وقيل : هو كل وارث له من الرجال والنساء ، وبه قال أحمد : فيجبرون على نفقة الصبي كل على قدر سهمه منه. وقيل هو من كان ذا رحم محرم منه وبه قال أبو حنيفة. وقيل المراد بالوارث الصبي نفسه ، فعلى هذا تكون أجرة رضاع الصبي في ماله فإن لم يكن له مال فعلى الأم ولا يجبر على نفقة الصبي غير الأبوين ، وبه قال مالك والشافعي. وقيل معناه وعلى الوارث ترك المضارة فَإِنْ أَرادا يعني الوالدين فِصالًا يعني فطام الولد قبل الحولين عَنْ تَراضٍ مِنْهُما أي على اتفاق من الوالدين في ذلك وَتَشاوُرٍ أي يشاورون أهل العلم في ذلك حتى يخبروا أن الفطام قبل الحولين لا يضر بالولد ، والمشاورة استخراج الرأي بما فيه مصلحة فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي فلا حرج ولا إثم على الوالدين في الفطام قبل الحولين إذا لم يضر بالولد وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ أي لأولادكم مراضع غير أمهاتهم إذا أبت أمهاتهم إرضاعهم أو تعذر ذلك لعلة بهن من انقطاع لبن أو غير ذلك أو أردن التزويج فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ يعني إلى المراضع ما آتَيْتُمْ يعني لهن من أجرة الرضاع وقيل إذا سلمتم إلى أمهاتهم من أجرة الرضاع بقدر ما أرضعن بِالْمَعْرُوفِ أي بالإحسان والإجمال أمروا أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه ناطقين بالقول الجميل مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن حتى يؤمن من تفريطهن بقطع معاذيرهن وَاتَّقُوا اللّه يعني وخافوا اللّه فيما فرض عليكم من الحقوق وفيما أوجب عليكم لأولادكم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يعني لا يخفى عليه خافية من جميع أعمالكم سرها وعلانيتها ، فإنه تعالى يراها ويعلمها. قوله عز وجل : ٢٣٤وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ يعني يموتون مِنْكُمْ وأصل التوفي أخذ الشيء وافيا ، فمن مات فقد استوفى عمره كاملا ، ويقال توفي فلان يعني قبض وأخذ وَيَذَرُونَ أي ويتركون أَزْواجاً والمراد بالأزواج هنا النساء لأن العرب تطلق اسم الزوج على الرجل والمرأة يَتَرَبَّصْنَ أي ينتظرن بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً يعني قدر هذه المدة وإنما قال عشرا بلفظ التأنيث لأن العرب إذا أبهمت في العدد من الليالي والأيام غلبوا الليالي حتى إن أحدهم ليقول : صمت عشرا من الشهر لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام فإذا أظهروا الأيام قالوا صمنا عشرة أيام وقيل إن هذه الأيام أيام حزن ولبس إحداد فشبهها بالليالي على سبيل الاستعارة ووجه الحكمة في أن اللّه تعالى حد العدة بهذا القدر لأن الولد يركض في بطن أمه لنصف مدة الحمل ، يعني يتحرك. وقيل : إن الروح ينفخ في الولد في هذه العشرة أيام ، ويدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو الصادق المصدوق : (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث اللّه إليه ملكا يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح) أخرجاه في الصحيحين بزيادة ، فدل هذا الحديث على أن خلق الولد يجتمع في مدة أربعة أشهر ويتكامل خلقه بنفخ الروح فيه في هذه الأيام الزائدة. (فصل : في حكم عدة المتوفى عنها زوجها والإحداد. وفي مسائل) المسألة الأولى : عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر وعدة الأمة على نصف عدة الحرة شهران وخمسة أيام ، وبه قال جمهور العلماء ، وقال أبو بكر الأصم : عدة الأمة كعدة الحرائر وتمسك بظاهر هذه الآية ، وعدة الحامل بوضع الحمل سواء فيه الحرة والأمة ، ولو وضعت بعد وفاة زوجها بلحظة حل لها أن تتزوج ، ويدل على هذا ما روي عن سبيعة الأسلمية أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي ، وكان ممن شهد بدرا ، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل ، فلم تلبث أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال : ما لي أراك تجملت للخطاب لعلك ترجين النكاح وإنك واللّه ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت وأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي ، أخرجاه في الصحيحين ، وفيه قال ابن شهاب : ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أنه لا يقربها حتى تطهر ، فعلى هذا حكم الآية عام في كل من توفي عنها زوجها بأن تعتد أربعة أشهر وعشرا ، ثم خصص من هذا العموم أولات الأحمال بهذا الحديث وبقوله تعالى : وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. المسألة الثانية : يجب على من توفي عنها زوجها الإحداد ، وهو ترك الزينة والطيب ودهن الرأس بكل دهن والكحل المطيب ، فإن اضطرت إلى كحل فيه زينة فيرخص لها ، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال الشافعي : تكتحل به بالليل وتمسحه بالنهار. عن أم سلمة قالت : (دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت عليّ صبرا فقال : ما هذا يا أم سلمة؟ قلت : إنما هو صبر يا رسول اللّه ليس فيه طيب ، فقال : إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلّا بالليل وتنزعيه بالنهار ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب. قلت : بأي شيء أمتشط يا رسول اللّه؟ قال : بالسدر تغلفين به رأسك) أخرجه أبو داود وللنسائي نحوه. قوله (فإنه يشب الوجه) أي يوقده ويحسنه وبنوره من شب النار إذا أوقدها. قوله (تغلفين به رأسك) أي تلطخين به رأسك والتغلف هو الغمرة على وجه المرأة وكذا رأسها إذا لطخته بشيء فأكثرت منه. ولا يجوز لها لبس الديباج والحرير والحلي والمصبوغ للزينة كالأحمر والأصفر ويجوز لها لبس ما صبغ لغير الزينة كالأسود والأزرق ، ويجوز لها أن تلبس البياض من الثياب والصوف والوبر (ق) عن زينب بنت أبي سلمة قالت : دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حين توفي أبوها أبو سفيان بن حرب فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت به جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت : واللّه ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول على المنبر : (لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا) قالت زينب : ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت : واللّه ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول على المنبر : (لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا) (م) عن عائشة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلّا على زوجها أربعة أشهر وعشرا) (ق) عن أم عطية قالت : (كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا إلّا ثوب عصب وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من حيضتها في نبذة من كست أظفار). قولها : إلّا ثوب عصب العصب بالعين والصاد المهملتين من البرود الذي صبغ غزله قبل النسج. قولها : نبذة من كست. النبذة الشيء اليسير. والكست لغة في القسط وهو شيء معروف يتبخر به. عن أم سلمة قالت : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا تلبس المتوفى عنها زوجها المعصفرة من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل ولا تطيب) أخرجه أبو داود. قولها : ولا الممشقة الثياب. الممشقة هي المصبوغة بالمشق وهي المغرة ، عن نافع : (أن صفية بنت عبد اللّه اشتكت عينها وهي حادّ على زوجها ابن عمر فلم تكتحل حتى كادت عيناها ترمضان) أخرجه مالك في الموطأ. المسألة الثالثة : اختلفوا في أن هذه المدة سببها الوفاة أو العلم بالوفاة ، فقال بعضهم : ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تعتد بانقضاء الأيام في العدة ، واحتجوا على ذلك بأن اللّه تعالى قال : يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ وذلك لا يحل إلّا بالقصد إلى التربص ولا يحل ذلك إلّا مع العلم. قال الجمهور : السبب هو الموت فلو انقضت المدة أو أكثرها أو بعضها ثم بلغها خبر موت الزوج وجب أن تعتد بما انقضى ويدل على ذلك أن الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدتها هذه المدة. المسألة الرابعة : أجمع العلماء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول وإن كانت هذه الآية متقدمة في التلاوة وسنذكر تمام الكلام عليه بعد في موضعه إن شاء اللّه تعالى ، واللّه أعلم. وقوله تعالى : فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي انقضت عدتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ خطاب للأولياء لأنهم هم الذين يتولون العقد فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ يعني من التزين والتطيب والنقلة من المسكن الذي كانت معتدة فيه ونكاح من يجوز لها نكاحه وقيل إنما عنى بذلك النكاح خاصة ، وقيل معنى قوله : بِالْمَعْرُوفِ هو النكاح الحلال الطيب. واحتج أصحاب أبي حنيفة على جواز النكاح بغير ولي بهذه الآية لأن إضافة الفعل إلى الفاعل محمول على المباشرة ، وأجاب أصحاب الشافعي أن قوله تعالى : فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ للأولياء ولو صح العقد بغير ولي لما كان مخاطبا. وأجيب على قوله فيما فعلن في أنفسهن إنما هو التزين والتطيب بعد انقضاء العدة لا أنها تزوج نفسها وَاللّه بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يعني أنه تعالى لا يخفى عليه خافية. والخبير في صفة اللّه تعالى هو العالم بكنه الشيء وحقيقته من غير شك والخبير في صفة المخلوقين إنما يستعمل في نوع من العلم وهو الذي يتوصل إليه بالاجتهاد والفكر ، واللّه تعالى منزه عن ذلك كله. قوله عز وجل : ٢٣٥وَلا جُناحَ أي لا حرج عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ أي لوحتم وأشرتم به والتعريض ضد التصريح ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده ويصلح للدلالة على غير مقصوده ولكن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح وقيل هو الإشارة إلى الشيء بما يفهم السامع مقصوده من غير تصريح به وقيل التعريض من الكلام ما له ظاهر وباطن مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ يعني المعتدات في عدتهن والخطبة بالكسر طلب النكاح والتماسه وقيل هو ذكر النساء والخطبة بالضم كلام منظوم له أول وآخر ، ومعنى الآية فيما عرضتم به من ذكر النساء عندهن. والتعريض بالخطبة في العدة مباح وهو أن يقول : إنك لجميلة ، وإنك لصالحة وإن غرضي التزويج وإني فيك لراغب وعسى اللّه أن ييسر لي امرأة صالحة ونحو ذلك ، من الكلام الموهم من غير تصريح لأن يقول إني أريد أن أنكحك أو أتزوجك ونحو ذلك ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس في قوله تعالى : فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ هو أن يقول : إني أريد التزويج ، وإن النساء لمن حاجتي ، ولوددت أن تيسر لي امرأة صالحة ، أخرجه البخاري. وروي أن سكينة بنت حنظلة تأيمت فدخل عليها أبو جعفر محمد بن علي الباقر في عدتها فقال : قد علمت قرابتي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وحق جدي عليّ وقدمي في الإسلام. فقالت سكينة : غفر اللّه لك أتخطبني في العدة وأنت يؤخذ عنك؟ فقال : إنما أخبرتك بقرابتي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على أم سلمة وهي في عدة زوجها أبي سلمة فذكر لها منزلته من اللّه عز وجل وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده صلّى اللّه عليه وسلّم من شدة تحامله عليها فما كانت تلك خطبة أَوْ أَكْنَنْتُمْ يعني أضمرتم فِي أَنْفُسِكُمْ يعني من نكاحهن وقيل هو أن يدخل ويسلم ويهدي إن شاء ولا يتكلم بشيء ، والمقصود أنه لا حرج عليكم في التعريض للمرأة في عدة الوفاة ، ولا فيما يضمر الرجل في نفسه من الرغبة فيها عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ يعني بقلوبكم لأن شهوة النفس والتمني لا يخلو منه أحد ، فلما كان هذا الخاطر كالشيء الشاق أسقط عنه الحرج وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا اختلفوا في معنى هذا السر المنهيّ عنه فقيل هو الزنا كان الرجل يدخل على المرأة يعرض بالنكاح ومراده الزنا ويقول لها : دعيني فإذا وفيت عدتك أظهرت نكاحك ، فنهوا عن ذلك. وقيل هو قول بالرجل للمرأة لا تفوتيني نفسك فإني ناكحك. وقيل : هو أن يأخذ عليها العهد والميثاق أن لا تتزوج غيره وقيل هو أن يخطبها في العدة وقال الشافعي : السر الجماع ، وهو رواية عن ابن عباس. قال الكلبي : لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع ، ويدل على أن لفظ السر كناية عن الجماع قول امرئ القيس : ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن السر أمثالي بسباسة اسم امرأة. وإنما وقع الكناية عن الجماع بالسر لأنه مما يسر واللّه تعالى حييّ كريم فكنى به عن لفظ الجماع الصريح. ومعنى الآية : لا تواعدوهن مواعدة سرية أو لا تواعدوهن بالشيء الموصوف بالسرّ وقيل في معنى الآية أن اللّه تعالى أن أذن في أول الآية في التعريض بالخطبة ومنع في آخرها عن التصريح بالخطبة إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً يعني هو ما ذكر من التعريض بالخطبة. وقيل : هو إعلام ولي المرأة أنه راغب في نكاحها وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ أي لا تحققوا العزم على عقدة النكاح في العدة حتى تنقضي وإنما سماها اللّه كتابا لأنها فرضت به وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ أي فخافوه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعجل بالعقوبة على من جاهره بالمعصية بل يستر عليه. قوله عز وجل : ٢٣٦لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً أي ولم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة يعني ولم تعينوا لهن صداقا ولم توجبوه عليكم. نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها صداقا ، ثم طلقها قبل أن يمسها ، فنزلت هذه الآية فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أمتعها ولو بقلنسوتك. فإن قلت : هل على من طلق امرأته جناح بعد المسيس حتى يوضع عنه الجناح قبل المسيس فما وجه نفي الحرج والجناح عنه؟ قلت ، فيه سبب قطع الوصلة : وما جاء في الحديث : (إن أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق) فنفى اللّه الجناح عنه إذا كان الفراق أروح من الإمساك ، وقيل معناه لا حرج عليكم في تطليقهن قبل المسيس في أي وقت شئتم حائضا كانت المرأة أو طاهرا ، لأنه لا سنة في طلاقهن قبل الدخول وَمَتِّعُوهُنَّ أي أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به والمتعة والمتاع ما يتبلغ به من الزاد عَلَى الْمُوسِعِ أي الغنى الذي يكون في سعة من غناه قَدَرُهُ أي قدر إمكانه وطاقته وَعَلَى الْمُقْتِرِ أي الفقير الذي هو في ضيق من فقره قَدَرُهُ أي قدر إمكانه وطاقته مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ يعني متعوهن تمتيعا بالمعروف يعني من غير ظلم ولا حيف حَقًّا أي حق ذلك التمتع حقا واجبا لازما عَلَى الْمُحْسِنِينَ يعني إلى المطلقات بالتمتع ، وإنما خص المحسنين بالذكر لأنهم الذين ينتفعون بهذا البيان. وقيل : معناه من أراد أن يكون من المحسنين ، فهذا شأنه وطريقه. والمحسن هو المؤمن. (فصل : في بيان حكم الآية وفيه فروع) الفرع الأول : إذا تزوج امرأة ولم يفرض لها مهرا ثم طلقها قبل المسيس يجب لها عليه المتعة ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد. وقال مالك : المتعة مستحبة ولو طلقها قبل الدخول ، وقد فرض لها مهرا وجب لها عليه نصف المهر المفروض ولا متعة لها عليه. الفرع الثاني المطلقة المدخول بها : فيها قولان قال في القديم : لا متعة لها لأنها تستحق المهر كاملا ، وبه قال أبو حنيفة ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وقال في الجديد : لها المتعة لقوله تعالى : وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وهو الرواية الأخرى عن أحمد قال ابن عمر : لكل مطلقة متعة إلّا التي فرض لها المهر ولم يدخل بها زوجها فحسبها نصف المهر. الفرع الثالث في قدر المتعة : قال ابن عباس : أعلاها خادم ، وأوسطها ثلاثة أثواب درع وخمار وإزار ، وأقلها دون ذلك وقاية أو مقنعة أو شيء من الورق وهو مذهب الشافعي لأنه قال أعلاها على الموسع خادم وأوسطها ثوب وأقلها ما له ثمن وحسن ثلاثون درهما. وروي أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته وحممها ، يعني متعها جارية سوداء ، ومتع الحسن بن علي زوجته بعشرة آلاف درهم فقالت. متاع قليل من حبيب مفارق. وقال أبو حنيفة : مبلغها إذا اختلف الزوجان قدر نصف مهر مثلها لا يجاوز وقال أحمد في إحدى الروايتين عنه تتقدر بما تجزي فيه الصلاة وقال في الرواية الأخرى تتقدر بتقدير الحاكم ، والآية تدل على أن المتعة تعتبر بحال الزوج في اليسر والعسر وأنه مفوض إلى الاجتهاد لأنها كالنفقة التي أوجبها اللّه تعالى للزوجات ، وبين أن حال الموسر مخالف حال المعسر في ذلك. الفرع الرابع : ومن حكم الآية أن من تزوج امرأة بالغة برضاها على غير مهر صح النكاح ، ولها مطالبته بأن يفرض لها صداقا ، فإن دخل بها قبل الفرض فلها عليه مهر مثلها وإن طلقها قبل الفرض والدخول فلها المتعة. قوله عز وجل : ٢٣٧وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ يعني تجامعوهن وهذا في المطلقة بعد تسمية المهر وقبل الدخول حكم اللّه لها بنصف المهر ولا عدة عليها وهو قوله تعالى : وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً أي سميتم لهن مهرا فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي فلهن نصف المهر المسمى ، ومذهب الشافعي أن الخلوة من غير مسيس لا توجب إلا نصف المهر المسمى لأن المسيس إما حقيقة في المس باليد أو جعل كناية عن الجماع وأيهما كان فقد وجد الطلاق قبله. وقال أبو حنيفة : الخلوة الصحيحة تقرر المهر ومعنى الخلوة الصحيحة أن يخلو بها وليس هناك مانع حسي ولا شرعي ، فالحسي نحو الرتق والقرن أو يكون معهما ثالث ، والشرعي نحو الحيض والنفاس وصوم الفرض وصلاة الفرض والإحرام سواء كان فرضا أو نفلا ، والآية حجة لمذهب الشافعي ، قال شريح : لم أسمع اللّه ذكر في كتابه بابا ولا سترا إن زعم أنه لم يمسها فلها نصف الصداق ، وقال ابن عباس : إذا خلا بها ولم يمسها فلها نصف المهر. فرع : لو مات أحد الزوجين بعد التسمية وقبل المسيس فلها المهر كاملا وعليها العدة إن كان الزوج هو الميت. وقوله تعالى : إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ يعني النساء المطلقات والمعنى إلّا أن لا تترك المرأة نصيبها من الصداق فتهبه للزوج فيعود جميع الصداق إلى الزوج أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ فيه قولان : أحدهما أنه الولي وهو قول ابن عباس في رواية عنه والحسن وعلقمة وطاوس والشعبي والنخعي والزهري والسدي وبه قال الشافعي في القديم ومالك. والقول الثاني أنه الزوج ، وهو قول علي وابن عباس في الرواية الأخرى وجبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وابن جبير ومجاهد والربيع وقتادة ومقاتل والضحاك ومحمد بن كعب القرظي وهو قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد وأحمد وجمهور الفقهاء فعلى القول الأول يكون معنى الآية إلّا أن تعفو المرأة إذا كانت ثيبا بالغة من أهل العفو عن نصيبها للزوج أو يعفو وليها إذا كانت المرأة بكرا صغيرة أو غير جائزة التصرف فيجوز عفو وليها فيترك نصيبها للزوج وإنما يجوز عفو الولي بشروط وهي أن تكون بكرا صغيرة ويكون الولي أبا أو جدا لأن غيرهما لا يزوج الصغيرة وعلى القول الثاني أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج وصحح هذا القول الطبري والواحدي فيكون معنى الآية أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح يعني الزوج فيعطي المرأة الصداق كاملا لأن اللّه تعالى لما ذكر عفو المرأة عن النصف الواجب لها ذكر عفو الزوج عن النصف الساقط عنه فيحسن للمرأة أن تعفو ولا تطالب بشيء من الصداق وللرجل أن يعفو فيوفي لها المهر كاملا. وروي أن جبير بن مطعم تزوج امرأة ثم طلقها قبل الدخول بها فأكمل لها الصداق وقال أنا أحق بالعفو ، ولأن المهر حق المرأة فليس لوليها أن يهب من مالها شيئا ، فكذلك المهر لأنه مال لها وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى هذا خطاب للرجال والنساء جميعا وإنما غلب جانب التذكير لأن الذكورة هي الأصل والتأنيث فرع عنها والمعنى وعفو بعضكم عن بعض أيها الرجال والنساء أقرب إلى حصول التقوى وقيل هو خطاب للزوج والمعنى وليعف الزوج فيترك حقه الذي ساق من المهر إليها قبل الطلاق فهو أقرب للتقوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ يعني ليتفضل بعضكم على بعض فيعطي الرجل الصداق كاملا أو يترك المرأة نصيبها من الصداق حثهما جميعا على الإحسان ومكارم الأخلاق إِنَّ اللّه بِما تَعْمَلُونَ يعني من عفو بعضكم لبعض عما وجب له عليه من حق بَصِيرٌ أي لا يخفى عليه شيء من ذلك. قوله عز وجل : ٢٣٨حافِظُوا أي داوموا وواظبوا عَلَى الصَّلَواتِ يعني الخمس المكتوبات أمر اللّه عز وجل عباده بالمحافظة على الصلوات الخمس المكتوبات بجميع شروطها وحدودها وإتمام أركانها وفعلها في أوقاتها المختصة بها وَالصَّلاةِ الْوُسْطى تأنيث الأوسط ووسط كل شيء خيره وأعدله وقيل الوسطى يعني الفضلى من قولهم للأفضل أوسط وإنما أفردت وعطفت على الصلوات لانفرادها بالفضل وقيل سميت الوسطى لأنها أوسط الصلوات محلا. (فصل في ذكر اختلاف العلماء في الصلاة الوسطى) قد اختلف العلماء من الصحابة فمن بعدهم في الصلاة الوسطى على مذاهب : الأول أن الصلاة الوسطى هي صلاة الفجر ، وهو قول عمر وابن عمر وابن عباس ومعاذ وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد والربيع بن أنس ، وبه قال مالك والشافعي ، ويدل على ذلك أن مالكا بلغه أن علي بن أبي طالب وابن عباس كانا يقولان : الصلاة الوسطى صلاة الفجر أخرجه مالك في الموطأ ، وأخرجه الترمذي عن ابن عباس وابن عمر تعليقا. ولأنها بين صلاتي جمع فالظهر والعصر يجمعان وهما صلاتا نهار ، والمغرب والعشاء يجمعان وهما صلاتا ليل وصلاة الفجر لا تقصر ولا تجمع إلى غيرها ولأنها تأتي في وقت مشقة بسبب برد الشتاء وطيب النوم في الصيف وفتور الأعضاء إلى غيرها ولأنها تأتي في وقت مشقة بسبب برد الشتاء وطيب النوم في الصيف وفتور الأعضاء وكثرة النعاس وغفلة الناس عنها فخصت بالمحافظة عليها لكونها معرضة للضياع ولأن اللّه تعالى قال عقبها وَقُومُوا للّه قانِتِينَ والقنوت هو طول القيام وصلاة الفجر مخصوصة بطول القيام ولأن اللّه تعالى خصها بالذكر في قوله وقرآن الفجر إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً يعني تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار فهي مكتوبة في ديوان حفظة الليل وديوان حفظة النهار فدل ذلك على مزيد فضلها. المذهب الثاني أنها صلاة الظهر وهو قول زيد بن ثابت وأسامة بن زيد وأبي سعيد الخدري ورواية عائشة وبه قال عبيد اللّه بن شداد وهو رواية عن أبي حنيفة ويدل على ذلك ما روي عن زيد بن ثابت وعائشة قالا : الصلاة الوسطى صلاة الظهر ، أخرجه مالك في الموطأ عن زيد والترمذي عنهما تعليقا وأخرجه أبو داود عن زيد قال : (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منها فنزلت : حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وقال إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين ولأن صلاة الظهر تأتي وسط النهار وفي شدة الحر ولأنها تأتي بين البردين يعني صلاة الفجر وصلاة العصر. المذهب الثالث أنها صلاة العصر وهو قول علي وابن مسعود وأبي أيوب وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وأبي سعيد الخدري وعائشة ، وهو قول عبيدة السلماني والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة والضحاك والكلبي ومقاتل ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وداود وابن المنذر وقال الترمذي : هو قول أكثر الصحابة فمن بعدهم وقال الماوردي من أصحابنا : هذا مذهب الشافعي لصحة الأحاديث فيه قال وإنما نص على أنها الصبح لأنه لم تبلغه الأحاديث الصحيحة في العصر ومذهبه اتباع الحديث ويدل على صحة هذا المذهب ما روي عن علي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال يوم الأحزاب وفي رواية يوم الخندق (ملأ اللّه قلوبهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس) وفي رواية (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر) وذكر نحوه وزاد في أخرى (ثم صلاها بين المغرب والعشاء) أخرجاه في الصحيحين (م) عن ابن مسعود قال حبس المشركون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ اللّه أجوافهم وقبورهم نارا ، أو حشا اللّه أجوافهم وقبورهم نارا) عن سمرة بن جندب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (الصلاة الوسطى صلاة العصر) أخرجه الترمذي وله عن ابن مسعود مثله وقال في كل واحد منهما حسن صحيح (م) عن أبي يونس مولى عائشة قال أمرتني عائشة أن أكتب مصحفا وقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني : حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى قال فلما بلغتها آذنتها فأملت علي : (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا للّه قانتين) قالت عائشة سمعتها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ويروى عن حفصة نحو ذلك ، ولأن صلاة العصر تأتي وقت اشتغال الناس بمعايشهم فكان الأمر بالمحافظة عليها أولى ، ولأنها تأتي بين صلاتي نهار وهما الفجر والظهر وصلاتي ليل و هما المغرب والعشاء ، وقد خصت بمزيد التأكيد والأمر بالمحافظة والتغليظ لمن ضيعها ، ويدل على ذلك ما روي عن أبي المليح قال : كنا مع بريدة في غزوة فقال في يوم ذي غيم : بكروا بصلاة العصر فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) أخرجه البخاري. قوله بكروا بصلاة العصر أي قدموها في أول وقتها (ق) عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) قوله : وتر أي نقص وسلب أهله وماله فبقي فردا بلا أهل ولا مال ومعنى الحديث ليكن حذره من فوت صلاة العصر كحذره من ذهاب أهله وماله. المذهب الرابع أنها صلاة المغرب قاله قبيصة بن ذؤيب ، وحجة هذا المذهب أن صلاة المغرب تأتي بين بياض النهار وسواد الليل ولأنها أزيد من ركعتين كما في الصبح ، وأقل من أربع ، ولا تقصر في السفر وهي وتر النهار ، ولأن صلاة الظهر تسمى الأولى لأن ابتداء جبريل كان بها ، وإذا كانت الظهر أولى الصلوات كانت المغرب هي الوسطى. المذهب الخامس أنها صلاة العشاء ولم ينقل عن أحد من السلف فيها شيء ، وإنما ذكرها بعض المتأخرين ، وحجة هذا المذهب أنها متوسطة بين صلاتين لا تقصران وهما المغرب والصبح ولأنها أثقل صلاة على المنافقين. المذهب السادس أن الصلاة الوسطى هي إحدى الصلوات الخمس لا بعينها لأن اللّه تعالى أمر بالمحافظة على الصلوات الخمس ثم عطف عليها بالصلاة الوسطى ، وليس في الآية ذكر بيانها ، وإذا كان كذلك أمكن أن يقال في كل واحدة من الصلوات الخمس أنها هي الوسطى أبهمها اللّه على عباده مع ما خصها بمزيد التوكيد تحريضا لهم على المحافظة على أداء جميع الصلوات على صفة الكمال والتمام ولهذا السبب أخفى اللّه تعالى ليلة القدر في شهر رمضان وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة وأخفى اسمه الأعظم في جميع أسمائه ليحافظوا على ذلك كله. وهذا المذهب اختاره جمع من العلماء قال محمد بن سيرين إن رجلا سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال حافظ على الصلوات كلها تصبها وسئل الربيع ابن خيثم عن الصلاة فقال للسائل الوسطى واحدة منهن فحافظ على الكل تكن محافظا على الوسطى ثم قال أرأيت لو علمتها بعينها أكنت محافظا عليها ومضيعا سائرهن فقال السائل لا فقال الربيع إنك أن حافظت عليهن فقد حافظت على الوسطى. والصحيح من هذه الأقوال كلها قولان قول من قال إنها الصبح وقول من قال إنها العصر وأصح الأقوال كلها أنها العصر للأحاديث الصحيحة الواردة فيها واللّه تعالى أعلم. وقوله تعالى : وَقُومُوا للّه قانِتِينَ أي طائعين فهو عبارة عن إكمال الطاعة وإتمامها والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها قيل لكل أهل دين صلاة يقومون فيها عاصين فقوموا أنتم للّه في صلاتكم طائعين ، وقيل القنوت هو الدعاء والذكر بدليل : (أمن هو قانت) ولما أمر بالمحافظة على الصلوات وجب أن يحمل هذا القنوت على ما فيها من الذكر والدعاء فمعنى الآية وقوموا للّه داعين ذاكرين وقيل إنما خص القنوت بصلاة الصبح والوتر لهذا المعنى ، وقيل : القنوت هو السكوت عما لا يجوز التكلم به في الصلاة ، ويدل على ذلك ما روي عن زيد بن أرقم قال : (كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت : وَقُومُوا للّه قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) أخرجاه في الصحيحين ، وقيل : القنوت هو طول القيام في الصلاة ويدل عليه ما روي عن جابر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (أفضل الصلاة طول القنوت) أخرجه مسلم ومن القنوت أيضا طول الركوع والسجود وغض البصر والهدوء في الصلاة وخفض الجناح والخشوع فيها وكان العلماء إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه بشيء من أمور الدنيا إلّا ناسيا قوله عز وجل : ٢٣٩فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أي رجالة أَوْ رُكْباناً يعني على الدواب جمع راكب والمعنى إن لم يمكنكم أن تصلوا قانتين موفين حقوق الصلاة من إتمام الركوع والسجود والخضوع والخشوع لخوف عدو أو غيره فصلوا مشاة على أرجلكم أو ركبانا على دوابكم مستقبلي القبلة وغير مستقبليها وهذا في حال المقاتلة والمسايفة في وقت الحرب. وصلاة الخوف قسمان : أحدهما أن يكون في حال القتال وهو المراد بهذه الآية ، وقسم في غير حال القتال وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى : وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ وسيأتي الكلام عليها إن شاء اللّه تعالى في موضعه ، فإذا التحم القتال ولم يكن تركه لأحد فمذهب الشافعي أنهم يصلون ركبانا على الدواب ومشاة على الأرجل إلى القبلة وإلى غير القبلة يؤمنون بالركوع والسجود ويكون السجود أخفض من الركوع ويحترزون عن الصياح فإنه لا حاجة إليه ، وقال أبو حنيفة : لا يصلي الماشي بل يؤخر الصلاة ويقضيها لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أخر الصلاة يوم الخندق فصلى الظهر والعصر والمغرب بعد ما غربت الشمس فيجب علينا الاقتداء به في ذلك واحتج الشافعي لمذهبه بهذه الآية. وأجيب عن تأخير النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الصلاة يوم الخندق بأنه لم يكن نزل حكم صلاة الخوف وإنما نزل بعد فلما نزلت صلاة الخوف لم يؤخر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ذلك صلاة قط ، أما الخوف الحاصل لا في القتال بل بسبب آخر كالهارب من العدو أو قصده سبع هائج أو غشيه سيل يخاف على نفسه الهلاك لو صلى صلاة أمن فله أن يصلي صلاة شدة الخوف بالإيماء في حال العدو لأن قوله تعالى : فَإِنْ خِفْتُمْ مطلق يتناول الكل. فإن قلت : قوله تعالى : فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً يدل على أن المراد منه خوف العدو حال القتال. قلت هو كذلك إلّا أنه هناك ثابت لدفع الضرر ، وهذا المعنى موجود هنا فوجب أن يكون الحكم كذلك هاهنا وروي عن ابن عباس قال : (فرض اللّه الصلاة على لسان نبيكم صلّى اللّه عليه وسلّم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة) أخرجه مسلم ، وقد عمل بظاهر هذا جماعة من السلف منهم الحسن البصري وعطاء وطاوس بالعربية إسماعيل. تقول : سمع اللّه دعائي فلما كبر الغلام أسلمته لتعليم التوراة في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم وتبناه فلما بلغ الغلام أتاه جبريل عليه السلام وهو نائم إلى جانب الشيخ وكان الشيخ لا يأمن عليه أحدا فدعاه جبريل بلحن الشيخ يا أشمويل! فقام الغلام فزعا إلى الشيخ وقال : يا أبتاه رأيتك تدعوني فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع الغلام فقال يا بني ارجع فنم فنام ثم دعاه الثانية فقال الغلام : دعوتني فقال : نم فإن دعوتك فلا تجبني فلما كانت الثالثة ظهر له : جبريل عليه السلام وقال له اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن اللّه قد بعثك فيهم نبيا فلما أتاهم كذبوه وقالوا له استعجلت بالنبوة ولم تنلك وقالوا له إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه آية على نبوتك وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك أنبياءهم وكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي هو الذي يقيم له أمره ويشير عليه ويرشده ويأتيه بالخبر من ربه. قال وهب فبعث اللّه أشمويل نبيا فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان فذلك قوله تعالى : إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه جزم على جواب الأمر فلما قالوا له ذلك قالَ يعني قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هَلْ عَسَيْتُمْ هذا استفهام شك يقول لعلكم إِنْ كُتِبَ أي فرض عَلَيْكُمُ الْقِتالُ يعني مع ذلك الملك أَلَّا تُقاتِلُوا يعني لا تفوا بما قلتم وتجنبوا عن القتال معه قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّه. فإن قلت ما وجه دخول أن والعرب لا تقول ما لك أن لا تفعل كذا ولكن تقول ما لك لا تفعل كذا. قلت دخول أن وحذفها لغتان صحيحتان فالإثبات كقوله : ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ والحذف كقوله ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ وقيل معناه : وما لنا في أن لا نقاتل بحذف حرف الجر وقيل أن هنا زائدة ومعناه وما لنا لا نقاتل في سبيل اللّه وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا أي أخرج من غلب عليهم من ديارهم فظاهر الكلام العموم وباطنه الخصوص لأن الذين قالوا لنبيهم ابعث لنا ملكا كانوا في ديارهم وأبنائهم وإنما أخرج من أسر منهم ومعنى الآية أنهم قالوا لنبيهم إنا إنما كنا تركنا الجهاد لأنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يظهر علينا عدونا فأما إذا بلغ ذلك منا فنطيع ربنا في جهاد عدونا ونمنع نساءنا وأولادنا قال اللّه تعالى : فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ في الكلام حذف وتقديره فسأل اللّه ذلك النبي فبعث لهم ملكا وكتب عليهم القتال فلما كتب عليهم القتال تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الجهاد وضيعوا أمر اللّه إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ يعني لم يتولوا عن الجهاد هم الذين عبروا النهر مع طالوت واقتصروا على الغرفة على ما سيأتي في قصتهم إن شاء اللّه تعالى وَاللّه عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ يعني هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف أمر ربه ولم يف بما قال. قوله عز وجل : ٢٤٠قوله عز وجل: { والذين يتوفون منكم } يعني يا معشر الرجال { ويذرون أزواجاً } يعني زوجات { وصية لأزواجهم } قرئ بالنصب على معنى فليوصوا وصية وبالرفع على معنى كتب عليهم وصية { متاعاً إلى الحول } أي متعوهن متاعاً وقيل جعل اللّه لهن ذلك متاعاً والمتاع نفقة سنة لطعامها وكسوتها وما تحتاج إليه { غير إخراج } أي غير مخرجات من بيوتهن نزلت هذه الآية في رجل من أهل الطائف يقال له حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة ومعه أبواه وامرأته وله أولاد فمات فرفع ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه هذه الآية فأعطى النبي صلى اللّه عليه وسلم أبويه وأولاده ميراثه ولم يعط امرأته شيئاً وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً وكان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل اعتدت زوجته حولاً وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول وكانت نفقتها وسكناها واجبتين في مال زوجها تلك السنة وليس لها من الميراث شيء، ولكنها تكون مخيرة فإن شاءت اعتدت في بيت زوجها ولها النفقة والسكنى، وإن شاءت خرجت قبل تمام الحول وليس لها نفقة ولا سكنى، وكان يجب على الرجل أن يوصي بذلك فدلت هذه الآية على مجموع أمرين: أحدهما أن لها النفقة والسكنى من مال زوجها سنة والثاني أن عليها عدة سنة ثم إن اللّه تعالى نسخ هذين الحكمين، أما الوصية بالنفقة والسكنى فنسخ بآية الميراث فجعل لها الربع أو الثمن عوضاً عن النفقة والسكنى ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشراً. فإن قلت كيف نسخت الآية المتقدمة المتأخرة؟ قلت: قد تكون الآية المتقدمة متقدمة في التلاوة متأخرة في التنزيل كقوله تعالى: { سيقول السفهاء من الناس } [البقرة: ١٤٢] مع قوله تعالى: { قد نرى تقلب وجهك في السماء } [البقرة: ١٤٤] وقوله تعالى: { فإن خرجن فلا جناح عليكم } يعني يا معشر أولياء الميت { فيما فعلن في أنفسهن من معروف } يعني التزين للنكاح ولرفع الحرج عن الورثة وجهان: أحدهما أنه لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول. و الوجه الثاني لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج لأن مقامها في بيت زوجها حولاً غير واجب عليها خيرها اللّه تعالى بين أن تقيم في بيت زوجها حولاً ولها النفقة والسكنى وبين أن تخرج ولا نفقة لها ولا سكنى ثم نسخ اللّه ذلك بأربعة أشهر وعشراً { واللّه عزيز } أي غالب قوي في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه وتعدى حدوده { حكيم } يعني فيما شرع من الشرائع وبين من الأحكام ٢٤١قوله عز وجل: { وللمطلقات متاع بالمعروف } إنما أعاد اللّه تعالى ذكر المتعة هنا لزيادة معنى وهو أن في تلك الآية بيان حكم غير الممسوسة وفي هذه الآية بيان حكم جميع المطلقات في المتعة وقيل لأنه لما نزل قوله تعالى: { ومتعوهن على الموسع قدره } إلى قوله: { حقاً على المحسنين } قال رجل من المسلمين إن فعلت أحسنت وإن لم أرد أفعل فأنزل اللّه تعالى: { وللمطلقات متاع بالمعروف } فجعل المتعة لهن بلام التمليك وقال تعالى: { حقاً على المتقين } يعني المؤمنين الذين يتقون الشرك وقد تقدم أحكام المتعة. ٢٤٢وقوله تعالى: { كذلك يبين اللّه لكم آياته } يعني يبين لكم ما يلزم ويلزم أزواجكم أيها المؤمنون وكما عرفتكم أحكامي والحق الذي يجب لبعضكم على بعض في هذه الآيات كذلك أبين لكم سائر أحكامي في آياتي التي أنزلتها على محمد صلى اللّه عليه وسلم في هذا الكتاب { لعلكم تعقلون } أي لكي تعقلوا ما بينت لكم من الفرائض والأحكام وما فيه صلاحكم وصلاح دينكم ا هـ. قوله عز وجل: { ألم تر الذين الذين خرجوا من ديارهم } قال أكثر المفسرين: كانت قرية يقال لها داوردان وقع بها الطاعون فخرجت طائفة منها وبقيت طائفة فسلم الذين خرجوا وهلك أكثر من بقي بالقرية فلما ارتفع الطاعون رجع الذين خرجوا سالمين فقال الذين بقوا كان أصحابنا أحزم منا رأياً لو صنعا كما صنعوا لبقينا كما بقوا ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لا وباء فيها فرجع الطاعون من قابل فهرب عامة أهلها فخرجوا حتى نزلوا وادياً أفيح فلما نزلوا المكان الذين يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي وملك آخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعاً. (ق) عن عمر أنه خرج إلى الشام فلما جاء سرغ بلغه أن الوباء قد وقع بها فأخبره عبدالرحمن بن عوف أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: " إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فراراً منه " فحمد اللّه عمر ثم انصرف وقيل إنما فروا من الجهاد وذلك أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم فعسكروا ثم جنبوا وكرهوا الموت فاعتلوا وقالوا لملكهم إن الأرض التي تأتيها بها وباء فلا تخرج حتى ينقطع منها الوباء فأرسل اللّه عليهم الموت فخرجوا فراراً منه فلما رأى الملك ذلك قال: اللّهم رب يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك، فلما خرجوا قال لهم موتوا عقوبة لهم فماتوا وماتت دوابهم كموت رجل واحد فما أتى عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروحت أجسادهم فخرج الناس إليهم فعجزوا عن دفنهم فحظروا حظيرة دون السباع فذلك قوله تعالى: ٢٤٣{ ألم تر } أي ألم تعلم يا محمد بإعلامي إياك وهو من رؤية القلب قال أهل المعاني هو تعجيب له يقول هل رأيت مثل هؤلاء كما تقول ألم تر إلى صنيع فلان وكل ما في القرآن من قوله ألم تر ولم يعاينه النبي صلى اللّه عليه وسلم فهذا معناه قوله تعالى: { وهم ألوف } قيل هو من العدد واختلفوا في مبلغ عددهم فقيل ثلاثة آلاف وقيل عشرة آلاف وقيل بضع وثلاثون ألفاً وقيل أربعون ألفاً وقيل سبعون ألفاً وأصح الأقوال قول من قال إنهم كانوا زيادة على عشرة آلاف لأن اللّه تعالى قال: { هم ألوف } والألوف جمع الكثير وجمع القليل آلاف وقيل معنى وهم ألوف مؤتلفون جمع ألف والأول أصح قالوا فمر عليهم مدة فبليت أجسادهم وعريت عظامهم فمر عليهم حزقيل بن بوذى هو ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى. وذلك أن القيم بأمر بني إسرائيل بعد موسى كان يوشع بن نون ثم كان من بعده كالب بن يوقنا ثم قام من بعده حزقيل. وكان يقال له ابن العجوز لأن أمة كانت عجوزاً فسألت اللّه تعالى الولد بعدما كبرت وعقمت فوهب اللّه لها حزقيل ويقال له ذو الكفل سمي به لأن تكفل سبعين نبياً وأنجاهم من القتل فلما مر حزقيل على هؤلاء الموتى وقف عليهم وجعل يفكر فيهم فأوحى اللّه تعالى إليه أتريد أن أريك قال نعم يا رب فأحياهم اللّه تعالى وقيل دعا ربه حزقيل أن يحيهم فأحياهم اللّه تعالى وقيل أنهم كانوا قومه أحياهم اللّه تعالى بعد ثمانية أيام وذلك أنه لما أصابهم ذلك خرج في طلبهم فوجدهم موتى فبكى وقال يا رب كنت في قوم يعبدونك ويذكرونك فبقيت وحيداً لا قوم لي فأوحى اللّه إليه إني قد جعلت حياتهم إليك فقال حزقيل احيوا بإذن اللّه فعاشوا، وقيل إنهم قالوا حين أحيوا سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلاّ أنت ثم رجعوا إلى قومهم وعاشوا دهراً طويلاً وسحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوباً إلاّ عاد دنساً مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. قال ابن عباس: وإنها لتوجد اليوم تلك الريح في ذلك السبط من اليهود: قال قتادة: مقتهم اللّه على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة لهم ثم بعثهم اللّه ليستوفوا بقية آجالهم ولو جاءت آجالم لما بعثوا. فإن قلت كيف أميت هؤلاء مرتين في الدنيا وقد قال اللّه تعالى: { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } قلت إن موتهم كان عقوبة لهم كما قال قتادة وقيل إن موتهم وإحياءهم كان معجزة من معجزات ذلك النبي ومعجزات الأنبياء خوارق للعادات، ونوادر فلا يقاس فيكون قوله إلاّ الموتة الأولى عاماً مخصوصاً بمعجزات الأنبياء أي إلاّ الموتة الأولى التي ليست من معجزات الأنبياء ولا من خوارق العادات وفي هذه الآية احتجاج على اليهود ومعجزة عظيمة لنبينا صلى اللّه عليه وسلم حيث أخبرهم بأمر لم يشاهدوه وهم يعلمون صحة ذلك وفيه احتجاج على منكري البعث أيضاً إذ قد أخبر اللّه تعالى وهو الصادق في خبره أنه أماتهم ثم أحياهم في الدنيا فهو تعالى قادر على أن يحييهم يوم القيامة، وقوله تعالى: { حذر الموت } أي مخافة الطاعون وكان قد نزل بهم وقيل إنهم أمروا بالجهاد ففروا منه حذر الموت { فقال لهم اللّه موتوا } يحتمل أنهم ماتوا عند قوله تعالى { موتوا } ويحتمل أن يكون ذلك أمر تحويل فهو كقوله { كونوا قردة خاسئين } [البقرة: ٦٥] { ثم أحياهم } يعني بعد موتهم { إن اللّه لذو فضل على الناس } يعني أن اللّه تعالى تفضل على أولئك الذين أماتهم بإحيائهم لأنهم ماتوا على معصيته فتفضل عليهم بإعادتهم إلى الدنيا ليتوبوا وقيل هو على العموم فهو تعالى متفضل على كافة الخلق في الدنيا ويخص المؤمنين بفضله يوم القيامة { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } يعني أن أكثر من أنعم اللّه عليه لا يشكره أما الكافر فإنه لم يشكره أصلاً وأما المؤمنون فلم يبلغوا غاية شكره. ٢٤٤قوله عز وجل: { وقاتلوا في سبيل اللّه } قيل هو خطاب للذين أحيوا أحياهم اللّه ثم أمرهم بالجهاد فعلى هذا القول فيه إضمار تقديره وقيل لهم قاتلوا في سبيل اللّه وقيل هو خطاب لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ومعناه لا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء فلم ينفعهم ذلك ففيه تحريض للمؤمنين على الجهاد { واعلموا أن اللّه سميع } يعني لما يقوله المتعلل عن القتال { عليم } بما يضمره. ٢٤٥قوله عز وجل: { من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسناً } القرض اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه فسمى اللّه تعالى عمل المؤمنين له قرضاً على رجاء ما وعدهم به من الثواب لأنهم يعلمون لطلب الثواب، وقيل: القرض من ما أسلفت من عمل صالح أو شيء قال أمية بن أبي الصلت: كل امرئ سوف يجزى قرضه حسناً أو سيئاً أو مديناً كالذي دانا وأصل القرض في اللغة القطع سمي به لأن المقرض يقطع من ماله شيئاً فيعطيه ليرجع إليه مثله ومعنى الآية من ذا الذي يقدم لنفسه إلى اللّه ما يرجو ثوابه عنده وهذا تلطف من اللّه تعالى في استدعاء عباده إلى أعمال البر والطاعة وقيل في الآية اختصار تقديره من ذا الذي يقرض عباد اللّه والمحتاجين من خلقه فهو كقوله: { إن الذين يؤذون اللّه } [الأَحزاب: ٥٧] أي يؤذون عباد اللّه، وكما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " يقول اللّه تبارك وتعالى يوم القيامة يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ " الحديث، واختلفوا في المراد بهذا القرض، فقيل هو الإنفاق في سبيل اللّه، وقيل هو الصدقة الواجبة قيل صدقة التطوع لأن اللّه تعالى سماه قرضاً والقرض لا يكون إلاّ تبرعاً ولما روى الطبري بسنده عن ابن مسعود قال: لما نزلت: { من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسناً } قال أبو الدحداح وأن اللّه يريد منا القرض؟ قال النبي صلى اللّه عليه وسلم نعم يا أبا الدحداح قال: ناولني يدك فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي حائطاً فيه ستمائة نخلة ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها فناداها يا أم الدحداح قالت لبيك قال اخرجي من الحائط فإني قد أقرضته لربي، زاد غيره فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: " كم من عذق رداح لأبي الدحداح " وقيل في معنى يقرض اللّه أي ينفق في طاعته فيدخل فيه الواجب والتطوع وهو الأقرب حسناً يعني محتسباً طيبة به نفسه. ٢٤٦قوله عز وجل: { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل } الملأ أشراف القوم ووجوههم وأصله الجماعة من الناس لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط { من بعد موسى } أي من بعد موت أي من بعد زمنه منه { إذ قالوا } يعني أولئك الملأ { لنبي لهم } اختلفوا في ذلك النبي فقيل هو يوشع بن نون بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب وقيل هو شمعون بن صفية بن علقمة من ولد لاوي بن يعقوب وإنما سمي شمعون لأن أمه دعت اللّه أن يرزقها غلاماً فاستجاب اللّه لها فولدت غلاماً فسمته شمعون ومعناه سمع اللّه دعائي وتبدل السين بالعبرانية شيناً وقال أكثر المفسرين هو أشمويل بن يال وقيل: هو ابن هلفائي. قيل إنه من ولد هارون ومعرفة حقيقة ذلك النبي بعينه ليست مرادة من القصة إنما المراد منها الترغيب في الجهاد وذلك حاصل. ذكر الإشارة إلى القصة كان سبب مسألة أولئك الملأ لذلك النبي أنه لما مات موسى عليه السلام خلف من بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم أمر اللّه تعالى. ويحكم بالتوراة حتى قبضه اللّه تعالى. ثم خلف من بعده كالب بن يوقنا كذلك، ثم حزقيل كذلك، حتى قبضه اللّه تعالى فعظمت الأحداث بعده في بني إسرائيل ونسوا عهد اللّه حتى عبدوا الأصنام فبعث اللّه إليهم إلياس نبياً فدعاهم إلى اللّه تعالى، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى يبعثون إليهم ليجددوا ما نسوا من التوراة ويأمروهم بالعمل بأحكامها. ثم خلف من بعد إلياس اليسع فكان فيهم ما شاء اللّه تعالى ثم قبضه اللّه تعالى. ثم خلف من بعده خلوف وعظمت فيهم الخطايا وظهر لهم عدو يقال له البلثاثا وهم قوم جالوت وكانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم وسبوا كثيراً من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاماً، فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولقي بنو إسرائيل منهم بلاء وشدة ولم يكن لهم نبي يدبر أمرهم وكان سبط النبوة قد هلكوا كلهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها وجعلت المرأة تدعو اللّه أن يرزقها غلاماً فولدت غلاماً فسمته أشمويل ومعناه بالعربية إسماعيل. تقول: سمع اللّه دعائي فلما كبر الغلام أسلمته لتعليم التوراة في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم وتبناه فلما بلغ الغلام أتاه جبريل عليه السلام وهو نائم إلى جانب الشيخ وكان الشيخ لا يأمن عليه أحداً فدعاه جبريل بلحن الشيخ يا أشمويل! فقام الغلام فزعاً إلى الشيخ وقال: يا أبتاه رأيتك تدعوني فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع الغلام فقال يا بني ارجع فنم فنام ثم دعاه الثانية فقال الغلام: دعوتني فقال: نم فإن دعوتك فلا تجبني فلما كانت الثالثة ظهر له: جبريل عليه السلام وقال له اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن اللّه قد بعثك فيهم نبياً فلما أتاهم كذبوه وقالوا به استعجلت بالنبوة ولم تنلك وقالوا له إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل اللّه آية على نبوتك وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك أنبياءهم وكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي هو الذي يقيم له أمره ويشير عليه ويرشده ويأتيه بالخبر من ربه. قال وهب فبعث اللّه أشمويل نبياً فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان فذلك قوله تعالى: { إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل اللّه } جزم على جواب الأمر فلما قالوا له ذلك { قال } يعني قال النبي صلى اللّه عليه وسلم { هل عسيتم } هذا استفهام شك يقول لعلكم { إن كتب } أي فرض { عليكم القتال } يعني مع ذلك الملك { أن لا تقاتلوا } يعني لا تفوا بما قلتم وتجنبوا عن القتال معه { قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل اللّه }. فإن قلت ما وجه دخول أن والعرب لا تقول ما لك أن لا تفعل كذا ولكن تقول ما لك لا تفعل كذا. قلت دخول أن وحذفها لغتان صحيحتان فالإثبات كقوله: { ما لك أن لا تكون مع الساجدين } والحذف كقوله { ما لكم لا تؤمنون } وقيل معناه: وما لنا في أن لا نقاتل بحذف حرف الجر وقيل إن هنا زائدة ومعناه وما لنا لا نقاتل في سبيل اللّه { وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } أي أخرج من غلب عليهم من ديارهم فظاهر الكلام العموم وباطنه الخصوص لأن الذين قالوا لنبيهم ابعث ملكاً كانوا في ديارهم وأبنائهم وإنما أخرج من أسر منهم ومعنى الآية أنهم قالوا لنبيهم إنا إنما كنا تركنا الجهاد لأنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يظهر علينا عدونا فأما إذا بلغ ذلك منا فنطيع ربنا في جهاد عدونا ونمنع نساءنا وأولادنا قال اللّه تعالى: { فلما كتب عليهم القتال } في الكلام حذف وتقديره فسأل اللّه ذلك النبي فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فلما كتب عليهم القتال { تولوا } أي أعرضوا عن الجهاد وضيعوا أمر اللّه { إلا قليلاً منهم } يعني لم يتولوا عن الجهاد هم الذين عبروا النهر مع طالوت واقتصروا على الغرفة على ما سيأتي في قصتهم إن شاء اللّه تعالى { واللّه عليم بالظالمين } يعني هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف أمر ربه ولم يف بما قال. ٢٤٧وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً وذلك أن أشمويل سأل اللّه عز وجل أن يبعث لهم ملكا فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس ، وقيل له إن صاحبكم الذي يكون ملكا يكون طوله طول هذه العصا وانظر إلى القرن الذي فيه الدهن فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن في القرن فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه بالدهن وملكه عليهم واسم طالوت بالعبرانية ساول بن قيس من سبط بنيامين بن يعقوب. وإنما سمي طالوت لطوله وكان أطول من جميع الناس برأسه ومنكبيه وكان طالوت رجلا دباغا يدبغ الأديم قاله وهب وقيل كان سقاء يستقي الماء على حمار فضلّ حماره فخرج يطلبه. وقال وهب : ضلت حمر لأبي طالوت فأرسله أبوه ومعه غلام في طلبها فمر على بيت أشمويل النبي فقال الغلام لطالوت لو دخلنا على هذا النبي فسألناه عن أمر الحمر ليرشدنا أو ليدعو لنا فدخلا عليه فبينما هما عنده يذكران له حاجتهما إذ نش الدهن في القرن فقام أشمويل فقاس طالوت بالعصا فكانت على طوله فقال لطالوت قرب رأسك فقربه إليه فدهنه بدهن القدس. وقال له : أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني اللّه تعالى أن أملكك عليهم فقال طالوت أو ما علمت أن سبطي من أدنى أسباط بني إسرائيل قال : بلى قال فبأي آية قال بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره فكان كذلك ثم قال لبني إسرائيل إن اللّه قد بعث لكم طالوت ملكا وقيل إنه جلس عنده وقال يا أيها الناس إن اللّه ملك طالوت فأتت عظماء بني إسرائيل إلى نبيهم أشمويل وقالوا له : ما شأن طالوت تملك علينا وليس هو من بيت النبوة ولا المملكة وقد عرفت أن النبوة في سبط لاوي بن يعقوب والمملكة في سبط يهوذا بن يعقوب فقال لهم نبيهم أشمويل إن اللّه قد بعث لكم طالوت ملكا قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا أي من أين يكون له الملك وكيف يستحقه وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ إنما قالوا ذلك لأنه كان في بني إسرائيل سبطان سبط نبوة وسبط مملكة فسبط النبوة سبط لاوي بن يعقوب ومنه كان موسى وهارون عليهما السلام وسبط المملكة سبط يهوذا بن يعقوب ومنه كان داود وسليمان عليهما السلام ولم يكن طالوت من أحدهما. وإنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب فلهذا السبب أنكروا كونه ملكا لهم وزعموا أنهم أحق بالملك منه ثم أكدوا ذلك بقولهم وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ يعني أنه فقير والملك يحتاج إلى المال قالَ يعني أشمويل النبي إِنَّ اللّه اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ أي اختاره عليكم وخصه بالملك وفي هذه الآية دليل على بطلان قول من زعم من الشيعة أن الإمامة موروثة وذلك لأن بني إسرائيل أنكروا أن يكون ملكهم من لا يكون من بيت المملكة فرد اللّه عليهم وأعلمهم أن هذا شرط فاسد والمستحق للملك من خصه اللّه به وَزادَهُ بَسْطَةً أي فضيلة وسعة فِي الْعِلْمِ وذلك أنه كان من أعلم بني إسرائيل وقيل إنه أوحى إليه حين أوتي الملك وقيل هو العلم في الحرب وَالْجِسْمِ يعني بالطول وذلك لأنه كان أطول من الناس برأسه ومنكبيه وقيل بالجمال وكان طالوت من أجمل بني إسرائيل وقيل المراد به القوة لأن العلم بالحروب والقوة على الأعداء مما فيه حفظ المملكة وَاللّه يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ يعني أن اللّه تعالى لا اعتراض عليه لأحد في فعله فيخص بملكه من يشاء من عباده وَاللّه واسِعٌ يعني أن اللّه تعالى واسع الفضل والرزق والرحمة وسعت رحمته كل شيء ووسع فضله ورزقه كل خلقه والمعنى أنكم طعنتم في طالوت بكونه فقيرا واللّه واسع الفضل والرزق فإذا فوض إليه الملك فتح عليه أبواب الرزق والمال من فضله وسعته وقيل الواسع ذو السعة وهو الذي يعطي عن غنى عَلِيمٌ يعني أنه تعالى مع قدرته على إغناء الفقير عالم بما يحتاج إليه في تدبير نفسه وملكه والعليم هو العالم بما يكون وبما كان. قوله عز وجل : ٢٤٨وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ وذلك أنهم سألوا أشمويل النبي فقالوا ما آية ملكه فقال : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت. وكانت قصة التابوت على ما ذكره علماء السير والأخبار أن اللّه تعالى أنزل على آدم عليه السلام تابوتا فيه صور الأنبياء عليهم السلام وكان التابوت من خشب الشمشاد طوله ثلاثة أذرع في عرض ذراعين فكان عند آدم ثم صار إلى شيث ثم توارثه أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم عليه السلام ثم كان عند إسماعيل لأنه كان أكبر أولاده ثم صار إلى يعقوب ثم كان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى عليه السلام فكان يضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه ثم كان عنده إلى أن مات ثم تداوله أنبياء بني إسرائيل إلى وقت أشمويل وكان في التابوت ما ذكر اللّه تعالى وهو قوله : فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ واختلفوا في تلك السكينة ما هي فقال علي بن أبي طالب : هي ريح خجوج هفافة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان. وقال مجاهد : هي شيء يشبه الهرة له رأس كرأس الهرة وذنب كذنب الهرة وله جناحان ، وقيل له عينان لهما شعاع وجناحان من زمرد وزبرجد ، وكانوا إذا سمعوا صوته تيقنوا النصر ، فكانوا إذ خرجوا وضعوا التابوت قدامهم ، فإذا سار ساروا وإذا وقف وقفوا. وقال ابن عباس هي طشت من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء وقال وهب هي روح من اللّه تعالى تتكلم إذا اختلفوا في شيء فتخبرهم ببيان ما يريدون. وقال عطاء بن أبي رباح هي ما يعرفون من الآيات التي يسكنون إليها وقال قتادة والكلبي هي فعلية من السكون أي طمأنينة من ربكم ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا وسكنوا إليه وهذا القول أولى بالصحة فعلى هذا كل شيء كانوا يسكنون إليه فهو سكينة فيحمل على جميع ما قيل فيه لأن كل شيء يسكن إليه القلب فهو سكينة ولم يرد فيه نص صريح فلا يجوز تصويب قول وتضعيف آخر. وقوله تعالى : وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ يعني موسى وهارون أنفسهما بدليل قوله صلّى اللّه عليه وسلّم لأبي موسى الأشعري : (لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود) فالمراد به داود نفسه. واختلفوا في تلك البقية التي ترك آل موسى وآل هارون فقيل رضاض من الألواح وعصا موسى قاله ابن عباس وقيل عصا موسى وعصا هارون وشيء من ألواح التوراة وقيل كانت العلم والتوراة. وقيل كان فيه عصا موسى ونعلاه وعصا هارون وعمامته وقفيز من المن الذي ينزل على بني إسرائيل فكان التابوت عند بني إسرائيل يتوارثونه قرنا بعد قرن وكانوا إذا اختلفوا في شيء تحاكموا إليه فيتكلم ويحكم بينهم. وكانوا إذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم فينصرون فلما عصوا وأفسدوا سلط اللّه عز وجل عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وأخذوه منهم وكان السبب في ذلك أنه كان لعيلى وهو الذي ربي أشمويل ابنان شابان وكان عيلى حبر بني إسرائيل وصاحب قربانهم في زمنه فأحدث ابناه في القربان شيئا لم يكن فيه وذلك أنه كان منوط القربان الذي ينوطونه كلابين فما أخرجا كانا للكاهن الذي كانا ينوطه فجعل ابناه كلاليب. وكان النساء يصلين في بيت المقدس فيتشبثان بهن فأوحي إلى أشمويل : أن انطلق إلى عيلى وقل له منعك حب الولد من أن تزجر ابنيك عن أن يحدثا في قرباني وقدسي شيئا وأن يعصياني فلأنزعن الكهانة منك ومن ولدك ولأهلكنك وإياهما. فأخبره أشمويل بذلك ففزع وسار إليهم عدوهم من حولهم فأمر عيلى ابنيه أن يخرجا بالناس فيقاتلا ذلك العدو فخرجا وأخرجا معهما التابوت فلما تهيؤوا القتال جعل عيلى يتوقع الخبر فجاءه رجل فأخبره أن الناس قد انهزموا وقد قتل ابناه قال : فما فعل في التابوت قال أخذه العدو. وكان عيلى قاعدا على كرسيه فشهق ووقع على قفاه فمات فخرج أمر بني إسرائيل وتفرقوا إلى أن بعث اللّه طالوت ملكا فسألوا أشمويل البينة على صحة ملك طالوت فقال لهم نبيهم يعني أشمويل : إن آية ملكه يعني علامة ملكة التي تدل على صحته أن يأتيكم التابوت وكانت قصة رجوع التابوت على ما ذكره أصحاب الأخبار أن الذين أخذوا التابوت من بني إسرائيل أتوا به قرية من قرى فلسطين يقال لها أزدود فجعلوه في بيت أصنام لهم ووضعوه تحت الصنم الأعظم فأصبحوا من الغد والصنم تحته فأخذوه ووضعوه فوقه وسمروا قدمي الصنم على التابوت فأصبحوا وقد قطعت يد الصنم ورجلاه وأصبح الصنم ملقى تحت التابوت وأصبحت أصنامهم منكسة فأخرجوا التابوت من بيت الأصنام ووضعوه في ناحية من مدينتهم فأخذ أهل تلك الناحية وجع في أعناقهم حتى هلك أكثرهم. فقال بعضهم لبعض أليس قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء فأخرجوه إلى قرية أخرى فبعث اللّه على أهل تلك الناحية فأرة فكانت الفأرة تبيت مع الرجل فيصبح ميتا قد أكلت ما في جوفه. فأخرجوه إلى الصحراء ودفنوه في مخرأة لهم فكان كل من تبرز هناك أخذه الباسور والقولنج فتحيروا فيه فقالت لهم امرأة من بني إسرائيل كانت عندهم وهي من بنات الأنبياء : لا تزالون ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم فأخرجوه عنكم. فأتوا بعجلة بإشارة تلك المرأة وحملوا عليها التابوت ثم علقوها في ثورين وضربوا جنوبهما فأقبل الثوران يسيران ووكل اللّه بالثورين أربعة أملاك يسوقونهما فأقبلا حتى وقفا على أرض بني إسرائيل فكسرا نيريهما وقطعا حبالهما ووضعا التابوت في أرض فيها حصاد لبني إسرائيل ورجعا إلى أرضهما ما لم يرع بني إسرائيل إلا والتابوت عندهم فكبروا وحمدوا اللّه تعالى. تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ أي تسوقه. وقال ابن عباس جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت. وقال الحسن كان التابوت مع الملائكة في السماء فلما ولي طالوت الملك حملته الملائكة ووضعته بينهم. وقال قتادة بل كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع بن نون فبقي هناك فأقبلت الملائكة تحمله حتى وضعته في دار طالوت فأصبح في داره فأقروا بملكه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ يعني قال لهم نبيهم أشمويل إن في مجيء التابوت تحمله الملائكة لآية لكم يعني علامة ودلالة على صدقي فيما أخبرتكم أن اللّه قد بعث لكم طالوت ملكا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني مصدقين بذلك قال المفسرون فلما جاءهم التابوت وأقروا بالملك لطالوت تأهب للخروج إلى الجهاد فأسرعوا لطاعته وخرجوا معه وذلك قوله تعالى : ٢٤٩فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ أي خرج وأصل الفصل القطع يعني قطع مستقره شاخصا إلى غيره فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود وهم سبعون ألف مقاتل. وقيل ثمانون ألفا وقيل مائة وعشرون ألفا ولم يتخلف عنه إلا كبير لكبره أو مريض لمرضه أو معذور لعذره وذلك أنهم لما رأوا التابوت لم يشكوا في النصر فسارعوا إلى الخروج في الجهاد وكان مسيرهم في حر شديد فشكوا إلى طالوت قلة الماء بينهم وبين عدوهم وقالوا إن المياه لا تحملنا فادع اللّه أن يجري لنا نهرا قالَ طالوت إِنَّ اللّه مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ أي مختبركم به لتبين طاعتكم وهو أعلم بذلك قال ابن عباس هو نهر فلسطين وقيل هو نهر عذب بين الأردن وفلسطين فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أي فليس من أهل ديني وطاعتي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ أي لم يذقه يعني الماء فَإِنَّهُ مِنِّي يعني من أهل طاعتي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ قرئ بفتح الغين وضمها لغتان ، وقيل الغرفة بالضم التي تحصل في الكف من الماء والغرفة بالفتح الاغتراف فالضم اسم والفتح مصدر فَشَرِبُوا مِنْهُ يعني من النهر إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ قيل هم أربعة آلاف لم يشربوا منه وقيل ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا وهو الصحيح ويدل على ذلك ما روي عن البراء بن عازب قال : (كان أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم يتحدثون أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوزه معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة) أخرجه البخاري قيل البضع هنا ثلاثة عشر ، فلما وصلوا إلى النهر ألقي عليهم العطش فشرب منه الكل إلا هذا العدد القليل وكان من اغترف منه غرفة كما أمره اللّه تعالى كفته لشربه وشرب دوابه وقوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالما والذين شربوا منه وخالفوا أمر اللّه تعالى اسودت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وجبنوا وبقوا على شط النهر ولم يجاوزوه ، وقيل جاوزوه كلهم ولكن الذين شربوا لم يحضروا القتال وإنما قاتل أولئك القليل الذين لم يشربوا وهو قوله تعالى : فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ يعني جاوز النهر طالوت وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ يعني أولئك القليل قالُوا يعني الذين شربوا من النهر وخالفوا أمر اللّه تعالى وكانوا أهل شك ونفاق فعلى هذا يكون قد جاوز النهر مع طالوت المؤمن والمنافق والطائع والعاصي فلما رأوا العدو قال المنافقون لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ فأجابهم المؤمنون بقولهم كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً وقيل لم يجاوز النهر مع طالوت إلا المؤمنون خاصة لقوله تعالى : فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. فإن قلت فعلى هذا القول من القائل (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) قلت يحتمل أن يكون أهل الإيمان وهم الثلاثمائة وبضعة عشر انقسموا إلى قسمين قسم حين رأوا العدو وكثرته وقلة المؤمنين قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده فأجابهم القسم الآخر بقولهم) كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه واللّه مع الصابرين) ومعنى لا طاقة لنا لا قوة لنا اليوم بجالوت وجنوده قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أي يستيقنون ويعلمون أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللّه أي ملاقو ثواب اللّه ورضوانه في الدار الآخرة كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ الفئة الجماعة لا واحد له من لفظه كالرهط غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّه أي بقضاء اللّه وإرادته وَاللّه مَعَ الصَّابِرِينَ يعني بالنصر والمعونة. قوله عز وجل : ٢٥٠وَلَمَّا بَرَزُوا يعني طالوت وجنوده المؤمنين لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ يعني الكافرين ومعنى برزوا صاروا بالبراز من الأرض وهو ما ظهر واستوى منها قالُوا يعني المؤمنين أصحاب طالوت رَبَّنا أَفْرِغْ أي اصبب عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي قو قلوبنا لتثبت أقدامنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ وذلك أن جالوت وقومه كانوا يعبدون الأصنام فسأل المؤمنون اللّه أن ينصرهم على القوم الكافرين. ٢٥١فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّه يعني أن اللّه تعالى استجاب دعاء المؤمنين فأفرغ عليهم الصبر وثبت أقدامهم ونصرهم على القوم الكافرين حين التقوا فهزموهم بإذن اللّه يعني بقضائه وإرادته وأصل الهزم في اللغة الكسر أي كسروهم وردوهم وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وكانت قصة قتله ما ذكره أهل التفسير وأصحاب الأخبار أنه عبر النهر فيمن عبر مع طالوت أيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابنا له وكان داود أصغرهم وكان يرمي بالقذافة فقال داود لأبيه يوما يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئا إلّا صرعته ، فقال له أبوه أبشر يا بني فإن اللّه قد جعل رزقك في قذافتك ثم أتاه مرة أخرى فقال : يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبته وأخذت بأذنه فلم يهجني فقال له أبوه : أبشر يا بني فإن هذا خير يريده اللّه بك ، ثم أتاه يوما آخر فقال له : يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبح فلا يبقى جبل إلّا سبح معي فقال : يا بني أبشر فإن هذا خير أعطاكه اللّه تعالى. قالوا فأرسل جالوت الجبار إلى طالوت ملك بني إسرائيل أن ابرز إلي وأبرز إليك أو أبرز إلي من يقاتلني ، فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فشق ذلك على طالوت ونادى في عسكره من قتل جالوت زوجته ابنتي وناصفته ملكي فهاب الناس جالوت فلم يجبه أحد فسأل طالوت نبيهم أن يدعو اللّه في ذلك فدعا اللّه فأتي بقرن فيه دهن القدس وتنور حديد. وقيل له إن صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي إذا وضع هذا القرن على رأسه سال على رأسه حتى يدهن منرأسه ولا يسيل على وجهه بل يكون على رأسه كهيئة الإكليل ويدخل في هذا التنور فيملؤه ولا يتقلقل فيه فدعا طالوت بني إسرائيل وجربهم فلم يوافقه أحد منهم فأوحى اللّه إلى نبيهم إن في ولد إيشا من يقتل جالوت فدعا طالوت إيشا وقال له أعرض على بنيك فأخرج له اثني عشر رجلا أمثال السواري فجعل يعرض واحدا واحدا على القرن فلا يرى شيئا فقال لإيشا هل بقي لك ولد غير هؤلاء فقال لا؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يا رب إنه قد زعم أنه لا ولد غيرهم فقال له كذب فقال له النبي : إن ربي قد كذبك ، فقال إيشا : صدق ربي يا نبي اللّه إن لي ولدا صغيرا مسقاما اسمه داود استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته فجعلته في الغنم يرعاها وهو في شعب كذا وكان داود عليه السلام رجلا قصيرا مسقاما أزرق أمعر مصفرا فدعا به طالوت ويقال إنه خرج إليه فوجده في الوادي وقد سال الوادي ماء وهو يحمل شاتين شاتين يعبر بهما السيل إلى الزريبة التي يريح فيها غنمه ، فلما رآه طالوت قال هذا هو الرجل المطلوب لا شك فيه فهذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم ، فدعاه طالوت ووضع القرن على رأسه فنش وفاض فقال له طالوت هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي وأجري خاتمك في ملكي قال نعم فقال له : هل أنست من نفسك شيئا تتقوى به على قتله قال نعم أنا أرعى الغنم فيجيء الأسد أو النمر أو الذئب فيأخذ شاة من الغنم فأقوم فأفتح لحييه عنها وأخرجها من قفاه ، فأخذ طالوت داود ورده إلى العسكر ، فمر داود عليه السلام في طريقه بحجر فناداه يا داود احملني فإني حجر هارون فحمله ثم مر بحجر آخر. فقال يا داود احملني فإني حجر موسى فحمله ثم مر بحجر آخر فقال له : يا داود احملني فإني حجرك الذي تقتل به جالوت ، فحمله فوضع الثلاثة في مخلاته ، فلما رجع طالوت إلى العسكر ومعه داود وتصافوا للقتال برز جالوت يطلب المبارزة فانتدب له داود عليه السلام فأعطى داود فرسا وسلاحا فلبس السلاح وركب الفرس وسار قريبا ثم رجع إلى طالوت فقال من حوله : جبن الغلام فجاء فوقف على طالوت فقال له ما شأنك فقال له داود عليه السلام إن لم ينصرني ربي لم يغن هذا السلاح عني شيئا وإن نصرني فلا حاجة لي به فدعني أقاتل كما أريد قال نعم فأخذ داود مخلاته وتقلدها وأخذ المقلاع بيده ومضى نحو جالوت وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده وكان له بيضة حديد وزنها ثلاثمائة رطل فلما نظر إلى داود وهو يريده وقع الرعب في قلبه فقال له : جالوت وأنت تبرز لي قال : نعم وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام فقال : اتيتني بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب فقال : نعم وأنت شر من الكلب. قال جالوت : لا جرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض وطير السماء ، فقال داود عليه السلام : أو يقسم اللّه لحمك ، ثم قال داود : باسم إله إبراهيم ، وأخرج حجرا ثم قال باسم إله إسحاق وأخرج حجرا ثم قال باسم إله يعقوب وأخرج حجرا ووضعها في مقلاعه فصارت الثلاثة حجرا واحدا ، وأدار داود المقلاع ورمي به جالوت فسخر اللّه له الريح فحملت الحجر حتى أصاب أنف البيضة فخلط دماغ جالوت وخرج من قفاه وقتل من ورائه ثلاثين رجلا ، وخر جالوت صريعا قتيلا ، فأخذ داود يجره حتى ألقاه بين يدي طالوت ففرح بنو إسرائيل بذلك فرحا شديدا وهزم اللّه الجيش فرجع طالوت بالناس إلى المدينة سالمين غانمين وجعل الناس يذكرون داود فجاء داود إلى طالوت وقال له. أنجز لي ما وعدتني به فقال له أتريد ابنة الملك بغير صداق فقال له داود ما شرطت علي صداقا وليس لي شيء فقال : لا أكلفك إلّا ما تطيق أنت رجل جريء وفي حيالنا أعداء لنا غلف فإن قتلت مائتي رجل وجئتني بغلفهم زوجتك ابنتي فأتاهم فجعل كلما قتل واحدا منهم نظم غلفته في خيط حتى نظم مائتي غلفة فجاء بها إلى طالوت وألقاها بين يديه وقال ادفع إلي امرأتي فزوجه ابنته وأجرى خاتمه في ملكه ، فمال الناس إلى داود عليه السلام وأحبوه وأكثروا ذكره فحسده طالوت وأراد قتله فأخبر بذلك ابنة طالوت رجل يقال له ذو العينين فأخبرت بذلك داود وقالت له : إنك مقتول الليلة قال ومن يقتلني قالت : أبي قال : وهل أجرمت جرما يوجب القتل قالت حدثني بذلك من لا يكذب ولا عليك أن تغيب الليلة حتى تنظر مصداق ذلك فقال إن كان يريد ذلك فلا أستطيع خروجا ولكن ائتني بزق خمر فأتته به فوضعه في مضجعه على سريره وسجاه ودخل داود تحت السرير فدخل طالوت نصف الليل فقال لابنته أين بعلك قالت هو نائم على سريره فضربه بالسيف فسال الخمر فلما وجد ريح الخمر قال يرحم اللّه داود ما كان أكثر شربه للخمر وخرج ، فلما أصبح علم أنه لم يفعل شيئا فقال : إن رجلا طلبت منه ما طلبت لحقيق أن لا يدعني حتى يدرك ثأره مني فاشتد حجابه وحراسه وأغلق دونه أبوابه ، ثم إن داود أتاه ليلة وقد هدأت العيون وأعمى اللّه عنه الحجاب ففتح الأبواب ودخل عليه وهو نائم على فراشه ، فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وسهما عن يمينه وسهما عن شماله وخرج فاستيقظ طالوت فبصر بالسهام فعرفها فقال يرحم اللّه داود هو خير مني ظفرت به فقصدت قتله وظفر بي فكف عني ولو شاء لوضع هذا السهم في حلقي وما أنا بالذي آمنه فلما كان من الليلة القابلة أتاه ثانيا فأعمى اللّه عنه الحجاب فدخل عليه وهو نائم فأخذ إبريق وضوئه وكوزه الذي يشرب منه وقطع شعرات من لحيته وشيئا من طرف ثوبه ثم خرج وتوارى ، فلما أصبح طالوت ورأى ذلك سلط على داود العيون وطلبه أشد ، الطلب فلم يقدر عليه. ثم إن طالوت ركب يوما فوجد داود يمشي في البرية فقال اليوم أقتله وركض في أثره فاشتد داود في عدوه. وكان إذا فزع لم يدرك فدخل غارا فأوحى اللّه تعالى إلى العنكبوت فنسجت عليه فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال : لو كان دخل هنا لتخرق هذا النسج وانطلق طالوت وتركه فخرج داود حتى أتى جبل المتعبدين فتعبد معهم وطعن العلماء والعباد على طالوت في شأن داود فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن قتل داود إلّا قتله فقتل خلقا كثيرا من العباد والعلماء حتى أتى بامرأة تعلم الاسم الأعظم فأمر خبازه بقتلها فرحمها الخباز فلم يقتلها ، وقال : لعلنا نحتاج إلى عالم فتركها ثم وقع في قلب طالوت التوبة والندم على ما فعل وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس. وكان كل ليلة يخرج إلى القبور ويبكي وينادي أنشد اللّه عبدا يعلم لي توبة إلّا أخبرني بها فلما كثر ذلك منه ناداه مناد من القبور : يا طالوت أما ترضى أن قتلتنا حتى تؤذينا أمواتا فازداد حزنا وبكاء فتوجه الخباز إلى طالوت لما رأى من حاله وقال : ما لك أيها الملك فأخبره وقال هل تعلم لي توبة أو تعلم في الأرض عالما أسأله عن توبتي فقال له الخباز أيها الملك إن دللتك على عالم يوشك أن تقتله فقال لا فتوثق منه باليمين فأخبره أن تلك المرأة العالمة عنده. فقال : انطلق بي إليها لأسألها عن توبتي قال نعم فانطلق به فلما قربا من الباب قال له الخباز. أيها الملك إنها إذا رأتك فزعت ولكن ائت خلفي فلما دخلا عليها قال لها الخباز : يا هذه ألست تعلمين حقي عليك؟ قالت : بلى قال فإن لي إليك حاجة فتقضيها قالت نعم قال هذا طالوت قد جاءك يسأل هل له من توبة فلما سمعت بذكر طالوت غشى عليها فلما أفاقت قالت واللّه ما أعلم له توبة ولكن دلوني على قبر نبي فانطلقوا بها إلى قبر أشمويل فوقفت عليه ودعت وكانت تعلم الاسم الأعظم ثم قالت يا صاحب القبر فخرج ينفض التراب عن رأسه فلما نظر إلى ثلاثتهم قال : ما لكم أقامت القيامة قالت المرأة لا ولكن هذا طالوت قد جاء يسألك هل له من توبة فقال أشمويل : يا طالوت ما فعلت بعدي قال لم أدع من الشر شيئا إلّا فعلته وجئت أطلب التوبة فقال أشمويل يا طالوت كم لك من الولد قال عشرة رجال قال ما أعلم لك من توبة إلّا أن تتخلى من ملكك وتخرج أنت وولدك في سبيل اللّه ثم تقدم ولدك حتى يقتلوا بين يديك ثم تقاتل أنت حتى تقتل آخرهم. ثم إن أشمويل سقط ميتا ورجع طالوت أحزن ما كان رهبة أن لا يتابعه بنوه على ما يريد. وكان قد بكى حتى سقطت أشفار عينيه ونحل جسمه فجمع أولاده وقال لهم : أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تنقذونني منها فقالوا بلى ننقذك بما نقدر عليه قال : فإنها النار إن لم تفعلوا ما آمركم به قالوا : اعرض علينا ما أردت فذكر لهم القصة قالوا : وإنك لمقتول قال نعم قالوا فلا خير لنا في الحياة بعدك قد طابت أنفسنا بالذي سألت. فتجهز هو وولده وخرج طالوت مجاهدا في سبيل اللّه فتقدم أولاده فقاتلوا حتى قتلوا ثم شد هو من بعدهم فقاتل حتى قتل وجاء قاتل طالوت إلى داود فبشره بقتله وقال له : قد قتلت عدوك فقال داود : ما أنت بباق بعده وقتله فكان ملك طالوت إلى أن قتل مدة أربعين سنة فأتى بنو إسرائيل إلى داود فملكوه عليهم وأعطوه خزائن طالوت. قال الكلبي والضحاك ملك داود بعد قتل جالوت سبع سنين ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلّا على داود فذلك قوله تعالى : وَآتاهُ اللّه الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ يعني النبوة جمع اللّه لداود بين الملك والنبوة ولم يكن كذلك من قبل بل كانت النبوة في سبط والملك في سبط وقيل الحكمة هي العلم مع العمل به وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ أي وعلم اللّه داود صنعة الدروع فكان يصنعها ويبيعها وكان لا يأكل إلّا من عمل يده ، وقيل علمه منطق الطير وقيل علمه الزبور وقيل هو الصوت الطيب والألحان ولم يعط اللّه أحدا من خلقه مثل صوت داود فكان إذا قرأ الزبور تدنو منه الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها وتظله الطير مصيخة له ويركد الماء الجاري وتسكن الرياح عند قراءته ، وقيل علمه سياسة الملك وضبطه ، وذلك لأنه لم يكن من بيت الملك حتى يتعلمه من آبائه ، وقال ابن عباس هو أن اللّه تعالى أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة ورأسها عند صومعته قوتها قوة الحديد ولونها لون النور وحلقها مستديرة مفصلة بالجوهر مدسرة بقضبان اللؤلؤ الرطب فكان لا يحدث في الهواء حدث إلّا صلصلت السلسلة فيعلم داود ذلك الحدث ولا يمسها ذو عاهة إلّا برىء. وكانوا يتحاكمون إليهما بعد داود إلى أن رفعت فمن تعدى على صاحبه أو أنكره حقا أتى السلسلة فمن كان صادقا مديده إلى السلسلة فنالها ومن كان كاذبا لم ينلها فكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخبث. فبلغنا أن بعض ملوكهم أودع رجلا جوهرة ثمينة ، فلما طالبه بالوديعة أنكره إياها فتحاكما إلى السلسلة ، فعمد الذي عنده الجوهرة إلى عكازه فنقرها وجعل الجوهرة فيها واعتمد عليها حتى أتيا السلسلة فقال صاحب الجوهرة : رد على الوديعة فقال صاحبه ما أعرف لك عندي وديعة فإن كنت صادقا فتناول السلسلة فتناولها بيده وقال للمنكر قم أنت أيضا فتناولها فقال لصاحب الجوهرة أمسك عكازتي فأخذها الرجل منه وقام المنكر إلى السلسلة وقال : اللّهم إن كنت تعلم أن الوديعة التي يدعيها قد وصلت إليه فقرب السلسلة مني ومد يده فتناولها فعجب القوم من ذلك وشكوا فيها فأصبحوا وقد رفع اللّه السلسلة. قوله تعالى : وَلَوْلا دَفْعُ اللّه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يعني ولو أن اللّه يدفع ببعض الناس وهم أهل الإيمان والطاعة بعضا وهم أهل الكفر والمعاصي قال ابن عباس ولولا دفع اللّه بجنوده المسلمين لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين وخربوا المساجد والبلاد وقيل معناه ولو دفع اللّه بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ يعني لهلكت بمن فيها ولكن اللّه يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر روى أحمد بن حنبل عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إن اللّه ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء) ثم قرأ وَلَوْلا دَفْعُ اللّه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللّه ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ يعني إن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام وإفضال عم الناس كلهم. ٢٥٢تِلْكَ آياتُ اللّه يعني القصص التي اقتصها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره بالآية وهي التابوت وإهلاك الجبابرة على يد صبي نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ يعني حيث تخبر بهذه الأخبار العجيبة والقصص القديمة من غير أن تعرف بقراءة كتاب ولا سماع أخبار فدل ذلك على أنك من المرسلين وأن الذي تخبر به وحي من اللّه تعالى. ٢٥٣قوله عز وجل : تِلْكَ الرُّسُلُ يعني جماعة الرسل الذين تقدم ذكرهم في هذه السورة فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فيه دليل على زوال الشبهة لمن أوجب التسوية بين الأنبياء في الفضيلة لاستوائهم في القيام بالرسالة وأجمعت الأمة على أن الأنبياء بعضهم أفضل من بعض وأن نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أفضلهم لعموم رسالته وهو قوله تعالى : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً مِنْهُمْ أي من الرسل مَنْ كَلَّمَ اللّه أي كلمة اللّه وهو موسى عليه السلام وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم رفع اللّه منصبه ومرتبته على كافة سائر الأنبياء بما فضله عليهم من الآيات البينات والمعجزات الباهرات فما أوتي نبي من الأنبياء آية أو معجزة إلّا أوتي نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم مثل ذلك وفضل محمد صلّى اللّه عليه وسلّم على غيره من الأنبياء بآيات ومعجزات أخر مثل انشقاق القمر بإشارته وحنين الجذع الذي حن عند مفارقته وتسليم الحجر والشجر عليه وكلام البهائم له شاهدة برسالته ونبع الماء من بين أصابعه وغير ذلك من الآيات والمعجزات التي لا تحصى كثرة ، وأعظمها وأظهرها معجزة وآية القرآن العظيم الذي عجز أهل الأرض عن معارضته والإتيان بمثله فهو معجزة باقية إلي يوم القيامة (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ما من نبي من الأنبياء إلّا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه اللّه إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) (ق) عن جابر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) (م) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلائق كافة وختم بي النبيون) فإن قلت لم ذكره على سبيل الرمز والإشارة ولم يصرح باسمه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ قلت : في هذا الإبهام والرمز من تفخيم فضله وإعلاء قدره صلّى اللّه عليه وسلّم ما لا يخفى لما فيه من الشهادة بأنه العلم الذي لا يشتبه ولا يلتبس فهو كما يقول الرجل وقد فعل شيئا فعله بعضكم أو أحدكم ويريد نفسه فيكون أفخم من التصريح به كما سئل الخطيئة : من أشعر الناس؟ قال زهير والنابغة. ثم قال ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه وقوله تعالى : وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ يعني الحجج والأدلة الباهرة والمعجزات على نبوته مثل إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أي وقويناه بجبريل عليه السلام فكان معه إلى أن رفعه إلى عنان السماء السابعة. فإن قلت لم خص موسى وعيسى بالذكر من بين سائر الأنبياء قلت لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ولقد بين اللّه تعالى وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية عظيمة وتأييد عيسى بروح القدس آية عظيمة أيضا فلما أوتي موسى وعيسى من الآيات العظيمة خصا بالذكر في باب التفضيل فعلى هذا كل من كان من الأنبياء أعظم آيات وأكثر معجزات كان أفضل ولهذا أحرز نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم قصبات السبق في الفضل لأنه أعظم الأنبياء آيات وأكثرهم معجزات فهو أفضلهم صلّى اللّه عليه وسلّم وعليهم أجمعين وَلَوْ شاءَ اللّه أي ولو أراد اللّه وأصل المشيئة الإرادة مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني بعد الرسل الذين وصفهم اللّه مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الدلالات الواضحات من اللّه بما فيه مزدجر لمن هداه اللّه تعالى ووفقه وَلكِنِ اخْتَلَفُوا يعني اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ أي ثبت على إيمانه باللّه ورسوله بفضل اللّه وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ أي ومنهم من تعمد الكفر بعد قيام الحجة وبعثة الرسل وَلَوْ شاءَ اللّه مَا اقْتَتَلُوا أي ولو أراد اللّه أن يحجزهم عن الاقتتال والاختلاف لحجزهم عن ذلك وَلكِنَّ اللّه يَفْعَلُ ما يُرِيدُ يعني أنه تعالى يوفق من يشاء لطاعته والإيمان به فضلا منه ورحمة ويخذل من يشاء عدلا منه لا اعتراض عليه في ملكه وفعله. سأل رجل عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه عن القدر فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر فقال طريق مظلم فلا تسلكه فأعاد السؤال فقال بحر عميق فلا تلجه فأعاد السؤال فقال : سر اللّه قد خفي عليك فلا تفتشه. قوله عز وجل : ٢٥٤يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ قيل أراد به الزكاة الواجبة وقيل أراد به صدقة التطوع والإنفاق في وجوهالخير مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ أي لا فدية فيه وإنما سماه بيعا لأن الفداء شراء النفس من الهلاك ، والمعنى قدموا لأنفسكم اليوم من أموالكم من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه فيكسب الإنسان ما يفتدي به من العذاب وَلا خُلَّةٌ أي ولا مودة ولا صداقة وَلا شَفاعَةٌ وظاهر هذا يقتضي نفي الخلة والشفاعة وقد دلت النصوص على ثبوت المودة والشفاعة ، بين المؤمنين فيكون هذا عاما مخصوصا وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها. ٢٥٥قوله عز وجل : اللّه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. (فصل : في فضل هذه الآية الكريمة) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي) أخرجه الترمذي. قوله : إن لكل شيء سناما. سنام كل شيء أعلاء تشبيها بسنام البعير والمراد منه تعظيم هذه السورة والسيد الفاضل في قومه والشريف والكريم وأصله من ساد يسود وقوله هي سيدة أي القرآن أي أفضله. (م) عن أبي بن كعب قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب اللّه معك أعظم؟ قلت : اللّه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فضرب في صدري وقال : ليهنك العلم يا أبا المنذر) عن واثلة بن الأسقع : (أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان أي آية في القرآن أعظم؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اللّه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ أخرجه أبو داود. وقال العلماء : إنما تميزت آية الكرسي بكونها أعظم آية في القرآن لما جمعت من أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والقومية والملك والقدرة والإرادة ، فهذه أصول الأسماء والصفات ، وذلك لأن اللّه تعالى أعظم مذكور فما كان ذكرا له من توحيد وتعظيم كان أعظم الأذكار وفي هذا الحديث حجة لمن يقول بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض وتفضيله على سائر كتب اللّه المنزلة ، ومنع من جواز تفضيل بعض القرآن على بعض جماعة منهم أبو الحسن الأشعري وأبو بكر الباقلاني قالا لأن تفضيل بعضه على بعض يقتضي نقص المفضول ، وليس في كلام اللّه عز وجل نقص وتأول هؤلاء ما ورد من إطلاق لفظ أعظم وأفضل على بعض الآيات أو السور بمعنى عظيم وفاضل ، ومن أجاز تفضيل بعض القرآن على بعض من العلماء والمتكلمين قالوا : هذا التفضيل راجع إلى عظم أجر القارئ أو جزيل ثوابه وقول : إن هذه الآية أو هذه السورة أعظم أو أفضل بمعنى أن الثواب المتعلق بها أكثر وهذا هو المختار وهو معنى الحديث واللّه أعلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من قرأ حين يصبح آية الكرسي وآيتين من أول حم تنزيل الكتاب من اللّه العزيز العليم حفظ يومه ذلك حتى يمسي ومن قرأها حين يمسي حفظ ليلته تلك حتى يصبح) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. وأما التفسير فقوله عز وجل : اللّه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ نفي الإلهية عن كل ما سواه وأثبت الإلهية له سبحانه وتعالى فهو كقولك لا كريم إلّا زيد فإنه أبلغ من قولك زيد كريم الحي يعني الباقي على الأبد الدائم بلا زوال ، والحي في صفة اللّه تعالى وهو الذي لم يزل موجودا وبالحياة موصوفا لم تحدث له الحياة بعد موت ولا يعتريه الموت بعد حياة ، وسائر الأحياء سواء يعتريهم الموت والعدم فكل شيء هالك إلّا وجهه سبحانه وتعالى. القيوم قال مجاهد : القيوم القائم على كل شيء وتأويله أنه تعالى قائم بتدبير خلقه في إيجادهم وأرزاقهم وجميع ما يحتاجون إليه وقيل وهو القائم الدائم بلا زوال الموجود الذي يمتنع عليه التغير وقيل هو القائم على كل نفس بما كسبت والقيوم فيعول من القيام وهو نعت للقائم على الشيء لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ السنة ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمى نعاسا وهو النوم الخفيف والوسنان بين النائم واليقظان والنوم هو الثقل المزيل للعقل والقوة. وقيل : السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب فالسنة هي أول النوم والنوم هو غشية ثقيلة تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء والمعنى لا تأخذه سنة فضلا عن أن يأخذه نوم لأن النوم والسهو والغفلة محال على اللّه تعالى لأن هذه الأشياء عبارة عن عدم العلم وذلك نقص وآفة واللّه تعالى منزه عن النقص والآفات ، وأن ذلك تغير واللّه تعالى منزه عن التغير ، (م) عن أبي موسى الأشعري قال : (قام فينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خطيبا بخمس كلمات فقال إن اللّه عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور). وفي رواية : (النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). شرح ما يتعلق بلفظ هذا الحديث منقول من شرح مسلم للشيخ محيي الدين النووي قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (إن اللّه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام) فمعناه الإخبار أنه سبحانه وتعالى لا ينام وأنه مستحيل في حقه لأن النوم انغمار وغلبة على العقل يسقط به الإحساس واللّه تعالى منزه عن ذلك وقوله : (يخفض القسط ويرفعه) أراد بالقسط الميزان الذي يقع به العدل ومعناه أن اللّه تعالى يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن فيه من أعمال العباد المرتفعة إليه وقيل أراد بالقسط الرزق الذي هو قسط كل مخلوق ومعنى يخفض يقبض ويضيق على من يشاء ويرفعه أي يوسعه على من يشاء وقوله : (يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار) يعني أن الحفظة من الملائكة يصعدون بأعمال العباد في الليل بعد انقضائه في أول النهار ، ويصعدون بأعمال النهار بعد انقضائه في أول الليل قوله : (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) سبحات بضم السين المهملة والباء الموحدة تحت وبضم التاء في آخره جمع سبحة ، ومعنى سبحات وجهه نوره وجلاله وبهاؤه والحجاب أصله في اللغة المنع وحقيقة الحجاب إنما تكون للأجسام المحدودة واللّه تعالى منزه عن الجسم والحد ، فالمراد به هنا الشيء المانع من الرؤية ، وسمي ذلك الشيء المانع نورا أو نارا لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة ، والمراد بالوجه الذات ، والمراد بما انتهى إليه بصره من خلقه جميع المخلوقات لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات ولفظة من في قوله من خلقه لبيان الجنس لا للتبعيض ومعنى الحديث لو زال المانع وهو الحجاب المسمى نورا أو نارا وتجلى لخلقه لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته هذا آخر كلام للشيخ على هذا الحديث واللّه أعلم. وروى الطبري بسنده عن ابن عباس في قوله : لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ إن موسى عليه السلام سأل الملائكة هل ينام اللّه تعالى؟ فأوحى اللّه تعالى إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام ففعلوا ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما فجعل ينعس وينتبه وهما في يده في كل يد واحدة حتى نعس نعسة فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما قال معمر إنما هو مثل ضربة اللّه تعالى له يقول فكذلك السموات والأرض ، ورواه عن أبي هريرة مرفوعا قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحكي عن موسى على المنبر قال : (وقع في نفس موسى هل ينام اللّه) وذكر نحو حديث ابن عباس قال بعض العلماء : إن صح هذا الحديث فيحمل على أن هذا السؤال كان من جهال قوم موسى كطلب الرؤية من موسى لأن الأنبياء عليهم السلام هم أعلم باللّه من غيرهم فلا يجوز أن ينسب لموسى مثل هذا السؤال واللّه تعالى أعلم. قوله تعالى : لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني أن اللّه تعالى مالك جميع ذلك بغير شريك ولا منازع وهو خالقهم وهم عبيده وفي ملكه. فإن قلت لم قال له ما في السموات ولم يقل من في السموات؟ قلت : لما كان المراد إضافة كل ما سواه إليه من الخلق والملك وكان الغالب فيهم من لا يعقل أجرى الغالب مجرى الكل فعبر عنه بلفظ ما مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي بأمره وهذا استفهام إنكاري والمعنى لا يشفع عنده أحد إلّا بأمره وإرادته ، وذاك لأن المشركين زعموا أن الأصنام تشفع لهم فأخبر أنه لا شفاعة لأحد عنده إلّا ما استثناه بقوله إِلَّا بِإِذْنِهِ يريد بذلك شفاعة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وشفاعة بعض الأنبياء والملائكة وشفاعة المؤمنين بعضهم لبعض يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ يعني ما بين أيديهم من الدنيا وما خلفهم من الآخرة وقيل بعكسه لأنهم يقدمون على الآخرة ويخلفون الدنيا وراء ظهورهم وقيل يعلم ما كان قبلهم وما كان بعدهم وقيل يعلم ما قدموه بين أيديهم من خير أو شر وما خلفهم مما هم فاعلوه والمقصود من هذا أنه سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيء من أحوال جميع خلقه وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ يقال : أحاط بالشيء إذا علمه وهو أن يعلم وجوده وجنسه وقدره وحقيقته ، فإذا علمه ووقف عليه وجمعه في قلبه فقد أحاط به والمراد بالعلم المعلوم والمعنى أن أحدا لا يحيط بمعلومات اللّه تعالى : إِلَّا بِما شاءَ يعني أن يطلعهم عليه وهم من الأنبياء والرسل ليكون ما يطلعهم عليه من علم غيبه دليلا على نبوتهم كما قال تعالى : (فلا يظهر على غيبه أحدا إلّا من ارتضى من رسول) وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يقال فلان وسع الشيء سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به وأصل الكرسي في اللغة من تركب الشيء بعضه على بعض ومنه الكراسة لتركب بعض أوراقها على بعض والكرسي في العرف اسم لما يقعد عليه سمي به لتركب خشباته بعضها على بعض. واختلفوا في المراد بالكرسي هنا على أربعة أقوال : أحدها أن الكرسي هو العرش نفسه قال الحسن لأن العرش والكرسي اسم للسرير الذي يصح التمكن عليه. القول الثاني أن الكرسي غير العرش وهو أمامه وهو فوق السموات السبع ودون العرش قال السدي إن السموات والأرض في جوف الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة وعن ابن عباس أن السموات السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس وقيل إن كل قائمة من قوائم الكرسي طولها مثل السموات والأرض وهو بين يدي العرش ويحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة وجوه وأقدامهم على الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى : ملك على صورة أبي البشر آدم وهو يسأل الرزق والمطر لبني آدم من السنة إلى السنة ، وملك على صورة النسر وهو يسأل الرزق للطير من السنة إلى السنة ، وملك على صورة الثور وهو يسأل الرزق للأنعام من السنة إلى السنة وملك على صورة السبع وهو يسأل الرزق للوحوش من السنة إلى السنة. وفي بعض الأخبار أن بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجابا من ظلمة وسبعين حجابا من نور غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام لولا ذلك لاحترقت حملة الكرسي من نور حملة العرش. القول الثالث : إن الكرسي هو الاسم الأعظم لأن العلم يعتمد عليه. كما أن الكرسي يعتمد عليه قال ابن عباس كرسيه علمه. القول الرابع : المراد بالكرسي الملك والسلطان والقدرة لأن الكرسي موضع الملك والسلطان فلا يبعد أن يكنى عن الملك بالكرسي على سبيل المجاز وَلا يَؤُدُهُ أي لا يثقله ولا يجهده ولا يشق عليه حِفْظُهُما أي حفظ السموات والأرض وَهُوَ الْعَلِيُّ أي الرفيع فوق خلقه الذي ليس فوقه شيء فيما يجب له أن يوصف به من معاني الجلال والكمال فهو العلي بالإطلاق المتعالي عن الأشباه والأنداد والأضداد وقيل العلي بالملك والسلطنة والقهر فلا أعلى منه أحد وقيل معنى العلو في صفة اللّه تعالى منقول إلى اقتداره وقهره واستحقاق صفات المدح جميعها على كل وجه وقيل معناه أنه يعلو أن يحيط به وصف الواصفين الْعَظِيمُ يعني أنه ذو العظمة والكبرياء الذي لا شيء أعظم منه. وقال ابن عباس : العظيم الذي قد كمل في عظمته وقيل العظيم هو ذو العظمة والجلال والكمال وهو في صفة اللّه تعالى ينصرف إلى عظم الشأن وجلالة القدر دون العظم الذي هو من نعوت الأجسام. قوله عز وجل : ٢٥٦لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ سبب نزول هذه الآية فيما يروى عن ابن عباس قال : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة وهي التي لا يعيش لها ولد فكانت تنذر لئن عاش لها ولد ، لتهودنه فإذا عاش جعلته في اليهود فجاء الإسلام وفيهم منهم ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عدد من أولاد الأنصار فأرادت الأنصار استردادهم وقالوا هم أبناؤنا وإخواننا فنزلت الآية لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فأجلوهم معهم وقيل : كان لرجل من الأنصار. من بني سالم بن عوف يقال له أبو الحصين ابنان متنصران قبل مبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الزيت فلزمهما أبوهما وقال لا أدعكما حتى تسلما فاختصموا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقال : يا رسول اللّه أيدخل بعضي النار وأنا انظر فأنزل اللّه تعالى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ فخلى سبيلهما وقيل نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا بذل الجزية لم يكرهوا على الإسلام وذلك أن العرب كانت أمة أمية ولم يكن لهم كتاب يرجعون إليه فلم يقبل منهم إلّا الإسلام أو القتل ونزل في أهل الكتاب لا إكراه في الدين يعني إذا قبلوا الجزية فمن أعطى الجزية منهم لم يكره على الإسلام فعلى هذا القول تكون الآية محكمة ليست بمنسوخة وقيل : بل الآية منسوخة وكان ذلك في ابتداء الإسلام قبل أن يؤمروا بالقتال ثم نسخت بآية القتال وهو قول ابن مسعود وقال الزهري سألت زيد بن أسلم عن قول اللّه تعالى لا إكراه في الدين قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين فأبى المشركون إلّا أن يقاتلوه فاستأذن اللّه في قتالهم فأذن له ومعنى لا إكراه في الدين أي دين الإسلام ليس فيه إكراه عليه قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ يعني ظهر ووضح وتميز الحق من الباطل والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الآيات والبراهين الدالة على صحته فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ يعني الشيطان ، وقيل : هو الساحر والكاهن ، وقيل هو كل ما عبد من دون اللّه تعالى ، وقيل : كل ما يطغي الإنسان فهو طاغوت فاعول من الطغيان وَيُؤْمِنْ بِاللّه أي ويصدق باللّه أنه ربه ومعبوده من دون كل شيء كان يعبده وفيه إشارة إلى أنه لا بد للكافر أن يتوب أولا عن الكفر ويتبرأ منه ثم يؤمن بعد ذلك باللّه فمن فعل ذلك صح إيمانه وهو قوله تعالى : فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أي فقد تمسك و اعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين والوثقى تأنيث الأوثق وقيل العروة الوثقى السبب الذي يوصل إلى رضا اللّه تعالى وهو دين الإسلام لَا انْفِصامَ لَها أي لا انقطاع لها حتى تؤديه إلى الجنة والمعنى أن المتمسك بالدين الصحيح الذي هو دين الإسلام كالمتمسك بالشيء الوثيق الذي لا يمكن كسره ولا انقطاعه وَاللّه سَمِيعٌ يعني أنه تعالى يسمع قول من كفر بالطاغوت وأتى بالشهادتين عَلِيمٌ بما في قلبه من الإيمان وقيل معناه سميع لدعائك إياهم إلى الإسلام عليم بحرصك على إسلامهم. قوله عز وجل : ٢٥٧اللّه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أي ناصرهم ومعينهم وقيل محبهم ومتولي أمورهم فلا يكلهم إلى غيره وقيل هو متولي هدايتهم يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من الكفر إلى الإيمان وكل ما في القرآن من ذكر الظلمات والنور ، فالمراد به الكفر والإيمان غير الذي في سورة الأنعام وهو قوله تعالى وجعل الظلمات والنور ، فالمراد به الليل والنهار وإنما سمي الكفر ظلمة لالتباس طريقه ولأن الظلمة تحجب الأبصار عن إدراك الحقائق فكذلك الكفر يحجب القلوب عن إدراك حقائق الإيمان وسمي الإسلام نورا لوضوح طريقه وبيان أدلته وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يعني كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وسائر رؤوس الضلالة يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أي من الهدى إلى الضلالة. فإن قلت : كيف قال يخرجونهم من النور إلى الظلمات وهم كفار لم يكونوا في نور قط؟ قلت : هم اليهود كانوا موقنين بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وصحة نبوته قبل أن يبعث لما يجدون في كتبهم من نعته وصفته فلما بعث كفروا به وجحدوا نبوته وقيل : هو على العموم في حق جميع الكفار سمي منع الطاغوت إياهم عن الدخول فيه إخراجا من الإيمان بمعنى صدهم الطاغوت عنه وحرمهم خيره وإن لم يكونوا دخلوا فيه قط فهو كقول الرجل لأبيه أخرجتني عن مالك إذا أوصى به لغيره في حياته وحرمه منه وكقول اللّه تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام : (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون باللّه) ولم يكن قط في ملتهم أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يعني الكفار والطاغوت أهل النار الذين يخلدون فيها دون غيرهم. ٢٥٨قوله عز وجل : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ يعني هل انتهى إليك يا محمد خبر الذي خاصم إبراهيم وجادله لأن ألم تر كلمة يوقف بها المخاطب على تعجب منها ولفظها استفهام كما يقال ألم تر إلى فلان كيف يصنع معناه هل رأيت فلانا في صنعه والذي حاج إبراهيم هو نمرود بن كنعان الجبار وهو أول من وضع التاج على رأسه وتجبر في الأرض وادعى الربوبية أَنْ آتاهُ اللّه الْمُلْكَ أي لأن آتاه اللّه الملك فطغى وتجبر بسببه وكانت تلك المحاجة من بطر الملك وطغيانه قال مجاهد ملك الأرض أربعة مؤمنان وكافران فأما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين ، وأما الكافران فنمرود ، وبختنصر. واختلفوا في وقت هذه المحاجة فقيل : لما كسر إبراهيم الأصنام سجنه نمرود ثم أخرجه ليحرقه فقال له : من ربك الذي تدعونا إليه؟ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت وقيل : كان هذا بعد إلقائه في النار وذلك أن الناس قحطوا على عهد نمرود ، وكان الناس يمتارون من عنده الطعام فكان إذا أتاه أحد يمتار سأله من ربك؟ فيقول أنت فيميره فخرج إبراهيم عليه السلام إليه يمتار لأهله الطعام فأتاه فقال له من ربك قال ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم : (فإن اللّه يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر) فرده بغير طعام فرجع إبراهيم إلى أهله فمر على كثيب رمل أعفر فأخذ منه تطييبا لقلوب أهله إذا دخل عليهم فلما أتى أهله وضع متاعه ثم نام فقامت زوجته سارة إلى رحله ففتحته فإذا هو طعام أجود ما رآه أحد فصنعت منه خبزا فلما انتبه قربته إليه فقال لها إبراهيم من أين هذا؟ وكان عهد أهله وليس عندهم طعام فقالت من الطعام الذي جئت به فعلم إبراهيم أن اللّه قد رزقه فحمد اللّه تعالى : ثم إن اللّه تعالى بعث إلى نمرود الجبار ملكا فقال له إن ربك يقول لك أن آمن بي وأتركك في ملكك قال وهل رب غيري فجاءه الثانية فقال له مثل ذلك ثم أتاه الثالثة فرد عليه مثل ذلك فقال له الملك أجمع جموعك فجمع الجبار جموعه فأمر اللّه الملك ففتح عليه بابا من البعوض حتى سترت الشمس فلم يروها فبعثها اللّه عليهم فأكلت لحومهم وشربت دماءهم فلم يبق إلّا العظام ونمرود ينظر ولم يصبه شيء من ذلك ثم بعث اللّه عليه بعوضة فدخلت في منخره فمكثت في رأسه أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق وكان أرحم الناس به من يجمع له يديه ثم يضرب بهما رأسه فكان كذلك يعذب أربعمائة سنة مدة ملكه حتى أماته اللّه عز وجل : إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ هذا جواب سؤال غير مذكور تقديره قال له نمرود من ربك قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قالَ يعني قال نمرود أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قال أكثر المفسرين دعا نمرود برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر فجعل ترك القتل إحياء فانتقل إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم إلى حجة أخرى لا عجزا عن نصر حجته الأولى فإنها كانت لازمة لأنه أراد بالإحياء إحياء الميت فكان لإبراهيم أن يقول لنمرود فأحيي من أمت إن كنت صادقا ولكن انتقل إلى حجة أخرى أوضح من الأولى لما رأى من قصور فهم نمرود وضعف رأيه فإنه عارض الفعل بمثله ونسي اختلاف الفعلين قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللّه يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ يعني تحير نمرود ودهش وانقطعت حجته ولم يرجع إليه شيئا وعرف أنه لا يطيق ذلك. فإن قلت كيف بهت الذي كفر وكان يمكنه أن يقول لإبراهيم سل أنت ربك حتى يأتي بها من المغرب قلت إنما لم يقله لأنه خاف أنه لو سأل ذلك دعا إبراهيم ربه فكان ذلك زيادة في فضيحة نمرود وانقطاعه وقيل إن اللّه تعالى صرفه عن تلك المعارضة إظهارا للحجة عليه ومعجزة لإبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم وهو الصحيح وَاللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني لا يرشدهم إلى حجة يدحضون بها حجج أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة وعنى بالظالمين نمرود. قول عز وجل : ٢٥٩أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ هذه معطوفة على الآية التي قبلها والمعنى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية فيكون هذا عطفا على المعنى وقيل تقديره هل رأيت كالذي حاج إبراهيم وهل رأيت كالذي مر على قرية وقيل الكاف زائدة التقدير ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو إلى الذي مر على قرية واختلفوا في ذلك المار فروى عن مجاهد أنه كان كافرا شك في البعث وهذا قول ضعيف لقوله تعالى : قالَ كَمْ لَبِثْتَ واللّه تعالى لا يخاطب الكافر ولقوله تعالى : وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وهذا اللفظ لا يستعمل في حق الكافر وإنما يستعمل في حق الأنبياء وقال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي هو عزيز بن شرخيا وقال وهب بن منبه هو أرمياء بن حلقيا من سبط هارون وهو الخضر ومقصود القصة تعريف منكري البعث قدرة اللّه تعالى على إحياء خلقه بعد إماتتهم لا تعريف اسم ذلك المار على القرية فجائز أن يكون ذلك المار هو عزيز وجائز أن يكون أرمياء وفي هذه القصة دلالة عظيمة بنبوة نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه أخبر اليهود بما يجدونه في كتبهم ويعرفونه وهو أمي لم يقرأ الكتب القديمة واختلفوا في تلك القرية فقيل هي بيت المقدس وذلك لما خربها بختنصر والمراد بالإحياء هنا عمارتها وقيل هي القرية التي أهلك اللّه أهلها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف وقيل وهي دير سابرآباد وقيل سلماباد وقيل هي دير هرقل وقيل قرية العنب هي على فرسخين من بيت المقدس وقوله هي دير سابراباد موضع كان بفارس وسلماباد محلة أو قرية من نواحي جرجان وقيل : أيضا من نواحي همدان ودير هرقل بكسر أوله وراء ساكنة وقاف مكسورة دير مشهور بين البصرة وعسكر مكرم. وقيل : هو موضع الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف فأماتهم اللّه تعالى ثم أحياهم لحزقيل كما تقدم ويقال إن المراد بقوله تعالى : أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها هي التي عندها أحيا اللّه حمار عزير وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة على سقوفها وذلك أن السقوف سقطت أولا وقفت الحيطان عليها بعد ذلك قالَ يعني ذلك المار أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها فمن قال إن ذلك المار كان كافرا وهو ضعيف إنما حمله على الشك في قدرة اللّه ومن قال كان نبيا حمله على سبيل الاستبعاد بحسب مجاري العرف والعادة لا على سبيل الإنكار لقدرة اللّه تعالى أو كان المقصود منه طلب زيادة الدلائل لأجل التأكيد كما قال إبراهيم عليه السلام : (رب أرني كيف تحيي الموتى) ومعنى أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللّه من أين يحيي هذه القرية والمراد بالإحياء عمارتها فأحب اللّه أن يريه آية في نفسه وفي إحياء تلك القرية. وكان سبب القصة في ذلك ما روي عن وهب بن منبه أن اللّه تعالى بعث أرمياء إلى ناشية بن أموص ملك بني إسرائيل ليسدده ويأتيه بالخبر من اللّه تعالى فعظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي فأوحى اللّه تعالى إلى أرمياء أن ذكر قومك نعمي عليهم وعرفهم أحداثهم وادعهم إلي فقال أرمياء يا رب إني ضعيف إن لم تقوني عاجز إن لم تبلغني مخذول إن لم تنصرني فقال اللّه تعالى : إني ألهمك فقام أرمياء فيهم ولم يدر ما يقول ، فألهمه اللّه تعالى في الوقت خطبة بليغة طويلة بين لهم فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية وقال في آخرها عن اللّه عز وجل إني أحلف بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحكيم ولأسلطن عليهم جبارا فارسيا ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم ثم أوحى اللّه تعالى إليه إني مهلك بني إسرائيل بيافث ويافث هم أهل بابل وهم من ولد يافث بن نوح فلما سمع أرمياء ذلك صاح وبكى وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه فلما رأى اللّه تضرعه وبكاءه ناداه يا أرمياء أشق عليك ما أوحيت إليك قال نعم يا رب أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل مالا أسربه فقال اللّه عز وجل : وعزتي وجلالي لا أهلك بني إسرائيل حتى يكون الأمر في ذلك من قبلك ففرح أرمياء بذلك وطابت نفسه وقال : لا والذي بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بني إسرائيل ، ثم أتى الملك فأخبره بذلك وكان ملكا صالحا فاستبشر وفرح وقال إن يعذبنا ربنا فبذنوبنا وإن يعف عنا فبرحمته ثم إنهم مكثوا بعد ذلك الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلّا معصية وتماديا في الشر فقل الوحي وذلك حين اقترب هلاكهم فدعاهم الملك إلى التوبة فلم يفعلوا فسلط اللّه عليهم بختنصر البابلي فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس فلما فصل سائرا وأتى الخبر إلى ملك بني إسرائيل قال لأرمياء : أين ما زعمت أن اللّه تعالى أوحى إليك فقال أرمياء : إن اللّه لا يخلف الميعاد وأنا به واثق فلما قرب الأجل بعث اللّه تعالى إلى أرمياء ملكا قد تمثل له في صورة رجل من بني إسرائيل فقال له أرمياء من أنت قال أنا رجل من بني إسرائيل أتيتك أستفتيك في أهل رحمي وصلت أرحامهم ولم آت إليهم إلّا حسنا ولا يزيدهم إكرامي إياهم إلّا سخطا لي فأفتني فيهم فقال أرمياء : أحسن فيما بينك وبين اللّه وصلهم وأبشر بخير فانصرف الملك فمكث أياما ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل فقعد بين يديه فقال له أرمياء من أنت قال أنا الرجل الذي أتيتك أستفتيك في شأن أهلي فقال له أرمياء أما طهرت أخلاقهم بعدلك فيهم فقال يا نبي اللّه والذي بعثك بالحق نبيا ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى رحمه إلّا قدمتها إليهم وأفضل فقال أرمياء : ارجع إليهم فأحسن إليهم واسأل اللّه الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم فقام الملك فمكث أياما ثم إن بختنصر نزل بجنوده بيت المقدس ففزع منهم بنو إسرائيل فقال ملكهم لأرمياء يا نبي اللّه أين ما وعدك اللّه فقال إني بربي واثق ثم أقبل ذلك الملك إلى أرمياء وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده فقعد بين يديه فقال له أرمياء من أنت قال أنا الذي جئتك في شأن أهلي مرتين فقال أرمياء : أما آن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه فقال الملك يا نبي اللّه إن كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه فاليوم رأيتهم على عمل لا يرضي اللّه تعالى فقال له أرمياء : على أي عمل رأيتهم؟ قال على عمل عظيم يسخط اللّه تعالى فغضبت للّه عز وجل فأتيتك لأخبرك وأنا أسألك باللّه الذي بعثك بالحق أن تدعو اللّه عليهم ليهلكوا فقال أرمياء : يا مالك السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام إن كانوا على حق وصواب فأبقهم وإن كانوا على عمل لا ترضاه فأهلكهم فما خرجت الكلمة من فيه حتى أرسل اللّه عز وجل صاعقة من السماء على بيت المقدس فالتهب مكان القربان وأحرقت سبعة أبواب من أبوابه ، فلما رأى ذلك أرمياء صاح وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال يا مالك السموات والأرض أين ميعادك الذي وعدتني به فنودي أنهم لم يصبهم ما أصابهم إلّا بفتياك ودعائك عليهم ، فاستيقن أرمياء أنها فتياه وأن ذلك السائل كان رسولا من اللّه تعالى إليه فخرج أرمياء حتى خالط الوحوش ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ووطئ الشام ، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس وأمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ويقذفه في بيت المقدس ففعلوا ذلك حتى ملؤوه ثم أمرهم أن يجمعوا من كان بقي في بلدان بيت المقدس فاجتمع عنده من كان بقي من بني إسرائيل من صغير وكبير فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة. وكان في أولئك الغلمان دانيال عليه السلام وحنانيا وعزير ، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق فثلثا قتلهم وثلثا سباهم وثلثا أقرهم بالشام فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزلها اللّه ببني إسرائيل بظلمهم فلما ولى بختنصر راجعا إلى بابل ومعه سبايا بني إسرائيل أقبل أرمياء على حمار له ومعه عصير عنب في ركوة وسلة تين حتى غشي إيليا وهي أرض بيت المقدس فلما رأى خرابها قال : أنى يحيي هذه اللّه بعد موتها. ومن قال : إن المار كان عزيرا قال : إن بختنصر لما خرب بيت المقدس بسبايا بني إسرائيل وكان فيهم عزيز ودانيال وسبعة آلاف من أهل بيت داود ، فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حمار حتى نزل دير هرقل على شط دجلة فطاف بالقرية فلم ير أحدا وعامة شجرها حامل فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب فشرب منه وجعل فضل الفاكهة في سلة وفضل العصير في زق ، ولما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال أنى يحيي هذه اللّه بعد موتها وإنما قال ذلك تعجبا لا شكا في البعث. ورجعنا إلى حديث وهب قال ثم إن أرمياء ربط حماره بحبل جديد وألقى اللّه تعالى عليه النوم فلما نام ونزع اللّه منه الروح فمات مائة عام وأمات حماره وبقي عصيره وتينه عنده وأعمى اللّه عنه العيون فلم يره أحد وذلك ضحى ومنع لحمه من السباع والطير ، فلما مضى من وقت موته مدة سبعين سنة أرسل اللّه تعالى ملكا إلى ملك من ملوك فارس يقال له نوشك وقال له : إن اللّه يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا حتى يعود أعمر ما كان فانتدب الملك ألف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثمائة ألف عامل وجعلوا يعمرونه وأهلك اللّه بختنصر ببعوضة دخلت في دماغه ونجى اللّه من بقي من بني إسرائيل وردهم جميعا إلى بيت المقدس ونواحيها فعمروها ثلاثين سنة وكثروا كأحسن ما كانوا ، فلما مضت المائة أحيا اللّه منه عينيه وسائر جسده ميت ثم أحيا اللّه جسده وهو ينظر ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه تلوح بيض متفرقة فسمع صوتا من السماء أيتها العظام البالية إن اللّه يأمرك أن تجتمعي فاجتمع بعضها إلى بعض ، ثم نودي إن اللّه يأمرك أن تكتسي لحما وجلدا فكان كذلك ، ثم نودي إن اللّه يأمرك أن تحيي فقام الحمار بإذن اللّه ثم نهق وعمر اللّه أرمياء فهو يدور في الفلوات فذلك قوله تعالى : فَأَماتَهُ اللّه مِائَةَ عامٍ أصل العام من العوم وهو السباحة سميت السنة عاما لأن الشمس تعوم في جميع بروجها ثُمَّ بَعَثَهُ أي ثم أحياه وأصله من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها قالَ كَمْ لَبِثْتَ يعني قال اللّه تعالى له كم قدر الزمان الذي مكثت فيه ميتا قبل أن أبعثك من مكانك حيا؟ ويقال إن اللّه تعالى لما أحياه بعث إليه ملكا فسأله كم لبثت قالَ يعني ذلك المبعوث بعد مماته لَبِثْتُ يَوْماً وذلك أن اللّه تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة سنة في آخر النهار قبل أن تغيب الشمس فقال لبثت يوما وهو يرى أن الشمس قد غابت ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال : أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ يعني قال اللّه له ، وقيل قال الملك له بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ يعني التين الذي كان معه قبل موته وَشَرابِكَ يعني العصير لَمْ يَتَسَنَّهْ يعني لم تغيره السنون التي أتت عليه فكان التين كأنه قد قطف من ساعته والعصير كأنه قد عصر من ساعته لم يتغير ولم ينتن وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ أي وانظر إلى إحياء حمارك فنظر فإذا هو عظام بيض فركب اللّه تعالى العظام بعضها على بعض ثم كساه اللحم والجلد وأحياه وهو ينظر وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ قيل الواو زائدة مقحمة وقيل : دخول الواو فيه دلالة على أنها شرط لفعل بعدها والمعنى وفعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء لنجعلك آية للناس يعني عبرة ودلالة على البعث بعد الموت. وقال أكثر المفسرين وقيل : إنه عاد إلى القرية وهو شاب أسود الرأس واللحية وأولاده وأولاد أولاده شيوخ وعجائز شمط فكان ذلك آية للناس وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً قرئ بالراء ومعناه كيف نحييها يقال أنشر اللّه الميت إنشارا يعني أحياه وقرئ بالزاي ومعناه : كيف نرفعها من الأرض ونردها إلى مكانها من الجسد ، وتركيب بعضها على بعض وإنشاز الشيء رفعه وانزعاجه يقال : نشزته فنشز أي رفعته فارتفع واختلفوا في معنى الآية فقال الأكثرون إنه أراد عظام الحمار قيل إن اللّه تعالى أحيا عزيرا أو أرميا على اختلاف القولين فيه ثم قال : له : انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه ، فنظر وبعث اللّه ريحا فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ، فاجتمعت فركب بعضها على بعض حتى الكسرة من العظم رجعت إلى موضعها فصار حمارا من عظام ليس عليه لحم ، ولا فيه دم ثم كسا اللّه تلك العظام اللحم والعروق والدم ، فصار حمارا ذا لحم ودم لا روح فيه ، ثم بعث اللّه ملكا فأقبل إليه يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار فنفخ فيه الروح فقام الحمار حيا بإذن اللّه تعالى ، ، ثم نهق وقيل : أراد بالعظام عظام هذا الرجل نفسه وذلك أن اللّه تعالى أماته ثم بعثه ولم يمت حماره. ثم قيل : له انظر إلى حمارك فنظر فرأى حماره حيا قائما كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب مائة عام ونظر إلى الرمة في عنقه جديدة لم تتغير ثم قيل له : انظر إلى العظام كيف ننشزها وذلك أن اللّه أول ما أحيا منه عينيه فنظر فرأى سائر جسده ميتا وفي الآية تقديم وتأخير تقديره وانظر إلى حمارك وانظر إلى العظام كيف ننشزها ، ولنجعلك آية للناس وعن ابن عباس وغيره من المفسرين لما أحيا اللّه عزيرا بعد ما أماته سنة ركب حماره حتى أتى إلى محلته فأنكره الناس ، وأنكر منازله فانطلق على وهم حتى أتى منزله فإذا بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة ، وكانت أمة لهم ولما خرج عزير عنهم كانت بنت عشرين سنة ، وكانت قد عرفته وعقلته فقال لها عزير : يا هذه هذا منزل عزير فقالت : نعم وبكت وقالت ما رأيت أحدا يذكر عزيرا منذ كذا وكذا فقال : أنا عزير فقالت : سبحان اللّه إن عزيرا فقدناه من مائة سنة ولم نسمع له بذكر فقال : إني عزير إن اللّه تعالى أماتني مائة سنة ثم أحياني فقالت : إن عزيرا كان رجلا مجاب الدعوة وكان يدعو للمريض وصاحب البلايا بالعافية فادع اللّه أن يرد علي بصري حتى أراك فإن كنت عزيرا عرفتك فدعا ربه ومسح بيده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها وقال لها : قومي بإذن اللّه تعالى فأطلق اللّه رجليها فقامت صحيحة ، فنظرت إليه وقالت : أشهد أنك عزير وانطلقت إلى بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن لعزير شيخ ابن مائة سنة وثمانية عشرة سنة ، وبنو بنيه شيوخ فنادت هذا عزير قد جاءكم ، فكذبوها فقالت : أنا فلانة مولاتكم فدعا عزير ربه فرد عليّ بصري وأطلق رجلي ، وزعم أن اللّه تعالى قد أماته مائة سنة ثم بعثه قال : فنهض الناس إليه ، وقال ابنه : كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه فكشف عن كتفيه فنظر إليها فرآها فعرف أنه عزير ، وقيل : لما رجع عزير إلى قريته وقد أحرق بختنصر التوراة ولم يكن من اللّه عهد بين الخلائق بكى عزير على التوراة فأتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه من ذلك الماء فثبتت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل وقد علمه اللّه التوراة ، وبعثه نبيا فقال أنا عزير : فلم يصدقوه فقال إني عزير وقد بعثني اللّه إليكم لأجدد لكم توراتكم ، قالوا : فاملها علينا فأملاها عليهم من ظهر قلبه فقالوا : ما جعل اللّه التوراة في قلب رجل بعد ما ذهبت إلّا أنه ابنه فقالوا : عزير ابن اللّه وستأتي القصة في سورة التوبة إن شاء اللّه تعالى. وقوله تعالى : فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ يعني فلما اتضح له عيانا ما كان ينكره من إحياء القرية ورآه عيانا في نفسه قالَ أَعْلَمُ قرئ مجزوما موصولا على الأمر يعني قال اللّه له أعلم وقرئ أعلم على قطع الألف ، ورفع الميم على الخبر عن الذي قال أنى يحيي هذه اللّه بعد موتها والمعنى فلما تبين له ورأى ذلك عيانا قال : أعلم أَنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني الإماتة والإحياء. ٢٦٠قوله عز وجل : وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى اختلفوا في سبب هذا السؤال من إبراهيم عليه السلام فقيل : إنه مر على دابة ميتة وهي جيفة حمار وقيل : بل كانت حوتا ميتا وقيل : كان رجلا ميتا بساحل البحر وقيل : بحر طبرية فرآها وقد توزعها دواب البحر والبر. فإذا مد البحر جاءت الحيتان فأكلت منها وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت منها. فإذا ذهبت السباع جاءت الطير فأكلت منها فلما رأى إبراهيم ذلك تعجب منها. وقال : يا رب إني قد علمت إنك لتجمعها من بطون السباع وحواصل الطير وأجواف الدواب فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك ، فأزداد يقينا فعاتبه اللّه تعالى : قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ يعني ألم تصدق قالَ بَلى يا رب قد علمت وآمنت وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي ليسكن قلبي عند المعاينة أراد إبراهيم عليه السلام أن يصير له علم اليقين عين اليقين لأن الخبر ليس كالمعاينة وقيل لما رأى الجيفة على البحر وقد تناولتها السباع والطير ودواب البحر تفكر كيف يجتمع ما تفرق من تلك الجيفة وتطلعت نفسه إلى مشاهدة ميت يحييه ربه ، ولم يكن إبراهيم عليه السلام شاكا في إحياء اللّه الموتى ولا دافعا له ولكنه أحب أن يرى ذلك عيانا كما أن المؤمنين يحبون أن يروا نبيهم محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ، ويحبون رؤية اللّه تعالى في الجنة ويطلبونها ، ويسألونه في دعائهم مع الإيمان بصحة ذلك وزوال الشك عنهم فكذلك أحب إبراهيم أن يصير الخبر له عيانا ، وقيل : كان سبب هذا السؤال من إبراهيم أنه لما احتج على نمرود فقال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت فقال نمرود : أنا أحيي وأميت فقتل أحد الرجلين وأطلق الآخر فقال إبراهيم : إن اللّه تعالى يقصد إلى جسد ميت فيحييه فقال له نمرود أنت عاينته فلم يقدر إبراهيم أن يقول : نعم فانتقل إلى حجة أخرى ثم سأل إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى؟ قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي بقوة حجتي فإذا قيل : أنت عاينته فأقول نعم وقال سعيد بن جبير لما اتخذ اللّه إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربه أن يأذن له فيبشر إبراهيم بذلك فأذن له ، فأتى إبراهيم ولم يكن في الدار فدخل داره وكان إبراهيم من أغير الناس وكان إذا خرج أغلق بابه فلما جاء ، وجد في الدار رجلا فثار إليه ليأخذه وقال له. من أذن لك أن تدخل داري فقال : أذن لي رب الدار فقال : إبراهيم صدقت وعرف أنه ملك فقال له : من أنت قال : أنا ملك الموت جئتك أبشرك أن اللّه قد اتخذك خليلا فحمد اللّه عز وجل وقال له : ما علامة ذلك قال : أن يجيب اللّه دعاءك ويحيي الموتى بسؤالك فحينئذ قال إبراهيم : رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي بأنك اتخذتني خليلا ، وتجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى. قال : أولم تؤمن؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي ويرحم اللّه لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي). (القول على معنى الحديث) وما يتعلق به اختلف العلماء في قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (نحن أحق بالشك من إبراهيم) على أقوال كثيرة فأحسنها وأصحها ما نقل المزني وغيره من العلماء أن الشك مستحيل في حق إبراهيم فإن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به من إبراهيم ولقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أن إبراهيم لم يشك وإنما خص إبراهيم بالذكر لكون الآية قد يسبق إلى بعض الأذهان الفاسدة منها احتمال الشك فنفى ذلك عنه ، وقال الخطابي : ليس في قوله نحن أحق بالشك من إبراهيم اعتراف بالشك على نفسه ، ولا على إبراهيم لكن فيه نفي الشك عنهما يقول : إذا لم أشك أنا في قدرة اللّه تعالى على إحياء الموتى فإبراهيم أولى بأن لا يشك وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس وكذلك قوله : لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي وفيه الإعلام بأن المسألة من إبراهيم لم تعرض من جهة الشك لكن من قبل زيادة العلم بالبيان ، والعيان يفيد من المعرفة ، والطمأنينة ما لا يفيد الاستدلال وقيل : لما نزلت هذه الآية قال : قوم : شك إبراهيم ولم يشك نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : نحن أحق بالشك من إبراهيم ومعناه أن هذا الذي تظنونه شكا أنا أولى به فإنه ليس بشك ، وإنما هو طلب لمزيد اليقين وإنما رجح إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم على نفسه صلّى اللّه عليه وسلّم تواضعا منه وأدبا ، أو قيل أن يعلم أنه صلّى اللّه عليه وسلّم خير ولد آدم وأما تفسير الآية فقوله تعالى : وإذ قال إبراهيم : أي واذكر يا محمد ، إذ قال : إبراهيم ، وقيل : إنه معطوف على قوله : (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) والتقدير ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ألم تر إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى ، قال يعني قال اللّه إبراهيم : (أولم تؤمن) الألف في أولم تؤمن من ألف إثبات وإيجاب كقول جرير : ألستم خير من ركب المطايا. أي ألستم كذلك والمعنى أو لست قد آمنت وصدقت أني أحيي الموتى قال بلى قد آمنت وصدقت ولكن ليطمئن قلبي يعني سألتك ذلك إرادة طمأنينة القلب وزيادة اليقين وقوة الحجة وقال ابن عباس : معناه ولكن لأرى من آياتك وأعلم أنك قد أجبتني قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ قيل أخذ طاوسا وديكا وحمامة وغرابا وقيل نسرا بدل الحمامة. فإن قلت لم خص الطير من جملة الحيوانات بهذه الحالة قلت لأن الطير صفته الطيران في السماء والارتفاع في الهواء ، وكانت همة إبراهيم عليه السلام كذلك وهو العلو في الوصول إلى الملكوت فكانت معجزته مشاكلة لهمته. فإن قلت : لم خص هذه الأربعة الأجناس من الطير بالأخذ قلت فيه إشارة ففي الطاوس إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة ، والجاه وفي النسر إشارة إلى شدة الشغف بالأكل وفي الديك إشارة إلى شدة الشغف بحب النكاح وفي الغراب إشارة إلى شدة الحرص ، ففي هذه الطيور مشابهة لما في الإنسان من حب هذه الأوصاف وفيه إشارة إلى أن الإنسان إذا ترك هذه الشهوات الذميمة لحق أعلى الدرجات في الجنة ، وفاز بنيل السعادات فَصُرْهُنَّ قرئ بكسر الصاد ومعناه قطعهن ومزقهن وقرئ بضم الصاد ومعناه أملهن إِلَيْكَ ووجههن وقيل : معناه اجمعهن واضممهن إليك فمن فسره بالإمالة والضم قال فيه إضمار ومعناه فصرهن إليك ثم قطعهن فحذف اكتفاء بقوله : ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً لأنه يدل عليه قال لمفسرون : أمر اللّه تعالى إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم أن يذبح تلك الطيور وينتف ريشها وأن يخلط ريشها ولحمها ودمها بعضه ببعض ففعل ثم أمره أن يجعل على كل جبل منهن جزءا. واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال فقال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أمر أن يجعل كل طائر أربعة أجزاء وأن يجعلها أربعة أجبل على كل جبل ربعا من كل طائر ، قيل : جبل على جهة الشرق وجبل على جهة الغرب ، وجبل على جهة الشمال وجبل على جهة الجنوب وقيل جزأه سبعة أجزاء ووضعها على سبعة أجبل وأمسك رؤوسهن بيده ثم دعاهن فقال : تعالين بإذن اللّه تعالى : فجعلت كل قطرة من دم طائر تطير إلى القطرة الأخرى ، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى وكل عظم يطير إلى العظم الآخر وكل بضعة تطير إلى البضعة الأخرى ، وإبراهيم ينظر حتى لقيت كل جثة بعضها ببعض في السماء بغير رؤوس ثم أقبلن سعيا إلى رؤوسهن كلما جاء طائر مال برأسه فإن كان رأسه دنا منه وإن لم يكن تأخر عنه حتى التقى كل طائر برأسه فذلك قوله تعالى : ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وقيل : المراد بالسعي الإسراع والعدو وقيل المشي ، والحكمة في سعي الطيور إليه دون الطيران ، لأن ذلك أبعد من الشبهة لأنها لو طارت لتوهم متوهم أنها غير تلك الطيور أو أن أرجلها غير سليمة ، فنفى اللّه تعالى هذه الشبهة بقوله : يَأْتِينَكَ سَعْياً وقيل : المراد بالسعي المشي والمراد بالمشي الطيران وفيه ضعف لأنه لا يقال : للطائر إذا طار سعى وقيل السعي هو الحركة الشديدة وَاعْلَمْ أَنَّ اللّه عَزِيزٌ يعني أنه تعالى غالب على جميع الأشياء لا يعجزه شيء حَكِيمٌ يعني في جميع أموره. قوله عز وجل : ٢٦١مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه قيل أراد به الإنفاق في الجهاد وقيل هو الإنفاق في جميع أبواب الخير ووجوه البر فيدخل فيه الواجب والتطوع ، وفيه إضمار تقديره مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كَمَثَلِ حَبَّةٍ أي كمثل زارع حبة أَنْبَتَتْ يعني أخرجت تلك الحبة سَبْعَ سَنابِلَ جمع سنبلة فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ. فإن قلت فهل رأيت سنبلة فيها مائة حبة حتى يضرب المثل بها. قلت : ذلك غير مستحيل وما لا يكون مستحيلا فضرب المثل به جائز وإن لم يوجد والمعنى في كل سنبلة مائة حبة إن جعل اللّه ذلك فيها ، وقيل هو موجود في الدخن ، وقيل : إن المقصود من الآية أنه إذا علم الإنسان الطالب للزيادة والربح أنه إذا بذر حبة واحدة أخرجت له سبعمائة حبة ما كان ينبغي له ترك ذلك ، ولا التقصير فيه فكذلك ينبغي لمن طلب الأجر عند اللّه في الآخرة أن لا يترك الإنفاق في سبيل اللّه ، إذا علم أنه يحصل له بالواحد عشرة ومائة وسبعمائة وَاللّه يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ يعني أنه تعالى يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء وقيل معناه يضاعف على هذا ويزيد لمن يشاء من سبع إلى سبعين إلى سبعمائة إلى ما يشاء من الأضعاف مما لا يعلمه إلّا اللّه وَاللّه واسِعٌ أي غني يعطي عن سعة ، وقيل واسع القدرة على المحازاة وعلى الجود والإفضال عَلِيمٌ يعني بنية من ينفق في سبيله ، وقيل عليم بمقادير الإنفاق وبما يستحق المنفق من الجزاء والثواب عليه. ٢٦٢قوله عز وجل : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه قيل : نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف ، أما عثمان فجهز المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وأحلاسها فنزلت هذه الآية وقال عبد الرحمن بن سمر (و جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فرأيته يدخل يده فيها ويقلبها ويقول ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم فأنزل اللّه تعالى : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه وأما عبد الرحمن فجاء بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال : كان عندي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف وأربعة آلاف أخرجتها لربي عز وجل فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بارك اللّه لك فيما أمسكت وفيما أعطيت) ، والمعنى الذين يعينون المجاهدين في سبيل اللّه بالإنفاق عليهم في حوائجهم ومؤنتهم ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً أي لا يتبع نفقته التي أنفقها عليهم بالمن والأذى وهو أن يمن عليه بعطائه فيقول : قد أعطيتك كذا وكذا فيعدد نعمه عليه فيكدرها عليه والأذى هو أن يعيره فيقول : كم تسأل وأنت فقير أبدا وقد بليت بك وأراحني اللّه منك وأمثال ذلك. والمن في اللغة الإنعام ، والمنة النعمة الثقيلة يقال : من فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة ويكون ذلك بالقول : أيضا ومنه قول الشاعر : فمني علينا بالسلام فإنما كلامك ياقوت ودر منظم ومن المن بالقول ما هو مستقبح بين الناس ، مثل أن يمن على الإنسان بما أعطاه ، قال عبد الرحمن بن يزيد كان أبي يقول إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه فلا تسلم عليه والعرب تمدح بترك المن وكتم النعمة وتذم على إظهارها والمن بها قال قائلهم في المدح بترك المن : زاد معروفك عن دي عظما أنه عندك مستور حقير تتناساه كأن لم تأته وهو في العالم مشهور كبير وقال قائلهم يذم المنان بالعطاء : أتيت قليلا ثم أسرعت منة فنيلك ممنون لذاك قليل وأما الأذى فهو ما يصل إلى الإنسان من ضرر بقول أو فعل. إذا عرفت هذا فنقول المن هو إظهار المعروف إلى الناس ، والمن عليهم به والأذى هو أن يشكو منهم بسبب ما أعطاهم فحرم اللّه تعالى على عباده المن بالمعروف والأذى فيه وذم فاعله. فإن قلت : قد وصف اللّه تعالى نفسه بالمنان فما لفرق قلت المنان في صفة اللّه تعالى معناه المتفضل فمن اللّه إفضال على عباده وإحسانه إليهم فجميع ما هم فيه منة منه سبحانه وتعالى ومن العباد تعيير وتكدير فظهر الفرق بينهما. وقوله تعالى : لَهُمْ أَجْرُهُمْ يعني ثوابهم عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني في الآخرة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يعني يوم القيامة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني على ما خلفوا من الدنيا. ٢٦٣قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي كلام حسن ورد جميل على الفقير السائل وقيل : عدة حسنة توعده بها ، وقيل : دعاء صالح تدعو له بظهر الغيب وَمَغْفِرَةٌ أي تستر عليه خلته وفقره ولا تهتك ستره وقيل هو أن يتجاوز عن الفقير إذا استطال عليه حالة رده خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يعني هذا القول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي تدفعها إلى الفقير يَتْبَعُها أَذىً وهو أن يعطي الفقير الصدقة ويمن عليه بها ويعيره بقول أو يؤذيه بفعل وَاللّه غَنِيٌّ أي مستغن عن صدقة العباد والغنى الكامل الغني الذي لا يحتاج إلى أحد وليس كذلك إلّا اللّه تعالى حَلِيمٌ يعني أنه تعالى حليم لا يعجل بالعقوبة على من يمن على عباده ويؤذي بصدقته. ٢٦٤قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ يعني أجور صدقاتكم بِالْمَنِّ وَالْأَذى يعني على السائل الفقير ، وقال ابن عباس بالمن على اللّه تعالى والأذى لصاحبها ثم ضرب اللّه تعالى لذلك مثلا فقال تعالى كَالَّذِي أي كإبطال الذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ أي مراءاة لهم وسمعة ليروا نفقته ويقولوا : إنه سخي كريم وَلا يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني أن الرياء يبطل الصدقة ولا تكون النفقة مع الرياء من فعل المؤمنين لكن من فعل المنافقين لأن الكافر معلن بكفره غير مراء به فَمَثَلُهُ أي مثل هذا المرائي بصدقته وسائر أعماله كَمَثَلِ صَفْوانٍ هو الحجر الأملس الصلب وهو واحد وجمع فمن جعله جمعا قال واحده صفوانه ومن جعله واحدا قال جمعه صفي عَلَيْهِ تُرابٌ أي على ذلك الصفوان تراب فَأَصابَهُ وابِلٌ يعني المطر الشديد العظيم القطر فَتَرَكَهُ صَلْداً يعني ترك المطر ذلك الصفوان صلدا أملس لا شيء عليه من ذلك التراب ، فهذا مثل ضربه اللّه تعالى لنفقة المنافق والمرائي والمؤمن المنان بصدقته يؤذي الناس يرى الناس أن لهؤلاء أعمالا في الظاهر ، كما يرى التراب على الصفوان فإذا جاء المطر أذهبه وأزاله وكذلك حال هؤلاء يوم القيامة ، تبطل أعمالهم وتضمحل لأنها لم تكن للّه تعالى كما أذهب الوابل ما على الصفوان من التراب لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أي لا يقدرون على ثواب شيء مما عملوا في الدنيا وَاللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ يعني الذين سبق في علمه أنهم يموتون على الكفر. روى البغوي بسنده عن محمود بن لبيد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إنما أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : يا رسول اللّه وما الشرك الأصغر قال : الرياء يقال لهم يوم تجازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء) (م) عن أبي هريرة قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (قال اللّه تبارك وتعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). قوله عز وجل : ٢٦٥وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّه أي طلب رضا اللّه وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني على الإنفاق في طاعة اللّه تعالى وتصديقا بثوابه ، وقيل : معناه إن أنفسهم موقنة مصدقة بوعد اللّه إياها فيما أنفقت وقيل : إحسانا وقيل تصديقا والمعنى أنهم يخرجون زكاة أموالهم ، وينفقون أموالهم في سائر وجوه البر والطاعات طيبة أنفسهم بما أنفقوا على يقين بثواب اللّه وتصديق بوعده يعلمون أن ما أنفقوا خير لهم مما تركوا وقيل معناه على يقين بإخلاف اللّه عليهم وقيل : معناه أنهم يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم قيل : كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت فإن كانت للّه خالصة أمضاها ، وإن خالطه شك أو رياء أمسك كَمَثَلِ جَنَّةٍ أي بستان قال الفراء إذا كان في البستان نخل فهو جنة وإن كان فيه كرم فهو فردوس بِرَبْوَةٍ هي المكان المرتفع عن الأرض المستوي لأن ما ارتفع من الأرض عن مسيل الماء والأودية كان ثمرها أحسن وأزكى إذا كان لها من الماء ما يرويها وقيل : هي الأرض المستوية الجيدة الطيبة إذا أصابها المطر انتفخت وربت فإذا كانت الأرض بهذه الصفة كثر ريعها وحملت أشجارها أَصابَها وابِلٌ وهو المطر الكثير الشديد قال بعضهم : ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها وابل هطل أراد بالحزن ما غلظ وارتفع من الأرض فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ أي فأعطت ثمرتها مثلين قيل إنها حملت في سنة من الريع ما يحمله غيرها في سنتين وقيل أضعفت فحملت في السنة مرتين فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ أي طش وهو المطر الخفيف الضعيف ، والمعنى إن لم يكن أصابها وابل وأصابها طل فتلك حال هذه الجنة في تضاعف ثمرها فإنها لا تنقص بالطل عن مقدار ثمرها بالوابل وهذا مثل ضربه اللّه تعالى : لعمل المؤمن المخلص في إنفاقه وسائر أعماله ، يقول اللّه تعالى كما أن هذه الجنة تريع وتزكو في كل حال ولا تخلف سواء كان المطر قليلا أو كثيرا فكذلك يضعف اللّه صدقة المؤمن المخلص في صدقته وإنفاقه الذي لا يمن ولا يؤذي سواه قلت نفقته أو كثرت وَاللّه بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يعني أن اللّه تعالى لا تخفى عليه نفقة المخلص في صدقته الذي لا يمن بها ولا يؤذي والذي يمن بصدقته ويؤذي ٢٦٦قوله عز وجل : أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ هذه متصلة بما قبلها وهو قوله تعالى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى أيود يعني أيحب أحدكم أن تكون له جنة أي بستان من نخيل وأعناب إنما خصهما بالذكر لأنهما أشرف الفواكه وأحسنها ولما فيهما من الغذاء والتفكه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني أن جري الأنهار فيها من تمام حسنها ، وسبب لزيادة ثمرها لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ لأن ذلك من تمام كمال البستان وحسنه وَأَصابَهُ الْكِبَرُ يعني صاحب هذه الجنة كثرت جهات حاجاته ولم يكن له كسب غيرها فحينئذ يكون في غاية الاحتياج إلى تلك الجنة فإن قلت : كيف عطف وأصابه الكبر على أيود ، وكيف يجوز عطف الماضي على المستقبل قلت فيه وجهان أحدهما أن يكون له جنة حال ما أصابه الكبر والوجه الثاني أنه عطف على المعنى ، فكأنه قيل أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ يعني له أولاد صغار عجزت عن الحركة بسبب الضعف والصغر فَأَصابَها يعني أصاب تلك الجنة إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ الإعصار ريح ترتفع إلى السماء وتستدير كأنها عمود وهذا مثل ضربه اللّه تعالى لعمل المنافق والمرائي يقول مثل عمل المنافق والمرائي بعمله في حسنه كحسن جنة ينتفع بها صاحبها فلما كبر وضعف وصار له أولاد ضعاف أصاب جنته إعصار فيه نار فأحرقها وهو أحوج ما يكون إليها فحصل في قلبه من الغم والحسرة ما لا يعلمه إلّا اللّه تعالى لكبره وضعفه وضعف أولاده فهو لا يجد ما يعود به على أولاده ، وهم لا يجدون ما يعودون به عليه فبقوا جميعا متحيرين عجزة لا حيلة بأيديهم ، فكذلك حال من أتى يوم القيامة بأعمال حسنة ولم يقصد بها وجه اللّه تعالى ، فيبطلها اللّه تعالى ، وهو في غاية الحاجة إليها حين لا مستعتب له ولا توبة. وقال عبيد بن عمير : قال عمر يوما لأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيمن ترون نزلت هذه الآية أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ قالوا : اللّه أعلم فغضب عمر وقل قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر قل يا ابن أخي ولا تحقرن نفسك فقال ضرب اللّه مثلا لعمل قال لأي عمل قال لرجل غني يعمل بطاعة اللّه ثم بعث اللّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله كلها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمُ الْآياتِ يعني كما بين اللّه تعالى لكم أمر النفقة المقبولة ، وغير المقبولة كذلك يبين اللّه لكم من الآيات سوى ذلك لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي فتتعظوا وقال ابن عباس : لعلكم تتفكرون يعني في زوال الدنيا وإقبال الآخرة. قوله عز وجل : ٢٦٧يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ أي من خيار ما كسبتم وجيده وقيل : من حلالات ما كسبتم بالتجارة والصناعة وفيه دليل على إباحة الكسب وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث. عن خولة الأنصارية قالت : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (إن هذا المال خضر حلو من أصابه بحق بورك له فيه ، ورب متخوض فيما شاءت نفسه من مال اللّه ورسوله ليس له يوم القيامة إلّا النار) أخرجه الترمذي. المتخوض الذي يأخذ المال من غير وجهه كما يخوض الإنسان في الماء يمينا وشمالا (خ) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن حلال أم من حرام) (خ) عن المقدام أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي اللّه داود كان يأكل من عمل يده) عن عائشة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم ، وإن أولادكم من كسبكم) أخرجه الترمذي والنسائي. واختلفوا في المراد بقوله تعالى : أَنْفِقُوا فقيل : المراد به الزكاة المفروضة لأن الأمر للوجوب والزكاة واجبة فوجب صرف الآية إليها وقيل : المراد به صدقة التطوع وقيل : إنه يتناول الفرض والنفل جميعا لأن المفهوم من هذا الأمر ترجيح جانب الفعل على الترك وهذا المفهوم قدر مشترك بين الفرض والنفل فوجب أن يدخل تحت هذا الأمر فعلى القول الأول أن المراد من هذا الإنفاق هو الزكاة يتفرع عليه مسائل : المسألة الأولى : ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان فيدخل فيه زكاة الذهب والفضة والنعم وعروض التجارة ، لأن ذلك يوصف بأنه مكتسب وذهب جمهور العلماء إلى وجوب الزكاة في مال التجارة وقال داود الظاهري : لا تجب الزكاة بحكم التجارة في العروض إلّا أن ينوي به التجارة في حال تملكه ، ودليل الجمهور ما روي عن سمرة بن جندب قال : (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يأمرنا بإخراج الصدقة من الذي يعد للبيع) أخرجه أبو داود وعن أبي عمرو بن خماس أن أباه قال : مررت بعمر بن الخطاب وعلى عنقي أدمة أحملها فقال عمر ألا تؤدي زكاتك يا خماس فقلت مالي غير هذا واهب في القرظ قال : ذاك مال فضع فوضعها فحسبها فأخذ منها الزكاة فإذا حال الحول على عروض التجارة قوم فإن بلغ قيمته عشرين دينارا أو مائتي درهم أخرج منه ربع العشر. المسألة الثانية : في قوله تعالى : وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل ما خرج من الأرض من النبات مما يزرع الآدميون ، لكن جمهور العلماء خصصوا هذا العموم فأوجبوا الزكاة في النخيل ، والكروم وفيما يقتات ويدخر من الحبوب وأوجب أبو حنيفة الزكاة في كل ما يقصد من نبات الأرض ، كالفواكه والبقول والخضراوات كالبطيخ والقثاء والخيار ونحو ذلك ، دليل الجمهور ما روي عن معاذ : (أنه كتب إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يسأله عن الخضراوات وهي البقول فقال : ليس فيها شي ء) أخرجه الترمذي. وقال هذا الحديث ليس بصحيح وليس يصح عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في هذا الباب شيء وإنما يروى هذا عن موسى بن طلحة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، مرسلا والعمل على هذا عند أهل العلم أنه ليس في الخضراوات صدقة قلت وحديث موسى بن طلحة أخرجه الشيخ مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد اللّه بن تيمية الحراني في أحكامه عن عطاء بن السائب قال : (أراد عبد اللّه بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة من الخضراوات صدقة فقال له : موسى بن طلحة : ليس ذلك لك إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول : ليس في ذلك صدقة) رواه الأثرم في سننه وهو أقوى المراسيل لاحتجاج من أرسله به وقال الزهري والأوزاعي ومالك تجب الزكاة في الزيتون ، وتجب في الثمار عند بدو الصلاح وهو أن يحمر البسر ويصفر ووقت الإخراج بعد الاجتناء والجفاف ، وفي الحبوب عند الاشتداد ووقت الإخراج بعد الدراس والتصفية. المسألة الثالثة : يجب إخراج العشر فيما سقي بالمطر والأنهار والعيون ونصف العشر فيما سقي بنضح أو سانية ، ويدل على ذلك ما روي عن ابن عمر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر) أخرجه البخاري. ولأبي داود والنسائي قال : (فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا العشر وما سقي بالسواني والنضح نصف العشر) قال أبو داود البعل ما شرب بعروقه ولم يتعن في سقيه وقال وكيع : هو الذي ينبت من ماء السماء قوله : أو كان عثريا أراد به القوي من الزرع وهو البعل وقد فسره في لفظ الحديث والنضح هو الاستسقاء وكذلك السانية وهي الدابة التي يسقي عليها سواء كانت من الإبل أو البقر ، ولا يجب العشر في السماء والزروع حتى تبلغ خمسة أوسق والوسق ستون صاعا ، وقال أبو حنيفة : يجب العشر في كل قليل أو كثير من الثمار والزروع واحتج الجمهور في إيجاب النصاب بما روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّهعليه وسلّم أنه قال : (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمسة أواق صدقة ، وليس فيما دون خمسة ذود صدقة) وفي رواية (ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر أو حب صدقة) أخرجاه في الصحيحين ، ومن قال : إن المراد بقوله تعالى : أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ صدقة التطوع احتج بما روي عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلّا كان له به صدقة) أخرجاه في الصحيحين. وقوله تعالى : وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ أي ولا تقصدوا الخبيث يعني الرديء من أموالكم مِنْهُ تُنْفِقُونَ أي من الخبيث. عن البراء بن عازب في قوله تعالى : وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ قال : نزلت فينا معشر الأنصار ، كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته ، وقلته : وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد ، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصا ، فسقط البسر أو التمر فيأكل وكان ناس ممن لا يرغب في الخير ، يأتي بالقنوفية الشيص والحشف ، وبالقنو قد انكسر فيعلقه فأنزل اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ قال : لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلّا على إغماض وحياء قال : فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده أخرجه الترمذي. وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب وقيل كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم ، ويعزلون الجيد لأنفسهم فأنزل اللّه تعالى : وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ يعني الرديء منه تنفقون يعني تتصدقون وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ يعني ذلك الشيء الخبيث الرديء إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ الإغماض في اللغة غض البصر ، وإطباق الجفن والمراد به هنا التجويز والمساهلة ، وذلك أن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك قال ابن عباس : معناه لو أن لأحدكم على رجل حقا فجاءه بهذا لم يأخذه إلّا وهو يرى أنه قد أغمض عن حقه وتركه وقال البراء : هو لو أهدى ذلك ما أخذتموه إلّا على استحياء من صاحبه وغيظ فكيف ترضون إلى ما لا ترضون لأنفسكم إذا كان المال كله جيدا فليس له إعطاء الرديء لأن أهل السهمان شركاء له فيما عنده ، وإن كان كله رديئا فلا بأس بإعطاء الرديء وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه غَنِيٌّ يعني عن صدقاتكم لم يأمركم بالتصدق لعوز واحتياج إليها حَمِيدٌ أي محمود في أفعاله ، وقيل : حميد بمعنى حامد أي أجركم على ما تفعلونه من الخير. قوله عز وجل : ٢٦٨الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أي يخوفكم الفقر يقال : وعدته خيرا ووعدته شرا وإذا لم يذكر الخير والشر يقال : في الخير وعدته وفي الشر أوعدته والفقر سوء الحال ، وقلة ذات اليد وأصله من كسر فقار الظهر ومعنى الآية أن الشيطان يخوفكم بالفقر ، ويقول للرجل أمسك عليك مالك فإنك إذا تصدقت افتقرت وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ يعني يوسوس لكم ويحسن لكم ، البخل ومنع الزكاة والصدقة قال الكلبي كل فحشاء في القرآن فهي الزنا إلّا هذا الموضع وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الشيطان يخوف الرجل أولا بالفقر ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء ، وهي البخل وذلك لأن البخيل على صفة مذمومة عند كل أحد فلا يستطيع الشيطان أن يحسن له البخل إلّا بتلك المقدمة وهي التخويف من الفقر ، فلهذا قال تعالى : الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللّه يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ يعني مغفرة لذنوبكم وسترا لكم وَفَضْلًا يعني رزقا وخلفا. فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة والفضل إشارة إلى منافع الدنيا ، وما يحصل من الرزق والخلف. عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر ، وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من اللّه تعالى فليحمد اللّه ومن وجد الأخرى فليتعوذ باللّه من الشيطان ثم قرأ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أخرجه الترمذي. وقال هذا حديث حسن غريب قوله : إن للشيطان لمة بابن آدم اللمة الخطرة الواحدة من الإلمام وهو القرب من الشيء والمراد بهذه اللمة اللمة التي تقع في القلب من فعل خير أو شر والعزم فأما لمة الشيطان فوسوسة وأما لمة الملك فإلهام من اللّه تعالى وَاللّه واسِعٌ أي غني قادر على إغنائكم وإخلاف ما تنفقونه عَلِيمٌ يعني بما تنفقونه لا تخفى عليه خافية (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ما من يوم يصبح فيه العباد إلّا وملكان ينزلان يقول : أحدهما اللّهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر : اللّهم أعط ممسكا تلفا) (ق) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (قال اللّه تعالى أنفق ينفق عليك) وفي رواية (يد اللّه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ، وقال : أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يده) وفي رواية (فإنه لم يغض ما في يمينه ، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع) وفي رواية وبيده الأخرى الفيض القبض يرفع ويخفض (ق) عن أسماء بنت بكر الصديق قالت : قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (أنفقي ولا تحصي فيحصى عليك ولا توعي فيوعى عليك) قوله : ولا توعي أي لا تشحي فيشح اللّه عليك فيجازيك بالتقتير في رزقك ولا يخلف عليك ولا يبارك لك ، والمعنى لا تجمعي وتمنعي بل أنفقي ولا تعدي ولا تشحي. ٢٦٩قوله عز وجل : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ قال ابن عباس : هي علم القرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه ، وقال الضحاك : القرآن والفهم فيه وإنما قال : ذلك لتضمن القرآن الحكمة وقال في القرآن : مائة وتسع آيات ناسخة ومنسوخة وألف آية حلال وحرام لا يسع المؤمنين تركهن حتى يعلمونهن ولا يكونوا كأهل النهروان يعني الخوارج تأولوا آيات من القرآن في أهل القبلة وإنما نزلت في أهل الكتاب فجهلوا علمها فسفكوا بها الدماء ، وانتهبوا الأموال وشهدوا على أهل السنة بالضلالة فعليكم بعلم القرآن فإنه من علم فيما نزل لم يختلف في شيء منه ، وقيل : هي القرآن والعلم والفقه وقيل هي الإصابة في القول والفعل. وحاصل هذه الأقوال إلى شيئين : العلم والإصابة فيه ، ومعرفة الأشياء بذواتها وأصل الحكمة المنع ومنه حكمة الدابة لأنها تمنعها قال الشاعر : أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم أي امنعوا سفهاءكم ، وقال السدي : الحكمة النبوة لأن النبي يحكم بين الناس فهو حاكم وقيل الحكمة الورع في دين اللّه لأن الورع يمنع صاحبه من أن يقع في الحرام ، أو ما لا يجوز له فعله وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ يعني ومن يؤته اللّه الحكمة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً تنكير تعظيم معناه فقد أوتي أي خير كثير. وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي وما يتعظ بما وعظه اللّه إلّا ذوو العقول الذين عقلوا عن اللّه أمره ونهيه. قوله عز وجل : ٢٧٠وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ يعني فيما فرضه اللّه عليكم من إعطاء زكاة وغيرها أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ يعني به ما أوجبتموه على أنفسكم في طاعة اللّه فوفيتم به والنذر أن يوجب الإنسان على نفسه شيئا ليس بواجب يقال نذرت للّه نذرا وأصله من الخوف لأن الإنسان إنما يعقد على نفسه النذر من خوف التقصير في الأمر المهم ، والنذر في الشرع على ضربين مفسر ، وغير مفسر. فالمفسر أن يقول للّه على صوم أو حج أو عتق أو صدقة فيلزمه الوفاء به ، ولا يجزيه غيره وغير المفسر وهو أن يقول : نذرت للّه لا أفعل كذا ثم يفعله أو يقول للّه على نذر من غير تسمية شيء فيلزمه فيه كفارة يمين (خ) عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (من نذر أن يطيع اللّه فليطعه ومن نذر أن يعصي اللّه فلا يعصه) عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا فأطاقه فليف به) أخرجه أبو داود عن عمران بن حصين قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم) أخرجه النسائي (ق) عن ابن عمر : (أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل) (م) عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن اللّه قدره ، ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج) قال بعض العلماء : يحتمل أن يكون سبب النهي عن النذر كون الناذر يصير ملتزما مالا فيأتي به تكلفا من غير نشاط أو يكون سببه كونه يأتي به على سبيل المعارضة عن الأمر الذي طلبه فينقص أجره ، وشأن العبادة أن تكون متمحضة للّه تعالى وقال بعضهم يحتمل أن يكون النهي لكونه قد يظن بعض الجهلة أن النظر يرد القدر أو يمنع من حصول المقدور فنهى عنه خوفا من اعتقاد ذلك ، وسياق الحديث يؤكد هذا ، وقوله : في بعض روايات الحديث إنه لا يأتي بخير معناه أنه لا يرد شيئا من القدر. وقوله : فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج معناه أنه لا يأتي بهذه القربة تطوعا محضا مبتدأ وإنما يأتي بها في مقابلة شيء يريده كقوله إن شفى اللّه مريضي فللّه على كذا ونحو ذلك مما يحصل بالنذر واللّه أعلم ، وقوله تعالى : فَإِنَّ اللّه يَعْلَمُهُ أي يعلم ما أنفقتم ونذرتم فيجازيكم به وإنما قال : يعلمه ولم يقل يعلمهما لأنه رد الضمير على الآخر منهما فهو كقوله : ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا وقيل : إن الكناية عادت على : (ما) في قوله وما أنفقتم لأنها اسم فهو كقوله : (و ما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به) ولم يقل بهما وَما لِلظَّالِمِينَ يعني الواضعين الصدقة في غير موضعها وقيل : الذين يريدون بصدقاتهم الرياء والسمعة وقيل : هم الذين يتصدقون بالمال الحرام مِنْ أَنْصارٍ أي من أعوان يدفعون عنهم عذاب اللّه تعالى ، ففيه وعيد عظيم لكل ظالم ٢٧١قوله عز وجل : إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ أي تظهروا الصدقات والصدقة ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة فيدخل فيه الزكاة الواجبة ، وصدقة التطوع فَنِعِمَّا هِيَ أي فنعمت الخصلة هي وقيل فنعم الشيء هي وقيل : معناه فنعم شيئا إبداء الصدقات وَإِنْ تُخْفُوها أي تسروا الصدقة وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ أي وتعطوها الفقراء في السر فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يعني إخفاء الصدقة أفضل من العلانية وكل مقبول إذا كانت النية صادقة ، واختلفوا في المراد بالصدقة المذكورة في الآية فقال الأكثرون المراد بها صدقة التطوع ، واتفق العلماء على أن كتمان صدقة التطوع أفضل وإخفاؤها خير من إظهارها ، لأن ذلك أبعد من الرياء وأقرب إلى الإخلاص ، ولأن فيه بعدا عما تؤثره النفس من إظهار الصدقة ، وفي صدقة السر أيضا فائدة ترجع إلى الفقير الآخذ وهي أنه إذا أعطى في السر زال عنده الذل والانكسار وإذا أعطى في العلانية يحصل له الذل والانكسار ويدل على أن صدقة السر أفضل ما روي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلّا ظله إمام عادل وشاب نشأ في طاعة اللّه تعالى ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في اللّه تعالى اجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر اللّه خاليا ففاضت عيناه من خشية اللّه تعالى ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف اللّه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) أخرجاه في الصحيحين ووجه جواز إظهار الصدقة يكون ممن قد أمن على نفسه من مداخلة الرياء في عمله أو يكون ممن يقتدى به في أفعاله فإذا أظهر الصدقة تابعه غيره على ذلك ، وأما الزكاة فإظهار إخراجها أفضل من كتمانها كالصلاة المكتوبة في الجماعة أفضل وصلاة التطوع في البيت أفضل ولكن في إظهار الزكاة نفي التهمة عن المزكي وقيل إن الآية واردة في زكاة الفرض ، وكان إخفاؤها خيرا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأنهم كانوا لا يظنون بأحد أنه يمنع الزكاة ، فأما اليوم في زماننا إظهار الزكاة أفضل حتى لا يساء الظن به وقيل إن الآية عامة في جميع الصدقات الواجبة والتطوع والإخفاء أفضل في كل صدقة من زكاة غيرها. وقوله تعالى : وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ قيل إن من صلة زائدة تقديره ونكفر عنكم سيئاتكم قال ابن عباس جميع سيئاتكم وقيل أدخل من للتبغيض ليكون العباد على وجل ولا يتكلوا والمعنى ونكفر عنكم الصغائر من سيئاتكم وأصل التكفير في اللغة التغطية والستر وَاللّه بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يعني من إظهار الصدقات وإخفائها. قوله عز وجل : ٢٧٢لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ قيل سبب نزول هذه الآية : أن ناسا من المسلمين كان لهم قرابات وأصهار في اليهود وكانوا ينفعونهم وينفقون عليهم قبل أن يسلموا فلما أسلموا كرهوا أن ينفعوهم وأرادوا بذلك أن يسلموا وقيل كانوا يتصدقون على فقراء أهل المدينة فلما كثر المسلمون نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن التصدق على المشركين كي تحملهم الحاجة إلى الدخول في الإسلام لحرصه صلّى اللّه عليه وسلّم على سلامهم فنزل ليس عليك هداهم ومعناه ليس عليك هداية من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام فحينئذ نتصدق عليهم فأعلمه اللّه تعالى أنه إنما بعث بشيرا ونذيرا وداعيا إلى اللّه بإذنه ، فأما كونهم مهتدين فليس ذلك إليك وَلكِنَّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يعني أن اللّه تعالى يوفق من يشاء فيهديه إلى الإسلام وأراد بالهداية هنا هداية التوفيق وأما هداية البيان والدعوة فكانت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلما نزلت هذه الآية أعطوهم وتصدقوا عليهم وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ أي من مال فَلِأَنْفُسِكُمْ أي ما تفعلوا تنفعوا به أنفسكم وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللّه ظاهره خبر ومعناه نهي أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه اللّه وقال الزجاج : هذا خاص للمؤمنين أعلمهم اللّه تعالى أنه قد علم أن مرادهم بنفقتهم ما عنده وقيل معناه لستم في صدقاتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلّا وجه اللّه وقد علم هذا من قلوبكم فأنفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه اللّه في صلة الرحم وسد خلة مضطر قال بعض العلماء : لو أنفقت على شر خلق اللّه لكان لك ثواب نفقتك وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلّا إلى المسلمين وهم أهل السهمان المذكورون في سورة التوبة ، وجوز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة ، وخالفه سائر العلماء في ذلك فعلى هذا تكون الآية مختصة بصدقة التطوع أباح اللّه تعالى أن تصرف إلى فقراء المسلمين وفقراء أهل الذمة فأما زكاة الفرض فلا يجوز صرفها إلى أهل الذمة بحال وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يوفر لكم جزاؤه وقال ابن عباس : يجازيكم به يوم القيامة ومعناه يؤدي إليكم يوم القيامة ولهذا حسن إدخال إلى مع التوفية لأنها تضمنت معنى التأدية وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ أي لا تنقصون شيئا من ثواب أعمالكم. قوله عز وجل : ٢٧٣لِلْفُقَراءِ اختلفوا في موضع اللام في قوله للفقراء فقيل : هو مردود على موضع اللام من قوله فلأنفسكم فكأنه قال : وما تنفقوا من خير فللفقراء وإنما تنفقون لأنفسكم ، وقيل معناه الصدقات التي سبق ذكرها الفقراء. وقيل خبر محذوف تقديره للفقراء الذين من صفتهم كذا وكذا حق واجب وهم فقراء المهاجرين كانوا نحو أربعمائة رجل لم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر وكانوا يأوون إلى صفة في المسجد يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهم أصحاب الصفة فحث اللّه تعالى الناس على مواساتهم فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى وقوله : الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه يعني هم الذين حبسوا أنفسهم على الجهاد في سبيل اللّه وقيل : حبسوا أنفسهم على طاعة اللّه لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يعني لا يتفرغون للتجارة وطلب المعاش والكسب ، وهم أهل الصفة الذين تقدم ذكرهم وقيل حبسهم الفقر والعدم عن الجهاد في سبيل اللّه ، وقيل هم قوم أصابتهم جراحات في الجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فصاروا زمنى حصرهم المرض والزمانة عن الضرب في سبيل اللّه يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أي يظن من لم يختبر حالهم أنهم أغنياء من التعفف وهو تفعل من العفة وهي ترك الشيء والكف عنه. يقال : تعفف إذا ترك السؤال ولزم القناعة والمعنى يظنهم من لم يعرف حالهم أغنياء لإظهارهم التجمل وتركهم المسألة تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ السيماء والسيمياء والسمة العلامة التي يعرف بها الشيء واختلفوا في معناها فقيل : هي الخضوع والتواضع وقيل هي أثر الجهد من الحاجة والفقر وقيل : هي صفرة ألوانهم من الجوع ورثاثة ثيابهم من الضر لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً يعني إلحاحا قيل : إذا كان عنده غداء لا يسأل عشاء وإذا كان عنده عشاء لا يسأل غداء وقيل لا يسألون الناس أصلا لأنه قال يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف وهو ترك المسألة فعلم بذلك أنهم لا يسألون ألبتة ولأنه قال تعالى : تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ ولو كانت المسألة من شأنهم لما كانت من معرفتهم بالعلامة حاجة فمعنى الآية ليس يصدر منهم سؤال حتى يقع فيهم إلحاف. فهم لا يسألون الناس إلحافا ولا غير إلحاف (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ليس الغني عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) (ق) عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل) الناس لفظ (خ) عن الزبير قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها خير له) من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح وقيل : يا رسول اللّه ما يغنيه؟ قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري. قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف) أخرجه أبو داود وقال : زاد هشام في حديثه وكانت الأوقية على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أربعين درهما وفي رواية عطاء بن يسار من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من سأل الناس وله أربعون درهما فهو ملحف) أخرجه النسائي (م) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر). وقوله تعالى : وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ يعني أن اللّه تعالى يعلم مقادير الإنفاق ويجازي عليها ففيه حث على الصدقة والإنفاق في الطاعة. قوله عز وجل : ٢٧٤الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً قال ابن عباس في رواية عنه : نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب كانت عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية وفي رواية عنه قال : (لما نزل للفقراء الذين أحصروا في سبيل اللّه) بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة إلى أهل الصفة ، وبعث علي بن أبي طالب في الليل بوسق من تمر فأنزل اللّه فيهما : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ يعني بنفقة الليل نفقة علي وبالنهار نفقة عبد الرحمن وفي الآية إشارة إلى أن صدقة السر أفضل من صدقة العلانية لأنه تعالى قدم نفقة الليل على نفقة النهار وقدم السر على العلانية وقيل : نزلت الآية في الذين يربطون الخيل للجهاد في سبيل اللّه لأنهم يعلفونها بالليل والنهار وفي السر : والعلانية (خ) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من احتبس فرسا في سبيل اللّه إيمانا واحتسابا وتصديقا بوعده كان شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة) يعني حسنات وقيل : إن الآية عامة في الذين ينفقون أموالهم في جميع الأوقات ويعمون بها أصحاب الحاجات والفاقات. فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي جزاء أعمالهم وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني في الآخرة. قوله عز وجل : ٢٧٥الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أي يعاملون به وإنما خص الأكل لأنه معظم الأمر المقصود من المال لأن المال لا يؤكل إنما يصرف في المأكول ثم يؤكل فمنع اللّه التصرف في الربا بما ذكر فيه من الوعيد (م) عن جابر قال : (لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال : هم سواء) وأصل الربا في اللغة الزيادة يقال ربا الشيء يربو إذا زاد وكثر فالربا الزيادة في المال لا يَقُومُونَ يعني من قبورهم يوم القيامة إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ أي يصرعه ، وأصل الخبط الضرب والوطء وهو ضرب على غير استواء يقال ناقة خبوط للتي تضرب الأرض بقوائمها وتطأ الناس بأخفافها ومنه قولهم : يخبط خبط عشواء للرجل الذي يتصرف في الأمور على غير اهتداء وتمييز وتدبر ، وتخبطه الشيطان إذا مسه بخبل وجنون مِنَ الْمَسِّ يعني من الجنون يقال : مس الرجل فهو ممسوس إذا كان به جنون ، ومعنى الآية أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مثل المصروع الذي لا يستطيع الحركة الصحيحة لأن الربا ربا في بطونهم حتى أثقلهم فلا يقدرون على الإسراع. قال سعيد بن جبير تلك علامة آكل الربا إذا استحله يوم القيامة وروى البغوي بسند الثعلبي عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في قصة الإسراء قال : (فانطلق بي جبريل إلى رجال كثير كل رجل بطنه مثل البيت الضخم منضدين على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا قال فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع فلا يستطيعون أن يبرحوا حتى يغشاهم آل فرعون فيردوهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة ، قال : وآل فرعون يقولون : اللّهم لا تقم الساعة أبدا. قال : ويوم القيامة يقول أدخلوا آل فرعون أشد العذاب قلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلّا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس). قوله : بطنه مثل البيت الضخم أي العظيم الكبير الغليظ ، وقوله : منضدين أي موضوعين بعضهم على بعض والسابلة الطريق ، وقوله مثل الإبل المنهومة ، النهم بالتحريك إفراط في الشهوة بالطعام من الجوع. قوله عز وجل : ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا أي ذلك الذي نزل بهم من العذاب بقولهم هذا واستحلالهم إياه وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه يطالبه به فيقول الغريم لصاحب الحق زدني في الأجل حتى أزيدك في المال فيفعلان ذلك وكانوا يقولون : سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أو عند المحل لأجل التأخير فكذبهم اللّه تعالى. ورد عليهم ذلك بقوله : وَأَحَلَّ اللّه الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا يعني وأحل اللّه لكم الأرباح في التجارة بالبيع والشراء وحرم الربا الذي هو زيادة في المال لأجل تأخير الأجل وذلك لأن اللّه تعالى خلق الخلق فهم عبيده وهو مالكهم يحكم فيهم بما يشاء ويستعبدهم بما يريد ليس لأحد أن يعترض عليه في شيء مما حل أو حرم ، وإنما على كافة الخلق الطاعة والتسليم لحكمه وأمره ونهيه. وذكر بعض العلماء الفرق بين البيع والربا فقال إذا باع ثوبا يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلا للعشرين فلما حصل التراضي على هذا التقابل صار كل واحد منهما مقابلا للآخر في المالية عندهما فلم يكن أخذ من صاحبه شيئا بغير عوض ، أما إذا باع عشرة دراهم بعشرين فقد أخذ العشرة الزائدة بغير عوض ولا يمكن أن يقال : إن العوض هو الإمهال في مدة الأجل لأن الإمهال ليس مالا أو شيئا يشار إليه حتى يجعله عوضا عن العشرة الزائدة فقد ظهر الفرق بين الصورتين. (فصل : في حكم الربا وفيه مسائل) المسألة الأولى : ذكروا في سبب تحريم الربا وجوها : أحدها : أن الربا يقتضي أخذ مال الغير بغير عوض ، لأن من يبيع درهما بدرهمين نقدا كان أو نسيئة فقد حصل له زيادة درهم من غير عوض فهو حرام. الوجه الثاني : إنما حرم عقد الربا لأنه يمنع الناس من الاشتغال بالتجارة لأن صاحب الدراهم إذا تمكن من عقد الربا خف عليه تحصيل الزيادة من غير تعب ولا مشقة ، فيقضي ذلك إلى انقطاع منافع الناس بالتجارات وطلب الأرباح. الوجه الثالث : أن الربا هو سبب إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض ، فلما حرم الربا طابت النفوس بقرض الدراهم للمحتاج واسترجاع مثله لطلب الأجر من اللّه تعالى. الوجه الرابع : أن تحريم الربا قد ثبت بالنص ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق فوجب القطع بتحريم الربا وإن كنا لا نعلم وجه الحكمة في ذلك. المسألة الثانية : اعلم أن الربا في اللغة هو الزيادة ، وطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام فثبت أن الزيادة المحرمة هو الربا وهو على صفة مخصوصة في مال مخصوص بينه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (ق) عن عمر بن الخطاب قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (الذهب بالورق ربا إلّا هاء وهاء والبر بالبر ربا إلّا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلّا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلّا هاء وهاء). وفي رواية : (الورق بالورق ربا إلّا هاء وهاء والذهب بالذهب ربا إلّا هاء وهاء) (م) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد واستزاد فقد أربى) وفي رواية : (التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد ، فمن زاد واستزاد فقد أربى إلّا ما اختلفت ألوانه. (م) عن عبادة بن الصامت قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر وبالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) فنص رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على جريان الربا في هذه الستة أشياء وهي النقدان وأربعة أصناف من المطعومات وهي البر والشعير والتمر والملح ، فذهب عامة أهل العلم إلى أن حكم الربا ثبت في هذه الأشياء لأوصاف فيها ، فيعتدي إلى كل ما يوجد من تلك الأصناف فيه ثم اختلفوا في تلك الأوصاف فذهب قوم إلى أن المعنى في جميعها هو واحد وهو النفع فأثبتوا الربا في جميع الأموال وذهب الأكثرون إلى أن الربا يثبت في الدراهم والدنانير بوصف وفي الأشياء المطعومة بوصف آخر ، واختلفوا في ذلك الوصف فذهب الشافعي ومالك إلى أنه ثبت في الدراهم والدنانير بوصف النقدية وذهب أصحاب الرأي إلى أنه ثبت بعلة الوزن فأثبتوا الربا في جميع الموزونات مثل الحديد والنحاس والقطن ونحو ذلك ، وأما الأربعة أشياء المطعومة فذهب أصحاب الرأي إلى أن الربا ثبت فيها بعلة الوزن والكيل فأثبتوا الربا في جميع المكيلات والموزونات مطعوما كان أو غير مطعوم كالجص والنورة ونحوهما ، وذهب جماعة إلى أن العلة فيها الطعم مع الكيل والوزن فكل مطعوم مكيل أو موزون يثبت فيه الربا ولا يثبت فيما سوى ذلك مما ليس بمكيل أو موزون وهو قول سعيد بن المسيب والشافعي في القديم. وقال في الجديد : ثبت الربا فيها بوصف الطعم فأثبت الربا في جميع الأشياء المطعومة من الثمار والفواكه والبقول والأدوية مكيلة كانت أو موزونة لما روي عن معمر بن عبد اللّه أرسل غلامه بصاع قمح فقال : بعه ثم اشتر به شعيرا ، فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض من صاع فلما جاء معمرا أخبره بذلك. فقال له معمر : لم فعلت ذلك انطلق فرده ولا تأخذن إلا مثلا بمثل فإني كنت أسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (الطعام بالطعام مثلا بمثل) وكان طعامنا الشعير قيل له : فإنه ليس بمثله فقال إني أخاف أن يضارع أخرجه مسلم فجملة مال الربا عند الشافعي ما كان ثمنا أو مطعوما. المسألة الثالثة : الربا نوعان ربا فضل وهو الزيادة وربا نسيئة وهو الأجل ، فإن باع ما يدخل فيه الربا بجنسه إن باع أحد النقدين بجنسه كالذهب بالذهب أو المطعوم بجنسه كالحنطة بالحنطة ونحو ذلك فيشترط فيه التماثل والمساواة بمعيار الشرع فإن كان موزونا كالدراهم والدنانير فيشترط فيه المساواة في الوزن وإن كان مكيلا كالحنطة والشعير يشترط في بيعه بجنسه المساواة في الكيل ، ويشترط التقابض في مجلس العقد فإن باع ما يدخل فيه الربا بغير جنسه ينظر فإن باع بما لا يوافقه في وصف الربا مثل إن باع مطعوما بأحد النقدين فلا ربا فيهكما لو باعه بغير مال الربا فإن باعه بما لا يوافقه في الوصف لا في الجنس مثل أن باع الدراهم بالدنانير أو باع الحنطة بالشعير أو كان مطعوما بمطعوم آخر من غير جنسه فلا يثبت فيه ربا التفاضل فيجوز بيعه متفاضلا ويثبت فيه ربا النسيئة فيشترط في بيعه التقابض في المجلس لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم (إلّا يدا بيد). وقوله (هاء وهاء) ففيه اشتراط التقابض في المجلس وتحريم النسيئة وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (إلّا سواء بسواء مثلا بمثل) ففيه إيجاب المماثلة وتحريم التفاضل عند اتفاق الجنس وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم) ففيه إطلاق التبايع مع التفاضل عند اختلاف الجنس مع اشتراط التقابل في المجلس وهو قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (إذا كان يدا بيد) واللّه أعلم. المسألة الرابعة : في القرض وهو من أقرض شيئا وشرط أن يرد عليه أفضل منه فهو قرض جر منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا يدل عليه ما روي عن مالك قال : بلغني أن رجلا أتى ابن عمر فقال إني أسلفت رجلا سلفا واشترطت عليه أفضل مما أسلفته ، فقال عبد اللّه بن عمر : فذلك الربا أخرجه مالك في الموطأ. قال فإن لم يشترط فضلا في وقت القرض فرد المستقرض أفضل مما أخذ جاز. ويدل على ذلك ما روي عن مجاهد أن ابن عمر استلف دراهم فقضى صاحبها خيرا منها فأبى أن يأخذها وقال هذه خير من دراهمي. فقال ابن عمر : قد علمت ولكن نفسي بذلك طيبة أخرجه مالك في الموطأ. وقوله تعالى : فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي تذكير وتخويف وإنما ذكر الفعل لأن تأنيثه غير حقيقي فجاز تذكيره وذلك لأن الوعظ والموعظة شيء واحد فَانْتَهى أي عن أكل الربا فَلَهُ ما سَلَفَ أي ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له وَأَمْرُهُ إِلَى اللّه يعني بعد النهي إن شاء عصمه حتى يثبت على الانتهاء وإن شاء خذله حتى يعود إلى أكل الربا وقيل معناه وأمره إلى اللّه فيما يأمره وينهاه ويحل له ويحرم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء. وقيل : إن الآية فيمن يعتقد تحريم أكل الربا ثم يأكله فأمره إلى اللّه تعالى إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه وَمَنْ عادَ يعني إلى أكل الربا بعد التحريم مستحلّا له فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. ٢٧٦قوله عز وجل : يَمْحَقُ اللّه الرِّبا أي ينقصه ويهلكه ويذهب ببركته قال ابن عباس لا يقبل اللّه منه صدقة ولا حجا ولا جهادا ولا صلة وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ أي يزيدها ويثمرها ويبارك فيها في الدنيا ويضاعف أجرها في الآخرة. (ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب ولا يقبل اللّه الطيب إلّا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله) لفظ مسلم والبخاري (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى اللّه. وفي رواية ولا يقبل اللّه إلّا الطيب فإن اللّه يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل). وَاللّه لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ يعني كل مصر على كفره مقيم عليه مستحل لأكل الربا أَثِيمٍ يعني متماديا في الإثم وفيه نهي عنه وأن من أكل الربا لا ينزجر عنه ولا يتركه وقيل يحتمل أن يكون الكفار راجعا إلى مستحل الربا والأثيم راجعا إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم فتكون الآية جامعة للفريقين. قوله عز وجل : ٢٧٧إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا يعني صدقوا باللّه ورسوله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني التي أمرهم اللّه بها وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني المفروضة بأركانها وحدودها في أوقاتها وَآتَوُا الزَّكاةَ يعني المفروضة عليهم في أموالهم لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي لهم ثواب أعمالهم في الآخرة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي يوم القيامة. ٢٧٨قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا قيل : نزلت في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وكانا قد أسلفا في التمر فلما كانا وقت الجذاذ قال صاحب التمر لهما : إن أنتما أخذتما حقكما لم يبق لي ما يكفي عيالي فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف وأضعف لكما ففعلا فلما حل الأجل طلبا منه الزيادة فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فنهاهما ، وأنزل اللّه هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما ، وقيل نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير ناس من ثقيف فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في حجة الوداع : فيما رواه جابر من أفراد مسلم (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتله هذيل وربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله) وقيل : نزلت في أربعة إخوة من ثقيف وهم : مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة بن عمرو بن عميرة بن عوف الثقفي كانوا يداينون بني المغيرة بن عبد اللّه بن عمير بن مخزوم ، وكانوا يرابون فلما ظهر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على الطائف أسلم هؤلاء الإخوة بنو عمرو الثقفي وطلبوا رباهم من بني المغيرة فقال بنو المغيرة : واللّه ما نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه اللّه تعالى عن المؤمنين فاختصموا إلى عتاب بن أسيد وكان عامل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على مكة فكتب عتاب إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بقضية الفريقين وكان ذلك مالا عظيما فأنزل اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه أي خافوا اللّه فيما أمركم به وانتهوا عما نهاكم عنه ، وذروا أي واتركوا ما بقي من الربا والمعنى واتركوا طلب ما بقي لكم ما فضل على رؤوس أموالكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني إن كنتم محققين لإيمانكم قولا وفعلا. ٢٧٩فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي لم تتركوا ما بقي من الربا بعد تحريمه فَأْذَنُوا قرئ بكسر الذال والمد على وزن آمنوا ومعناه : فأعلموا غيركم أنه حرب للّه ورسوله وقرئ فأذنوا بفتح الذال مع القصر ومعناه فاعلموا أنتم وأيقنوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ. قال ابن عباس يقال لآكل الربا يوم القيامة : خذ سلاحك للحرب. قال أهل المعاني : حرب اللّه النار وحرب رسوله السيف واختلفوا في معنى هذه المحاربة فقيل المراد بها المبالغة في الوعيد والتهديد دون نفس الحرب ، وقيل : بل المراد منه نفس الحرب وذلك أن من أصر على أكل الربا وعلم به الإمام قبض عليه وأجرى فيه حكم اللّه من التعزير والحبس إلى أن تظهر منه التوبة وإن كان آكل الربا ذا شوكة وصاحب عسكر حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية. قال ابن عباس : من كان مقيما على أكل الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع أي تاب وإلّا ضرب عنقه وَإِنْ تُبْتُمْ أي إن تركتم أكل الربا ورجعتم عنه فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ يعني لا تظلمون أنتم الغريم بطلب زيادة على رأس المال. ولا تظلمون أنتم بنقصان رأس المال فلما نزلت هذه الآية قال بنو عمرو الثقفي ومن كان يعامل بالربا من غيرهم بل نتوب إلى اللّه فإنه لا يدان لنا يعني لا قوة لنا بحرب اللّه ورسوله ورضوا برءوس أموالهم. فشكا بنو المغيرة العسرة ومن كان عليه دين وقالوا : أخرونا إلى أن تدرك الغلات فأبوا أن يؤخروهم فأنزل اللّه عز وجل : وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ يعني وإن كان الذي عليه الحق من غرمائكم معسرا والعسر نقيض اليسر وهو تعذر وجدان المال ، وأعسر الرجل إذا أضاق ولم يجد ما يؤديه في دينه فَنَظِرَةٌ أي فإمهال وتأخير إِلى مَيْسَرَةٍ أي إلى زمن اليسار وهو ضد الإعسار وهو وجدان المال الذي يؤديه في دينه واختلفوا في حكم الآية وهل الإنظار مختص بالربا أم هو عام في كل دين؟ على قولين : القول الأول وهو قول ابن عباس وشريح والضحاك والسدي إن الآية في الربا. وذكر عن شريح أن رجلا خاصم رجلا إليه فقضى عليه وأمر بحبسه فقال رجل : كان عند شريح إنه معسر واللّه تعالى يقول في كتابه : ٢٨٠وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ فقال شريح إنما ذاك في الربا وإن اللّه تعالى قال في كتابه إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ولا يأمرنا اللّه بشيء ثم يعذبنا عليه. والقول الثاني وهو قول مجاهد وجماعة من المفسرين أن حكم الآية عام في كل دين على معسر واحتجوا بأن اللّه تعالى قال : وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ ولم يقل ذا عسرة ليكون الحكم عاما في جميع المعسرين وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ يعني وإن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدين فتتركوا رؤوس أموالكم للمعسر خير لكم ، وإنما جاز هذا الحذف للعلم به لأنه قد جرى ذكر المعسرين وذكر رأس المال فعلم أن التصدق راجع إليهما إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني أن التصدق خير لكم وأفضل لأن فيه الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى. (فصل : في ثواب إنظار المعسر والوضع عنه وتشديد أمر الدين والأمر بقضائه) (م) عن أبي قتادة أنه طلب غريما له فتوارى عنه ثم وجده فقال : إني معسر قال اللّه قال اللّه قال : فإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (من سره أن ينجيه اللّه من كرب القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه). (م) عن أبي اليسر قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله اللّه في ظله يوم لا ظل إلّا ظله). (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (كان فيمن كان قبلكم تاجر يداين الناس فإن رأى معسرا قال لفتيانه : تجاوزوا عنه لعل اللّه أن يتجاوز عنا فتجاوز اللّه عنه) وعن أبي موسى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن أعظم الذنوب عند اللّه أن يلقاه به عبد بعد الكبائر التي نهى اللّه عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء) أخرجه أبو داود (خ) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى اللّه عز وجل عنه ، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه اللّه) ، (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (مطل الغني ظلم ، زاد في رواية وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع). (ق) عن كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى فقال : يا كعب قلت : لبيك يا رسول اللّه فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك فقال كعب : قد فعلت يا رسول اللّه قال قم فاقضه. (ق) عن أبي هريرة قال : (كان لرجل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال : أعطوه فطلبوا سنة فلم يجدوا إلّا سنا فوقها فقال : أعطوه فقال : أوفيتني وفاك اللّه فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : إن خيركم أحسنكم قضاء وفي رواية أنه أغلظ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين استقضاه حتى هم به بعض أصحابه فقال : دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ثم أمر له بأفضل من سنه). (م) عن أبي قتادة الأنصاري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : (أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل اللّه والإيمان باللّه أفضل الأعمال فقام رجل فقال : يا رسول اللّه أرأيت إن قتلت في سبيل اللّه تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : نعم إن قتلت في سبيل اللّه وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كيف قلت قال أرأيت إن قتلت في سبيل اللّه أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلّا الدين فإن جبريل قال لي ذلك) عن محمد بن جحش قال : (كنا جلوسا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فرفع رأسه إلى السماء ثم وضع يده على جبهته ثم قال : سبحان اللّه ماذا نزل من التشديد فسكتنا وفزعنا. فلما كان من الغد سألته يا رسول اللّه : ما هذا التشديد الذي نزل فقال : والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل اللّه ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضي عنه دينه) أخرجه النسائي. قوله عز وجل : ٢٨١وَاتَّقُوا أي وخافوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّه قرئ بفتح التاء أي تصيرون فيه إلى اللّه وقرئ بضم التاء وفتح الجيمأي تردون فيه إلى اللّه ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ يعني من خير أو شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي في ذلك اليوم. وفي هذه الآية وعد شديد وزجر عظيم قال ابن عباس : هذه آخر آية نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقال جبريل ضعها على رأس مائتين وثمانين من سورة البقرة وعاش بعدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أحدا وعشرين يوما وقيل : تسع ليال وقيل سبعا ومات صلّى اللّه عليه وسلّم لليلتين خلتا من ربيع الأول في يوم الاثنين سنة إحدى عشرة من الهجرة. وروى الشعبي عن ابن عباس أن آخر آية نزلت آية الربا. قوله عز وجل : ٢٨٢يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ قال ابن عباس لما حرم الربا أباح السلم وقال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله اللّه في كتابه وأذن فيه. وقوله إِذا تَدايَنْتُمْ أي تعاملتم بالدين أو داين بعضكم بعضا والتداين تفاعل من الدين يقال داينته إذا عاملته بالدين وإنما قال بدين بعد قوله : إذا تداينتم لأن المداينة قد تطلق على المجازاة وعلى المعطاة فقيده بالدين ليعرف المراد من اللفظ ويخلص أحد المعنيين من الآخر. وقيل إنما قال بدين ليرجع الضمير إليه في قوله : فاكتبوه إذ لو لم يذكر ذلك لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين فلا يحسن النظم بذلك وقيل إنما ذكره تأكيدا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى مدة معلومة الأول والآخر مثل السنة والشهر ولا يجوز إلى غير مدة معلومة كما لو قال إلى الحصاد أو نحوه والأجل يلزم في الثمن في البيع وفي السلم حتى لا يكون لصاحب الحق الطلب قبل محل الأجل بخلاف القرض فإنه لا يلزم فيه الأجل عند أكثر أهل العلم. (ق) عن ابن عباس قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة وهم يسلفون في التمر العام والعامين فقال لهم : (من أسلف في تمر ففي كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم) وقوله تعالى : فَاكْتُبُوهُ أي اكتبوا الدين الذي تداينتم به بيعا كان ذلك أو سلما أو قرضا واختلفوا في هذه الكتابة فقيل : هي واجبة وهو مذهب عطاء وابن جريج والنخعي واختاره محمد بن جرير الطبري وقيل الأمر محمول على الندب والاستحباب فإن ترك فلا بأس وهو قول جمهور العلماء وقيل بل كانت الكتابة والإشهاد والرهن فرضا ثم نسخ بقوله تعالى : فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وهو قول الحسن والشعبي والحكم بن عيينة ثم بين اللّه تعالى كيفية الكتابة فقال تعالى : وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ أي ليكتب الدين بين الطالب والمطلوب كاتب بِالْعَدْلِ أي بالحق من غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم أجل ولا تأخيره قيل إن فائدة الكتابة هي حفظ المال من الجانبين لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه مقيد بالكتابة تعذر عليه طلب زيادة أو تقديم المطالبة قبل حلول الأجل ، ومن عليه الدين إذا عرف ذلك تعذر عليه الجحود أو النقص من أصل الدين الذي عليه ، فلما كانت هذه الفائدة من الكتابة أمر اللّه تعالى بها وَلا يَأْبَ أي ولا يمتنع كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب وتحمل الشهادة على الشاهد فقيل بوجوبهما لأن ظاهر الكلام نهى عن الامتناع من الكتابة وإيجابها على كل كتاب فإذا طولب بالكتابة وتحمل الشهادة من هو من أهلهما وجب عليه ذلك. وقيل : هو من فرض الكفاية وهو قول الشعبي فإن لم يوجد إلّا واحد وجب عليه ذلك وقيل هو على الندب والاستحباب وذلك لأن اللّه تعالى لما علمه الكتابة وشرفه بها استحب له أن يكتب ليقضي حاجة أخيه المسلم ويشكر تلك النعمة التي أنعم اللّه بها عليه وقيل : كانت الكتابة وتحمل الشهادة واجبتين على الكاتب والشاهد ثم نسخهما اللّه تعالى بقوله : وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ كَما عَلَّمَهُ اللّه أي كما شرعه اللّه وأمر به فَلْيَكْتُبْ وذلك أن يكتب بحيث لا يزيد ولا ينقص ويكتب ما يصلح أن يكون حجة عند الحاجة ولا يخص أحد الخصمين بالاحتياط له دون الآخر ، وأن يكون كل واحد منهما آمنا من أبطال حقه ، وأن يكون ما يكتبه متفقا عليه عند العلماء ، وأن يحترز من الألفاظ التي يقع النزاع فيها وهذه الأمور لا تحصل إلّا لمن هو فقيه عالم باللغة ومذاهب العلماء. وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ يعني أن المطلوب الذي عليه الحق يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه من الحق فيذكر قدره وجنسه وصفة الأجل ونحو ذلك. والإملال والإملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد وَلْيَتَّقِ اللّه ربه يعني المملي وَلا يَبْخَسْ أي ولا ينقص مِنْهُ أي من الحق الذي وجب شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أي جاهلا بالإملاء وقيل هو الطفل الصغير. وقال الشافعي : السفيه هو المبذر المفسد لماله ودينه أَوْ ضَعِيفاً يعني شيخا كبيرا وقيل : هو ضعيف العقل لعته أو جنون أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ يعني لخرس أو عمى أو عجمة في كلامه أو حبس أو غيبة لا يمكنه الحضور عند الكاتب أو يجهل بماله ، وعليه فهؤلاء كلهم لا يصح إقرارهم فلا بد من أن يقوم غيرهم مقامهم وهو قوله تعالى : فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ يعني ولي كل واحد من هؤلاء الثلاثة المحجور عليهم لأنه مقامه في صحة الإقرار. وقال ابن عباس : أراد بالولي صاحب الدين يعني إن عجز الذي عليه الحق عن الإملاء فليملل صاحب الحق لأنه أعلم بحقه بِالْعَدْلِ أي بالصدق وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ يعني وأشهدوا على حقوقكم شهيدين لأن المقصود من الكتابة هو الإشهاد مِنْ رِجالِكُمْ يعني من أهل ملتكم يعني من المسلمين الأحرار دون العبيد والصبيان وهذا قول أكثر أهل العلم. وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد وحجة هذا القول أن قوله من رجالكم عام يتناول العبيد وغيرهم وذلك لأن عقل الإنسان ودينه وعدالته تمنعه من الكذب ، فإذا اجتمعت هذه الشرائط فيه كانت شهادته معتبرة. وحجة جمهور العلماء ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا فهذا نص يقتضي أن من تحمل شهادة وجب عليه الأداء إذا ما طولب بها والعبد ليس كذلك فإن السيد إذا لم يأذن له في ذلك حرم عليه الذهاب إلى الشهادة فوجب أن لا يكون العبد من أهل الشهادة فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ أي فإن لم يكن الشاهدان رجلين فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ أي فليشهد رجل وامرأتان ، وأجمع الفقهاء على أن شهادة النساء مع الرجال جائزة في الأموال فيثبت الحق بشهادة رجل وامرأتين واختلفوا في غير الأموال فذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي إلى أنه يجوز شهادة النساء مع الرجال في سائر الحقوق غير العقوبات ، وذهب جماعة إلى أن غير المال لا يثبت إلّا برجلين عدلين ، وذهب الشافعي إلى أن ما يطلع عليه النساء غالبا كالولادة والرضاع والكبارة والثيوبة ونحوها تجوز شهادة رجل وامرأتين أو شهادة أربع نسوة. واتفقوا على أن شهادة النساء غير جائزة ولا مقبولة في العقوبات والحدود ، وقوله تعالى : مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ يعني من كان مرضيا عندكم في دينه وأمانته والشرائط المعتبرة في العدالة. وقبول الشهادة عشرة وهي : الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة ، وأن لا يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع عنه بها مضرة ، ولا يكون معروفا بكثرة الغلط والسهو ، وأن لا يكون بينه وبين من شهد عليه عداوة فشهادة الكافر مردودة لأن الكذاب لا تقبل شهادته. فالذي يكذب على اللّه أولى بأن ترد شهادته وجوز بعض أهل الرأي شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ولا تقبل شهادة العبيد وأجازها ابن شريح وابن سيرين وهو قول أنس ولا قول للمجنون معتبر حتى تصح شهادته. ولا تجوز شهادة الصبيان وسئل ابن عباس عن ذلك فقال : لا تجوز لأن اللّه تعالى قال : مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ والعدالة شرط وهو أن لا يكون الشاهد مقيما على الكبائر مصرا على الصغائر والمروءة شرط وهي ما تتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء وهي حسن الهباة والسيرة والعشرة والصناعة ، فإن كان الرجل يظهر في نفسه شيئا مما يستحيي أمثاله من إظهاره في الأغلب علم بذلك قلة مروءته وترد شهادته وانتفاء التهمة شرط فلا تقبل شهادة العدو على عدوه وإن كان مقبول الشهادة على غيره ، لأنه متهم في حق عدوه لا في حق غيره ولا تقبل شهادة الرجل لولده ووالده وتقبل شهادته عليهما ولا تقبل شهادة من يجر بشهادته إلى نفسه نفعا عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا ذي غمر على أخيه ولا مجرب شهادة ولا القانع أهل البيت لهم ولا ظنين في ولاء ولا قرابة). قال الفزاري : القانع التابع ، أخرجه الترمذي. قوله : لا تجوز شهادة خائن أراد بالخيانة الخيانة في الدين والمال والأمانة فإن من ضيع شيئا من أوامر اللّه أو ارتكب شيئا مما نهى اللّه عنه لا يكون عدلا. والغمر بكسر الغين الحقد والقانع هو السائل المستطعم وقيل : المنقطع إلى قوم يخدمهم فترد شهادته للتهمة في جر النفع إلى نفسه لأن التابع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم والظنين بكسر الظاء المتهم. وقوله تعالى : أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما أي تنسى إحدى المرأتين فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى لأن الغالب على طباع النساء النسيان فأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد حتى لو نسيت إحداهما تذكرها الأخرى فتقول حضرنا مجلس كذا وسمعنا كذا فيحصل بذلك الذكرى. وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال هو من الذكر أي تجعل إحداهما الأخرى ذكرا والمعنى أن شهادتهما تصيرا كشهادة ذكر ، والقول الأول أصح لأنه معطوف على تضل وهو النسيان. وقوله تعالى : وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا يعني إذا دعوا لتحمل الشهادة وسماهم شهداء لأنهم يكونون شهداء وهذا أمر إيجاب عند بعضهم. وقال قوم : يجب إذا لم يكن غيره فإن كان غيره فهو مخير ، وقيل : هو أمر ندب فهو مخير في جميع الأحوال. وقال بعضهم هذا في إقامة الشهادة وأدائها. ومعنى الآية ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا الأداء الشهادة التي تحملوها. وقيل : الآية في الأمرين جميعا يعني في التحمل والأداء والإقامة إذا كان عارفا. وقيل الشاهد بالخيار ما لم يشهد فإذا شهد وجب عليه الأداء وَلا تَسْئَمُوا أي ولا تملوا ولا تضجروا أَنْ تَكْتُبُوهُ الضمير راجع إلى الحق أو الدين صَغِيراً كان أَوْ كَبِيراً يعني قليلا كان الحق أو الدين أو كثيرا إِلى أَجَلِهِ يعني إلى محل الحق والدين ذلِكُمْ يعني ذلك الكتاب أَقْسَطُ عِنْدَ اللّه يعني أعدل عند اللّه لأنه أمر به واتباع أمره أعدل من تركه ، وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ يعني أن الكتابة تذكر الشهود وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا يعني وأحرى وأقرب إلى أن لا تشكوا في الشهادة إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً أي إلّا أن تقع تجارة حاضرة يدا بيد تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ أي فيما بينكم ليس فيها أجل فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي لا ضرر عليكم أَلَّا تَكْتُبُوها يعني التجارة الحاضرة ، والتجارة تقليب الأموال وتصريفها لطلب النماء والزيادة بالأرباح ، وإنما رخص اللّه تعالى في الكتابة والإشهاد في هذا النوع من التجارة لكثرة ما يجري بين الناس ، فلو كلفوا فيها الكتابة والإشهاد لشق ذلك عليهم ، ولأنه إذا أخذ كل واحد من المتبايعين حقه من صاحبه في ذلك المجلس لم يكن هناك خوف التجاحد فلا حاجة إلى الكتابة والإشهاد وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ يعني فيما جرت العادة بالإشهاد فيه. واختلفوا في هذا الأمر فقيل هو للوجوب فيجب أن يشهد في صغير الحق وكبيره ونقده ونسيئته وقيل : هو أمر ندب واستحباب وهو قول الجمهور. وقيل إنه منسوخ بقوله : فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ. وقوله تعالى : وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ هذا نهي عن المضارة وأصله يضارر بكسر الراء الأولى ومعناه لا يضار الكاتب فيأبى أن يكتب والشاهد فيأبى أن يشهد أو يضار الكاتب فيزيد أو ينقص أو يحرف ما أملي عليه فيضر صاحب الحق أو من عليه الحق ، وكذلك الشاهد وقيل : أصله يضارر بفتح الراء الأولى ومعناه أن يدعو الرجل الكاتب والشاهد وهما مشغولان فيقولان نحن على شغل مهم فاطلب غيرنا فيقول الداعي : إن اللّه أمركما أن تجيبا إذا دعيتما ويلح عليهما فيشغلهما عن حاجتهما فنهى عن مضارتهما ، وأمر أن يطلب غيرهما وَإِنْ تَفْعَلُوا يعني ما نهيتم عنه من الضرار فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أي معصية وخروج عن الأمر. وَاتَّقُوا اللّه أي خافوا اللّه واحذروه فيما نهاكم عنه من المضارة وغيرها وَيُعَلِّمُكُمُ اللّه يعني ما يكون إرشادا لكم في أمر الدنيا ، كما يعلمكم ما يكون إرشادا لكم في أمر الدين وَاللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعني أن اللّه تعالى عليم بجميع مصالح عباده لا يخفى عليه شيء من ذلك. قوله عز وجل : ٢٨٣وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ أي في سفر وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً يعني ولم تجدوا آلات الكتابة فَرِهانٌ جمع رهن وقرئ فرهان مَقْبُوضَةٌ يعني فارتهنوا ممن تدينونه رهونا مقبوضة لتكون وثيقة لكم بأموالكم ، وأصل الرهن الدوام يقال : رهن الشيء إذا دام وثبت ، والرهن ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه دينا. فإن قلت : لم شرط الارتهان في السفر مع عدم الكاتب ولا يختص به سفر دون حضر وقد صح أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي على طعام أخذه إلى أجل ، ولم يكن ذلك في سفر ولا عند عدم كاتب قلت ليس الغرض تجويز الارتهان في السفر خاصة دون الحضر ، ولكن لما كان السفر مظنة لإعواز الكاتب. والإشهاد أمر اللّه تعالى به على سبيل الإرشاد إلى حفظ الأموال لمن كان على سفر بأن يقيم التوثيق بالارتهان مقام الكتابة والإشهاد. واتفق العلماء على جواز الرهن في الحضر والسفر جميعا ومع وجود الكاتب وعدمه. وقال مجاهد : لا يجوز إلّا في السفر عند عدم الكاتب لظاهر الآية وأجاب الجمهور عن ظاهر الآية أن الكلام إنما خرج على الأغلب لا على سبيل الشرط. واتفق العلماء على أن الرهن لا يتم إلّا بالقبض وهو قوله تعالى : فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ يعني ارتهنوا واقبضوا ، لأن المقصود من الرهن هو استيثاق جانب صاحب الحق وذلك لا يتم إلّا بالقبض فلو رهن ولم يسلم لم يجبر الراهن على التسليم ، فإذا سلم الرهن لزم من جهته حتى لا يجوز له أن يسترجعه ما دام شيء من الحق باقيا قوله تعالى : فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً يعني فإن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق ولم يرتهن منه شيئا لحسن ظنه به فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ يعني فليؤد المديون الذي عليه الحق الذي كان أمينا في ظن الدائن الذي هو صاحب الحق أمانته يعني حقه سمي الدين أمانة وإن كان مضمونا لائتمانه عليه حيث أمن من جحوده فلم يكتب ولم يشهد عليه ولم يأخذ منه رهنا حث المديون على أن يكون عند ظن الدائن الذي ائتمنه وأن يؤدي إليه حقه الذي ائتمنه عليه ولم يرتهن منه عليه شيئا ثم زاد ذلك تأكيدا بقوله : وَلْيَتَّقِ اللّه رَبَّهُ أي المديون في أداء الحق عند حلول الأجل من غير مماطلة ولا جحود بل يعامله المعاملة الحسنة كما أحسن ظنه فيه ، ثم رجع إلى خطاب الشهود فقال تعالى : وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ يعني إذا دعيتم إلى إقامتها وأدائها وذلك لأن الشاهد متى امتنع من إقامة الشهادة وكتمها فقد أبطل بذلك حق صاحب الحق فلهذا نهى عن كتمان الشهادة وبالغ في الوعيد عليه فقال تعالى : وَمَنْ يَكْتُمْها يعني الشهادة فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ أي فاجر قلبه والآثم الفاجر ، وإنما أضيف الإثم إلى القلب لأن الأفعال من الدواعي والصوارف إنما تحدث في القلب فلما كان الأمر كذلك أضيف الإثم إلى القلب قيل : ما أوعد اللّه على شيء كإيعاده عن كتمان الشهادة فإنه تعالى قال فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وأراد به مسخ القلب نعوذ باللّه من ذلك وَاللّه بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يعني من بيان الشهادة وكتمانها ففيه وعيد وتحذير لمن كتم الشهادة ولم يظهرها. قوله عز وجل : ٢٨٤للّه ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وأهلها له عبيد وهو مالكهم وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه وهذا يتناول حديث النفس والخواطر الفاسدة التي ترد على القلب ولا يتمكن من دفعها ، والمؤاخذة بها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق : وأجيب عن هذا بأن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إظهاره إلى الوجود ، فهذا مما يؤاخذ الإنسان به. والقسم الثاني ما يخطر بالبال ولا يمكن دفعه عن نفسه لكن يكره ولا يعزم على فعله ولا إظهاره إلى الوجود فهذا معفو عنه بدليل قوله تعالى : لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ. وقال قوم : إن هذه الآية خاصة ثم اختلفوا في وجه تخصيصها فقال بعضهم : هي متصلة بالآية التي قبلها وإنما نزلت في كتمان الشهادة ومعنى الآية وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أيها الشهود من كتمان الشهادة أي تخفوه أي تخفوا الكتمان يحاسبكم به اللّه وهذا ضعيف ، لأن اللفظ هام وإن كان واردا عقيب قضية فلم يلزم صرفه إليها. وقال بعضهم : إن الآية نزلت فيمن يتولى الكافرين من المؤمنين والمعنى : وإن تبدوا أي تظهروا ما في أنفسكم يعني من ولاية الكفار أو تخفوه فلا تظهروه يحاسبكم به اللّه. وذهب أكثر العلماء إلى أن الآية عامة ثم اختلفوا فقال قوم : هي منسوخة بالآية التي بعدها ويدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال : لما نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للّه ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ الآية. اشتد ذلك على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم بركوا على الركب فقالوا : أي رسول اللّه كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصبنا بل قول سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل اللّه تعالى في أثرها : آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّه وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ، وَقالُوا : سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فلما فعلوا ذلك نسخها اللّه عز وجل فأنزل اللّه : لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا قال نعم : (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) قال نعم ربنا : (و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به) قال نعم : (و اعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) قال نعم أخرجه مسلم وله عن ابن عباس نحوه وفيه قد فعلت بدل نعم (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن اللّه تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يعملوا به أو يتكلموا به وفي رواية ما وسوست به صدورها) وقال قوم : إن الآية غير منسوخة لأن النسخ لا يرد إلّا على الأمر والنهي ولا يرد على الإخبار. وقول اللّه تعالى : يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه خبر فلا يرد عليه النسخ ثم اختلفوا في تأويلها فقال قوم : قد أثبت اللّه تعالى للقلب كسبا فقال : بما كسبت قلوبكم وليس للّه عبد أسر عملا أو أعلنه من حركة جارحة أو همة قلب إلّا يعلمه اللّه ثم يخبره به ويحاسبه عليه ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ، وقال آخرون في معنى الآية : إن اللّه تعالى يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم وأخفوه وعاقبهم عليه غير أن معاقبتهم على ما أخفوه أخف مما لم يعملوا به وهو ما يحدث لهم في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها وهذا قول عائشة عن أمية إنها سألت عائشة عن قول اللّه عز وجل وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه وعن قوله مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فقالت : ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : هذه معاتبة اللّه العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة حتى البضاعة يضعها في يد قميصه فيفقدها فيفزع لها ، حتى أن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير) أخرجه الترمذي ، وقال : حديث حسن غريب. وله عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إذا أراد اللّه بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد اللّه بعبده الشر أمسك عليه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة). وقال قوم في معنى الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم يعني مما عزمتم عليه أو تخفوه أي ولا تبدوه وأنتم عازمون عليه يحاسبكم به اللّه. فأما حديث النفس مما لم تعزموا عليه فإن ذلك مما لا يكلف اللّه نفسا إلّا وسعها ولا يؤاخذ به. قال عبد اللّه بن المبارك : قلت لسفيان : أيؤاخذ العبد بالهمة؟ فقال : إذا كانت عزما أخذ بها وقيل معنى المحاسبة الإخبار والتعريف فيرجع معنى هذه المحاسبة إلى كونه تعالى عالما بكل ما في الضمائر والسرائر مما ظهر وخفي ومعنى الآية : وإن تبدوا ما في أنفسكم فتعملوا به أو تخفوه مما أضمرتم ونويتم يحاسبكم به اللّه أي يخبركم به ويعرفكم إياه ، ثم يغفر للمؤمنين إظهارا لفضله ويعذب الكافرين إظهارا لعدله. يروى عن ابن عباس ويدل عليه أنه قال : يحاسبكم به اللّه ولم يقل : يؤاخذكم به لأن المحاسبة غير المؤاخذة ويدل عليه أيضا ما روي عن صفوان بن محرز المازني قال : بينما ابن عمر يطوف إذ عرض له رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في النجوى قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (يدني المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا وكذا فيقول : أعرف رب أعرف مرتين فيقول اللّه : سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم تطوى صحيفة حسابه ، وأما الآخرون وهم الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة اللّه على الظالمين) أخرجاه في الصحيحين. وقوله تعالى : فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ قال ابن عباس : يغفر لمن يشاء الذنب العظيم ويعذب من يشاء على الذنب الصغير لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وَاللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أنه تعالى قادر على كل شيء كامل القدرة فيغفر للمؤمنين فضلا ويعذب الكافرين عدلا. قوله عز وجل : ٢٨٥آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل من شيء فقالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ الآية لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا قال : قد فعلت ربنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا قال : قد فعلت ربنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ قال قد فعلت أخرجه الترمذي ، وقال حديث حسن. قال الزجاج : لما ذكر اللّه في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والصوم والحج والطلاق والإيلاء والحيض والجهاد وأقاصيص الأنبياء وما ذكر من كلام الحكماء ختم السورة بذكر تصديق نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين بجميع ذلك ومعنى آمن الرسول صدق الرسول يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم والمعنى صدق الرسول أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام منزل من عند اللّه عز وجل : وَالْمُؤْمِنُونَ أي وصدق المؤمنون بذلك أيضا كُلٌّ أي كل واحد من المؤمنين آمَنَ بِاللّه وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فهذه أربع مراتب من أصول الإيمان وضرورياته ، فأما الإيمان باللّه فهو أن يؤمن بأن اللّه واحد أحد لا شريك له ولا نظير له ويؤمن بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأنه حي عالم قادر على كل شيء ، وأما الإيمان بالملائكة فهو أن يؤمن بوجودهم وأنهم معصومون مطهرون وأنهم السفرة الكرام البررة وأنهم الوسائط بين اللّه تعالى وبين رسله. وأما الإيمان بكتبه فهو أن يؤمن بأن الكتب المنزلة من عند اللّه هي وحي اللّه إلى رسله ، وأنها حق وصدق من عند اللّه بغير شك ولا ارتياب ، وأن القرآن لم يحرف ولم يبدل ولم يغير ، وأنه مشتمل على المحكم والمتشابه ، وأن محكمه يكشف عن متشابهه. وأما الإيمان بالرسل فهو أن يؤمن بأنهم رسل اللّه إلى عباده وأمناؤه على وحيه ، وأنهم معصومون وأنهم أفضل الخلق ، وأن بعضهم أفضل من بعض وقد أنكر بعضهم ذلك وتمسك بقوله تعالى : لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وأجيب عنه بأن المقصود من هذا الكلام شيء آخر وهو إثبات نبوة الأنبياء والرد على اليهود والنصارى الذين يقرون بنبوة موسى وعيسى وينكرون نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وقد ثبت بالنص الصريح تفضيل بعض الأنبياء على بعض بقوله : (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) ومعنى قوله : لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ فتؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى بل نؤمن بجميع رسله ، وفي الآية إضمار تقديره وقالوا : يعني المؤمنين لا نفرق بين أحد من رسله وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا يعني سمعنا قولك وأطعنا أمرك ، والمعنى قال المؤمنون : سمعنا قول ربنا فيما أمرنا به ، وأطعناه فيما ألزمنا من فرائضه ، واستعبدنا به من طاعته ، وسلمنا له فيما أمرنا به ونهانا عنه ، غُفْرانَكَ رَبَّنا أي نسألك غفرانك ربنا ، أو يكون المعنى اغفر لنا غفرانك ربنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ يعني قالوا ، إليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا فاغفر ذنوبنا. روى البغوي بغير سند عن حكيم بن جابر : (أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : إن اللّه عز وجل قد أثنى عليك وعلى أمتك فسل تعطه). قال بتلقين اللّه تعالى غفرانك ربنا وإليك المصير. قوله عز وجل : ٢٨٦لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْساً إِلَّا وُسْعَها قيل : يحتمل أن يكون ابتداء خبر من اللّه تعالى ويحتمل أن يكون حكاية عن المؤمنين وفيه إضمار كأنه قال اللّه تعالى عنهم وقالوا : لا يكلف اللّه نفسا إلّا وسعها يعني طاقتها والوسع اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه. قال ابن عباس وأكثر المفسرين إن هذه الآية نسخت حديث النفس والوسوسة وذلك أنه لما نزل وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ضج المؤمنون منها وقالوا : يا رسول اللّه نتوب من عمل اليد والرجل واللسان فكيف نتوب من الوسوسة وحديث النفس؟ فنزلت هذا الآية. والمعنى أنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة وحديث النفس؟ كان ذلك ما لم تطيقوه وقال ابن عباس في رواية عنه : هم المؤمنون خاصة وسع اللّه عليهم أمر دينهم ولم يكلفهم ما لا يستطيعون. كما قال : يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وقال تعالى : وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وسئل سفيان بن عيينة عن قوله : لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْساً إِلَّا وُسْعَها قال : إلّا يسرها ولم يكلفها فوق طاقتها وهذا قول حسن ، لأن الوسع ما دون الطاقة وقيل معناه أن اللّه تعالى لا يكلف نفسا إلّا وسعها فلا يتعبدها بما لا تطيق. لَها ما كَسَبَتْ يعني للنفس ما عملت من الخير فلها أجره وثوابه. وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ يعني من الشر عليها وزره وعقابه وقيل في معنى الآية : إن اللّه تعالى لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره. قوله عز وجل : رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا وهذا تعليم من اللّه تعالى عباده المؤمنين كيف يدعونه ومعناه قولوا : ربنا لا تؤاخذنا أي لا تعاقبنا وإنما جاء بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد لأن المسيء قد أمكن من نفسه وطرق السبيل إليها بفعله فكأنه أعدى عليه من يعاقبه بذنبه ويأخذه به. إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا فيه وجهان : أحدهما أنه من النسيان الذي هو السهو وهو ضد التذكر قيل : كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطئوا عجلت لهم العقوبة فيحرم عليهم شيء مما كان حلالا لهم من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب ، فأمر اللّه المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك. فإن قلت : أليس فعل الناسي في محل العفو بدليل قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فإذا كان النسيان في محل العفو قطعا فما معنى العفو عنه بالدعاء؟ قلت : الجواب عنه من وجوه : الأول : أن النسيان على ضربين : أما الأول : فهو ما كان من العبد على وجه التضييع والتفريط ، وهو ترك ما أمر بفعله كمن رأى على ثوبه دما فأخر إزالته ، عنه ثم نسي فصلى فيه ، وهو على ثوبه فيعد مقصرا إذ كان يلزمه المبادرة إلى إزالته أما إذا لم يره فيعذر فيه وكذا لو ترك ما أمر بفعله على وجه السهو أو ارتكب منهيا عنه من غير قصد إليه كأكل آدم عليه السلام من الشجرة التي نهى عنها على وجه النسيان من غير عزم على المخالفة كما قال تعالى : وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً فمثل هذا يجب أن يسأل اللّه تعالى أن يعفو له عن ذلك. وأما الضرب الثاني فهو كمن ترك صلاة ثم نسيها أو ترك دراسة القرآن بعد أن حفظه حتى نسيه فهذا لا يعذر بنسيانه وسهوه لأنه فرط فثبت أن النسيان على قسمين وإذا كان كذلك صح طلب العفو والغفران عن النسيان. الوجه الثاني من الجواب أن الصحابة رضي اللّه عنهم كانوا من المتقين للّه حق تقاتة فإن صدر منهم ما لا ينبغي فلا يكون إلا على سبيل السهو والنسيان فطلبهم العفو والغفران لما يقع منهم على سبيل السهو والنسيان إنما هو لشدة خوفهم وتقواهم. الوجه الثالث أن المقصود من هذا الدعاء هو التضرع والتذلل للّه تعالى. وأما الخطأ في قوله أو أخطأنا فعلى وجهين أيضا : أحدهما أن يأتي العبد ما نهي عنه بقصد وإرادة فذلك خطأ منه وهو به مأخوذ فيحسن طلب العفو والغفران لذلك الفعل الذي ارتكبه. الوجه الثاني أن يكون الخطأ على سبيل الجهل والظن لأن له فعله كمن ظن أن وقت الصلاة لم يدخل وهو في يوم غيم فأخرها حتى خرج وقتها فهذا من الخطأ الموضوع عن العبد. لكن طلب العفو والغفران لسبب تقصيره وقوله : رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً يعني عهدا ثقيلا وميثاقا غليظا فلا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقضه وتركه كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا يعني اليهود فلم يقوموا به فعذبتهم عليه ، وقيل معناه ولا تشدد علينا كما شددت على اليهود من قبلنا وذلك أن اللّه تعالى فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم زكاة ومن أصاب منهم ثوبه نجاسة قطعها ومن أصاب ذنبا أصبح وذنبه مكتوب على بابه. ونحو هذا من الأثقال والآصار التي كتبت عليهم فسأل المسلمون ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات والعهود الثقيلة وقد أجاب اللّه تعالى دعاءهم برحمته وخفف عنهم بفضله وكرمه فقال تعالى : وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (و قيل الإصر ذنب لا توبة له فسأل المؤمنون ربهم أن يعصمهم من مثله رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ يعني لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به لثقل حمله علينا وتكليف ما لا يطاق على وجهين : أحدهما ما ليس في قدرة العبد احتماله كتكليف الأعمى النظر والزمن العدو فهذا النوع من التكليف الذي لا يكلف اللّه به عبده بحال. الوجه الثاني من تكليف ما لا يطاق هو ما في قدره العبد احتماله مع المشقة الشديدة والكلفة العظيمة كتكليف الأعمال الشاقة والفرائس الثقيلة كما كان في ابتداء الإسلام صلاة الليل واجبة ونحوه. فهذا الذي سأل المؤمنون ربهم لا يحملهم ما لا طاقة لهم به واستدل بهذه الآية من يقول إن تكليف ما لا يطاق جائز إذ لو لم يكن جائزا لما حسن طلب تخفيفة بالدعاء من اللّه تعالى. وقيل في قوله ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به هو حديث النفس والوسوسة وقيل هيجان الغلمة وقيل هو الحب وقيل هو شماتة الأعداء وقيل : هو الفرقة والقطيعة وقيل هو مسخ القردة والخنازير نعوذ باللّه من ذلك كله وَاعْفُ عَنَّا أي تجاوز عن ذنوبنا وامحها عنا وَاغْفِرْ لَنا أي استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا وَارْحَمْنا أي تغمدنا برحمة تنجينا بها من عقابك فإنه ليس بناج من عقابك إلّا من رحمته. وقيل : إنا لا ننال العمل بطاعتك ولا نترك معصيتك إلّا برحمتك ، وأصل الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وإذا وصف بها اللّه تعالى فليس يراد بها إلّا الإحسان المجرد والتفضل على العباد دون الرقة. وقيل : إن طلب العفو هو أن يسقط عنه عقاب ذنوبه ، وطلب المغفرة هو أن يستر عليه صونا له من الفضيحة كأن العبد يقول : أطلب منك العفو وإذا عفوت عني فاستره علي فإذا عفا اللّه تعالى عن العبد وستره طلب الرحمة التي هي الإنعام والإحسان ليفوز بالنعيم والثواب أَنْتَ مَوْلانا أي ناصرنا وحافظنا وولينا ومتولي أمورنا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ يعني الجاحدين الذين عبدوا غيرك وجحدوا وحدانيتك. قال ابن عباس في قوله غفرانك ربنا قال قد غفرت لكم. وفي قوله : لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال لا أؤاخذكم ربنا ولا تحمل علينا إصرا قال : لا أحمل عليكم ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به. قال : لا أحملكم واعف عنا ، واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. قال قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين. كان معاذ إذا ختم سورة البقرة قال آمين. (م) عن عبد اللّه بن مسعود قال : لما أسرى برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السادسة وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها. وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها قال : إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى قال فراش من ذهب قال فأعطي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثلاثا أعطي الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك باللّه من أمته شيئا من المقحمات. المقحمات : الذنوب العظام التي تولج مرتكبها النار وأصل الاقتحام الولوج. (ق) عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه معناه كفتاه من كل ما يحذر من كل هامة وشيطان فلا يقربه تلك الليلة وقيل كفتاه عن قيام الليل. (م) عن ابن عباس قال بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عنده جبريل عليه السلام إذ سمع نقيضا من فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلّا اليوم فنزل منه ملك فقال : هذا ملك نزل من السماء إلى الأرض لم ينزل قط إلّا اليوم فسلم ، وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلّا أعطيته عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : إن اللّه كتب لنا كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام أنزل فيه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان أخرجه الترمذي وقال : حديث غريب آخر تفسير سورة البقرة واللّه أعلم بمراده وأسرار كتابه. |
﴿ ٠ ﴾