سورة النساءوهي مائة وخمس وسبعون آية وثلاثة آلاف وخمس وأربعون كلمة وستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفا. بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ١قوله عز وجل : يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب للكافة فهو كقوله يا بني آدم اتَّقُوا رَبَّكُمُ أي احذروا أمر ربكم أن تخالفوه فيما أمركم به أو نهاكم عنه ثم وصف نفسه بكمال القدرة فقال تعالى الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني من أصل واحد وهو آدم أبو البشر عليه السلام وإنما أنث الوصف على لفظ النفس وإن كان المراد به الذكر فهو كما قال بعضهم : أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال فإنما قال ولدته أخرى لتأنيث وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها يعني حواء وذلك أن اللّه تعالى لما خلق آدم عليه السلام ألقى عليه النوم ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى ، وهو قصير. فلما استيقظ رآها جالسة عند رأسه فقال لها : من أنت؟ قالت : امرأة قال : لما ذا خلقت قالت خلقت لتسكن إليّ فمال إليها وألفها لأنها خلقت منه واختلفوا في أي وقت خلقت حواء. فقال كعب الأحبار ووهب وابن إسحاق خلقت قبل دخوله الجنة وقال ابن مسعود وابن عباس إنما خلقت في الجنة بعد دخوله إياها وَبَثَّ مِنْهُما يعني نشر وأظهر من آدم وحواء رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً إنما وصف الرجال بالكثرة دون النساء لأن حال الرجال أتم وأكمل وهذا كالتنبيه عن أن اللائق بحال الرجال الظهور والاستشهار وبحال النساء الاختفاء والخمول وَاتَّقُوا اللّه الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ إنما كرر التقوى للتأكيد وأنه أهل أن يتقى والتساؤل باللّه هو كقولك أسألك باللّه واحلف عليك باللّه واستشفع إليك باللّه وَالْأَرْحامَ قرئ بفتح الميم ومعناه واتقوا الأرحام أن تقطعوها وقرئ بكسر الميم فهو كقولك سألتك باللّه وبالرحم وناشدتك باللّه وبالرحم لأن العرب كان من عادتهم أن يقولوا ذلك والرحم القرابة. وإنما استعير اسم الرحم للقرابة لأنهم خرجوا من رحم واحدة وقيل هو مشتق من الرحمة لأن القرابة يتراحمون ويعطف بعضهم على بعض. وفي الآية دليل على تعظيم حق الرحم والنهي عن قطعها ويدل على ذلك أيضا الأحاديث الواردة في ذلك (ق) عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله اللّه ومن قطعني قطعه اللّه (ق) عن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال من سره أن يبسط عليه من رزقه وينسأ في أنزه فليصل رحمه قوله وينسأ في أثره أي يؤخر له في أجله. (ق) عن جبير بن مطعم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال (لا يدخل الجنة قاطع) قال سفيان في روايته يعني قاطع رحم وعن الحسن قال من سألك باللّه فأعطه ومن سألك بالرحم فأعطه وعن ابن عباس قال : الرحم معلقة بالعرش فإذا أتاها الواصل بشت به وكلمته وإذا أتاها القاطع احتجبت عنه إِنَّ اللّه كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً يعني حافظا والرقيب في صفة اللّه تعالى هو الذي لا يغفل عما خلق فيلحقه نقص ويدخل عليه خلل وقيل هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء من أمر خلقه فبيّن بقوله : إِنَّ اللّه كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً إنه يعلم السر وأخفى ، وإذا كان كذلك فهو جدير بأن يخاف ويتقى. قوله عز وجل : ٢وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم كان في حجره فلما بلغ اليتيم طلب المال الذي له فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت هذه الآية فلما سمعها العم قال : (أطعنا اللّه وأطعنا الرسول نعوذ باللّه من الحوب الكبير ودفع إلى اليتيم ماله فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا. فإنه يحل داره يعني جنته فلما قبض الصبي أنفقه في سبيل اللّه فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : ثبت الأجر وبقي الوزر فقالوا كيف ثبت الأجر وبقي الوزر؟ قال ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على أبيه. والخطاب في قوله تعالى وَآتُوا خطاب للأولياء والأوصياء واليتامى جمع يتيم وهو الصبي الذي مات أبوه واليتيم في اللغة الانفراد ومن الدرة اليتيمة لانفرادها واسم اليتيم يقع على الصغير والكبير لغة لبقاء معنى الانفراد عن الآباء لكن في العرف اختص اسم اليتيم بمن لم يبلغ مبلغ الرجال. فإذا بلغ الصبي وصار يستغني بنفسه عن غيره زال عنه اسم اليتم وسئل ابن عباس اليتيم متى ينقطع عنه اسم اليتم؟ قال إذا أونس منه الرشد وإنما سماهم يتامى بعد البلوغ على مقتضى اللغة أو لقرب عهدهم باليتم وإن كان قد زال عنهم بالبلوغ وقيل المراد باليتامى الصغار الذين لم يبلغوا والمعنى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ بعد البلوغ وتحقق الرشد وقيل معناه وآتوا اليتامى الصغار ما يحتجون إليه من نفقة وكسوة و القول الأول هو الصحيح إذا المراد باليتامى البالغون لأنه لا يجوز دفع المال إلى اليتيم إلا بعد البلوغ وتحقق الرشد وَلا تَتَبَدَّلُوا أي ولا تستبدلوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ يعني الخبيث الذي هو حرام عليكم بالحلال من أموالكم واختلفوا في هذا التبديل فقال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي كان أولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم ويجعلون مكانه الرديء ، فربما كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة ويجعل مكانها الهزيلة ويأخذ الدرهم الجيد ويجعل مكانه الزيف ويقول شاة بشاة ودرهم بدرهم فذلك تبديلهم فنهوا عنه وقال عطاء هو الربح في مال اليتيم وهو صغير لا علم له بذلك. وقيل إنه ليس بإبدال حقيقة. وإنما هو أخذه مستهلكا وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء والصغار وإنما كان يأخذ الميراث الأكابر من الرجال وقيل هو أكل مال اليتيم عوضا عن أكل أموالهم فنهوا عن ذلك وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ يعني مع أموالكم وقيل معناه ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم في الإنفاق واعلم أن اللّه تعالى نهى عن أكل مال اليتيم وأراد به جميع التصرفات المهلكة للمال وإنما ذكر الأكل لأنه معظم المقصود إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً يعني أن أكل مال اليتيم من غير حق إثم عظيم والحوب الإثم. قوله عز وجل : وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى يعني وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن فانكحوا غيرهن من الغرائب (ق) عن عروة أنه سأل عائشة رضي اللّه تعالى عنهما عن قوله تعالى : وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ- إلى قوله- أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينتقص صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن قالت عائشة رضي اللّه عنها فاستفتى الناس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ذلك فأنزل اللّه عز وجل وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ- إلى- وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فبيّن اللّه لهم هذه الآية أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنتها في إكمال الصداق وإن كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء قال فكلما يتركونها حين يرغبونها عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق. وقال الحسن كان الرجل من أهل المدينة تكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له نكاحها فيتزوجها لأجل مالها وهي لا تعجبه كراهية أن يدخل غريب فيشاركه في مالها ثم يسيء صحبتها ويتربص بها إلى أن تموت فيورثها فعاب اللّه ذلك عليهم وأنزل هذه الآية. وقال عكرمة في روايته عن ابن عباس كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء أو أكثر فإذا صار معدما من نساء مال إلى مال يتيمته التي في حجره فأنفقه فقيل لهم : لا تزيدوا على أربع حتى لا يحوجكم إلى أخذ مال اليتامى وقيل كانوا يتحرجون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء فيتزوجون ما شاؤوا فربما عدلوا وربما لم يعدلوا فلما أنزل اللّه تعالى في أموال اليتامى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ أنزل هذه الآية ٣وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى يقول فكلما خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء ألا تعدلوا فيهن فلا تتزوجوا أكثر مما يمكنكم القيام بحقهن ، لأن النساء في الضعف كاليتامى. وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والضحاك والسدي : ثم رخص اللّه تعالى في نكاح أربع فقال تعالى : فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ يعني ما حل لكم من النساء واستدلت الظاهرية بهذه الآية على وجوب النكاح قالوا لأن قوله فانكحوا أمر والأمر للوجوب. وأجيب عنه بأن قوله تعالى فانكحوا إنما هو بيان لما يحل من العدد في النكاح وتمسك الشافعي في بيان أن النكاح ليس بواجب بقوله وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ إلى قوله ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ الآية فحكم في هذه السورة بأن ترك النكاح خير من فعله وذلك يدل على أنه ليس بواجب ولا مندوب وقوله تعالى : مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ معناه اثنين اثنين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا وهو غير منصرف لأنه اجتمع فيه أمران : العدل والوصف والواو بمعنى أو في هذا الفصل لأنه لما كانت أو بمنزلة واو النسق جاز أن تكون الواو بمنزلة أو. وقيل إن الواو أفادت أنه يجوز لكل أحد أن يختار لنفسه قسما من هذه الأقسام بحسب حاله فإن قدر على نكاح اثنتين فاثنتان. وإن قدر على ثلاث فثلاث وإن قدر على أربع فأربع إلا أنه يضم عددا وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز لأحد أن يزيد على أربع نسوة وأن الزيادة على أربع من خصائص رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم التي لا يشاركه فيها أحد من الأمة ويدل على أن الزيادة على أربع غير جائزة وأنها حرام ما روي عن الحارث بن قيس أو قيس بن الحارث قال : أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال اختر منهن أربعا. أخرجه أبو داود. عن ابن عمران غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يختار منهن أربعا. أخرجه الترمذي قال العلماء : فيجوز للحر أن يجمع بين أربع نسوة حرائر ولا يجوز للعبد أن ينكح أكثر من امرأتين وهو قول أكثر العلماء لأنه خطاب لمن ولي وملك وذلك للأحرار دون العبيد. وقال مالك في إحدى الروايتين عنه وربيعة : يجوز للعبد أن يتزوج بأربع نسوة واستدل بهذه الآية وأجاب الشافعي بأن هذه الآية مختصة بالأحرار ويدل عليه آخر الآية وهو قوله : فَإِنْ خِفْتُمْ ألّا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم أو العبد لا يملك شيئا فثبت بذلك أن المراد من حكم الآية الأحرار دون العبيد. وقوله تعالى : فَإِنْ خِفْتُمْ يعني فإن خشيتم وقيل فإن علمتم أَلَّا تَعْدِلُوا يعني بين الأزواج الأربع فَواحِدَةً يعني فانكحوا واحدة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني وما ملكتم من السراري لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق مثل ما يلزم في الحرائر ولا قسم لهن ذلِكَ أَدْنى أي أقرب أَلَّا تَعُولُوا معناه أقرب من أن لا تعولوا فحذف لفظة من لدلالة الكلام عليه ومعنى أن لا تعولوا أي لا تميلوا ولا تجوروا وهو قول أكثر المفسرين لأن أصل العول الميل يقال : عال الميزان إذا مال وقيل معناه لا تجاوزوا ما فرض اللّه عليكم ومنه عول الفرائض إذا جاوزت سهامها وقيل معناه ذلك أدنى أن لا تضلوا. وقال الشافعي رحمه اللّه تعالى معناه أن لا تكثر عيالكم وقد أنكر على الشافعي من ليس له إحاطة بلغة العرب. فقال إنما يقال من كثرة العيال أعال الرجل يعيل إعالة إذا كثر عياله. قال وهذا من خطأ الشافعي لأنه انفرد به ولم يوافقه عليه أحد وإنما قال هذه المقالة من أنكر على الشافعي وخطأه من غير علم له بلغة العرب فقد روى الأزهري في كتابه تهذيب اللغة عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله الفصحاء ألا تعولوا أي لا تكثر عيالكم. وروى الأزهري عن الكسائي قال عال الرجل إذا افتقر وأعال إذا كثر عياله قال ومن العرب الفصحاء من يقول عال يعول إذا كثر عياله قال الأزهري وهذا يقوي قول الشافعي لأن الكسائي لا يحكي عن العرب إلا ما حفظه وضبطه وقول الشافعي نفسه حجة لأنه عربي فصيح والذي اعترض عليه وخطأه عجل ولم يتثبت فيما قال ولا ينبغي للحضري أن يعجل إلى إنكار ما لا يحفظه من لغات العرب هذا آخر كلام الأزهري. وبسط الإمام فخر الدين الرازي في هذا الموضع من تفسيره ورد على أبي بكر الرازي ثم قال الطعن لا يصدر إلا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة. وحكى البغوي عن أبي حاتم قال كان الشافعي أعلم بلسان العرب منا ولعله لغة ويقال هي لغة حمير وقرأ طلحة بن مصرف ألا تعيلوا بضم التاء وهو حجة للشافعي. ٤وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ قال الكلبي وجماعة هذا خطاب للأولياء قال أبو صالح كان الرجل إذا تزوج أيمة أخذ صداقها دونها فنهاهم اللّه عن ذلك. وقيل إن ولي المرأة كان إذا زوجها فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها لا قليلا ولا كثيرا ، وإن كان زوجها غريبا حملوها إليه على بعير ولا يعطيها من مهرها غير ذلك فنهاهم اللّه عن ذلك وأمرهم أن يدفعوا الحق إلى أهله. وقال الحضرمي كان أولياء النساء يعطي هذا أخته على أن يعطيه الآخر أخته ولا مهر بينهما وهذا هو الشغار فنهاهم اللّه عن ذلك وأمرهم بتسمية المهر في العقد (ق) عن ابن عمر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن الشغار في العقد والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الرجل ابنته وليس بينهما صداق. وقيل الخطاب للأزواج وهذا أصح وهو قول الأكثرين لأن الخطاب فيما قبل مع الناكحين وهم الأزواج أمرهم اللّه تعالى بإتيان نسائهم الصداق والصداق المهور واحدها صدقة بفتح الصاد وضم الدال نِحْلَةً يعني فريضة مسماة وقيل عطية وهبة. وقيل نحلة يعني عن طيب نفس وأصل النحلة العطية على سبيل التبرع وهي أخص من الهبة وسمي الصداق نحلة من حيث إنه لا يجب في مقابلته غير التمتع دون عرض مالي (ق) عن عقبة بن عامر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج). وقوله تعالى : فَإِنْ طِبْنَ يعني النساء المتزوجات لَكُمْ يعني للأزواج عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ يعني من الصداق ومن هنا لبيان الجنس لا للتبعيض لأنها لو وهبت المرأة لزوجها جميع صداقها جاز نَفْساً نصب على التمييز والمعنى فإن طابت نفوسهن عن شيء من ذلك الصداق المبين فوهبن ذلك لكم فنقل الفعل من النفوس إلى أصحابها فخرجت النفس مفسرا فلذلك وحد النفس وقيل لفظه واحد ومعناه الجمع فَكُلُوهُ يعني ما وهبنه لكم هَنِيئاً مَرِيئاً يعني طيبا سائغا وقيل الهنيء الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء والمريء المحمود العاقبة وفي الآية دليل على إباحة هبة المرأة صداقها وأنها تملكه ولا حق للولي فيه. قوله تعالى : ٥وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اختلفوا في هؤلاء السفهاء من هم فقيل هم النساء نهى اللّه الرجال أن يؤتوا النساء أموالهم سواء كن أزواجا أو بنات أو أمهات وقيل هم الأولاد خاصة يقول لا تعط ولدك السفيه مالك الذي هو قيامك فيفسده عليك وقيل امرأتك وابنك السفيه. قال ابن عباس لا تعمد إلى مالك الذي خولك اللّه وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك وابنك فيكونوا هم الذين يقومون عليك ثم تنظر إلى ما بين أيديهم أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في رزقهم ومؤنتهم. وقال الكلبي : إذا علم الرجل إن امرأته سفيهة مفسدة وإن ولده سفيه مفسد لا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله فيفسده. وقال سعيد بن جبير هو مال اليتيم يكون عندك يقول لا تؤته إياه وأنفق عليه منه حتى يبلغ وإنما أضاف المال إلى الأولياء لأنهم قوامها ومدبروها. وأصل السفه الخفة واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل في الأمور الدنيوية والدينية والسفيه المستحق الحجر هو الذي يكون مبذرا في ماله ومفسدا في دينه فلا يجوز لوليه أن يدفع إليه ماله. وقيل إن السفه المذكور في هذه الآية ليس هو صفة ذم لهؤلاء وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم وضعفهم عن القيام بحفظ المال فقوله تعالى : وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ يعني الجهال بموضع الحق أموالكم الَّتِي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِياماً يعني قوام معايشكم يقول المال هو قوام الناس وقوام معايشهم كن أنت قيم أهلك أنفق عليهم ولا تؤت مالك امرأتك وولدك فيكونوا هم الذين يقومون عليك. ولما كان المال سببا للقيام بالمعاش سمي به إطلاقا لاسم المسبب على السبب على سبيل المبالغة لأنه به يقام الحج والجهاد وأعمال البر وفكاك الرقاب من النار وَارْزُقُوهُمْ فِيها أي أطعموهم وَاكْسُوهُمْ يعني لمن يجب عليكم رزقه وكسوته لما نهى اللّه عن إيتاء المال للسفيه أمر أن يجري رزقه وكسوته وإنما قال : وارزقوهم فيها ولم يقل منها لأنه أراد اجعلوا لهم فيها رزقا والرزق من اللّه تعالى هو العطية من غير حد ولا قطع ومعنى الرزق من العباد هو الأجر الموظف المعلوم لوقت معلوم محدود وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً يعني قولا جميلا لأن القول الجميل يؤثر في القلب ويزيل السفه وقيل معناه عدوهم عدة جميلة من البر والصلة. قال عطاء يقول : إذا ربحت أعطيتك وإن غنمت قسمت لك حظا وقيل معناه الدعاء أي ادعوا لهم. قال ابن زيد إن لم يكن ممن تجب عليك نفقته فقل له عافانا اللّه وإياك بارك اللّه فيك. وقيل معناه قولوا لهم قولا تطيب به أنفسهم وهو أن يقول الولي لليتيم السفيه : مالك عندي وأنا أمين عليه فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك. وقال الزجاج معناه علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل. قوله عز وجل : ٦وَابْتَلُوا الْيَتامى الآية نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه وذلك أن رفاعة مات وترك ابنه ثابتا وهو صغير فجاء عمه إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقال له إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وَابْتَلُوا الْيَتامى يعني اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحقوق أموالهم حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ أي مبلغ الرجال والنساء فَإِنْ آنَسْتُمْ أي أبصرتم وعرفتم مِنْهُمْ رُشْداً يعني عقلا وصلاحا في الدين وحفظا للمال وعلما بما يصلحه. (فصل في أحكام تتعلق بالحجر وفيه مسائل) المسألة الأولى : الابتلاء يختلف باختلاف أحوال اليتامى فإن كان ممن يتصرف بالبيع والشراء في الأسواق يدفع إليه شيئا يسيرا من المال ، وينظر في تصرفه وإن كان ممن لا يتصرف في الأسواق فيختبر بنفقته على أهله وعبيده وإجرائه وتصرفه في أموال داره ، وتختبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها فإذا رأى حسن تدبير اليتيم وحسن تصرفه في الأمور مرار أو غلب على الظن رشده دفع إليه ماله بعد بلوغه ولا يدفع إليه ماله وإن كان شيخا يغلب عليه السفه حتى يؤنس منه الرشد. المسألة الثانية : قال الإمام أبو حنيفة : تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة. وقال الشافعي هي غير صحيحة. واحتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية وذلك لأن قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح يقتضي أن هذا الابتلاء إنما يحصل قبل البلوغ والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في جميع تصرفاته فثبت أن قوله وابتلوا اليتامى أمر للأولياء بالإذن لهم في البيع والشراء قبل البلوغ أجاب الشافعي بأن قال ليس المراد وابتلوا اليتامى الإذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله فإن آنستم منهم رشدا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وإنما تدفع إليهم أموالهم بعد البلوغ وإيناس الرشد فثبت بموجب هذه الآية أنه لا يدفع إليه ماله حال الصغر فوجب أن لا يصح تصرفه حال الصغر وإنما المراد من الابتلاء هو اختبار عقله واستكشاف حاله في معرفة المصالح والمفاسد. المسألة الثالثة : في بيان البلوغ وذلك بأربعة أشياء اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء. واثنان يختصان بالنساء أما اللذان يشترك فيهما الرجال والنساء ف أحدهما بالسن فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة. حكم ببلوغه غلاما كان أو جارية. ويدل عليه ما روى عن ابن عمر قال : عرضت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني. ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. أخرجاه في الصحيحين وهذا قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة سنة وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة والثاني الاحتلام وهو إنزال المني الدافق سواء أنزل باحتلام أو جماع فإذا وجد ذلك من الصبي أو الجارية حكم ببلوغه لقوله تعالى وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ولقوله صلّى اللّه عليه وسلّم لمعاذ : خذ من كل حالم دينارا أما نبات الشعر الخشن حول الفرج فهو يدل على البلوغ في أولاد المشركين لما روى عن عطية القرظي قال : كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل. فكنت ممن لم ينبت وهل يكون ذلك علامة عن البلوغ في أولاد المسلمين؟ فيه قولان : أحدهما أنه يكون بلوغا كما في أولاد المشركين والثاني لا يكون ذلك بلوغا في حق أولاد المسلمين لأنه يمكن الوقوف على مواليد أولاد المسلمين والرجوع إلى قول آبائهم بخلاف الكفار فإنه لا يوقف على مواليدهم ولا يقبل في ذلك قول آبائهم لكفرهم فجعل الإنبات الذي هو أمارة البلوغ بلوغا في حقهم. وأما الذي يختص بالنساء فهو الحيض والحبل فإذا حاضت الجارية بعد استكمال تسع سنين حكم ببلوغها وكذلك إذا ولدت حكم ببلوغها قبل الوضع بستة أشهر لأنها أقل مدة الحمل. المسألة الرابعة : في بيان الرشد وهو أن يكون مصلحا في دينه وماله فالصلاح في الدين هو اجتناب الفواحش والمعاصي التي تسقط بها العدالة والصلاح في المال هو أن لا يكون مبذرا والتبذير أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيوية ولا مثوبة أخروية أو لا يحسن التصرف فيغبن في البيع والشراء. فإذا بلغ الصبي وهو مفسد لماله ودينه لم ينفك عنه الحجر ولا ينفذ تصرفه في ماله. وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا كان مصلحا لماله زال عنه الحجر وإن كان مفسدا لدينه وإذا كان لما له مفسدا لا يدفع إليه المال حتى يبلغ خمسة وعشرين سنة غير أنه ينفذ تصرفه قبله والقرآن حجة الشافعي في استدامة الحجر عليه لأن اللّه تعالى قال فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ أمر بدفع المال بعد البلوغ وإيناس الرشد والفاسق لا يكون رشيدا وبعد بلوغه خمسا وعشرين سنة وهو مفسد لماله بالإنفاق غير رشيد فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه كما قبل بلوغ هذا السن. المسألة الخامسة : إذا بلغ الصبي أو الجارية وأونس منه الرشد زال عنه الحجر ودفع إليه ماله سواء تزوج أو لم يتزوج وقال مالك إن كانت امرأة لا يدفع إليها المال ما لم تتزوج فإذا تزوجت دفع إليها مالها ولا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج ما لم تكبر وتجرب. المسألة السادسة : إذا بلغ الصبي رشيدا زال عنه الحجر فلو عاد سفيها ينظر فإن كان مبذرا لماله حجر عليه وإن كان مفسدا في دينه فعلى وجهين : أحدهما أن يعاد عليه الحجر كما يستدام إذا بلغ وهو بهذه الصفة. والثاني لا يحجر عليه لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء. وعند أبي حنيفة لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد اللّه بن جعفر ابتاع أرضا سبخة بستين ألف درهم فقال علي : لآتين عثمان ولأحجرن عليك فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك فقال الزبير أنا شريكك في بيعك فأتى علي عثمان فقال احجر على هذا فقال الزبير أنا شريكه فقال عثمان كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير فكان اتفاقا منهم على جواز الحجر حتى حتى احتال الزبير لدفعه وقوله تعالى : وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً الخطاب للأولياء يعني يا معشر الأولياء لا تأكلوا أموال اليتامى بغير حق وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا يعني لا تبادروا كبرهم ورشدهم فتفرطوا في إنفاقها وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبروا فيلزمكم تسليمها إليهم. ثم بيّن تعالى حال الأولياء وقسمهم قسمين فقال تعالى : وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ أي فليمتنع من أكل مال اليتيم ولا يرزأه قليلا ولا كثيرا وَمَنْ كانَ فَقِيراً يعني محتاجا إلى مال اليتيم وهو يحفظه فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : إني فقير وليس لي ولي يتيم فقال كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل. واختلف العلماء في حكم هذه الآية فروي عن عمر وابن عباس وابن جبير وأبي العالية وعبيدة السلماني وأبي وائل ومجاهد ومقاتل أنه يأخذ من مال اليتيم على وجه القرض. واختلفوا في أنه هل يلزمه القضاء فذهب قوم إلى أنه يلزمه القضاء إذا أيسر وهو المراد من قوله تعالى فليأكل بالمعروف والمعروف القرض أي يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه ، فإذا أيسر قضاه وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير قال عمر بن الخطاب : إني أنزلت نفسي من مال اللّه بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف فإذا أيسرت قضيت. وقال قوم لا ضمان عليه ولا قضاء بل يكون ما يأكله كالأجرة له على عمله وهو قول الحسن والشعبي والنخغي وقتادة قال الشعبي لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة ثم القائلون بجواز الأكل من مال اليتيم اختلفوا في قوله فليأكل بالمعروف. فقال عطاء وعكرمة يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف ولا يكتسي منه ولا يلبس الكتان ولا الحلل لكن يأكل ما يسد به الجوع ويلبس ما يستر به العورة. وقال الحسن يأكل من تمر نخله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه فأما الذهب والفضة فلا يأخذ منه شيئا فإن أخذ وجب عليه رده. وقال الكلبي المعروف هو ركوب الدابة وخدمة الخادم ، وليس له أن يأكل من ماله شيئا وروي أن رجلا قال لابن عباس إن لي يتيما وإن له إبلا أفأشرب من لبن إبله فقال ابن عباس إن كنت تبغي ضالة إبل وتهنأ جرباها وتليط حوضها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضر نسل ولا ناهك في الحلب وقال قوم المعروف أن يأخذ من ماله بقدر قيامه وأجرة عمله ولا قضاء عليه وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم وقوله تعالى : فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ هذا أمر إرشاد وليس بواجب أمر اللّه تعالى الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد البلوغ لتزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة لأنه إذا كانت عليه بينة كان أبعد من أن يدعى عدم القبض وتظهر بذلك أمانة الوصي وتسقط عنه اليمين عند إنكار اليتيم القبض وَكَفى بِاللّه حَسِيباً يعني محاسبا ومجازيا وشاهدا به قوله تعالى : ٧لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ نزلت هذه الآية في أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأته ويقال لها أم كحة وثلاث بنات منها فقام رجلان هما ابن عم الميت ووصياه يقال لهما سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا من ماله. وذلك أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير من الذكور وإنما كانوا يورثون الرجال يقولون لا يعطى الإرث إلّا من قاتل وحاز الغنيمة وحمى الحوزة فجاءت أم كحة امرأة أوس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت : يا رسول اللّه مات أوس بن ثابت وترك ثلاثة بنات وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن وقد ترك أبوهن مالا حسنا وهو عند سويد وعرفجة ولم يعطياني ولا بناته منه شيئا وهن في حجري ولا يطعمن ولا يسقين فدعاهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالا : يا رسول اللّه إن ولدها لا يركبن فرسا ولا يحملن كلأ ولا ينكبن عدوا فأنزل اللّه هذه الآية وبين أن الإرث ليس مختصا بالرجال بل هو أمر يشترك فيه الرجال والنساء. فقال تعالى للرجال يعني الذكور من أولاد الميت وعصبته نصيب أي حظ مما ترك الوالدان والأقربون يعني من لميراث وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ يعني وللإناث من أولاد الميت حظ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ يعني من المال المخلف عن الميت نَصِيباً مَفْرُوضاً يعني معلوما والفرض ما فرضه اللّه تعالى وهو آكد من الواجب فلما نزلت هذه الآية مجملة ولم يبين كم هو النصيب أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى سويد وعرفجة لا تفرقا من المال شيئا فإن اللّه تعالى قد جعل لبناته نصيبا مما ترك ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل فيهن فأنزل اللّه تعالى : يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلادِكُمْ الآية فلما نزلت أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى سويد وعرفجة أن ادفعا إلى أم كحة الثمن مما ترك وإلى بناته الثلثين ولكما باقي المال. قوله عز وجل : ٨وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ يعني قسمة الميراث فعلى هذا القول يكون الخطاب للوارثين أُولُوا الْقُرْبى يعني القرابة الذين لا يرثون وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ إنما قدم اليتامى لشدة ضعفهم وحاجتهم فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي فارضخوا لهم من المال قبل القسمة. واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم هذه الآية منسوخة بآية المواريث وهذا قبل نزول آية المواريث فلما نزلت آية المواريث جعلت لأهلها ونسخت هذه الآية وهي رواية مجاهد عن ابن عباس وقول سعيد بن المسيب وعكرمة والضحاك وقتادة وقال قوم هي محكمة غير منسوخة. وهي الرواية الأخرى عن ابن عباس وهو قول أبي موسى الأشعري والحسن وأبي العالية والشعبي وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير ومجاهد والنخعي والزهري ثم اختلف العلماء بعد القول بأنها محكمة هل هذا الأمر أمر وجوب أو ندب على قولين : أحدهما أنه واجب فقيل إن كان لوارث كبيرا وجب عليه أن يرضخ لمن حضر القسمة شيئا من المال بقدر تطيب به نفسه وإن الوارث صغيرا وجب على الولي أن يعتذر إليهم ويقول إني لا أملك هذا المال وهو لهؤلاء الضعفاء. قال ابن عباس إن كان الورثة كبارا رضخوا لهم وإن كان الورثة صغارا اعتذر إليهم فيقول الولي أو الوصي إني لا أملك هذا المال وإنما هو للصغار ولو كان لي منه شيء لأعطيتكم وإن يكبروا فسيعرفوا حقكم هذا هو القول المعروف وقال بعضهم : هذا حق واجب في مال الصغار والكبار فإن كان الورثة كبارا تولوا إعطاءهم بأنفسهم وإن كانوا صغارا أعطى وليهم. وروى محمد بن سيرين أن عبيدة السلماني قسم أموال أيتام فأمر بشاة فذبحت وصنعت طعاما لأجل هذه الآية وقال لولا هذه الآية لكان هذا من مالي ، وقال الحسن والنخعي هذا الرضخ مختص بقسمة الأعيان فإذا آل الأمر إلى قسمة الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك فقولوا لهم قولا معروفا وقيل كانوا يعطون التابوت والأواني ورث الثياب والمتاع الذي يستحي من قسمته والقول الثاني إن هذا الأمر ندب واستحباب لا على سبيل الفرض والإيجاب وهذا القول هو الأصح الذي عليه العمل اليوم واحتجوا لهذا القول بأنه لو كان لهؤلاء حق معين لبينه اللّه تعالى كما بين سائر الحقوق فحيث لم يبين علمنا أن ذلك غير واجب وقيل في معنى الآية أن المراد بالقسمة الوصية فإذا حضر الوصية من لا يرث من الأقرباء واليتامى والمساكين أمر اللّه الوصي أن يجعل لهم نصيبا من تلك الوصية ويقول لهم مع ذلك قولا معروفا وقوله : وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً هو أن لا يتبع العطية بالمن والأذى. قوله تعالى : ٩وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً يعني أولادا صغارا خافُوا عَلَيْهِمْ يعني الفقر قيل هذا خطاب للذين يجلسون عند المريض وقد حضره الموت فيقول له انظر لنفسك فإن أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئا قدم لنفسك أعتق وتصدق وأعط فلا يزالون به حتى يأتي على عامة ماله فنهاهم اللّه عن ذلك وأمرهم بأن يأمروه بالنظر لولده ولا يزيد على الثلث في وصيته ولا يجحف. والمعنى كما أنكم تكرهون بقاء أولادكم في الضعف والجوع من غير مال فاخشوا اللّه ولا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الصغار من ماله وحاصل هذا الكلام كما أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك فلا ترضه لأخيك المسلم. وكما أنه لو كان هذا القائل هو الموصي لسره أن يحثه من يحضره على حفظ ماله لولده ولا يدعهم عالة يتكففون الناس مع ضعفهم وعجزهم. وقيل هو الرجل يحضره الموت ويريد أن يوصي بشيء فيقول له من حضره من الرجال اتق اللّه وامسك أموالك لولدك فيمنعونه من الوصية لأقاربه المحتاجين وقيل الآية يحتمل أن تكون خطابا لمن حضر أجله ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصية لئلا تبقى ورثته فقراء ضعافا ضائعين بعد موته. ثم إن كانت هذه الآية نزلت قبل تقدير الثلث كان المراد منها أن لا يجعل الوصية مستغرقة للتركة وإن كانت قد نزلت بعد تقدير الثلث كان المراد منها أن يوصي بالثلث أو بأقل منه إذا خاف على ورثته كما روى عن كثير من الصحابة أنهم أوصوا بالقليل لأجل ذلك وكانوا يقولون الخمس في الوصية أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث. وقد ورد في الصحيح الثلث والثلث كثير لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس يعني يسألونهم بأكفهم وقيل هو خطاب لأولياء اليتامى والمعنى وليخش من خاف على ولده من بعد موته أن يضيع مال اليتيم الضعيف الذي هو ذرية غيره إذا كان في حجره والمقصود من الآية أن من كان في حجره يتيم فليحسن إليه وليه أو وصيه وليفعل به ما يحب أن يفعل بأولاده من بعده فَلْيَتَّقُوا اللّه يعني في الأمر الذي تقدم ذكره وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يعني عدلا وصوابا فالقول السديد من الجالسين عند المريض هو أن يأمروه أن يتصدق بدون الثلث ويترك الباقي لولده ورثته وأن لا يحيف في وصيته. والقول السديد من الأوصياء وأولياء اليتامى أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم ولا يؤذوهم بقول ولا فعل قوله عز وجل : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً قال مقاتل وابن حبان نزلت في رجل من غطفان يقال له مرثد بن زيد ولي مال يتيم وكان اليتيم ابن أخيه فأكله فأنزل اللّه هذه الآية ١٠إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً يعني حراما بغير حق إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً يعني سيأكلون يوم القيامة فسمي الذين يأكلون نارا بما يؤول إليه أمرهم يوم القيامة. قال السدي يبعث آكل مال اليتيم ظلما يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأذنيه وعينيه وأنفه يعرفه من رآه بآكل مال اليتيم. وفي حديث أبي سعيد الخدري قال حدثني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن ليلة أسري به قال نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم قلت يا جبريل من هؤلاء قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا. وقيل إنما ذكر أكل النار على سبيل التمثيل والتوسع في الكلام والمراد أن أكل ما اليتيم ظلما يفضي به إلى النار وإنما خص الأكل بالذكر وإن كان المراد سائر أنواع الإتلافات وجميع التصرفات الرديئة المتلفة للمال لأن الضرر يحصل بكل ذلك لليتيم. فعبر عن جميع ذلك بالأكل لأنه معظم المقصود وإنما ذكر البطون للتأكيد فهو كقولك رأيت بعيني وسمعت بأذني وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً يعني بأكلهم أموال اليتامى ظلما والسعير النار الموقدة المسعرة. ولما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس واحترزوا من مخالطة اليتامى وأموالهم بالكلية فشق ذلك على اليتامى فنزل قوله تعالى : وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وقد توهم بعضهم أن قوله وإن تخالطوهم ناسخ لهذه الآية وهذا غلط ممن توهمه لأن هذه الآية واردة في المنع من أكل أموال اليتامى ظلما وهذا لا يصير منسوخا لأن أكل مال اليتيم بغير حق من أعظم الآثام وقوله : وإن تخالطوهم فإخوانكم وارد على سبيل الإصلاح في أموال اليتامى والإحسان إليهم وهو من أعظم القرب. قوله تعالى : ١١يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية فروي عن جابر قال مرضت فأتاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يعودني وأبو بكر وهما يمشيان فوجداني أغمي عليّ فتوضأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم صب وضوءه عليّ فأفقت فإذا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم جالس فقلت يا رسول اللّه كيف أصنع في مالي كيف أقضى في مالي فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث ، وفي رواية فقلت لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض وفي رواية أخرى فنزلت : يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلادِكُمْ وفي رواية أخرى فلم يرد على شيئا حتى نزلت آية الميراث يستفتونك قل اللّه يفتيكم أخرجه البخاري ومسلم وقال مقاتل والكلبي : نزلت في أم كحة امرأة أوس بن ثابت وبناته. وقال عطاء نزلت في سعد بن الربيع النقيب استشهد يوم أحد وترك بنتين وامرأة وأخا (ق) عن جابر رضي اللّه عنه قال جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت : يا رسول اللّه هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا وأن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال قال : يقضي اللّه في ذلك فنزلت آية الميراث فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى عمهما فقال أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فهو لك أخرجه الترمذي. وقال السدي : كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلماء لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة وخمس بنات فجاء الورثة وأخذوا ماله فشكت امرأته إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه تعالى هذه الآية الكريمة وقبل الشروع في تفسير هذه الآية الكريمة. نقدم فصولا تتضمن أحكام الفرائض وأصول قواعدها. (فصل في الحث على تعليم الفرائض) اعلم أن الفرائض من أعظم العلوم قدرا وأشرفها ذخرا وأفضلها ذكرا وهي ركن من أركان الشريعة وفرع من فروعها في الحقيقة اشتغل الصدر الأول من الصحابة بتحصيلها وتكلموا في فروعها وأصولها ويكفي في فضلها أن اللّه عز وجل تولى قسمتها بنفسه وأنزلها في كتابه مبينة من محل قدسه وقد حث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على تعليمها فيما رواه أبو هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (تعلموا الفرائض والقرآن وعلموا الناس فإني مقبوض) أخرجه الترمذي وقال فيه اضطراب وأخرجه أحمد بن حنبل وزاد فيه فإني امرؤ مقبوض والعلم مرفوع ويوشك أن يختلف اثنان في الفريضة فلا يجدان أحدا يخبرهما. عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (تعلموا الفرائض وعلموها فإنه نصف العلم) وهو أول علم ينسى وهو أول شيء ينزع من أمتي أخرجه ابن ماجة والدارقطني. (فصل في بيان أحكام الفرائض) إذا مات الميت وله مال يبدأ بتجهيزه من ماله ثم تقضي ديونه إن كان عليه دين ثم تنفذ وصاياه وما فضل بعد ذلك من ماله يقسم بين ورثته والوارثون من الرجال عشرة : الابن وابن الابن وإن سفل الأب والجد وإن علا والأخ سواء كان لأب وأم أو لأب أو لأم وابن الأخ للأب والأم أو للأب وإن سفل والعم للأب والأم أو للأب وابناهما وإن سفلوا والزوج والمعتق. والوارثات من النساء سبع : البنت وبنت الابن وإن سفلت. والأم والجدة وإن علت. والأخت من كل الجهات. والزوجة والمعتقة وستة من هؤلاء لا يلحقهم حجب الحرمان بالغير وهم : الأبوان والوالدان والزوجان لأنه ليس بينهم وبين الميت واسطة ثم الورثة ثلاثة أصناف : صنف يرث بالفرض المجرد وهم الزوجان والبنات والأخوات والأمهات والجدات وأولاد الأم وصنف يرث بالتعصيب وهم : البنون والإخوة وبنوهم والأعمام وبنوهم وصنف يرث بالتعصيب تارة وبالفرض أخرى وهما : الأب والجد فيرث بالتعصيب إذا لم يكن للميت ولد فإن كان له ابن ورث الأب بالفرض السدس وإن كانت بنت ورث السدس بالفرض وأخذ الباقي بالتعصيب والعصبة اسم لمن يأخذ جميع المال إذا انفرد ويأخذ ما فضل عن أصحاب الفرائض. (فصل) وأسباب الإرث ثلاثة : نسب ونكاح وولاء فالنسب القرابة يرث بعضهم بعضا والنكاح هو أن يرث أحد الزوجين من صاحبه بسبب النكاح والولاء هو أن المعتق وعصباته يرثون المعتق والأسباب التي تمنع الميراث أربعة : اختلاف الدين فالكافر لا يرث المسلم ولا المسلم يرث الكافر لما روي من أسامة بن زيد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم. أخرجاه في الصحيحين. فأما الكفار فيرث بعضهم بعضا مع اختلاف مللّهم وأديانهم لأن الكفر كله ملة واحدة وذهب بعضهم إلى أن اختلاف الملل والكفر يمنع التوارث أيضا حتى لا يرث اليهودي من النصراني ولا النصراني من المجوسي وإلى هذا ذهب الزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق لما روي عن جابر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لا توارث بين أهل ملتين أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لا يتوارث أهل ملتين شتى) أخرجه أبو داود وحمله الآخرون على الإسلام والكفر لأن الكفر عندهم ملة واحدة فتوريث بعضهم من بعض لا يكون فيه إثبات التوارث بين ملتين شتى والرق يمنع الإرث لأن الرقيق ملك ولا ملك له فلا يرث ولا يورث والقتل يمنع الإرث عمدا كان القتل أو خطأ لما روي عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (القاتل لا يرث) أخرجه الترمذي وقال : هذا حديث لا يصح والذي عليه العمل عند أهل العلم أن القاتل لا يرث سواء كان القتل عمدا أو خطأ. وقال بعضهم إذا كان القتل خطأ فإنه يرث وهو قول مالك وعمى الموت وهو أن يخفى موت المتوارثين وذلك بأن غرقا أو انهدم عليهما بناء فلم يدر أيهما سبق موته فلا يرث أحدهما الآخر بل يكون إرث كل واحد منهما لما كانت حياته يقينا بعد موته من ورثته. (فصل : السهام المحدودة) والسهام المحدودة في الفرائض المذكورة في كتاب اللّه عز وجل ستة : النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس فالنصف فرض خمسة : فرض الزوج عند عدم الولد وفرض البنت الواحدة للصلب أو بنت الابن عند عدم بنت الصلب وفرض الأخت الواحدة للأب والأم وفرض الأخت الواحدة للأب والأم وفرض الأخت الواحدة للأب إذا لم يكن ولد لأب وأم والربع فرض الزوج من الولد وفرض الزوجة مع عدم الولد والثمن فرض الزوجة مع الولد والثلثان فرض البنتين فصاعدا أو بنات الابن عند عدم بنات الصلب وفرض الأختين فصاعدا للأب والأم أو للأب والثلث فرض ثلاثة : فرض الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا اثنان من الإخوة والأخوات إلّا في مسألتين : إحداهما زوج وأبوان والأخرى زوجة وأبوان فإن للأم فيهما ثلث الباقي بعد نصيب الزوج أو الزوجة وفرض الاثنين فصاعدا من أولاد الأم ذكرهم وأنثاهم فيه سواء وفرض الجد مع الإخوة إذا لم يكن في المسألة صاحب فرض وكان الثلث للجد خيرا من المقاسمة مع الإخوة والسدس فرض سبعة : فرض الأب إذا كان للميت ولد وفرض الأم إذا كان للميت ولد أو ولد ابن أو اثنان من الإخوة والأخوات وفرض الجد إذا كان للميت ولد ومع الإخوة إذا كان في المسألة صاحب فرض وكان السدس خير للجد من المقاسمة مع الإخوة وفرض الجدة والجدات ، وفرض الواحد من أولاد الأم ذكرا كان أو أنثى وفرض بنات الابن مع بنت الصلب تكملة الثلثين وفرض الأخوات للأب مع الأخت للأب والأم تكلمة الثلثين (ق) عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر (خ) عن ابن عباس قال كان المال للولد والوصية للوالدين فنسخ اللّه من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع ا ه. (فصل) روي عن زيد بن ثابت قال : ولد الأبناء بمنزلة الأبناء إذا لم يكن دونهن ابن ذكرهم كذكرهم وأنثاهم كأنثاهم يرثون ويحجبون كما يحجبون ولا يرث ولد ابن مع ابن ذكر فإن ترك ابنة وابن ابن ذكر كان للبنت النصف ولابن الابن ما بقي لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر) ففي هذا الحديث دليل على أن بعض الورثة يحجب البعض والحجب حجبان : حجب نقصان وحجب حرمان. أما الأول وهو حجب النقصان فهو أن الولد وولد الابن يحجب الزوج من النصف إلى الربع والزوجة من الربع إلى الثمن والأم من الثلث إلى السدس وكذلك الاثنان من الإخوة والأخوات يحجبون الأم من الثلث إلى السدس. وأما الثاني وهو حجب الحرمان فهو أن الأم تسقط الجدات وأولاد الأم وهم الإخوة للأم يسقطون بأربعة بالأب والجد وإن علا وبالولد وولد الابن وأولاد الأب والأم وهم الإخوة للأب والأم يسقطون بثلاثة بالأب والابن وابن الابن وإن سفلوا ولا يسقطون بالجد على مذهب زيد بن ثابت. وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وبه قال مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وأولاد الأب يسقطون بهؤلاء الثلاثة وبالأخ للأب والأم وذهب قوم إلى أن الإخوة يسقطون جميعا بالجد كما يسقطون بالأب. وهو قول أبي بكر الصديق وابن عباس ومعاذ وأبي الدرداء وعائشة. وبه قال الحسن وعطاء وطاوس وأبو حنيفة والأقرب من العصبات يسقط الأبعد منهم فأقربهم الابن ثم ابن الابن وإن سفل ثم الأب ثم الجد وإن علا فإن كان مع الجد أحد من الإخوة والأخوات للأب والأم أو للأب يشتركان في الميراث فإن لم يكن جد فالأخ للأب والأم ثم الأخ للأب ثم بنو الإخوة يقدم أقربهم سواء كان لأب وأم أو لأب فإن استويا في الدرجة فالذي هو لأب وأم ثم العم لأب وأم ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة ثم عم الأب ثم عم الجد على الترتيب فإن لم يكن أحد من عصابات النسب وعلى الميت ، ولا فالميراث للمعتق فإن لم يكن حيا فلعصبات المعتق وأربعة من الذكور يعصبون الإناث : الابن وابن الابن والأخ للأب والأم والأخ للأب فلو مات عن ابن وبنت أو عن أخ وأخت لأب وأم أو لأب يكون المال. بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ولا يفرض للبنت والأخت ، وكذلك ابن الابن يعصب من في درجته من الإناث ومن فوقه إذا لم يأخذ من الثلثين شيئا حتى لو مات عن بنتين وبنت ابن فللبنتين الثلثان ولا شيء لبنت الابن فإن كان في درجتها ابن ابن أو أسفل منها ابن ابن ابن كان الباقي بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين والأخت للأب والأم أو للأب تكون مع البنت عصبة حتى لو مات عن بنت وأخت كان للبنت النصف والباقي وهو النصف للأخت ولو مات عن بنتين وأخت كان للبنتين الثلثان والباقي للأخت ويدل على ذلك ما روي عن هزيل بن شرحبيل قال سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن أخت فقال : للابنة النصف وللأخت النصف وائت ابن مسعود. فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال ابن مسعود : لقد ضللت وما أنا من المهتدين ثم قال اقضي فيها بقضاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت فأخبر أبو موسى بقول ابن مسعود فقال لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم أخرجه البخاري. وأما تفسير فقوله تعالى يوصيكم اللّه أي يعهد إليكم ويفرض عليكم في أولادكم يعني في أمر من أولادكم إذا متم والوصية من اللّه إيجاب وإنما بدأ اللّه تعالى بذكر ميراث الأولاد لأن تعلق قلب الإنسان بولده أشد من تعلقه بغيره فلهذا قدم اللّه ذكر ميراثهم للذكر مثل حظ الأنثيين يعني أن الولد الذكر له من الميراث ضعفا سهام الأنثى فللذكر سهمان وللأنثى سهم فلو حصل مع الأولاد غيرهم من الورثة من أهل الفروض كالأبوين أخذوا فروضهم وما بقي بعد ذلك كان بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين فَإِنْ كُنَّ يعني المتروكات من الأولاد نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يعني بنتين فصاعدا فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وأجمعت الأمة على أن للبنتين الثلثين إلّا ما روي عن ابن عباس أنه ذهب إلى ظاهر الآية وقال : الثلثان فرض الثلاث من البنات لأن اللّه تعالى قال : فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ فجعل الثلثين للنساء إذا زدن على الثنتين. وعنده أن فرض الثنتين النصف كفرض الواحدة وأجيب عنه بوجوده فيها حجة لمذهب الجمهور أيضا : الوجه الأول أن اللّه تعالى قال : وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فجعل للواحدة وذلك ينفي حصول النصف نصيبا للبنتين. الوجه الثاني في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير : فإن كن نساء اثنتين فما فوقهما فلهن الثلثان. الوجه الثالث أن لفظة فوق هاهنا صلة والتقدير فإن كن نساء اثنتين فهو كقوله : (فاضربوا فوق الأعناق) يعني فاضربوا الأعناق وإنما سمى الاثنتين نساء بلفظ الجمع ، لأن العرب تطلق على الاثنين جماعة بدليل قوله تعالى : فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما. الوجه الرابع قال علماء الجمهور : وإنما أعطينا البنتين الثلثين بتأويل القرآن لأن اللّه تعالى جعل للبنت الواحدة النصف بقوله تعالى : وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وجعل للأخت الواحدة النصف بقوله : (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) ثم جعل للأختين الثلثين بقوله : (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان) فلما جعل للأختين الثلثين علمنا أن للبنتين الثلثين قياسا على الأختين. الوجه الخامس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قضى بالثلثين لابنتي سعد بن الربيع وهذا نص واضح في المسألة. قوله تعالى : وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً يعني البنت واحدة فَلَهَا النِّصْفُ يعني فرضا لها وَلِأَبَوَيْهِ يعني أبوي الميت كناية عن غير مذكور وهما والداه لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ يعني أن للأب والأم مع وجود الولد أو ولد الابن لكل واحد منهما سدس الميراث. واعلم أن اسم الولد يقع على الذكر والأنثى فإذا مات الميت وترك أبوين وولدا ذكرا واحدا كان أو أكثر أو ترك بنات فإن للأم السدس بالفرض وللأب السدس مع الولد الذكر بالفرض ومع البنات له السدس بالتعصيب وهو الباقي من التركة وله مع البنت الواحدة السدس بالفرض والباقي بالتعصيب فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ يعني للميت وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ يعني أن الميت إذا مات عن أبوين وليس له وارث سواهما فإن الأم تأخذ الثلث بالفرض ويأخذ الأب باقي المال بالفرض والتعصيب. فيكون المال بينهما أثلاثا للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كان مع الأبوين أحد الزوجين فيفرض للأم ثلث الباقي بعد نصيب الزوج أو الزوجة فَإِنْ كانَ لَهُ يعني للميت إِخْوَةٌ يعني ذكورا أو إناثا فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ يعني لأم الميت سدس للتركة إذا كان معها أب وأجمع العلماء على أن الثلاثة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس وأن الأخ الواحد والأخت الواحدة لا تحجب الأم من الثلث إلى السدس. واختلفوا في الأخوين فالأكثرون من الصحابة يقولون الأخوين يحجبان الأم من الثلث إلى السدس وهذا قول عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت والجمهور. وقال ابن عباس : لا تحجب الإخوة الأم من الثلث إلى السدس إلّا أن يكونوا ثلاثة. قال ابن عباس لعثمان : لم صار الأخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس ، وإنما قال اللّه تعالى : فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ والأخوان في لسان قومك ليسا بأخوة فقال عثمان : يا بني إن قومك حجبوها بأخوين ولا أستطيع نقد أمر قد كان قبلي وإنما نشأ هذا الاختلاف لأنهم اختلفوا في أقل الجمع وفيه قولان : أحدهما أن أقل الجمع اثنان وهو قول أبي بكر الباقلاني. وحجة هذا القول أنك إذا جمعت واحد إلى واحدا فهما جماعة لأن أصل الجمع ضم شيء. وقال ابن الأنباري : التثنية عند العرب أول الجمع ومشهور في كلامهم إيقاع الجمع على التثنية فمن ذلك قوله تعالى : وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ وهما داود وسليمان عليهما السلام ومنه قوله تعالى : فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما يريد قلباكما. والقول الثاني أن أقل الجمع ثلاثة وهو قول الجمهور العلماء وهو الأصح. إنما حجب العلماء الأم بالأخوين لدليل اتفقوا عليه وهو أن لفظ الاخوة يطلق على الأخوين فما زاد وذلك جائز في اللغة كما تقدم ثم إن الإخوة إذا حجبوا الأم من الثلث إلى السدس فإنهم لا يرثون شيئا البتة بل يأخذ الأب الباقي كرجل مات عن أبوين وأخوين فإن للأم السدس والباقي وهو خمسة أسداس للأب سدس بالفريضة والباقي بالتعصيب قال قتادة : وإنما حجب الأخوة الأم من غير أن يرثوا مع الأب شيئا معونة للأب لأنه يقوم بشأنهم وينفق عليهم دون الأم مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ يعني أن هذه الأنصباء والسهام إنما تقسيم بعد قضاء الدين وإنفاذ وصية الميت في ثلثه وذكر الوصية مقدم على الدين في اللفظ لا في الحكم لأن لفظه أو لا توجب الترتيب. وإنما هي لأحد الشيئين كأنه قال من بعد أحد هذين مفردا أو مضموما إلى الآخر قال علي رضي اللّه عنه : إنكم تقرؤون الوصية قبل الدين. وبدأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالدين قبل الوصية وهذا إجماع على أن الدين مقدم على الوصية والإرث مؤخر عنهما لأن الدين حق على الميت والوصية حق له وهما يتقدمان على حق الورثة. قوله تعالى : آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً قيل هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم وبين قوله فريضة من اللّه ولا تعلق لمعناه بمعنى الآية ومعنى هذا الكلام في قول ابن عباس : إن اللّه عز وجل يشفع المؤمنين بعضهم في بعض فأطوعكم للّه من الآباء والأبناء أرفعكم درجة ، فإن كان الوالد أرفع درجة من ولده رفع اللّه درجة ولده إليه وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع اللّه إليه لتقر بذلك أعينهم فقال تعالى : لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً لأن أحدهما لا يعرف منفعة صاحبه له في الجنة وسبقه إلى منزلة عالية تكون سببا لرفعته إليها ، وقيل إن هذا الكلام ليس معترضا بينهما ومعناه متعلق بمعنى الآية يقول آباؤكم وأبناؤكم يعني الذين يرثونكم أيهم أقرب لكم نفعا أي لا تعلمون أيهم أنفع لكم في الدين والدنيا. فمنكم من يظن أن الأب أنفع له فيكون الابن أنفع له ومنكم من يظن أن الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له ولكن اللّه هو الذي دبر أمركم على ما فيه المصلحة لكم فاتبعوه ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم فتعطون من لا يستحق ما لا يستحق من الميراث وتمنعون منم يستحق الميراث فَرِيضَةً مِنَ اللّه يعني ما قدر من المواريث لأهلها فريضة واجبة إِنَّ اللّه كانَ عَلِيماً حَكِيماً يعني كان عليما بالأشياء قبل خلقها حكيما فيما قدر من الفرائض وفرض من الأحكام ، وقيل معناه عليما بخلقه قبل أن يخلقهم حكيما حيث فرض للصغار مع الكبار ولم يخص الكبار بالميراث كما كانت العرب تفعل وفي معنى لفظة كان ثلاثة أقوال : أحدها أن اللّه تعالى كان عليما بالأشياء قبل خلقها ولم يزل كذلك ، الثاني حكى الزّجاج عن سيبويه أنه قال : إن القوم لما شاهدوا علما وحكمة ومغفرة وفضلا قيل لهم إن اللّه كان كذلك ولم يزل اللّه على ما شاهدتم. الثالث قال الخليل الخبر عن اللّه عزّ وجلّ بمثل هذه الأشياء كالخبر بالحال والاستقبال لأن صفات اللّه تعالى لا يجوز عليها الزوال والتقلب. قوله عز وجل : ١٢وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ هذا ميراث الأزواج من الزوجات. وقال تعالى في ميراث الزوجات من الأزواج وَلَهُنَّ يعني للزوجات الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ لما جعل اللّه في الموجب النسبي حظ الرجل مثل حظ الأنثيين جعل اللّه في الموجب السبي للرجل مثل حظ الأنثيين واعلم أن الواحدة من النساء لها الربع أو الثمن وكذلك لو كن أربع زوجات فإنهن يشتركن في الربع أو الثمن واسم الولد يطلق على الذكر والأنثى. ولا فرق بين الولد وولد الابن وولد البنت في ذلك وسواء كان الولد للرجل من الزوجة أو من غيرها. قوله تعالى : وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ تقدير الآية وإن كان رجل أو امرأة يورث كلالة واختلفوا في الكلالة فذهب أكثر الصحابة إلى أن الكلالة من لا ولد له ولا والد روى الشعبي قال : سئل أبو بكر الصديق عن الكلالة فقال : سأقول فيها قولا برأيي فإن كان صوابا فمن اللّه وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان أراه ما خلا الوالد والولد فلما استخلف عمر قال : إني لا أستحيي من اللّه أن أرد شيئا قاله أبو بكر وهذا قول علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وإحدى الروايتين عن عمر وابن عباس وهذا القول هو الصحيح المختار ويدل على صحته أن اشتقاق الكلالة من كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة بينهم فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه ، وقيل إن الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الإحاطة ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس. فمن عد الوالد والولد من القرابة إنما سموا كلالة لأنهم كالدائرة المحيطة بالإنسان أما نسبة الولادة فليست كذلك لأن فيها تنوع البعض عن البعض وتولد البعض من البعض فهو كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد. فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة وهم الإخوة والأخوات والأعمام والعمات وغيرهم فإنما محصل نسبهم اتصال إحاطة بالمنسوب إليه فثبت بذلك أن الكلالة عبارة عمن عدا الوالد والولد والرواية الأخرى عن عمر وابن عباس أن الكلالة من لا ولد له. وبه قال طاوس واحتج لهذا القول بقوله تعالى : قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وبيانه عند عامة العلماء مأخوذ من حديث جابر بن عبد اللّه لأن الآية نزلت فيه ولم يكن له يوم نزولها أب ولا ابن لأن أباه قتل يوم أحد وآية الكلالة نزلت في آخر عمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فصار شأن جابر بيانا لمراد الآية التي نزلت في آخر السورة لنزولها فيه واختلفوا في أن الكلالة اسم لمن؟ فمنهم من قال هو اسم للميت ، وهو قول علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس لأنه مات عن ذهاب طرفيه فكل عمود نسبه وقيل هو اسم للحي من الورثة وهو قول أبي بكر الصديق. وعليه جمهور العلماء الذين قالوا : إن الكلالة من دون الوالد والولد ويدل عليه حديث لجابر إنما يرثني كلالة أي يرثني ورثة ليسوا بولد ولا والد فإن كان المراد بالكلالة الميت الموروث فالمراد يرثه غير الوالد والولد. وإن كان المراد الوارثين فهم غير الوالد والولد وقال ابن زيد : الكلالة الذي لا ولد له ولا والد والحي والميت كلهم كلالة هذا يرث بالكلالة وهذا يورث بالكلالة. وقال أبو الخير : سأل رجل عقبة عن الكلالة فقال ألا تعجبون من هذا يسألني عن الكلالة وما أعضل بأصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم شيء ما أعضلت بهم الكلالة (ق) عن عمر قال : ثلاث وددت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان عهد إلينا فيهن عهد انتهى إليه الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا وهذا طرف حديث ذكر في الخمر (ق) عن معدان بن أبي طلحة قال خطب عمر بن الخطاب : فقال إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة ما راجعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في شيء ما راجعته في الكلالة ، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ في الكلالة حتى طعن بإصبعيه في صدري وقال : يا عمر ألا يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن. لفظ مسلم قوله : ألا يكفيك آية الصيف أراد أن اللّه عز وجل أنزل في الكلالة آيتين : إحداهما في الشتاء وهي التي في أول سورة النساء والآية الأخرى في الصيف وهي التي في آخر السورة وفيها من البيان ما ليس في آية الشتاء فلذلك أحاله عليها. وقوله تعالى : وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ أراد به الأخ والأخت للأم باتفاق العلماء وقرأ سعد بن أبي وقاص وله أخ أو أخت من أم. فأن قلت إن اللّه تعالى قال وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ثم قال تعالى وله أخ فذكر الرجل ولم يذكر المرأة فما السبب فيه قلت هذا على عادة العرب فإنهم إذا ذكروا اسمين ثم أخبروا عنهما وكان في الحكم سواء ربما أضافوا أحدهما إلى الآخر وربما أضافوا إليهما فهو كقوله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة ، ثم قال تعالى وإنها لكبيرة وقال الفراء إذا جاء حرفان بمعنى واحد جاز إسناد التفسير إلى أيهما أريد ويجوز إسناده إليهما أيضا فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ وهذا إجماع العلماء أن أولاد الأم إذا كانوا اثنين فصاعدا يشتركون في الثلث ذكرهم وأنثاهم فيه سواء قال أبو بكر الصديق في خطبته : إلّا أن الآية التي أنزل اللّه في أول سورة النساء من شأن الفرائض أنزلها في الولد والوالد والأم والآية الثانية في الزوج والزوجة والإخوة من الأم والآية الثالثة التي ختم اللّه بها سورة النساء في الإخوة والأخوات من الأب والأم والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها اللّه في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه. وقوله تعالى : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ تقدم تفسيره وبقي شيء من الأحكام يذكر هنا وذلك أن ظاهر الآية يدل على جواز الوصية بكل المال وببعضه وفي معنى الآية ما روي عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به) وفي رواية له شيء يريد أن يوصى به أن يبيت ليلتين وفي رواية ثلاث ليال إلّا ووصيته مكتوبة عنده. قال نافع : سمعت عبد اللّه بن عمر يقول ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول ذلك إلّا وعندي وصيتي مكتوبة أخرجاه في الصحيحين ، ففي ظاهر الآية والحديث ما يدل على إطلاق الوصية لكن ورد في السنة ما يدل على تقييد هذا المطلق وتخصيصه وهو قوله صلّى اللّه عليه وسلّم في حديث سعد بن أبي وقاص قال : الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء أخير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس أخرجاه في الصحيحين. ففي هذا الحديث دليل على أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث وأن النقصان عن الثلث جائز ولا تجوز الوصية لوارث ويدل عليه ما روي عن عمرو بن خارجة قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (إن اللّه عزّ وجلّ أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث والولد للفراش وللعاهر الحجر) أخرجه الترمذي والنسائي عن أبي أمامة قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : إن اللّه أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث أخرجه أبو داود. وقوله تعالى : غَيْرَ مُضَارٍّ يعني غير مدخل الضرر على الورثة بمجاوزة الثلث في الوصية وهو أن يوصي بأكثر من الثلث وقيل هو أن يوصي بدين ليس عليه أو يقر بماله أو أكثر ماله لأجنبي ويترك ورثته عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة اللّه ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار ، ثم قرأ أبو هريرة من بعد وصية يوصي بها أو دين إلى قوله وذلك هو الفوز العظيم أخرجه أبو داود والترمذي. وقال قتادة : كره اللّه تعالى الضّرار في الحياة وعند الموت فنهى عنه وقدم فيه وقيل : إن الإضرار في الوصية من الكبائر لأن مخالفة أمر اللّه عز وجل كبيرة وقد نهى اللّه عن الإضرار في الوصية فدل على أن ذلك من الكبائر ، واعلم أن الأولى بالإنسان أن ينظر عند الموت في قدر ما يخلف من المال ومن يخلف من الورثة ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فإن كان ماله قليلا ، وفي الورثة كثرة فالأولى به أن لا يوصي بشيء لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم لسعد بن أبي وقاص : (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب المال وبحسب الورثة وحاجتهم بعده في القلة والكثرة. وقوله تعالى : وَصِيَّةً مِنَ اللّه أي فريضة من اللّه وقيل عهدا من اللّه إليكم فيما يجب لكم من ميراث من مات منكم وَاللّه عَلِيمٌ يعني أنه عالم بمصالح عباده ومضارهم وبما يفرض عليهم من الأحكام وقيل عليم بمن يجوز في وصيته وبمن لا يجور حَلِيمٌ يعني أنه تعالى ذو حلم وذو أناة في ترك العقوبة عمن جار في وصيته وقال أبو سليمان الخطابي : الحليم ذو الصفح والأناة الذي لا يستفزه غضب ولا يستخفه جهل جاهل والحليم هو الصفوح مع القدرة المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة. قوله عز وجل : ١٣تِلْكَ حُدُودُ اللّه يعني الأحكام التي تقدم ذكرها في هذه السورة من مال اليتامى والوصايا والأنكحة والمواريث وإنما سماها حدودا لأن الشرائع كالحدود المضروبة للمكلفين فلا يجوز لهم أن يتجاوزوها وقال ابن عباس يريد ما حد اللّه من فرائضه وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَرَسُولَهُ يعني في شأن المواريث ورضي بما قسم اللّه له وحكم عليه يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ١٤وَمَنْ يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ يعني في شأن المواريث ولم يرض بقسمة اللّه ورسوله وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يعني ويتجاوز ما أمر اللّه تعالى به يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ فإن قلت كيف قطع للعاصي بالخلود في النار في هذه الآية وهل فيها دليل للمعتزلة على قولهم إن العصاة والفساق من أهل الإيمان يخلدون في النار قلت قال الضحاك المعصية هنا الشرك وروى عكرمة عن ابن عباس في معنى الآية من لم يرض بقسمة اللّه ويتعد ما قال اللّه يدخله نارا وقال الكلبي : يكفر بقسمة المواريث ويتعد حدود اللّه استحلالا إذا ثبت ذلك فمن رد حكم اللّه ولم يرض بقسمته كفر بذلك وإذا كفر كان حكمه حكم الكفار في الخلود في النار إذا لم يتب قبل وفاته إذا مات وهو مصر على ذلك كان مخلدا في النار بكفره فلا دليل في الآية للمعتزلة واللّه أعلم. ١٥قوله تعالى : وَاللَّاتِي هو جمع التي وهي كلمة يخبر بها عن المؤنثة خاصة يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ يعني يفعلن الفاحشة يقال أتيت أمرا قبيحا إذا فعلته والفاحشة في اللغة الفعلة القبيحة ، وقيل الفاحشة عبارة عن كل فعل أو قول يعظم قبحه في النفوس ويقبح ذكره في الألسنة حتى يبلغ الغاية في جنسه وذلك مخصوص بشهوة الفرج الحرام ولذلك أجمعوا على أن الفاحشة هاهنا هي الزنا وإنما سمي الزنى فاحشة لزيادة قبحه مِنْ نِسائِكُمْ قيل هن الزوجات وقيل المراد بهن جنس النساء فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ يعني من المسلمين وهذا خطاب للأزواج أي اطلبوا أربعة من الشهود ليشهدوا عليهن وقيل هو خطاب للحكام أي استمعوا شهادة أربع عليهن. ويشترط في هذه الشهادة العدالة والذكورة قال عمر بن الخطاب : إنما جعل اللّه الشهود أربعة سترا يستركم به دون فواحشكم فَإِنْ شَهِدُوا يعني الشهود بالزنا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أي فاحبسوهن في البيوت والحكمة في حبسهن أن المرأة إنما تقع في الزنى عند الخروج والبروز للرجال فإذا حبست في البيت لم تقدر على الزنى حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ يعني تتوفاهن ملائكة الموت عند انقضاء آجالهن أَوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنَّ سَبِيلًا وهذا الحكم كان في أول الإسلام قبل نزول الحدود كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ثم نسخ الحبس بالحدود وجعل اللّه لهن سبيلا (م) عن عبادة بن الصامت قال : (كان نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أنزل عليه حكم كرب لذلك وتربد وجهه فأنزل اللّه عليه ذات يوم فبقي كذلك فلما سري عنه قال : خذوا عني قد جعل اللّه لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم). (فصل) اتفق العلماء على أن هذه الآية منسوخة ثم اختلفوا في ناسخها فذهب بعضهم إلى أن ناسخها هو حديث عبادة بن الصامت المتقدم وهذا على مذهب من يرى نسخ القرآن بالسنة وذهب بعضهم إلى أن الآية الحد التي في وقيل إن هذه الآية منسوخة الصامت المتقدم وهذا على مذهب من يرى نسخ القرآن بالسنة بالحديث والحديث منسوخ بآية الجلد وقال أبو سلمان الخطابي : لم يحصل النسخ في هذه الآية ولا في الحديث وذلك لأن قوله تعالى : فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنَّ سَبِيلًا يدل على إمساكهن في البيوت ممدودا إلى غاية أن يجعل اللّه لهن سبيلا وأن ذلك السبيل كان مجملا فلما قال صلّى اللّه عليه وسلّم : (خذوا عني قد جعل اللّه لهن سبيلا) الحديث صار هذا الحديث بيانا لتلك الآية المجملة لا ناسخا لها. وأجمع العلماء على جلد البكر الزاني مائة ورجم المحصن وهو الذي اجتمع فيه أربعة أوصاف البلوغ والعقل والحرية والإصابة في نكاح صحيح وهو الثيب واختلفوا في جلد الثيب ورجمه فذهب طائفة إلى أنه يجب الجمع بينهما وبه قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه. والحسن وإسحاق بن راهويه وداود وأهل الظاهر وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه : أنه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة. وقال : جلدتها بكتاب اللّه ورجمتها بسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. وقال جماهير العلماء الواجب على المحصن الزاني الرجم وحده لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما. وأما تغريب البكر والزاني ونفيه سنة فمذهب الشافعي وجماهير العلماء وجوب ذلك وقال أبو حنيفة وحماد لا يقضى بالنفي أحد إلّا أن يراه الحاكم تعزيرا ، وقال مالك والأوزاعي : لا نفي على النساء ويروى مثله عن علي قال لأن المرأة عورة وفي نفيها تضييع لها وتعريض للفتنة وحجة الشافعي وجماهير العلماء ظاهر حديث عبادة بن الصامت وهو قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة) وروى نافع عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ضرب وغرب وأن أبا بكر ضرب وغرب وأن عمر ضرب وغرب وإن كان الزاني عبدا فعليه جلد خمسين وفي تغريبه قولين. فإن قلنا إنه يغرب ففيه قولان أصحهما أنه يغرب نصف سنة قياسا على حده وإن كان الزاني مجنونا أو أنه يغرب ففيه قولان : أصحهما أنه يغرب نصف سنة قياسا على حده وإن كان الزاني مجنونا أو غير بالغ فلا جلد عليه. ١٦قوله عز وجل : وَالَّذانِ هو تثنية الذي يَأْتِيانِها يعني يأتيان الفاحشة مِنْكُمْ يعني من رجالكم ونسائكم وقيل هما البكران اللذان لم يحصنا وهما غير المعنيين بالآية الأولى وقيل المراد بمن ذكر في الأولى النساء وهذه للرجال لأن اللّه تعالى حكم في الآية الأولى بالحبس في البيت على النساء وهو اللائق بحالهن لأن المرأة إنما تفعل الفاحشة عند الخروج فإذا حبست في البيت انقطعت مادة المعصية ، وأما الرجل فلا يمكن حبسه في البيت لأنه يحتاج إلى الخروج في إصلاح معاشه واكتساب قوت عياله فجعلت عقوبة الرجل الزاني الأذية بالقول والفعل فَآذُوهُما يعني عيروهما بالقول باللسان وهو أن يقال له أما خفت اللّه أما استحيت من اللّه حين زنيت وقال ابن عباس : سبوهما واشتموهما وفي رواية عنه قال : هو باللسان واليد يؤذي بالتعيير ويضرب بالنعال فَإِنْ تابا يعني من الفاحشة وَأَصْلَحا يعني العمل فيما يأتي فَأَعْرِضُوا عَنْهُما أي اتركوهما ولا تؤذوهما إِنَّ اللّه كانَ تَوَّاباً رَحِيماً يعني أنه تعالى يعود على عبده بفضله ومغفرته ورحمته إذا تاب إليه وهذا الحكم كان في ابتداء الإسلام كان حد الزاني الأذى بالتوبيخ والتعيير بالقول باللسان فلما نزلت الحدود وثبتت الأحكام نسخ ذلك الأذى بالآية التي في سورة النور وهي قوله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّه الآية فثبت الجلد على البكر بنص الكتاب وثبت الرجم على الثيب المحصن بسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقد أصح أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رجم ماعزا وكان قد أحصن وسواء في هذا الحكم المسلم واليهودي لأنه ثبت في الصحيح أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رجم يهوديين زنيا وكانا قد أحصنا وقال أبو حنيفة : لا رجم على اليهودي لأن المشرك ليس بمحصن و أجيب عنه بأن المراد بهذا الإحصان إحصان العفاف لا إحصان الفرج. قوله تعالى : ١٧إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّه يعني التوبة التي يقبلها اللّه تعالى فيكون على بمعنى عند وقيل على بمعنى من أي من اللّه وقال أهل المعاني إن اللّه تعالى وعد قبول التوبة من المؤمنين في قوله كتب ربكم على نفسه الرحمة وإذا وعد اللّه شيئا أنجز ميعاده وصدق فيه فمعنى قوله على اللّه أوجب على نفسه من إيجاب أحد عليه لأنه تعالى يفعل ما يريد لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ يعني الذنوب والمعاصي سميت سوءا لسوء عاقبتها إذا لم يتب منها بِجَهالَةٍ قال قتادة أجمع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على أن كل شيء عصى اللّه به فهو جهالة عمدا كان أو غيرهن وكل من عصى اللّه فهو جاهل. وقال ابن عباس : من عمل السوء فهو جاهل من جهالته عمل السوء فكل من عصى اللّه سمي جاهلا وسمي فعله جهالة وإنما سمي من عصى اللّه جاهلا لأنه لم يستعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب وإذا لم يستعمل ذلك سمي جاهلا بهذا الاعتبار وقيل معنى الجهالة أن يأتي الإنسان بالذنب مع العلم بأنه ذنب لكنه يجهل عقوبته وقيل معنى الجهالة هو اختيار اللذة الفانية على اللذة الباقية ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ يعني يتوبون بعد الإقلاع عن الذنب بزمان قريب لئلا يعد في زمرة المصرين وقيل القريب أن يتوب في صحته قبل مرض موته وقيل قبل موته وقيل قبل معاينة ملك الموت ومعاينة أهوال الموت وإنما سميت هذه المدة قريبة لأن كل ما هو آت قريب وفيه تنبيه على أن عمر الإنسان وإن طال فهو قليل وأن الإنسان يتوقع في كل ساعة ولحظة نزول الموت به عن ابن عمر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : إن اللّه تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر أخرجه الترمذي. الغرغرة أن يجعل المشروب في فم المريض فيردده في الحلق ولا يصل إليه ولا يقدر على بلعه وذلك عند بلوغ الروح إلى الحلقوم. وروى البغوي بسنده عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن الشيطان قال وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم) فقال الرب تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي وارتفاعي في مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني وقيل في معنى الآية إن القريب هو أن يتوب الإنسان قبل أن يحيط السوء بحسناته فيحبطها فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّه عَلَيْهِمْ يعني يقبل توبتهم وَكانَ اللّه عَلِيماً حَكِيماً قال ابن عباس : علم ما في قلوب عباده المؤمنين من التصديق واليقين فحكم بالتوبة قبل الموت ولو بقدر فواق ناقة وقيل في معنى الآية علم أنه إنما أتى بتلك المعصية باستيلاء الشهوة والجهالة عليه فحكم بالتوبة لمن تاب عنها وأناب عن قريب. قوله عز وجل : ١٨وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قال ابن عباس : يريد الشرك وقال أبو العالية وسعيد بن جبير : هم المنافقون وقال سفيان الثوري هم المسلمون ألا ترى أنه قال ولا الذين يموتوا وهم كفار حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ يعني وقع في النزاع وعاين ملائكة الموت وهو حالة السوق حين تساق الروح للخروج من جسده قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ قال المحققون قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة بل المانع من قبولها مشاهدة الأحوال التي لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا بحال ولذلك لم تقبل توبة فرعون ولا إيمانه وهو قوله تعالى : حتى إذا أدركه الغرق. قال : آمنت أنه لا إله إلّا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا فإن قلت قد تعلقت الوعيدية بهذه الآية وقالوا أخبر اللّه تعالى إن عصاة المؤمنين إذا أهملوا أمرهم إلى انقضاء آجالهم حصلوا على عذاب الآخرة مع الكفار لأن اللّه تعالى جمعهم في قوله أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ، وأيضا أنه تعالى أخبر أنه لا توبة لهم عند معاينة الموت وأسبابه قلت ليس الأمر على ما زعموا فقد روي عن ابن عباس في قوله وليست التوبة للذين يعملون السيئات يريد الشرك وقال سعيد بن جبير : نزلت الآية الأولى في المؤمنين يعني قوله : إنما التوبة على اللّه والوسطى في المنافقين يعني قوله وليست التوبة والأخرى في الكافرين يعني قوله ولا الذين يموتون وهم كفار وإذا كانت الآية نازلة في المنافقين والكفار فلا وجه لحملها على المؤمنين وعلى تقدير أن تكون الآية نازلة في عصاة المؤمنين فقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى : وليست التوبة للذين يعملون السيئات الآية ، ثم أنزل اللّه تعالى بعد ذلك إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فحرم اللّه المغفرة على من مات وهو كافر وارجأ أهل التوحيد إلى مشيئته ولم يؤيسهم من المغفرة فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة في حق المؤمنين. وقوله تعالى : وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ معناه لا توبة للكفار إذا ماتوا على كفرهم وإنما لم تقبل توبتهم في الآخرة لرفع التكليف في الآخرة ومعاينة ما وعدوا به من العقاب أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ أي هيأنا لهم عَذاباً أَلِيماً ١٩قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً نزلت في أهل المدينة وذلك أنهم كانوا في الجاهلية في أول الإسلام إذا مات الرجل وخلف امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبة من ذوي عصبته ، فألقى ثوبه على تلك المرأة أو على خبائها فصار أحق بها من نفسها ومن غيره فإن شاء تزوجها بغير صداق إلّا الصداق الأول الذي أصدقها الميت وإن شاء زوجها غيره وأخذ هو صداقها وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج يضارها بذلك لتفتدي منه بما ورثت من الميت أو تموت هي فيرثها فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ولي زوجها ثوبه كانت أحق بنفسها وكانوا على ذلك حتى توفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية فقام ابن له من غيرها يقال له حصن ، وقيل اسمه قيس بن أبي قيس فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ثم تركها فلم ينفق عليها يضارها بذلك لتفتدي منه فأتت كبيشة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت له : يا رسول اللّه إن أبا قيس توفي وورث نكاحي ابنه فلا هو ينفق عليّ ولا هو يدخل بي ولا يخلي سبيلي ، فقال اقعدي في بيتك حتى يأتي أمر اللّه فيك فأنزل اللّه عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً يعني ميراث نكاح النساء وقيل في معناه أن ترثوا أموالهن كرها يعني وهن كارهات وَلا تَعْضُلُوهُنَّ أي ولا تمنعوهن من الأزواج وأصل العضل المنع لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ يعني لتضجر فتفتدي ببعض مالها قيل هو خطاب للأزواج قال ابن عباس : هذا في الرجل تكون له امرأة و هو كاره لها ولصحبتها ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي منه وترد إليه ما ساق إليها من المهر فنهى اللّه عن ذلك وقيل كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها ثم يطلقها يضارها بذلك فنهوا عن ذلك وهو خطاب لأولياء الميت فنهاهم اللّه عن عضل المرأة ثم قال تعالى : إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يعني فحينئذ يحل لكم إضرارهن ليفتدين منكم واختلفوا في الفاحشة المبينة فقيل هي النشوز وسوء الخلق وإيذاء الزوج وأهله ، وقيل الفاحشة هي الزنى يعني أن المرأة إذا نشزت أو زنت حلّ للزوج أن يسألها الخلع وقيل كانت المرأة إذا أصابت فاحشة أخذ منها زوجها ما ساق إليها وأخرجها فنسخ اللّه ذلك بالحدود وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ قيل هو راجع للكلام الذي قبله والمعنى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة وعاشروهن بالمعروف هو الإجمال في القول والمبيت والنفقة وقيل هو أن تصنع لها كما تحب أن تصنع لك فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ يعني فإن كرهتم عشرتهن وصحبتهن وآثرتم فراقهن فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّه فِيهِ خَيْراً كَثِيراً قال ابن عباس : ربما رزق منها ولدا صالحا فجعل اللّه في ولدها خيرا كثيرا فتنقلب تلك الكراهة محبة والنفرة رغبة ، وقيل في الآية ندب إلى إمساك المرأة مع والكراهية لها لأنه إذا كره صحبتها وتحمل ذلك المكروه طلبا للثواب وأنفق عليها وأحسن هو صحبتها استحق الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى وقيل في معنى الآية إنكم إن كرهتموهن ورغبتم في فراقهن فربما جعل اللّه في تلك المفارقة لهن خيرا كثيرا وذلك بأن تخلص من هذا الزوج الكاره لها وتتزوج غيره خيرا منه. قوله عز وجل : ٢٠وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ الخطاب للرجال وأراد بالزوج الزوجة قال المفسرون : لما ذكر اللّه في الآية الأولى مضارة الزوجات إذا أتين بفاحشة وهي إما النشوز أو الزنا بيّن في هذه الآية تحريم المضارة إن لم يكن من قبلها نشوز ولا زنى ونهى عن بخس الرجل حق المرأة إذا أراد طلاقها واستبدال غيرها وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً يعني وكان ذلك الصداق مالا كثيرا ، وفي الآية دليل على جواز المغالاة في المهور روي أن عمر قال على المنبر : ألا لا تغالوا في مهور نسائكم فقامت امرأة فقالت يا ابن الخطاب اللّه يعطينا وأنت تمنعنا وتلت الآية. فقال كل الناس أفقه منك يا عمر وفي رواية امرأة أصابت وأمير أخطأ ورجع عن كراهة المغالاة وقد تغالى الناس في صدقات النساء حتى بلغوا الألوف وقيل إن خير المهور أيسرها وأسهلها فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً يعني من القنطار الذي آتيتموهن لو جعلتم ذلك القدر لهن صداقا فلا تأخذوا منه شيئا وذلك أن سوء العشرة إما أن يكون من قبل الزوج أو من قبل الزوجة فإن كان من قبل الزوج وأراد طلاق المرأة فلا يحل له أن يأخذ شيئا من صداقها وإن كان النشوز من قبل المرأة جاز له ذلك أَتَأْخُذُونَهُ استفهام بمعنى التوبيخ بُهْتاناً يعني ظلما وقيل باطلا وَإِثْماً مُبِيناً يعني أتأخذونه مباهتين آثمين فلا تفعلوا مثل هذا الفعل مع ظهور قبحه في الشرع والعقل ثم قال تعالى : ٢١وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ كلمة تعجب والمعنى لأي وجه تفعلون مثل هذا الفعل وكيف يليق بالعاقل أن يسترد شيئا بذله لزوجته عن طيب نفس وقيل هو استفهام معناه التوبيخ والتعظيم لأخذ المهر بغير حقه ثم ذكر السبب في ذلك فقال تعالى وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ أصل الإفضاء في اللغة الوصول يقال أفضى إليه أي وصل إليه ثم للمفسرين في معنى الإفضاء في هذه الآية قولان : أحدهما أنه كناية عن الجماع وهو قول ابن عباس ومجاهد والسدي واختيار الزجاج وابن قتيبة ومذهب الشافعي لأن عنده أن الزوج إذا طلق قبل المسيس فله أن يرجع بنصف المهر وإن خلا بها والقول الثاني في معنى الإفضاء هو أن يخلو بها وإن لم يجامعها وقال الكلبي الإفضاء أن يكون معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها وهذا القول هو اختيار الفراء ومذهب أبي حنيفة أن الخلوة الصحيحة عنده تقرر المهر وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً قيل هو قول العاقد عند العقد زوجتكها على ما أخذ اللّه للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقيل هي كلمة النكاح المعقودة على الصداق وهي الكلمة التي تستحل بها فروج النساء ويدل على ذلك ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : (اتقوا اللّه في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة اللّه واستحللتم فزوجهن بكلمة اللّه). ٢٢قوله تعالى : وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ قال المفسرون كان أهل الجاهلية يتزوجون أزواج آبائهم فنهاهم اللّه عن ذلك بهذه الآية روي أنه لما توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار خطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت إني اتخذتك ولدا وأنت من صالحي قومك ولكني آتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأستأمره فأتته فأخبرته فأنزل اللّه عز وجل وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ يعني إلّا ما مضى في الجاهلية قبل نزول التحريم فإنه معفو عنه إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً إنما سماه فاحشة لأن زوجة الأب في منزلة الأم ونكاح الأمهات حرام فلما كان ذلك كذلك سماه اللّه فاحشة لأنه من أقبح المعاصي وَمَقْتاً يعني أنه يورث المقت من اللّه وهو أشد الغضب وغاية الخزي والخسارة وَساءَ سَبِيلًا أي وبئس طريقا لأنه يؤدي إلى مقت اللّه والعرب تسمي ولد الرجل من امرأة أبيه مقيتا وكان منهم الأشعث بن قيس وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية روى البغوي بسنده عن البراء بن عازب قال : مر بي خالي ومعه لواء فقلت أين تذهب؟ قال : بعثني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه. قوله عز وجل : ٢٣حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ بيّن اللّه عزّ وجلّ في هذه الآية المحرمات من النساء بسبب الوصلة إما بسبب أو نسب (خ) عن ابن عباس قال حرم من النساء سبع ومن الصهر سبع ، ثم قرأ حرمت عليكم أمهاتكم الآية فجملة المحرمات من النساء بنص الكتاب أربعة عشر صنفا ، فأما المحرمات بالنسب فقوله حرمت عليكم أمهاتكم جمع أم وأصل أمهات أمات وإنما زيدت الهاء للتوكيد والأم هي الوالدة القريبة ويدخل في حكمها كل امرأة رجع النسب إليها من جهة الأب أو من جهة الأم بدرجة أو بدرجات وهي جميع الجدات وإن علون فيحرم الأم وجميع الجدات وَبَناتُكُمْ والبنت عبارة عن كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات بإناث كبنت البنت وإن سفلت وكذا بنت الابن وَأَخَواتُكُمْ جمع أخت وهي عبارة عن كل امرأة شاركتك في أصلك فتدخل فيه الأخوات من الأب والأم والأخوات من الأب والأخوات من الأم وَعَمَّاتُكُمْ جمع عمة وهي كل امرأة شاركت أباك في أصله وهن جميع أخوات الأب وأخوات آبائه وإن علون وقد تكون العمة من جهة الأم أيضا وهي أخت أبي الأم وَخالاتُكُمْ جمع خالة وهي كل امرأة شاركت الأم في أصلها فيدخل فيه جميع أخوات الأم وأخوات أمهاتها ، وقد تكون الخالة من جهة الأب أيضا وهي أخت أم الأب وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وهي عبارة عن كل امرأة لأخيك أو لأختك عليها ولادة يرجع نسبها إلى الأخ أو الأخت فيدخل فيهن جميع بنات أولاد الأخ والأخت وإن سفلن فهذه الأصناف السبعة محرمة بسبب النسب بنص الكتاب وجملته أنه يحرم على الرجل أصوله وفصوله وفصول أول أصوله ، وأول فصل من كل أصل بعده أصل فالأصول هن الأمهات والجدات ، والفصول هن البنات وبنات الأولاد وفصول أول أصوله هن الأخوات وبنات الإخوة والأخوات وأول فصل من كل أصل بعده أصل هن العمات والخالات وإن علون. قال العلماء : كل امرأة حرم اللّه نكاحها بالنسب والرحم فحرمتها مؤبدة لا تحل يوجه من الوجوه. الصنف الثاني المحرمات بالسبب وهن سبع الأول والثاني المحرمات بالرضاع وذلك في قوله تعالى : وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ كل أنثى انتسبت باللبن إليها فهي أمك وبنتها أختك وإنما نص اللّه على ذكر الأم والأخت ليدل بذلك على جميع الأصول والفروع فنبه بذلك أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب ويدل على ذلك ما روي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة) أخرجاه في الصحيحين (ق) عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (في بنت حمزة إنها لا تحل لي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وإنها ابنة أخي من الرضاعة فكل من حرمت بسبب النسب حرم نظيرها بسبب الرضاعة ، وإنما سمى اللّه تعالى المرضعات أمهات لأجل الحرمة فيحرم عليه نكاحها ويحل له النظر إليها والخلوة بها والسفر معها ولا يترتب عليه جميع أحكام الأمومة من كل وجه فلا يتوارثان ولا تجب على كل واحد منهما نفقة الآخر وغير ذلك من الأحكام ، وإنما ثبتت حرمة الرضاع بشرطين : أحدهما أن يكون إرضاع الصبي في حال الصغر وذلك إلى انتهاء سنتين من ولادته لقوله تعالى : وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وقوله تعالى : وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ عن أم سلمة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لا يحرم من الرضاع إلّا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام) أخرجه الترمذي عن ابن مسعود قال : لا رضاعة إلّا ما كان في الحولين أخرجه مالك في الموطأ بأطول من هذا وأخرجه أبو داود مختصرا قال : قال عبد اللّه بن مسعود لا رضاع إلّا ما شد اللحم. وقال أبو حنيفة مدة الرضاع ثلاثون شهرا لقوله تعالى : وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وحمله الجمهور على أقل مدة الحمل وأكثر مدة الرضاع لأن مدة الحمل داخلة فيه وأقله ستة أشهر. الشرط الثاني أن يوجد خمس رضعات متفرقات. روي ذلك عن عائشة وبه قال عبد اللّه بن الزبير ، وإليه ذهب الشافعي ويدل على ذلك ما روي عن عائشة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لا تحرم المصة ولا المصتان) أخرجه مسلم (م) عن أم الفضل أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان) وفي رواية : (أن رجلا من بني عامر بن صعصعة قال يا نبي اللّه هل تحرم الرضعة الواحدة قال لا) (م) عن عائشة قالت كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخت بخمس معلومات فتوفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهن فيما يقرأ من القرآن قولها فتوفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهن فيما يقرأ من القرآن يحتمل أنه لم يبلغها نسخ ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يتلى فهو مما نسخ تلاوته وبقي حكمه ، وذهب جمهور العلماء إلى أن قليل الإرضاع وكثيره يحرم وهو قول ابن عباس وابن عمر وبه قال سعيد بن المسيب وإليه ذهب الثوري والأوزاعي ومالك وابن المبارك وأبو حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه والرواية الأخرى كمذهب الشافعي واحتج مذهب الجمهور بمطلق الآية لأنه عمل بعموم القرآن وظاهره ولم يذكر عددا وأجاب الشافعي ومن وافقه في هذه المسألة بأن السنة مبينة للقرآن مفسرة له. وقوله تعالى : وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ يعني إذا تزوج الرجل بامرأة حرمت عليه أمها الأصلية وجميع جداتها من قبل الأب والأم كما في النسب والرضاع أيضا ومذهب أكثر الصحابة وجميع التابعين وكل العلماء أن من تزوج امرأة حرمت عليه أمها بنفس العقد سواء دخل بها أو لم يدخل بها وذهب جمع من الصحابة إلى أن أم المرأة إنما تحرم بالدخول بابنتها وهو قول علي وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وجابر وأظهر الروايات عن ابن عباس والعمل اليوم على القول الأول هو مذهب الجمهور ويدل على ذلك ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : أيما رجل نكح امرأة فلا يحل له نكاح ابنتها. وإن لم يكن دخل بها فلينكح ابنتها وأيما رجل نكح امرأة فلا يحل له أن ينكح امرأة دخل بها أو لم يدخل أخرجه الترمذي وقوله تعالى : وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ الربائب جمع ربيبة وهي بنت المرأة من رجل آخر سميت ربيبة لتربيتها في حجر الرجل ، وقوله دخلتم بهن كناية عن الجماع لا نفس العقد فيحرم على الرجل بنات امرأته وبنات أولادها وإن سفلن من النسب والرضاع بعد الدخول بالزوجة. فلو فارق زوجته قبل الدخول بها أو ماتت قبل دخوله بها جاز أن يتزوج بنتها ولا يجوز له أن يتزوج أمها لأن اللّه تعالى أطلق تحريم الأمهات ، وعلق تحريم البنات بالدخول بالأم وقوله تعالى : وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ يعني أزواج أبنائكم واحدتها حليلة والرجل حليل سميا بذلك لأن كل واحد منهما يحل لصاحبه وقيل لأن كل واحد منهما يحل حيث يحل صاحبه في إزار واحد وقيل لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه من الحل بفتح الحاء وجملته أنه يحرم على الرجل أزواج أبنائه وأبناء أولاده وإن سفلوا من النسب والرضاع وذلك بنفس العقد الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ إنما قال من أصلابكم احترازا من التبني ليعلم أن زوجة المتبنى لا تحرم على الرجل الذي تبناه لأنه كان في صدر الإسلام بمنزلة الابن فنسخ اللّه ذلك وقال تعالى : ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ وتزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم زوجة زيد بن حارثة وكان قد تبناه فقال المشركون تزوج زوجة ابنه فأنزل اللّه تعالى وما جعل أدعياءكم أبناءكم وقال تعالى لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم وقوله تعالى : وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ يعني لا يجوز للرجل أن يجمع بين الأختين في نكاح واحد سواء كانت الأخوة بينهما أخوة نسب أو رضاع والجمع بين الأختين يقع على ثلاثة أوجه : أحدهما أن يجمع بينهما بعقد واحد فهذا العقد فاسد لا يصح فلو تزوّج إحدى الأختين ثم تزوّج الأخرى بعدها فهاهنا يحكم ببطلان نكاح الثانية فلو طلق الأولى طلاقا بائنا جاز له نكاح أختها ، الوجه الثاني من صور الجمع بين الأختين هو أن يجمع بينهما بملك اليمين فلا يجوز له أن يجمع بينهما في الوطء فإذا وطئ إحداهما حرمت عليه الثانية حتى يحرم الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة ، الوجه الثالث من صور الجمع بين الأختين هو أن يتزوج إحداهما ويشتري الأخرى فيملكها بملك اليمين فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما لأن ظاهر هذه الآية يقتضي تحريم الجمع مطلقا فوجب أن يحرم الجمع بينهما على جميع الوجوه وذهب بعضهم إلى جوازه و القول الأول أصح ، وأولى لما روى قبيصة بن ذؤيب أن رجلا سأل عثمان عن أختين مملوكتين لرجل هل يجمع بينهما فقال عثمان : أحلتهما آية وحرمتهما آية فأما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك فخرج من عنده فلقي رجلا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فسأله عنه فقال أما أنا فلو كان لي من الأمر شيء لم أجد أحد فعل ذلك إلّا جعلته نكالا قال ابن شهاب : أراه علي بن أبي طالب قال مالك أنه بلغه عن الزبير بن العوام مثل ذلك أخرجه مالك في الموطأ وقوله تعالى : إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ يعني لكن ما قد مضى فإنه معفو عنه بدليل قوله تعالى : إِنَّ اللّه كانَ غَفُوراً رَحِيماً وقيل إن فائدة هذا الاستثناء أن أنكحة الكفار صحيحة فلو أسلم عن أختين قيل له اختر أيتهما شئت. ويدل على ذلك ما روي عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال قلت يا رسول اللّه إني أسلمت وتحتي أختان قال طلق أيتهما شئت أخرجه أبو داود. فروع تتعلق بحكم الآية. الأول : لا يجوز الجمع بين المرأة ولا بين المرأة وخالتها ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : (لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها) أخرجه في الصحيحين قال بعض العلماء في حد ما يحرم الجمع كل امرأتين بينهما قرابة أو لبن لو كان ذلك بينك وبين المرأة لم يجز لك نكاحها لم يجز لك الجمع بينهما. الفرع الثاني : المحرمات بالنسب سبعة أصناف ذكرت في الآية نسقا والمحرمات بالسبب صنفان : صنف يحرم بالرضاع وهن الأمهات والأخوات على ما تقدم ذكره وصنف يحرم بالمصاهرة وهي أم المرأة وحليلة الابن وزوجة الأب وقد تقدم ذكرها في قوله تعالى : وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ الآية والربائب على التفصيل المذكور والجمع بين الأختين. الفرع الثالث : التحريم الحاصل بسبب المصاهرة إنما حصل بنكاح صحيح فلو زنى بامرأة لم تحرم عليه أمها ولا بنتها لو أراد أن يتزوج بهن وكذلك لا تحرم المزني بها على آباء الزاني ولا أبنائه إنما تتعلق الحرمة بنكاح صحيح أو بنكاح فاسد يجب لها به الصداق وتجب عليها العدة ويلحق به الولد. وهذا قول علي وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري وإليه ذهب مالك والشافعي وفقهاء الحجاز. وذهب قوم إلى أن الزنى يتعلق به تحريم المصاهرة يروى ذلك عن عمران بن حصين وأبي هريرة وبه قال جابر بن زيد والحسن وأهل العراق. ولو لمس امرأة أجنبية بشهوة أو قبّلها بشهوة هل يجعل ذلك كالدخول في إثبات تحريم المصاهرة وكذلك لو لمس امرأة بشهوة هل يجعل ذلك كالوطء في تحريم الربيبة؟ فيه قولان : أصحهما أنه تثبت به حرمة المصاهرة وهو قول أكثر أهل العلم والثاني لا تثبيت به كما لا تثبت بالنظرة بشهوة. قوله تعالى : ٢٤وَالْمُحْصَناتُ يعني حرمت المحصنات مِنَ النِّساءِ وأصل الإحصان في اللغة المنع والحصان بالفتح المرأة العفيفة ويطلق الإحصان على المرأة ذات الزوج والحرة والعفيفة والمرأة المسلمة والمراد من الإحصان في قوله والمحصنات ذوات الأزواج من النساء فلا يحل لأحد نكاحهن قبل مفارقة أزواجهن وهذه هي السابعة من النساء التي حرمن بالسبب. قال أبو سعيد الخدري : نزلت هذه الآية في نساءكن هاجرن إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولهن أزواج فتزوجن ببعض المسلمين ثم قدم أزواجهن مهاجرين فنهي اللّه المسلمين عن نكاحهن ثم استثنى فقال تعالى : إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني السبايا اللاتي سبين ولهن أزواج في دار الحرب ، فيحل لمالكهن وطؤهن بعد الاستبراء لأن السبي يرتفع به النكاح بينها وبين زوجها قال أبو سعيد الخدري : بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جيشا إلى أوطاس فأصابوا سبايا لهن أزواج من المشركين فكرهوا غشيانهن فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وقال ابن مسعود : أراد أنه إذا باع الجارية المزوجة فتقع الفرقة بينها وبين زوجها ويكون بيعها طلاقا فيحل للمشتري وطؤها. وقال عطاء : أراد بقوله إلا ما ملكت أيمانكم أن تكون أمته في نكاح عبده فيجوز له أن ينتزعها منه وقيل أراد بالمحصنات من النساء الحرائر ومعناه أن ما فوق الأربع منهن فإنه عليكم حرام إلا ما ملكت أيمانكم فإنه لا عدد عليكم في الجواري ولا حصر كِتابَ اللّه عَلَيْكُمْ يعني حرمت عليكم أمهاتكم وكتب عليكم هذا كتابا وقيل معناه الزموا كتاب اللّه وقيل معناه كتابا من اللّه عليكم بمعنى كتب اللّه تحريم ما حرم عليكم من ذلك وتحليل ما حلل كتابا وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ يعني وأحل اللّه لكم ما سوى ذلكم الذي ذكر من المحرمات. وظاهر هذه الآية يقتضي حل ما سوى المذكورين من الأصناف المحرمات ، لكن قد دل الدليل من السنة بتحريم أصناف أخر سوى ما ذكر فمن ذلك أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ومن ذلك المطلقة ثلاثا لا تحل لزوجها الأول حتى تنكح زوجا غيره ومن ذلك نكاح المعتدة فلا تحل للأزواج حتى تنقضي عدتها ومن ذلك أن من كان في نكاحه حرة لم يجز له أن يتزوج بأمة والقادر على طول الحرة لم يجز له أن يتزوج بالأمة ومن ذلك أن من كان عنده أربع نسوة حرم عليه أن يتزوج بخامسة ومن ذلك الملاعنة فإنها محرمة على الملاعن بالتأبيد فهذه أصناف من المحرمات سوى ما ذكر في الآية فعلى هذا يكون قوله تعالى : وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ورد بلفظ العموم لكن العموم دخله التخصيص فيكون عاما مخصوصا. وقوله تعالى : أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ فيه إضمار تقديره وأحل لكم أن تبتغوا أي تطلبوا بأموالكم أن تنكحوا بصداق أو تشتروا بثمن. وفي الآية دليل على أن الصداق لا يتقدر بشيء فيجوز على القليل والكثير لإطلاق قوله تعالى : أن تبتغوا بأموالكم مُحْصِنِينَ يعني متزوجين وقيل متعففين غَيْرَ مُسافِحِينَ يعني غير زانين والسفاح الفجور وأصله من السفح وهو الصب وإنما سمي الزنى سفاحا لأن الزاني لا غرض له إلا صب النطفة فقط. قوله تعالى : فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ اختلفوا في معناه فقال الحسن ومجاهد : أراد ما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بنكاح صحيح لأن أصل الاستمتاع في اللغة الانتفاع وكل ما انتفع به فهو متاع فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني مهورهن وإنما سمي المهر أجرا لأنه بدل المنافع ليس بدل الأعيان كما سمي بدل منافع الدار والدابة أجرا. وقال قوم المراد من حكم الآية هو نكاح المتعة وهو أن ينكح امرأة إلى مدة معلومة بشيء معلوم فإذا انقضت تلك المدة بانت منه بغير طلاق ويستبرئ رحمها وليس بينهما ميراث وكان هذا في ابتداء الإسلام ثم نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن المتعة فحرمها (م) عن سبرة بن معبد الجهني أنه كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (فقال يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن اللّه قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا) وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم أي أن نكاح المتعة حرام والآية منسوخة واختلفوا في ناسخها فقيل نسخت بالسنة وهو ما تقدم من حديث سبرة الجهني (ق) عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال : (نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية) وهذا على مذهب من يقول إن السنة تنسخ القرآن ومذهب الشافعي أن السنّة لا تنسخ القرآن فعلى هذا يقول : إن ناسخ هذه الآية قوله تعالى في سورة المؤمنون : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ والمنكوحة في المتعة ليست بزوجة ولا ملك يمين واختلفت الروايات عن ابن عباس في المتعة فروي عنه أن الآية محكمة وكان يرخص في المتعة. قال عمارة سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح؟ فقال لا سفاح ولا نكاح. قلت : فما هي؟ قال متعة؟ قال اللّه تعالى فما به منهن قلت هل لها عدة قال نعم؟ حيضة قلت هل يتوارثان؟ قال لا وروى أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس بالمتعة قال : قاتلهم اللّه أنا ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق لكن قلت إنما تحل للمضطر كما تحل الميتة له وروي أنه رجع عنه. وقال بتحريمها وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله فما استمتعتم به منهن إنها صارت منسوخة بقوله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وروى سالم بن عبد اللّه بن عمر أن عمر بن الخطاب صعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال ما بال أقوام ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عنها لا أجد رجلا نكحها إلا رجمته بالحجارة وقال هدم المتعة : النكاح والطلاق والعدة والميراث قال الشافعي : لا أعلم في الإسلام شيئا أحل ثم حرم ثم أحل ثم حرم غير المتعة. وقال أبو عبيد : المسلمون اليوم مجمعون على أن متعة النساء قد نسخت بالتحريم نسخها الكتاب والسنّة هذا قول أهل العلم جميعا من أهل : الحجاز والشام والعراق من أصحاب الأثر والرأي وأنه لا رخصة فيها لمضطر ولا لغيره قال ابن الجوزي في تفسيره : وقد تكلف قوم من مفسري القرآن فقالوا : المراد بهذه الآية نكاح المتعة ثم نسخت بما روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه نهى عن متعة النساء وهذا تكلف لا يحتاج إليه لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أجاز المتعة ثم منع منها فحرمها فكان قوله منسوخا بقوله وأما الآية فإنها لم تتضمن جواز المتعة لأنه تعالى قال فيها إن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فدل ذلك على النكاح الصحيح. قال الزّجاج ومعنى قوله فما استمتعتم به منهن فما نكحتموه على الشرائط التي جرت وهو قوله محصنين غير مسافحين أي عاقدين التزويج. وقال ابن جرير الطبري : أولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوله فما نكحتموه منهن فجامعتموهن فآتوهن أجورهن لقيام الحجة بتحريم اللّه تعالى متعة النساء على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقوله تعالى : فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني مهورهن فَرِيضَةً يعني لازمة وواجبة وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ اختلفوا فيه فمن حمل ما قبله على نكاح المتعة قال : أراد إنهما إذا عقد عقدا إلى أجل على مال فإذا تم الأجل فإن شاءت المرأة زادت في الأجل وزاد الرجل في الأجر ، وإن لم يتراضيا فارقها وقد تقدم أن ذلك كان جائزا ثم نسخ وحرم ومن حمل الآية على الاستمتاع بالنكاح الصحيح. قال المراد بقوله ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به يعني من الإبراء من المهر والافتداء والاعتياض. وقال الزّجاج معناه لا جناح عليكم أن تهب المرأة للزوج مهرها وأن يهب الرجل للمرأة التي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه إِنَّ اللّه كانَ عَلِيماً يعني بما يصلحكم أيها الناس في مناكحكم وغيرها من سائر أموركم حَكِيماً يعني فيما دبر لكم من التدبير وفيما يأمركم به وينهاكم عنه ولا يدخل حكمه خلل ولا زلل. (فصل في قدر الصداق وما يستحب منه) اعلم أنه لا تقدير لأكثر الصداق لقوله تعالى : وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً والمستحب أن لا يغالى فيه قال عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه : ألا لا تغالوا في صدقة النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند اللّه لكان أولاكم بها نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما علمت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية أخرجه الترمذي ولأبي داود نحوه (م) عن أبي سلمة قال : سألت عائشة زوج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كم كان صداق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ قالت : كان صداقه لأزواجه اثنتي عشر أوقية ونشا قالت : أتدري ما النش؟ قلت : لا قالت : نصف أوقية فذلك خمسمائة درهم واختلف العلماء في أقل الصداق فذهب جماعة إلى أنه لا تقدير لأقله بل كل ما جاز أن يكون مبيعا أو ثمنا جاز أن يكون صداقا وهو قول ربيعة وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وقال قوم يتقدر الصداق بنصاب السرقة وهو قول مالك وأبي حنيفة. غير أن نصاب السرقة عند مالك ثلاث دراهم وعند أبي حنيفة عشرة دراهم والدليل على أن الصداق لا يتقدر ما روي عن سهل بن سعد الساعدي قال : جاءت امرأة إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت يا رسول اللّه قد وهبت نفسي لك فنظر إليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فصعد النظر فيها وصوبه ثم طأطأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رأسه فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست فقام رجل من أصحابه فقال يا رسول اللّه إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال فهل عندك من شي ء؟ فقال لا واللّه يا رسول اللّه فقال اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا؟ فذهب ثم رجع فقال : لا واللّه ما وجدت شيئا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (انظر ولو خاتما من حديد) فذهب ثم رجع فقال لا واللّه يا رسول اللّه ولا خاتما من حديد ولكن إزاري هذا. قال سهل ما له رداء فلها نصفه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شي ء) فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم موليا فأمر به فدعا له فلما جاء قال ماذا معك من القرآن قال معي سورة كذا وسورة كذا عددها قال تقرأهن عن ظهر قلب قال نعم قال : اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن وفي رواية فقد زوجتكها تعلمها من القرآن وفي رواية فقد أنكحناكها بما معك من القرآن. أخرجاه في الصحيحين وهذا لفظ الحميدي. ففي هذا الحديث دليل على أنه لا تقدير لأقل الصداق لأنه هل تجد شيئا فهذا يدل على جواز أي شيء كان من المال ثم قال ولو خاتما من حديد ولا قيمة له إلا القليل التافه وفيه دليل على أنه يجوز أن يجعل تعليم القرآن صداقا وهو قول الشافعي ومنعه أصحاب الرأي عن أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل. أخرجه أبو داود عن عبد اللّه بن عامر عن أبيه أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أرضيت من نفسك ومالك بنعلين قالت نعم فأجازه أخرجه الترمذي وقال عمر بن الخطاب : ثلاث قبضات من زبيب مهر. قوله عز وجل : ٢٥وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا يعني فضلا وسعة وإنما سمي الغني طولا لأنه ينال به من المراد ما لا ينال مع الفقر والطول هنا كناية عما يصرف إلى المهر والنفقة أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ يعني الحرائر الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني جارية أخيك المؤمن فإن الإنسان لا يجوز له أن يتزوج بجارية نفسه مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ المعنى من لم يقدر على مهر الحرة المؤمنة فليتزوج الأمة المؤمنة والفتيات الجواري المملوكات جمع فتاة يقال للأمة فتاة والعبد فتى. وفي الآية دليل على أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين : أحدهما أن لا يجد مهر حرة لأنه جرت العادة في الإماء بتخفيف مهورهن ونفقتهن وسبب ذلك اشتغالهن بخدمة ساداتهن. والشرط الثاني وهو خوف العنت على نفسه وهو قوله تعالى ذلك لمن خشي العنت منكم. قال ابن عباس : هو الزنا وهذا قول جابر وابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ومسروق ومكحول وعمرو بن دينار وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد. وروي عن علي والحسن البصري وابن المسيب ومجاهد والزهري أنه يجوز للحر أن ينكح الأمة وإن كان موسرا وهو مذهب أبي حنيفة إلا أن يكون في نكاح حرة والسبب في منع الحر من نكاح الأمة إلا عند خوف العنة إن الولد يتبع الأم في الرق والحرية ، وإذا كانت الأم رقيقة كان الولد رقيقا وذلك نقص في حق الحر وفي حق ولده ولأن حق السيد أعظم من حق الزوج فربما احتاج الزوج إليها فلا يجد إليها سبيلا لأن للسيد حبسها لخدمته ولأن مهرها ملك السيد فلا تقدر على هبته من زوجها ولا أن تبرئه منه بخلاف الحرة فلهذا السبب منع اللّه من نكاح الأمة إلا على سبيل الرخصة والاضطرار ويجوز للعبد نكاح الأمة وإن كان في نكاحه حرة. وعند أبي حنيفة لا يجوز له إذا كانت تحته حرة كما يقول في الحر وفي الآية دليل على أنه لا يجوز للمسلم حرا كان أو عبدا نكاح الأمة الكتابية لقوله تعالى : مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ يفيد جواز نكاح الأمة المؤمنة دون الكتابية لأن فيها نوعين من النقص وهما : الرق والكفر بخلاف الأمة المؤمنة لأن فيها نقصا واحدا وهو الرق وهذا قول مجاهد والحسن وإليه ذهب مالك والشافعي وقال أبو حنيفة : يجوز التزويج بالأمة الكتابية وبالاتفاق يجوز وطء الأمة الكتابية بملك اليمين وقوله تعالى : وَاللّه أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ قال الزّجاج أي اعملوا على الظاهر في الإيمان فإنكم متعبدون بما ظهر واللّه يتولى السرائر والحقائق وقيل معناه لا تتعرضوا للباطن في الإيمان وخذوا بالظاهر فإن اللّه أعلم بإيمانكم بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ يعني أنكم كلكم من نفس واحدة فلا تستنكفوا من نكاح الإماء عند الضرورة وإنما قيل لهم ذلك لأن العرب كانت تفتخر بالأنساب والأحساب ويسمون ابن الأمة الهجين فأعلم اللّه تعالى أن ذلك أمر لا يلتفت إليه فلا يتداخلنكم شموخ وأنفة من التزويج بالإماء ، فإنكم متساوون في النسب إلى آدم وقيل إن معناه إن دينكم واحد وهو الإيمان وأنتم مشتركون فيه فمتى وقع لأحدكم الضرورة جاز له أن يتزوج بالأمة عند خوف العنت. وقال ابن عباس : يريد أن المؤمنين بعضهم أكفاء بعض فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ يعني اخطبوا الإماء إلى ساداتهن واتفق العلماء على أن نكاح الأمة بغير إذن سيدها باطل لأن اللّه تعالى جعل إذن السيد شرطا في جواز نكاح الأمة وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني مهورهن بِالْمَعْرُوفِ يعني من غير مطل ولا ضرار. وقيل معناه وآتوهن مهور أمثالهن وأجمعوا على أن المهر للسيد لأنه ملكه وإنما أضيف إيتاء المهر إلى الإماء لأنه ثمن بضعهن مُحْصَناتٍ يعني عفائف غَيْرَ مُسافِحاتٍ يعني غير زانيات وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ جمع خدن وهو الصاحب الذي يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن وأكثر ما يستعمل فيمن يصاحب بشهوة يقال خدن المرأة وخدينها يعني حبها الذي يزني بها في السر. قال الحسن : المسافحة هي التي كل من دعاها تبعته وذات الأخدان هي التي تختص بواحد ولا تزني مع غيره وكانت العرب في الجاهلية تحرم الأولى وتجوز الثانية فلما كان الفرق معتبرا عندهم لا جرم أن اللّه تعالى أفرد كل واحد من هذين القسمين بالذكر ونص على تحريمهما معا فَإِذا أُحْصِنَّ قرئ بفتح الألف والصاد ومعناه حفظن فروجهن ، وقيل معناه أسلمن وقرأ حفص بضم الألف وكسر الصاد ومعناه زوجن فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ يعني بزنى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ يعني فعلى الإماء اللاتي زنين نصف ما على الحرائر الأبكار إذا زنين من الجلد ويجلد العبد للزنا إذا زنا خمسين جلدة ولا فرق بين المملوك المتزوج وغير المتزوج فإنه يجلد خمسين ولا رجم عليه هذا قول أكثر العلماء ويروى عن ابن عباس وقال طاوس : أنه لا حد على من لم يتزوج من المماليك إذا زنى لأن اللّه تعالى قال فإذا أحصن والذي لم يتزوج ليس بمحصن وأجيب عنه بأن معنى الإحصان عند الأكثرين الإسلام ، وإن كان المراد منه التزويج فليس المراد منه أن التزويج شرط لوجوب الحد عليه بل المراد منه التنبيه على أن المملوك وإن كان محصنا فلا رجم عليه إنما حده الجلد ، بخلاف الحر فحد الأمة ثابت بهذه الآية وبيان أنه بالجلد لا بالرجم ثابت بالحديث وهو ما روي عن أبي هريرة قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر) أخرجاه في الصحيحين قوله ولا يثرب عليها أي لا يعيرها والتثريب التأبين والتعيير والاستقصاء في اللوم قال الشيخ محيي الدين النواوي : وهذا البيع المأمور به في الحديث مستحب وليس بواجب عندنا وعند الجمهور وقال داود وأهل الظاهر هو واجب وفيه جواز بيع الشيء الثمين بالثمن الحقير وهذا البيع المأمور به يلزم صاحبه أن يبين حالها للمشتري لأنه عيب والإخبار بالعيب واجب. فإن قيل كيف يكره شيئا ويرتضيه لأخيه المسلم. فالجواب لعلها تستعف عند المشتري بأن يعفها بنفسه أو يصونها بهيبته أو بالإحسان إليها أو يزوجها أو غير ذلك واللّه أعلم. ذلِكَ أشار إلى نكاح الأمة لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ يعني الزنى والمعنى ذلك لمن خاف أن تحمله شدة الشبق والغلمة وشدة الشهوة على الزنى وإنما سمي الزنى بالعنت لما يعقبه من المشقة وهي شدة العزوبة فأباح اللّه تعالى نكاح الأمة بثلاثة شروط : عدم القدرة على نكاح الحرة وخوف العنت وكون الأمة مؤمنة وَأَنْ تَصْبِرُوا يعني عن نكاح الإماء متعففين خَيْرٌ لَكُمْ يعني كيلا يكون الولد عبدا رقيقا وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ وهذا كالتوليد لما تقدم يعني أنه تعالى غفر لكم ورحمكم حيث أباح لكم ما أنتم محتاجون إليه قوله تعالى : ٢٦يُرِيدُ اللّه لِيُبَيِّنَ لَكُمْ اللام في قوله ليبين معناه أن يبين وقيل معناه يريد إنزال هذه الآيات من أجل أن يبين لكم ديتكم ويوضح لكم شرعكم ومصالح أموركم وقيل يبين لكم ما يقربكم منه وقيل يبين أن الصبر على نكاح الإماء خير لكم وَيَهْدِيَكُمْ أي ويرشدكم سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي شرائع من قبلكم في تحريم الأمهات والبنات والأخوات فإنها كانت محرمة على من قبلكم وقيل معناه يرشدكم إلى ما لكم فيه مصلحة كما بينه لمن كان قبلكم ، وقيل معناه ويهديكم إلى الملة الحنيفية وهي ملة إبراهيم عليه السلام ويَتُوبَ عَلَيْكُمْ يعني ويتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبين لكم ويرجع بكم عن المعصية التي كنتم عليها إلى طاعته ، وقيل لما بين لنا أمر الشرائع والمصالح وأرشدنا إلى طاعته فربما وقع منا تقصير وتفريط فيما أمر به وبينه فلا جرم أنه تعالى قال ويتوب عليكم وَاللّه عَلِيمٌ يعني بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم حَكِيمٌ يعني فيما دبر من أمورهم. ٢٧وَاللّه يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ قال ابن عباس معناه يريد أن يخرجكم من كل ما يكره إلى ما يحب ويرضى. وقيل معناه يدلكم على ما يكون سببا لتوبتكم التي يغفر لكم بها ما سلف من ذنوبكم وقيل معناه إن وقع منكم تقصير في دينه فيتوب عليكم ويغفر لكم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ قيل هم اليهود والنصارى وقيل هم اليهود خاصة لأنهم يقولون إن نكاح بنت الأخت من الأب حلال. وقيل هم المجوس لأنهم يستحلون نكاح الأخوات وبنات الإخوة فلما حرمهن اللّه قالوا إنكم تحلون بنت الخالة وبنت العمة والخالة والعمة عليكم فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلت هذه الآية. وقيل هم الزناة يريدون أن تكونوا مثلهم أَنْ تَمِيلُوا يعني عن الحق وقصد السبيل بالمعصية مَيْلًا عَظِيماً يعني بإتيانكم ما حرم اللّه عليكم ٢٨يُرِيدُ اللّه أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ يعني ليسهل عليكم أحكام الشرائع فهو عام في كل أحكام الشرع وجميع ما يسره لنا وسهله علينا إحسانا منه إلينا وتفضلا ولطفا علينا ، ولم يثقل التكاليف علينا كما ثقلها على بني إسرائيل فهو كقوله تعالى يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى : وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وكما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال بعثت بالحنيفية السهلة السمحة. وقوله تعالى : وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً يعني في قلة الصبر عن النساء فلا صبر له عنهن وقيل إنه لضعفه يستميله هواه فهو ضعيف العزم عن قهر الهوى وقيل هو ضعيف في أصل الخلقة لأنه خلق من ماء مهين. ٢٩قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ يعني بالحرام الذي لا يحل في الشرع كالربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة ونحو ذلك. وإنما خص الأكل بالذكر ونهى عنه تنبيها على غيره من جميع التصرفات الواقعة على وجه الباطل لأن معظم المقصود من المال الأكل ، وقيل يدخل فيه أكل ماله نفسه بالباطل ومال غيره أما أكل ماله بالباطل فهو إنفاقه في المعاصي ، وأما أكل مال غيره فقد تقدم معناه وقيل يدخل في أكل المال الباطل جميع العقود الفاسدة. وقوله تعالى : إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ هذا الاستثناء منقطع لأن التجارة عن تراض ليست من جنس أكل المال بالباطل فكان إلا هاهنا بمعنى لكن يحل أكله بالتجارة عن تراض يعني بطيبة نفس كل واحد منكم. وقيل هو أن يخير كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد البيع فيلزم وإلّا فلهما الخيار ما لم يتفرقا لما روي عن ابن عمران أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع) أخرجاه في الصحيحين. وقوله تعالى : وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضا وإنما قال أنفسكم لأنهم أهل دين واحد فهم كنفس واحدة وصح عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال في حجة الوداع (ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) وقيل إن هذا نهي للإنسان عن قتل نفسه (ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا) قوله يتردى التردي هو الوقوع من موضع عال إلى أسفل قوله يتوجأ يقال وجأته بالسكين إذا ضربته بها وهو يتوجأ أي يضرب بها نفسه (ق) عن جندب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال كان برجل جراح فقتل نفسه فقال اللّه تبارك وتعالى : بدرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة. وفي رواية قال : كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال اللّه تعالى : بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة وقيل في معنى قتل الإنسان نفسه أن لا يفعل شيئا يستحق به القتل مثل أن يقتل فيقتل به فيكون هو الذي تسبب في قتل نفسه ، وقيل معناه ولا تقتلوا أنفسكم بأكل المال بالباطل وقيل معناه ولا تهلكوا أنفسكم بأن تعملوا عملا ربما أدى إلى قتلها إِنَّ اللّه كانَ بِكُمْ رَحِيماً يعني أنه تعالى من رحمته بكم نهاكم عن كل شيء تستوجبون به مشقة أو محنة وقيل إنه تعالى أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم ليكون ذلك توبة لهم وكان بكم يا أمة محمد رحيما حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الشاقة الصعبة. ٣٠وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يعني ما سبق ذكره من قتل النفس المحرمة لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات وقيل : إنه يعود إلى قتل النفس وأكل المال بالباطل لأنهما مذكوران في آية واحدة وقيل إنه يعود إلى كل ما نهى اللّه عنه من أول السورة إلى هنا عُدْواناً وَظُلْماً يعني يتجاوز الحد فيضع الشيء في غير موضعه فلذلك قيده بالعدوان والظلم لأنه قد يكون القتل بحق ، وهو القصاص وكذلك قد يكون أخذ المال بحق فلهذا السبب قيده بالوعيد وما كان على وجه العدوان والظلم وهو قوله تعالى : فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً أي ندخله في الآخرة نارا يصلى فيها وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللّه يَسِيراً أي هينا لأنه تعالى قادرا على ما يريد. ٣١قوله عز وجل : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ اجتناب الشيء المباعدة عنه وتركه جانبا والكبيرة ما كبر وعظم من الذنوب وعظمت عقوبته وقبل ذكر التفسير نذكر الأحاديث الواردة في الكبائر فمن ذلك ما روي عن أبي بكرة قال كنا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قلنا بلى يا رسول اللّه قال : الإشراك باللّه وعقوق الوالدين ألا وشهادة الزور وقول الزور وكان متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت) أخرجاه في الصحيحين (ق) عن أنس بن مالك قال : (ذكر لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الكبائر فقال : الشرك باللّه وعقوق الوالدين وقتل النفس وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو قال شهادة الزور) (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (اجتنبوا السبع الموبقات) قيل يا رسول اللّه وما هن؟ قال : (الشرك باللّه والسحر وقتل النفس التي حرم اللّه إلّا بالحق وأكل مال اليتيم والزنى والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) (خ) عن ابن مسعود قال : سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أي الذنب أعظم عند اللّه؟ قال : (أن تجعل للّه ندا وهو خلقك قلت إن ذلك لعظيم ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت ثم أي قال تزاني بحيلة جارك) (ق) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (الكبائر : الإشراك باللّه وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس) وفي رواية أن أعرابيا جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللّه ما الكبائر؟ قال : (الإشراك باللّه قال ثم ماذا قال اليمين الغموس قلت وما اليمين الغموس قال الذي يقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها كاذب) (ق) عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا : وهل يشتم الرجل والديه؟ قال نعم : يسب الرجل أبا الرجل أو أمه : فيسب أباه أو أمه) وفي رواية من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه وذكر الحديث. وقال عبد اللّه بن مسعود : أكبر الكبائر الإشراك باللّه والأمن من مكر اللّه والقنوط من رحمة اللّه واليأس من روح اللّه وعند سعيد بن جبير أن رجلا سأل ابن عباس عن الكبائر أسبع هي قال هي إلى السبعمائة أقرب وفي رواية إلى السبعين أقرب إلا أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار وقال كل شيء عصي اللّه به فهو كبيرة فمن عمل شيئا منها فليستغفر اللّه فإن اللّه لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا من كان راجعا عن الإسلام أو جاحدا فريضة أو مكذبا بقدر وقال علي بن أبي طالب : كل ذنب ختمه اللّه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب فهو كبيرة. وقال سفيان الثوري : الكبائر ما كان فيه المظالم فيما بينك وبين العباد والصغائر ما كان بينك وبين اللّه تعالى لأن اللّه تعالى كريم يغفر ويعفو واحتج لذلك بما روي عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ينادي مناد من بطنان العرش يوم القيامة يا أمة محمد إن اللّه قد عفا عنكم جميعا المؤمنين والمؤمنات تواهبوا المظالم وأدخلوا الجنة برحمتي) وقال مالك بن مغول : الكبائر ذنوب أهل البدع والسيئات ذنوب أهل السنة ، وقيل الكبائر ذنوب العمد والسيئات الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وحديث النفس المرفوع عن هذه الأمة وقال السّدي : الكبائر ما نهى اللّه عنه من الذنوب والسيئات مقدماتها وتوابعها للتي يقع فيها الصالح والفاسق مثل النظرة واللمسة والقبلة وأشباه ذلك (ق) عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطأ والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه لفظ مسلم ، وقيل الكبائر الشرك وما يؤدي إليه وما دونه فهو من السيئات فقد ثبت بما تقدم من الأدلة أن من الذنوب كبائر وصغائر إلى هذا ذهب الجمهور من السلف والخلف. وثبت بدلائل الكتاب والسنة وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر فقوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه هي كل ذنب عظم قبحه وعظمت عقوبته إما في الدنيا بالحدود وإما في الآخرة بالعذاب عليه نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يعني نسترها عليكم حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل لأن أصل التكفير الستر والتغطية فصغار الذنوب تكفر بالحسنات ولا تكفر كبارها إلا بالتوبة والإقلاع عنها كما ورد في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن) زاد في رواية ما لم تغش الكبائر وزاد في رواية أخرى ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر أخرجه مسلم. وقوله تعالى : وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً يعني حسنا شريفا وهو الجنة والمعنى إذا اجتنبتم الكبائر وأتيتم الطاعات ندخلكم مدخلا تكرمون فيه. قوله عز وجل : ٣٢وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللّه بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ أصل التمني إرادة الشيء وتشهي حصول ذلك الأمر المرغوب فيه ومنه حديث النفس بما يكون وبما لا يكون وقيل التمني تقدير الشيء في النفس وتصويره فيها وذلك قد يكون عن تخمين وظن ، وقد يكون عن رؤية وأكثر التمني تصور ما لا حقيقة له وقيل التمني عبارة عن إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون ، عن مجاهد عن أم سلمة قالت : قلت يا رسول اللّه يغزوا الرجال ولا تغزوا النساء وإنما لنا نصف الميراث فأنزل اللّه تعالى ولا تتمنوا ما فضل اللّه به بعضكم على بعض قال مجاهد : وأنزل إن المسلمين والمسلمات وكانت أم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة مهاجرة أخرجه الترمذي. وقال هذا حديث مرسل وقيل لما جعل اللّه للذكر مثل حظ الأنثيين من الميراث قالت النساء نحن أحق وأحوج إلى الزيادة من الرجال لأنا ضعيفات وهم أقوى وأقدر على طلب المعاش منا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وقيل لما نزل قوله للذكر مثل حظ الأنثيين قالت للرجال إنا لنرجو أن نفضل على النساء في الحسنات في الآخرة فيكون لنا أجرنا على ضعف أجر النساء كما فضلنا عليهن في الميراث ، وقالت النساء إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال كما لنا في الميراث النصف من نصيبهم. فنزلت هذه الآية والتمني على قسمين : أحدهما أن يتمنى الإنسان أن يحصل له مال غيره مع زوال تلك النعمة عن ذلك الغير فهذا القسم هو الحسد وهو مذموم لأن اللّه تعالى يفيض نعمه على من يشاء من عباده وهذا الحاسد يعترض على اللّه تعالى فيما فعل وربما اعتقد في نفسه أنه أحق بتلك النعمة من ذلك الإنسان أيضا فهذا اعتراض على اللّه أيضا وهو مذموم. القسم الثاني أن يتمنى مثل مال غيره ولا يحب أن يزول ذلك المال عن الغير وهذا هو الغبطة وهذا ليس بمذموم. ومن الناس من منع منه أيضا قال لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين والدنيا. قال الحسن : لا تتمنى مال فلان ولا تدري لعل هلاكك في ذلك المال فيعلم العبد أن اللّه عزّ وجلّ أعلم بمصالح عباده فليرض بقضائه ولتكن أمنيته الزيادة من عمل الآخرة وليقل : اللّهم اعطني ما يكون صلاحا في ديني ودنياي ومعادي. وقوله تعالى : لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ قال ابن عباس : يعني مما ترك الوالدان والأقربون من الميراث يقول للذكر مثل حظ الأنثيين وقيل هذا الاكتساب في الآخرة يعني أن الرجال والنساء في الأجر في الآخرة سواء لأن الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها يستوي في ذلك الرجال والنساء وإن فضل الرجال في الدنيا على النساء وقيل للرجال نصيب مما اكتسبوا من أمر الجهاد وللنساء نصيب مما اكتسبن يعني من طاعة الأزواج وحفظ الفروج وَسْئَلُوا اللّه مِنْ فَضْلِهِ قال ابن عباس : يعني من رزقه وقيل من عبادته وهو سؤال التوفيق للعبادة وقيل لم يأمر اللّه عباده بالمسألة إلا ليعطيهم وفيه تنبيه على أن العبد لا يعين شيئا في الدعاء والطلب لكن يطلب من فضل اللّه ما يكون سببا لصلاح دينه ودنياه وآخرته وقيل لما تمنى النساء أن يكن رجالاو أن يكون لهن مثل ما للرجال نهاهن اللّه عن ذلك وأمرهن أن يسألوه من فضله فإنه أعلم بمصالح عباده إِنَّ اللّه كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً يعني أنه تعالى عليم بما يكون صلاحا للسائلين فليقتصر السائل على المجمل في الطلب فإن اللّه تعالى عليم بما يصلحه فلا يتمنى غير الذي قدر له. قوله تعالى : ٣٣وَلِكُلٍّ يعني من الرجال والنساء جَعَلْنا مَوالِيَ يعني ورثة من بني عم وإخوة سائر العصبات مِمَّا تَرَكَ يعني يرثون مما ترك الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ من ميراثهم فعلى هذا الوالدان والأقربون هم المورثون وقيل معناه ولكل جعلنا موالي أي ورثة مما ترك وتكون ما بمعنى يعني من تركهم الميت ثم فسر الموالي فقال الوالدان والأقربون هم الوارثون. والمعنى ولكل شخص جعلنا ورثة ممن تركهم وهم والداه وأقربوه و القول الأول أصح لأنه مروي عن ابن عباس وغيره وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ وقرئ عقدت بغير ألف مع التخفيف والمعاقدة المحالفة والمعاهدة والأيمان جمع يمين يحتمل أن يراد بها القسم أو اليد أو هما جميعا وذلك أنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل واحد منهم بيد صاحبه وتحالفوا على الوفاء بالعهد والتمسك بذلك العقد. وكان الرجل يحالف الرجل في الجاهلية ويعاقده فيقول دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وثأري ثأرك وحربي حربك ، وسلمي سلمك ترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عني وأعقل عنك فيكون لكل واحد من الحليفين السدس في مال الآخر وكان الحكم ثابتا في الجاهلية وابتداء الإسلام فذلك قوله تعالى : فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ يعني أعطوهم حظهم من الميراث ثم نسخ اللّه هذا الحكم بقوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه. وقال ابن عباس : نزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من المهاجرين والأنصار لما قدموا المدينة وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة دون النسب والرحم ، فلما نزلت ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان نسختها ثم قال والذين عاقدت أيمانكم من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له وفي رواية أخرى عنه. قال والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما كالآخر فنسخ ذلك بسورة الأنفال فقال وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّه وقال سعيد بن المسيب : كانوا يتوارثون بالتبني بهذه الآية ثم نسخ ذلك وذهب قوم إلى أن الآية ليست بمنسوخة بل حكمها باق والمراد بقوله والذين عاقدت أيمانكم الحلفاء والمراد من قوله فآتوهم نصيبهم يعني من النصرة والنصيحة والموافاة والمصافاة ونحو ذلك فعلى هذا لا تكون منسوخة وقيل نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق عن داود بن الحصين قال : كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع وكانت يتيمة في حجر أبي بكر الصديق ، فقرأت والذين عاقدت أيمانكم فقالت : لا تقرأ والذين عقدت أيمانكم إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن حين أبي الإسلام فحلف أبو بكر أن لا يورثه فلما أسلم أمره اللّه أن يؤتيه نصيبه أخرجه أبو داود على هذا فلا نسخ أيضا فمن قال إن حكم الآية باق قال : إنما كانت المعاقدة في الجاهلية على النصرة لا غير والإسلام لم يغير ذلك ويدل عليه ما روي عن جبير بن مطعم قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) أخرجه مسلم. وقوله تعالى : إِنَّ اللّه كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً قال عطاء : يريد أنه لم يغب عنه علم ما خلق وبرأ فعلى هذا الشهيد بمعنى الشاهد والمراد منه علمه بجميع الأشياء وقيل الشهيد على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه فعلى هذا الشاهد بمعنى المخبر وفيه وعد للطائعين ووعيد للعصاة المخالفين. قوله عز وجل : ٣٤الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ نزلت في سعد بن الربيع وكان من النقباء وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير ، ويقال امرأته بنت محمد بن مسلمة وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لتقتص من زوجها فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ارجعوا هذا جبريل أتاني فأنزل اللّه تعالى هذه الآية فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أردنا أمرا وأراد اللّه أمرا والذي أراد اللّه خير ورفع القصاص فقوله تعالى : الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أي متسلطون على تأديب النساء والأخذ على أيديهن قال ابن عباس : أمروا عليهن فعلى المرأة أن تطيع زوجها في طاعة اللّه والقوام هو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب فالرجل يقوم بأمر المرأة ويجتهد في حفظها ولما أثبت القيام للرجال على النساء بيّن السبب في ذلك فقال تعالى : بِما فَضَّلَ اللّه بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني أن اللّه تعالى فضل الرجال على النساء بأمور منها زيادة العقل والدين والولاية والشهادة والجهاد والجمعة والجماعات وبالإمامة لأن منهم الأنبياء والخلفاء والأئمة ومنها أن الرجل يتزوج بأربع نسوة ولا يجوز للمرأة غير زوج واحد ومنها زيادة النصيب في الميراث والتعصيب في الميراث وبيده الطلاق والنكاح والرجعة وإليه الانتساب فكل هذا يدل على فضل الرجل على النساء ثم قال تعالى : وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ يعني وبما أعطوا من مهور النساء والنفقة عليهن عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) أخرجه الترمذي فَالصَّالِحاتُ يعني المحسنات العاملات بالخير قانِتاتٌ أي مطيعات لأزواجهن وقيل مطيعات للّه حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ لفروجهن في غيبة أزواجهن لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها ويلحق به الولد الذي هو من غيره وقيل معناه حفظ سر زوجها وحفظ ماله وما يجب على المرأة من حفظ متاع البيت في غيبة زوجها عن أبي هريرة قال قيل يا رسول اللّه أي النساء خير قال التي تسره إذا نظر إليها وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره أخرجه النسائي ورواه البغوي بسند الثعلبي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها) ثم تلا : الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ الآية. وقوله تعالى : بِما حَفِظَ اللّه يعني بما حفظهن اللّه حين أوصى بهن الأزواج وأمرهم بأداء المهر والنفقة إليهن (ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء) وقيل في معنى الآية بما حفظهن اللّه وعصمهن ووفقهن لحفظ الغيب وقيل بما حفظ اللّه من حقوقهن على أزواجهن حيث أمرهم بعدل فيهن وإمساكهن بمعروف أو تسريحهن بإحسان وَاللَّاتِي تَخافُونَ أي تعلمون وقيل تظنون نُشُوزَهُنَّ أي شرورهن وأصل النشوز الارتفاع ونشوز المرأة هو بغضها لزوجها ورفع نفسها عن طاعته والتكبر عليه وقيل دلالات النشوز قد تكون بالقول والفعل. فالقول مثل إن كانت تلبيه إذا دعاها وتخضع له خاطبها والفعل مثل إن كانت تقوم له إذا دخل عليها وتسرع إلى أمره إذا أمرها فإذا خالفت هذه الأحوال بأن رفعت صوتها عليه أو لم تجبه إذا دعاها ولم تبادر إلى أمره إذا أمرها دل ذلك على نشوزها على زوجها فَعِظُوهُنَّ يعني إذا ظهر منهن أمارات النشوز فعظوهن بالتخويف بالقول وهو أن يقول لها اتقي اللّه وخافية فإن لي عليك حقا وارجعي عما أنت عليه ، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو ذلك فإن أصرت على ذلك هجرها في المضجع وهو قوله تعالى : وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ يعني إن لم ينزعن عن ذلك بالقول فاهجروهن في المضاجع. قال ابن عباس : هو أن يوليها ظهره في الفراش ولا يكلمها وقيل هو أن يعتزل عنها إلى فراش آخر وَاضْرِبُوهُنَّ يعني إن لم ينزعن بالهجران فاضربوهن يعني ضربا غير مبرح ولا شائن قيل هو أن يضربها بالسواك ونحوه. وقال الشافعي : الضرب مباح وتركه أفضل عن عمرو بن الأحوص أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حجة الوداع يقول بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه وذكر ووعظ فذكر في الحديث قصة فقال : (ألا فاستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن تأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا) أخرجه الترمذي بزيادة فيه قوله عوان جمع عانية أي أسيرة شبه المرأة ودخولها تحت حكم زوجها بالأسير والضرب المبرح الشديد الشاق. وقوله : فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي لا تطلبوا عليهن طريقة تحتجون بها عليهن إذا قمن بواجب حقكم عن حكيم بن معاوية عن أبيه. قال : قلت يا رسول اللّه ما حق زوجة أحدنا عليه قال : (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسبت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت) أخرجه أبو داود قوله ولا تقبح أي لا تقل قبحك اللّه (ق) عن عبد اللّه بن زمعة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم لعله يجامعها أو قال يضاجعها من آخر اليوم) عن إياس بن عبد اللّه بن أبي ذئاب قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا تضربوا النساء) فجاء عمر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : (زبرت النساء على أزواجهن) فرخص في ضربهن فأطاف بآل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نساء كثيرون يشكون أزواجهن فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم) أخرجه أبو داود. إياس بن عبد اللّه هذا قد اختلف في صحبته وقال البخاري لا يعرف له صحبة قوله زبرت يقال زبرت المرأة على زوجها نشزت واجترأت عليه وأطاف بالشيء أحاط به. ففي هذه الأحاديث دليل على أن الأولى ترك الضرب للنساء فإن احتاج إلى ضربها لتأديب فلا يضربها ضربا شديدا وليكن ذلك مفرقا ولا يوالي بالضرب على موضع واحد من بدنها وليتق الوجه لأنه يجمع المحاسن ولا يبلغ بالضرب عشرة أسواط وقيل ينبغي أن يكون الضرب بالمنديل واليد ولا يضرب بالسوط والعصا وبالجملة فالتخفيف بأبلغ شيء أولى في هذا الباب واختلف العلماء فقال بعضهم حكم الآية مشروع على الترتيب فإن ظاهر اللفظ وإن دل على الجمع إلا أن مجرى الآية يدل على الترتيب قال علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه : يعظها بلسانه فإن انتهت فلا سبيل له عليها ، فإن أبت هجر مضجعها فإن أبت ضربها فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكم. وقال الآخرون هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز أما عند تحقق النشوز فلا بأس بالجمع بين الكل وقيل له أن يعظها عند خوف النشوز وهل له أن يهجرها فيه احتمال ذلك وله عند ظهور النشوز أن يعظها وأن يهجرها أو يضربها عن عمر رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته) أخرجه أبو داود (ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح) وفي رواية أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (و الذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلّا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها) وفي رواية : (إذا باتت مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح وفي أخرى) حتى ترجع عن طلق بن علي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إذا دعا الرجل امرأته إلى حاجته فلتأته وإن كانت على التنور) أخرجه الترمذي وله عن معاذ بن جبل أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك اللّه فإنما هو دخيل عندك يوشك أن يفارقك إلينا) وله عن أم سلمة قالت قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة) وقوله تعالى : فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ يعني فإن رجعن عن النشوز إلى طاعتكم عند هذا التأديب فلا تبغوا عليهن سبيلا يعني فلا تطلبوا عليهن الضرب والهجران على سبيل التعنت والإيذاء ، وقيل معناه أزيلوا عنهن التعرض بالأذى والتوبيخ ولا تجنوا عليهن الذنوب وقيل معناه لا تكلفوهن محبتكم فإن القلب ليس بأيديهن إِنَّ اللّه كانَ عَلِيًّا كَبِيراً العلي الكبير في صفة اللّه تعالى معناه الرفيع الذي يعلو عن وصف الواصفين ومعرفة العارفين العلي بالإطلاق الذي يستحق جميع صفات المدح والتكبير هو المستغني عن غيره وذلك هو اللّه تعالى الموصوف بالجلال والعظمة والكبرياء وكبر الشأن الذي يصغر كل أحد لكبريائه وعظمته تعالى ، والمعنى إن اللّه متعال من أن يكلف عباده ما لا يطيقونه. وقيل إن النساء وإن ضعفن عن دفع ظلم الرجال عنهن فإن اللّه علي كبير قادر على أن ينتصف لهن ممن ظلمهن من الرجال وقيل معناه أن اللّه مع علوه وكبريائه يقبل توبة العاصي إذا تاب ويغفر له فإذا تابت المرأة من نشوزها ، فالأولى بكم أن تقبلوا توبتها وتتركوا معاتبتها واعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم فأنتم أحق بالعفو عمن جنى عليكم. ٣٥وَإِنْ خِفْتُمْ يعني وإن علمتم وتيقنتم وقيل معناه الظن أي ظننتم شِقاقَ بَيْنِهِما يعني بين الزوجين وأصل الشقاق المخالفة وكون كل واحد من المتخالفين في شق غير شق صاحبه أو يكون أصله من شق العصا وهو أن يقول كل واحد من الزوجين ما يشق على صاحبه سماعه ، وذلك أنه إذا ظهر بين الزوجين شقاق ومخالفة واشتبه حالهما ولم يفعل الزوج الصلح ولا الصفح ولا الفرقة وكذلك الزوجة لا تؤدي الحق ولا الفدية وخرجا إلى ما لا يحل قولا وفعلا. قوله تعالى : فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها اختلفوا في المخاطبين بهذا ومن المأمور ببعثة الحكمين ، فقيل المخاطب بذلك هو الإمام أو نائبه لأن تنفيذ الأحكام الشرعية إليه وقيل المخاطب بذلك كل أحد من صالحي الأمة لأن قوله تعالى فابعثوا خطاب الجمع وليس حمله على البعض أولى من حمله على البعض أولى من حمله على البقية فوجب حمله على الكل فعلى هذا يجب أن يكون أمرا لآحاد الأمة سواء وجد الإمام أو لم يوجد. فللصالحين أن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، وأيضا فهذا يجري مجرى دفع الضرر فلكل واحد أن يقول به وقيل وهو خطاب للزوجين فإذا حصل بينهما شقاق بعثا حكمين حكما من أهله وحكما من أهلها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يعني الحكمين وقيل الزوجين يُوَفِّقِ اللّه بَيْنَهُما يعني بالصلاح والألفة روى الشافعي بسنده عن علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه أنه جاءه رجل وامرأة ومع كل واحد منهما فئام من الناس فقال : علام شأن هذين؟ قالوا : وقع بينهما شقاق قال علي فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ثم قال للحكمين تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما فقالت المرأة رضيت بكتاب اللّه بما علي فيه ولي وقال الرجل أما الفرقة فلا قال علي كذبت واللّه حتى تقر بمثل ما أقرت به. قال الشافعي : والمستحب أن يبعث الحاكم عدلين ويجعلهما حكمين والأولى أن يكون واحد من أهله وواحد من أهلها لأن أقاربهما أعرف بحالهما من الأجانب وأشد طلبا للإصلاح فإن كانا أجنبيين جاز وفائدة الحكمين أن كل واحد منهما يخلو بصاحبه ويستكشف حقيقة الحال ليعرف أن رغبته في الإقامة على النكاح أو في المفارقة ثم يجتمعان فيفعلان ما هو الصواب من اتفاق أو طلاق أو خلع والحكمان وكيلان للزوجين وهل يجوز تنفيذ أمر يلزم الزوجين دون رضاهما وإذنهما في ذلك مثل أن يطلق حكم الرجل أو يفتدي حكم المرأة بشيء من مالها ، فللشافعي في ذلك قولان : أحدهما أنه لا يجوز إلا برضاهما وليس الحكم الزوج أن يطلق إلا بإذنه ولا لحكم المرأة أن يختلع بشيء من مالها إلا بإذنها وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد لأن عليا توقف حين لم يرض الزوج وذلك حين قال أما الفرقة فلا فقال له علي كذبت حتى تقر بمثل ما أقرت به فثبت أن تنفيذ الأمر موقوف على إقراره ورضاها ومعنى قول علي للزوج كذبت أي لست بمنصف في دعواك حيث لم تقر بمثل ما أقرت به من الرضا بحكم كتاب اللّه لها وعليها والقول الثاني إنه يجوز بعث الحكمين دون رضاهما ويجوز لحكم الزوج أن يطلق دون رضاه ولحكم الزوجة أن يختلع دون رضاها إذا رأيا الصلاح في ذلك كالحاكم يحكم بين الخصمين وإن لم يكن على وفق مرادهما وبه قال مالك : ومن قال بهذا القول قال ليس المراد من قول علي للزوج حتى تقر أن رضاه شرط بل معناه أن المرأة لما رضيت بما في كتاب اللّه تعالى. فقال الرجل أما الفرقة فلا يعني ليست الفرقة في كتاب اللّه فقال له علي : كذبت حتى أنكرت أن تكون الفرقة في كتاب اللّه ، بل هي في كتاب اللّه فإن قوله تعالى يوفق اللّه بينهما يشتمل على الفراق وعلى غيره لأن التوفيق أن يخرج كل واحد منهما من الإثم والوزر ويكون تارة ذلك بالفراق وتارة بصلاح حاليهما في الوصلة. وقوله تعالى : إِنَّ اللّه كانَ عَلِيماً خَبِيراً يعني أن اللّه تعالى يعلم كيف يوفق بين المختلفين ويجمع بين المتفرقين وفيه وعيد شديد للزوجين والحكمين إن سلكوا غير طريق الحق. قوله عز وجل : ٣٦وَاعْبُدُوا اللّه يعني وحدوه وأطيعوه وعبادة اللّه تعالى عبارة عن كل فعل يأتي به العبد لمجرد اللّه تعالى ويدخل فيه جميع أعمال القلوب وأعمال الجوارح وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً يعني وأخلصوا له في العبادة ولا تجعلوا له في الربوبية والعبادة شريكا لأن من عبد مع اللّه غيره أو أراد بعمله غير اللّه فقد أشرك به ولا يكون مخلصا (ق) عن معاذ بن جبل قال : كنت رديف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على حمار يقال له عفير أو اسمه يعفور فقال : يا معاذ هل تدري ما حق اللّه على عباده وما حق العباد على اللّه؟ قلت : اللّه ورسوله أعلم قال : فإن حق اللّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على اللّه أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا فقلت يا رسول اللّه أفلا أبشر الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا) قوله هل تدري ما حق اللّه على عباده معناه ما يستحقه مما أوجبه وجعله متحتما عليهم ثم فسر ذلك الحق بقوله أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وقوله وما حق العباد على اللّه إنما قال حقهم على سبيل المقابلة لحقه عليهم لا لأنهم يستحقون عليه شيئا ويجوز أن يكون من قول الرجل لصاحبه حقك عليّ واجب أي متأكد قيامي به. وقوله أفلا أبشر الناس إلخ إنما قال لا تبشرهم فيتكلوا. لأنه صلّى اللّه عليه وسلّم رأى ذلك أصلح لهم وأحرى أن لا يتكلوا على هذه البشارة ويتركوا العمل الذي ترفع لهم به الدرجات في الجنة. وقوله تعالى : وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً تقديره وأحسنوا بالوالدين إحسانا يعني برّا بهما واعطفا عليهما وإنما قرن بر الوالدين بعبادته وتوحيده لتأكد حقهما على الولد. واعلم أن الإحسان بالوالدين هو أن يقوم بخدمتها ولا يرفع صوته عليهما ويسعى في تحصيل مرادهما والإنفاق عليهما بقدر القدرة (ق) عن أبي هريرة قال : (جاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللّه من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك قال ثم من؟ قال ثم أمك؟ قال ثم من؟ قال ثم أمك؟ قال ثم من؟ قال ثم أبوك) وفي رواية قال : (أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك فأدناك قوله ثم أباك فيه حذف تقديره ثم بر أباك) (م) عنه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه قيل من يا رسول اللّه؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة). قوله تعالى : وَبِذِي الْقُرْبى أي وأحسنوا إلى ذي القرابة وهو ذوو رحمه من قبل أبيه وأمه (ق) عن أنس بن مالك رضي اللّه تعالى عنه قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) قوله ينسأ له في أثره يعني يؤخر له في أجله وعمره. وقوله تعالى : وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ أي وأحسنوا إلى اليتامى وإنما أمر بالإحسان إليهم لأن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز والصغر وعدم المشفق والمسكين هو الذي ركبه ذل الفاقة والفقر فتمسكن لذلك (خ) عن سهل بن سعد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (أنا وكافل اليتيم في الجنة) هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا. عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : (قال الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل اللّه وأحسبه قال وكالقائم الذي لا يفتر وكالصائم الذي لا يفطر) وقوله تعالى : وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ أي وأحسنوا إلى الجار ذي القربى وهو الذي قرب جواره منك والجار الجنب هو الذي بعد جواره عنك وقيل الجار ذو القربى هو القريب والجار الجنب هو الأجنبي الذي ليس بينك وبينه قرابة : (ق) عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) وعن عائشة مثله (خ) عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : (قلت يا رسول اللّه إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال إلى أقربهما بابا منك) (م) عن أبي ذر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) وفي رواية قال أوصاني خليلي صلّى اللّه عليه وسلّم : (قال إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر إلى أهل البيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف) (ق) عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (و اللّه لا يؤمن واللّه لا يؤمن واللّه لا يؤمن قيل من يا رسول اللّه؟ قال الذي لا يأمن جاره بوائقه) ولمسلم (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) البوائق الغوائل والشرور (ق) عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (يا نساء المؤمنات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) معناه ولو أن تهدي إليها فرسن شاة وهو الظلف وأراد به الشيء الحقير (ق) عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت). وقوله تعالى : وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قال ابن عباس هو الرفيق في السفر وقيل هي المرأة تكون معك إلى جنبك وقيل هو الذي يصحبك رجاء نفعك. عن عبد اللّه بن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (خير الأصحاب عند اللّه تعالى خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند اللّه تعالى خيرهم لجاره) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وقوله تعالى : وَابْنِ السَّبِيلِ يعني المسافر المجتاز بك الذي قد انقطع به وقال الأكثرون المراد بابن السبيل الضيف يمر بك فتكرمه وتحسن إليه (ق) عن أبي شريح خويلد بن عمرو العدوي قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته قالوا وما جائزته يا رسول اللّه؟ قال : (يومه وليلته والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه) وقال : (من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) زاد في رواية ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه. قال : يا رسول اللّه وكيف يؤثمه؟ قال يقيم عنده ولا شيء عنده يقريه به) قوله جائزته يومه وليلته الجائزة العطية أي يقري الضيف ثلاثة أيام ثم يعطيه ما يجوز به من منهل إلى منهل وقيل هو أن يكرم الضيف فإذا سافر أعطاه ما يكفيه يوما وليلة حتى يصل إلى موضع آخر وقوله أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه أي يوقعه في الإثم لأنه إذا أقام عنده ولم يقره أثم بذلك. وقوله تعالى : وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني المماليك فأحسنوا إليهم والإحسان إليهم أن لا يكلفهم ما لا يطيقون ولا يؤذيهم بالكلام الخشن وأن يعطيهم من الطعام والكسوة ما يحتاجون إليه بقدر الكفاية عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لا يدخل الجنة سيئ الملكة) أخرجه الترمذي عن رافع بن مكيث أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (حسن الملكة نماء وسوء الخلق شؤم) أخرجه أبو داود وله عن علي بن أبي طالب قال كان آخر كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (الصلاة الصلاة اتقوا اللّه فيما ملكت أيمانكم) (ق) عن المعرور بن سويد قال رأيت أبا ذر وعليه حلة وعلى غلامه حلة مثلها فسألته عن ذلك فذكر أنه سابّ رجلا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فعيره بأمه فأتى الرجل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فذكر ذلك له فقال له النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : (إنك امرؤ فيك جاهلية قلت على ساعتي هذه من كبر السن قال نعم هم إخوانكم وخولكم جعلهم اللّه تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه). وقوله تعالى : إِنَّ اللّه لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا المختال المتكبر العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق الناس (فخورا) الفخور هو الذي يفتخر على الناس ويعدد مناقبه تكبرا وتطاولا على من دونه ، وقيل هو الذي يفتخر على عباد اللّه بما أعطاه اللّه من نعمه ولا يشكره عليها وإنما ختم اللّه هذه الآية بهذين الوصفين المذمومين لأن المختال الفخور يأنف من أقاربه الفقراء ومن جيرانه الضعفاء فلا يحسن إليهم ولا يلوي بنظره عليهم ولأن المختال هو المتكبر ومن كان متكبرا فلا يقوم بحقوق الناس (ق) عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لا ينظر اللّه تعالى يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء) (ق) عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لا ينظر اللّه يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا) (ق) عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل جمته يختال في مشيته إذ خسف اللّه به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة) (خ) عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (بينما رجل ممن كان قبلكم يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة (ق)) عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (الفخر والخيلاء في الفدادين من أهل الوبر والسكينة في أهل الغنم الفدادون هم الفلاحون والحراثون وأصحاب الإبل والبقر المستكبرون منهما المتكبرون على الناس بهما) قوله عز وجل : ٣٧الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ نزلت في اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فكتموها وعلى هذا يكون المراد بالبخل كتمان العلم وقال ابن عباس نزلت في كردم بن زيد ويحيى بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع ويحيى بن عمر وكانوا يأتون رجالا من الأنصار ويخاطبونهم يقولون لهم لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية وقيل يحتمل أن يكون المراد بالبخل كتمان العلم ومنع المال لأن البخل في كلام العرب منع السائل من فضل ما لديه وإمساك المقتنيات وفي الشرع البخل عبارة عن إمساك الواجب ومنعه ، وإذا كان ذلك أمكن حمله على منع المال ومنع العلم وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ يعني اليهود كتموا صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وما عندهم من العلم وقيل هم الأغنياء الذين كتموا الغنى وأظهروا الفقر وبخلوا بالمال وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ يعني الجاحدين نعمة اللّه عليهم عَذاباً مُهِيناً يعني في الآخرة عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (خصلتان لا يجتمعان في مؤمن : البخل وسوء الخلق) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب قوله عز وجل : ٣٨وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ يعني للفخار والسمعة وليقال ما أسخاهم وما أجودهم لا يريدون بما أنفقوا وجه اللّه تعالى (م) عن أبي هريرة قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (قال اللّه تبارك وتعالى : (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) نزلت هذه الآية في اليهود وقيل في المنافقين لأن الرياء ضرب من النفاق ، وقيل نزلت في مشركي مكة المنفقين أموالهم في عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني ولا يصدقون بتوحيد اللّه ولا بالمعاد الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً يعني من يكن الشيطان صاحبه وخليله فبئس الصاحب وبئس الخليل الشيطان ، وإنما اتصل الكلام هنا بذكر الشيطان تقريعا لهم على طاعة الشيطان. والمعنى من يكن عمله بما سول له الشيطان فبئس العمل عمله وقيل هذا في الآخرة يجعل اللّه الشياطين قرناءهم في النار يقرن مع كل كافر شيطان في سلسلة من النار ثم وبخهم اللّه تعالى وعيرهم على ترك الإيمان ٣٩فقال تعالى : وَما ذا عَلَيْهِمْ يعني وأي شي ء عليهم وأي وبال وتبعة تلحقهم لَوْ آمَنُوا بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّه أي أي وبال عليهم في الإيمان باللّه والإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته وَكانَ اللّه بِهِمْ عَلِيماً يعني لا يخفى عليه شيء من أعمال هؤلاء الذين ينفقون أموالهم لأجل الرياء والسمعة ففيه وعيد وتهديد لهم. ٤٠قوله عز وجل : إِنَّ اللّه لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ نظم الكلام وماذا عليهم لو آمنوا وأنفقوا فإن اللّه لا يظلم ولا يبخس ولا ينقص أحدا من ثواب عمله مثقال ذرة يعني وزن ذرة. وقال ابن عباس : الذرة رأس نملة حمراء وقيل الذرة كل جزء من أجزاء الهباء الذي يكون في الكوة إذا كان فيها ضوء الشمس لا وزن لها وهذا مثل ضربه اللّه تعالى لأقل الأشياء والمعنى أن اللّه تعالى لا يظلم أحدا شيئا من قليل ولا كثير فخرج الكلام على أصغر شيء يعرفه الناس وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها يعني الحسنة بعشر أمثالها وقيل هذا عند الحساب فمن بقي له من الحسنات مثقال ذرة ضاعفها اللّه له إلى سبعمائة وإلى أجر عظيم. قال قتادة : لأن تفضل حسناتي على سيئاتي بمثقال ذرة أحب إليّ من الدنيا وما فيها (م) عن أنس بن مالك في قوله تعالى : إن اللّه لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إن اللّه لا يظلم مؤمنا حسنة يعطي بها في الدنيا ويجزي بها في الآخرة : (و أما الكافر فيعطى بحسنات قد عمل بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن اللّه تعالى سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئا أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول لا يا رب فيقول أفلك عذر؟ فيقول لا يا رب فيقول تعالى : بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول احضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال فإنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم اللّه شي ء) أخرجه الترمذي (ق) عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللّهم سلّم سلّم قيل يا رسول اللّه وما الجسر قال دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوش في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فو الذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد منا شدة للّه في استقصاء الحق من المؤمنين للّه يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار) وفي رواية فما أنتم بأشد مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار إذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلّون ويحجّون. فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا وكان أبو سعيد يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم إن اللّه لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فيقول اللّه تبارك وتعالى شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض فقالوا : يا رسول اللّه كأنك كنت ترعى بالبادية قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء اللّه الذين أدخلهم اللّه الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه. ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين فيقول لكم عندي أفضل من هذا فيقولون ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدا لفظ مسلم وهو بعض حديث. وقال بعضهم هذه الآية واردة في الخصوم ويدل عليه ما روي عن عبد اللّه بن مسعود قال : إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الأولين والآخرين ثم نادى مناد من عند اللّه إلا من كان يطلب مظلمة فليجئ إلى حقه فليأخذه قال فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه منه وإن كان صغيرا ومصداق ذلك في كتاب اللّه تعالى قوله تعالى : فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ ويؤتى بالعبد وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين هذا فلان ابن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقال له آت هؤلاء حقوقهم فيقول أي رب من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول اللّه تبارك وتعالى لملائكته انظروا في أعماله الصالحات فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة يا ربنا وهو أعلم بذلك أعطينا كل ذي حق حقه وبقي له مثقال ذرة من حسنة فيقول للملائكة ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة ومصداق ذلك في كتاب اللّه : إِنَّ اللّه لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً أي الجنة وإن كان عبدا شقيا قالت الملائكة إلهنا فنيت حسناته وبقي طالبون كثير فيقول اللّه تبارك وتعالى : (خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم اكتبوا له كتابا إلى النار) أخرجه البغوي بغير سند عن ابن مسعود موقوفا عليه. وأسنده ابن جرير الطبري عن ابن مسعود فمعنى الآية على هذا التأويل إن اللّه لا يظلم مثقال ذرة للخصم على خصمه بل يأخذها له منه ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له بل يثيبه عليها ويضاعفها له فذلك قوله تعالى : وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها أي يجعلها أضعافا كثيرة وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ يعني من عنده أَجْراً عَظِيماً يعني الجنة والمعنى ويعطى من عنده أجرا عظيما يعني عوضا من حسنة وذلك العوض هو الجنة وقال أبو هريرة : إذا قال اللّه عزّ وجلّ أجرا عظيما فمن يقدر قدره قوله تعالى : ٤١فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يعني فكيف يكون حال هؤلاء المشركين والمنافقين يوم القيامة إذا جئنا من كل أمة بشهيد. قال ابن عباس : يريد بنبيها والمعنى أنه يؤتى بنبي كل أمة يشهد عليها ولها وَجِئْنا بِكَ يا محمد عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً يعني تشهد على هؤلاء الذين سمعوا القرآن وخوطبوا به بما عملوا (ق) عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (اقرأ على القرآن) فقلت يا رسول اللّه أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال إني أحب أن أسمعه من غيري قال فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال حسبك الآن قال فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان زاد مسلم شهيدا مادمت فيهم أو قال ما كنت فيهم شك أحد رواته. ٤٢وقوله تعالى : يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة يَوَدُّ أي يتمنى الَّذِينَ كَفَرُوا يعني جحدوا وحدانية اللّه تعالى وَعَصَوُا الرَّسُولَ يعني فيما أمرهم به من توحيد اللّه عز وجل لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ يعني لو صاروا فيها وسويت عليهم وقيل إنهم ودوا أن لن يبعثوا لأنهم إنما كانوا في الأرض وهي مستوية عليهم. وقال الكلبي : يقول اللّه تعالى للبهائم والوحوش والطيور والسباع كوني ترابا فتسوى بهن الأرض فعند ذلك يتمنى الكافر أن لو يكون ترابا وَلا يَكْتُمُونَ اللّه حَدِيثاً قال ابن عباس : في رواية عطاء ودوا لو تسوى بهم الأرض وأنهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ولا كفروا به ولا نافقوه فعلى هذا القول يكون الكتمان ما كتموا في الدنيا من صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ونعته وهو كلام متصل بما قبله وقيل هو كلام مستأنف قال سعيد بن جبير سأل رجل ابن عباس فقال إني أجد في القرآن أشياء تختلف على قال : هات ما يختلف عليك قال منها قوله تعالى وَلا يَكْتُمُونَ اللّه حَدِيثاً ومنها قوله تعالى وَاللّه رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فقد كتموا فقال يغفر اللّه تعالى لأهل الإسلام ذنوبهم ويدخلهم الجنة فيقول المشركون تعالوا نقول ما كنا مشركين فيقولون واللّه ربنا ما كنا مشركين رجاء أن يغفر لهم ، فيختم على أفواههم وتنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون فعند ذلك عرفوا أن اللّه لا يكتم حديثا وعنده يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض فلا يختلف عليك القرآن فإن كلّا من عند اللّه. وقال الحسن : إنها مواطن ، ففي موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همسا وفي موطن يتكلمون ويكذبون ويقولون وَاللّه رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وما كنا نعمل من سوء في موطن يعترفون على أنفسهم وهو قوله تعالى فاعترفوا بذنبهم وفي موطن لا يتساءلون وفي موطن يسألون الرجعة وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم فهو قوله تعالى ولا يكتمون اللّه حديثا. قوله عز وجل : ٤٣يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى جمع سكران حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ سبب نزول هذه الآية ما روي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال صنع لنا ابن عوف طعاما فدعانا فأكلنا وسقانا خمرا قبل تحريم الخمر فأخذت منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت : قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون قال فخلطت فنزلت لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وأخرجه أبو داود ولفظه أن رجلا من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر فحضرت الصلاة فأمّهم علي في المغرب فقرأ قل يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت الآية : لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وروى ابن جرير الطبري عن ابن عباس أن رجالا كانوا يأتون الصلاة وهم سكارى قبل أن تحرم الخمر فقال اللّه عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى الآية فعلى هذا ففي المراد بالصلاة قولان : أحدهما أنه نفس الصلاة ذات الركوع والسجود وهو قول الأكثرين المعنى لا تصلّوا وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون. والقول الثاني إن المراد بالصلاة موضع الصلاة وهو المسجد وإطلاق لفظ الصلاة على المسجد محتمل فيكون من باب حذف المضاف. والمعنى لا تقربوا مواضع الصلاة وأنتم سكارى وحذف المضاف جائز سائغ. ويدل عليه قوله تعالى لهدمت صوامع وبيع وصلوات والمراد بالصلوات مواضعها فثبت أن إطلاق لفظ الصلاة والمراد موضعها جائز. واعلم أن هذا النهي عن قربان الصلاة في حالة السكر إنما كان قبل تحريم الخمر فكانوا يشربونها في غير أوقات الصلاة ثم نزل تحريم الخمر بعد ذلك ونسخت هذه الآية وقال الضحاك المراد بالسكر سكر النوم يعني لا تقربوا الصلاة عند غلبة النوم ويدل عليه ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلّى وهو ناعس لا يدري لعله يذهب يستغفر ربه فيسب نفسه) أخرجاه في الصحيحين. وقوله تعالى : وَلا جُنُباً يعني ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب والجنب يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب وأصل الجنابة البعد سمي الذي أصابته الجنابة جنبا لأنه يتجنب الصلاة والمسجد وقيل لمجانبته الناس حتى يغتسل إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ العابر هاهنا فاعل من العبور وهو قطع الطريق من هذا الجانب إلى الجانب الآخر واختلف العلماء في معنى قوله إلا عابري سبيل على قولين : أحدهما إن المراد بالعبور هو العبور في المسجد وذلك أن قوما من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ولا ممر لهم إلّا في المسجد فرخص لهم العبور فيه فعلى هذا القول يكون المراد بالصلاة موضع الصلاة والمعنى لا تقربوا المسجد وأنتم جنب إلا مجتازين فيه للخروج منه أو للدخول فيه مثل أن يكون قد نام في المسجد فأجنب فيجب الخروج منه أو يكون الماء في المسجد فيدخل إليه أو يكون طريقه عليه فيمر فيه من غير إقامة وهذا قول ابن مسعود وأنس بن مالك والحسن وسعيد بن المسيب وعكرمة وعطاء الخراساني والنخعي والزهري وإليه ذهب الشافعي وأحمد. القول الثاني أن المراد من قوله إلّا عابري سبيل المسافرون والمعنى لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين ولم تجدوا الماء فتيمموا فمنع الجنب من الصلاة حتى يغتسل إلا أن يكون في سفر ولا ماء معه فيتيمم ويصلّي إلى أن يجد الماء فيغتسل وهذا قول علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة فمن جعل عابري السبيل المسافرين منه الجنب من العبور في المسجد وهو مذهب أبي حنيفة. وصحح ابن جرير الطبري الواحدي القول الأول ويدل على صحته وجهان : أحدهما أن المسافر الجنب لا تصح صلاته بدون التيمم ولم يذكر التيمم هاهنا فيحتاج إلى إضمار شيئين : عدم الماء وذكر التيمم وعلى القول الأول لا يحتاج إلى إضمار شيء. الوجه الثاني أن اللّه تعالى ذكر حكم السفر وعدم الماء وجواز التيمم بعد هذا فلا يحل هذا على حكم معاد في الآية ويدل على أن جميع القراء استحسنوا الوقف على قوله : حَتَّى تَغْتَسِلُوا يعني إلى أن تغتسلوا وفيه دليل على أن حكم الجنابة باق على الجنب إلى غاية هي الاغتسال. (فصل في أحكام تتعلق بالآية) اختلف العلماء في العبور في المسجد فأباحه قوم على الإطلاق وهو قول الحسن وبه قال مالك والشافعي ومنعه بعضهم على الإطلاق وهو قول أصحاب الرأي. وقال قوم يتيمم للعبور في المسجد واختلف العلماء في المكث في المسجد أيضا للجنب فمنعه أكثر أهل العلم وقالوا لا يجوز للجنب المكث في المسجد بحال لما روي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال : وجهوا هذه البيوت عن المسجد ثم دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم بعد. فقال وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل لحائض ولا جنب أخرجه أبو داود وجوز أحمد المكث في المسجد بشرط الوضوء به. قال المزني من أصحاب الشافعي وأجاب أحمد عن حديث عائشة بأنه في رواته مجهول. وقال عبد الحق لا يثبت من قبل إسناده وأستدل أحمد لمذهبه بما روي عن عطاء بن يسار قال رأيت رجالا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة أخرجه سعيد بن منصور في مسنده واحتج لمذهب الجمهور بعموم الآية وبما روي عن أم سلمة قالت دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته أن المسجد لا يحل لجنب ولا حائض أخرجه ابن ماجة ويحرم على الجنب أيضا الطواف وقراءة القرآن كما يحرم عليه فعل الصلاة ويدل على ذلك أيضا ما روي عن علي بن أبي طالب قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقضي حاجته ثم يخرج فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم ولا يحجبه وربما قال ولا يحجزه من القرآن شيء ليس الجنابة أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي ولفظه كان يقرأ القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا وقال حديث حسن صحيح عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا يقرأ الجنب ولا الحائض ولا النفساء من القرآن شيئا) أخرجه الدار قطني ويجب الغسل بأحد شيئين : بإنزال المني وهو الماء الدافق أو بإيلاج الحشفة في الفرج وإن لم ينزل ويدل على ذلك ما روي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما قال يغتسل وعن الوجه يرى أنه احتلم ولا يجد بللا. قال لا غسل عليه قالت أم سلمة والمرأة ترى ذلك أعليها غسل؟ قال نعم؟ أخرجه أبو داود والترمذي (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) زاد في رواية وإن لم ينزل. وقوله تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى جمع مريض وأراد به المرض الذي يضر معه إمساس الماء مثل الجدري وإحراق النار ونحو ذلك وإن كان على بعض مع وجود الماء وإن كان بعض أعضائه من استعمال الماء التلف أو زيادة الوجع فإنه يتيمم ويصلي مع وجود الماء وإن كان بعض أعضائه صحيحا وبعضها جريحا غسل الصحيح وتيمم للجريح في الوجه واليدين لما روي عن جابر قال : خرجنا في سفرنا فأصاب رجلا منا حجرا فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أخبر بذلك فقال : قتلوه قتلهم اللّه ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو قال يعصب شك الراوي على جرحه خرقة ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده أخرجه أبو داود والدار قطني ولم يجوز أصحاب الرأي الجمع بين الغسل والتيمم قالوا إذا كان أكثر أعضائه أو بدنه صحيحا غسل الصحيح ولا يتيمم عليه وإن كان الأكثر جريحا اقتصر على التيمم والحديث حجة لمن أوجب الجمع بين الغسل والتيمم. قوله تعالى : أَوْ عَلى سَفَرٍ يعني أو كنتم مسافرين وأراد به السفر الطويل والقصير وعدم الماء فإنه يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه لما روي عن أبي ذر قال : (اجتمعت غنيمة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال أبا ذر ابد فيها فبدوت إلى الربذة فكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال أبو ذر فسكت فقال ثكلتك أمك يا أبا ذر لأمك الويل فدعا بجارية سوداء فجاءت بعس فيه ماء فسترتني بثوب واستترت بالراحلة فاغتسلت ، فكأني ألقيت عني جبلا. فقال الصعيد الطيب : وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك فإن ذلك خير أخرجه أبو داود العس قدح من فخار يجعل فيه الماء للوضوء والاغتسال. أما إذا لم يكن الرجل مريضا ولا على سفر وعدم الماء في موضع لا يعدم فيه غالبا فإنه يتيمم ويصلي ثم يعيد إذا وجد الماء وقدر عليه وبه قال الشافعي وقال مالك والأوزاعي لا إعادة عليه وقال أبو حنيفة يؤخر الصلاة حتى يجد الماء. وقوله تعالى : أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ الغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان وكانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث فكنوا به عن الحدث وذلك أن الرجل منهم كان إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطا من الأرض يعني مكانا منخفضا من الأرض يحجبه عن أعين الناس فسمي الحدث بهذا الاسم فهو من باب تسمية الشيء باسم مكانه. وقوله تعالى أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قرئ هنا وفي سورة المائدة لامستم النساء ولمستم بغير ألف واختلف العلماء في معنى الملامسة على قولين أحدهما أنه الجماع وهو قول علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ووجه هذا القول أن اللّه تعالى كنى باللمس عن الجماع لأن اللمس يوصل إليه. قال ابن عباس إن اللّه حيي كريم يكني عن الجماع بالملامسة ، والقول الثاني إن المراد باللمس هنا التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو بغير جماع وهو قول ابن مسعود وابن عمر والشعبي والنخعي ووجه هذا القول إن اللمس حقيقة في اللمس باليد فأما حمله على الجماع فمجاز والأصل حمل الكلام على الحقيقة لا على المجاز. وأما قراءة من قرأ أو لامستم فالملامسة مفاعلة والأصل حمل الكلام على الحقيقية لا على الإطلاق لأنه قد ورد في الحديث النهي عن بيع الملامسة قال أبو عبيدة في معناها هي أن يقول : إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع فالملامسة في الحديث بمعنى اللمس باليد وإذا كانت مستعملة في غير المجامعة لم يدل قوله تعالى : أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ على صريح الجماع بل حمل على الأصل الموضوع له وهو اللمس باليد. (فصل في أحكام تتعلق بالآية وفيه مسائل) المسألة الأولى : إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة ولا حائل بينهما انتقض وضوءهما وهو قول ابن مسعود وابن عمر وبه قال الزهري والأوزاعي والشافعي لما روي الشافعي بسنده عن ابن عمر أنه قال قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة فمن قبّل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء أخرجه مالك في الموطأ قال الشافعي : وبلغنا عن ابن المسعود مثله وقال مالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق إذا كان اللمس بشهوة انتقض الوضوء وإن لم يكن بشهوة فلا ويدل عليه ما روي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها : (أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل امرأة من نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ) قال عروة ومن هي إلّا لا أنت فضحكت أخرجه أبو داود وأجيب عن هذا الحديث بأنه ليس بثابت قال الترمذي إنه لا يصلح إسناده بحال وسمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث وقال حبيب بن ثابت لم يسمع من عروة وضعف يحيى بن سعيد القطان هذا الحديث وقال هو شبه لا شيء وفيه ضعف من وجه آخر وهو أن عروة هذا ليس بعروة بن الزبير ابن أخت عائشة إنما هو شيخ مجهول قال البيهقي يعرف بعروة المزني وإنما المحفوظ عن عائشة : (أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقبل وهو صائم) كذا رواه الثقات عن عائشة وقال أبو حنيفة لا ينتقض الوضوء باللمس إلّا أن يحدث الانتشار وقال قوم لا ينتقض بحال وهو قول ابن عباس وبه قال الحسن والثوري واحتج من لم يوجب الوضوء باللمس بما روي عن عائشة أنها قالت : (كنت أنام بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح) أخرجاه في الصحيحين وأجاب من أوجب الوضوء باللمس عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن يكون غمزه لها على حائل. المسألة الثانية : اختلف قول الشافعي في لمس المحرم كالأم والبنت والأخت أو أجنبية صغيرة فأصح القولين عنه أنه لا ينتقض الوضوء به والثاني أنه ينتقض الوضوء به ومأخذ القولين عند أصحاب الشافعي التردد بين التعلق بعموم الآية في قوله : (أو لامستم النساء) أو النظر إلى المعنى في النقض باللمس وهو تحرك الشهوة فإن أخذنا بعموم الآية فينتقض الوضوء بلمس المحارم وإن أخذنا بالمعنى فلا ينتقض وفي الملموس قولان والملموس هو الذي لا فعل منه في المباشرة رجلا كان أو امرأة واللامس هو الفاعل اللمس وإن لم يقصد المباشرة فأحد القولين إنه ينتقض وضوء اللامس والملموس لعموم الآية لأنه لمس وقع بين الرجل والمرأة فينتقض وضوءهما معا والقول الثاني إنه ينتقض وضوء اللامس دون الملموس لما روي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : (فقدت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة من الفراش فالتمسته فوضعت يدي على أخمص قدميه وهو ساجد وهما منصوبتان وهو يقول : اللّهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) أخرجه مسلم فلو انتقض وضوءه صلّى اللّه عليه وسلّم لقطع الصلاة ولو لمس شعر امرأة أو سنها أو ظفرها فلا وضوء عليه. المسألة الثالثة في الحدث : وهو الخارج من السبيلين عينا كالبول والغائط أو أثرا كالريح ونحوها فإذا حصل شيء من ذلك فلا تصح صلاته ما لم يتوضأ أو يتيمم عند عدم الماء لما روي عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا يقبل اللّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) فقال رجل من أهل حضر موت ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال فساء أو ضراط أخرجاه في الصحيحين أما خروج النجاسة من غير السبيلين كالفصد والحجامة والرعاف والقيء ونحوها فذهب قوم إلى أنه لا وضوء من خروج هذه الأشياء يروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس وبه قال عطاء وطاوس والحسن وابن المسيب وإليه ذهب مالك والشافعي لما روي عن أنس قال : (احتجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه) أخرجه الدار قطني وذهب قوم إلى إيجاب الوضوء من ذلك منهم سفيان الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق واتفق هؤلاء على أن خروج القليل منه لا ينقض الوضوء ويدل على انتقاض الوضوء بخروج هذه الأشياء ما روي عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء : (أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قاء فتوضأ قال معدان فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك فقال صدق أنا صببت له وضوءه) أخرجه الترمذي وقال هو أصح شيء في هذا الباب. المسألة الرابعة : من نواقض الوضوء زوال العقل بجنون أو إغماء أو نوم لما روي عن علي قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ) أخرجه أبو داود وابن ماجة ويستثنى من ذلك النوم اليسير ، قاعدا مفضيا بمحل الحدث إلى الأرض ويدل على ذلك ما روي عن أنس. قال : كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ينتظرون العشاء الأخيرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون أخرجه أبو داود وذهب قوم إلى أن النوم لا ينقض الوضوء بكل حال وهو قول أبي هريرة وعائشة وبه قال الحسن وإسحاق والمزني وذهب قوم إلى أنه لو نام قائما أو قاعدا أو ساجدا وهو في الصلاة فلا وضوء عليه حتى يضطجع وبه قال سفيان الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي لما روي عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ليس على من نام ساجدا وضوء حتى يضطجع فإذا اضطجع استرخت مفاصله) أخرجه أحمد بن حنبل وضعف بعضهم هذا الحديث. المسألة الخامسة : من نواقض الوضوء مس الفرج من نفسه أو غيره فذهب قوم إلى أنه يوجب الوضوء وهو قول عمر وابن عمر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق غير أن الشافعي قال : ينتقض الوضوء إذا لمس ببطن الكف والرجل والمرأة في ذلك سواء ويدل على ذلك ما روي عن بسرة بنت صفوان أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (من مس ذكره فلا يصلّ حتى يتوضأ) أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح ولأبي داود والنسائي نحوه وعن أم حبيبة قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (من مس فرجه فليتوضأ) أخرجه ابن ماجة وصححه أحمد وأبو زرعة وعن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (من أفضى بيده إلى ذكره وليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء) أخرجه أحمد بن حنبل وذهب قوم إلى أن مس الذكر لا يوجب الوضوء وهو قول علي وابن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة وبه قال الحسن وإليه ذهب الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي واحتجوا بما روي عن طلق بن علي قال قدمنا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فجاءه رجل كأنه بدوي فقال : (يا نبي اللّه ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما توضأ قال هل هو إلّا مضغة أو قال بضعة منه؟) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي نحوه بمعناه وأجاب من أوجب الوضوء على من مس الذكر عن حديث طلق بن علي بأن قدومه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان في أول الهجرة وهو يبني المسجد وأبو هريرة من آخرهم إسلاما. وقد روي انتقاض الوضوء بمس الذكر فصار حديث أبي هريرة ناسخا لحديث طلق بن علي وأيضا فإن حديث طلق يرويه عنه ابنه قيس بن طلق وهو ليس بالقوي عند أهل الحديث. وقوله تعالى : فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً اعلم أن التيمم من خصائص هذه الأمة خصها اللّه تعالى به ليسهل عليهم أسباب العبادة ويدل على ذلك ما روي عن حذيفة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء) أخرجه مسلم وكان سبب بدء التيمم ما روي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : (خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا : ألا ترى إلى ما صنعت برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وبالناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء أبو بكر ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال حبست رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء قالت عائشة فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء اللّه أن يقول وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلّا مكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على فخذي فنام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى أصبح على غير ماء فأنزل اللّه عز وجل آية التيمم فتيمموا فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر قالت عائشة فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته) أخرجاه في الصحيحين قولها بالبيداء البيداء : المفازة والقفر وكل صحراء فهي بيداء وجمعها بيد وذات الجيش اسم لموضع وهو على بريد من المدينة وقولها فبعثنا البعير أي أثرناه قوله تعالى : فَلَمْ تَجِدُوا ماءً هو معطوف على ما قبله والمعنى أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فطلبتم الماء لتطهروا به فلم تجدوه يعني فأعوزكم فلم تجدوه بثمن ولا بغير ثمن لأن المحدث مأمور بالتطهر بالماء فإذا أعوزه الماء عدل عنه إلى التيمم بعد طلب الماء. قال الشافعي : إذا دخل وقت الصلاة طلب الماء فإن لم يجده تيمم وصلى ثم إذا دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى. وقال أبو حنيفة : لا يجب عليه الطلب للصلاة الثانية حجة الشافعي قوله تعالى فلم تجدوا ماء فعدم الوجدان مشعر بسبق الطلب فلا بد في كل مرة من سبق الطلب وأجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه يحتاج إليه لعطشه أو عطش حيوان محترم فإنه يجوز له التيمم مع وجدان ذلك الماء وقوله تعالى : فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أصل التيمم في اللغة القصد يقال تيممت فلانا إذا قصدته وهو في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة عند عدم الماء لتأدية الصلاة واختلفوا في الصعيد الطيب فقال قتادة الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات. وقال ابن زيد الصعيد : المستوي من الأرض وكذلك قال الليث : الصعيد الأرض المستوية التي لا شيء فيها. وقال الفراء : الصعيد هو التراب وكذلك قال أبو عبيد في قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (إياكم والقعود بالصعدات) قال الصعدات الطرق مأخوذ من الصعيد وهو التراب وقيل الصعيد وجه الأرض البارز وهو اختيار الزجاج قال : الصعيد وجه الأرض ولا تبال أكان في الموضع تراب أو لا لأن الصعيد ليس هو التراب إنما هو وجه الأرض ونقل الربيع عن الشافعي في تفسير الصعيد قال : لا يقع اسم الصعيد إلّا على تراب ذي غبار فأما البطحاء الغليظة والرقيقة فلا يقع عليها اسم الصعيد فإن خالطه تراب أو مدر يكون له غبار كالذي خالطه هو الصعيد قال ولا يتيمم بنورة ولا كحل ولا زرنيخ كل هذا حجارة هذا كلام الشافعي في تفسير الصعيد وهو القدوة في اللغة وقوله في ذلك حجة وقد وافقه على ذلك الفراء وأبو عبيدة في أنه التراب وجميع الأقوال في الصعيد صحيحه في اللغة لكن المراد به هنا التراب وقد قال ابن عباس في قوله صعيدا هو التراب. واختلف أهل العلم فيما يجوز به التيمم فذهب الشافعي إلى أنه يختص بما وقع عليه اسم التراب مما له غبار يعلق بالوجه واليدين لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا) فخص التراب بالطهور ولأن اللّه تعالى وصف الصعيد بالطيب والطيب من الأرض هو الذي ينبت فيها بدليل قوله والبلد الطيب يخرج نباته فعلى هذا ما لا ينبت ليس بطيب ولنا أيضا قوله تعالى في سورة المائدة فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه وكلمة من للتبعيض هنا ولا يتأتى ذلك في الصخر الذي لا تراب عليه وأيضا فإنه يقال للغبار صعيد لأنه مأخوذ من الصعود وهو الارتفاع ولا يكون ذلك في الصخر وما أشبهه. وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه يجوز التيمم بكل ما هو من جنس الأرض كالرمل والجص والنورة والزرنيخ ونحو ذلك حتى لو ضرب يده على صخرة ملساء لا غبار عليها صح تيممه عندهم واحتج أبو حنيفة ومن وافقه بظاهر الآية قالوا لأن التيمم هو القصد والصعيد اسم لما تصاعد من الأرض فقوله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا أي اقصدوا أرضا فوجب أن يكون هذا القدر كافيا وأجيب عنه بما تقدم من الدليل في قوله منه وإن لفظة من تكون للتبعيض قالوا ولما روي عن جابر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (و جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) وأجيب عنه بأن هذا مجمل يفسره ما تقدم من حديث حذيفة في تخصيص التراب والمفسر يقضي على المجمل وجوز بعضهم التيمم بكل ما هو متصل بالأرض من شجر ونبات ومدر ونحو ذلك قالوا لأن اسم الصعيد يقع على ما تصاعد على الأرض وأجيب عنه بما تقدم من الأدلة. وقوله تعالى : فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ الوجه المسموح في التيمم هو المجدود في الوضوء واختلف العلماء فيما يجب مسحه من اليد فذهب أكثر أهل العلم منهم ابن عمر وابنه سالم والحسن وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي أنه يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين وصورة ذلك أن يضرب كفيه على التراب ويمسح بهما وجهه ولا يجب إيصال التراب إلى منابت الشعور ثم يضرب ضربة أخرى ويفرق أصابعه فيمسح يديه إلى المرفقين ويدل على ذلك ما روي عن جابر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : (التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين) رواه البيهقي ولم يضعفه وروي الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن الأعرج عن ابن الصمة قال مررت على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يبول فسلمت عليه فلم يرد عليّ حتى قام إلى الجدار فحته بعصا كانت معه ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ثم رد على هذا حديث منقطع لأن الأعرج وهو عبد الرحمن بن هرمز لم يسمع هذا من ابن الصمة وإنما سمعه من عمير مولى ابن عباس عن ابن الصمة وكذا هو مخرج في الصحيحين عن عمير مولى ابن عباس قال دخلنا على أبي جهيم بن الحارث فقال أبو جهيم أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حتى أقبل على الجدار فوضع يده على الحائط فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام. ولأبي داود عن نافع قال انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس فلما أن قضى حاجته فكان من حديثه يومئذ أن قال مر رجل في سكة من سكك المدينة فلقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد خرج من غائط أو بول فسلم عليه الرجل فلم يرد عليه حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بيده على حائط ومسح بها وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه ثم رد عليه السلام وقال : لم يمنعني إن أرد عليك أولا إلّا أني لم أكن على طهر وفي رواية فمسح ذراعيه إلى المرفقين فهذا أجود ما في هذا الباب. فإن البيهقي أشار إلى صحة إسناده وفيه دليل على الحكمين يعني مسح الوجه واليدين بضربتين وإيصال المسح إلى المرفقين وفيه دليل على أن التيمم لا يصح ما لم يعلق بالوجه واليدين غبار التراب لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حت الجدار بالعصى ولو كان مجرد الضرب كافيا لما كان حته. ذهب الزهري أنه يمسح اليد إلى المنكبين ويدل على ذلك ما روي عن عمار بن ياسر قال تمسحوا وهم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالصعيد لصلاة الفجر بأكفهم الصعيد ثم مسحوا بوجوههم مسحة واحدة ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم. كلها إلى المناكب والآباط ثم بطون أيديهم أخرجه أبو داود وذهب جماعة إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين وهو قول علي وابن عباس وبه قال الشعبي وعطاء ومكحول وإليه ذهب الأوزاعي ومالك وأحمد وداود الظاهري واحتجوا بما روي عن عمار بن ياسر قال : بعثني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فذكرت ذلك له فقال إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ، وباطنهما ووجهه وفي رواية أن تقول هكذا وضرب بيديه الأرض فنفض يديه فمسح وجهه وكفيه أخرجاه في الصحيحين وجملته أن اليد اسم لهذه الجارحة وحدها عند بعض أهل اللغة من أطراف الأنامل إلى الكوع وهذا هو المقطوع في حد السرقة. وقال أبو إسحاق الزّجاج : حدها من أطراف الأنامل إلى الكتف فمن ذهب إلى أن الممسوح في التيمم هو الكف. قال إن حد اليد هو المقطوع في حد السرقة ومن ذهب إلى أن الممسوح في التيمم إلى المناكب والآباط نظر إلى أن مسمى اليد يطلق على جميعها ومن ذهب إلى أن الممسوح في التيمم إلى المرفقين قال إن التيمم بدل عن الوضوء واليد المغسولة في الوضوء هي الممسوحة في التيمم فيحمل المطلق الذي في قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم على المقيد الذي في قوله تعالى في آية الوضوء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأجاب من ذهب إلى هذا عن حديث عمار بأن المراد منه بيان صورة الضرب وليس المراد منه جميع ما يحصل به التيمم. (فصل وأركان التيمم خمسة) الأول تراب طاهر خالص له غبار يعلق بالوجه واليدين ويجوز بالرمل إذا كان عليه غبار. الثاني قصد الصعيد فلو تعرض لمهب الريح لم يكفه ولو يممه غيره بإذنه مع عجزه جاز وإن كان قادرا فوجهان. الثالث نقل التراب إلى الوجه واليدين. الرابع نية استباحة الصلاة فلو نوى رفع الحدث لم يصح وأكمله أن ينوي استباحة الفرض والنفل. الخامس مسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين والترتيب ولا يصح التيمم لصلاة إلّا بعد دخول وقتها ولا يجوز الجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد وهو قول علي وابن عباس وابن عمر وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وذهب جماعة إلى أن التيمم كالوضوء فيجوز تقديمه إلى الوقت ويجوز أن يصلي به ما شاء من الفرائض ما لم يحدث وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي واتفقوا على أنه يجوز أن يصلي بتيمم واحد ما شاء من النوافل قبل الفرض وبعده إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى ، وأن يقرأ القرآن إن كان جنبا ويشترط طلب الماء في السفر بأن يطلبه في رحله وعند رفقائه وإن كان في صحراء ولا حائل دون نظره حواليه ، وإن كان دون نظره حائل قريب من تل أو جدار أو نحوه عدل عنه لأن اللّه تعالى قال فلم تجدوا ماء فتيمموا ولا يقال لم يجد إلّا لمن طلب ولا يشترط طلب عند أبي حنيفة فإن رأى الماء ولا يقدر عليه لمانع من عدو أو سبع يمنعه من الذهاب إليه أو كان الماء في بئر وليس معه آلة الاستقاء فهو كالعادم فيتيمم ويصلي ولا إعادة عليه واللّه أعلم. وقوله تعالى : إِنَّ اللّه كانَ عَفُوًّا يعني يتجاوز عن ذنوب عباده ويعفو ويصفح عنهم غَفُوراً ستورا على عباده يغفر الذنوب ويسترها وفيه تنبيه على أن اللّه تعالى رخص لعباده أمر العبادة ويسرها عليهم لأن من كانت عادته أن يغفر الذنوب ويعفو عنها كان أولى بأن يرخص للعاجزين أمر العبادة قوله عز وجل : ٤٤أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ نزلت في يهود المدينة وقال ابن عباس نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم اليهوديين كانا إذا تكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لويا ألسنتهما وعاباه فأنزل اللّه تعالى ألم تر يعني ألم ينته علمك يا محمد إلى هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يعني أعطوا حظا من علم التوراة وذلك أنهم عرفوا نبوة موسى من التوراة وأنكروا نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم منها فلذلك أتى بمن التي هي للتبعيض وقيل إنهم علموا التوراة ولم يؤتوا العمل بها يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ يؤثرون تكذيب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ليأخذوا بذلك الرشا وتحصل لهم الرياسة وإنما ذكر بلفظ الشراء لأنه استبدال شيء بشيء وقيل فيه إضمار يعني يستبدلون الضلالة بالهدى وَيُرِيدُونَ يعني اليهود أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ يعني عن السبيل والمعنى أنهم يتوصلون إلى إضلال المؤمنين والتلبيس عليهم لكي يجتنبوا الإسلام. ٤٥وَاللّه أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ يعني أنه سبحانه وتعالى أعلم بكنه ما في قلوب اليهود من العداوة والبغضاء لكم يا معشر المؤمنين فلا تنصحوهم فإنهم أعداؤكم وَكَفى بِاللّه وَلِيًّا يعني متوليا أمركم والقائم به ومن كان اللّه تعالى وليه لم يضره أحد وَكَفى بِاللّه نَصِيراً يعني ينصركم عليهم فثقوا بولايته ونصره. ٤٦وقوله تعالى : مِنَ الَّذِينَ هادُوا قيل هو بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب والتقدير ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا وقيل هو متعلق بما قبله والتقدير وكفى باللّه نصيرا من الذين هادوا وقيل هو ابتداء الكلام وفيه حذف تقديره من الذين هادوا قوم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ أي يزيلونه ويغيرونه ويبدلونه عَنْ مَواضِعِهِ يعني يغيرون صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من التوراة وقال ابن عباس : كانت اليهود يأتون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيسألونه عن الأمر فيخبرهم به فيرى أنهم يأخذون بقوله فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه ، وقيل المراد بالتحريف إلقاء الشبهة الباطلة والتأويلات الفاسدة وهو تحريف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى الباطل وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا يعني سمعنا قولك وعصينا أمرك وذلك أنهم كانوا إذا أمرهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأمر قالوا في الظاهر سمعنا وقالوا في الباطن : عصينا وقيل إنهم كانوا يظهرون ذلك القول عنادا واستخفافا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ هذه كلمة تحتمل المدح والذم فأما معناها في المدح اسمع غير مسمع مكروها. وأما معناها في الذم فإنهم كانوا يقولون اسمع منا ولا نسمع منك. وقيل إنهم كانوا يقولون للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم اسمع ثم يقولون في أنفسهم لا سمعت وقيل معناه غير مقبول منك ما تدعو إليه وقيل معناه غير مسمع جوابا يوافقك ولا كلاما ترتضيه وَراعِنا أي ويقولون راعنا يريدون بذلك نسبته إلى الرعونة وقيل معناه أرعنا سمعك أي اصرف سمعك إلى كلامنا وأنصت إلى قولنا ومثل هذا لا يخاطب به الأنبياء بل إنما يخاطبون بالإجلال والتعظيم والتبجيل والتفخيم لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ أصله لويا لأنه من لويت الشيء إذا فتلته والمعنى أنهم يفتلون الحق فيجعلونه باطلا لأن راعنا من المراعاة فيجعلونه من الرعونة. وكانوا يقولون لأصحابهم إنما نشتمه ولا يعرف ولو كان نبيا لعرف ذلك فأظهره اللّه تعالى على خبث ضمائرهم وما في قلوبهم من العداوة والبغضاء ثم قال تعالى : وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا يعني ولو أنهم قالوا بدل سمعنا وعصينا سمعنا وأطعنا وَاسْمَعْ يعني بدل قولهم لا سمعت وَانْظُرْنا يعني بدل قولهم راعنا أي انظر إلينا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ يعني عبد اللّه وَأَقْوَمَ يعني أعدل وأصوب وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللّه يعني طردهم وأبعدهم من رحمته بِكُفْرِهِمْ يعني بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم : فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا يعني فلا يؤمن من اليهود إلّا نفر قليل مثل عبد اللّه بن سلام وأصحابه وقيل أراد بذلك القليل هو اعترافهم بأن اللّه خلقهم ورزقهم. ٤٧قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ خطاب لليهود آمِنُوا بِما نَزَّلْنا يعني القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ يعني التوراة وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كلم أحبار اليهود عبد اللّه بن صوريا وكعب بن الأشرف فقال يا معشر (اليهود اتقوا اللّه وأسلموا فو اللّه إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق) قالوا ما نعرف ذلك وأصروا على الكفر فأنزل اللّه هذه الآية وأمرهم بالإيمان وقرن بهذا الأمر الوعيد الشديد فقال تعالى : مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أصل الطمس إزالة الأثر بالمحو وذكروا في المراد بالطمس هاهنا وجهين : أحدهما أن يحمل على حقيقته والثاني أن يحمل على مجازه أما من حمله على الحقيقة فقال هو محو تخطيط صور الوجوه قال ابن عباس يجعلها كخف البعير وقيل نعيمها فيكون المراد بالوجه العين فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها يعني نجعلها على هيئة أدبارها وهي الاقفاء وقيل نديرها فنجعل الوجوه إلى خلف والأقفاء إلى قدام وإنما جعل اللّه هذا عقوبة لهم لما فيه من تشويه الخلقة والمثلة والفضيحة ، وعند هذا يحصل لهم الغم وتكثر الحسرات فعلى هذا يكون هذا الوعيد مختصا بيوم القيامة. وأما من حمل الطمس على المجاز فقال المراد به نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها يعني على ضلالتها وقيل المراد بالطمس طمس القلب والبصيرة فنردها على أدبارها يعني بتغيير أحوالهم فنلبسهم الصغار والذلة بعد العز وقيل المراد بالطمس محو آثارهم من المدينة وردهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام من حيث جاءوا وهو إجلاء بني النضير فإن قلت قد أوعدهم وهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ولم يؤمنوا فلم يفعل بهم ذلك قلت هذا الإشكال إنما يرد على من فسر الطمس بتغيير الوجوه ومحو تخطيطها وحمله على الحقيقة والجواب عنه إن هذا مشروط بعدم الإيمان وقد آمن منهم ناس فرفع عن الباقين. وروي أن عبد اللّه بن سلام لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قبل أن يأتي أهله فأسلم وقال : يا رسول اللّه ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي إلى قفاي وكذلك روي عن كعب الأحبار أنه لما سمع هذه الآية في خلافة عمر بن الخطاب أسلم. وقال يا رب أسلمت مخافة أن يصيبني وعيد هذه الآية فكان هذا الوعيد مشروطا بأن لا يؤمن أحد منهم وهذا الشرط لم يوجد لأنه آمن منهم جمع كثير في زمن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كعبد اللّه بن سلام وأصحابه ففات الشرط لفوات المشروط وقيل إن الطمس باق في اليهود فيكون فيهم طمس ومسخ قبل يوم القيامة وقيل إنه تعالى جعل الوعيد بأحد شيئين إما بالطمس أو باللعنة وهو قوله تعالى : أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ أي نجعلهم قردة كما فعلنا بأوائلهم وفي المراد من لعنهم الطرد والإبعاد من الرحمة والكناية في نلعنهم تعود إلى المخاطبين في قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وهذا على طريقة الالتفات كما في قوله تعالى : حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وجرين بهم بريح طيبة وقد يحتمل أن يكون معناه من قبل أن نطمس وجوها فنردها ونلعن أصحاب الوجوه فنجعل الكناية في قوله أو نلعنهم عن ذكر أصحاب الوجوه إذا كان في الكلام دلالة عليهم. وقوله تعالى : وَكانَ أَمْرُ اللّه مَفْعُولًا يعني لا بد وأن يقع بهم ذلك إن لم يؤمنوا فلا راد لحكمه ولا ناقض لأمره على معنى أنه لا يمتنع عليه شيء يريد أن يفعله وقيل معناه وكان مأمور اللّه مفعولا والأمر هنا في موضع المأمور سمي أمرا لأنه عن أمره كان. قوله عز وجل : ٤٨إِنَّ اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ قال ابن جرير الطبري معناه يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا فإن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. فعلى هذا يكون في الآية دلالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع وقيل إن الآية نزلت في وحشي وأصحابه ، وذلك لما قتل حمزة رضي اللّه عنه ورجع إلى مكة ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إنا ندمنا على ما صنعنا وأنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلّا أنا سمعناك بمكة تقول والذين لا يدعون مع اللّه إلها آخر إلى آخر الآيات وقد دعونا مع اللّه إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم اللّه وزنينا فلو لا هذه الآيات لاتبعناك فنزلت إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً الآيتين فبعث بهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إليهم فلما قرءوهما كتبوا إليه إن هذا شرط شديد ونخاف أن لا نعمل عملا صالحا فنزلت إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فبعث إليهم فبعثوا إنا نخاف أن لا نكون من أهل المشيئة فنزلت قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية فبعث بها إليهم فدخلوا في الإسلام ورجعوا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقبل منهم ثم قال لوحشي أخبرني كيف قتلت حمزة؟ فلما أخبره قال ويحك غيب وجهك عني فلحق بالشام فكان به إلى أن مات وقيل لما نزلت قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية قام رجل فقال : يا رسول اللّه والشرك؟ فسكت ثم قام إليه مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية ومعنى الآية أن اللّه لا يغفر لمشرك مات على شركه ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء يعني ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء من أصحاب الذنوب والآثام. ففي الآية دليل على أن صاحب الكبيرة إذا مات من غير توبة فإنه في خطر المشيئة إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة بمنه وكرمه وإن شاء عذبه بالنار ثم أدخله الجنة برحمته وإحسانه لأن اللّه تعالى وعد المغفرة لما دون الشرك فإن مات على الشرك فهو مخلد في النار لقوله إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وفي الآية رد على المعتزلة والقدرية حيث قالوا : لا يجوز في الحكمة أن يغفر لصاحب كبيرة وعند أهل السنة أن اللّه تعالى يفعل ما يشاء لا مكره له ولا حجر عليه ويدل على ذلك أيضا ما روي عن ابن عمر قال كنا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا مات الرجل على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية : إِنَّ اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فأمسكنا عن الشهادة. وقال ابن عباس لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين الرجل يعمل من الصالحات لم يدع من الخير شيئا إلّا عمله غير أنه مشرك قال عمر هو في النار فقال ابن عباس الرجل لم يدع شيئا من الشر إلّا عمله غير أنه لم يشرك باللّه شيئا فقال عمر : اللّه أعلم قال ابن عباس : إني لأرجو له كما أنه لا ينفع مع الشرك عمل كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب فسكت عمر. عن علي بن أبي طالب قال : ما في القرآن أحب إلي من هذه الآية إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب (م) عن جابر قال جاء أعرابي إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللّه ما الموجبتان؟ قال من مات لا يشرك باللّه شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك به دخل النار. وقوله تعالى : وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّه يعني يجعل معه شريكا غيره فَقَدِ افْتَرى أي اختلق إِثْماً عَظِيماً يعني ذنبا عظيما غير مغفور إن مات عليه. قوله عز وجل : ٤٩أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ نزلت في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : يا محمد هل على هؤلاء من ذنب؟ قال : لا قالوا : ما نحن إلّا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل وما عملناه بالليل يكفر عنا بالنهار فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وقيل نزلت في اليهود والنصارى حين قالوا نحن أبناء اللّه وأحباؤه وقولهم لن يدخل الجنة إلّا من كان هودا أو نصارى والتزكية هنا عبارة عن مدح الإنسان نفسه الصلاح والدين منه تزكية الشاهد حتى يصير عدلا قال اللّه تعالى : فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى وذلك لأن التزكية متعلقة بالتقوى وهي صفة في الباطن فلا يعلم حقيقتها إلّا اللّه تعالى فلا تصلح التزكية إلّا من عند اللّه تعالى فلهذا قال اللّه تعالى : بَلِ اللّه يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ ويدخل في هذا المعنى كل من ذكر نفسه بصلاح أو وصفها بزكاء العمل أو بزيادة الطاعة والتقوى أو بزيادة الزلفى عند اللّه تعالى فهذه الأشياء لا يعلمها إلّا اللّه تعالى فلهذا قال : فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ومعنى يزكون أنفسهم يزعمون أنهم أزكياء لأنهم برءوا أنفسهم من الذنوب قال تعالى ردا عليهم : بَلِ اللّه يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ فيجعله زاكيا وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا يعني أن الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تلك التزكية من غير ظلم وقيل معناه إن الذين زكاهم اللّه لا ينقصون من ثواب طاعتهم شيئا والفتيل المفتول وسمي ما يكون في شق النواة فتيلا لكونه على هيئته وقيل الفتيل هو ما تفتله بين أصابعك من وسخ وغيره ويضرب به المثل في الشيء الحقير الذي لا قيمة له ٥٠انْظُرْ الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم انظر يا محمد إلى هؤلاء اليهود كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ يعني قولهم أنهم لا ذنوب لهم وتزكيتهم أنفسهم وَكَفى بِهِ أي بذلك الكذب إِثْماً مُبِيناً قوله عز وجل : ٥١أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ نزلت في كعب بن الأشرف وسبعين راكبا من اليهود قدموا مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنزل كعب بن الأشرف على أبي سفيان فأحسن مثواه ونزل باقي اليهود على قريش في دورهم أهل مكة أنتم فقال لهم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا إلى هذين الصنمين ففعلوا ذلك فذلك قوله تعالى : يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ثم قال كعب بن الأشرف لأهل مكة ليجيء منكم ثلاثون رجلا ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب هذا البيت لنجهدن على قتال محمد ففعلوا ثم قال أبو سفيان لكعب بن الأشرف إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى سبيلا نحن أم محمد؟ قال كعب اعرض علي دينكم فقال أبو سفيان نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم وديننا القديم ودين محمد الحديث فقال كعب أنتم واللّه أهدى سبيلا مما عليه محمد فأنزل اللّه تعالى ألم تر يعني يا محمد إلى الذين أوتوا تصيبا من الكتاب يعني كعب بن الأشرف وأصحابه اليهود يؤمنون بالجبت والطاغوت يعني سجودهم للصنمين واختلف العلماء فيهما الجبت والطاغوت كل معبود دون اللّه تعالى ، وقيل هما صنمان كانا لقريش وهما اللذان سجد اليهود لهما لمرضاة قريش وقيل الجبت اسم للأصنام والطاغوت شياطين الأصنام ولكل صنم شيطان يعبر فيها ويكلم الناس فيغترون بذلك وقيل الجبت الكاهن والطاغوت الساحر عن قطن بن قبيصة عن أبيه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (العيافة والطيرة والطرق من الجبت) أخرجه أبو داود وقال الطرق الزجر والعيافة الخط وقيل العيافة هي زجر الطير وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا خرج لأمر زجر طيرا فإذا أخذ ذات اليمين مضى في حاجته وإذا أخذ ذات الشمال رجع فنهوا عن ذلك والطرق هو ضرب الحجارة والحصا على طريق الكهانة فنهوا عنه والطيرة هو أن يتطير بالشيء فيرى الشؤم فيه والشر منه وقيل هو من التطير وهو زجر الطائر والخط هو ضرب الرمل لاستخراج الضمير وقيل الجبت كل ما حرم اللّه تعالى والطاغوت كل ما يطغى الإنسان وقيل الجبت هو حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف اليهوديان وكانا طاغية اليهود وَيَقُولُونَ يعني كعب بن الأشرف وأصحابه لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني لكفار قريش هؤُلاءِ يعني أنتم يا هؤلاء أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا يعني طريقا. ٥٢أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّه يعني كعب بن الأشرف وأصحابه وَمَنْ يَلْعَنِ اللّه يعني يطرده من رحمته فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً يعني ينصره. ٥٣قوله تعالى : أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ هذا استفهام انكار يعني ليس لهم من الملك شيء البتة وذلك أن اليهود كانوا يقولون نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب فأكذبهم اللّه تعالى وأبطل دعواهم فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً هذا جواب وجزاء لمضمر تقديره ولئن كان لهم نصيب وحظ من الملك فلا يؤتون الناس منه نقيرا وصفهم بالبخل في هذه الآية ووصفهم بالجهل في الآية المتقدمة ووصفهم بالحسد في الآية الآتية. وهذه الخصال كلها مذمومة فكيف يدعون الملك وهي حاصلة فيهم والنقير التي تكون على ظهر النواة ومنها تنبت النخلة ويضرب به المثل في الشيء الحقير التافه الذي لا قيمة له. ٥٤قوله عز وجل : أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ أصل الحسد تمني زوال النعمة عمن هو مستحق لها وربما يكون ذلك مع سعي في زوالها وصف اللّه اليهود بشر خصلة وهي الحسد والمراد بالناس محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وحده وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الجمع وهو واحد لأنه صلّى اللّه عليه وسلّم اجتمع فيه من خصال الخير والبركة ما لا يجتمع مثله في جماعة ومن هذا القبيل يقال فلان أمة وحده يعني أن يقوم مقام أمة ، وقيل المراد بالناس النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه لأن لفظ الناس جمع وحمله على الجمع أولى والمراد بالفضل النبوة لأنها أعظم المناصب وأشرف المراتب ، وقيل حسدوه على ما أحلّ اللّه له من النساء وكان له يومئذ تسع نسوة. فقالت اليهود لو كان نبيا لشغله أمر النبوة عن الاهتمام بأمر النساء فأكذبهم اللّه تعالى ورد عليهم بقوله فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ يعني أنه قد حصل في أولاد إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم جماعة كثيرون جمعوا بين الملك والنبوة مثل داود وسليمان عليهما السلام فلم يشغلهم الملك عن أمر النبوة والمعنى كيف يحسدون محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم على ما آتاه اللّه من فضله وقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وأنتم لا تحسدونهم. والمراد بالكتاب التوراة وبالحكمة النبوة وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً يعني فلم يشغلهم عن النبوة فمن فسر الفضل بكثرة النساء فسر الملك العظيم في حق داود وسليمان بكثرة النساء فإنه كان لداود مائة امرأة ولسليمان ألف امرأة ثلاثمائة حرة وسبعمائة سرية ولم يكن لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يومئذ إلّا تسع نسوة ولما لم يكن ذلك مستبعدا في حقهم ولا نقصا في نبوتهم فلا يكون مستبعدا في حق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ولا نقصا في نبوته ٥٥فَمِنْهُمْ يعني من اليهود مَنْ آمَنَ بِهِ أي بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وما أنزل اللّه إليه كعبد اللّه بن سلام وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أي أعرض عنه ولم يؤمن به وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً يعني وكفى في عذاب من لم يؤمن بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم سعيرا. ٥٦قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً هذا وعيد من اللّه عزّ وجلّ للذين أقاموا على كفرهم وتكذيبهم بما أنزل اللّه عز وجل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من اليهود وغيرهم من سائر الكفار والمعنى إن الذين جحدوا ما أنزلت على رسولي محمد من آياتي الدالة على توحيدي وصدق رسولي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم سوف نصليهم نارا أي ندخلهم نارا نشويهم فيها : كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ يعني احترقت بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها يعني غير الجلود المحترقة قال ابن عباس : يبدلون جلودا بيضاء كأمثال القراطيس. وروي أن هذه الآية قرئت عند عمر بن الخطاب فقال عمر للقارئ : أعدها فأعادها وكان عنده معاذ بن جبل فقال معاذ : عندي تفسيرها تبدل في كل ساعة مائة مرة فقال عمر : هكذا سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذكره البغوي بغير سند وقال الحسن تأكلهم النار في كل يوم سبعين ألف مرة (ق) عن أبي هريرة يرفعه ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع (م) عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ضرس الكافر أو قال ناب الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام). فإن قلت كيف تعذب جلود لم تكن في الدنيا ولم تعص؟ قلت يعاد الجلد الأول في كل مرة وإنما قال جلودا غيرها لتبديل صفتها كما تقول صغت من خاتمي خاتما غيره ، فالثاني هو الأول غير أن الصناعة بدلت الصفة وقيل إن العذاب للجملة الحساسة وهي النفس التي عصت فإن كان كذلك فغير مستحيل إن اللّه يخلق للكافر في كل ساعة من الجلود ما لا يحصى لتحترق ويصل ألمها وقيل المراد بالجلود السرابيل وهو قوله : سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ والمعنى كلما نضجت سرابيلهم واحترقت بدلناهم سرابيل من قطران غيرها لأن الجلود لو احترقت لفنيت وفي فنائها راحتها وقد أخبر اللّه عنهم أنهم لا يموتون فيها ولا يخفف عنهم من عذابها ولأن الجلد أحد أجزاء الجسم فثبت أن التبديل إنما هو للسرابيل وقيل يبدل الجلد من نفس الكافر فيخرج من لحمه جلدا وقيل إن اللّه تعالى يلبس أهل النار جلودا لا تألم لتكون زيادة في عذابهم كلما احترق جلد بدلهم جلدا غيره. وقوله تعالى : لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي إنما فعلنا بهم ذلك ليجدوا ألم العذاب وكربه وشدته وإنما أتى بلفظ الذوق مع ما ينالهم من عظم العذاب الذي نالوه إخبارا بأن إحساسهم به في كل حال فإحساس الذائق في تجديد وجدان الذوق من غير نقصان في الإحساس إِنَّ اللّه كانَ عَزِيزاً يعني في انتقامه ممن ينتقم من خلقه لا يغلبه شيء ولا يمتنع عليه أحد حَكِيماً يعني في تدبيره وقضائه وأنه لا يفعل إلّا ما هو الصواب. ٥٧وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ يعني سوف ندخلهم يوم القيامة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها يعني باقين فيها أَبَداً يعني ذلك الخلود بغير نهاية ولا انقطاع لَهُمْ فِيها يعني في الجنات أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ يعني مطهرات من الحيض والنفاس وسائر أقذار الدنيا وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا كنينا ذلك الظل لا تنسخه الشمس ولا يؤذيهم فيه حر ولا برد وذلك الظل هو ظل الجنة. فإن قلت إذا لم يكن في الجنة شمس يؤذي حرها فما فائدة وصفها بالظل الظليل؟ قلت إنما خاطبهم بما يعقلون ويعرفون وذلك لأن بلاد العرب في غاية الحرارة فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة واللذة فهو كقوله ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا. ٥٨قوله عز وجل : إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها قال البغوي نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار وكان سادن الكعبة فلما دخل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح فطلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المفتاح فقيل له : إنه مع عثمان فطلب منه رسول اللّه المفتاح فأبى وقال لو علمت إنه رسول اللّه لم أمنعه المفتاح فلوى علي بن أبي طالب يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب ودخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم البيت وصلى فيه ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح وأن يجمع له بين السقاية والسدانة فأنزل اللّه هذه الآية فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عليا أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه ففعل ذلك فقال له عثمان : أكرهت ثم جئت ترفق فقال علي لقد أنزل اللّه عز وجل في شأنك قرآنا وقرأ عليه الآية فقال عثمان : أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأن محمدا رسول اللّه فأسلم فكان المفتاح معه إلى أن مات فدفعه إلى أخيه شيبة فالمفتاح والسدانة في أولادهم إلى يوم القيامة قلت وفيما ذكره البغوي رحمه اللّه من إسلام عثمان بن طلحة يوم الفتح ومنعه المفتاح وقوله لو أعلم أنه رسول اللّه لم أمنعه المفتاح نظر والصحيح ما حكاه أبو عمر بن عبد البر وابن مندة وابن الأثير أن عثمان بن طلحة هاجر إلى المدينة في هدنة الحديبية سنة ثمان مع خالد بن الوليد ولقيهما عمرو بن العاص مقبلا من عند النجاشي فرافقهما وهاجر معهما فلما رآهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : قال رمتكم مكة بأفلاذ كبدها يعني أنهم وجوه أهل مكة فأسلموا وسلم عثمان بن طلحة المفتاح للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يوم الفتح فرده النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إليه وقال خذوها يا بني طلحة خالدة مخلدة لا ينزعها منكم إلّا ظالم ولم يذكروا سؤال العباس السدانة واللّه أعلم. وثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أقبل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عام الفتح وهو مردف أسامة على القصواء ومعه بلال وعثمان حتى أناخ عند البيت ثم قال لعثمان ائتنا بالمفتاح فجاءه بالمفتاح ففتح الباب. وذكر الحديث وذكر ابن الجوزي في تفسير هذه الآية من رواية أبي صالح عن ابن عباس قال : إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما فتح مكة طلب مفتاح البيت من عثمان بن طلحة فذهب ليعطيه إياه فقال العباس بأبي أنت وأمي اجمعه إلي مع السقاية فكف عثمان يده مخافة أن يعطيه العباس فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : هات المفتاح فأعاد العباس قوله وكف عثمان يده فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هات المفتاح أن كنت تؤمن باللّه واليوم الآخر فقال هاكه يا رسول اللّه بأمانة اللّه فأخذ المفتاح الباب ونزل جبريل بهذه الآية فدعا عثمان ودفعه إليه ففي هذه الرواية أيضا ما يدل على تقدم إسلام عثمان بن طلحة على فتح مكة. لأن قوله صلّى اللّه عليه وسلّم لعثمان إن كنت تؤمن باللّه واليوم الآخر يدل على ذلك فعلى هذا القول يكون الخطاب في قوله إن اللّه يأمركم للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو أن اللّه أمره أن يرد مفتاح البيت إلى عثمان بن طلحة. وقيل الخطاب في قوله إن اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها لولاة أمور المسلمين من الأمراء والحكام وغيرهم ويدل على ذلك سياق الآية وهو قوله وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ومعنى الآية إن اللّه يأمركم يا ولاة الأمور أن تؤدوا ما ائتمنتم عليه من أمور رعيتكم وأن توفوهم حقوقهم وأن تعدلوا بينهم. وقيل إن الآية عامة في جميع الأمانات ولا يمتنع من خصوص السبت عموم الحكم فيدخل في ذلك جميع الأمانات التي حملها الإنسان ويقسم ذلك إلى ثلاثة أقسام : القسم الأول رعاية الأمانة في عبادة اللّه عز وجل وهو فعل المأمورات وترك المنهيات قال ابن مسعود الأمانة لازمة في كل شيء حتى في الوضوء والغسل من الجنابة والصلاة والزكاة والصوم وسائر أنواع العبادات. القسم الثاني هو رعاية الأمانة مع نفسه وهو ما أنعم اللّه به عليه من سائر أعضائه فأمانة اللسان حفظه من الكذب والغيبة والنميمة ونحو ذلك وأمانة العين غضها عن المحارم وأمانة السمع أن لا يشغله بسماع شيء من اللّهو والفحش والأكاذيب ونحوه ثم سائر الأعضاء على نحو ذلك. القسم الثالث هو رعاية أمانة العبد مع سائر عباد اللّه تعالى فيجب عليه رد الودائع والعواري إلى أربابها الذين ائتمنوه عليها ولا يخونهم فيها عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن غريب ويدخل في ذلك وفاء الكيل والميزان فلا يطفف فيهما ويدخل في ذلك أيضا عدل الأمراء والملوك في الرعية ونصح العلماء للعامة فكل هذه الأشياء من الأمانة التي أمر اللّه عز وجل بأدائها إلى أهلها وروى البغوي بسنده عن أنس قال قلما خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلا قال : (لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له). وقوله تعالى : وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ يعني وإن اللّه يأمركم أن تحكموا بين الناس بالعدل فيجب على الحاكم أن يأخذ الحق ممن وجب عليه لمن وجب له وأصل العدل هو المساواة في الأشياء فكل ما خرج عن الظلم والاعتداء سمي عدلا قال بعض العلماء ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء في الدخول عليه والجلوس بين يديه والإقبال عليهما والاستماع منهما والحكم بالحق فيما لهما وعليهما وحاصل الأمر فيه أن يكون مقصود الحاكم بحكمه إيصال الحق إلى مستحقه وأن لا يمتزج ذلك بغرض آخر (م) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إن المقسطين عند اللّه على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (أحب الناس إلى اللّه يوم القيامة وأدناهم عنده مجلسا إمام عادل وأبغض الناس إلى اللّه وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر) أخرجه الترمذي. وقوله تعالى : إِنَّ اللّه نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أي نعم الشيء الذي يعظكم به وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل إِنَّ اللّه كانَ سَمِيعاً بَصِيراً يعني أنه تعالى سميع لما تقولون وبصير بما تفعلون فإذا حكمتم فهو يسمع حكمكم وإذا أديتم الأمانة فهو يبصر فعلكم. قوله عز وجل : ٥٩يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (ق) عن ابن عباس قال لما نزل قوله : (أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول اللّه وأولي الأمر منكم) الآية قال نزلت في عبد اللّه بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي إذ بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سرية وقال السدي نزلت في خالد بن الوليد وذلك أنه بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على سرية وفيها عمار بن ياسر فلما قربوا من القوم هربوا منهم وجاء رجل إلى عمار قد أسلم فأمنه عمار فرجع الرجل فجاء خالد فأخذ مال الرجل فقال عمار إني قد أمنته وقد أسلم فقال خالد أتجير علي وأنا الأمير فتنازعا وقدما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أمير فأنزل اللّه تعالى أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وأصل الطاعة الانقياد وهو امتثال الأمر فطاعة اللّه عز وجل امتثال أمره فيما أمر والانقياد لذلك الأمر وطاعة اللّه واجبة على كافة الخلق. وكذا طاعة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم واجبة أيضا لقوله تعالى وأطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول فأوجب طاعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على الخلق واختلف العلماء في أولي الأمر الذين أوجب طاعتهم بقوله وأولي الأمر منكم. يعني وأطيعوا أولي الأمر منكم قال ابن عباس وجابرهم الفقهاء والعلماء الذين يعلمون معالم الناس دينهم وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد وقال أبو هريرة الأمراء والولاة. وهي رواية عن ابن عباس أيضا قال علي بن أبي طالب حق على الإمام أن يحكم بما أنزل اللّه ويؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا (ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من أطاعني فقد أطاع اللّه ومن عصاني فقد عصى اللّه ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني) (ق) عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلّا إن يؤمر بمعصية اللّه فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) (خ) عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب اللّه) وقال ميمون بن مهران هم أمراء السرايا والبعوث وهي رواية عن ابن العباس أيضا ووجه هذا القول أن الآية نازلة فيهم. وقال عكرمة : أراد بأولي الأمر. أبا بكر وعمر لما روي عن حذيفة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) أخرجه الترمذي وقيل هم جميع الصحابة لما روي عن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) أخرجه رزين في كتابه وروى البغوي بسنده عن الحسن قال إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام لا يصلح الطعام إلّا بالملح) قال الحسن قد ذهب ملحنا فكيف نصلح قال الطبري وأولى الأقوال بالصواب قول من قال هم الأمراء والولاة لصحة الأخبار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان للّه عز وجل طاعة وللمسلمين مصلحة وقال الزّجاج : وجملة أولي الأمر من يقوم بشأن المسلمين في أمر دينهم وجميع ما أدى إليه صلاحهم قال العلماء طاعة الإمام واجبة على الرعية ما دام على الطاعة فإذا زال عن الكتاب والسنة فلا طاعة له وإنما تجب طاعته فيما وافق الحق. وقوله تعالى : فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ يعني اختلفتم في شيء من أمر دينكم والتنازع اختلاف الآراء وأصله من انتزاع الحجة وهو أن كل واحد من المتنازعين ينزع الحجة لنفسه فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ أي ردوا ذلك الأمر الذي تنازعتم فيه إلى كتاب اللّه عز وجل وإلى رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ما دام حيا وبعد وفاته فردوه إلى سنته والرد إلى كتاب اللّه وسنة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم واجب إن وجد ذلك الحكم في كتاب اللّه أخذ به فإن لم يوجد في كتاب اللّه ففي سنة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم فإن لم يوجد في السنة فسبيله الاجتهاد وقيل الرد إلى اللّه ورسوله أن يقول لما لا يعلم اللّه ورسوله أعلم إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني افعلوا ذلك الذي أمرتكم به إن كنتم تؤمنون باللّه وإن طاعته واجبة عليكم وتؤمنون بالميعاد الذي فيه جزاء الأعمال قال العلماء في الآية دليل على أن من لا يعتقد وجوب طاعة اللّه وطاعة الرسول ومتابعة السنة والحكم بالأحاديث الواردة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لا يكون مؤمنا باللّه وباليوم الآخر ذلِكَ خَيْرٌ يعني رد الحكم إلى اللّه ورسوله خير وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا يعني وأحمد عاقبة وقيل معناه ذلك أي ردكم ما اختلفتم فيه إلى اللّه ورسوله أحسن تأويلا منكم له وأعظم أجرا. قوله عز وجل : ٦٠أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ قال ابن عباس : نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر كان بينه وبين يهودي خصومة فقال اليهودي ننطلق إلى محمد وقال المنافق بل ننطلق إلى كعب بن الأشرف وهو الذي سماه اللّه الطاغوت فأبى اليهودي أن يخاصمه إلّا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لليهودي. فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال انطلق بنا إلى عمر فأتيا عمر فقال اليهودي اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه مخاصمي إليك فقال عمر للمنافق أكذلك قال؟ قال نعم فقال لهما عمر : رويدا حتى أخرج إليكما فدخل عمر البيت وأخذ السيف واشتمل عليه ثم خرج فضرب به المنافق حتى برد وقال : هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء اللّه وقضاء رسوله فنزلت هذه الآية وقال جبريل إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق. وقال السدي كان ناس من اليهود قد أسلموا ونافق بعضهم وكانت قريظة والنضير في الجاهلية وكانت قريظة حلفاء الخزرج والنضير حلفاء الأوس وكان إذا قتل رجل من بني قريظة رجلا من بني النضير قتل به أو أخذت ديته مائة وسق من تمر ، وإذا قتل رجل من بني النضير رجلا من قريظة لم يقتل به وأعطى ديته ستين وسقا فلما جاء الإسلام وهاجر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فاختصموا في ذلك فقال بنو النضير كنا وأنتم قد اصطلحنا على أن نقتل منكم ولا تقتلوا منا وديتنا مائة وسق وديتكم ستون وسقا فنحن نعطيكم ذلك فقالت الخزرج هذا شيء كنتم فعلتموه في الجاهلية لكثرتكم وقلتنا فقهرتمونا على ذلك ، فاليوم نحن إخوة في الدين فلا فضل لكم علينا فقال المنافقون منهم ننطلق إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي وقال المسلمون من الفريقين بل ننطلق إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأبى المنافقون وانطلقوا إلى أبي بردة الكاهن ليحكم بينهم فقال أطعموا اللقمة يعني الخطر فقالوا لك عشرة أوسق فقال لا بل مائة وسق ديتي فأبوا أن يعطوه إلّا عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم فأنزل اللّه عز وجل آيتي القصاص وأنزل هذه الآية : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ الزعم والزعم بضم الزاي وفتحها لغتان وأكثر ما يستعمل الزعم بمعنى القول الذي لا يتحقق. وقيل هو حكاية قول يكون مظنة للكذب ولذلك قيل زعم مطية الكذب والمراد به في هذه الآية الكذب لأن الآية نازلة في المنافقين وظاهر الآية يدل على أنها نازلة في الذين نافقوا من مؤمني أهل الكتاب ويدل عليه قوله آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يرون أن يتحاكموا إلى الطاغوت يعني كعب بن الأشرف في قول ابن عباس سماه اللّه طاغوتا لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. وقيل هو أبو بردة الكاهن في قول السدي وقد أمروا أن يكفروا به يعني بالطاغوت لأن الكفر بالطاغوت إيمان باللّه عز وجل : وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ يعني عن طريق الهدى والحق ضَلالًا بَعِيداً. ٦١وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني للمنافقين تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللّه وَإِلَى الرَّسُولِ يعني هلموا إلى حكم اللّه الذي أنزله في كتابه وإلى الرسول ليحكم بينكم به رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً يعني يعرضون عنك وعن حكمك إعراضا وأي إعراض وإنما أعرض المنافقون عن حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأنهم علموا أنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يحكم بينهم بالحق الصريح ولا يقبل الرشا. ٦٢قوله عز وجل : فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ يعني فكيف حال هؤلاء المنافقين وكيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة يعجزون عنها بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني تصيبهم عقوبة بسبب ما قدمت أيديهم وهو التحاكم إلى غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهذا وعيد لهم على سوء صنيعهم ورضاهم بحكم الطاغوت دون حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقيل المصيبة هي قتل عمر لذلك المنافق وقيل هي كل مصيبة تصيب في الدنيا والآخرة ثُمَّ جاؤُكَ يعني المنافقين حين تصيبهم المصائب يعتذرون إليك يَحْلِفُونَ بِاللّه إِنْ أَرَدْنا أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إِلَّا إِحْساناً يعني في التحاكم إلى غيرك لا إساءة وَتَوْفِيقاً يعني بين الخصمين لا مخالفة لك في حكمك وقيل جاء أولياء المنافق الذي قتله عمر يطلبون ديته وقالوا ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلّا أن يحسن إلى صاحبنا في حكمه ويوفق بينه وبين خصمه ، وما خطر ببالنا أنه يحكم بما حكم به من قتل صاحبنا في حكمه ويوفق بينه وبين خصمه وما خطر ببالنا أنه يحكم بما حكم به من قتل صاحبنا فأهدر اللّه ذلك المنافق. ٦٣أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّه ما فِي قُلُوبِهِمْ يعني من النفاق فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يعني عن عقوبتهم وقيل عن قبول عذرهم وَعِظْهُمْ يعني باللسان والمراد زجرهم بالوعظ عن النفاق والكفر والكذب وتخويفهم بعذاب الآخرة وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً يعني بليغا يؤثر في قلوبهم موقعه وهو التخويف باللّه عز وجل وقيل هو أن يوعدهم بالقتل إن لم يتوبوا من النفاق. وقيل هو أن يقول إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قتلتم لأن هذا القول يبلغ في نفوسهم كل مبلغ وقيل معناه فأعرض عنهم في الملأ وقل لهم في أنفسهم إذا خلوت بهم قولا بليغا أي اغلظ لهم في القول خاليا بهم ليس معهم غيرهم مسارا لهم بالنصيحة لأنها في السر أنجع. وقيل هذا الإعراض منسوخ بآية القتال وقد تكلم العلماء في حد البلاغة فقال بعضهم البلاغة إيصال المعنى إلى الفهم في أحسن صورة من اللفظ وقيل البلاغة حسن العبارة مع صحة المعنى وقيل البلاغة سرعة الإيجاز مع الإفهام وحسن التصرف من غير إدجار. وقيل أحسن الكلام ما قلت ألفاظه وكثرت معانيه وقيل خير الكلام ما شوق أوله إلى سماع آخره وقيل لا يستحق الكلام اسم البلاغة إلّا إذا طابق لفظه معناه ومعناه لفظه ولم يكن لفظه إلى السمع أسبق من معناه إلى القلب. وقيل المراد بالقول البليغ في الآية أن يكون حسن الألفاظ حسن المعاني مشتملا على الترغيب والترهيب والإعذار والإنظار والوعد والوعيد بالثواب والعقاب ، فإن الكلام إذا كان كذلك عظم وقعه في القلوب وأثر في النفوس. ٦٤قوله تعالى : وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ قال الزجاج لفظه من هنا صلة مؤكدة والمعنى وما أرسلنا رسولا إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّه يعني بأمر اللّه والمعنى إنما وجبت طاعة الرسول بأمر اللّه لأن اللّه أذن في ذلك وأمر به وقيل معناه بعلم اللّه وقضائه أي طاعته تكون بإذن اللّه لأنه أذن فيه فتكون طاعة الرسول طاعة اللّه ومعصيته معصية اللّه والمعنى وما أرسلنا من رسول إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليهم وأنت يا محمد من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من أرسلوا إليهم ففيه توبيخ وتقريع للمنافقين الذين تركوا حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ورضوا بحكم الطاغوت وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يعني الذين تحاكموا إلى الطاغوت ظلموا أنفسهم بالتحاكم إليه جاؤُكَ يعني جاءوك تائبين من النفاق والتحاكم إلى الطاغوت متنصلين مما ارتكبوا من المخالفة فَاسْتَغْفَرُوا اللّه يعني من ذلك الذنب بالإخلاص وبالغوا في الاعتذار إليك من إيذائك برد حكمك والتحاكم إلى غيرك وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ يعني من مخالفته والتحاكم إلى غيره وإنما قال واستغفر لهم الرسول ولم يقل واستغفرت لهم إجلالا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وتفخيما له وتعظيما لاستغفاره وأنهم إذا جاءوه فقد جاءوا من خصه اللّه برسالته وجعله سفيرا بينه وبين خلقه ومن كان كذلك فإن اللّه تعالى لا يرد شفاعته فلهذا السبب عدل إلى طريقة الالتفات من لفظ الخطاب إلى لفظ الغيبة لَوَجَدُوا اللّه تَوَّاباً رَحِيماً يعني لو أنهم تابوا من ذنوبهم ونفاقهم واستغفرت لهم لعلموا أن اللّه يتوب عليهم ويتجاوز عنهم ويرحمهم. ٦٥قوله عز وجل : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ نزلت هذه الآية في الزبير بن العوام ورجل من الأنصار (ق) عن عروة بن الزبير عن أبيه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الأنصاري : سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للزبير : (اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك) فغضب الأنصاري ثم قال يا رسول اللّه إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم قال للزبير اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر. فقال الزبير واللّه إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ زاد البخاري فاستوعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حينئذ للزبير حقه وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل ذلك قد أشار على الزبير رأيا أي أراد سعة له وللأنصاري فلما أحفظ الأنصاري رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم استوعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للزبير حقه في صريح الحكم قال الزبير واللّه ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك. قوله في شراج الحرة الشراج مسايل الماء التي تكون من الجبل وتنزل إلى السهل الواحدة شرجة بسكون الراء والحرة الأرض الحمراء المتلبسة بالحجارة السود وقوله فتلون وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يعني تغير وقوله فلما أحفظ أي أغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقوله حتى يرجع إلى الجدر هو بفتح الجيم يعني أصل الجدار وقوله فاستدعى له أي استوفى له حقه في صريح الحكم. وهو أن من كان أرضه أقرب إلى فم الوادي فهو أولى بأول الوادي وحقه تمام السقي فرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أذن للزبير في السقي على وجه المسامحة فلما أبى خصمه ذلك ولم يعترف بما أشار به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من المسامحة لأجله أمر الزبير باستيفاء حقه على التمام وحمل خصمه على مر الحق. فعلى هذا القول تكون الآية مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها قال البغوي : وروي أنهما لما خرجا مرا على المقداد فقال لمن كان القضاء قال الأنصاري لابن عمته ولوى شدقه ففطن له يهودي كان مع المقداد فقال قاتل اللّه هؤلاء يشهدون أنه رسول اللّه ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم وايم اللّه لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى فدعا موسى إلى التوبة منه فقال فاقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا. فقال ثابت بن قيس بن شماس : أما واللّه إن اللّه ليعلم مني الصدق ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت. وقال مجاهد والشعبي نزلت هذه الآية في بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى الطاغوت. وعلى هذا القول تكون الآية متصلة بما قبلها فلا وربك معناه فوربك فعلى هذا تكون لا مزيدة لتأكيد معنى القسم. وقيل إن لا رد لكلام سبق كأنه قال ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ثم استأنف القسم فقال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم يعني فيما اختلفوا فيه من الأمور وأشكل عليهم حكمه وقيل فيما التبس عليهم يقال شاجره في الأمر إذا نازعه فيه وأصله التداخل والاختلاط وشجر الكلام إذا خل بعضه في بعض واختلط ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ يعني ضيقا مما قضيت وقيل شكا فيما قضيت بل يرضوا بقضائك وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً يعني وينقادوا لأمرك انقيادا أو لا يعارضونك في شيء من أمرك وقيل معناه يسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك قوله عز وجل : ٦٦وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أي فرضنا وأوجبنا عليهم الضمير في عليهم يعود على المنافقين وقيل يعود الضمير على الكافة فيدخل فيه المنافق وغيره أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ يعني كما كتبنا على بني إسرائيل القتل والخروج من مصر ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ معناه لم يفعله إلا القليل منهم نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أن رجلا من اليهود قال : واللّه لقد كتب اللّه علينا القتل والخروج ففعلنا فقال ثابت : واللّه لو كتب اللّه علينا ذلك لفعلنا وهو من القليل الذي استثنى اللّه وقيل لما نزلت هذه الآية قال عمر وعمار بن ياسر وابن مسعود وناس من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهم القليل الذين ذكرهم اللّه واللّه لو أمرنا لفعلنا والحمد للّه الذي عافانا فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : (إن من أمتي لرجالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي) ومن قال إن الضمير في عليهم يعود إلى المنافقين قال معنى ما فعلوه إلا قليل منهم يعني رياء وسمعة والمعنى إن ما كتبنا عليهم إلا طاعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والرضا بحكمه ولو أنا كتبنا عليهم القتل والخروج من الدور والوطن ما كان فعله إلا نفر يسير منهم وقرئ (إلا قليلا منهم) بالنصب وتقديره إلا أن يكون قليلا منهم وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ يعني ولو أنهم فعلوا ما كلفوا به من طاعة الرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والرضا بحكمه لَكانَ خَيْراً لَهُمْ يعني في الدنيا والآخرة وإنما سمي ذلك التكليف وعظا لأن أوامر اللّه تعالى وتكاليفه مقرونة بالوعد والوعيد والثواب والعقاب وما كان كذلك يسمى وعظا وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً يعني تحقيقا وتصديقا لإيمانهم ، والمعنى أن ذلك أقرب إلى إثبات إيمانهم وتصديقهم ٦٧وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً يعني ثوابا وافرا جزيلا وإذا جواب لسؤال مقدر كأنه قيل ماذا يكون من هذا الخير والتثبيت قال هو أن نؤتيهم من لدنا أجرا عظيما ٦٨وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً قال ابن عباس معناه ولأرشدناهم إلى دين مستقيم يعني دين الإسلام وقيل معناه ولهديناهم إلى الأعمال الصالحة التي تؤدي إلى المستقيم وهو الصراط الذي يمر عليه المؤمنون إلى الجنة لأن اللّه تعالى ذكر الأجر العظيم أولا ثم ذكر الصراط المستقيم بعده لأنه هو المؤدي إلى الجنة. قوله عز وجل : ٦٩وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ الآية نزلت في ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان شديد الحب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه ، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ما غير لونك فقال يا رسول اللّه ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك. ثم إني إذا ذكرت الآخرة أخاف أن لا أراك لأنك ترفع إلى عليين مع النبيين وإني أخاف إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدا فنزلت هذه الآية وقيل إن بعض أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : كيف يكون الحال وأنت يا رسول اللّه في الدرجات العلى ونحن أسفل منك فكيف نراك؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية : وَمَنْ يُطِعِ اللّه يعني في أداء الفرائض واجتناب النواهي وَالرَّسُولَ أي ويطع الرسول في السنن التي سنها فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم يعني بالهداية والتوفيق في الدنيا وبدخول الجنة في الآخرة مِنَ النَّبِيِّينَ يعني أن المطيعين مع النبيين في الجنة لا تفوتهم رؤية الأنبياء في الجنة ومجالستهم لأنهم يكونون في درجتهم في الجنة لأن ذلك يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول وَالصِّدِّيقِينَ الصدّيق الكثير الصدق فعيل من الصدق والصديقون هم أتباع الرسل الذين اتبعوهم على مناهجهم بعدهم حتى لحقوا بهم وقيل الصديق هو الذي صدق بكل الدين حتى لا يخالطه فيه شك والمراد بالصديقين في هذه الآية أفاضل أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كأبي بكر فإنه هو الذي سمي بالصديق من هذه الأمة وهو أفضل أتباع الرسل وَالشُّهَداءِ هم الذين استشهدوا في سبيل اللّه وقيل هم الذين استشهدوا يوم أحد وَالصَّالِحِينَ جمع صالح وهو الذي استوت سريرته وعلانيته في الخير. وقيل الصالح من اعتقاده صواب وعمله في سنة وطاعة وقيل المراد بالنبيين هنا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبالصديقين أبو بكر وبالشهداء عمر وعثمان وعلي وبالصالحين سائر الصحابة وَحَسُنَ أُولئِكَ يعني المشار إليهم وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون وفيه معنى التعجب كأنه قال وما أحسن أولئك رَفِيقاً يعني في الجنة والرفيق الصاحب سمي رفيقا لارتفاقك به وبصحبته وإنما وحد الرفيق وهو صفة الجمع لأن العرب تعبر به عن الواحد والجمع وقيل معناه وحسن كل واحد من أولئك رفيقا (ق) عن أنس أن رجلا سأل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن الساعة : فقال متى الساعة قال : (و ما أعددت لها قال لا شيء إلا أني أحب اللّه ورسوله فقال أنت مع من أحببت) قال أنس فما فرحنا بشيء أشد فرحا بقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنت مع من أحببت قال أنس : فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بأعمالهم. ٧٠وقوله تعالى : ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصف الثواب الْفَضْلُ مِنَ اللّه يعني الذي أعطى اللّه المطيعين من الأجر العظيم وَكَفى بِاللّه عَلِيماً يعني بجزاء من أطاعه وقيل معناه وكفى باللّه عليما بعباده فهو يوفقهم لطاعته وفيه دليل على أنهم لم ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم بل إنما نالوها بفضل اللّه تعالى ورحمته ويدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول اللّه قال ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه منه بفضل ورحمة) لفظ البخاري ولمسلم نحوه. قوله عز وجل : ٧١يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ الحذر احتراز من مخوف والمعنى احذروا واحترزوا من عدوكم. ولا تمكنوه من أنفسكم وقيل المراد بالحذر هنا السلاح يعني خذوا سلاحكم وعدتكم لقتال عدوكم وإنما سمي السلاح حذرا لأن به يتقى ويحذر. وقيل معناه احذروا عدوكم ولقائل أن يقول إذا كان المقدور كائنا فما يمنع الحذر فالجواب عنه بأنه لما كان الكل بقضاء اللّه وقدره كان الأمر بأخذ الحذر من قضاء اللّه وقدره فَانْفِرُوا ثُباتٍ أي اخرجوا سرايا متفرقين سرية بعد سرية أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً يعني أو اخرجوا جميعا كلكم مع نبيكم صلّى اللّه عليه وسلّم إلى جهاد عدوكم ٧٢وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ نزلت في المنافقين. وإنما قال منكم لاجتماعهم مع أهل الإيمان في الجنسية والنسب وإظهار كلمة الإسلام لا في حقيقة الإيمان والمعنى وإن منكم لمن ليتأخرن وليتثاقلن عن الجهاد وهو عبد اللّه بن أبي ابن سلول المنافق وكان رأس المنافقين فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أي قتل وهزيمة قالَ يعني هذا المنافق قَدْ أَنْعَمَ اللّه عَلَيَّ يعني بالقعود إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ يعني مع المؤمنين شَهِيداً يعني حاضر الوقعة فيصيبني ما أصابهم ٧٣وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّه أي فتح وغنيمة لَيَقُولَنَّ يعني هذا المنافق كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أي معرفة ومودة في الدين والمعنى كأنه ليس من أهل دينكم وذلك أن المنافقين كانوا يوادّون المؤمنين في الظاهر يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ في تلك الغزوة التي غنم فيها المؤمنون فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً أي فآخذ نصيبا وافرا من الغنيمة. ٧٤قوله عز وجل : فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه هذا خطاب للمنافق أي فليخلص الإيمان وليقاتل في سبيل اللّه وقيل هو خطاب للمؤمنين المخلصين أي فليقاتل المؤمنون في سبيل اللّه الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي يبيعون يقال شريت بمعنى بعت لأنه استبدال عوض بعوض. والمعنى فليقاتل المؤمنون الكافرين الذين يبيعون حياتهم في الدنيا بثواب الآخرة وما وعد اللّه فيها لأهل الإيمان والطاعة وقيل معناه فليقاتل في سبيل اللّه المؤمنون الذين يبيعون الحياة الدنيا ويختارون الآخرة وثوابها على الدنيا الفانية وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه فَيُقْتَلْ أي فيستشهد أَوْ يَغْلِبْ يعني يظفر بعدوه من الكفار فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ يعني في كلا الحالتين الشهادة أو الظفر نؤتيه فيهما أَجْراً عَظِيماً يعني ثوابا وافرا (ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (تضمن اللّه لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة) لفظ مسلم. قوله عز وجل : ٧٥وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه قال المفسرون : هذا حض من اللّه على الجهاد في سبيله لاستنقاذ المؤمنين المستضعفين من أيدي الكفار وفيه دليل على أن الجهاد واجب والمعنى لا عذر لكم في ترك الجهاد وقد بلغ حال المستضعفين ما بلغ من الضعف والأذى وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ قال ابن عباس يريد أن قوما من المؤمنين استضعفوا فحبسوا وعذبوا وقيل كان هؤلاء بمكة يلقون من المشركين أذى شديدا. وكان أهل مكة قد اجتهدوا أن يفتنوا قوما من المؤمنين عن دينهم بالأذى لهم وكانوا مستضعفين في أيديهم ولم يكن لهم بمكة قوة يمتنعون بها من المشركين فعلى هذا يكون معنى الآية : وما لكم لا تقاتلون في سبيل اللّه وفي خلاص المستضعفين. وقال ابن عباس معناه وعن المستضعفين لأن المراد صرف الأذى عنهم (خ) عن ابن عباس في قوله : وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه وَالْمُسْتَضْعَفِينَ الآية. قال كنت أنا وأمي من المستضعفين وفي رواية ابن أبي مليكة قال تلا ابن عباس إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ قال كنت أنا وأمي ممن عذر اللّه أنا من الولدان وأمي من النساء فعلى هذه الرواية الثانية من حديث ابن عباس يكون معنى والمستضعفين إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان فإنهم ممن عذر اللّه في ترك القتال والولدان جمع وليد وهو الصبي الصغير الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ يعني مكة الظَّالِمِ أَهْلُها يعني الظالم أهلها أنفسهم بالشرك لقوله تعالى : إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وذلك أن المستضعفين لما منعهم المشركون من الهجرة من مكة إلى المدينة دعوا اللّه عز وجل فقالوا ربنا أخرجنا من هذه القرية يعني مكة الظالم أهلها بالشرك وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يعني وليا يلي أمرنا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً يعني يبصرنا ويمنعنا من العدو فاستجاب اللّه دعاءهم وجعل لهم من لدنه خير ولي وخير ناصر وهو محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتولى أمرهم ونصرهم واستنقذهم من أيدي المشركين يوم فتح مكة واستعمل عليهم عتاب بن أسيد وكان ابن ثمان عشرة سنة فكان ينصر المظلومين على الظالمين ويأخذ للضعيف من القوي. ٧٦قوله عز وجل : الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه يعني في طاعة اللّه وإعلاء كلمته وابتغاء مرضاته وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ يعني في طاعة الشيطان فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ أي فقاتلوا أيها المؤمنون حزب الشيطان وجنوده وهم الكفار إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً الكيد السعي في الفساد على جهة الاحتيال ويعني بكيده ما كاد المؤمنين به من تخويفه أولياءه الكفار يوم بدر وكونه ضعيفا لأنه خذل أولياءه الكفار لما رأى الملائكة قد نزلت يوم بدر وكان النصر لأولياء اللّه وحزبه على أولياء الشيطان وإدخال كان في قوله ضعيفا لتأكيد ضعف كيد الشيطان. قولهعز وجل : ٧٧أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ قال الكلبي نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص وجماعة من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كانوا يلقون من المشركين أذى كثيرا بمكة قبل أن يهاجروا فكانوا يقولون يا رسول اللّه ائذن لنا في قتالهم فإنهم قد آذونا فيقول لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (كفوا أيديكم فإني لم أومر بقتالهم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) يعني قيل لهم كفوا أيديكم عن قتالهم وأدوا ما افترض عليكم من الصلاة والزكاة وفيه دليل على أن فرض الصلاة والزكاة كان قبل فرض الجهاد فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ أي فرض عليهم جهاد المشركين وأمروا بالخروج إلى بدر إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يعني إذا جماعة من الذين سألوا أن يفرض عليهم الجهاد يَخْشَوْنَ النَّاسَ يعني يخافون مشركي مكة كَخَشْيَةِ اللّه أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً أو بمعنى الواو يعني وأشد خشية وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ يعني لم فرضت علينا الجهاد لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يعني هلّا تركتنا ولم تفرض علينا القتال حتى نموت بآجالنا والقائلون لهذا القول هم المنافقون لأن هذا القول لا يليق بالمؤمنين وقيل قاله بعض المؤمنين وإنما قالوا ذلك خوفا وجنبا لا اعتقادا ثم إنهم تابوا من هذا القول قُلْ أي قل لهم يا محمد مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ يعني أن منفعتها والاستمتاع بالدنيا قليل لأنه فان زائل وَالْآخِرَةُ يعني وثواب الآخرة خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى يعني اتقى الشرك ومعصية الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي ولا تنقصون من أجوركم قدر فتيل (م) عن المستورد بن شداد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه وأشار يعني بالسبابة في اليم فلينظر بم ترجع). ٧٨قوله عز وجل : أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فرد اللّه عليهم بهذه الآية وقيل نزلت في الذين قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال فرد اللّه عليهم بقوله تعالى : أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ يعني ينزل بكم الموت فبيّن تعالى أنه لا خلاص لهم من الموت وإذا كان لا بد لهم من الموت كان القتل في القتال في سبيل اللّه وجهاد أعدائه أفضل من الموت على الفراش لأن الجهاد موت تحصل به سعادة الآخرة ثم بيّن تعالى أنه لا بد لهم من الموت وأنه لا ينجي منه شيء بقوله : وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ البروج في كلام العرب الحصون والقلاع والمشيدة المرفوعة المطولة وقيل هي المطلية بالشيد وهو الجص إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه نزلت في المنافقين واليهود وذلك أن المدينة كانت ذات خير وأرزاق ونعم عند مقدم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلما ظهر نفاق المنافقين وعناد اليهود أمسك اللّه عنهم بعض الإمساك فقال المنافقون واليهود ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. فقال اللّه تعالى وإن تصبهم يعني المنافقين واليهود حسنة أي خصب في الثمار ورخص في السعر يقولوا هذه من عند اللّه يعني من قبل اللّه وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي جدب في الثمار وغلاء في السعر يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ يعني من شؤم محمد وأصحابه وقيل المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر وبالسيئة القتل والهزيمة يوم أحد ومعنى من عندك أنت الذي حملتنا عليه يا محمد فعلى هذا القول يكون هذا إخبارا عن المنافقين خاصة قُلْ أي قل لهم يا محمد كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّه يعني الحسنة والسيئة والخصب والجدب والغنيمة والهزيمة والظفر والقتل فأما الحسنة فإنعام من اللّه وأما السيئة فابتلاء منه فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ أي فما شأن هؤلاء القوم المنافقين واليهود الذين قالوا ما قالوا لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً يعني لا يفقهون معاني القرآن وأن الأشياء كلها من اللّه عز وجل خيرها وشرها. قوله تعالى : ٧٩ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ يعني من خير ونعمة فَمِنَ اللّه يعني من فضل اللّه عليك يتفضل به إحسانا منه إليك وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ يعني من شدة ومكروه ومشقة وأذى فَمِنْ نَفْسِكَ يعني فمن قبل نفسك وبذنب اكتسبته نفسك استوجبت ذلك به وفي المخاطب بهذا الكلام قولان : أحدهما أنه عام وتقديره ما أصابك أيها الإنسان والثاني أنه خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد به من غيره من الأمة والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بريء لأن اللّه عز وجل قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقد عصمه من حين البعثة فهو معصوم فيما يستقبل حتى يموت ويدل على أن المراد بهذا الخطاب غيره قوله عز وجل : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ خاطبه وحده ثم جمع الكل بقوله إذا طلقتم النساء فمعنى قوله فمن نفسك أي عقوبة لذنبك يا ابن آدم كذا قاله قتادة. وقال الكلبي : ما أصابك من خير فاللّه هداك له وأعانك فيه وما أصابك من أمر تكرهه فبذنبك عقوبة لذلك الذنب وقد تعلق بظاهر هذه الآية القدرية وقالوا نفى اللّه السيئة عن نفسه ونسبها إلى الإنسان بقوله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ولا متعلق لهم بها لأنه ليس المراد من الآية حسنة الكسب من الطاعات ولا السيئة المكتسبة من فعل المعاصي بل المراد من الحسنة والسيئة في هذه الآية ما يصيب الإنسان من النعم والمحن وذلك ليس من فعل العبد لأنه لا يقال في الطاعة والمعصية أصابني وإنما يقال أصبتها. ويقال في النعم والمحن أصابني بدليل أنه لم يذكر عليه ثوابا ولا عقابا فهو كقوله تعالى : فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ولما ذكر اللّه حسنات الكسب وسيئاته وعد عليها بالثواب والعقاب فقال تعالى : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها فبطل بهذا قول القدرية وقال بعضهم لو كانت الآية على ما يقول أهل القدر لقال ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة ولم يقل ما أصابك لأن العادة جرت بقول الإنسان أصابني خير أو مكروه وأصبت حسنة أو سيئة وقيل في معنى الآية ما أصابك من حسنة أي النصر والظفر يوم بدر فمن اللّه أي من فضل اللّه ، وما أصابك من سيئة أي من قتل وهزيمة يوم أحد فمن نفسك يعنى فبذنوب أصحابك وهو مخالفتهم إياك. فإن قلت كيف وجه الجمع بين قوله تعالى قل كل من عند اللّه وبين قوله وما أصابك من سيئة فمن نفسك فأضاف السيئة إلى فعل العبد في هذه الآية قلت أما إضافة الأشياء كلها إلى اللّه تعالى في قوله : قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّه فعلى الحقيقة لأن اللّه تعالى وهو خالقها وموجدها وأما إضافة السيئة إلى فعل العبد فعلى المجاز تقديره وما أصابك من سيئة فمن اللّه بذنب نفسك عقوبة لك وقيل السيئة إلى فعل العبد على سبيل الأدب فهو كقوله تعالى : وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ فأضاف المرض إلى نفسه على طريق الأدب ولا يشك عاقل أن المرض هو اللّه تعالى وقيل هذه متصلة بما قبلها وفيه إضمار وتقديم وتأخير تقديره فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ويقولون ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيئة فمن نفسك قل كل من عند اللّه وقال ابن الأنباري في معنى الآية ما أصابك اللّه به من حسنة وما أصابك به من سيئة فالفعلان راجعان إلى اللّه تعالى. قوله تعالى : وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا يعني وأرسلناك يا محمد إلى كافة الناس رسولا لتبلغهم رسالتي وما أرسلتك به ولست رسولا إلى العرب خاصة كما قال بعض اليهود بل أنا رسول إلى الخلق كافة العرب وغيرهم وَكَفى بِاللّه شَهِيداً يعني على إرسالك للناس كافة فما ينبغي لأحد أن يخرج عن طاعتك واتباعك ، وقيل معناه وكفى باللّه شهيدا على تبليغك ما أرسلت به إلى الناس وقيل معناه وكفى باللّه شهيدا على أن الحسنة والسيئة من اللّه قوله عز وجل : ٨٠مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّه سبب نزول هذه الآية أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (من أطاعني فقد أطاع اللّه ومن أحبني فقد أحب اللّه) فقال بعض المنافقين ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ربا فأنزل اللّه هذه من يطع الرسول يعني فيما أمر به ونهى عنه فقد أطاع اللّه يعني أن طاعة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم طاعة اللّه تعالى لأنه هو أمر بها. وقال الحسن جعل اللّه طاعة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم طاعته وقامت به الحجة على المسلمين. وقال الشافعي : إن كل فريضة فرضها اللّه في كتابه كالحج والصلاة والزكاة لولا بيان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لها ما كنا نعرف كيف نأتيها ولا كان يمكننا أداء شيء من العبادات وإذا كان الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بهذه المنزلة الشريفة كانت طاعته على الحقيقة طاعة اللّه وَمَنْ تَوَلَّى أي أعرض عن طاعته فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً يعني حافظا تحفظ أعمالهم عليهم بل كل أمرهم إلى اللّه قال المفسرون وكان هذا قبل أن يؤمر بالقتال ثم نسخ ذلك بآية القتال ٨١قوله تعالى : وَيَقُولُونَ طاعَةٌ نزلت في المنافقين وذلك أن المنافقين كانوا يقولون باللسان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم آمنا بك وصدقناك فمرنا فأمرك طاعة أي أمرنا وشأننا طاعة فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ أي خرجوا من عندك بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ التبييت كل أمر يفعل بالليل يقال هذا أمر مبيت إذا دبر بليل وقضي بليل فقد بيت والمعنى أنهم قالوا وقدروا أمرا بالليل غير الذي أعطوك بالنهار من الطاعة وقيل معنى بيت غير وبدل طائفة منهم غير الذي تقول يعني غير الذي عهدت إليهم فعلى هذا يكون التبييت بمعنى التبديل وإنما خص طائفة من المنافقين بالتبييت في قوله منهم. وكلمة من للتبعيض لأنه تعالى علم أن منهم من يبقى على كفره ونفاقه ومنهم من يرجع عنه ويتوب فخص من يصر على النفاق والذكر وقيل إن طائفة منهم اجتمعوا في الليل وبيتوا ذلك القول فخصهم بالذكر وَاللّه يَكْتُبُ أي يثبت ويحفظ عليهم ما يُبَيِّتُونَ يعني ما يزورون ويغيرون ويقدرون وقال ابن عباس يكتب ما يسرون من النفاق فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تعاقبهم يا محمد ولا تحدث نفسك بالانتقام منهم وخلهم في ضلالتهم فأنا منتقم منهم وقيل لا تغتر بإسلامهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه أي فوض أمرك إلى اللّه في شأنهم فإن اللّه يكفيك أمرهم وينتقم لك منهم وَكَفى بِاللّه وَكِيلًا يعني ناصرا لك عليهم قوله عز وجل : ٨٢أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أصل التدبر النظر في عواقب الأمور والتفكر في أدبارها ثم استعمل في كل تفكر وتأمل. يقال تدبرت الشيء أي نظرت في عاقبته ومعنى تدبر القرآن تأمل معانيه وتفكر في حكمه وتبصر ما فيه من الآيات. قال ابن عباس : أفلا يتدبرون القرآن فيتفكرون فيه فيرون تصديق بعضه لبعض وما فيه من المواعظ والذكر والأمر والنهي وأن أحدا من الخلق لا يقدر عليه قال العلماء إن اللّه تعالى احتج بالقرآن والتدبر فيه على صحة نبوة محمد للّه والحجة في ذلك من ثلاثة أوجه أحدها فصاحته التي عجز الخلائق عن الإتيان بمثلها في أسلوبه. الثاني إخباره عن الغيوب وهو ما يطلع اللّه تعالى نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم على أحوال المنافقين وما يخفونه من مكرهم وكيدهم فيفضحهم بذلك وغير ذلك من الاخبار عن أحوال الأولين وأخبارهم وما يأتي في المستقبل من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى. الثالث سلامته من الاختلاف والتناقض وهو المراد بقوله تعالى : وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً قال ابن عباس يعني تفاوتا وتناقضا وفي رواية عنه لو كان من عند مخلوق لكان فيه كذب واختلاف وقيل معناه لوجدوا في إخباره عن الغيب بما يكون وبما قد كان اختلافا كثيرا لأن الغيب لا يعلمه إلا اللّه تعالى. وإذا كان كذلك ثبت أنه من عند اللّه وأنه ليس فيه اختلاف ولا تناقض وقيل لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا من حيث البلاغة والفصاحة والمعنى لو كان من عند مخلوق لكان على قياس الكلام المخلوق بعضه فصيح بليغ حسن وبعضه مردود ركيك فاسد فلما كان القرآن جميعه على منهاج واحد في الفصاحة والبلاغة ثبت أنه من عند اللّه والمعنى أفلا يتفكرون في القرآن فيعرفوا بعدم التناقض فيه وصدق ما يخبر به عن الغيوب أنه كلام اللّه عزّ وجلّ وأن ما يكون من عند غير اللّه لا يخلو عن تناقض واختلاف فلما كان القرآن ليس فيه تناقض واختلاف علم أنه من عند قادر على ما لا يقدر غيره عالم بما لا يعلمه سواه. ٨٣قوله تعالى : وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يبعث البعوث والسرايا فإذا غلبوا أو غلبوا بادر المنافقون يستخبرون عن حالهم ثم يشيعونه ويتحدثون به قبل أن يحدث به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيضعفون به قلوب المؤمنين فأنزل اللّه تعالى هذه الآية : وَإِذا جاءَهُمْ يعني المنافقين أمر من الأمن يعني جاءهم خبر بفتح وغنيمة أو الخوف يعني القتل والهزيمة أذاعوا به أي أفشوا ذلك الخبر وأشاعوه بين الناس يقال أذاع السر وأذاع به إذا أشاعه وأظهره قال الشاعر : أذاع به في الناس حتى كأنه بعلياء نار أوقدت بثقوب وَلَوْ رَدُّوهُ يعني الأمر الذي تحدثوا به إِلَى الرَّسُولِ يعني أنهم لم يتحدثوا به حتى يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هو الذي يتحدث به ويظهره وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ يعني ذوي العقول والرأي والبصيرة بالأمور منهم وهم كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وقيل هم أمراء السرايا والبعوث وإنما قال منهم على حسب الظاهر ولأن المنافقين كانوا يظهرون الإيمان فلذا قال وإلى أولي الأمر منهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي يستخرجون تدبيره بذكائهم وفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب وما ينبغي لها ومكايدها وهم العلماء الذين علموا ما ينبغي أن يكتم من الأمور وما ينبغي أن يذاع منها والنبط الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر واستنباطه استخراجه فاستعير لما يخرجه الرجل بفضل ذكائه وصفاء ذهنه وفطنته من المعاني والتدبير فيما يعضل ويهم. ويقال استنبط الفقيه المسألة إذا استخرجها باجتهاده وفهمه وفي الآية دليل على جواز القياس وأن من العلم ما يدرك بالنص وهو الكتاب والسنة ومنه ما يدرك بالاستنباط وهو القياس عليهما ومعنى الآية ولو أن هؤلاء المنافقين والمذيعين ردوا الأمر من الأمن والخوف إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وإلى أولي الأمر وطلبوا معرفة الحال فيه من جهتهم لعلموا حقيقة ذلك منهم وإنهم أولي بالبحث عنه فإنهم أعلم بما ينبغي أن يشاع أو يكتم. قوله تعالى : وَلَوْلا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ يعني ولولا فضل اللّه عليكم ببعثة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وإنزال القرآن ورحمته بالتوفيق والهداية لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ يعني لبقيتم على الكفر والضلالة إِلَّا قَلِيلًا اختلف العلماء في هذا الاستثناء وإلى ماذا يرجع فقيل هو راجع إلى الإذاعة وهو قول ابن عباس والتقدير وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا فأخرج بعض المنافقين والمؤمنين عن هذه الإذاعة لأنهم لم يذيعوا ما علموا من أمر السرايا. وهذا القول اختيار الفراء وابن جرير الطبري وقيل هو راجع إلى المستنبطين وهو قول الحسن وقتادة واختاره ابن قتيبة وتقديره لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا فعلى هذين القولين في الآية تقديم وتأخير وقيل إنه راجع إلى اتباع الشيطان وهو قول الضحاك. واختاره الزجاج ومعلوم أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به أولى من صرفه إلى الشيء البعيد وتقديره ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا منكم وهم قوم آمنوا واهتدوا قبل مبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإنزال القرآن مثل زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وقس بن ساعدة الأيادي. قوله تعالى : ٨٤فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ نزلت في مواعدة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أبا سفيان بن حرب وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واعده موسم بدر الصغرى بعد حرب أحد وذلك في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فأنزل اللّه هذه الآية فقاتل في سبيل اللّه يعني لا تدع جهاد العدو والانتصار للمستضعفين من المؤمنين لا تكلف إلا نفسك يعني لا تكلف فرض غيرك بل جاهد في سبيل اللّه ولو وحدك فإن اللّه ناصرك لا الجنود وقد وعدك النصر عليهم وهو لا يخلف الميعاد فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سبعين راكبا إلى بدر الصغرى فكفاهم اللّه القتال ورجعوا سالمين وعاتب اللّه من تخلف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بهذه الآية على ترك الجهاد والخروج معه. وفي الآية دليل على أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان أشجع الناس وأعلمهم بأمور القتال ومكايده لأن اللّه تعالى أمره بالقتال وحده ولو لم يكن أشجع الناس لما أمره بذلك ، ولقد اقتدى به أبو بكر الصديق في قتال أهل الردة من بني حنيفة الذين منعوا الزكاة فعزم على الخروج إلى قتالهم ولو وحده وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ يعني حضهم على الجهاد ورغبهم في الثواب وليس عليك في شأنهم إلا التحريض فحسب لا التعنيف بهم عَسَى اللّه أي لعل اللّه أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني لعل اللّه أن يمنع بأس الكفار وشدتهم وقد فعل وذلك أن أبا سفيان بدا له عن القتال فلم يخرج إلى الموعد وَاللّه أَشَدُّ بَأْساً أي أعظم صولة وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا يعني وأشد عذابا وعقوبة من غيره ٨٥قوله عزّ وجلّ : مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها الشفاعة مأخوذة من الشفع وهو أن يصير الإنسان بنفسه شفيعا لصاحب الحاجة حتى يجتمع معه على المسألة إلى المشفوع إليه فعلى هذا قيل إن المراد بالشفاعة المذكورة في الآية هي شفاعة الإنسان لغيره ليجلب له بشفاعته نفعا أو يخلصه من بلاء نزل به. وقيل هي الإصلاح بين الناس وقيل معنى الآية من يصر شفعا لوتر أصحابك يا محمد فيشفعهم في جهاد عدوهم يكن له نصيب منها أي حظ وافر من أجر شفاعته وهو ثواب اللّه وكرامته وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً قيل هي النميمة ونقل الحديث لإيقاع العداوة بين الناس وقيل أراد بالشفاعة السيئة دعاء اليهود على المسلمين وقيل معناه من يشفع كفره بقتال المؤمنين يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ أي ضعف وقيل نصيب مِنْها أي من وزرها وَكانَ اللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً قال ابن عباس يعني مقتدرا أو مجازيا وأقات على الشيء قدر عليه قال الشاعر : وذي ضغن كففت الشر عنه وكنت على إساءته مقيتا يعني قادرا على الإساءة إليه وقيل معناه شاهدا أو حفيظا على الأشياء (ق) عن أبي موسى قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جالسا فجاء رجل يسأل فأقبل علينا بوجهه وقال : (اشفعوا تؤجروا ويقضي اللّه على لسان رسوله ما شاء) وفي رواية كان إذا جاءه طالب حاجة أقبل على جلسائه وقال : (اشفعوا تؤجروا) وذكره. قوله عز وجل : ٨٦وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها التحية تفعلة من حيا وأصلها من الحياة ثم جعل السلام تحية لكونه خارجا عن حصول الحياة وسبب الحياة في الدنيا أو في الآخرة والتحية أن يقال حياك اللّه أي جعل لك حياة وذلك أخبار ثم يجعل دعاء وهذه اللفظة كانت العرب تقولها فلما جاء الإسلام بدل ذلك بالسلام وهو المراد به في الآية يعني إذا سلم عليكم المسلم فأجيبوه بأحسن مما سلم عليكم به وإنما اختير لفظ السلام على لفظة حياك اللّه لأنه أتم وأحسن وأكمل لأن معنى السلام السلامة من الآفات فإذا دعا الإنسان بطول الحياة بغير سلامة كانت حياته مذمومة منغصة. وإذا كان في حياته سليما كان أتم وأكمل فلهذا السبب اختير لفظ السلام أَوْ رُدُّوها يعني أو ردوا عليه كما سلم عليكم إِنَّ اللّه كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً يعني محاسبا ومجازيا والمعنى أنه تعالى على كل شيء من رد السلام بمثله أو بأحسن منه مجاز. (فصل في فضل السلام والحث عليه) (ق) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن رجلا سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (أي الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) قوله أي الإسلام خير معناه أي خصال الإسلام خير (م) عن أبي هريرة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم) عن عبد اللّه بن سلام قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلّوا الأرحام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام) أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح عن أبي أمامة قال : أمرنا نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم أن نفشي السلام ، أخرجه ابن ماجة. (فصل في أحكام تتعلق بالسلام وفيه مسائل) المسألة الأولى في كيفية السلام : (ق) عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لما خلق اللّه تعالى آدم عليه السلام قال اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالوا عليك السلام ورحمة اللّه فزادوه ورحمة اللّه قال العلماء يستحب لمن يبتدئ بالسلام أن يقول السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلم عليه واحد ويقول المجيب وعليكم السلام ورحمة اللّه وبركاته فيأتي بواو العطف في قوله وعليكم عن عمران بن حصين قال جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : السلام عليكم فرد عليه ثم جلس فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (عشر ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة اللّه فرد عليه فجلس فقال عشرون فجاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته فرد عليه فجلس فقال ثلاثون) أخرجه الترمذي : وأبو داود وقال الترمذي حديث حسن وقيل إذا قال المسلم السلام عليكم فيقول المجيب وعليكم السلام ورحمة اللّه فيزيده ورحمة اللّه وإذا قال : السلام عليكم ورحمة اللّه فيقول وعليكم السلام ورحمة اللّه وبركاته ، وإذا قال السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته فيرد عليه السلام بمثله ولا يزيد عليه وروي أن رجلا سلم على ابن عباس فقال : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ثم زاد شيئا فقال ابن عباس أن السلام انتهى إلى البركة ويستحب للمسلم أن يرفع صوته بالسلام ليسمع المسلم عليه فيجيبه ويشترط أن يكون الرد على الفور فإن أخره ثم رد لم يعد جوابا وكان آثما بترك الرد. المسألة الثانية في حكم السلام : الابتداء بالسلام سنة مستحبة ليس بواجب وهو سنة على الكفاية فإن كانوا جماعة فسلم واحد منهم كفى عن جميعهم ولو سلم كلهم كان أفضل وأكمل قال القاضي حسين : من أصحاب الشافعي ليس لنا سنة على الكفاية إلّا هذا وفيه نظر لأن تشميت العاطس سنة على الكفاية أيضا كالسلام. ولو دخل على جماعة في بيت أو مجلس أو مسجد وجب عليه أن يسلم على الحاضرين لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (أفشوا السلام) والأمر للوجوب أو يكون ذلك سنة متأكدة لأن السلام من شعار أهل الإسلام فيجب إظهاره أو يتأكد استحبابه أما الرد على المسلم فقد أجمع العلماء على وجوبه ويدل عليه قوله تعالى : وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها والأمر للوجوب لأن في ترك الرد إهانة للمسلم فيجب ترك الإهانة فإن كان المسلم عليه واحدا وجب عليه الرد وإذا كانوا جماعة كان رد السلام في حقهم فرض كفاية فلو رد واحد منهم سقط فرض الرد عن الباقين وإن تركوه كلهم أثموا. عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (يجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزي عن الجلوس أن يرد أحدهم) أخرجه أبو داود. المسألة الثالثة في آداب السلام : السنة أن يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير والصغير على الكبير (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير) وفي رواية للبخاري قال : (يسلّم الصغير على الكبير ، والمار على القاعد والقليل على الكثير) وإذا تلاقىرجلان فالمبتدئ بالسلام هو الأفضل لما روي عن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إن أولى الناس باللّه عز وجل من بدأهم بالسلام) أخرجه أبو داود والترمذي ولفظه قال قيل يا رسول اللّه الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام قال : (أولاهما باللّه) قال الترمذي حديث حسن ويستحب أن يبدأ بالسلام قبل الكلام والحاجة والسنة إذا مر بجماعة صبيان صغار أن يسلم عليهم لما روي عن أنس أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يفعله أخرجاه في الصحيحين وفي رواية لأبي داود أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مر على غلمان يلعبون فسلم عليهم وأما السلام على النساء فإن كن جمعا جالسات في مسجد أو موضع فيستحب أن يسلّم عليهن إذا لم يخف على نفسه أو عليهن فتنة لما روي عن أسماء بنت يزيد قالت مر علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في نسوة فسلّم علينا أخرجه أبو داود وفي رواية الترمذي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مر في المسجد يوما وعصبة من النساء قعود فألوى بيده للتسليم قال الترمذي حديث حسن وإذا مر على امرأة مفردة أجنبية فإن كانت جميلة فلا يسلم عليها ولو سلم فلا ترد هي عليه لأنه لم يستحق الرد وإن كانت عجوزا لا يخاف عليه ولا عليها الفتنة سلم عليها وترد هي عليه وحكم النساء مع النساء كحكم الرجال مع الرجال في السلام فيسلم بعضهن على بعض. المسألة الرابعة في الأحوال التي يكره السلام فيها : فمن ذلك الذي يبول أو يتغوط أو يجامع ونحو ذلك لا يسلم عليه فلو سلم فلا يستحق المسلّم جوابا لما روي عن ابن عمر : (أن رجلا مر ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يبول فسلم عليه فلم يرد عليه) أخرجه مسلم قال الترمذي إنما يكره إذا كان على الغائط أو البول ويكره التسليم على من في الحمام وقيل إن كانوا متزرين بالمآزر سلم عليهم وإلّا فلا ، ويكره التسليم على النائم والناعس والمصلي والمؤذن والتالي في حال الصلاة والأذان والتلاوة ويكره الابتداء بالسلام في حال الخطبة لأن الجالسين مأمورون بالإنصات للخطبة ويكره أن يبدأ المبتدع بالتسليم عليه وكذلك المعلن بفسق وكذلك الظلمة ونحوهم فلا يسلم على هؤلاء. المسألة الخامسة في حكم السلام على أهل الذمة : اليهود والنصارى : اختلف العلماء فيه فذهب أكثرهم إلى أنه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام. وقال بعضهم إنه ليس بحرام بل هو مكروه كراهة تنزيه ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه) أخرجه مسلم وإذا سلم يهودي أو نصراني على مسلم فيرد عليه ويقول عليك بغير واو العطف ، لما روي عن أنس أن يهوديا أتى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه فقال السلام عليكم فرد عليه القول فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (هل تدرون ما قال؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم سلم يا نبي اللّه قال لا ولكنه قال كذا وكذا ردوه على فردوه فقال : قلت السلام عليكم قال : نعم يا نبي اللّه فقال صلّى اللّه عليه وسلّم عند ذلك إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك أي عليك ما قلت) أخرجه الترمذي فلو أتى بواو العطف وميم الجمع فقال عليكم جاز لأنا نجاب عليهم في الدعاء ولا يجابون علينا ويدل على ذلك ما روي عن جابر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مر عليه ناس من اليهود ، فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقال : (و عليكم) فقالت عائشة وغضبت ألم تسمع ما قالوا؟ قال بلى قد سمعت فرددت عليهم وأنا نجاب عليهم ولا يجيبون علينا أخرجه مسلم وإذا مر المسلم على جماعة فيهم مسلمون ويهود ونصارى يسلم عليهم ويقصد بتسليمه المسلمين لما روي عن أسامة بن زيد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين واليهود فسلم عليهم أخرجه الترمذي. ٨٧قوله عز وجل : اللّه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ هذه لام القسم تقديره واللّه الذي لا إله إلّا هو ليجمعنكم اللّه في الموت وفي القبور إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني إلى يوم الحشر والبعث سميت القيامة لقيام الناس من قبورهم بعد الموت وقيل لقيامهم للحساب نزلت هذه الآية في منكري البعث لا رَيْبَ فِيهِ يعني لا شك في ذلك اليوم أنه كائن وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّه حَدِيثاً يعني لا أحد أصدق من اللّه فإنه لا يخلف الميعاد ولا يجوز عليه الكذب والمعنى أن القيامة كائنة لا شك فيها ولا ريب. قوله عز وجل : ٨٨فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقيل نزلت في الذين تخلفوا يوم أحد من المنافقين فلما رجعوا قال بعض أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أقتلهم يا رسول اللّه فإنهم منافقون وقال بعضهم أعف عنهم فإنهم قد تكلموا بكلمة الإسلام (ق) عن زيد بن ثابت قال لما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه فكان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيهم فئتين قالت فرقة نقتلهم وقالت فرقة لا نقتلهم فنزلت فما لكم في المنافقين فئتين فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إنها طيبة تنفي الرجال كما ينفي الكير خبث الحديد وقيل نزلت في قوم خرجوا إلى المدينة وأسلموا ثم استأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الخروج إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فخرجوا وأقاموا بمكة فاختلف المسلمون فيهم فقائل يقول هم منافقون وقائل يقول هم مؤمنون وقيل نزلت في ناس من قريش قدموا المدينة وأسلموا ثم ندموا على ذلك فخرجوا كهيئة المتنزهين فلما بعدوا عن المدينة كتبوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إنا على الذي فارقناك عليه من الإيمان ولكنا اجتوينا المدينة واشتقنا إلى أرضنا ثم إنهم خرجوا في تجارة إلى الشأم فبلغ ذلك المسلمين فقال بعضهم تخرج إليهم ونقتلهم ونأخذ ما معهم لأنهم رغبوا في ديننا وقالت طائفة منهم كيف تقتلون قوما على دينكم وإن لم يذروا ديارهم. وكان هذا بعين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو ساكت لا ينهي أحد الفريقين فنزلت هذه الآية وقيل نزلت في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا وكانوا يظاهرون المشركين وقيل نزلت في عبد اللّه بن أبي ابن سلول المنافق لما تكلم في حديث الإفك. ومعنى الآية فما لكم يا معشر المؤمنين في المنافقين فئتين أي صرتم في أمرهم فرقتين فرقة تذب عنهم وفرقة تباينهم وتعاديهم فنهى اللّه الفرقة الذين يذبون عنهم وأمر المؤمنين جميعا أن يكونوا على منهاج واحد في التباين لهم والتبري منهم ثم أخبر عن كفرهم بقوله وَاللّه أَرْكَسَهُمْ يعني نكسهم في كفرهم وارتدادهم وردهم إلى أحكام الكفار بِما كَسَبُوا أي بسبب ما اكتسبوا من أعمالهم الخبيثة وقيل بما أظهروا من الارتداد بعد ما كانوا على النفاق أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللّه هذا خطاب للفئة التي دافعت عن المنافقين والمعنى أتبتغون أيها المؤمنون هداية هؤلاء المنافقين الذين أصلهم اللّه عن الهدى وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه يعني عن الهدى فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا يعني فلن تجد له طريقا تهديه فيها إلى الحق والهدى. قوله تعالى : ٨٩وَدُّوا يعني تمنى أولئك الذين رجعوا عن الإيمان إلى الارتداد والكفر لَوْ تَكْفُرُونَ يعني تكفرون أنتم يا معشر المؤمنين كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً في الكفر فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ يعني من الكفار منع المؤمنين من موالاتهم حَتَّى يُهاجِرُوا يعني يسلموا أو يهاجروا فِي سَبِيلِ اللّه معكم وهي هجرة أخرى والهجرة على ثلاثة أوجه : الأولى هجرة المؤمنين في أول الإسلام من مكة إلى المدينة. . الثانية هجرة المؤمنين وهي الخروج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سبيل اللّه مخلصين صابرين محتبسين كما حكي اللّه عنهم وفي هذه الآية منع المؤمنين من موالاة المنافقين حتى يهاجروا والهجرة الثالثة هجرة المؤمنين ما نهي اللّه عنه بقوله فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني فإن أعرضوا عن الإسلام والهجرة واختاروا الإقامة على الكفر فَخُذُوهُمْ الخطاب للمؤمنين أي خذوهم أيها المؤمنون وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ يعني إن وجدتموهم في الحل والحرم وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا يعني في هذه الحالة وَلا نَصِيراً يعني ينصركم على أعدائكم لأنهم أعداء ثم استثنى اللّه عز وجل طائفة منهم ٩٠فقال تعالى : إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ هذا الاستثناء يرجع إلى القتل لا إلى الموالاة الكفار والمنافقين لا تجوز بحال ومعنى يصلون ينتسبون إليهم أو ينتمون إليهم أو يدخلون معهم بالحلف والجوار. وقال ابن عباس يريد يلجئون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أي عهد وهم الأسلميون وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وادع هلال بن عويمر الأسلمي عند خروجه إلى مكة على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن وصل إلى هلال من قومه وغيرهم ولجأ إليه فلهم الجوار مثل ما لهلال. وفي رواية عن ابن عباس قال : أراد بالقوم الذي بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن مناة كانوا في الصلح والهدنة. وقيل هم خزاعة والمعنى أن من دخل في عهد من كان داخلا في عهدكم فهم أيضا داخلون في عهدكم أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ يحتمل أن يكون عطفا على الذين وتقديره إلّا الذين يتصلون بالمعاهدين أو يتصلون بالذين حصرت صدورهم فلا تقتلوهم وقيل يحتمل أن يكون عطفا على صفة قوم تقديره إلّا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم عهد أو يصلون إلى قوم حصرت صدورهم فلا تقتلوهم ومعنى حصرت أي ضاقت صدورهم عن المقاتلة فلا يريدون قتالكم لأنكم مسلمون ولا يريدون قتالهم لأنهم أقاربهم وهم بنو مدلج وكانوا عاهدوا أن لا يقاتلوا المسلمين وعاهدوا قريشا أن لا يقاتلوهم أَنْ يُقاتِلُوكُمْ يعني ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ يعني من آمن منهم وقيل معناه أنهم لا يقاتلونكم مع قومهم ولا يقاتلون قومهم معكم فقد ضاقت صدورهم لذلك عن قتالكم والقتال معكم وهم قوم هلال الأسلميون وبنو بكر نهى اللّه عن قتال هؤلاء المرتدين إذا اتصلوا بأهل عهد المسلمين لأن من انضم إلى قوم ذوي عهد فله حكمهم في حقن الدم وذلك أن اللّه تعالى أوجب قتال الكفار إلّا من كان معاهدا أو لجأ إلى معاهد أو ترك القتال لأنه لا يجوز قتل هؤلاء وعلى هذا القول فالقول بالنسخ لازم لأن الكافر وإن ترك القتال فقتاله جائز وقال جماعة من المفسرين معاهدة المشركين وموادعتهم في هذه الآية منسوخة بآية السيف وذلك لأن اللّه تعالى لما أعز الإسلام وأهله أمر أن لا يقبل من مشركي العرب إلّا الإسلام أو القتل وَلَوْ شاءَ اللّه لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ يذكر اللّه تعالى منته على المسلمين بكف بأس المعاهدين وذلك لما ألقى اللّه الرعب في قلوبهم وكفهم عن قتالكم ومعنى التسليط هنا تقوية قلوبهم على قتال المسلمين ولكن قذف اللّه الرعب في قلوبهم وكفهم عن المسلمين فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ يعني فإن اعتزلوكم عن قتالكم فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ : ويقال فلم يقاتلوكم يوم فتح مكة مع قومهم وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ يعني الانقياد والصلح فانقادوا واستسلموا فَما جَعَلَ اللّه لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا يعني بالقتل والقتال قال بعض المفسرين هذا منسوخ بآية القتال وهي قوله تعالى : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وقال بعضهم هي غير منسوخة لأنا إذا حملناها على المعاهدين فكيف يمكن أن يقال إنها منسوخة. قوله عز وجل : ٩١سَتَجِدُونَ آخَرِينَ قال ابن عباس : هم أسد وغطفان كانوا من حاضري المدينة فتكلموا بكلمة الإسلام رياء وهم غير مسلمين وكان الرجل منهم يقول له قومه بما ذا آمنت يقول آمنت بهذا القرد والعقرب والخنفساء وإذا لقوا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا لهم إنا على دينكم يريدون بذلك الأمن من الفريقين وفي رواية أخرى عن ابن عباس إنها نزلت في بني عبد الدار وكانوا بهذه الصفة يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ يعني يريدون بإظهار الإيمان أن يأمنوكم فلا تتعرضوا لهم وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ يعني بإظهار الكفر لهم فلا يتعرضوا لهم كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ يعني كلما دعوا إلى الشرك أُرْكِسُوا فِيها رجعوا إلى الشرك وقادوا إليه منكوسين على رؤوسهم فيه فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ يعني فإن لم يكفوا عن قتالكم حتى يسيروا إلى مكة وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ أي ولم يلقوا الصلح ولم يكفوا عن قتالكم فَخُذُوهُمْ يعني أسرى وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ يعني حيث أدركتموهم وَأُولئِكُمْ يعني أهل هذه الصفة جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً يعني حجة ظاهرة بالقتل والقتال وقيل الحجة الواضحة هي ظهور عداوتهم وانكشاف حالهم بالكفر والعداوة. قوله تعالى : ٩٢وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك أنه أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو بمكة قبل الهجرة فأسلم ثم خاف أن يظهر إسلامه لأهله فخرج هاربا إلى المدينة وتحصن في أطم من آطامها والأطم الحصن فجزعت أمه لذلك جزعا شديدا ، وقالت لابنها الحارث وأبي جهل ابني هشام وهما أخوا عياش بن أبي ربيعة لأمه واللّه لا يظلني سقف ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتيان به فخرجا في طلبه وخرج معهما الحارث بن زيد بن أبي أنيسة حتى أتوا المدينة فأتوا عياشا وهو في الأطم فقالوا : أنزل فإن أمك لم يؤوها سقف بعدك وقد حلفت لا تأكل ولا تشرب حتى ترجع إليها ولك عهد تاللّه علينا أن لا نكرهك على شيء يحول بينك وبين دينك. فلما ذكروا له جزع أمه وأوثقوه بنسعة وجلده كل واحد منهم مائة جلدة ثم قدموا به على أمه فلما أتاها قالت لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به ثم تركوه موثقا في الشمس ما شاء اللّه فأعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحارث بن زيد فقال : يا عياش أهذا الذي كنت عليه لئن كان هدى لقد تركت الهدى ولئن كان ضلالة لقد كنت عليها فغضب عياش من مقالته وقال واللّه لألقاك خاليا إلّا قتلتك ثم إن عياشا أسلم بعد ذلك وهاجر وأسلم الحارث بن زيد من بعده وهاجر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وليس عياش حاضرا يومئذ ولم يشعر بإسلامه فبينا عياش يسير بظهر قباء إذ لقي الحارث فقتله فقال لهم ناس : ويحك يا عياش أي شيء صنعت إنه قد أسلم فرجع عياش إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال يا رسول اللّه إنه كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزل وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومعنى الآية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتة وما كان له سبب جواز قتله وقيل معناه ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه وعهد إليه ففيه تحريم قتل المؤمن من كل وجه وقوله تعالى إلّا خطأ استثناء منقطع معناه لكن إن وقع خطأ فتحرير رقبة. وقيل معناه ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتة إلّا أن يخطئ المؤمن فكفارة خطئه ما ذكر من بعد والخطأ فعل الشيء من غير قصد وتعمد وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ يعني فعليه إعتاق رقبة مؤمنة كفارة وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي وعليه دية كاملة مسلمة إلى أهل القتيل الذين يرثونه إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا يعني إلّا أن يتصدق أهل القتيل على القاتل بالدية ويعفو عنه فَإِنْ كانَ يعني المقتول مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أراد أنه إذا كان رجل مسلم في دار الحرب وهو منفرد مع قوم كفار فقتله من لم يعلم بإسلامه فلا دية عليه الكفارة وقيل المراد منه إنه إذا كان المقتول مسلما في دار الإسلام وهو من نسب قوم كفار وأهله الذين يرثونه في دار الحرب وهم حرب للمسلمين ففيه الكفارة ولا دية لأهله وكان الحارث بن زيد من قوم كفار حرب للمسلمين فكان فيه الكفارة تحرير رقبة مؤمنة دون الدية لأنه لم يكن بين قومه وبين المسلمين عهد وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي عهد فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ يعني أنه إذا كان المقتول كافرا معاهدا أو ذميا فتجب فيه الدية والكفارة فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة فصيام شهرين متتابعين أي فعليه صيام شهرين متتابعين بدلا عن الرقبة تَوْبَةً مِنَ اللّه يعني جعل اللّه ذلك توبة لقاتل الخطأ وَكانَ اللّه عَلِيماً يعني بمن قتل خطأ حَكِيماً يعني فيما حكم به عليه من الدية والكفارة. (فصل في أحكام تتعلق بالآية وفيه مسائل) المسألة الأولى : في بيان صفة القتل : قال الشافعي : القتل على ثلاثة أقسام : عمد وشبه عمد وخطأ ، أما العمد المحض فهو أن يقصد قتل إنسان بما يقتل به غالبا فقتل به ففيه القصاص عند وجود التكافؤ أو دية حالة مغلظة في مال القاتل. وأما شبه العمد فهو أن يقصد ضرب إنسان بما لا يقتل بمثله غالبا مثل أن ضربه بعصا خفيفة أو رماه بحجر صغير فمات فلا قصاص عليه وتجب عليه دية مغلظة على عائلته مؤجلة إلى ثلاث سنين. وأما الخطأ المحض فهو أن لا يقصد قتله بل قصد شيئا آخر فأصابه فمات منه فلا قصاص عليه وتجب فيه دية مخففة على عاقلته مؤجلا إلى ثلاث سنين ومن صور قتل الخطأ أن يقصد رمي مشرك أو كافر فيصيب مسلما أو يقصد قتل إنسان يظنه مشركا بأن كان عليه لباس المشركين أو شعارهم فالصورة الأولى خطأ في الفعل والثانية خطأ في القصد. المسألة الثانية : في حكم الديات : فدية الحر المسلم مائة من الإبل فإذا عدمت الإبل فتجب قيمتها من الدراهم أو الدنانير في قول وفي قول بدل مقدر وهو ألف دينار أو اثنا ألف درهم ويدل على ذلك ما روي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص. قال كانت الدية على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم قال وكانت دية أهل الكتاب يومئذ على النصف من دية المسلم فكانت كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال إن الإبل قد غلت فقرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة قال : وترك دية أهل الكتاب فلم يرفعها فيما رفع من الدية أخرجه أبو داود فذهب قوم إلى أن الواجب في الدية مائة من الإبل وألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو قول عروة بن الزبير والحسن البصري وبه قال والشافعي وذهب قوم إلى أنها من الإبل أو ألف دينار أو عشرة آلاف درهم وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي ودية المرأة نصف دية الذكر الحر ودية أهل الذمة والعهد ثلث دية المسلم إن كان كتابيا وإن كان مجوسيا فخمس الثلث ثمانمائة درهم وهو قول سعيد بن المسيب. وإليه ذهب الشافعي وذهب قوم إلى أن دية الذمي والمعاهد مثل دية المسلم روي ذلك عن ابن مسعود وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي وقال قوم دية الذمي نصف دية المسلم وهو قول عمر بن عبد العزيز وبه قال مالك وأحمد والأصل في ذلك ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : دية المعاهد نصف دية الحر أخرجه أبو داود وعنه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى أخرجه النسائي فمن ذهب إلى أن دية أهل الذمة ثلث دية المسلم أجاب عن هذا الحديث بأن الأصل في ذلك كان النصف ثم رفعت زمن عمر دية المسلم ، ولم ترفع دية الذمي فبقيت على أصلها وهو قدر الثلث من دية المسلمين والدية في قتل العمد وشبه العمد مغلظة فتجب ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون في بطونها أولادها. وهذا قول عمر وزيد بن ثابت وبه قال عطاء وإليه ذهب الشافعي لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا أخذوا الدية وهي وثلاثون حقه ثلاثون جذعة وأربعون خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم وذلك لتشديد العقل. أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وعن عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال خطب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يوم الفتح فقال : (ألا وإن قتيل العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل أربعون ثنية إلى بازل عامها كلهن خلفة) وفي رواية أخرى ألا إن كل قتيل خطأ العمد أو شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل فيها أربعون في بطونها أولادها أخرجه النسائي وذهب قوم إلى أن الدية المغلظة أرباع خمس وعشرون بنت مخاض وخمس وعشرون بنت لبون وخمس عشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وهذا قول الزهري وربيعة وإليه ذهب مالك وأحمد وأصحاب الرأي. وأما دية الخطأ فمخففة وهي أخماس بالاتفاق غير أنهم اختلفوا في تقسيمها فذهب قوم إلى أنها عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وهذا قول عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة وبه قال مالك والشافعي وأبدل قوم أبناء اللبون ببنات المخاض يرون ذلك عن ابن مسعود وبه قال أحمد وأصحاب الرأي والدية في قتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة وهم العصيات من الذكور ولا يجب على الجاني منها شيء لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أوجبها على العاقلة ودية الأعضاء والأطراف حكمها مبين في كتب الفقه ودية أعضاء المرأة على النصف من دية أعضاء الرجل واللّه أعلم. المسألة الثالثة : في حكم الكفارة : الكفارة إعتاق رقبة مؤمنة وتجب في مال القاتل سواء كان المقتول مسلما أو معاهدا رجلا كان أو امرأة حرا كان أو عبدا فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين فالقاتل إن كان واجدا للرقبة أو قادرا على تحصيلها بوجود الثمن فاضلا عن نفقته ونفقة عياله وحاجته من مسكن ونحوه فعليه الإعتاق. ولا يجوز له أن ينتقل إلى الصوم فمن عجز عن الرقبة أو عن تحصيل ثمنها فعليه صوم شهرين متتابعين فإن أفطر يوما متعمدا في خلال الشهرين أو نسي النية أو نوى صوما آخر وجب عليه استئناف الشهرين وإن أفطر يوما بعذر مرض أو سفر هل ينقطع التابع؟ اختلف العلماء فيه فمنهم من قال ينقطع التتابع وعليه استئناف الشهرين وهو قول النخعي وأظهر قولي الشافعي لأنه أفطر مختارا. ومنهم من قال لا ينقطع التتابع وعليه أن يبني وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والشعبي ولو حاضت المرأة في خلال الشهرين فطرت أيام الحيض ولا ينقطع التتابع فإذا طهرت بنت لأنه أمر كتبه اللّه على النساء ولا يمكن الاحتراز عنه فإن عجز عن الصوم فهل ينتقل عنه إلى الإطعام فيطعم ستين مسكينا ففيه قولان : أحدهما أنه ينتقل إلى الإطعام كما في كفارة الظهار. والثاني لا ينتقل لأن اللّه تعالى لم يذكر له بدلا فقال فصيام شهرين متتابعين توبة من اللّه فنص على الصوم وجعل ذلك عقوبة لقتل الخطأ واللّه أعلم. قوله عز وجل : ٩٣وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ نزلت في مقيس بن صبابة الكناني وكان قد أسلم هو وأخوه هشام فوجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكر له ذلك فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رجلا من بني فهر إلى بني النجار أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن صبابة أن تدفعوه إلى أخيه مقيس فيقتص منه وأنت لم تعلموه ادفعوا إليه ديته فبلغهم الفهري ذلك فقالوا سمعا وطاعة للّه ولرسوله ما نعلم له قاتلا ولكن نؤدي إليه ديته فأعطوه مائة من الإبل فانصرفا راجعين نحو المدينة فأتى الشيطان مقيسا فوسوس إليه فقال له : تقبل دية أخيك لتكون عليك سبة أقتل الفهري الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية فتغفل الفهري فرماه بصخرة فقتله ثم ركب بعيرا من الإبل وساق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا وقال في ذلك : قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب قارع وأدركت ثأري واضطجعت موسدا وكنت إلى الأصنام أول راجع فنزلت فيه ومن يقتل مؤمنا متعمدا يعني قاصدا لقتله فجزاؤه جهنم خالِداً فِيها يعني بكفره وارتداده وهو الذي استثناه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يوم فتح مكة عمن أمنه من أهلها فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة وَغَضِبَ اللّه عَلَيْهِ يعني لأجل كفره وقتله المؤمن متعمدا وَلَعَنَهُ يعني وطرده عن رحمته وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً اختلف العلماء في حكم هذه الآية هل هي منسوخة أم لا؟ وهل لمن قتل مؤمنا متعمدا توبة؟ أم لا فروي عن سعيد بن جبير قال قالت لابن عباس ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة قال لا؟ فتلوت عليه الآية التي في الفرقان والذين لا يدعون مع اللّه إلها آخر : (و لا يقتلون النفس التي حرم اللّه إلّا بالحق) إلى آخر الآية قال هذه آية مكية نسختها آية مدنية ، ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم وفي رواية قال اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن فرحلت إلى ابن عباس قال نزلت في آخر ما نزل ولم ينسخها شيء وفي رواية أخرى. قال ابن عباس : نزلت هذه الآية بالمدينة والذين لا يدعون مع اللّه إلها آخر إلى قوله مهانا فقال المشركون وما يعني عنا الإسلام وقد عدلنا باللّه وقد قتلنا النفس التي حرم اللّه وأتينا الفواحش فأنزل اللّه تعالى : إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً إلى آخر الآية زاد في رواية فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قتل فلا توبة له أخرجاه في الصحيحين. وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه أنه ناظر ابن عباس في هذه الآية فقال من أين لك أنها محكمة؟ فقال ابن عباس تكاثف الوعيد فيها وقال ابن مسعود إنها محكمة وما تزداد إلّا شدة وعن خارجة بن زيد قال سمعت زبيد بن ثابت يقول أنزلت هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها بعد التي في الفرقان والذين لا يدعون مع اللّه إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم اللّه بالحق بستة أشهر. أخرجه أبو داود والنسائي وزاد النسائي في رواية أشهر بثمانية أشهر. وقال زيد بن ثابت لما نزلت هذه الآية التي في الفرقان والذين لا يدعون مع اللّه إلها آخر عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة وأراد بالغليظة هذه الآية التي في سورة النساء وباللينة آية الفرقان. وذهب الأكثرون من علماء السلف والخلف إلى أن هذه الآية منسوخة واختلفوا في ناسخها. فقال بعضهم نسختها التي في الفرقان وليس هذا القول بالقوي لأن آية الفرقان نزلت قبل آية النساء والمتقدم لا ينسخ المتأخر وذهب جمهور من قال بالنسخ إلى أن ناسخها الآية التي في النساء أيضا وهي قوله تعالى : إِنَّ اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وأجاب من ذهب إلى أنها منسوخة عن حديث ابن عباس المتقدم المخرج في الصحيحين بأن هذه الآية خبر عن وقوع العذاب بمن فعل ذلك الأمر المذكور في الآية والنسخ لا يدخل الإخبار ولئن سلمنا أنه يدخلها النسخ لكن الجمع بين الآيتين ممكن ، بحيث لا يكون بينهما تعارض ، وذلك بأن يحمل مطلق آية النساء على تقييد آية الفرقان فيكون المعنى فجزاؤه جهنم إلّا من تاب وقال بعضهم ما ورد عن ابن عباس إنما هو على سبيل التشديد والمبالغة في الزجر عن القتل فهو كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال إن لم يقتل يقال له لا توبة لك وإن قتل ثم ندم وجاء تائبا يقال له لك توبة وقيل إنه قد روي عن ابن عباس مثله وروي عنه أيضا أن توبته تقبل وهو قول أهل السنة ويدل عليه الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى : وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثم اهتدى وقوله إن اللّه يغفر الذنوب جميعا وأما السنة فما روي عن جابر بن عبد اللّه قال جاء أعرابي إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللّه ما الموجبتان؟ قال : (من مات لا يشرك باللّه شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك به شيئا دخل النار) أخرجه مسلم (ق) عن عبادة بن الصامت قال كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال تبايعوني على أن لا تشركوا باللّه شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه إلّا بالحق وفي رواية ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف فمن وفى منكم فأجره على اللّه ومن أصاب شيئا من ذلك فستره اللّه عليه فأمره إلى اللّه إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبة فبايعناه على ذلك. (فصل) وقد تعلقت المعتزلة والوعيدية بهذه الآية لصحة مذهبهم على أن الفاسق يخلد في النار وأجاب علماء بأن الآية نزلت في كافر قتل مسلما وهو مقيس بن صبابة فتكون الآية على هذا مخصوصة. وقيل هذا الوعيد لمن قتل مسلما مستحلا لقتله ومن استحل قتل مسلم كان كافرا وهو مخلد في النار بسبب كفره وعن أبي مجلز في قوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم. قال : هي جزاؤه فإن شاء اللّه أن يتجاوز عن جزائه فعل أخرجه أبو داود. وقيل إن الخلود لا يقتضي التأبيد بل معناه دوام الحالة التي هو عليها ويدل عليه قول العرب للأيام خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها وإذا ذكر الخلود في حق الكفار قرنه بذكر التأبيد كقوله خالدين فيها أبدا فإذا قرن الخلود بهذه اللفظة علم أن المراد منه الدوام الذي لا ينقطع إذا ثبت هذا كان معنى الخلود المذكور في الآية أن اللّه تعالى يعذب قاتل المؤمن عمدا في النار إلى حيث يشاء اللّه ثم يخرجه منها بفضل رحمته كرمه. فإنه قد ثبت في أحاديث الشفاعة الصحيحة إخراج جميع الموحدين من النار وقيل إن قاتل المؤمن عمدا عدوانا إذا تاب قبلت توبته بدليل قوله تعالى : وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ولأن الكفر أعظم من هذا القتل وتوبة الكافر من كفره مقبولة بدليل قوله : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإذا كانت التوبة من الكفر مقبولة فلأن تقبل من القاتل أولى واللّه أعلم. قوله عز وجل : ٩٤يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه فَتَبَيَّنُوا الآية قال ابن عباس : نزلت في رجل من بني مرة بن عوف يقال له مرداس بن نهيك وكان من أهل فدك لم يسلم من قومه غيره فسمعوا بسرية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تريدهم وكان على السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي فهربوا منه ، وأقام ذلك الرجل المسلم فلما رأى الخيل خاف أن لا يكونوا مسلمين فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد هو الجبل ، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون فعرف أنهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكبر ونزل وهو يقول لا إله إلّا اللّه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم السلام عليكم فتغشاه أسامة بن زيد بسيفه فقتله واستاق غنمه ثم رجعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبروه الخبر فوجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من ذلك وجدا شديدا ، وكان قد سبقهم الخبر فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أقتلتموه إرادة ما معه؟ ثم قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على أسامة بن زيد هذه الآية فقال أسامة استغفر لي يا رسول اللّه فقال كيف أنت بلا إله إلّا اللّه؟ يقولها ثلاث مرات قال أسامة فما زال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلّا يومئذ ثم استغفر له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال : أعتق رقبة وروى أبو ظبيان عن أسامة قال : قلت يا رسول اللّه إنما قالها خوفا من السلاح فقال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفا أم لا؟ وفي رواية عن ابن عباس قال مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومعه غنم فسلم عليهم ، فقالوا إنما سلم عليكم ليتعوذ منكم فقاموا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه يعني إذا سافرتم إلى الجهاد فتبينوا من البيان يقال تبينت الأمر إذا تأملته قبل الإقدام عليه وقرئ فتثبتوا من التثبت وهو خلاف العجلة والمعنى فقفوا وتثبتوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر وتعرفوا حقيقة الأمر الذي تقدمون عليه وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ يعني التحية يعني لا تقوموا لمن حياكم بهذه التحية أنه إنما قالها تعوذا فتقدموا عليه بالسيف لتأخذوا ماله ولكن كفوا عنه وأقبلوا منه ما أظهره لكم وقرئ السلم بفتح السين من غير ألف ومعناه الاستسلام والانقياد أي استسلم وانقاد لكم وقال لا إله إلّا اللّه محمد رسول اللّه وقيل السلام والسلم بمعنى واحد أي لا تقولوا لمن سلم عليكم لَسْتَ مُؤْمِناً يعني لست من أهل الإيمان فتقتلوه بذلك قال العلماء : إذا رأى الغزاة في بلد أو قرية أو حي من العرب شعار الإسلام يجب أن يكفوا عنهم ولا يغيروا عليهم لما روي عن عصام المزني قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا بعث جيشا أو سرية يقول لهم إذا رأيتم مسجدا أو سمعتم مؤذنا فلا تقتلوا أحد أخرجه أبو داود والترمذي : وقال أكثر الفقهاء لو قال اليهودي أو النصراني أنا مؤمن لا يحكم بإيمانه لأنه يدعي أن الذي هو عليه إيمان ولو قال لا إله إلّا اللّه محمد رسول اللّه فعند بعض العلماء لا يحكم حتى يتبرأ من دينه الذي كان عليه ويعترف أنه دين باطل وذلك لأن بعض اليهود يزعم أن محمدا رسول إلى العرب خاصة لا أنه رسول إلى كافة الخلق فإذا اعترف أنه رسول إلى كافة الخلق وأن كان عليه من التهود أو التنصر باطل صح إسلامه وحكم بصحته وقوله تعالى : تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني تطلبون الغنيمة التي هي من حطام الدنيا سريعة النفاد والذهاب وعرض الدنيا منافعها ومتاعها فَعِنْدَ اللّه مَغانِمُ كَثِيرَةٌ أي غنائم كثيرة من رزقه يغنمكوها يغنيكم بها عن قتل من يظهر الإسلام ويتعوذ به. وقيل معناه فعند اللّه ثواب كثير لمن اتقى قتل المؤمن كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ يعني كما كان هذا الذي ألقى إليكم السلام فقلتم له لست مؤمنا فقتلتموه كنتم أنتم من قبل يعني من قبل أن يعز اللّه دينه كنتم تستخفون أنتم بدينكم كما استخفى هذا الذي قتلتموه بدينه من قومه حذرا على نفسه منهم ، وقيل معناه كذلك كنتم تأمنون في قومكم بهذه الكلمة فلا تحقروا من قالها ولا تقتلوه وقيل معناه كذلك كنتم من قبل مشركين فَمَنَّ اللّه عَلَيْكُمْ يعني بالإسلام والهداية فلا تقتلوا من قال لا إله إلّا اللّه وقيل معناه من عليكم بإعلان الإسلام بعد الاختفاء ، وقيل من عليكم بالتوبة فَتَبَيَّنُوا أي ولا تعجلوا بقتل مؤمن وهو تأكيد للأمر بالتبين إِنَّ اللّه كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً يعني فلا تتهاونوا في القتل وكونوا متحرزين من ذلك محتاطين فيه. قوله عز وجل : ٩٥لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ الآية (خ) عن زيد بن ثابت قال : (أملى عليّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم) : لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليّ فقال : واللّه يا رسول اللّه لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى فأنزل اللّه عز وجل على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وفخذه على فخذي فثقلت على حتى خفت أن ترض فخذي ثم سري عنه فأنزل اللّه عز وجل غير أولى الضرر (ق) عن البراء بن عازب : لما نزلت لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم زيدا فجاء بكتف فكتبها وشكا ابن أم مكتوم ضرارته فنزلت لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر) وفي رواية أخرى : (لما نزلت لا يستوي القاعدون من المؤمنين قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ادعوا فلانا فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف فقال اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل اللّه وخلف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ابن أم مكتوم فقال يا رسول اللّه أنا ضرير فنزلت مكانها لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل اللّه هذه الرواية الثانية أخرجها ابن الأثير في كتابه جامع الأصول ، وأضافها إلى البخاري ومسلم ولم أجدها في كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي. وفي هذه الآية فضل الجهاد في سبيل اللّه والحث عليه فقوله تعالى : لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني لا يعدل المختلفون عن الجهاد في سبيل اللّه من المؤمنين المجاهدين في سبيل اللّه غير أولى الضرر يعني أولى الزمانة والضعف في البدن والبصر فإنهم يساوون المجاهدين لأن العذر أقعدهم عن الجهاد (م) عن جابر قال : (كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزاة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم حبسهم المرض) (خ) عن أنس قال : (رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا إلّا وهم معنا حبسهم العذر) (خ) عن ابن عباس قال لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إليها. وقوله تعالى : فَضَّلَ اللّه الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً يعني فضيلة في الآخرة قال ابن عباس : أراد بالقاعدين هنا أولي الضرر فضل اللّه المجاهدين على أولي الضرر درجة لأن المجاهد باشر الجهاد بنفسه وماله مع النية وأولو الضرر كانت لهم نية ولم يباشروا الجهاد فنزلوا عن المجاهدين درجة وَكُلًّا يعني كلّا من المجاهدين والقاعدين وَعَدَ اللّه الْحُسْنى يعني الجنة بإيمانهم وَفَضَّلَ اللّه الْمُجاهِدِينَ يعني في سبيل اللّه عَلَى الْقاعِدِينَ يعني الذين لا عذر لهم ولا ضرر أَجْراً عَظِيماً يعني ثوابا جزيلا. ثم فسر ذلك الأجر العظيم فقال تعالى : ٩٦دَرَجاتٍ مِنْهُ قال قتادة : كان يقال للإسلام درجة والهجرة في الإسلام درجة الجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة ، وقال ابن زيد الدرجات هي سبع وهي التي ذكرها اللّه في سورة براءة حين قال : ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّه إلى قوله : وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ وقال ابن محيريز الدرجات سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة (م) عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (من رضي باللّه ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وجبت له الجنة فتعجب لها أبو سعيد فقال أعدها علي يا رسول اللّه فأعادها عليه ثم قال وأخرى يرفع اللّه بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض قال وما هي يا رسول اللّه؟ قال الجهاد في سبيل اللّه) (خ) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من آمن باللّه ورسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج كان حقا على اللّه أن يدخله الجنة جاهد في سبيل اللّه أو جلس في أرضه التي ولد فيها فقالوا أولا نبشر الناس بقولك؟ فقال إن في الجنة مائة درجة أعدها اللّه للمجاهدين في سبيل اللّه ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس الأعلى فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة) فإن قلت قد ذكر اللّه عز وجل في الآية الأولى درجة واحدة وذكر في هذه الآية درجات فما وجه الحكمة في ذلك؟ قلت أما الدرجة الأولى فلتفضيل المجاهدين على القاعدين بوجود الضرر والعذر. وأما الثانية فلتفضيل المجاهدين على القاعدين من غير ضرر ولا عذر فضلوا عليهم بدرجات كثيرة وقيل يحتمل أن تكون الدرجة الأولى درجة المدح والتعظيم والدرجات درجات الجنة ومنازلها كما في الحديث واللّه أعلم. قوله تعالى : وَمَغْفِرَةً يعني لذنوبهم يسترها ويصفح عنها وَرَحْمَةً يعني رأفة بهم وَكانَ اللّه غَفُوراً يعني لذنوب عباده المؤمنين رحيما يعني بهم يتفضل عليهم برحمته ومغفرته عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال : قال : (أيما عبد من عبادي خرج مجاهدا في سبيل اللّه ابتغاء مرضاتي ضمنت له إن أرجعته أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة وإن قبضته غفرت له ورحمته) أخرجه النسائي. (فصل) اعلم أن الجهاد ينقسم إلى : فرض عين وفرض كفاية ، ففرض العين أن يدخل العدو دار قوم من المؤمنين وبلادهم فيجب على كل مكلف من الرجال ممن لا عذر له ولا ضرر به من أهل تلك البلدة الخروج إلى عدوهم دفعا عن أنفسهم وعن أهليهم وجيرانهم وسواء في ذلك الحر والعبد والغني والفقير فيجب على الكافة وهو في حق من بعد عنهم من المسلمين فرض كفاية فإن لم تقع الكفاية بمن نزل بهم العدو فتجب مساعدتهم على من قرب منهم من المسلمين أو بعد عنهم ، وإن وقعت الكفاية بالمنزول بهم فلا فرض على الأبعدين إلا على طريق الاختبار ولا يدخل في هذا الفرض يعني فرض الكفاية الفقراء والعبيد ، وإذا كان الكفار قادرين في بلادهم فعلى الإمام أن لا يخلي كل سنة من غزاة يغزوهم فيها إما بنفسه أو سراياه حتى لا يبطل الجهاد والاختبار. والمطيق الجهاد مع وقوع الكفاية بغيره لا يقعد عنه ولكن لا يفرض عليه لأن اللّه تعالى وعد المجاهدين والقاعدين الثواب بقوله : وَكُلًّا وَعَدَ اللّه الْحُسْنى ولو كان فرضا على الكافة لاستحق القاعدون عن الجهاد العقاب لا الثواب واللّه أعلم. قوله تعالى : ٩٧إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية نزلت في أناس تكلموا بالإسلام ولم يهاجروا منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة وأشباههما فلما خرج المشركون إلى بدر خرجوا معهم فقتلوا مع الكفار فأنزل اللّه تعالى هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يعني ملك الموت وأعوانه وهم ستة : ثلاثة منهم يلون قبض أرواح المؤمنين وثلاثة يلون قبض أرواح الكفار. وقيل أراد به ملك الموت وحده وإنما ذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم كما يخاطب الواحد بلفظ الجمع وفي التوفي هنا قولان : أحدهما أنه قبض أرواحهم. الثاني حشرهم إلى النار فعلى القول الثاني يكون المراد بالملائكة الزبانية الذين يلون تعذيب الكفار (ظالمي أنفسهم) يعني بالشرك وقيل بالمقام في دار الشرك وذلك لأن اللّه تعالى لم يقبل الإسلام من أحد بعد هجرة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حتى يهاجر إليه ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية) أخرجاه في الصحيحين وقيل ظالمي أنفسهم بخروجهم مع المشركين يوم بدر وتكثير سوادهم حتى قتلوا معهم فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ سؤال توبيخ وتقريع يعني قالت الملائكة : لهؤلاء الذين قتلوا في أي الفريقين كنتم أفي فريق المسلمين أم في فريق المشركين فاعتذروا بالضعف عن مقاومة المشركين وهو قوله تعالى إخبارا عنهم : قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ يعني عاجزين فِي الْأَرْضِ يعني في أرض مكة قالُوا يعني قال لهم الملائكة أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّه واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها يعني إلى المدينة وتخرجوا من بين أظهر المشركين فأكذبهم اللّه في قولهم كنا مستضعفين وأعلمنا بكذبهم فَأُولئِكَ يعني من هذه صفتهم مَأْواهُمْ يعني منزلهم جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً يعني بئس المصير مصيرهم إلى جهنم ثم استثنى أهل الهذر ومن علم ضعفه منهم ٩٨فقال تعالى : إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً يعني لا يقدرون على حيلة ولا نفقة ولا قوة لهم على الخروج من مكة وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا يعني ولا يعرفون طريقا يسلكونه من مكة إلى المدينة. ٩٩فَأُولئِكَ يعني المستضعفين وأهل الأعذار عَسَى اللّه أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ يعني يتجاوز عنهم بفضله وإحسانه وعسى من اللّه واجب لأنه إطماع وترج واللّه تعالى إذا أطمع عبدا وصله وَكانَ اللّه عَفُوًّا غَفُوراً قال ابن عباس كنت أنا وأمي ممن عذر اللّه يعني من المستضعفين وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يدعو لهؤلاء المستضعفين في الصلاة (ق) عن أبي هريرة قال لما رفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رأسه من الركعة الثانية قال : اللّهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة ، اللّهم اشدد وطأتك على مضر اللّهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. ١٠٠قوله عز وجل : وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّه يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً قال الزجاج معنى مراغما مهاجرا يعني يجد في الأرض مهاجرا يعني أن المهاجر لقومه والمراغم لها بمنزلة واحدة. وإن اختلف اللفظان وهو مأخوذ من الرغام وهو التراب يقال رغم أنفه إذا التصق بالتراب وذلك لأن الأنف عضو شريف والتراب ذليل حقير فجعلوا قولهم رغم أنفه كناية عن حصول الذل له ويقال راغمت فلانا بمعنى هجرته وعاديته ولم أبال به رغم أنفه ويقوي ذلك قول بعض أهل اللغة هو الخروج من بلاد العدو برغم أنفه. وقيل معناه أن الرجل إذا خرج عن قومه خرج مراغما لهم أي مغاضبا لهم ومقاطعا وقال الفراء المراغم المضطرب والمذهب في الأرض وأنشد الزجاج في المعنى : إلى بلد غير داني المحل بعيد المراغم والمضطرب فعلى هذا يكون معنى الآية يجد مذهبا يذهب إليه إذا رأى ما يكرهه هذا قول أهل اللغة في معنى المراغمة. وقال ابن عباس : يجد متحولا يتحول إليه من أرض إلى أرض ، وقال مجاهد يجد متزحزحا عما يكره وقيل يجد منقلبا ينقلب إليه وقيل المراغمة والمهاجرة واحدة يقال : راغمت قومي أي هاجرتهم وسميت المهاجرة مراغمة لأنه يهاجر قومه برغمهم. وقوله وسعة يعني في الرزق. وقيل يجد سعة من الضلالة إلى الهدى وقيل يجد سعة في الأرض التي يهاجر إليها قال ابن عباس : لما نزلت الآية التي قبل هذه سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير مريض يقال له جندع بن ضمرة فقال : واللّه ما أنا ممن استثنى اللّه عز وجل وإني لأجد حيلة ولي من المال ما يبلغني إلى المدينة وأبعد منها واللّه لا أبيت الليلة بمكة أخرجوني فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به النعيم فأدركه الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال : اللّهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك رسولك ثم مات فبلغ خبره أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا لو وافى المدينة لكان أتم وأوفى أجرا وضحك المشركون ، وقالوا ما أدرك ما طلب فأنزل اللّه عز وجل : وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللّه وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ يعني قبل بلوغه إلى مهاجره فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّه يعني فقد وجب أجر هجرته على اللّه بإيجابه على نفسه بحكم الوعد والتفضل والكرم لا وجوب استحقاق وتحتم قال بعض العلماء ويدخل في حكم الآية من قصد فعل طاعة من الطاعات ثم عجز عن إتمامها كتب اللّه له ثواب تلك الطاعة كاملا وقال بعضهم إنما يكتب له أجر ذلك القدر الذي عمل وأتى به ، أما تمام الأجر فلا و القول الأول أصح لأن الآية إنما نزلت في معرض الترغيب في الهجرة وأن من قصدها ولم يبلغها بل مات دونها فقد حصل له ثواب الهجرة كاملا فكذلك كل من قصد فعل طاعة ولم يقدر على إتمامها كتب اللّه له ثوابها كاملا وَكانَ اللّه غَفُوراً رَحِيماً يعني ويغفر اللّه له ما كان منه من القعود قبل الهجرة إلى أن خرج مهاجرا. قوله عز وجل : ١٠١وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يعني إذا سافرتم فيها فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج وإثم أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ يعني من أربع ركعات إلى ركعتين وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء ، وأصل القصر في اللغة التضييق وقيل هو ضم الشيء إلى أصله. وفسر ابن الجوزي القصر بالنقص ولم أره لأحد من أهل التفسير واللغة وقيل معنى قصر الصلاة جعلها قصيرة بترك بعض ركعاتها أو بعض أركانها ترخيصا ولهذا السبب ذكروا في تفسير قصر الصلاة المذكورة في الآية قولين : أحدهما أنه في عدد الركعات وهو رد الصلاة الرباعية إلى ركعتين والقول الثاني أن المراد بالقصر إدخال التخفيف في أدائها وهو أن يكتفي بالإيماء والإشارة عن الركوع والسجود. و القول الأول أصح ويدل عليه لفظة من في قوله أن تقصروا من الصلاة ولفظة من هنا للتبعيض وذلك يوجب جواز الاقتصار على بعض الصلاة فثبت بهذا أن تفسير القصر بإسقاط بعض ركعات الصلاة أولى إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ يعني يغتالكم ويقتلكم في الصلاة الَّذِينَ كَفَرُوا ذهب داود الظاهري إلى أن جواز القصر مخصوص بحال الخوف واستدل على صحة مذهبه بقوله تعالى : إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ولأن عدم الشرط يقتضي عدم المشروط فعلى هذا لا يجوز القصر عند الأمن ولا يجوز رفع هذا الشرط بخبر الآحاد لأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر واحد ، وذهب جمهور أهل العلم إلى أن القصر في حال الأمن في السفر جائز ويدل عليه ما روي عن يعلى بن أمية. قال : قلت لعمر بن الخطاب ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقد أمن الناس فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن ذلك فقال : (صدقة تصدق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته) أخرجه مسلم وعن عبد اللّه بن خالد بن أسيد أنه قال لابن عمر كيف تقصرون الصلاة وإنما قال اللّه تعالى ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقال ابن عمر يا ابن أخي : (إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أتانا ونحن في ضلال فعلمنا فكان فيما علمنا أن أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر). أخرجه النسائي وعن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا رب العالمين فصلى ركعتين أخرجه الترمذي والنسائي وأجاب الجمهور عن قوله تعالى إن خفتم أن كلمة إن تفيد حصول الشرط ولا يلزم عند عدم الشرط عدم المشروط فقوله تعالى : إِنْ خِفْتُمْ يقتضي أن عند عدم الخوف لا تحصل رخصة القصر. وإذا كان كذلك كانت الآية ساكتة عن حال الأمن فإثبات الرخصة حال الأمن بخبر الواحد يكون إثباتا لحكم سكت عنه القرآن وذلك غير ممتنع إنما الممتنع إثبات الحكم بخبر الواحد على خلاف ما دل عليه القرآن. فإن قلت إذا كان هذا الحكم ثابتا في حال الأمن والخوف فما فائدة تقييده بحال الخوف؟ قلت إنما نزلت الآية على غالب أسفار النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأكثرها لم يخل عن خوف العدو فذكر اللّه عز وجل هذا الشرط من حيث إنه الأغلب في الوقوع. وقوله تعالى : إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً أي ظاهر العداوة فلعلمي بهذا رخصت لكم في قصر الصلاة لئلا يجدوا إلى قتلكم واغتيالكم سبيلا وإنما قال عدوا ولم يقل أعداء لأنه يستوي فيه الواحد والجمع. (فصل في أحكام تتعلق بالآية وفيه مسائل) المسألة الأولى : في حكم القصر قصر الصلاة في حالة السفر جائز بإجماع الأمة وإنما اختلفوا في جواز الإتمام في حال السفر فذهب أكثر العلماء إلى أن القصر واجب في السفر وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة وهو قول مالك وأبي حنيفة ويدل عليه ما روي عن عائشة قالت فرض اللّه الصلاة حين فرضها ركعتين ثم أتمها في الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى. وفي رواية أخرى قالت : فرض اللّه الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر أخرجاه في الصحيحين وذهب قوم إلى جواز الإتمام في السفر ، ولكن القصر أفضل يروى ذلك عن عثمان وسعد بن أبي وقاص وإليه ذهب الشافعي وأحمد وهو رواية عن مالك أيضا. ويدل على ذلك ما روى البغوي بسند الشافعي عن عائشة قالت : كل ذلك قد فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قصر وأتم وعن عائشة أنها اعتمرت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت؟ قال أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ أخرجه النسائي وظاهر القرآن يدل على ذلك لأن اللّه تعالى قال فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ولفظة ولا جناح إنما تستعمل في الرخصة لا فيما يكون حتما ، وأجيب عن حديث عائشة فرض اللّه الصلاة ركعتين بأن معناه فرضت ركعتين أولا وزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار عليها وثبت جواز الإتمام بدليل آخر فوجب المصير إليه ليمكن الجمع بين الأحاديث ودلائل الشرع. المسألة الثانية : اختلف في صلاة المسافر إذا صلى ركعتين ركعتين هل هي مقصورة أم غير مقصورة فذهب قوم إلى أنها غير مقصورة وإنما فرض صلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر يروى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد اللّه وإليه ذهب سعيد بن جبير والسدي وأبو حنيفة فعلى هذا يكون معنى القصر المذكور في الآية هو تخفيف ركوعها وسجودها. وقد تقدم الجواب عنه وذهب قوم إلى أنها مقصورة وليست بأصل ، وهو قول مجاهد وطاوس ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد. المسألة الثالثة : ذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور ، إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح وشرط بعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو جهاد أو سفر طاعة ، ولا يجوز القصر في سفر المعصية ، وقال أبو حنيفة والثوري يجوز ذلك. المسألة الرابعة : اختلف العلماء في مسافة القصر فقال داود وأهل الظاهر يجوز القصر في قصير السفر وطويله وروي ذلك عن أنس أيضا وقال عمرو بن دينار قال لي جابر بن زيد أقصر بعرفة. وأما عامة أهل العلم فإنهم لا يجوزون القصر في السفر القصير واختلفوا في حد الطويل الذي يجوز فيه القصر. فقال الأوزاعي مسيرة يوم وكان ابن عمرو وابن عباس يقصران ويفطران في مسيرة أربعة برد هي ستة عشر فرسخا وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق وقول الحسن والزهري قريب من ذلك فإنهما قالا مسيرة يومين ، وإليه ذهب الشافعي فقال مسيرة ليلتين قاصدتين ستة عشر فرسخا كل فرسخ ثلاثة أميال فتكون ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمي والميل ستة آلاف ذراع والذراع أربعة وعشرون إصبعا معترضة معتدلة والأصبع ست شعيرات معترضات معتدلات ، وقال الثوري وأبو حنيفة وأهل الكوفة لا قصر في أقل من ثلاثة أيام. (فصل) قيل قوله تعالى : إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا كلام متصل بما بعده منفصل عما قبله وتقديره وإن خفتم روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال نزل قوله تعالى : فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ هذا القدر ثم بعد حول سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن صلاة الخوف فنزل : إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ الآية ومثل هذا في القرآن كثير يجيء الخبر بتمامه ثم ينسق عليه خبر آخر هو في الظاهر كالمتصل به وهو منفصل عنه. قوله عز وجل : ١٠٢وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ الآية روي عن ابن عباس وجابر أن المشركين لما رأوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه قاموا إلى الظهر يصلون جميعا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقال بعضهم لبعض دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم يعني صلاة العصر فإذا قاموا إليها فشدوا عليهم فاقتلوهم فنزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد إنها صلاة الخوف وإن اللّه عز وجل يقول وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فعلمه صلاة الخوف وروي عن أبي عياش الزرقي في سبب نزول هذه الآية. قال : كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلّينا الظهر فقال المشركون لقد أصبنا غرة وفي رواية غفلة ولو حملنا عليهم وهم في الصلاة فنزلت الآية بين الظهر والعصر قوله تعالى : وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ هذا الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يعني وإذا كنت يا محمد في أصحابك وشهدت معهم القتال فأقمت لهم الصلاة فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ يعني إذا حان وقت الصلاة وأقمتها لأصحابك فاجعلهم فرقتين فلتقف فرقة منهم معك فتصلّي بهم وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ اختلفوا في هؤلاء الذين أمرهم اللّه بأخذ السلاح فقيل أراد بهم الذين قاموا معه إلى الصلاة فإنهم يأخذون أسلحتهم في الصلاة ، فعلى هذا القول إنما يأخذون من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة ولا يؤذى به من إلى جنبه كالسيف والخنجر وذلك لأنه أقرب إلى الاحتياط وأمنع للعدو من الإقدام عليهم فإن كان السلاح يشغل بحركته وثقله عن الصلاة كالترس الكبير أو يؤذي من إلى جنبه كالرمح فلا يأخذه. وقيل أراد بهم الطائفة الذين بقوا في وجه العدو فإنهم يأخذون أسلحتهم للحراسة وقيل يحتمل أن يكون أمرا للفريقين بحمل السلاح لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ يعني إذا صلّى الذين معك وفرغوا من الصلاة فليكونوا من ورائكم يعني فلينصرفوا إلى المكان الذي هو في وجه العدو وللحراسة وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا يعني ولتأت الطائفة التي كان في وجه العدو فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ الركعة الثانية التي بقيت عليك ويتموا بقية صلاتهم وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ يعني أن اللّه تعالى جعل الحذر وهو التحرز والتيقظ آلة يستعملها الغازي في دفع العدو فلذلك جعله مأخوذا مع السلاح. فإن قلت لم ذكر في أول الآية الأسلحة فقط وذكر هنا الحذر والأسلحة. قلت لأن العدو قلما ينتبه للمسلمين في أول الصلاة بل يظنون كونهم قائمين في المحاربة والمقاتلة فإذا قاموا على الركعة الثانية ظهر للكفار أن المسلمين في الصلاة فحينئذ ينتهزون الفرصة في الإقدام على المسلمين فلا جرم أن اللّه تعالى أمرهم في هذا الموضع بزيادة الحذر من الكفار مع أخذ الأسلحة وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني تمنى الكفار لَوْ تَغْفُلُون َ يعني لو وجدوكم غافلين عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ يعني حوائجكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً يعني فيقصدونكم ويحملون عليكم حملة واحدة وأنتم مشتغلون بصلاتكم عن أسلحتكم وأمتعتكم فيصيبون منكم غرة فيقتلونكم. (فصل في أحكام تتعلق بالآية وصفة صلاة الخوف وفيه مسائل) المسألة الأولى : قال أبو يوسف والحسن بن زياد من أصحاب أبي حنيفة صلاة الخوف كانت خاصة بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلا يجوز لغيره بعده فعلها ، وقال المزني من أصحاب الشافعي كانت ثابتة ثم نسخت واحتجوا لصحة هذا القول بأن اللّه تعالى خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال تعالى : وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ وظاهر هذا يدل على أن إقامة الصلاة مشروطة بكون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيهم فدل على تخصيصه بها ولأن كلمة إذا تفيد الشرط وذهب جمهور العلماء والفقهاء إلى أن هذا الحكم لما ثبت في حق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بحكم هذه الآية وجب أن يثبت في حق غيره من أمته لقوله تعالى : فَاتَّبِعُوهُ ولقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (صلّوا كما رأيتموني أصلّي) ولأن ذلك إجماع الصحابة على فعلها وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه صلّى صلاة الخوف بأصحابه ليلة الهرير وكذلك أبو موسى صلّى بأصحابه بطبرستان وليس لهؤلاء مخالف من الصحابة وأجيب عن قوله تعالى : وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ بأن هذا وإن كان قد خوطب به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فإن سائر أمته داخلون في هذا الحكم فهو كقوله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ إلا أن يرد نص بتخصيصه صلّى اللّه عليه وسلّم بحكم دون أمته كقوله تعالى : خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ونظير قوله وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ قوله : خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً وإذا كان هو المخاطب بها وقد ثبت حكم أخذ الزكاة لمن بعده من الأئمة كان كذلك قوله وإذا كنت فيهم وأجيب عن لفظة إذا : بأن مقتضاه الثبوت عند الثبوت وأما العدم عند العدم فغير مسلم. المسألة الثانية : قال الخطابي : صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في أيام مختلفة وأشكال متباينة يتحرى في ذلك كله ما هو الأحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة فهي مع اختلاف صورها متفقة المعنى فمن أنواع صلاة الخوف ما إذا كان العدو في غير جهة القبلة. فرق الإمام أصحابه فرقتين فتقف طائفة وجاه العدو فتحرس ويصلّي بالطائفة الأخرى ركعة فإذا قام إلى الثانية أتموا لأنفسهم وذهبوا إلى وجاه العدو فيحرسون وتأتي الطائفة الثانية التي كانت تحرس فيصلّي بهم الركعة الثانية ويثبت جالسا في التشهد حتى يتموا لأنفسهم الصلاة ثم يسلم بهم ويدل على ذلك ما روي عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوان عمن صلّى مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وجاه العدو فصلّى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم ، ثم انصرفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالسا فأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم أخرجاه في الصحيحين الذي صلى مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هو سهل بن أبي حثمة وقد أخرجاه من رواية أخرى عنه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم صلّى بأصحابه وذكر نحوه وهذا هو مختار الشافعي لأنه أشد موافقة لظاهر القرآن وأحوط للصلاة وأبلغ في حراسة العدو ، وأما كونه أشد موافقة لظاهر القرآن فإن قوله ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك يدل على أن الطائفة الأولى قد صلّت قوله فليصلّوا معك ظاهره يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية حصلت مع الإمام وكونها أحوط لأمر الصلاة من حيث إنه لا يكثر فيها العمل من المجيء والذهاب وكونها أحوط لأمر الحرب والحراسة من حيث إنه إذا لم يكونوا في الصلاة كان أمكن للحراسة والكر والفر والهرب إن احتاجوا إليه وذهب قوم إلى أن الطائفة الأولى تصلي مع الإمام ركعة ثم تذهب إلى وجه العدو فتحرس وهم في صلاتهم ثم تأتي الطائفة الثانية فتصلي مع الإمام الركعة الثانية ويسلم الإمام ولا يسلمون هم بل يذهبون إلى وجه العدو ، وترجع الطائفة الأولى إلى موضع الإمام فتقضي بقية صلاتها ثم تذهب ثم تأتي الطائفة الثانية إلى موضع الإمام فتقضي بقية صلاتها يروى ذلك عن ابن مسعود وهو مذهب أبي حنيفة ويدل على ذلك ما روي عن ابن عمر قال صلّى اللّه عليه وسلّم صلاة الخوف قال فكبّر فصلّى خلفه طائفة منا وطائفة مواجهة للعدو فركع بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ركعة وسجد سجدتين ثم انصرفوا ولم يسلموا وأقبلوا على العدو فصفوا مكانهم وجاءت الطائفة الأخرى فصفوا خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فصلّى بهم ركعة وسجدتين ثم سلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقد تم ركعتين وأربع سجدات ثم قامت الطائفتان فصلّى كل إنسان منهم لنفسه ركعة وسجدتين. أخرجه النسائي قال أبو بكر السني سمع الزهري من ابن عمر ولم يسمع هذا منه والذي أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر قال : صلّى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو وجاء أولئك فصلّى بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ركعة ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة وفي رواية أخرى قال : صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلاة الخوف في بعض أيامه فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو فصلّى بالذين معه ركعة. وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة وقضت الطائفتان ركعة ركعة وبهذه الرواية المخرجة في الصحيحين أخذ الأوزاعي وأشهب المالكي وهو جائز عند الشافعي أيضا ثم قيل إن الطائفتين قضوا ركعتهم الباقية معا وقيل متفرقين وهو الصحيح والفرق بين الروايتين أن الطائفة الأولى أدركت أول الصلاة وهي في حكم من خلف الإمام. وأما الطائفة الثانية فلم تدرك أول الصلاة والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في حكم صلاته. المسألة الثالثة : فيما إذا كان العدو في ناحية القبلة وصورة هذا الصلاة ما روي عن جابر بن عبد اللّه قال : شهدت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلاة الخوف فصففنا صفين خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والعدو بيننا وبين القبلة فكبّر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وكبّرنا جميعا ثم ركع وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحو العدو فلما قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ثم ركع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى فقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وسلّمنا جميعا قال جابر كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم أخرجه مسلم بتمامه وأخرجه البخاري طرفا منه أنه صلّى صلاة الخوف مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في الغزوة السابقة غزوة ذات الرقاع. وبهذا الحديث أخذ الشافعي ومن وافقه فيما إذا كان العدو في جهة القبلة. المسألة الرابعة : إذا اشتد الحرب والتحم القتال صلّوا رجالا وركبانا يؤمنون بالركوع والسجود إلى أي جهة كانت هذا مذهب الشافعي ومذهب أبي حنيفة أنهم لا يصلّون في هذه الحالة فإذا أمنوا قضوا ما فاتهم من الصلاة ولصلاة الخوف صور أخر مذكورة في كتب الفقه وليس هذا موضعها واللّه أعلم. وقوله تعالى : وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي ولا إثم ولا حرج عليكم إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ قال ابن عباس : رخص اللّه لهم في وضع السلاح في حال المطر وحال المرض لأن السلاح يثقل حمله في هاتين الحالتين وَخُذُوا حِذْرَكُمْ يعني راقبوا عدوكم ولا تغفلوا عنه أمرهم اللّه بالتحفظ والتحرز والاحتياط لئلا يتجرأ العدو عليهم قال ابن عباس : نزلت في النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وذلك أنه غزا بني محارب وبني أنمار فنزلوا ولا يرون من العدو أحدا فوضع الناس السلاح فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لحاجة حتى قطع الوادي والسماء ترش بالمطر فسال الوادي فحال السيل بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وبين أصحابه فجلس تحت شجرة فبصر به غورث بن الحارث المحابي فقال : قتلني اللّه إن لم أقتله ثم انحدر من الجبل ومعه السيف ولم يشعر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلا وهو قائم على رأسه وقد سل السيف من غمده وقال يا محمد من يمنعك مني الآن؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (اللّه عز وجل) ثم قال اللّهم اكفني غورث بن الحارث بما شئت فأهوى غورث بالسيف ليضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم به فأكب لوجهه من زلخة زلخها فندر السيف من يده فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخذ السيف ثم قال يا غورث من يمنعك مني الآن؟ فقال لا أحد فقال أتشهد أن لا إله إلّا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله وأعطيك سيفك فقال : لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوا فأعطاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سيفه فقال غورث لأنت خير مني فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أجل أنا أحق بذلك منك فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا له : ويلك يا غورث ما منعك منه فقال واللّه لقد أهويت إليه بالسيف لأضربه به فو اللّه ما أدري من زلخني بين كتفي فخررت لوجهي وذكر حاله لهم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : وسكن الوادي فقطع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الوادي إلى أصحابه وأخبرهم الخبر وقرأ هذه الآية : وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى قال ابن عباس : كان عبد الرحمن بن عوف جريحا فنزلت فيه أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم يعني من عدوكم إِنَّ اللّه أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً يعني يهانون به. قوله عز وجل : ١٠٣فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ يعني فإذا فرغتم من صلاة الخوف فَاذْكُرُوا اللّه يعني بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وأثنوا على اللّه في جميع أحوالكم قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فإن ما أنتم عليه من الخوف جدير بالمواظبة على ذكر اللّه عز وجل والتضرع إليه (ق) عن عائشة قالت كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يذكر اللّه في كل أحيانه وقيل المراد بالذكر الصلاة يعني فصلّوا للّه قياما يعني في حال الصحة وقعودا في حال المرض وعلى جنوبكم يعني في حال الزمانة والجراح فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ يعني فإذا أمنتم وسكنت قلوبكم. وأصل الطمأنينة سكون القلب فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني فأتموها أربعا فعلى هذا يكون المراد بالطمأنينة ترك السفر والمعنى فإذا صرتم مقيمين في أوطانكم فأقيموا الصلاة تامة أربعا من غير قصر. وقيل معناه فأقيموا الصلاة بإتمام ركوعها وسجودها فعلى هذا يكون المراد بالطمأنينة سكون القلب عن الاضطراب والأمن بعد الخوف إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً يعني فرضا موقتا والكتاب هنا بمعنى المكتوب يعني مكتوبة موقتة في أوقات محدودة فلا يجوز إخراجها عن أوقاتها على أي حال كان من خوف أو أمن وقيل معناه فرضا واجبا مقدرا في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين. قوله تعالى : ١٠٤وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ سبب نزول هذه الآية أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا يوم أحد بعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في آثارهم فشكوا من ألم الجراحات فقال اللّه تعالى ولا تهنوا يعني ولا تضعفوا ، ولا تتوانوا في ابتغاء القوم يعني في طلب أبي سفيان وأصحابه ثم أورد عليهم الحجة في ذلك وألزمهم بها فقال تعالى : إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ يعني أن حصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم وليس ما تكابدون من الوجع وألم الجراح مختصا لكم بل هم كذلك فإذا لم يكن الألم مانعا لهم عن قتالكم فكيف يكون مانعا لكم عن قتالهم وكيف لا تصبرون مثل صبرهم مع أنكم أولى بالصبر منهم لأنكم مقرون بالحشر والنشر والثواب والعقاب والمشركون لا يقرون بذلك كله فأنتم أيها المؤمنون أولى بالجهاد منهم وهو قوله تعالى : وَتَرْجُونَ مِنَ اللّه ما لا يَرْجُونَ يعني وتأملون من اللّه من الثواب في الآخرة ما لا يرجعون وقيل ترجون النصر والظفر في الدنيا وإظهار دينكم على الأديان كلها وَكانَ اللّه عَلِيماً حَكِيماً يعني أنه تعالى لا يأمركم بشيء إلا وهو يعلم أنه مصلحة لكم. قوله عز وجل : ١٠٥إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ قال ابن عباس نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعا من جار له يقال له قتادة بن النعمان وكانت الدرع في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له زيد بن السمين فالتمست الدرع عند طعمة فحلف باللّه ما أخذها وما له بها من علم فقال أصحاب الدرع : لقد رأينا أثر الدقيق حتى دخل داره فلما حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي فأخذوه فقال اليهودي : دفعها إلي طعمة بن أبيرق زاد في الكشاف وشهد له جماعة من اليهود. قال البغوي : وجاء بنو ظفر قوم طعمة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وسألوه أن يجادل عن صاحبهم طعمة فهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يعاقب اليهودي وأن يقطع يده فأنزل اللّه هذه الآية وقيل إن زيد بن السمين أودع الدرع عند طعمة فجحده طعمة اللّه فأنزل هذه الآية : إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يعني يا محمد الكتاب يعني القرآن بالحق يعني بالصدق وبالأمر والنهي والفصل لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللّه يعني بما علمك اللّه وأوحى إليك وإنما سمي العلم اليقيني رؤية لأنه جرى مجرى الرؤية في قوة الظهور روي عن عمر أنه قال لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني اللّه فإن اللّه لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم ولكن ليجهد رأيه لأن الرأي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان مصيبا ، لأن اللّه تعالى كان يريه إياه وإن رأي أحدنا يكون ظنا ولا يكونعلما قال المحققون دلت هذه الآية على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما كان يحكم إلا بالوحي الإلهي والنص المنزل عليه وَلا تَكُنْ يعني يا محمد لِلْخائِنِينَ خَصِيماً يعني ولا تكن لأجل الخائنين وهم قوم طعمة تخاصم عنهم وتجادل عن طعمة مدافعا عنه ومعينا له ١٠٦وَاسْتَغْفِرِ اللّه يعني مما هممت به من معاقبة اليهودي وقيل من جدالك عن طعمة إِنَّ اللّه كانَ غَفُوراً يعني لذنوب عباده يسترها عليهم ويغفرها لهم رَحِيماً يعني بعباده المؤمنين. (فصل) وقد تمسك بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنب من الأنبياء وقالوا لو لم يقع من الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ذنب لما أمر بالاستغفار والجواب عما تمسكوا به من وجوه : أحدها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يفعل المنهي عنه في قوله ولا تكن للخائنين خصما ولم يخاصم عن طعمة لما سأله قومه أن يذب عنه أن يلحق السرقة باليهودي فتوقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن ذلك وانتظر ما يأتيه من الوحي السماوي والأمر الإلهي فنزلت هذه الآية وأعلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأن طعمة كذاب وأن اليهودي بريء من السرقة. وإنما مال صلّى اللّه عليه وسلّم إلى نصرة طعمة وهمّ بذلك بسبب أنه في الظاهر من المسلمين فأمره اللّه بالاستغفار لهذا القدر. الوجه الثاني أن قوم طعمة لما شهدوا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ببراءة طعمة من السرقة ولم يظهر في الحال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما يوجب القدح في شهادتهم همّ بأن يقضي على اليهودي بالسرقة فلما أطلعه اللّه على كذب قوم طعمة عرف أنه لو وقع ذلك الأمر لكان خطأ في نفس الأمر فأمره اللّه بالاستغفار منه وإن كان معذورا. الوجه الثالث يحتمل أن اللّه تعالى أمره بالاستغفار لقوم طعمة لذبهم عن طعمة فإن استغفاره صلّى اللّه عليه وسلّم يحتمل أن يكون لذنب قد سبق قبل النبوة وأن يكون لذنوب أمته. الوجه الرابع أن درجة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أعلى الدرجات ومنصبه أشرف المناصب فلعلو درجته وشرف منصبه وكمال معرفته باللّه عز وجل فما يقع منه على وجه التأويل أو السهو أو أمر من أمور الدنيا فإنه ذنب بالنسبة إلى منصبه صلّى اللّه عليه وسلّم كما قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين. وذلك بالنسبة إلى منازلهم ودرجاتهم واللّه أعلم. قوله تعالى : ١٠٧وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ يعني ولا تجادل يا محمد عن الذين يظلمون أنفسهم بالخيانة وهم طعمة ومن عاونه وذب عنه من قومهم وإنما سماهم خائنين لأن من أقدم على ذنب فقد خان نفسه لأنه أوقعها في العذاب وحرمها من الثواب ولهذا قيل لمن ظلم غيره إنما ظلم نفسه وقيل المراد بهذا الجمع كل من خان خيانة أي فلا تخاصم الخائن ولا تجادل عنه إِنَّ اللّه لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً يعني خوانا بسرقة الدرع أثيما برميه اليهودي وهو بريء وإنما قال تعالى خوانا أثيما على المبالغة لأنه تعالى علم من طعمة الإفراط في الخيانة وركوب المآثم. ويدل على ذلك أنه لما نزل فيه القرآن لحق مكة مرتدا عن دينه ثم عدا على الحجاج بن علاط فنقب عليه بيته فسقط عليه حجر من الحائط فلما أصبحوا أخرجوه من مكة فلقي ركبا فعرض لهم. وقال ابن السبيل ومنقطع به فحملوه حتى إذا جن عليه الليل عدا عليهم فسرقهم ثم انطلق فركبوا في طلبه فأدركوه فرموه بالحجارة حتى مات ، ومن كانت هذه حاله كان كثير الخيانة والإثم فلذلك وصفه اللّه تعالى بالمبالغة في الخيانة والإثم قال بعضهم إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات. ويروى عن عمر أنه أمر بقطع يد سارق فجاءت أمه تبكي وتقول هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه يا أمير المؤمنين فقال كذبت إن اللّه لا يؤاخذ عبده في أول مرة. ١٠٨قوله عز وجل : يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ يعني يستترون حياء من الناس يريد بذلك بني ظفر بن الحارث وهم قوم طعمة بن أبيرق وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّه يعني ولا يستترون من اللّه ولا يستحيون منه وأصل الاستخفاء الاستتار وإنما فسر الاستخفاء بالاستحياء على المعنى لأن الاستحياء من الناس يوجب الاستتار منهم وَهُوَ مَعَهُمْ يعني واللّه معهم بالعلم والقدرة ولا يخفى عليه شيء من حالهم لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية. وكفى بذلك زجرا للإنسان عن ارتكاب الذنوب إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ يعني يضمرون ويقدرون ويزورون في أذهانهم. وأصل التبييت تدبير الفعل بالليل وذلك أن قوم طعمة قالوا فيما بينهم : نرفع الأمر إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فإنه يسمع قول طعمة ويقبل يمينه لأنه مسلم ولا يسمع قول اليهودي لأنه كافر فلم يرض اللّه تعالى بذلك منهم فأطلع نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم على سرهم وما هموا به وَكانَ اللّه بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً يعني أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أسرار عباده وهو مطلع عليهم محيط بهم لا تخفى عليه خافية ١٠٩ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ها للتنبيه يعني يا هؤلاء الذين هو خطاب لقوم من المؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وعن قومه جادَلْتُمْ عَنْهُمْ يعني خاصمتم عنهم بسبب أنهم كانوا يرونهم في الظاهر مسلمين وأصل الجدال شدة الفتل لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يفتل صاحبه عما هو عليه والمعنى هبوا إنكم خاصمتم وجادلتم عن طعمة وقومه في الحياة الدنيا وقيل هو خطاب لقوم طعمة وفي قراءة ابن مسعود : جادلتم عنه والمعنى هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة في الحياة الدنيا فَمَنْ يُجادِلُ اللّه عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني إذا أخذه بعذابه فهو استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع : أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا يعني محافظا ومحاميا عنهم من بأس اللّه إذا نزل بهم. ١١٠قوله تعالى : وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ نزلت هذه الآية في ترغيب طعمة في التوبة وعرضها عليه. وقيل نزلت في قومه الذين جادلوا عنه وقيل هي عامة في كل مسيء ومذنب لأن خصوص السبب لا يمنع من إطلاق الحكم ومعنى الآية ومن يعمل سوءا يسيء به غيره كما فعل طعمة بالسرقة من قتادة وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن ذلك يكون في الأكثر إيصالا للضرر إلى الغير أو يظلم نفسه يعني فيما يختص به من الحلف الكاذب ونحو ذلك. وقيل معناه ومن يعمل سوءا أي قبيحا أو يظلم نفسه يرميه البريء وقيل السوء كل ما يأثم به الإنسان والظلم هو الشرك فما دونه ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّه يعني من ذنوبه يَجِدِ اللّه غَفُوراً رَحِيماً ففي هذه الآية دليل على حكمين : أحدهما أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب الكبائر والصغائر لأن قوله ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه عم الكل. والحكم الثاني أن ظاهر الآية يقتضي أن مجرد الاستغفار كاف. وقال بعضهم إنه مقيد بالتوبة لأنه لا ينفع الاستغفار مع الإصرار على الذنوب. ١١١وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً يعني ومن يعمل ذنبا يأثم به فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ يعني إنما يعود وبال كسبه عليه والكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة فكأنه تعالى يقول يا أيها الإنسان إن الذنب الذي ارتكبته إنما عادت مضرته عليك فإني منزه عن الضر والنفع فأكثر من الاستغفار ولا تيأس من قبول التوبة فإني لغفار لمن تاب وهذه الآية نزلت في طعمة أيضا وَكانَ اللّه عَلِيماً يعني بسارق الدرع حَكِيماً يعني إذا حكم عليه بالقطع وقيل معناه عليها بما في قلب عبده عند إقدامه على التوبة حكيما تقتضي حكمته أن يتجاوز عن التائب ويغفر له ويقبل توبته وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً قيل إن الخطيئة هي الصغيرة منم الذنوب والإثم هو الكبيرة وقيل الخطيئة هي الذنب المختص بفاعله والإثم الذنب المتعدي إلى الغير وقيل إن الخطيئة هي سرقة الدرع والإثم هو يمينه الكاذبة ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً يعني ثم يقذف بما جناه بريئا منه وهو نسبة السرقة إلى اليهود ولم يسرق. فإن قلت الخطيئة والإثم اثنان فكيف وحد الضمير في قوله ثم يرم به قلت معناه ثم يرم بأحد هذين المذكورين بريئا وقيل معناه ثم يرم بهما فاكتفى ب أحدهما عن الآخر وقيل إنه يعود الضمير إلى الإثم وحده لأنه أقرب مذكور وقيل إن الضمير يعود إلى الكسب ومعناه ثم يرم بما سكب بريئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً البهتان من البهت وهو الكذب الذي يتحير في عظمه وَإِثْماً مُبِيناً يعني ذنبا بينا لأنه بكسب الإثم آثم وبرميه البريء باهت فقد جمع بين الأمرين. قوله عز وجل : وَلَوْلا فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ هذه الآية متعلقة بقصة طعمة بن أبيرق وقومه حيث لبسوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر صاحبهم. فقوله تعالى فلو لا فضل اللّه عليك يعني يا محمد بالنبوة ورحمته يعني بالعصمة وما أوحى إليك من الاطلاع على أسرارهم فهو خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يعني من بني ظفر وهم قوم طعمة أَنْ يُضِلُّوكَ يعني عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل وقيل معناه يخطئوك في الحكم ويلبسوا عليك الأمر حتى تدفع عن طعمة وذلك لأن قوم طعمة عرفوا أنه سارق ثم سألوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يدفع عنه وينزهه عن السرقة ويرمي بها اليهودي وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يعني أن وبال ذلك يرجع عليهم بسبب تعاونهم على الإثم وبشهادتهم له أنه بريء فهم لما قدموا على ذلك رجع وباله عليهم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ يعني أنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل فأنت ما وقعت فيه لأنك بنيت الأمر على ظاهر الحال وما خطر ببالك أن الأمر على خلاف ذلك وقيل معناه وما يضرونك من شيء في المستقبل فوعده اللّه إدامة العصمة وإنه لا يضره أحد وَأَنْزَلَ اللّه عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن وَالْحِكْمَةَ يعني القضاء بما يعني وأوجب بهما بناء الحكم على الظاهر فكيف يضرونك بإلقائك في الشبهات وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ يعني من أحكام الشرع وأمور الدين وقيل علمك من علم الغيب ما لم تكن تعلم وقيل معناه وعلمك من خفيات الأمور وأطلعك على ضمائر القلوب وعلمك من أحوال المنافقين وكيدهم ما لم تكن تعلم وَكانَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ عَظِيماً يعني ولم يزل فضل اللّه عليك يا محمد عظيما فاشكره على ما أولاك من إحسانه ومن عليك بنبوته وعلمك ما أنزل عليك من كتابه وحكمته وعصمك ممن حاول إضلالك فإن اللّه هو الذي تولاك بفضله وشملك بإحسانه وكفاك غائلة من أرادك بسوء ففي هذه الآية تنبيه من اللّه عز وجل لنبيه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم على ما حباه من ألطافه وما شمله من فضله وإحسانه ليقوم بواجب حقه. قوله تعالى : ١١٤لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ يعني من نجوى قوم طعمة وقيل هي عامة في جميع ما يتناجى الناس به والنجوى هي الإسرار في التدبير وقيل النجوى ما تفرد بتدبيره قوم سرا كان ذلك أو جهرا وناجيته ساررته وأصله أن يخلو في نجوة من الأرض وقيل أصله من النجي والمعنى لا خير في كثير مما يدبرونه ويتناجون فيه إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ يعني إلّا في نجوى من أمر بصدقة وقيل معناه لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلّا فيما كان من أعمال الخير وقيل هو استثناء منقطع تقديره لكن من أمر بصدقة وحث عليها أَوْ مَعْرُوفٍ يعني أو أمر بطاعة اللّه وما يجيزه الشرع وأعمال البر كلها معروف لأن العقول تعرفها أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ يعني الإصلاح يبن المتباينين والمتخاصمين ليتراجعا إلى ما كانا فيه من الألفة والاجتماع على ما أذن اللّه فيه وأمر به. عن أبي الدرداء قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى يا رسول اللّه قال إصلاح ذات البين وإن فساد ذات البين هي الحالقة) أخرجه الترمذي وأبو داود وقال الترمذي ويروى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : (هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين) (خ) عن سهل بن سعد أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : (اذهبوا بنا نصلح بينهم) (ق) عن أم مكتوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين أو قال بين الناس فيقول خيرا أو ينمى خيرا) زاد مسلم في رواية قالت ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلّا فيما في ثلاث : يعني الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل زوجته وحديث المرأة زوجها وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يعني هذه الأشياء التي ذكرت ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّه يعني طلب رضاه لأن الإنسان إذا فعل ذلك خالصا لوجه اللّه نفعه وإن فعله رياء وسمعة لم ينفعه ذلك لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (إنما الأعمال بالنيات) الحديث فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ يعني في الآخرة إذا فعل ذلك ابتغاء مرضاة اللّه أَجْراً عَظِيماً لاحد له لأن اللّه سماه عظيما وإذا كان كذلك فلا يعلم قدره إلّا اللّه قوله عز وجل : ١١٥وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ نزلت في طعمة أيضا وذلك أنه لما سرق وظهرت عليه السرقة خاف على نفسه القطع والفضيحة فهرب إلى مكة كافرا مرتدا عن الدين فأنزل اللّه عز وجل فيه : وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ يعني يخالفه في التوحيد والإيمان وأصله من المشاقة وهي كون كل واحد منهما في شق غير شق الآخر مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي وضح له التوحيد والحدود وظهر له صحة الإسلام وذلك لأن طعمة كان قد تبين له بما أنزل فيه وأظهر من سرقته ما يدل على صحة دين الإسلام فعادى الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وأظهر الشقاق ورجع عن الإسلام وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يعني ويتبع غير طريق المؤمنين وما هم عليه من الإيمان وتبيع عبادة الأوثان نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نكله في الآخرة إلى ما تولى في الدنيا ونتركه وما اختار لنفسه وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ يعني ونلزمه جهنم وأصله من الصلي وهو لزوم النار وقت الاستدفاء وَساءَتْ مَصِيراً يعني وبئس المرجع إلى النار. روي أن الشافعي سئل عن آية من كتاب اللّه تدل على أن الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى استخرج هذه الآية وهي قوله تعالى : وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وذلك لأن اتباع غير سبيل المؤمنين وهي مفارقة الجماعة حرام فوجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين ولزوم وجماعتهم واجبا وذلك لأن اللّه تعالى ألحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين فثبت بهذا أن إجماع الأمة حجة. قوله عز وجل : إِنَّ اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ نزلت في طعمة بن أبيرق أيضا لكونه مات مشركا وقال ابن عباس نزلت هذه الآية في شيخ من الأعراب جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا نبي اللّه إني شيخ منهمك في الذنوب غير أني لم أشرك باللّه منذ عرفته وآمنت به ولم اتخذ منه دونه وليا ولم أواقع المعاصي جراءة على اللّه عز وجل وما توهمت طرفة عين أني أعجز اللّه هربا وإني لنادم تائب مستغفر فما حالي عند اللّه فأنزل اللّه هذه الآية : إِنَّ اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فهذا نص صريح بأن الشرك غير مغفور إذا مات صاحبه عليه لأنه قد ثبت أن المشرك إذا تاب من شركه وآمن قبلت توبته وصح إيمانه وغفرت ذنوبه كلها التي عملها في حال الشرك وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ يعني ما دون الشرك لِمَنْ يَشاءُ يعني لمن يشاء من أهل التوحيد قال العلماء لما أخبر اللّه أنه يغفر الشرك بالإيمان والتوبة علمنا أنه يغفر ما دون الشرك بالتوبة وهذه المشيئة فيمن لم يتب من ذنوبه من أهل التوحيد فإذا مات صاحب الكبيرة أو الصغيرة من غير توبة فهو على خطر المشيئة إن شاء غفر له وأدخله الجنة بفضله ورحمته وإن شاء عذبه ثم يدخله الجنة بعد ذلك وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّه فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً يعني فقد ذهب عن طريق الهدى وحرم الخير كله إذا مات على شركه فإن قلت لم كررت هذه الآية بلفظ واحد في موضعين من هذه السورة وما فائدة ذلك. فلت فائدة ذلك التأكيد أو لأن الآية المتقدمة نزلت في سبب. ونزلت هذه الآية في سبب آخر وهو أن الآية المتقدمة نزلت في سبب سرقة طعمة بن أبيرق ونزلت هذه الآية في سبب ارتداده وموته على الشرك. قوله عز وجل : ١١٧إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً نزلت في أهل مكة يعني ما يعبدون من دون اللّه إلّا إناثا لأن كل من عبد شيئا فقد دعاه لحاجته وفي قوله إناثا أقوال أحدها إنهم كانوا يسمون أصنامهم بأسماء الإناث فيقولون اللات والعزى ومناة قال الحسن كانوا يقولون لصنم كل قبيلة أنثى بني فلان والقول الثاني إناثا يعني أمواتا. قال الحسن : كل شيء لا روح فيه كالحجر والخشبة هو إناث قال الزجاج والموات كلها يخبر عنها كما يخبر من المؤنث تقول هذه الحجر تعجبني وهذه الدراهم تنفعني. ولأن الأنثى أنزل درجة من الذكر والميت أنزل درجة من الحي كما أن الموت أنزل من الحيوان وقد يطلق اسم الأنثى على الجمادات والقول الثالث إن بعضهم كان يعبد الملائكة ويقول هن بنات اللّه وَإِنْ يَدْعُونَ أي وما يعبدوا إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً قال ابن عباس : لكل صنم شيطان يدخل في جوفه ويتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم فلذلك قال اللّه تعالى : وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً وقيل هو إبليس لأنه أغواهم وأغراهم على عبادتها وأطاعوه فجعلت طاعتهم له عبادة والمريد والمارد هو المتمرد العاتي الخارج عن الطاعة لَعَنَهُ اللّه أي أبعده اللّه وطرده عن رحمته وَقالَ يعني إبليس لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً يعني حظا مقدرا معلوما فكل ما أطيع فيه إبليس فهو نصيبه ومفروضة وأصل الفرض القطع وهذا النصيب هم الذين يتبعون خطواته ويقبلون وساوسه وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن طريق الحق والمراد به التزيين والوسوسة وإلّا فليس إليه من الإضلال شيء. قال بعضهم لو كانت الضلالة إلى إبليس لأضل جميع الخلق وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ قال ابن عباس يريد تسويف التوبة وتأخيرها وقال الكلبي أمنيهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث وقيل أمنيهم إدراك الجنة مع عمل المعاصي وقيل أزين لهم ركوب الأهواء والأهوال الداعية إلى العصيان وقيل أمنيهم طول البقاء في الدنيا ونعيمها ليؤثروها على الآخرة وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ يعني يقطعونها ويشقونها وهي البحيرة. وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ولا يردونها عن ماء ولا مرعى وسول لهم إبليس إن هذا قربة وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه قال ابن عباس يعني دين وتغيير دين اللّه هو تحليل الحرام وتحريم الحلال وقيل تغيير خلق اللّه هو تغيير الفطرة التي فطر الخلق عليها ويدل عليه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) وقيل يحتمل أن يحمل هذا التغيير على تغيير أحوال تتعلق بظاهر الخلق مثل الوشم ووصل الشعر ويدل عليه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لعن اللّه الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق اللّه) أخرجاه من رواية ابن مسعود ولهما عن أسماء قالت : (لعن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الواصلة والمستوصلة) وقيل تغيير خلق اللّه هو الاختصاء وقطع الآذان حتى إن بعض العلماء حرمه. وكره أنس إخصاء الغنم وجوز بعض العلماء لأن فيه غرضا ظاهرا (ق) عن سعد بن أبي وقاص قال لولا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رد على عثمان بن مظعون التبتل لاختصينا. التبتل : هو ترك النكاح والانقطاع للعبادة عن نافع قال كان ابن عمر يكره الاختصاء ويقول إن فيه نماء الخلق أخرجه مالك في الموطأ ومعناه في ترك الاختصاء نماء الخلق يعني زيادتهم. وقال ابن زيد هو التخنث وهو أن يتشبه الرجل بالنساء في حركاتهن وكلامهن ولباسهن ونحو ذلك. وقيل تغيير خلق اللّه هو أن اللّه تعالى خلق البهائم والأنعام للركوب والأكل فحرموها على أنفسهم وخلق الشمس والقمر والنجوم والنار والأحجار لمنفعة الناس فعبدوها من دون اللّه وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللّه يعني يتخذه ربا يطيعه فيما يأمره به وقيل الولي من الموالاة وهو الناصر فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً لأن طاعة الشيطان توصله إلى نار جهنم وهي غاية الخسران ، بقي في الآية سؤالان : الأول قال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا والنصيب المفروض هو الشيء المقدر القليل وقال في موضع آخر لأحتنكن ذريته إلّا قليلا وقال : لأغوينهم أجمعين إلّا عبادك منهم المخلصين. وهذا استثناء القليل من الكثير فكيف وجه الجمع فالجواب أن الكفار الذين هم حزب الشيطان وإن كانوا أكثر من المسلمين في العدد لكنهم أقل من المؤمنين في الفضل والشرف وعلو الدرجة عند اللّه والمؤمنون وإن كانوا أقل من الكفار لكنهم أكثر منهم لأن الفضل والشرف والسؤدد والغلبة في الدنيا وعلو الدرجة في الآخرة وأنشد بعضهم في هذا المعنى قال : وهم الأقل إذا تعد عشيرة والأكثرون إذا يعد السؤدد وقيل إن إبليس لما لم ينل من آدم ما أراد ورأى الجنة والنار وعلم أن لهذه أهلا ولهذه أهلا قال : لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا يعني الذين هم أهل النار. السؤال الثاني : من أين لإبليس العلم بالعواقب حتى يقول ولأضلنهم ولأغوينهم ولأمنينهم ولآمرنهم ، وقال في الأعراف وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ وقال في بني إسرائيل لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا فالجواب من ثلاثة أوجه : أحدها : أن إبليس ظن أن تقع منهم هذه الأمور التي يريدها منهم فحصل له ما ظنه ويدل على ذلك قوله تعالى : وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ. الوجه الثاني : قال ابن الأنباري المعنى لأجتهدن ولأحرصن في ذلك أنه كان يعلم الغيب. الوجه الثالث : قال الماوردي من الجائز أن يكون قد علم ذلك من الملائكة بخبر من اللّه تعالى أن أكثر الخلائق لا يؤمنون وقوله تعالى : ١٢٠يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ يعني الشيطان يعد حزبه وأولياءه ويمينهم فوعده وتمنيته إياهم ما يوقع في قلب الإنسان من طول العمر ونيل ما أراد من الدنيا ومن نعيمها ولذاتها وكل ذلك غرور فيجب على العاقل أن لا يلتفت إلى شيء منها فربما لم يطل عمره ولم يحصل له ما أراد منها ولئن طال عمره وحصل مقصوده فالموت وراءه ينغص عليه ما هو فيه وقيل يعدهم ويمنيهم بأن لا جنة ولا نار ولا بعث فاجتهدوا في تحصيل اللذات الدنيوية وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً يعني باطلا وضلالا أُولئِكَ يعني الذين اتخذوا الشيطان وليا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ يعني مرجعهم ومستقرهم جهنم وَلا يَجِدُونَ عَنْها يعني عن جهنم مَحِيصاً يعني مفرا ومعدلا يعني لا يعدلون عنها إلى غيرها ولا بد لهم من ورودها والخلد فيها ولما ذكر وعيد الكفار أتبعه بوعد المؤمنين فقال تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني من تحت المساكن والغرف خالِدِينَ فِيها يعني في الجنات أَبَداً بلا انتهاء ولا غاية والأبد عبارة عن مدة الزمان الممتد الذي لا انقطاع له ولا يتجزأ كما يتجزأ غيره من الأزمنة لأنه لا يقال أبد كذا كما يقال زمن كذا وفي قوله : خالِدِينَ فِيها أَبَداً دليل على أن الخلود لا يفيد التأبيد والدوام لأنه لو أفاد ذلك لزم التكرار وهو خلاف الأصل فعلم من ذلك أن الخلود عبارة عن طول الزمان لا على الدوام فلما أتبع الخلود بالأبد علم أنه يراد به الدوام الذي لا ينقطع. و قوله عز وجل : وَعْدَ اللّه حَقًّا يعني وعد اللّه ذلك الذي ذكر وعدا حقا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّه قِيلًا يعني ليس أحد أصدق من اللّه وهو توكيد بليغ لقوله : وَعْدَ اللّه حَقًّا قوله تعالى : لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ الأمنية أفعولة من التمنية والتمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها والأمنية هي الصورة الحاصلة في النفس من تمنى الشيء إذا وقع في نفسه وأراده في المخاطب بقوله : لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ قولان : أحدهما أنه خطاب للمسلمين وأهل الكتاب اليهود والنصارى وذلك أنهم افتخروا فقال أهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى باللّه منكم. وقال المسلمون نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أولى باللّه منكم. والقول الثاني أنه خطاب لمشركي مكة في قولهم لا نبعث ولا نحاسب وخطاب لأهل الكتاب في قولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة. والمعنى ليس الأمر بالأماني إنما الأمر بالعمل الصالح مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قال الضحاك يقول : ليس لكم ما تمنيتم وليس لأهل الكتاب ما تمنوا ولكن من عمل سوءا يعني شركا فمات عليه يجز به النار. وقال الحسن هذا في حق الكفار خاصة لأنهم يجازون بالعقاب على الصغير والكبير ولا يجزى المؤمن بسيئ عمله يوم القيامة ولكن يجزى بأحسن عمله ويتجاوز عن سيئاته ويدل على صحة هذا القول سياق الآية وهو قوله : وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّه وَلِيًّا وَلا نَصِيراً وهذا هو الكافر ، فأما المؤمن فله ولي ونصير. وقال آخرون هذه الآية في حق كل من عمل سوءا من مسلم ونصراني وكافر. قال ابن عباس هي عامة في حق كل من عمل سوءا يجز به إلا أن يتوب قبل أن يموت فيتوب اللّه عليه. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين مشقة شديدة وقالوا يا رسول اللّه وأينا من لم يعمل سوءا غيرك فكيف الجزاء؟ قال منه ما يكون في الدنيا فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشر حسناته وبقيت له تسع حسنات فويل لمن غلبت آحاده أعشاره. وأما من كان جزاؤه في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر في الفضل فيعطى الجزاء في الجنة فيؤتى كل ذي فضل فضله ويدل على صحة هذا القول ما روي عن أبي هريرة قال لما نزلت مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ بلغت من المسلمين مبلغا شديدا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها) أخرجه مسلم وعن أبي بكر الصديق قال كنت عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت : مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّه وَلِيًّا وَلا نَصِيراً فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت عليّ قلت بلى يا رسول اللّه قال فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقساما في ظهري فتمطيت لها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما شأنك يا أبا بكر؟ قلت يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي وأينا لم يعمل سوءا وإنا لمجزيون بأعمالنا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (أما أنت يا أبا بكر والمؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا اللّه وليس عليكم ذنوب. وأما الآخرون فيجتمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وفي إسناده مقال وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي بكر وليس له إسناد صحيح وقوله : (و لا يجد له من دون اللّه وليا ولا نصيرا) قال ابن عباس : يريد وليا يمنعه ولا نصيرا ينصره فإن قلنا إن هذه الآية خاصة في حق الكفار فتأويلها ظاهر وإن قلنا إنها في حق كل عامل سوء من مسلم وكافر فإنه لا ولي لأحد من دون اللّه يوم القيامة ولا ناصر. فالمؤمنون لا ولي لهم غير اللّه وشفاعة الشافعين تكون بإذن اللّه فليس يمنع أحد أحدا عن اللّه وقوله تعالى : ١٢٤وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ قال مسروق لما نزلت من يعمل سوءا يجز به قال أهل الكتاب نحن وأنتم سواء فنزلت هذه الآية قال المفسرون بيّن اللّه تعالى بهذه الآية فضيلة المؤمنين على غيرهم ولفظة من في قوله من الصالحات للتبعيض ، لأن أحدا لا يقدر أن يستوعب جميع الصالحات بالعمل فإذا عمل بعضها استحق الثواب فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً النقير نقرة في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة قال ابن عباس يريد لا ينقصون قدر نقرة النواة وهذا على سبيل المبالغة في نفي الظلم ووعد بتوفية جزاء أعمالهم من غير نقصان قوله عز وجل : ١٢٥وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه وَهُوَ مُحْسِنٌ لما بيّن اللّه تعالى أن الجنة لمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن شرح الإيمان وبين فضله فقال تعالى : وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً يعني ومن أحكم دينا والدين هو المشتمل على كمال العبودية والخضوع والانقياد للّه عز وجل وهو الذي كان عليه إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم. واعلم أن دين الإسلام مبني على أمرين : أحدهما الاعتقاد وإليه الإشارة بقوله : أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه يعني انقاد للّه وخضع له في سره وعلانيته وقيل معناه أخلص طاعته للّه وقيل فوض أمره إلى اللّه. الأمر الثاني من مباني الإسلام العمل وإليه الإشارة بقوله : وَهُوَ مُحْسِنٌ يعني في عمله للّه فيدخل فيه فعل الحسنات والمفروضات والطاعات وترك السيئات وقال ابن عباس في تفسير قوله : (و هو محسن) يريد وهو موحد للّه عز وجل لا يشرك به شيئا قال العلماء وإنما صار دين الإسلام أحسن الأديان لأن فيه طاعة اللّه ورضاه وهما أحسن الأعمال. وإنما خص الوجه بالذكر في قوله : أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه لأنه أشرف الأعضاء فإذا انقاد الوجه للّه وخضع له فقد انقاد للّه جميع الأعضاء لأنها تابعة له وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ يعني دين إبراهيم عليه السلام حَنِيفاً يعني مسلما مخلصا والحنيف المائل ومعناه المائل عن الأديان كلها إلى الإسلام لأن كل ما سواه من الأديان باطل وحنيفا يجوز أن يكون حالا لإبراهيم ويجوز أن يكون حالا للمتبع كما تقول رأيته راكبا. قال ابن عباس ومن دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى الكعبة والطواف ومناسك الحج والختان هو نحو ذلك. فإن قلت ظاهر هذه الآية يقتضي أن شرع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم هو نفس شرع إبراهيم عليه السلام وعلى هذا لم يكن لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم شرع يستقل به وليس الأمر كذلك فما الجواب؟ قلت إن شرع إبراهيم وملته داخلان في شرع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وملته مع زيادات كثيرة حسنة خص اللّه بها محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم فمن اتبع ملة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فقد اتبع ملة إبراهيم لأنها داخلة في ملة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وشرع إبراهيم داخل في شرع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وإنما قال تعالى : وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ لأن إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم كان يدعو إلى توحيد اللّه وعبادته ولهذا خصه بالذكر لأنه كان مقبولا عند جميع الأمم فإن العرب كانوا يفتخرون بالانتساب إليه وكذا اليهود والنصارى. فإذا ثبت هذا وأن شرعه كان مقبولا عند الأمم وأن شرع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وملته هو شرع إبراهيم وملته لزم الخلق الدخول في دين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وقبول شرعه وملته. وقوله تعالى : وَاتَّخَذَ اللّه إِبْراهِيمَ خَلِيلًا يعني صفيا والخلة صفاء المودة وقيل الخلة الافتقار والانقطاع فخليل اللّه المنقطع إليه وسمي إبراهيم خليلا لأنه انقطع إلى اللّه في كل حال. وقيل الخلة الاختصاص والاصطفاء وسمي إبراهيم خليلا لأنه والى في اللّه وعادى في اللّه وقيل لأنه تخلّق بأخلاق حسنة وخلال كريمة وقيل الخليل المحب الذي ليس في محبته خلل وسمي إبراهيم خليل اللّه لأنه أحبه محبة كاملة ليس فيها نقص ولا خلل وأنشد في معنى الخلة التي هي بمعنى المحبة : قد تخللت مسلك الروح مني وبه سمي الخليل خليلا وقيل الخليل من الخلة بفتح الخاء وهي الحاجة سميت خلة للاختلال الذي يلحق الإنسان فيها وسمي إبراهيم خليلا لأنه جعل فقره وفاقته وحاجته إلى اللّه تعالى. وخلة اللّه للعبد هي تمكينه من طاعته وعصمته وتوفيقه وستر خللّه ونصره والثناء عليه فقد أثنى اللّه عز وجل على إبراهيم عليه السلام وجعله إماما للناس يقتدى به. واختلفوا في السبب الذي من أجله اتخذ اللّه إبراهيم خليلا فقال ابن عباس كان إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم أبا الضيفان وكان منزله على ظهر الطريق يضيف من مر به من الناس فأصاب الناس شدة قحط فقصد الناس باب إبراهيم يطلبون منه الطعام ، وكانت الميرة تأتيه من صديق له بمصر فبعث إبراهيم غلمانه إلى خليله الذي بمصر فقال خليله لغلمان إبراهيم لو كان إبراهيم يريد إنماء الطعام لنفسه احتملنا ذلك له وقد دخل علينا مثل ما دخل على الناس من الشدة فرجع غلمان إبراهيم بغير طعام فمروا ببطحاء من الرمل سهلة فقالوا لو حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بالميرة فإنا نستحي أن نمر بهم وإبلنا فارغة فملؤوا من ذلك الرمل الغرائر التي معهم ثم أتوا إلى إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم فأعلموه وسارة نائمة فاهتم لذلك ولمكان الناس ببابه فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار فقالت سبحان اللّه ما جاء الغلمان قالوا بلى قالت فجاؤوا بشيء قالوا نعم فقامت إلى الغرائر ففتحتها فإذا هي ملأى بأجود دقيق يكون حواري فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس فاستيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام فقال يا سارة من أين لكم هذا؟ فقالت من عند خليلك المصري فقال هذا من عند خليلي اللّه قال فيومئذ اتخذه اللّه خليلا وقيل لما أراه اللّه ملكوت السموات والأرض وحاج قومه في اللّه ودعاهم إلى توحيده ومنعهم من عبادة النجوم والشمس والقمر والأوثان وبذل نفسه للإلقاء في النيران وبذل ولده للقربان وماله للضيفان اتخذه اللّه خليلا وجعله إماما للناس يقتدى به وجعل النبوة فيه وفي ذريته وقيل إن إبراهيم عليه السلام لما كسر الأصنام وعادى قومه في اللّه عز وجل اتخذه اللّه خليلا وقيل لما دخل عليه الملائكة فظنهم ضيفا فقرب إليهم عجلا مشويا وقال كلوا على شرط أن تسموا اللّه في أوله وتحمدوه في آخره فقال جبريل أنت خليل اللّه فمن يومئذ سمي إبراهيم خليل اللّه (م) عن أنس قال : (جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا خير البرية فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك إبراهيم خليل اللّه). (فصل) وقد اتخذ اللّه محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا فقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : (لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا) وعن ابن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : (لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكنه أخي وصاحبي وقد اتخذ اللّه صاحبكم خليلا) أخرجه مسلم فقد ثبت بهذين الحديثين الخلة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وزاد على إبراهيم عليه السلام بالمحبة فمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم خليل اللّه وحبيبه فقد جاء في حديث عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ألا وأنا حبيب اللّه ولا فخر) أخرجه الترمذي بأطول منه. قوله تعالى : ١٢٦وَللّه ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قال أهل المعاني : لما دعا اللّه الخلق إلى طاعته وعبادته والانقياد لأمره بيّن سعة ملكه ليرغب الخلق إليه بالطاعة له. وإنما قال ما في السموات وما في الأرض ولم يقل من لأنه ذهب به مذهب الجنس والذي يعقل إذا ذكر وأريد به الجنس ذكر بلفظة ما وَكانَ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً يعني عالما علم إحاطة وهو العلم بالشيء من كل وجه حتى لا يشذ عنه نوع إلا علمه وقيل يجوز أن يكون معناه محيطا بالقدرة عليه. قوله عز وجل : وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ الآية. قال ابن عباس : نزلت في بنات أم كحة وقد تقدمت قصتهن في أول السورة وقالت عائشة هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وهو وليها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من سنّة صداقها وإذا كانت غير مرغوب فيها لقلة الجمال والمال تركها ، وفي رواية قالت هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وقد شركته في ماله فيرغب عنها فلا يتزوجها لدمامتها ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه ويشركه في ماله فيحبسها حتى تموت فنهاهم اللّه عن ذلك وأنزل هذه الآية فقال ويستفتونك يعني ويستخبرونك يا محمد في شأن النساء وحالهن والاستفتاء طلب الفتوى وهو إظهار ما أشكل من الأحكام الشرعية وكشفه وتبيينه قال المفسرون والذي استفتوه فيه هو ميراث النساء وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار من الأولاد فلما نزلت آية الميراث قالوا : يا رسول اللّه كيف ترث المرأة والصغير؟ فأجابهم بهذه الآية : قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ يعني قل يا محمد اللّه يفتيكم في شأن النساء وحالهن وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ يعني يفتيك فيما يتلى عليكم والمعنى أن اللّه يفتيكم في النساء بما أنزل في كتابه عليكم وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ والغرض منه تعظيم حال هذه الآية التي تتلى عليكم وأنها في اللوح المحفوظ وأن العدل والإنصاف في حقوق اليتامى من أعظم الأمور عند اللّه تعالى التي تجب مراعاتها وأن المخل بها ظالم فِي يَتامَى النِّساءِ قيل معناه في النساء اليتامى وقيل في اليتامى أولاد النساء ، لأن الآية نزلت في يتامى أم كحة اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ يعني ما فرض لهن من الميراث وهذا على قول من يقول إن الآية نازلة في ميراث اليتامى والصغار وعلى القول الآخر معناه ما كتب لهن من الصداق وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ يعني وترغبون في نكاحهن لمالهن وجمالهن بأقل من صداقهن وقيل معناه وترغبون عن نكاحهن لقبحهن ودمامتهن وتمسكوهن رغبة في أموالهن (ق) عن عائشة قالت هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينقص صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن قالت عائشة رضي اللّه عنها فاستفتى الناس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ذلك فأنزل اللّه عز وجل : يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ إلى قوله : وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فبين لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنتها في إكمال الصداق وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها قال فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق. وقوله تعالى : وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ يعني ويفتيكم في المستضعفين من الولدان وهم الصغار أن تعطوهم حقوقهم لأن العرب في الجاهلية كانوا لا يورثون الصغار أيضا فنهاهم اللّه عن ذلك وأمرهم أن يعطوهم حقهم من الميراث وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ يعني بالعدل في مهورهن ومواريثهن وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّه كانَ بِهِ عَلِيماً يعني فيجازيكم عليه. قوله تعالى : ١٢٨ وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً (ق) عن عائشة في قوله تعالى : وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً قالت نزلت في المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها فيريد طلاقها ويتزوج غيرها فنقول له امسكني لا تطلقني ثم تزوج غيري وأنت في حل من النفقة عليّ والقسمة لي قالت فذلك قوله تعالى : فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أن يصالح بينهما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وقيل نزلت في عمرة بنت محمد بن مسلمة ويقال اسمها خولة وفي زوجها سعد بن الربيع ويقال له رافع بن خديج تزوجها وهي شابة فلما كبرت تزوج عليها امرأة أخرى شابة وآثرها عليها وجفا الأولى فأتت ابنة محمد بن مسلمة تشكو زوجها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت هذه الآية. وقيل كان رجل له امرأة قد كبرت وله منها أولاد فأراد أن يطلقها ويتزوج غيرها فقالت لا تطلقني ودعني أقوم على أولادي واقسم لي كل شهرين إن شئت وإن شئت فلا تقسم لي فقال إن كان يصلح ذلك فهو أحب إليّ فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكر له ذلك فأنزل اللّه هذه الآية : وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ يعني علمت وقيل ظنت وقيل بل المراد نفس الخوف لأن الخوف لا يحصل إلا عند ظهور الأمارات الدالة على وقوعه من بعلها يعني من زوجها. والبعل هو السيد وسمي الزوج بعلا لأنه سيد المرأة. نشوزا يعني بغضا وقيل هو ترك مضاجعتها وأصله من النشز وهو المرتفع من الأرض والنشوز قد يكون من الزوجين وهو أن يكره كل واحد منهما صاحبه فنشوز الزوج هو أن يعرض عن المرأة. وهو قوله تعالى : أَوْ إِعْراضاً يعني بوجهه عنها أو يعبس في وجهها أو يترك مضاجعتها أو يسيء عشرتها أو يشتغل بغيرها وقيل المراد من النشوز إظهار الخشونة في القول والفعل والمراد من الإعراض السكوت عن الخير والشر والإيذاء بل يعرض عنها بوجهه أو يشتغل بغيرها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما يعني فلا حرج ولا إثم على الزوج والمرأة أَنْ يُصْلِحا من المصالحة ، وقرئ أن يصلحا بضم الياء وكسر اللام من الإصلاح بَيْنَهُما صُلْحاً يعني في القسمة والنفقة وهو أن يقول الزوج للمرأة : إنك قد كبرت ودخلت في السن ، وأنا أريد أن أتزوج امرأة جميلة شابة أوثرها عليك في القسمة ليلا ونهارا فإن رضيت فأقيمي وإن كرهت ذلك فارقتك وخليت سبيلك فإن رضيت بذلك كانت هي المحسنة ولا تجبر على ذلك وإن لم ترض بدون حقها كان على الزوج أن يوفيها حقها من القسم والنفقة أو يسرحها بإحسان وإن أمسكها ووفاها حقها مع الكراهة لها كان هو المحسن قال ابن عباس : فإن صالحته على بعض حقها من القسمة والنفقة جاز وإن أنكرت ذلك بعد الصلح كان ذلك لها ولها حقها وَالصُّلْحُ خَيْرٌ يعني إقامتها بعد تخييره إياها والمصالحة على ترك بعض حقها من القسم والنفقة خير من الفرقة عن ابن عباس قال : (خشيت سودة أن يطلقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت- فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أن يصالحا بينهما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ- فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب ، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقسم لعائشة يومين يومها ويوم سودة وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ الشح أقبح البخل ، وحقيقته الحرص على منع الخير ، وإنما قال : وأحضرت الأنفس الشح لأنه كالأمر اللازم للنفوس لأنها مطبوعة عليه ، ومعنى الآية أن كل واحد من الزوجين يشح بنصيبه من الآخر فالمرأة تشح على مكانها من زوجها والرجل يشح عليها بنفسه إذا كان غيرها أحب إليه منها وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا هذا خطاب للأزواج يعني وإن تحسنوا أيها الأزواج الصحبة والعشرة وتتقوا اللّه في حق المرأة فإنها أمانة عندكم وقيل معناه وإن تحسنوا بالإقامة معها على الكراهة وتتقوا ظلمها والجور عليها. فَإِنَّ اللّه كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً يعني فيجازيكم بأعمالكم قوله عز وجل : ١٢٩وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ يعني ولن تقدروا أن تسووا بين النساء في الحب وميل القلب لأن ذلك مما لا تقدرون عليه وليس من كسبكم وَلَوْ حَرَصْتُمْ يعني على العدل والتسوية بينهن وقيل معناه ولو حرصتم على ذلك فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ يعني إلى التي تحبونها في القسم والنفقة والمعنى أنكم لستم منهيين عن حصول التفاوت في الميل القلبي لأن ذلك خارج عن قدرتكم ووسعكم ولكنكم منهيون عن إظهار ذلك الميل في القول والفعل عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط) أخرجه الترمذي وعند أبي داود (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل) وعن عائشة قالت (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقسم فيعدل فيقول اللّهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وقوله تعالى : فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ يعني فتدعوا الأخرى التي لا تميلون إليها كالمعلقة لا أيما ولا ذات بعل كالشيء المعلق لا هو في السماء ولا على الأرض. وقيل معناه فتذروها كالمسجونة لا هي مخلصة فتتزوج ولا هي ذات بعل فيحسن إليها وَإِنْ تُصْلِحُوا يعني بالعدل في القسم وَتَتَّقُوا يعني الجور في القسم فَإِنَّ اللّه كانَ غَفُوراً يعني لما حصل من الميل إلى بعضهن دون بعض رَحِيماً يعني بكم حيث لم يكلفكم ما لا تقدرون عليه وَإِنْ يَتَفَرَّقا يعني إن لم يصطلحا وأرادا الفرقة يُغْنِ اللّه كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ يعني من فضله ورزقه والمعنى يغني الزوج بامرأة أخرى والمرأة بزوج آخر. وقيل معناه يعوض الزوج بما يحب والمرأة بما تحب ويوسع عليهما وفي هذا تسلية لكل واحد من الزوجين بعد الطلاق وَكانَ اللّه واسِعاً يعني واسع الفضل والرحمة وقيل واسع القدرة والعلم والرزق وقيل هو الغني الذي وسع جميع مخلوقاته غناه حَكِيماً يعني فيما أمر به ونهى عنه. (فصل فيما يتعلق بحكم الآية) وجملته أن الرجل إذا كان تحته امرأتان أو أكثر يجب عليه التسوية بينهن في القسم فإن ترك التسوية بينهن في فعل القسم عصى اللّه عز وجل في ذلك وعليه القضاء للمظلومة والتسوية شرك في البيتوتة أما في الجماع فلا لأن ذلك يدور على النشاط وميل القلب وليس ذلك إليه ولو كان في نكاحه حرة وأمة قسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة واحدة. وإذا تزوج جديدة على قديمات كن عنده فإنه يخص الجديدة بأن يبيت عندها سبع ليال إن كانت الجديدة بكرا وإن كانت ثيبا خصها بثلاث ليال ثم إنه يستأنف القسم ويسوي بينهن ولا يجب عليه قضاء عوض هذه الليالي للقديمات ويدل على ذلك ما روى أبو قلابة عن أنس قال : (من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا وقسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا وقسم) قال أبو قلابة ولو شئت لقلت إن أنسا رفعه إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أخرجاه في الصحيحين. وإذا سافر الرجل إلى سفر حاجة جاز له أن يحمل معه بعض نسائه بشرط أن يقرع بينهن ولا يجب عليه أن يقضي للباقيات عوض مدة سفره وإن طالت إذا لم يزد مقامه في البلد على مدة المسافرين ويدل على ذلك ما روي عن عائشة قالت : (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه). أخرجه البخاري مع زيادة فيه. وإذا أراد الرجل سفر نقلة وجب عليه أخذ نسائه معه. قوله تعالى : ١٣١وَللّه ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني عبيدا وملكا قال أهل المعاني لما ذكر اللّه تعالى أنه يغني من سعته وفضله أشار إلى ما يوجب الرغبة إليه في طلب الخير منه لأن من ملك السموات والأرض لا تفنى خزائنه وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني من اليهود والنصارى وأصحاب الكتب القديمة وَإِيَّاكُمْ يعني ووصيناكم يا أهل القرآن في كتابكم أَنِ اتَّقُوا اللّه أي بأن تتقوا اللّه وهو أن توحدوه وتطيعوه وتحذروه ولا تخالفوا أمره والمعنى أن الأمر بتقوى اللّه شريعة قديمة أوصى اللّه بها جميع الأمم السالفة في كتبهم وَإِنْ تَكْفُرُوا يعني وإن تجحدوا ما أوصاكم به فَإِنَّ للّه ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني فإن للّه ملائكة في السموات والأرض هم أطوع له منكم. وقيل معناه أن اللّه تعالى خالق السموات والأرض وما فيه ومالكهن ، والمنعم عليهم بأصناف النعم ومن كان كذلك فحق لكل أحد أن يتقيه ويرجوه وَكانَ اللّه غَنِيًّا يعني عن جميع خلقه غير محتاج إليهم ولا إلى طاعتهم حَمِيداً يعني محمودا على نعمه عليهم وَللّه ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللّه وَكِيلًا قال ابن عباس يعني شهيدا على أن له فيهن عبيدا وقيل معناه وكفى باللّه دافعا ومجيرا. فإن قلت ما الفائدة في تكرير قوله تعالى : وَللّه ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قلت الفائدة في ذلك أن لكل آية معنى تخص به ، أما الآية الأولى فمعناها فإن للّه ما في السموات وما في الأرض وهو يوصيكم بتقوى اللّه فاقبلوا وصيته وقيل لما قال تعالى : وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللّه كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ بيّن أن له ما في السموات وما في الأرض وأنه قادر على إغناء جميع الخلائق وهو المستغني عنهم. وأما الآية الثانية فإنه تعالى قال : وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للّه ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ والمراد أنه تعالى منزه عن طاعات الطائعين وعن ذنوب المذنبين وأنه لا يزداد جلاله بالطاعات ولا ينقص بالمعاصي. وقيل لما بين أن له ما في السموات وما في الأرض وقال بعد ذلك : وَكانَ اللّه غَنِيًّا حَمِيداً فالمراد منه أنه تعالى هو الغني وله الملك فاطلبوا منه ما تطلبون فهو يعطيكم لأن له ما في السموات وما في الأرض. وأما الثالثة فقال تعالى : وَللّه ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللّه وَكِيلًا أي فتوكلوا عليه ولا تتوكلوا على غيره فإنه المالك لما في السموات والأرض. وقيل تكريرها تعديدها لما هو موجب تقواه لتتقوه وتطيعوه ولا تعصوه لأن التقوى والخشية أصل كل خير. قوله عز وجل : إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس : يريد المشركين والمنافقين وَيَأْتِ بِآخَرِينَ بغيركم هم خير منكم وأطوع له ففيه تهديد للكفار والمعنى أنه يهلككم أيها الكفار كما أهلك من كان قبلكم ، إذ كفروا به وكذبوا به وكذبوا رسله وَكانَ اللّه عَلى ذلِكَ قَدِيراً يعني وكان اللّه على ذلك الإهلاك وإعادة غيركم قادرا بليغا في القدرة لا يمتنع عليه شيء أراده لم يزل ولا يزال موصوفا بالقدرة على جميع الأشياء. قوله تعالى : ١٣٤مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا يعني من كان يريد بعمله عرضا من الدنيا نزلت في مشركي العرب وذلك أنهم كانوا يقرون باللّه تعالى خالقهم ولا يقرون بالبعث يوم القيامة فكانوا يقربون إلى اللّه ليعطيهم من خير الدنيا ويصرف عنهم شرها وقيل نزلت في المنافقين لأنهم كانوا لا يصدقون بيوم القيامة ، وإنما كانوا يطلبون بجهادهم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عاجل الدنيا وهو ما ينالونه من الغنيمة فَعِنْدَ اللّه ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ يعني الذين يطلبون بأعمالهم وجهادهم ثواب الدنيا وما ينالونه من الغنيمة مخطئون في قصدهم لأن اللّه عنده ثواب الدنيا وثواب الآخرة فلو كانوا عقلاء لطلبوا ثواب الآخرة حتى يحصل لهم ذلك ويحصل لهم ثواب الدنيا على سبيل التبعية والمعنى أن من أراد بعمله الدنيا آتاه اللّه منها ما أراد وصرف عنه من شرها ما أراد وليس له ثواب في الآخرة يجزى به ، ومن أراد بعمله وجه اللّه وثواب الآخرة فعند اللّه ثواب الدنيا والآخرة يؤتيه من الدنيا ما قدر له ويجزيه في الآخرة خير الجزاء وَكانَ اللّه سَمِيعاً يعني لأقوالهم وما يسرونه من طلب ثواب الدنيا بَصِيراً يعني بنياتهم وما في نفوسهم وقيل بصيرا بمن يطلب الدنيا بعمله وبمن يطلب الآخرة بعمله. قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ للّه قال السدي إن فقيرا وغنيا اختصما إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فكان صغوه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأنزل اللّه هذه الآية وأمر بالقيام بالقسط مع الغني والفقير وقيل إن هذه الآية متعلقة بقصة طعمة بن أبيرق فهي خطاب لقومه الذين جادلوا عنه وشهدوا به بالباطل ، فأمرهم اللّه تعالى أن يكونوا قائمين بالقسط شاهدين للّه على كل حال ولو على أنفسهم وأقاربهم فقال تعالى : كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ القوام مبالغة في القيام بالعدل في جميع الشهادات واجتناب الجور فيها قال ابن عباس كونوا قوامين بالعدل في جميع الشهادات على من كانت شهداء للّه يعني أقيموا شهادتكم لوجه اللّه كما أمركم فيها فيقول الحق في شهادته وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ يعني ولو كانت الشهادة على أنفسكم أمر اللّه العبد أن يشهد على نفسه بالحق وهو أن يقر على نفسه وذلك الإقرار يسمى شهادة في كونه موجبا للحق عليه أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ يعني ولو كانت الشهادة على الوالدين والأقربين من ذوي رحمه أو أقاربه والمعنى قولوا الحق ولو على أنفسكم أو على الوالدين أو الأقارب فأقيموا الشهادة عليهم للّه تعالى ولا تحابوا غنيا لغناه ولا ترحموا فقيرا لفقره فذلك قوله تعالى : إِنْ يَكُنْ يعني المشهود عليه غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّه أَوْلى بِهِما يعني منكم والمعنى كلوا أمرهم إلى اللّه تعالى فهو أعلم بهم وبحالهم وإنما قال بهما على التثنية لأن رد الضمير إلى المعنى دون اللفظ يعني فاللّه أولى بالغني والفقير فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا يعني فلا تتبعوا الهوى واتقوا اللّه أن تعدلوا عن الحق في أداء الشهادة وقيل معناه اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل ، لأن العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى وَإِنْ تَلْوُوا قرئ بواوين ومعناه أن يلوي الشاهد لسانه إلى غير الحق قال ابن عباس يلوي لسانه بغير الحق ولا يقيم الشهادة على وجهها أَوْ تُعْرِضُوا يعني أو يعرض الشاهد عن الشهادة فيكتمها ولا يقيمها يقال لويته حقه إذا دفعته عنه ومطلته به ، وقيل معناه وإن تلووا عن القيام بأداء الشهادة أو تعرضوا عنها فتتركوها وقيل معناه التحريف والتبديل في الشهادة من قولهم لويت الشيء إذا قبلته وقيل هو خطاب مع الحكام يقول وإن تلووا يعني تميلوا مع أحد الخصمين دون الآخر أو تعرضوا عنه بالكلية وقرئ تلوا بواو واحدة من الولاية فهو خطاب للحكام أيضا ومعناه فلا تلوا أمور المسلمين وتضيعوهم أو تعرضوا عنهم فَإِنَّ اللّه كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً يعني أنه تعالى يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فيجازيكم بأعمالكم. قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ قال ابن عباس نزلت في عبد اللّه بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلام ابن أخت عبد اللّه بن سلام وسلمة ابن أخيه ويامين بن يامين فهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل فقال لهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : (بل آمنوا باللّه وبرسوله محمد والقرآن وبكل كتاب كان قبله) فأنزل اللّه هذه الآية : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعني بمحمد والقرآن وبموسى والتوراة آمنوا باللّه ورسوله اسم جنس يعني آمنوا بجميع رسله وقيل هو خطاب لأهل الكتاب جميعا والمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وبعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن وقيل هو خطاب للمنافقين والمعنى يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم آمنوا بقلوبكم حتى ينفعكم الإيمان لأن الإيمان باللسان لا ينفع من غير مواطأة القلب وقيل هو خطاب للمؤمنين والمعنى يا أيها الذين آمنوا في الماضي والحال آمنوا في المستقبل ودوموا واثبتوا على الإيمان والكتاب وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ يعني القرآن وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ يعني وآمنوا بالقرآن وبجميع الكتب الذي أنزلها على أنبيائه قبل القرآن فيكون الكتاب اسم جنس لجميع الكتب وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللّه وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً قوله عز وجل : ١٣٧إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قال ابن عباس نزلت في اليهود آمنوا بموسى ثم كفروا بعبادتهم العجل ثم بعد ذلك كفروا بعيسى والإنجيل ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن وقيل إنهم آمنوا بموسى ثم كفروا بعده ثم آمنوا بداود ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقيل نزلت في المنافقين وذلك أنهم آمنوا ثم كفروا بعد الإيمان ثم آمنوا يعني بألسنتهم وهو إظهارهم الإيمان لتجري عليهم أحكام المؤمنين ثم ازدادوا كفرا يعني بموتهم على الكفر. وقيل بذنوب أحدثوها في الكفر وقيل هم قوم آمنوا ثم ارتدوا إلى الكفر ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا يعني بموتهم عليه. وذلك لأن من تكرر منه الإيمان بعد الكفر والكفر بعد الإيمان مرات كثيرة يدل على أنه لا وقع للإيمان في قلبه ، ومن كان كذلك لا يكون مؤمنا باللّه إيمانا صحيحا وازديادهم الكفر هو استهزاؤهم وتلاعبهم بالإيمان ومثل هذا المتلاعب بالدين هل تقبل توبته أم لا؟ حكي عن علي بن أبي طالب أنه قال لا تقبل توبته بل يقتل وذهب أكثر أهل العلم إلى أن توبته مقبولة. وقوله تعالى : لَمْ يَكُنِ اللّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ يعني ما أقاموا على الكفر وماتوا عليه وذلك لأن اللّه تعالى أخبر أنه يغفر الكفر إذا تاب منه بقوله قل للذين كفروا إن ينتهوا يعني عن الكفر يغفر لهم ما قد سلف يعني من كفرهم وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا يعني طريق هدى وقيل لا يجعلهم بكفرهم مهتدين. قوله تعالى : بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني أخبرهم يا محمد وإنما وضع بشر مكان أخبر تهكما بهم وقيل البشارة كل خبر تتغير به بشرة الوجه سارا كان ذلك الخبر أو غير سار وقيل معناه اجعل موضع بشارتك لهم العذاب لأن العرب يقول تحيتك الضرب أي هذا بدل من تحيتك قال الشاعر : وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع ١٣٩ثم وصف اللّه تعالى المنافقين فقال تعالى : الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يعني يتخذون اليهود أولياء وأنصارا وبطانة من دون المؤمنين وذلك أن المنافقين كانوا يقولون إن محمدا لا يتم أمره فيوالون اليهود فقال اللّه تعالى ردا على المنافقين : أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ يعني يطلبون من اليهود العزة والمعونة والظهور على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه فَإِنَّ الْعِزَّةَ للّه جَمِيعاً يعني فإن القوة والقدرة والغلبة للّه جميعا وهو الذي يعز أولياءه وأهل طاعته كما قال تعالى : وَللّه الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ يا معشر المسلمين فِي الْكِتابِ يعني القرآن أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللّه يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها قال المفسرون الذي أنزل عليهم في النهي عن مجالستهم هو قوله تعالى في سورة الأنعام : وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وهذا أنزله بمكة لأن المشركين كانوا يخوضون في القرآن ويستهزءون به في مجالسهم ثم إن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين وكان المنافقون يجلسون إليهم ويخوضون معهم في الاستهزاء بالقرآن فنهى اللّه المؤمنين عن القعود معهم بقوله : فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ يعني يأخذوا في حديث آخر غير الاستهزاء بالقرآن وبمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم قال ابن عباس دخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع إلى يوم القيامة إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ يعني أنكم يا أيها الجالسون مع المستهزئين بآيات اللّه إذا رضيتم بذلك فأنتم وهم في الكفر سواء. قال العلماء وهذا يدل على أن من رضي بالكفر فهو كافر ومن رضي بمنكر أو خالط أهله كان في الإثم بمنزلتهم إذا رضي به وإن لم يباشره فإن جلس إليهم ، ولم يرض بفعلهم بل كان ساخط له وإنما جلس على سبيل التقية والخوف فالأمر فيه أهون من المجالسة مع الرضا وإن جلس مع صاحب بدعة أو منكر ولم يخض في بدعته أو منكره فيجوز الجلوس معه مع الكراهة وقيل لا يجوز بحال والأول أصح إِنَّ اللّه جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً أي إنهم اجتمعوا في الدنيا على الاستهزاء بآيات اللّه وكذلك يجمعهم في عذاب جهنم يوم القيامة قوله عز وجل : الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ نزلت في المنافقين والمعنى ينتظرون ما يحدث بكم من خير أو شر فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّه أي ظفر على عدوكم ، وغنيمة تنالونها منهم قالُوا يعني المنافقين لكم أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ يعني في الوقعة والفتح فأعطونا من الغنيمة وقيل معناه ألم نكن على دينكم وفي الجهاد كنا معكم فاجعلوا لنا نصيبا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ أي دولة وظهور على المسلمين قالُوا يعني المنافقين للكفار أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ الاستحواذ هو الاستيلاء والغلبة يقال استحوذ فلان على فلان أي غلب عليه والمعنى أم نغلبكم ونتمكن منكم ومن قتالكم وأسركم ثم لم نفعل ذلك وقيل معناه ألم نغلبكم على رأيكم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني في صلاتهم والدخول في دينهم وقيل معناه ألم ندفع المؤمنين بتخذيلهم عنكم ومراسلتنا إياكم بأخبارهم وأسرارهم فهاتوا نصيبا مما أصبتم منهم ومراد المنافقين إظهار المنة على الكفار. فإن قلت لم سمي ظفر المؤمنين فتحا وسمي ظفر الكافرين نصيبا قلت تعظيما لشأن المؤمنين وتخسيسا لحظ الكافرين لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء حتى ينزل النصر على المسلمين وأما ظفر الكفار فما هو إلا حظ دنيء ونصيب خسيس لا يبقى منه إلا ما نالوه ولهم في الآخرة العقوبة الشديدة على ذلك النصيب الذي نالوه من المسلمين فَاللّه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني الفريقين فريق المؤمنين وفريق المنافقين والمعنى إنما وضع السيف عن المنافقين في الدنيا لا لأجل كرامتهم بل أخر عذابهم إلى يوم القيامة وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فيه قولان : أحدهما وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس أن المراد به يوم القيامة بدليل أنه عطف على قوله فاللّه يحكم بينكم يوم القيامة روي أن رجلا سأل علي بن أبي طالب عن هذه الآية : وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وهم يقتلوننا فقال ولن يجعل اللّه للكافرين يوم القيامة على المؤمنين سبيلا. والقول الثاني إن هذا في الدنيا والمعنى أن حجة المؤمنين غالبة في الدنيا على الكافرين وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة وقيل معناه إن اللّه لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا بأن يمحو دولة المؤمنين بالكلية حتى يستبيحوا بيضتهم فلا يبقى أحد من المؤمنين وقيل معناه إن اللّه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا بالشرع فإن شريعة الإسلام ظاهرة إلى يوم القيامة ويتفرع على ذلك مسائل من أحكام الفقه منها أن الكافر لا يرث المسلم ومنها أن الكافر إذا استولى على مال المسلم لم يملكه بدليل هذه الآية ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبدا مسلما ومنها أن المسلم لا يقتل بالذمي بدليل هذه الآية. قوله تعالى : ١٤٢إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللّه وَهُوَ خادِعُهُمْ يعني يعاملون اللّه وهو يجازيهم على خداعهم وقيل معناه يخادعون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأنهم يظهرون له الإسلام ويبطنون له الكفر وهو خادعهم يعني واللّه مجازيهم بالعقاب وقيل إنهم يعطون نورا يوم القيامة كما يعطى المؤمنون فيمضي المؤمنون بنورهم على الصراط ويطفأ نور المنافقين وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ يعني المنافقين قامُوا كُسالى يعني متثاقلين وسبب هذا الكسل أنهم يتعبون بها لأنهم لا يريدون بفعلها ثوابا ولا يريدون بها وجه اللّه عز وجل ولا يخافون على تركها عقابا لأن الداعي إلى فعلها خوف الناس فلذلك وقع فعلها على وجه الكسل والفتور يُراؤُنَ النَّاسَ يعني أنهم لا يقومون إلى الصلاة إلا لأجل الرياء والسمعة لا لأجل الدين ولا يرون أنها واجبة عليهم قال قتادة واللّه لولا الناس ما صلّى منافق وَلا يَذْكُرُونَ اللّه إِلَّا قَلِيلًا قال ابن عباس إنما قال ذلك لأنهم يفعلونه رياء وسمعة ولو أرادوا بذلك القليل وجه اللّه لكان كثيرا وقيل لأن اللّه لم يقبله ولو قبله لكان كثيرا وقبل المراد بذكر اللّه الصلاة والمعنى أنهم لا يصلون إلا قليلا لأنهم متى لم يكن معهم أحد من المؤمنين فلا يصلّون وإذا كانوا مع المؤمنين يتكلفون فعلها مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ يعني متحيرين مترددين بين الكفر والإيمان لأنهم ليسوا مع المؤمنين المخلصين ولا مع المشركين المصرحين بالشرك وهو قوله تعالى : لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ يعني ليسوا من المؤمنين حتى يجب لهم ما يجب للمؤمنين وليسوا من الكفار فيؤخذ منهم ما يؤخذ من الكفار وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا يعني طريقا إلى الهدى (ق) عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة) قوله كمثل الشاة العائرة بالعين المهملة ومعناه المتحيرة المترددة لا تدري لأي الغنمين تتبع ومعنى تعير تتردد وتذهب يمينا وشمالا مرة إلى هذه ومرة إلى هذه لا تدري إلى أين تذهب وهذا مثل المنافق مرة على المؤمنين ومرة مع الكافرين أو ظاهره مع المؤمنين وباطنه مع الكافرين. قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لما ذم اللّه عز وجل المنافقين بقوله مذبذبين بين ذلك نهى اللّه المؤمنين أن يتخلقوا بأخلاق المنافقين يقول لا تولوا الكفار من دون أهل ملتكم ودينكم فتكونوا كمن أوجبت له النار من المنافقين والسبب في هذا النهي أن الأنصار بالمدينة كان لهم من يهود بني النضير وقريظة حلف ومودة ورضاع فقالوا يا رسول اللّه من نتولى؟ فقال : المهاجرين أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للّه عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً يعني أتريدون أيها المتخذون الكفار أولياء أن تجعلوا للّه عليكم حجة بينة باتخاذكم الكفار أولياء من دون المؤمنين فتستوجبوا بذلك النار ثم بيّن مقر النار من المنافقين فقال تعالى : ١٤٥إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ يعني في الطبق الذي في قعر جهنم والنار سبع دركات بعضها فوق بعض سميت طبقات جهنم دركات لأنها متداركة متتابعة. وقيل الدرك بيت مقفل عليهم تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم وقيل هي توابيت من حديد مقفلة عليهم في النار. فإن قلت لم كان المنافق أشد عذابا من الكافر؟ قلت إن المنافق مثل الكافر في الكفر وزيادة وهو أنه ضم إلى كفره نوعا آخر من الكفر أخبث منه وهو الاستهزاء بالإسلام والمسلمين وإفشاء أسرار المسلمين ونقلها إلى الكفار. فلهذا السبب جعل اللّه عذاب المنافقين أشد عذابا من الكفار والمنافق من أظهر الإيمان وأبطن الكفر وقيل هو الذي يصف الإسلام بلسانه ولا يعمل بشرائعه ولا يتقيد بقيوده ولا يدخل تحت أحكامه وأما تسمية من ارتكب ما يفسق به منافقا فللتغليظ ومنه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلّى وزعم أنه مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان) فإن هذه الخصال صفات المنافقين فمن فعلها فقد تشبه بالمنافقين. وقوله تعالى : وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً يعني ولن تجد يا محمد لهؤلاء المنافقين ناصرا ينصرهم من عذاب اللّه إذا نزل بهم ثم استثنى اللّه عز وجل من تاب من المنافقين فقال تعالى : إِلَّا الَّذِينَ تابُوا يعني من النفاق وَأَصْلَحُوا يعني أصلحوا الأعمال فعملوا بما أمر اللّه به وأدوا فرائضه وانتهوا عما نهاهم عنه وَاعْتَصَمُوا بِاللّه يعني وتمسكوا بعهد اللّه ووثقوا به وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للّه يعني وأخلصوا طاعتهم وأعمالهم التي عملوها للّه وأرادوه بها ولم يريدوا رياء ولا سمعة فهذه الأمور الأربعة إذا حصلت فقد كمل الإيمان فلذلك قال تعالى : فَأُولئِكَ يعني التائبين من النفاق مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يعني في الجنة وقيل مع بمعنى من أي المؤمنين وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّه الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً يعني في الآخرة. قوله تعالى : ما يَفْعَلُ اللّه بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ هذا استفهام تقرير معناه أنه تعالى لا يعذب الشاكر المؤمن فإن تعذيبه لا يزيد في ملكه وتركه عقوبته لا ينقص من سلطانه لأنه الغني الذي لا يحتاج إلى شيء من ذلك فإن عاقب أحدا فإنما يعاقبه لأمر أوجبه العدل والحكمة فإن قمتم بشكر نعمته وآمنتم به فقد أنقذتم أنفسكم من عذابه قال أهل المعاني فيه تقديم وتأخير تقديره إن آمنتم وشكرتم لأن الإيمان مقدم على سائر الطاعات ولأن الشكر لا ينفع مع عدم الإيمان ولأن الواو لا توجب الترتيب وقيل هو على أصله والمعنى أن العاقل ينظر بعين بصيرته أولا إلى ما عليه من النعمة العظيمة في إيجاده وخلقه فيشكر على ذلك شكرا عظيما مبهما ثم إذا تمم النظر ثانيا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم عليه فآمن به ثم شكره شكرا مفصلا فكان ذلك الشكر المبهم مقدما على الإيمان فلذلك قدم الشكر على الإيمان في الذكر وَكانَ اللّه شاكِراً يعني مثيبا عباده المؤمنين موفيا أجورهم والشكر من اللّه الرضا بالقليل من أعمال عباده وإضعاف الثواب عليه وقيل لما أمر اللّه عباده بالشكر سمى الجزاء شكرا على سبيل الاستعارة فالمراد من الشاكر في صفة اللّه تعالى كونه مثيبا على الشكر عَلِيماً يعني بحق شكركم ، وإيمانكم فيجازيكم على ذلك. قوله عز وجل : لا يُحِبُّ اللّه الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ قال أهل المعاني يعني أنه تعالى لا يحب الجهر بالسوء ولا غير الجهر به أيضا من القول يعني من القول القبيح إلا من ظلم قيل هو استثناء متصل والمعنى إلا جهر من ظلم وقيل هو استثناء منقطع ومعناه لكن المظلوم يجوز أن يجهر بظلم الظالم قال العلماء لا يجوز إظهار أحوال الناس المستورة المكتومة لأن ذلك يصير سببا لوقوع الناس في الغيبة ووقوع ذلك الشخص في الريبة لكن من ظلم فيجوز له إظهار ظلمه فيقول سرق مني أو غصب ونحو ذلك. وإن شتم جاز له أن يشتم بمثله ولا يزيد شيئا على ذلك ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (المستبان ما قالا فعلى الأول (و في رواية) فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم) أخرجه مسلم قال ابن عباس : لا يحب اللّه أن يدعو أحد إلا أن يكون مظلوما فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه وذلك قوله إلا من ظلم وإن صبر فهو خير له وقال الحسن البصري هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه ولكن ليقل : اللّهم أعني عليه اللّهم استخرج لي حقي ، اللّهم حل بيني وبين ما يريد ونحوه من الدعاء وقيل نزلت الآية في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ولم يحسنوا ضيافته فله أن يشكو ما صنع به قال مجاهد : هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج من عنده فيقول أساء ضيافتي وقال مقاتل نزلت في أبي بكر الصديق وذلك أن رجلا نال منه والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم حاضر فسكت عنه أبو بكر مرارا ثم رد عليه فقام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال أبو بكر يا رسول اللّه شتمني فلم تقل له شيئا حتى إذا رددت عليه قمت قال إن ملكا كان يجيب عنك فلما رددت عليه ذهب الملك وجاء الشيطان فقمت ونزلت هذه الآية : وَكانَ اللّه سَمِيعاً يعني لدعاء المظلوم عَلِيماً بما في قلبه فليتق اللّه ولا يقل إلا الحق. قوله تعالى : ١٤٩إِنْ تُبْدُوا خَيْراً قال ابن عباس يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة والضيافة والصلة. وقيل معناه إن تبدوا خيرا بدلا من السوء أَوْ تُخْفُوهُ يعني تخفوا الخير فلم تظهروه وقيل معناه إن تبدوا حسنة فتعملوا بها تكتب لكم عشرا وإن هم بها ولم يعملها كتبت له واحدة وقيل إن جميع مقاصد الخيرات على كثرتها محصورة في قسمين : أحدهما صدق النية مع الحق. والثاني التخلق مع الخلق فالذي يتعلق بالخلق ينحصر في قسمين أيضا وهما إيصال نفع إليهم في السر والعلانية وإليه الإشارة بقوله تعالى : إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أو رفع ضر عنهم وإليه الإشارة بقوله تعالى : أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فيدخل في هاتين الكلمتين جميع أعمال البر وجميع دفع الضر ، وقيل المراد بالخير المال والمعنى إن تبدوا الصدقة فتعطوها الفقراء جهرا أو تخفوها فتعطوها سرا أو تعفوا عن مظلمة فَإِنَّ اللّه كانَ عَفُوًّا قَدِيراً يعني لم يزل ذا عفو مع قدرته على الانتقام فاعفوا أنتم عمن ظلمكم واقتدوا بسنّة اللّه عز وجل يعف عنكم يوم القيامة لأنه أهل للتجاوز والعفو عنكم وقيل معناه إن اللّه كان عفوا لمن عفا قديرا على إيصال الثواب إليه. قوله عز وجل : إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّه وَرُسُلِهِ نزلت في اليهود وذلك أنهم آمنوا بموسى والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل وبمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن وقيل نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أن اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد والنصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وعليهم أجمعين وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّه وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ يعني ويريدون أن يفرقوا بين الإيمان باللّه والإيمان برسله ولا يصح الإيمان مع التكذيب ببعض رسله وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا يعني بين الإيمان بالبعض دون البعض يتخذون مذهبا يذهبون إليه ودينا يدينون به أُولئِكَ يعني من هذه صفتهم هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا يعني يقينا وإنما قال ذلك توكيدا لكفرهم لئلا يتوهم متوهم أن الإيمان ببعض الرسل يزيل اسم الكفر عنهم وليعلم أن الكفر ببعض الأنبياء كالكفر بكلهم لأن الدليل الذي يدل على نبوة البعض وهو المعجزة لزم منه أنه حيث وجدت المعجزة حصلت النبوة وقد وجدت المعجزة لجميع الأنبياء فلزم الإيمان بجميعهم وَأَعْتَدْنا يعني وهيأنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً يعني يهانون فيه. ١٥٢وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ يعني والذين صدقوا بوحدانية اللّه ونبوة جميع أنبيائه وأن جميع ما جاءوا به من عند اللّه حق وصدق وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ يعني من الرسل بل آمنوا بجميعهم وهم المؤمنون أُولئِكَ يعني من هذه صفتهم سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ يعني جزاء إيمانهم باللّه وبجميع كتبه ورسله وَكانَ اللّه غَفُوراً رَحِيماً يعني أنه تعالى لما وعدهم بالثواب أخبرهم أنه يتجاوز عن سيئاتهم ويغفرها لهم ويرحمهم فهو كالترغيب لليهود والنصارى في الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم لأنهم إذا آمنوا غفر لهم ما كان منهم في حال الكفر. قوله تعالى : يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ يعني يسألك يا محمد أهل الكتاب ، وهم اليهود وذلك أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء من اليهود قالا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إن كنت نبيا فأتنا بكتاب جملة واحدة من السماء كما أتى موسى بالتوراة وقيل : سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن ينزل عليهم كتابا مختصا بهم وقيل سألوه أن ينزل عليهم كتابا إلى فلان وكتابا إلى فلان ليشهدا لك بأنك رسول اللّه وكان هذا السؤال من اليهود سؤال تعنت واقتراح لا سؤال استرشاد وانقياد واللّه تعالى لا ينزل الآيات على اقتراح العباد ، ولأن معجزة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كانت قد تقدمت وظهرت فكان طلب الزيادة من باب التعنت. وقوله تعالى : فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ يعني أعظم من الذي سألوك يا محمد ففيه تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وتوبيخ وتقريع لليهود حيث سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سؤال تعنت والمعنى لا تعظمن عليك يا محمد مسألتهم ذلك فإنهم من فرط جهلهم واجترائهم على اللّه لو أتيتهم بكتاب من السماء لما آمنوا بك وإنما أسند السؤال إلى اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإن وجد هذا السؤال من آبائهم الذين كانوا في أيام موسى عليه السلام لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومشاكلين لهم في التعنت فَقالُوا يعني أسلاف هؤلاء اليهود أَرِنَا اللّه جَهْرَةً يعني عيانا. والمعنى أرناه نره جهرة وذلك أن سبعين من بني إسرائيل خرجوا مع موسى عليه الصلاة والسلام إلى الجبل فقالوا ذلك وقد تقدمت القصة في سورة البقرة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ يعني بسبب ظلمهم وسؤالهم الرؤية ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ يعني إلها وهم الذين خلفهم موسى مع أخيه هارون حين خرج إلى ميقات ربه مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ يعني الدلالات الواضحات الدالة على صدق موسى وهي : العصا واليد وفلق البحر وغير ذلك من المعجزات الباهرة فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ يعني عن ذلك الذنب العظيم فلم نستأصل عبدة العجل. والمقصود من هذا تسلية النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمعنى أن هؤلاء الذين يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتابا من السماء إنما يطلبونه عنادا ولجاجا فاني قد أنزلت التوراة جملة واحدة على موسى وآتيته من المعجزات الباهرات والآيات البينات ما فيه كفاية ثم إنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد وعبدوا العجل وكل ذلك يدل على جهلهم وأنهم مجبولون على اللجاج والعناد. وفي قوله فعفونا عن ذلك استدعاء إلى التوبة. والمعنى أن أولئك الذين أجرموا لما تابوا عفونا عنهم فتوبوا أنتم نعف عنكم وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً يعني حجة واضحة تدل على صدقه وهي المعجزات الباهرات التي أعطاها اللّه عز وجل لموسى عليه السلام قوله عز وجل : وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ يعني ورفعنا فوقهم الجبل المسمى بالطور بسبب أخذ ميثاقهم وذلك أن بني إسرائيل امتنعوا من قبول التوراة والعمل بما فيها فرفع اللّه فوقهم الطور حتى أظلهم ليخافوا فلا ينقضوا العهد والميثاق وَقُلْنا لَهُمُ يعني والطور يظلهم ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً فخالفوا ودخلوا وهم يزحفون على أستاههم وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ يعني وقلنا لهم لا تجاوزوا في يوم السبت إلى ما لا يحل لكم فيه. وذلك أنهم نهوا أن يصطادوا السمك في يوم السبت فاعتدوا واصطادوا فيه ، وقيل المراد به النهي عن العمل والكسب في يوم السبت وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً يعني وأخذنا منهم عهدا مؤكدا شديدا بأن يعملوا بما أمرهم اللّه به وأن ينتهوا عما نهاهم اللّه عنه ثم إنهم نقضوا ذلك الميثاق وهو قوله تعالى : فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ يعني فبنقضهم وما مزيدة للتوكيد والمعنى فبسبب نقضهم ميثاقهم لعناهم وسخطنا عليهم وفعلنا بهم ما فعلنا وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللّه يعني وبجحودهم بآيات اللّه الدالة على صدق أنبيائه وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ يعني بعد قيام الحجة والدلالة على صحة نبوتهم بِغَيْرِ حَقٍّ يعني بغير استحقاق لذلك القتل وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ يعني وبقولهم على قلوبنا أغطية وغشاوة فهي لا تفقه ما تقول جمع أغلف وقيل جمع غلاف يعني قلوبنا أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى ما تدعونا إليه فرد اللّه عليهم بقوله : بَلْ طَبَعَ اللّه عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ يعني بل ختم اللّه على قلوبهم بسبب كفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا يعني إيمانهم بموسى والتوراة وكفرهم بما سواه من الأنبياء والكتب وقيل لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا وقيل المراد بالقليل هو عبد اللّه بن سلام وأصحابه والذين آمنوا من اليهود. قوله تعالى : ١٥٦وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً يعني حين رموها بالزنا وذلك أنهم أنكروا قدرة اللّه تعالى على خلق الولد من غير أب ومنكر قدرة اللّه كافر. فالمراد بقوله وبكفرهم هو إنكارهم قدرة اللّه تعالى والمراد بقولهم على مريم بهتانا عظيما هو رميهم إياها بالزنا وإنما سماه بهتانا عظيما لأنه قد ظهر عند ولادة مريم من المعجزات ما يدل على براءتها من ذلك فلهذا السبب وصف اللّه قول اليهود على مريم بالبهتان العظيم. قوله عز وجل : وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّه ادعت اليهود أنهم قتلوا عيسى عليه السلام وصدقتهم النصارى على ذلك فكذبهم اللّه عز وجل جميعا وردّ عليهم بقوله : وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وفي قول رسول اللّه قولان : أحدهما أنه من قول اليهود فيكون المعنى أنه رسول اللّه على زعمه. والقول الثاني أن من قول اللّه لا على وجه الحكاية عنهم وذلك أن اللّه تعالى أبدل ذكرهم في عيسى عليه السلام القول القبيح بالقول الحسن رفعا لدرجته عما كانوا يذكرونه من القول القبيح. وقوله تعالى : وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ يعني ألقى شبه عيسى على غيره حتى قتل وصلب. واختلف العلماء في صفة التشبيه الذي شبه على اليهود في أمر عيسى عليه السلام. فروى الطبري بسنده عن وهب بن منبه أنه قال أتى اليهود عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم فلما دخلوا عليهم صورهم اللّه تعالى كلهم على صورة عيسى فقالوا لهم : سحرتمونا لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا فقال عيسى لأصحابه من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة فقال رجل منهم أنا فخرج إليهم فقال : أنا عيسى وقد صوره اللّه تعالى على صورة عيسى فأخذوه وقتلوه وصلبوه فمن ثم شبه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى وظنت النصارى مثل ذلك. ورفع اللّه عز وجل عيسى عليه السلام من يومه ذلك. وفي رواية أخرى عن وهب أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه : ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات وليبيعني بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأخذوا شمعون أحد الحواريين. فقالوا هذا من أصحاب عيسى فجحد وقال : ما أنا بصاحبه فتركوه ثم أخذوا آخر فجحد كذلك فلما أصبح أتى بعض الحواريين إلى اليهود وكان منافقا فقال ما تجعلون لي إن أنا دللتكم على المسيح فجعلوا له ثلاثين درهما فدلهم عليه فألقى اللّه شبه عيسى على ذلك المنافق الذي دل عليه فأخذوه فقتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى. وقال قتادة إن أعداء اللّه اليهود زعموا أنهم قتلوا عيسى وصلبوه وذكر لنا أن نبي اللّه عيسى بن مريم عليه السلام قال لأصحابه أيكم يقذف عليه شبهي وله الجنة فانه مقتول فقال رجل منهم حبسوا عيسى في بيت وجعلوا عليه رقيبا يحفظه فألقى اللّه شبه عيسى على ذلك للرقيب فأخذ فقتل وصلب فرفع اللّه عز وجل عيسى في ذلك الوقت. قال الطبري وأولى الأقوال بالصواب ما ذكرنا عن وهب بن منبه من أن شبه عيسى ألقى على جميع من كان مع عيسى في البيت حين أحيط بي وبهم من غير مسألة عيسى إياهم ذلك ولكن ليخزي اللّه بذلك اليهود وينقذ به نبيه عيسى عليه السلام من كل مكروه أرادوه به من قتل وغيره وليبتلي اللّه من أراد ابتلاءه من عباده ويحتمل أن يكون ألقى شبهه على بعض أصحابه بعد ما تفرق عنه أصحابه ورفع اللّه عيسى عليه السلام. وبقي ذلك فأخذ وقتل وصلب وظن أصحابه واليهود أن الذي قتلوه وصلبوه هو عيسى لما رأوا من شبهه به وخفي أمر عيسى عليهم وكانت حقيقة ذلك الأمر عند اللّه فلذلك قال تعالى : وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني في قتل عيسى وهم اليهود لَفِي شَكٍّ مِنْهُ يعني من قتله وذلك أن اليهود قتلوا ذلك الشخص المشبه بعيسى وكان قد ألقي الشبه على وجه ذلك الشخص دون جسده فلما قتلوه نظروا إلى جسده فوجدوه غير جسد عيسى فقالوا : الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره فهذا هو اختلافهم فيه وقيل : إن اليهود لما حبسوا عيسى وأصحابه في البيت دخل عليه رجل منهم ليخرجه إليهم. فألقى اللّه شبه عيسى على ذلك الرجل فأخذ وقتل ورفع اللّه عز وجل عيسى إلى السماء وفقدوا صاحبهم فقالوا : إن كنا قتلنا المسيح فأين صاحبنا؟ وإن كنا قتلنا صاحبنا فأين المسيح عيسى؟ فهذا هو اختلافهم فيه وقيل إن الذين اختلفوا فيه هم النصارى فبعضهم يقول إن القتل وقع على ناسوت عيسى دون لاهوته وبعضهم يقول وقع القتل عليهما جميعا وبعضهم يقول رأيناه قتل وبعضهم يقول رأيناه رفع إلى السماء فهذا هو اختلافهم فيه قال اللّه تعالى : ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ يعني أنهم قتلوا من قتلوا على شك منهم فيه ولم يعرفوا حقيقة ذلك المقتول هل هو عيسى أو غيره إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ يعني لكن يتبعون الظن في قتله ظنا منهم أنه عيسى لا عن علم وحقيقة وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً قال ابن عباس : يعني لم يقتلوا ظنهم يقينا فعلى هذا القول تكون الهاء في قتلوه عائدة على الظن. والمعنى مما قتلوا ذلك الظن يقينا ولم يزل ظنهم ولم يرتفع ما وقع لهم من الشبه في قتله فهو كقول العرب قتله علما وقتله يقينا يعني علمه علما تاما. وأصل ذلك أن القتل للشيء يكون عن قهر واستيلاء وغلبة وكمعنى الآية على هذا لم يكن علمهم بقتل عيسى علما تاما كاملا إنما كان ظنا منهم إنهم قتلوه ولم يكن لذلك حقيقة. وقيل إن الهاء في قتلوه عائدة على عيسى والمعنى ما قتلوا المسيح يقينا كما ادعوا أنهم قتلوه وقيل إن قوله يقينا يرجع إلى ما بعده تقديره وما قتلوه بَلْ رَفَعَهُ اللّه إِلَيْهِ يقينا والمعنى أنهم لم يقتلوا عيسى ولم يصلبوه ولكن اللّه عز وجل رفعه إليه وطهره من الذين كفروا وخلصه ممن أراده بسوء وقد تقدم كيف كان رفعه في سورة آل عمران بما فيه كفاية. وقوله تعالى : وَكانَ اللّه عَزِيزاً يعني في اقتداره على من يشاء من عباده حَكِيماً يعني في إنجاء عيسى عليه السلام وتخليصه من اليهود. وقيل عزيزا يعني منيعا منتقما من اليهود فسلط عليهم ينطيونس بن اسبسيانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة حكيما حكم باللعنة والغضب على اليهود حيث ادعوا هذه الدعوى الكاذبة. قوله تعالى : ١٥٩وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني وما من أحد من أهل الكتاب إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ يعني بعيسى عليه السلام وأنه عبد اللّه ورسوله وروحه وكلمته هذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين وقال عكرمة في قوله إلّا ليؤمنن به يعني بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وهذا القول لا وجه له لأنه لم يجر للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذكر قبل هذه الآية حتى يرجع الضمير إليه وقول الأكثرين الأولى لأنه تقدم ذكر عيسى عليه السلام فكان عود الضمير إليه أولى قَبْلَ مَوْتِهِ اختلف المفسرون في هذا الضمير إلى من يرجع؟ فقال ابن عباس وأكثر المفسرين إن الضمير يرجع إلى الكتابي والمعنى وما من أحد من أهل الكتاب إلّا آمن بعيسى قبل موت ذلك الكتابي ولكن يكون ذلك الإيمان عند الحشرجة حين لا ينفعه إيمانه قال ابن عباس : معناه إذا وقع في اليأس حين لا ينفعه إيمانه سواء احترق أو تردى من شاهق أو سقط عليه جدار أو أكله سبع أو مات فجأة فقيل له أرأيت إن خر من فوق بيت قال : يتكلم به في الهواء فقيل له أرأيت إن ضربت عنقه قال يتلجلج به لسانه وقال شهر بن حوشب إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة بأجنحتها وجهه ودبره وقالوا يا عدو اللّه أتاك موسى نبيا فكذبت به فيقول آمنت إنه عبد اللّه ورسوله وتقول للنصراني أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه اللّه وابن اللّه فيقول آمنت أنه عبد اللّه فأهل الكتابين يؤمنون به ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان وذهب جماعة من أهل التفسير إلى أن الضمير يرجع إلى عيسى عليه السلام وهو رواية عن ابن عباس أيضا والمعنى وما من أحد من أهل الكتاب إلّا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتابين إلّا آمن بعيسى حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام قال عطاء إذا نزل عيسى إلى الأرض لا يبقى يهودي ولا نصراني ولا أحد يعبد غير اللّه إلّا آمن بعيسى وأنه عبد اللّه وكلمته ويدل على صحة هذا القول ما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (و الذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد) زاد في رواية : (حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها) ثم يقول أبو هريرة : (اقرءوا إن شئتم وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمنن به قبل موته) الآية وفي رواية قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (و اللّه لينزلن فيكم ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسعى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد) أخرجاه في الصحيحين. ففي هذا الحديث دليل على أن عيسى ينزل في آخر الزمان في هذه الأمة ويحكم بشريعة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأنه لا ينزل نبيا برسالة مستقلة وشريعة ناسخة بل يكون حاكما من حكام هذه الأمة وإماما من أئمتهم لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم فيكسر الصليب يعني يكسره حقيقة ويبطل ما تزعمه النصارى من تعظيمه. وكذلك قتله الخنزير وقوله ويضع الجزية يعني لا يقبلها ممن بدلها من اليهود والنصارى. ولا يقبل من أحد إلّا الإسلام أو القتل وعلى هذا قد يقال هذا خلاف منا هو حكم الشرع اليوم فإن الكتابي إذا بذل الجزية وجب قبولها منه ولم يجز قتله ولا إجباره على الإسلام والجواب أن هذا الحكم ليس مستمر إلى يوم القيامة بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى عليه السلام وقد أخبر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بنسخه وليس الناسخ هو عيسى عليه السلام يحكم بشريعة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فدل على أن الامتناع من قبول الجزية في ذلك الوقت هو شرع نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم واللّه أعلم. قال الزجاج هذا القول بعيد يعني قول من قال إن إيمان أهل الكتاب بعيسى إنما يكون عند نزوله في آخر الزمان قال لعموم قوله تعالى : وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قال والذين يبقون يومئذ يعني عند نزوله شرذمة قليلة منهم وأجاب أصحاب هذا القول يعني الذين يقولون إن إيمان أهل الكتاب بعيسى إنما يكون عند نزوله في آخر الزمان بأن هذا على العموم. ولكن المراد بهذا العموم الذين يشاهدون ذلك الوقت ويدركون نزوله فيؤمنون به ويكون معنى الآية وما من أحد ، من أهل الكتاب أدرك ذلك الوقت إلّا آمن بعيسى عند نزوله من السماء وصحح الطبري هذا القول وقال عكرمة في معنى الآية وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمنن بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم قبل موت الكتابي فلا يموت يهودي ولا نصراني حتى يؤمن بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وذلك عند الحشرجة حتى لا ينفعه إيمانه. وقوله تعالى : وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يعني يكون عيسى عليه السلام شاهدا على اليهود أنهم كذبوه وطعنوا فيه وعلى النصارى أنهم اتخذوه ربا وأشركوا به ويشهد على تصديق من صدقه منهم وآمن به قال قتادة معناه إنه يكون شهيدا يوم القيامة إنه قد بلغ رسالة ربه وأقر على نفسه بالعبودية. قوله عز وجل : فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا يعني فبسبب ظلم منهم حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ يعني ما حرمنا عليهم الطيبات التي كانت حلالا لهم إلّا بظلم عظيم ارتكبوه وذلك الظلم هو ما ذكره من نقضهم الميثاق وما عدد عليهم من أنواع الكفر والكبائر العظيمة مثل قولهم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وكقولهم أرنا اللّه جهرة وكعبادتهم العجل فبسبب هذه الأمور حرم اللّه عليهم طيبات كانت حلالا لهم وهي ما ذكره في سورة الأنعام في قوله : وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الآية وقال الطبري : في معنى الآية فحرمنا على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا ربهم به وكفروا بآيات اللّه ، وقالوا أنبيائهم وقالوا البهتان على مريم وفعلوا ما وصفهم اللّه به في كتابه طيبات من المآكل وغيرها التي كانت لهم حلالا عقوبة لهم بظلمهم الذي أخبر اللّه عنهم في كتابه. وروي عن قتادة قال عوقب القوم بظلم ظلموه وبغي بغوة وحرمت عليهم أشياء ببغيهم وظلمهم. ونقل الواحدي وابن الجوزي عن مقاتل قال كان اللّه حرم على أهل التوراة أن يأكلوا الربا ونهاهم أن يأكلوا أموال الناس ظلما فأكلوا الربا وأكلوا أموال الناس ظلما بالباطل وصدوا عن دين اللّه وعن الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم فحرم اللّه عليهم عقوبة لهم ما ذكر في قوله : (و على الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) الآية قال الواحدي فأما وجه تحريم الطيبات عليهم كيف ومتى كان وعلى لسان من حرم عليهم فلم أجد فيه شيئا انتهى إليه فتركه ولقد أنصف الواحدي فيما قال فإن هذه الآية في غاية الإشكال وبيانه إن اللّه تعالى لا يعاقب على ذنب قبل وقوعه وقد ذكر المفسرون في معنى الظلم المذكور في الآية ما تقدم ذكره وكلها ذنوب في المستقبل. فإن قلت علم اللّه وقوع هذه الذنوب منهم قبل وقوعها لحرم عليهم ما حرم من الطيبات التي كانت لهم حلالا عقوبة لهم على ما سيقع منهم قلت جوابه ما تقدم وهو أن اللّه تعالى لا يعاقب على ذنب قبل وقوعه ولهذا لم يذكر الإمام فخر الدين في تفسير هذه الآية ما ذكره المفسرون بل ذكر تفسيرا إجماليا فقال أعلم أن أنواع الذنوب محصورة في نوعين : الظلم للخلق والإعراض عن الدين الحق ، أما ظلم الخلق فإليه الإشارة بقوله وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللّه كَثِيراً ١٦١وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ثم إنهم مع ذلك في غاية الحرص على طلب المال فتارة يحصلونه بطريق الربا مع أنهم قد نهوا عنه وتارة يحصلونه بطريق الرشا وهو المراد بقوله وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ فهذه الأربعة هي الذنوب التي شدد عليهم بسببها في الدنيا والآخرة ، أما التشديد في الدنيا فهو ما تقدم من تحريم الطيبات عليهم وأما التشديد في الآخرة فهو المراد بقوله تعالى : وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً قال المفسرون : إنما قال منهم لأن اللّه علم أن قوما منهم سيؤمنون فيأمنون من العذاب. قوله تعالى : لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ يعني من اليهود وهذا استثناء استثنى اللّه عز وجل من آمن من أهل الكتاب ممن تقدم وصفهم وصفتهم في الآيات التي تقدمت فبين فيما تقدم حال كفار اليهود والجهال منهم وبين في هذه الآية حال من هداه لدينه منهم وأرشده للعمل بما علم فقال لكن الراسخون في العلم ولكن هنا بمعنى الاستدراك والاستثناء والراسخون في العلم الثابتون في العلم البالغون فيه أولو البصائر الثاقبة والعقول الصافية وهم عبد اللّه بن سلام وأصحابه الذين أسلموا من أهل الكتاب لأنهم رسخوا في العلم وعرفوا حقيقته فأوصلهم ذلك إلى الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وَالْمُؤْمِنُونَ يعني باللّه ورسله يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني بالقرآن الذي أنزل إليك وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعني ويؤمنون بسائر الكتاب التي أنزلها اللّه على أنبيائه من قبله يا محمد وفي المراد بالمؤمنين هاهنا قولان : أحدهما إنهم أهل الكتاب فيكون المعنى لكن الراسخون في العلم منهم وهم المؤمنون. والقول الثاني أنهم المهاجرون والأنصار من هذه الأمة فيكون قوله والمؤمنون ابتداء كلام مستأنف يؤمنون بما أنزل إليك ويعني أنهم يصدقون بالقرآن الذي أنزل إليك يا محمد وما أنزل من قبلك وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ اختلف العلماء في وجه نصبه فحكي عن عائشة وأبان بن عثمان أنه غلط من الكتاب ينبغي أن يكتب والمقيمون الصلاة. وقال عثمان بن عفان إن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتهم فقيل له أفلا تغيره؟ فقال دعوه فإنه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا وذهب عامة الصحابة وسائر العلماء من بعدهم إلى أنه لفظ صحيح ليس فيه من خطأ من كاتب ولا غيره وأجيب عما روي عن عثمان بن عفان وعن عائشة وأبان بن عثمان بأن هذا بعيد جدا لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والفصاحة والقدرة على ذلك فكيف يتركون في كتاب اللّه لحنا يصلحه غيرهم فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم. قال ابن الأنباري : ما روي عن عثمان لا يصلح لأنه غير متصل ومحال أن يؤخر عثمان شيئا فاسدا ليصلحه غيره ولأن القرآن منقول بالتواتر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟ وقال الزمخشري في الكشاف ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوع لحن في خط المصحف وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب يعني كتاب سيبويه ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص والمدح من الافتتان وهو باب واسع قد ذكره سيبويه على أمثلة وشواهد وربما غبي عليه أن السابقين الأولين كانوا أبعد همة في الغيرة في الإسلام وذب الطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب اللّه عز وجل ثلمة يسدها من بعدهم وخرقا يرفؤه من يلحن بهم ثم اختلف العلماء في المقيمين الصلاة أهم الراسخون في العلم أم غيرهم؟ على قولين : أحدهما إنهم هم وإنما نصب على المدح والمعنى أذكر المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة قالوا والعرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد ونعته وإذا تطاولت بمدح أو ذم فربما خالفوا بين إعراب أوله وأوسطه أحيانا ثم رجعوا بآخره إلى إعراب أوله وربما أجروا إعراب آخره على إعراب أوسطه وربما أجروا ذلك على نوع واحد من الإعراب واستشهدوا على معنى الآية : لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر وهذا على معنى أذكر النازلين وهم الطيبون ومن هذا المعنى تقول جاءني قومك المطعمين وهم المعينون. والقول الثاني أن المقيمين الصلاة غير الراسخين في العلم وموضع والمقيمين الصلاة خفض بالعطف على قوله تعالى بما أنزل إليك فعلى هذا القول يكون معنى الآية : وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وهم الأنبياء لأنه لم يخل شرع أحد منهم عن إقامة الصلاة وقيل المراد بهم الملائكة لأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون وصحح الزجاج القول الأول واختاره وصحح الطبري القول الثاني واختاره. وقوله تعالى : وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ عطف على والمؤمنون لأنه من صفتهم وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني والمصدقون بوحدانية اللّه تعالى وبالبعث بعد الموت وبالثواب وبالعقاب أُولئِكَ يعني من هذه الأوصاف صفته سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً يعني سنعطيهم على ما كان منهم من طاعة اللّه وإتباع أمره ثوابا عظيما وهو الجنة. قوله عز وجل : ١٦٣إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ قال ابن عباس قال سكين وعدي بن زيد يا محمد ما نعلم أن اللّه أنزل على بشر من شيء من بعد موسى فأنزل اللّه هذه الآيات وقيل هو جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن ينزل عليهم كتابا من السماء جملة واحدة فأجاب اللّه عز وجل عن سؤالهم بهذه الآية فقال : إنا أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده والمعنى إنكم يا معشر اليهود تقرون بنبوة نوح وبجميع الأنبياء المذكورين في هذه الآية وهم اثنا عشر نبيا والمعنى أن اللّه تعالى أوحى إلى هؤلاء الأنبياء وأنتم يا معشر اليهود معترفون بذلك وما أنزل اللّه على أحد من هؤلاء المذكورين كتابا جملة واحدة مثل ما أنزل على موسى فلما لم يكن عدم إنزال الكتاب جملة واحدة على أحد هؤلاء الأنبياء قادحا في نبوته فكذلك لم يكن إنزال القرآن على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قادحا في نبوته بل قد أنزل عليه كما أنزل عليهم. قال المفسرون وإنما بدأ اللّه عز وجل بذكر نوح عليه السلام لأنه أول نبي بعث بشريعة وأول نذير على الشرك وأنزل اللّه عز وجل عليه عشر صحائف وكان أول من عذبت أمته لردهم دعوته وأهلك أهل الأرض بدعائه وكان أبا البشر كآدم عليهما السلام وكان أطول الأنبياء عمرا عاش ألف سنة لم تنقص قوته ولم يشب ولم تنقص له سن وصبر على أذى قومه طول عمره ثم ذكر اللّه الأنبياء من بعده جملة بقوله تعالى : وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ثم خص جماعة من الأنبياء بالذكر لشرفهم وفضلهم فقال وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم أولاد يعقوب وكانوا اثني عشر وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً يعني وآتينا داود كتابا مزبورا يعني مكتوبا. وقيل : الزبور بالفتح اسم الكتاب الذي أنزل على داود وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام بل كلها تسبيح وتقديس وتمجيد وثناء على اللّه عز وجل ومواعظ وكان داود عليه السلام يخرج إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور وتقوم علماء بني إسرائيل خلفه ويقوم الناس خلف العلماء وتقوم الجن خلف الناس والشياطين خلف الجن وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه وترفرف الطير على رؤوس الناس وهم يستمعون لقراءة داود ويتعجبون منها فلما قارف الذنب زال عنه ذلك وقيل له ذلك أنس الطاعة وهذا ذل المعصية (ق) عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود) قال الحميدي زاد البرقاني قلت واللّه يا رسول اللّه لو علمت إنك تسمع لقراءتي لحبرتها لك تحبيرا ، التحبير تحسين الصوت بالقراءة قال بعض العلماء إنما لم يذكر موسى في هذه الآية لأن اللّه أنزل عليه التوراة جملة واحدة وكان المقصود بذكر من ذكر من الأنبياء في الآية أنه لم ينزل على أحد منهم كتابا جملة واحدة فلهذا لم يذكر موسى عليه السلام. قوله تعالى : ١٦٤وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ لما نزلت هذه الآية المتقدمة قالت اليهود ما لموسى لم يذكر؟ فأنزل اللّه هذه الآية وفيها ذكر موسى عليه السلام والمعنى وأوحينا إلى رسل قد قصصناهم عليك من قبل يعني سميناهم في القرآن وعرفناك أخبارهم وإلى من بعثوا وما ورد عليهم من قومهم وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ أي لم نسمهم لك ولم نعرفك أخبارهم قال أهل المعاني الذين نوه اللّه بذكرهم من الأنبياء يدل على تفضيلهم على من لم يذكر ولم يسم. وقوله تعالى : وَكَلَّمَ اللّه مُوسى تَكْلِيماً يعني خاطبه مخاطبة من غير واسطة لأن تأكيد كلم بالمصدر يدل على تحقيق الكلام وأن موسى عليه السلام سمع كلام اللّه بلا شك لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر فلا يقال أراد الحائط يسقط إرادة. وهذا رد على من يقول إن اللّه خلق كلاما في محل فسمع موسى ذلك الكلام وقال الفراء العرب تسمى كل ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل لكن لا تحققه بالمصدر وإذا حقق بالمصدر لم يكن إلّا حقق بالمصدر لم يكن إلّا حقيقة الكلام فدل قوله تعالى تكليما على أن موسى قد سمع كلام اللّه حقيقة من غير واسطة. . وروى الطبري بسنده من عدة طرق عن كعب الأحبار قال لما كلم اللّه موسى عليه السلام بالألسنة كلها قبل كلامه يعني كلام موسى بلسانه فجعل موسى يقول يا رب لا أفهم حتى كلمه بلسانه آخر الألسنة فقال : يا رب هكذا كلامك قال لو سمعت كلامي يعني على وجهه لم تك شيئا قال موسى : يا رب هل في خلقك شيء يشبه كلامك قال لا وأقرب خلقي شبها بكلامي أشد ما سمع الناس من الصواعق قال بعض العلماء كما إن اللّه تعالى خص موسى عليه السلام بالتكليم وشرفه به ولم يكن ذلك قادحا في نبوة غيره من الأنبياء فكذلك إنزال التوراة عليه جملة واحدة لم يكن قادحا في نبوة من أنزل عليه كتابه متفرقا من الأنبياء. قوله عز وجل : رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ يعني : (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) ومن أولئك النبيين أرسلت رسلا إلى خلقي مبشرين من أطاعني واتبع أمري وصدق رسلي بالثواب الجزيل في الجنة ومنذرين من عصاني وخالف أمري وكذب رسلي بالعذاب الأليم في النار. وقيل هو جواب عن سؤال اليهود إنزال الكتاب جملة واحدة والمعنى أن المقصود من بعثة الرسول هو إرشاد الخلق إلى معرفة اللّه وتوحيده والإيمان به والاشتغال بعبادته وإنذار من خالف ذلك وهذا المقصود يحصل بإنزال الكتاب جملة واحدة وبإنزاله نجوما متفرقة بل إنزاله متفرقا أولى. وذلك أن النفوس قبل بعثة الرسل وإنزال الكتب عليهم لم تكن تعرف شيئا من العبادات ولم تألفها فإذا نزل الكتاب جملة واحدة وفيه جميع التكاليف ربما حصل في بعض نفوس العباد نفور من تلك التكاليف وتثقل عليهم كما أخبر اللّه عن قوم موسى بقوله تعالى : وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ فلم يقبلوا أحكام التوراة إلّا بعد شدة فلهذا السبب كان إنزال القرآن نجوما متفرقة أولى. وقوله تعالى : لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّه حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يعني بعد إرسال الرسل وإنزال الكتاب والمعنى لئلا يحتج الناس على اللّه في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولا وما أنزلت علينا كتابا ففيه دليل على أنه لو لم يبعث الرسل لكان للناس عليه حجة في ترك التوحيد والطاعة وفيه دليل على أن اللّه لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل كما قال تعالى : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وفيه دليل لمذهب أهل السنة على أن معرفة اللّه تعالى لا تثبت إلّا بالسمع لأن قوله : (لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل) يدل على أن قبل بعثة الرسل تكون لهم الحجة في ترك الطاعات والعبادات. فإن قلت كيف يكون للناس على اللّه حجة قبل الرسل والخلق محجوبون بما نصب من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى معرفته ووحدانيته كما قيل : وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد قلت الرسل منبهون من رقاد الغفلة والجهالة وباعثون الخلق إلى النظر في تلك الدلائل التي تدل على وحدانيته سبحانه وتعالى ومبينون لها وهم وسائط بين اللّه تعالى وخلقه ومبينون أحكام اللّه تعالى التي افترضها على عباده ومبلغون رسالته إليهم (ق) عن المغيرة بن شعبة قال : قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : (أ تعجبون من غيرة سعد واللّه لأنا أغير منه واللّه أغير مني ومن أجل غيرة اللّه حرم اللّه الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من اللّه من أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا أحد أحب إليه المدحة من اللّه ، ومن أجل ذلك وعد الجنة) لفظ البخاري وفي لفظ مسلم ولا شخص أحب إليه العذر من اللّه ومن أجل ذلك بعث اللّه المرسلين مبشرين ومنذرين. وقوله تعالى : وَكانَ اللّه عَزِيزاً يعني في انتقامه ممن خالف أمره وعصى رسله حَكِيماً يعني في إرساله الرسل قوله تعالى : ١٦٦لكِنِ اللّه يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ قال ابن عباس دخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جماعة من اليهود فقال لهم : (إني واللّه أعلم أنكم لتعلمن أني رسول اللّه) فقالوا ما نعلم ذلك فأنزل اللّه هذه الآية وفي رواية ابن عباس أن رؤساء مكة أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : يا محمد إنا سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم فزعموا أنهم لا يعرفونك فأنزل اللّه عز وجل لكن اللّه يشهد بما أنزل إليك يعني إن جحدك هؤلاء اليهود يا محمد وكفروا بما أوحينا إليك وقالوا : ما أنزل اللّه على بشر من شيء فقد كذبوا فيما ادعوا فإن اللّه يشهد لك بالنبوة ويشهد بما أنزل إليك من كتابه ووحيه. والمعنى أن اليهود وإن شهدوا أن القرآن لم ينزل عليك يا محمد لكن اللّه يشهد بأنه أنزل عليك وشهادة اللّه إنما عرفت بسبب أنه أنزل هذا القرآن البالغ في الفصاحة والبلاغة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته ، والإيمان بمثله فكان ذلك معجزا وإظهار المعجزة شهادة يكون المدعي صادقا لا جرم قال اللّه تعالى لكن اللّه يشهد لك يا محمد بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله عليك أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ يعني أنه تعالى لما قال لكن اللّه يشهد بما أنزل إليك بين صفة ذلك الإنزال وهو أنه تعالى أنزله بعلم تام وحكمة بالغة وقيل معناه أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله عليك وأنك مبلغه إلى عباده وقيل معناه أنزله بما علم من مصالح عباده في إنزاله عليك وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ يعني يشهدون بأن اللّه أنزله عليك ويشهدون بتصديقك وإنما عرفت شهادة الملائكة لأن اللّه تعالى إذا شهد بشيء شهدت الملائكة بذلك الشيء. وقد ثبت أن اللّه يشهد بأنه أنزله بعلمه فلذلك الملائكة يشهدون بذلك وَكَفى بِاللّه شَهِيداً يعني وحسبك يا محمد أن اللّه يشهد لك وكفى باللّه شهيدا وإن لم يشهد معه أحد غيره ففيه تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن شهادة أهل الكتاب له فإن اللّه يشهد له وملائكته كذلك. قوله عز وجل : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني جحدوا نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وهم اليهود وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه يعني منعوا غيرهم عن الإيمان به بكتمان صفته وإلقاء الشبهات في قلوب الناس وهو قولهم لو كان محمد رسولا لأتى بكتاب من السماء جملة واحدة كما أتى موسى بالتوراة قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً يعني عن طريق الهدى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا يعني كفروا باللّه وظلموا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بكتمان صفته وظلموا غيرهم بإلقاء الشبهة في قلوبهم لَمْ يَكُنِ اللّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ يعني لمن علم منهم أنهم يموتون على الكفر وقيل معناه لم يكن اللّه ليستر عليهم قبائح أفعالهم بل يفضحهم في الدنيا ويعاقبهم عليها بالقتل والسبي والجلاء في الآخرة بالنار وهو قوله تعالى : وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً يعني ينجون فيه من النار وقيل ولا ليهديهم طريقا إلى الإسلام لأنه قد سبق في علمه أنهم لا يؤمنون إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ يعني لكنه تعالى يهديهم إلى طريق يؤدي إلى جهنم وهي اليهودية لما سبق في علمه أنهم أهل لذلك خالِدِينَ فِيها يعني في جهنم أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللّه يَسِيراً يعني هينا. قوله عز وجل : يا أَيُّهَا النَّاسُ هذا خطاب عام يدخل فيه جميع الكفار من اليهود والنصارى وعبادة الأصنام وغيرهم وقيل هو خطاب لمشركي العرب قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بِالْحَقِّ يعني بدين الإسلام الذي ارتضاه اللّه لعباده وقيل جاء بالقرآن الذي هو الحق مِنْ رَبِّكُمْ يعني من عند ربكم فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ يعني فآمنوا بما جاءكم به محمد صلّى اللّه عليه وسلّم يكن الإيمان بذلك خيرا لكم يعني من الكفر الذي أنتم عليه وَإِنْ تَكْفُرُوا يعني وإن تجحدوا رسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وتكذبوا بما جاءكم من الحق من ربكم فَإِنَّ للّه ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني فإن اللّه هو الغني عن إيمانكم لأن له ما في السموات والأرض ملكا وعبيدا ومن كان كذلك لم يكن محتاجا إلى شيء وأنه قادر على من يشاء وَكانَ اللّه عَلِيماً يعني بما يكون منكم لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده فيجزي كل عامل بعمله حَكِيماً يعني في تكليفهم مع علمه بما يكون منكم. قوله عز وجل : ١٧١يا أَهْلَ الْكِتابِ نزلت هذه الآية في النصارى وذلك أن اللّه تعالى لما أجاب عن شبه اليهود فيما تقدم من الآية اتبع ذلك بإبطال ما تعتقده النصارى وأصناف النصارى أربعة : اليعقوبية والملكانية والنسطورية والمرقوسية ، فأما اليعقوبية والملكانية فقالوا في عيسى أنه اللّه وقالت النسطورية إنه ابن اللّه وقالت المرقوسية ثالث ثلاثة وقيل : إنهم يقولون إن عيسى جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وبأقنوم الابن وأقنوم روح القدس وأنهم يريدون بأقنوم الأب الذات وأقنوم الابن عيسى. وبأقنوم روح القدس الحياة الحالة فيه فتقديره عندهم الإله ثلاثة ، وقيل إنهم يقولون في عيسى ناسوتية وألوهية فناسوتيته من قبل الأم وألوهيته من قبل الأب تعالى اللّه عما يقولون علوا كبيرا يقال إن الذي أظهر هذا للنصارى رجل من اليهود يقال له بولص تنصر ودس هذا في دين النصارى ليضلهم بذلك. وستأتي قصته في سورة التوبة إن شاء اللّه تعالى وقيل يحتمل أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى جميعا. فإنهم غلوا في أمر عيسى عليه السلام. فأما اليهود فإنهم بالغوا في التقصير في أمره حتى حطوه عن منزلته حيث جعلوه مولودا لغير رشدة وغلت النصارى في رفع عيسى عن منزلته ومقداره حيث جعلوه إلها فقال اللّه تعالى ردا عليهم جميعا يا أهل الكتاب لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وأصل الغلو مجاوزة الحد وهو في الدين حرام والمعنى لا تفرطوا في أمر عيسى ولا تحطوه عن منزلته ولا ترفعوه فوق قدره ومنزلته وَلا تَقُولُوا عَلَى اللّه إِلَّا الْحَقَّ يعني لا تقولوا إن له شريكا وولدا وقيل معناه لا تصفوه بالحلول والاتحاد في بدن الإنسان ونزهوا اللّه تعالى عن ذلك ، ولما منعهم اللّه من الغلو في دينهم أرشدهم إلى طريق الحق في أمر عيسى عليه السلام فقال تعالى : إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّه يقول إنما المسيح هو عيسى ابن مريم ليس له نسب غير هذا وأنه رسول اللّه فمن زعم غير هذا فقد كفر وأشرك وَكَلِمَتُهُ هي قوله تعالى : كن فكان بشرا من غير أب ولا واسطة أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ يعني أوصلها إلى مريم وَرُوحٌ مِنْهُ يعني أنه كسائر الأرواح التي خلقها اللّه تعالى وإنما أضافه إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم كما يقال بيت اللّه وناقة اللّه. وهذه نعمة من اللّه يعني أنه تفضل بها وقيل الروح هو الذي نفخ فيه جبريل في جيب درع مريم فحملت بإذن اللّه. وإنما أضافه إلى نفسه بقوله منه لأنه وجد بأمر اللّه قال بعض المفسرين إن اللّه تعالى لما خلق أرواح البشر جعلها في صلب آدم عليه السلام ، وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام فلما أراد اللّه أن يخلقه أرسل بروحه مع جبريل إلى مريم فنفخ في جيب درعها فحملت بعيسى عليه السلام وقيل إن الروح والريح متقاربان في كلام العرب ، فالروح عبارة عن نفخ جبريل عليه السلام وقوله منه يعني إن ذلك النفخ كان يأمره وإذنه وقيل أدخل النكرة في قوله وروح على سبيل التعظيم والمعنى روح وأي روح من الأرواح القدسية العالية المطهرة وقوله منه إضافته تلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف والتكريم (ق) عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من شهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة والنار حق أدخله اللّه الجنة على ما كان من العمل). وقوله تعالى : فَآمِنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ يعني فصدقوا يا أهل الكتاب بوحدانية اللّه وأنه لا ولد له وصدقوا رسله فيما جاءكم به من عند اللّه وصدقوا بأن عيسى عليه السلام من رسل اللّه فآمنوا به ولا تجعلوه إله وقوله تعالى : وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ يعني ولا تقولوا الآلهة ثلاثة وذلك أن النصارى يقولون أب وابن وروح القدس وقيل إنهم يقولون إن اللّه بالجوهر ثلاثة أقانيم وذلك أنهم أثبتوا ذاتا موصوفة بصفات ثلاثة بدليل أنهم يجوزون على تلك الذات الحلول في عيسى وفي مريم فأثبتوا ذواتا متعددة ثلاثة وهذا هو محض الكفر. فلهذا قال اللّه تعالى ولا تقولوا ثلاثة انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ يعني يكون الانتهاء عن هذا القول خير لكم من القول بالتثليث ثم نزه اللّه تعالى نفسه عن قول النصارى بالتثليث فقال تعالى : إِنَّمَا اللّه إِلهٌ واحِدٌ ثم نزه نفسه عن الولد فقال سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ يعني لا ينبغي أن يكون له ولد لأن الولد جزء من الأب وتعالى اللّه عن التجزئة ، وعن صفات الحدوث لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني أنه تعالى له ملك السموات والأرض وما فيهما عبيده وملكه وعيسى ومريم من جملة من فيهما فهما عبيده وملكه فإذا كانا عبدين له فكيف يعقل مع هذا أن له ولدا أو زوجة تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا؟ وهذا بيان لتنزيهه مما نسب إليه من الولد والمعنى أن جميع ما في السموات والأرض خلقه وملكه فكيف يكون بعض ملكه جزء منه؟ لأن التجزئة إنما تصح في الأجسام واللّه تعالى منزه عن صفات الأعراض والأجسام وَكَفى بِاللّه وَكِيلًا يعني أنه تعالى كاف في تدبير جميع خلقه فلا حاجة له إلى غيره ، وكل الخلق محتاجون إليه وفقراء إليه وهو غني عنهم. ١٧٢وقوله تعالى : نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً للّه وذلك أن وفد نجران قالوا يا محمد إنك تعيب صاحبنا فتقول إنه عبد اللّه فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إنه ليس بعار على عيسى أن يكون عبد اللّه فنزلت لن يستنكف المسيح يعني لن يأنف ولن يتعظم والاستنكاف الاستكبار مع الأنفة يقال نكفت من كذا واستنكفت منه أي أنفت منه وأصله من نكفت الشيء نحيته ونكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك من خدك والمعنى لن ينقبض ولن يمتنع ولن يأنف المسيح أن يكون عبد اللّه لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ يعني ولن يستنكف الملائكة المقربون وهم حملة العرش والكروبيون وأفاضل الملائكة مثل : جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل أن يكونوا عبيد اللّه لأنهم في ملكه ومن جملة خلقه وقيل لما ادّعت النصارى في عيسى أنه ابن اللّه وذلك لما رأوا منه خوارق العادات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من المعجزات ، أجاب اللّه تعالى عن هذه الشبهات التي وقعت للنصارى بأن عيسى من شرف قدره وكرامته لن يستنكف أن يكون عبدا للّه. وكذلك الملائكة المقربون فإنهم مع كرامتهم وعلو منزلتهم لن يستنكفوا أن يكونوا عبيدا للّه وقد يستدل بهذه الآية من يقول بتفضيل الملائكة على البشر ووجه الدليل أن اللّه تعالى ارتقى من عيسى إلى الملائكة ولا يرتقي إلّا من الأدنى إلى الأعلى ولا حجة لهم فيه والجواب عنه أن اللّه تعالى لم يقل ذلك رفعا لمقامهم على مقام البشر بل قاله ردا على من يقول إن الملائكة بنات اللّه أو أنهم آلهة كما رد على النصارى قولهم إن المسيح ابن اللّه وقاله أيضا ردا على النصارى فإنهم يقولون بتفضيل الملائكة يعني كما أن المسيح عبد اللّه فكذلك الملائكة عبيد اللّه. وقوله تعالى : مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ يعني ومن يتعظم عن عبادة اللّه ويأنف من التذلل للّه والخضوع والطاعات من جميع خلقه سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً يعني فسيبعثهم يوم القيامة لموعدهم الذي وعدهم حيث لا يملكون لأنفسهم شيئا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ يعني يوفيهم جزاء أعمالهم الصالحة وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ يعني ويزيدهم على ما أعطاهم من الثواب على أعمالهم الصالحة من التضعيف على ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا يعني الذين أنفوا وتكبروا عن عبادة اللّه تعالى فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّه يعني من سوى اللّه لأنفسهم وَلِيًّا يعني ينجيهم من عذابه وَلا نَصِيراً يعني ولا ناصرا ينصرهم منه ، ويدفع عنهم عقوبته بقي في الآية سؤال وهو أن التفصيل غير مطابق للمفصل لأن التفصيل اشتمل على ذكر فريقين : وهو قوله : (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فيوفيهم أجورهم وأما الذين استنكفوا واستكبروا) والمفصل اشتمل على ذكر فريق واحد وهو قوله : (و من يستنكف عن عبادته ويستكبر) والجواب أنه لا إشكال فيه فهو مثل قولك جمع الإمام الخوارج فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ومن خرج عليه نكل به ، وصحة ذلك لوجهين : أحدهما أنه حذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه لأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني ، و الوجه الثاني أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم فكان داخلا في جملة التنكيل بهم فكأنه قال ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فيعذبهم بالحسرة والغم إذا رأوا أجور المطيعين العاملين للّه تعالى. قوله عز وجل : يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب للكافة قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وما جاء به من البينات من ربه عز وجل وإنما سماه برهانا لما معه من المعجزات الباهرات التي تشهد بصدقه ولأن للبرهان دليل على إقامة الحق وإيصال الباطل والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان كذلك ولأنه تعالى جعله حجة قاطعة قطع به عذر جميع الخلائق وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً يعني القرآن وإنما سماه نورا لأن به تتبين الأحكام كما تتبين الأشياء بالنور بعد الظلام ولأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب فسماه نورا لهذا المعنى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّه يعني صدقوا بوحدانية اللّه وبما أرسل من رسول وأنزل من كتاب وَاعْتَصَمُوا بِهِ يعني باللّه في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن زيغ الشيطان ، وقيل في معنى واعتصموا به أي وتمسكوا بالنور وهو القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ يعني فسيدخلهم في رحمته التي ينجيهم بها من أليم عذابه قال ابن عباس الرحمة الجنة وَفَضْلٍ يعني ما يتفضل به عليهم بعد إدخالهم الجنة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً يعني ويوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به عليهم ويسددهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته ويرشدهم لدينه الذي ارتضاه لعباده وهو دين الإسلام. قوله تعالى : ١٧٦يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ نزلت في جابر بن عبد اللّه الأنصاري (ق) عن جابر بن عبد اللّه قال مرضت فأتاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو بكر يعوداني ماشيين فأغمي عليّ فتوضأ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ثم صب علي من وضوئه فأفقت فإذا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت يا رسول اللّه كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يرد عليّ شيئا حتى نزلت آية الميراث : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وفي رواية فقلت يا رسول اللّه إنما يرثني كلالة فنزلت آية الميراث قال شعبة فقلت لمحمد بن المنكدر يستفتونك : قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ قال هكذا نزلت وفي رواية للترمذي وكان لي تسع أخوات حتى نزلت آية الميراث : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ولأبي داود قال اشتكيت وعندي سبع أخوات فدخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنفخ في وجهي فأفقت فقلت يا رسول اللّه ألا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال أحسن قلت بالشطر؟ قال أحسن ثم خرج وتركني فقال يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا وإن اللّه قد أنزل فبين الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين قال فكان جابر يقول أنزلت هذه الآية في : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وروى الطبري عن قتادة أن الصحابة أهمهم شأن الكلالة فسألوا عنها نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه هذه الآية وروى عن ابن سيرين قال نزلت : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم في مسير له وإلى جنبه حذيفة بن اليمان فبلغها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حذيفة وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب وهو يسير خلفه فلما استخلف عمر سأل حذيفة عنها ورجا أن يكون عنده تفسيرها ، فقال له حذيفة واللّه لأنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تحملني أن أحدثك فيها ما لم أحدثك يومئذ فقال عمر لم أرد هذا رحمك اللّه. وأما التفسير فقوله تعالى : يَسْتَفْتُونَكَ يعني يسألونك ويستخبرونك عن معنى الكلالة يا محمد قل : اللّه يفتيكم في الكلالة يعني أن اللّه هو يخبركم عما سألتم عنه من أمر الكلالة. وقد تقدم في أول السورة الكلام على معنى الكلالة من حيث الاشتقاق وغيره وأن اسم الكلالة يقع على الوارث وعلى الموروث فإن وقع على الوارث فهم من سوى الوالد والولد وإن وقع على الموروث فهو من مات ولا يرثه أحد الأبوين ولا أحد الأولاد. قوله تعالى : إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ يعني مات سمي الموت هلاكا لأنه إعدام في الحقيقة لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ يعني ولا والد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر ودل على المحذوف أن السؤال في الفتيا إنما كان في الكلالة وقد تقدم أن الكلالة من ليس له ولد ولا والد وَلَهُ أُخْتٌ يعني ولذلك الهالك أخت وأراد بالأخت من أبيه وأمه أو من أبيه فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ يعني فلأخت الميت نصف تركته وهو فرضها إذا انفردت وباقي المال لبيت المال إذا لم يكن للميت عصبة. وهذا مذهب زيد بن ثابت وبه قال الشافعي وعند أبي حنيفة وأهل العراق يرد الباقي عليها فإذا كان للميت بنت أخذت النصف بالفرض وتأخذ الأخت النصف الباقي بالتعصيب لا بالفرض لأن الأخوات مع البنات عصبة. وقوله تعالى : وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ يعني أن الأخت إذا ماتت وتركت أخا من الأب والأم أو من الأب فإنه يستغرق جميع ميراث الأخت إذا انفرد ولم يكن للأخت ولد وهذا أصل في جميع العصبات واستغراقهم جميع المال ، فأما الأخ من الأم فإنه صاحب فرض لا يستغرق جميع المال وقد تقدم بيانه فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ أراد بنتين فصاعدا وهو أن من مات وترك أختين أو أخوات فلهن الثلثان مما ترك الميت وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يعني وإن كان المتروكون من الإخوة رجالا ونساء فللذكر منهم نصيب اثنتين من الإخوة الإناث يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا يعني يبين اللّه لكم هذه الفرائض والأحكام لئلا تضلوا. وقيل معناه كراهية أن تضلوا وقيل بيّن اللّه الضلالة لتجتنبوها وَاللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعني من مصالح عباده التي حكم بها من قسمة المواريث وبيان الأحكام وغير ذلك لأن علمه محيط بكل شيء (ق) عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه قال إن آخر سورة نزلت تامة سورة التوبة وإن آخر آية نزلت آية الكلالة وفي رواية لمسلم قال أخر آية نزلت يستفتونك وروي عن ابن عباس أن آخر سورة نزلت تامة سورة التوبة وأن آخر آية الكلالة وفي رواية لمسلم قال آخر آية نزلت آية الربا وآخر سورة نزلت إذا جاء نصر اللّه والفتح وروي عنه أن آخر آية نزلت وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّه وروي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عاش بعد نزول سورة النصر سنة ونزلت بعدها سورة براءة وهي آخر سورة نزلت كاملة فعاش بعدها ستة أشهر هكذا ذكره البغوي وفيه نظر لأنه قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعثه في الحجة التي أمره عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس يوم النحر : ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. ثم أردف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة قال أبو هريرة فأذن معنا في أهل منى ببراءة ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. وكانت حجة أبي بكر هذه سنة تسع قبل حجة الوداع بسنة قال البغوي : ثم نزلت في طريق حجة الوداع يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ فسميت آية الصيف ثم نزلت وهو واقف بعرفة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فعاش بعدها أحدا وثمانين يوما ثم نزلت آية الربا ثم نزلت : وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّه عاش النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعدها أحدا وعشرين يوما. وهذا آخر تفسير سورة النساء واللّه أعلم بمراده وأسرار كتابه. تم الجزء الأول من تفسير الخازن ويليه الجزء الثاني وأوله : تفسير سورة المائدة. |
﴿ ٠ ﴾