٣الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي يصدقون بالغيب ، وأصل الإيمان في اللغة التصديق قال اللّه تعالى : وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدق فإذا فسر الإيمان بهذا فإنه لا يزيد ولا ينقص لأن التصديق لا يتجزأ حتى يتصور كما له مرة ونقصانه أخرى. والإيمان في لسان الشرع عبارة عن التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان ، وإذا فسر بهذا فإنه يزيد وينقص وهو مذهب أهل السنة من أهل الحديث وغيرهم ، وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة وهي أن المصدق بقلبه إذا لم يجمع إلى تصديقه العمل بموجب الإيمان من الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك من أركان الدين هل يسمى مؤمنا أم لا؟ فيه خلاف ، والمختار عند أهل السنة أنه لا يسمى مؤمنا لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فنفى عنه اسم الإيمان أو كمال الإيمان وأنكر أكثر المتكلمين زيادة الإيمان ونقصانه ، وقالوا : متى قبل الزيادة والنقص كان ذلك شكا وكفرا. وقال المحققون من متكلمي أهل السنة : إن نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة الأعمال ونقصانها وبهذا أمكن الجمع بين ظواهر نصوص الكتاب والسنة التي جاءت بزيادة الإيمان ونقصانه وبين أصله من اللغة. وقال بعض المحققين : إن نفس التصديق قد يزيد وينقص بكثرة النظر في الأدلة والبراهين وقلة إمعان النظر في ذلك ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى وأثبت من إيمان غيرهم لأنهم لا تعتريهم شبهة في إيمانهم ولا تزلزل ، وما غيرهم من آحاد الناس فليس كذلك ، إذ لا يشك عاقل أن نفس تصديق أبي بكر رضي اللّه عنه لا يساويه تصديق غيره من آحاد الأمة وقيل إنما سمي الإقرار والعمل إيمانا لوجه المناسبة لأنه من شرائعه ، والدليل على أن الأعمال من الإيمان ما روي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلّا اللّه ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان) أخرجاه في الصحيحين. البضع بكسر الباء ما بين الثلاثة إلى العشرة والشعبة القطعة من الشيء وإماطة الأذى عن الطريق وهو عزل الحجر والشوك ونحو ذلك عنه. والحياء بالمد وهو انقباض النفس عن فعل القبيح وإنما جعل من الإيمان وهو اكتساب لأن المستحيي ينزجر باستحيائه عن المعاصي فصار من الإيمان ، وقيل الإيمان مأخوذ من الأمن فسمي المؤمن مؤمنا لأنه يؤمن نفسه من عذاب اللّه. والإسلام هو الانقياد والخضوع فكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا إن لم يكن معه تصديق وذلك أن الرجل قد يكون مسلما في الظاهر غير مصدق في الباطن (ق) عن أبي هريرة قال : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال يا رسول اللّه ما الإيمان (قال أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر) قال يا رسول اللّه ما الإسلام؟ قال : (أن تعبد اللّه ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان). قال : يا رسول اللّه ما الإحسان؟ قال (أن تعبد اللّه كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك). قال : يا رسول اللّه متى الساعة؟ قال : (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، ولكن سأحدثك عن أشراطها. إذا ولدت الأمة ربها فذاك من أشراطها ، وإذا كانت الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك من أشراطها ، وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها ، وخمس لا يعلمهن إلّا اللّه) ثم تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إِنَّ اللّه عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ إلى قوله : عَلِيمٌ خَبِيرٌ قال ثم أدبر الرجل فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ردوا عليّ هذا الرجل) فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم) وفي أفراد مسلم من حديث عمر بن الخطاب نحو هذا الحديث وبمعناه ، وقد تقدم الكلام على معنى الإيمان والإسلام. وبقي أشياء تتعلق بمعنى الحديث ، فقوله كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوما بارزا أي ظاهرا ، وقوله : أن تؤمن باللّه ولقائه وتؤمن بالبعث الآخر هو بكسر الخاء. وقيل في الجامع بين قوله وتؤمن بلقاء اللّه وبالبعث فإن اللقاء يحصل بمجرد الانتقال إلى الدار الآخرة وهو الموت والبعث هو بعده عند قيام الساعة وفي تقييده بالآخر وجه آخر وهو أن خروجه إلى الدنيا بعث من الأرحام وخروجه من القبر إلى الآخرة بعث آخر. قوله ما الإحسان هو هنا الإخلاص في العمل وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام لأن من أتى بلفظ الشهادة وأتى بالعمل من غير إخلاص لم يكن محسنا ، وقيل أراد بالإحسان المراقبة وحسن الطاعة ، فإن من راقب اللّه حسن عمله ، وهو المراد بقوله ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، وأشراط الساعة علاماتها التي تظهر قبلها. قوله : إذا ولدت الأمة ربها يعني سيدها والمعنى أن الرجل تكون له الأمة فتلد له ولدا فيكون ذلك الولد ابنها وسيدها ، ورعاء البهم بكسر الراء وفتح الباء وإسكان الهاء من البهم وهي الصغار من أولاد الضأن ، والمعنى أنه يبسط المال على أهل البادية وأشباههم حتى يتباهون في البناء ويسودون الناس فذلك من أشراط الساعة واللّه أعلم. قوله تعالى بِالْغَيْبِ ، والغيب هنا مصدر وضع موضع الاسم ، فقيل : الغائب غيب وهو ما كان مغيبا عن العيون قال ابن عباس : الغيب هنا كل ما أمرت بالإيمان به مما غاب عن بصرك من الملائكة والبعث والجنة والنار والصراط والميزان. وقيل : الغيب هنا هو اللّه تعالى وقيل القرآن وقيل بالآخرة وقيل بالوحي وقيل بالقدر وقال عبد الرحمن بن يزيد كنا عند عبد اللّه بن مسعود فذكرنا أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وما سبقونا به فقال عبد اللّه بن مسعود إن أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم كان بينا لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ إلى قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يداومون عليها في مواقيتها بحدودها وإتمام أركانها وحفظها من أن يقع فيها خلل في فرائضها وسنتها وآدابها ، يقال : قام بالأمر وأقام الأمر إذا أتى به معطى حقوقه ، والمراد به الصلوات الخمس. والصلاة في اللغة الدعاء والرحمة ومنه وصل عليهم أي ادع لهم وأصله من صليت العود إذا لينته فكأن المصلي يلين ويخشع. وفي الشرع اسم لأفعال مخصوصة من قيام وركوع وسجود وقعود ودعاء مع النية وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أي أعطيناهم من الرزق وهو اسم لما ينتفع به من مال وولد و أصله الحظ والنصيب يُنْفِقُونَ أي يخرجون ويتصدقون في طاعة اللّه تعالى وسبيله ، ويدخل فيه إنفاق الواجب كالزكاة والنذر والإنفاق على النفس وعلى من تجب نفقته عليه والإنفاق في الجهاد إذا وجب عليه والإنفاق في المندوب ، وهو صدقه التطوع ومواساة الإخوان ، وهذه كلها مما يمدح بها وأدخل من التي هي للتبعيض صيانة لهم وكفا عن السرف والتبذير المنهي عنهما في الإنفاق. |
﴿ ٣ ﴾