١٩٦

قوله عز وجل : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه قال ابن عباس وهو أن يتمهما بمناسكهما وحدودهما وسننهما

وقيل إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك

وقيل هو أن تفرد لكل واحد منهما سفرا

وقيل إتمامها أن تكون النفقة حلالا وتنتهي عما نهى اللّه عنه.

وقيل إتمامها أن تخرج من أهلك لهما لا للتجارة ولا لحاجة.

وقيل إذا شرع فيهما وجب عليه الإتمام.

(فصل) واتفقت الأمة على وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلا

(م) عن أبي هريرة قال خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : (أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل أفي كل عام يا رسول اللّه؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم) وفي وجوب العمرة قولان للشافعي أصحهما

إنها واجبة وهو قول علي وابن عمر وابن عباس والحسن وابن سيرين وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير ومجاهد وإليه ذهب أحمد بن حنبل ،

والقول الثاني إنها سنة ويروى ذلك عن ابن مسعود وجابر وإبراهيم والشعبي وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة. حجة من أوجب العمرة ما روي في حديث الضبي بن معبد أنه قال لعمر بن الخطاب إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ وإني أهلك بهما فقال أهديت لسنة نبيك محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أخرجه أبو داود والنسائي بأطول من هذا وجه الدليل أنه أخبر عن وجوبهما عليه وصوبه عمر وبين أنه مهتد بما رآه في وجوبهما عليه لسنة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.

وروي عن ابن عباس أنها كقرينها في كتاب اللّه : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه وعن ابن عمر قال : (الحج والعمرة فريضتان) وعنه : (ليس أحد من خلق اللّه إلّا وعليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع إلى ذلك سبيلا) وعن ابن عباس قال : (العمرة واجبة كوجوب الحج) وعن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس لحجة مبرورة ثواب إلّا الجنة) أخرجه النسائي والترمذي وزاد : (و ما من مؤمن يظل يومه محرما إلّا غابت الشمس بذنوبه) وقال حديث حسن صحيح. وجه الدليل أنه أمر بالمتابعة بين الحج والعمرة والأمر للوجوب ولأنها قد نظمت مع الحج في الأمر بالإتمام فكانت واجبة كالحج ، وحجة من قال بأنها سنة ما روي عن جابر قال : (سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن العمرة أواجبة هي؟ قال : لا وأن تعتمروا خير لكم) أخرجه الترمذي. وأجيب عنه بأن هذا الحديث يرويه حجاج بن أرطأة وحجاج ليس ممن يقبل منه ما تفرد به لسوء حفظه وقلة مراعاته لما يحدث به واجتمعت الأمة على جواز أداء الحج والعمرة على ثلاثة أنواع إفراد وتمتع وقران فصورة الإفراد أن يحج ثم بعد فراغه منه يعتمر من أدنى الحل أو يعتمر قبل أشهر الحج ثم يحج في تلك السنة. وصورة التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بأعمالها فإذا فرغ من أعمالها أحرم بالحج من مكة في تلك السنة وإنما سمي تمتعا لأنه يستمتع بمحظورات الإحرام بعد التحلل من العمرة إلى أن يحرم بالحج. وصورة القرآن أن يحرم بالحج والعمرة معا في أشهر الحج فينويهما بقلبه وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم أدخل عليها الحج قبل أن يفتتح الطواف فيصير قارنا.

واختلفوا في الأفضل فذهب مالك والشافعي إلى أن الإفراد أفضل ثم التمتع ثم القران يدل عليه ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أفرد الحج ، أخرجه مسلم وله عن ابن عمر قال : أهللنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الحج مفردا ،

وفي رواية إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أهل بالحج مفردا ، وله عن جابر قال : قدمنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ونحن نصرخ بالحج صراخا. وعن ابن عمر قال : افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإن ذلك أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج. أخرجه مالك في الموطأ وذهب الثوري وأبو حنيفة إلى أن القران أفضل يدل عليه ما روي عن أنس قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يلبي بالحج والعمرة جميعا

وفي رواية سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول لبيك عمرة وحجا ، أخرجاه في الصحيحين.

وذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إلى أن التمتع أفضل ، يدل عليه ما روي عن ابن عباس قال : (تمتع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو بكر وعمر وعثمان فأول من نهى عنهما معاوية) أخرجه الترمذي

(ق) عن ابن عمر قال تمتع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالعمرة إلى الحج وكان من الناس من أهدى ومنهم لم يهد فلما قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكة قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت والصفا والمروة وليقصر وليتحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وطاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين قدم مكة فاستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف من السبع ومشى أربعة أطواف ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم سلم فانصرف فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أشواط ثم لم يحل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض وطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من أهدى فساق الهدي من الناس).

اختلفت الروايات في حجة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هل كان مفردا أو متمتعا أو قارنا؟ وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة ورجحت كل طائفة نوعا وادّعت أن حجة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كذلك وطريق الجمع بين روايات الصحابة واختلافهم في حجته صلّى اللّه عليه وسلّم أنه كان أولا مفردا ثم إنه صلّى اللّه عليه وسلّم أحرم بالعمرة بعد ذلك وأدخلها على الحج فصار قارنا فمن روى أنه كان مفردا فهو الأصل ومن روي القرآن اعتمد آخر الأمر ومن روي التمتع أراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع والارتفاق وقد ارتفق بالقرآن كارتفاق التمتع وزيادة وهو الاقتصار على فعل واحد ، وبهذا أمكن الجمع بين الأحاديث المختلفة في صفة حجة الوداع وهو الصحيح وذكر الشافعي في كتاب اختلاف الحديث كلاما موجزا في ذلك فقال إن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان منهم المفرد والقارن والمتمتع وكل كان يأخذ منه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر به وأذن فيه ويجوز في لغة العرب إضافة الفعل إلى الأمر به كما تجوز إضافته إلى فاعله كما يقال بنى فلان داره وأريد به أنه أمر ببنائها وكما يروى : (أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رجم ماعزا) وإنما أمر برجمه ، واختار الشافعي الإفراد واحتج في ترجيحه بأنه صح ذلك من رواية جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة وهؤلاء لهم مزية في حجة الوداع على غيرهم ، فأما جابر فهو أحسن الصحابة سياقة لرواية حديث حجة الوداع فإنه ذكرها من حين خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلم

من المدينة إلى آخرها فهو أضبط لها من غيره ،

وأما ابن عمر فصح عنه أنه كان آخذا بخطام ناقة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في حجة الوداع وإنما سمعه يلبي بالحج.

وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه والدين معروف مع كثرة بحثه عن أحوال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم

وأما عائشة فقربها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم معروف واطلاعها على باطن أمره وظاهره مع كثرة فقهها وعلمها ، ومن دلائل ترجيح الإفراد أن الخلفاء الراشدين أفردوا الحج بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وواظبوا عليه.

وأركان الحج خمسة الإحرام والوقوف بعرفة والطواف والسعي بين الصفا والمروة وحلق الرأس أو التقصير في أصح القولين. وأركان العمرة أربعة : الإحرام والطواف والسعي والحلق أو التقصير ، وبهذه الأركان تمام الحج والعمرة.

قوله تعالى : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ أصل الحصر في اللغة الحبس والتضييق ، ثم اختلف أهل اللغة في الحصر والإحصار فقيل إذا رد الرجل عن وجه يريده فقد أحصر ، وإذا حبس فقد حصر وقال ابن السكيت أحصره المرض إذا منعه من السفر أو حاجة يريدها وحصره العدو إذا ضيق عليه. وقال الزجاج : الرواية عن أهل اللغة يقال للذي يمنعه الخوف أو المرض أحصر والمحبوس حصر ، وقال ابن قتيبة في قوله : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ هو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين الحج من مرض أو كسر أو عد ويقال أحصر فهو محصر فإن حبس في دار أو سجن قيل حصر فهو محصور وذهب قوم إلى أنهما بمعنى واحد. قال الزجاج : يقال الرجل من حصرك هنا ومن أحصرك وقال أحمد بن يحيى أصل الحصر والإحصار الحبس وحصر في الحبس أقوى من أحصر

وقيل الإحصار يقال في المنع الظاهر كالعدو والمنع الباطن كالمرض والحصر لا يقال إلّا في المنع الباطن

وأما قوله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فمحمول على الأمرين وبحسب اختلاف أهل اللغة في معناها اختلف الفقهاء في حكمها فذهب قوم إلى أن كل مانع من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة فإنه يبيح له التحلل من إحرامه وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة وهو مذهب أبي حنيفة ويدل عليه ما روي عن عكرمة قال حدّثني الحجاج بن عمرو قال قال : رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :

(من كسر أو عرج فقد حلّ وعليه حجة أخرى) قال عكرمة : فذكرت ذلك لأبي هريرة وابن عباس فقالا : صدق ، أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن وذهب قوم إلى أنه لا يباح له التحلل إلّا بحبس العدو وهو قول ابن عمر وابن عباس وأنس وبه قال مالك والليث والشافعي وأحمد وقالوا الحصر والإحصار بمعنى واحد واحتجوا بأن نزول الآية كان في قصة الحديبية في سنة ست وكان ذلك حبسا من جهة العدو لأن كفار مكة منعوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه من الطواف بالبيت فنزلت هذه الآية فحل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من عمرته ونحر هديه وقضاها من قابل ويدل عليه أيضا سياق الآية وهو قوله : فَإِذا أَمِنْتُمْ والأمن لا يكون إلّا من خوف وثبت عن ابن عباس أنه قال لا حصر إلّا حصر العدو فثبت بذلك أن المراد من الإحصار هو حصر العدو دون المرض وغيره. وأجيب عن حديث الحجاج بن عمرو بأنه محمول على من شرط التحلل بالمرض ونحوه إحرامه ويدل على جواز الاشتراط في الإحرام ما روي عن ابن عباس أن ضباعة بنت الزبير أتت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت يا رسول اللّه إني أريد الحج أفأشترط؟ قال نعم قالت كيف أقول؟ قال قولي لبيك اللّهم لبيك محلي من الأرض حيث تحبسني أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. ولغيره أن ضباعة بنت الزبير كانت وجعة فقال لها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : حجي واشترطي وقولي اللّهم محلى حيث حبستني فذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إذا اشترط في الحج فعرض له مرض أو عذر أن يتحلل ويخرج من إحرامه ثم المحصر يتحلل بذبح الهدي وحلق الرأس وهو المراد من

قوله تعالى : فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ومعنى الآية فإن أحصرتم دون تمام الحج أو العمرة فحللتم فعليكم ما استيسر من الهدي والهدي ما يهدى إلى البيت وأعلاه بدنة وأوسطه بقرة وأدناه شاة.

قال ابن عباس : شاة لأنه أقرب إلى اليسر ، ومحل ذبح هدي المحصر حيث أحصر وإليه ذهب الشافعي لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذبح الهدي عام الحديبية بها ، وذهب أبو حنيفة إلى أنه يقيم على إحرامه ويبعث بهديه إلى الحرم ويواعد من يذبحه هناك ثم يحل في ذلك الوقت.

وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ أي مكانه الذي يجب أن يذبح فيه ، وفيه قولان

أحدهما أنه الحرم فإن كان حاجا فمحله يوم النحر وإن كان معتمرا فمحله يوم يبلغ هديه إلى الحرم وهو قول أبي حنيفة

والقول الثاني محل ذبحه حيث أحصر سواء كان في الحل أو في الحرم ، ومعنى محله يعني حيث يحل ذبحه وأكله وهو قول مالك والشافعي وأحمد ويدل عليه ما روي عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم معتمرين فحال كفار قريش دون البيت فنحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وحلق رأسه ، أخرجه البخاري.

قوله عز وجل : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ معناه ولا تحلقوا رؤوسكم في حال الإحرام إلّا أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو أذى وهو القمل أو الصداع فَفِدْيَةٌ فيه إضمار تقديره فحلق رأسه فعليه فدية ، نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة

(ق) عن كعب بن عجرة قال : أتى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأنا أوقد تحت قدر لي والقمل يتناثر على وجهي فقال : أيؤذيك هوام رأسك؟ قال قلت نعم قال فاحلق وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك نسيكة لا أدري بأي ذلك بدأ

وفي رواية قال نزلت هذه الآية : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ وذكر نحوه وفي أخرى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم وذكره ، وفي أخرى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال له : ما كنت أرى أن الوجع بلغ منك ما أرى أو ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك ما أرى أتجد شاة؟

قلت لا قال : فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع). قال كعب فنزلت في خاصة وهي لكم عامة ومعنى

قوله تعالى فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أي صوم ثلاثة أيام أَوْ صَدَقَةٍ يعني إطعام ثلاثة أصوع ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أَوْ نُسُكٍ واحدتها نسيكة أى ذبيحة وأعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدناها شاة وهذه الفدية على التخيير إن شاء ذبح أو صام أو تصدق وكل هدي أو طعام يلزم المحرم فإنه لمساكين الحرم إلّا هدي المحصر فإنه يذبحه حيث أحصر.

وأما الصوم فله أن يصوم حيث شاء.

قوله تعالى : فَإِذا أَمِنْتُمْ يعني من خوفكم وبرأتم من مرضكم

وقيل إذا أمنتم من الإحصار فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ قال ابن الزبير معناه فمن أحصر حتى فاته الحج ولم يتحلل فقدم مكة فخرج من إحرامه بعمل عمرة فاستمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السنة المستقبلة ثم حج فيكون متمتعا بذلك الإحلال إلى إحرامه الثاني في العام المقبل

وقيل معناه فإذا أمنتم وقد أحللتم من إحرامكم بعد الإحصار ولم تعتمروا في تلك السنة ثم اعتمرتم في السنة القابلة في أشهر الحج ثم أحللتم فاستمتعتم بإحلالكم إلى الحج ثم أحرمتم بالحج فعليكم ما استيسر من الهدي وقال ابن عباس : هو الرجل يقدم معتمرا من أفق الآفاق في أشهر الحج فقضى عمرته وأقام بمكة حلالا حتى أنشأ منها الحج فحج من عامه ذلك فيكون مستمتعا بالإحلال عن العمرة إلى إحرامه بالحج. ومعنى التمتع في اللغة هو الاستمتاع بعد الخروج من العمرة والتلذذ بما كان محظورا عليه في حال الإحرام إلى إحرامه بالحج فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ يعني فعليه ما استيسر من الهدي وهو شاة يذبحها يوم النحر ، فلو ذبح قبله بعد ما أحرم بالحج أجزأه عند الشافعي كدم الجبرانات ولا يجزئه ذبحه عند أبي حنيفة قبل يوم النحر كدم الأضحية. ولوجوب دم التمتع خمس شرائط :

أحدها : أن يقدم العمرة على الحج.

الثاني : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج.

الثالث : أن يحج بعد الفراغ من العمرة في هذه السنة.

الرابع : أن يحرم من مكة ولا يعود إلى ميقات بلده ، فإن رجع إلى الميقات وأحرم منه لم يكن متمتعا.

الخامس : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام فهذه الشروط معتبرة في وجوب دم التمتع ومتى فقد شيء منها لم يكن متمتعا ودم التمتع دم جبران عند الشافعي فلا يجوز أن يأكل منه.

وقال أبو حنيفة : هو دم نسك فيجوز أن يأكل منه وقوله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ يعني الهدي فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أي فعليه صيام ثلاثة أيام في وقت اشتغاله بالحج. قيل : يصوم يوما قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة

وقيل بل المستحب أن يصوم في أيام الحج بحيث يكون يوم عرفة مفطرا فإن لم يصم قبل يوم النحر فقيل يصوم أيام التشريق وبه قال مالك وأحمد وهو أحد قولي الشافعي.

وقيل : بل يصوم بعد أيام التشريق وهو رواية عن أحمد والقول الآخر للشافعي وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ يعني وصوموا سبعة أيام إذا رجعتم إلى أوطانكم وأهليكم قاله ابن عباس وبه قال الشافعي ، فلو صام قبل الرجوع إلى أهله لم يجزه عنده

وقيل المراد من الرجوع هو الفراغ من أعمال الحج والأخذ في الرجوع فعلى هذا يجزئه أن يصوم السبعة أيام بعد الفراغ من أعمال الحج وقبل الرجوع إلى أهله وبه قال أبو حنيفة : تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ يعني في الثواب والأجر

وقيل كاملة في قيامها مقام الهدي لأنه قد يحتمل أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدي فاعلم اللّه أن العشرة بكمالها هي القائمة مقام الهدي

وقيل فائدة التكرار التوكيد كقول الفرزدق :

ثلاث واثنتان فهن خمس وسادسة تميل إلى سهام

ولأن القرآن أنزل بلغة العرب والعرب تكرر الشيء تريد به التوكيد

وقيل فائدة ذلك الفذلكة في علم الحساب وهو أن يعلم العدد مفصلا ثم يعلمه جملة ليحتاط به من جهتين فكذلك

قوله تعالى : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ

وقيل إن العرب لما كانوا لا يعلمون الحساب وكانوا يحتاجون إلى زيادة بيان وإيضاح فلذلك قال تلك عشرة كاملة

وقيل لفظه خبر ومعناه أمر أي أكملوها ولا تنقصوها ذلِكَ أي هذا الحكم الذي تقدم لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قيل حاضر والمسجد الحرام هم أهل مكة وهو قول مالك.

وقيل : هم أهل الحرم وبه قال طاوس. وقال ابن جريج : هم أهل عرفة والرجيع وضجنان ونخلة. وقال الشافعي : كل من كان وطنه من مكة على أقل من مسافة القصر فهو من حاضري المسجد الحرام

وقيل هم من دون الميقات وقال أبو حنيفة حاضر والمسجد الحرام أهل الميقات والمواقيت ذو الحليفة والجحفة وقرن ويلملم وذات عرق فمن كان من أهل هذه المواضع فما دونها إلى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام.

وقيل حاضرو المسجد الحرام من تلزمه الجمعة فيه ومعنى الآية أن المشار إليه في قوله : ذلِكَ يرجع إلى أقرب مذكور وهو لزوم الهدي أو بدله على المتمتع وهو الآفاقي فأما المكي إذا تمتع أو قرن فلا هدي عليه ولا بد له لأنه لا يجب عليه أن يحرم من الميقات فإقدامه على التمتع لا يوجب خللا في حجه فلا يجب عليه الهدي ويدل على ذلك ما أخرجه البخاري تعليقا من حديث عكرمة قال سئل ابن عباس عن متعة الحج فقال : (أهلّ المهاجرون والأنصار وأزواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلّا من قلد الهدي فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب وقال : من قلد الهدي فإنه لا يحل من شيء حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي كما قال تعالى فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى أمصاركم والشاة تجزئ فجمعوا بين النسكين في عام بين الحج والعمرة فإن اللّه أنزله في كتابه وسنة نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم وأباحه للناس من غير أهل مكة قال اللّه تعالى : ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وفي الحديث زيادة قال الحميدي قال أبو مسعود الدمشقي هذا حديث غريب ولم أجده إلّا عند مسلم بن الحجاج ولم يخرجه في صحيحه ، من أجل عكرمة فإنه لم يرو عنه في صحيحه وعندي أن البخاري إنما أخذه من مسلم.

وقوله تعالى : وَاتَّقُوا اللّه أي فيما فرضه عليكم ونهاكم عنه في الحج وفي غيره وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقابِ يعني لمن خالف أمره وتهاون بحدوده وارتكب مناهيه ..

﴿ ١٩٦