٢٤

وَالْمُحْصَناتُ يعني حرمت المحصنات مِنَ النِّساءِ وأصل الإحصان في اللغة المنع والحصان بالفتح المرأة العفيفة ويطلق الإحصان على المرأة ذات الزوج والحرة والعفيفة والمرأة المسلمة والمراد من الإحصان في قوله والمحصنات ذوات الأزواج من النساء فلا يحل لأحد نكاحهن قبل مفارقة أزواجهن وهذه هي السابعة من النساء التي حرمن بالسبب. قال أبو سعيد الخدري : نزلت هذه الآية في نساءكن هاجرن إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولهن أزواج فتزوجن ببعض المسلمين ثم قدم أزواجهن مهاجرين فنهي اللّه المسلمين عن نكاحهن ثم استثنى

فقال تعالى : إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني السبايا اللاتي سبين ولهن أزواج في دار الحرب ، فيحل لمالكهن وطؤهن بعد الاستبراء لأن السبي يرتفع به النكاح بينها وبين زوجها قال أبو سعيد الخدري : بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جيشا إلى أوطاس فأصابوا سبايا لهن أزواج من المشركين فكرهوا غشيانهن فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وقال ابن مسعود : أراد أنه إذا باع الجارية المزوجة فتقع الفرقة بينها وبين زوجها ويكون بيعها طلاقا فيحل للمشتري وطؤها. وقال عطاء : أراد بقوله إلا ما ملكت أيمانكم أن تكون أمته في نكاح عبده فيجوز له أن ينتزعها منه

وقيل أراد بالمحصنات من النساء الحرائر ومعناه أن ما فوق الأربع منهن فإنه عليكم حرام إلا ما ملكت أيمانكم فإنه لا عدد عليكم في الجواري ولا حصر كِتابَ اللّه عَلَيْكُمْ يعني حرمت عليكم أمهاتكم وكتب عليكم هذا كتابا

وقيل معناه الزموا كتاب اللّه

وقيل معناه كتابا من اللّه عليكم بمعنى كتب اللّه تحريم ما حرم عليكم من ذلك وتحليل ما حلل كتابا وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ يعني وأحل اللّه لكم ما سوى ذلكم الذي ذكر من المحرمات.

وظاهر هذه الآية يقتضي حل ما سوى المذكورين من الأصناف المحرمات ، لكن قد دل الدليل من السنة بتحريم أصناف أخر سوى ما ذكر فمن ذلك أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ومن ذلك المطلقة ثلاثا لا تحل لزوجها الأول حتى تنكح زوجا غيره ومن ذلك نكاح المعتدة فلا تحل للأزواج حتى تنقضي عدتها ومن ذلك أن من كان في نكاحه حرة لم يجز له أن يتزوج بأمة والقادر على طول الحرة لم يجز له أن يتزوج بالأمة ومن ذلك أن من كان عنده أربع نسوة حرم عليه أن يتزوج بخامسة ومن ذلك الملاعنة فإنها محرمة على الملاعن بالتأبيد فهذه أصناف من المحرمات سوى ما ذكر في الآية فعلى هذا يكون

قوله تعالى : وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ورد بلفظ العموم لكن العموم دخله التخصيص فيكون عاما مخصوصا.

وقوله تعالى : أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ فيه إضمار تقديره وأحل لكم أن تبتغوا أي تطلبوا بأموالكم أن تنكحوا بصداق أو تشتروا بثمن. وفي الآية دليل على أن الصداق لا يتقدر بشيء فيجوز على القليل والكثير لإطلاق

قوله تعالى : أن تبتغوا بأموالكم مُحْصِنِينَ يعني متزوجين

وقيل متعففين غَيْرَ مُسافِحِينَ يعني غير زانين والسفاح الفجور وأصله من السفح وهو الصب وإنما سمي الزنى سفاحا لأن الزاني لا غرض له إلا صب النطفة فقط.

قوله تعالى : فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ اختلفوا في معناه فقال الحسن ومجاهد : أراد ما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بنكاح صحيح لأن أصل الاستمتاع في اللغة الانتفاع وكل ما انتفع به فهو متاع فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني مهورهن وإنما سمي المهر أجرا لأنه بدل المنافع ليس بدل الأعيان كما سمي بدل منافع الدار والدابة أجرا.

وقال قوم المراد من حكم الآية هو نكاح المتعة وهو أن ينكح امرأة إلى مدة معلومة بشيء معلوم فإذا انقضت تلك المدة بانت منه بغير طلاق ويستبرئ رحمها وليس بينهما ميراث وكان هذا في ابتداء الإسلام ثم نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن المتعة فحرمها

(م) عن سبرة بن معبد الجهني أنه كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (فقال يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن اللّه قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا) وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم أي أن نكاح المتعة حرام والآية منسوخة واختلفوا في ناسخها فقيل نسخت بالسنة وهو ما تقدم من حديث سبرة الجهني

(ق) عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال : (نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية) وهذا على مذهب من يقول إن السنة تنسخ القرآن ومذهب الشافعي أن السنّة لا تنسخ القرآن فعلى هذا يقول : إن ناسخ هذه الآية

قوله تعالى في سورة المؤمنون : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ والمنكوحة في المتعة ليست بزوجة ولا ملك يمين واختلفت الروايات عن ابن عباس في المتعة فروي عنه أن الآية محكمة وكان يرخص في المتعة. قال عمارة سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح؟ فقال لا سفاح ولا نكاح.

قلت : فما هي؟ قال متعة؟ قال اللّه تعالى فما به منهن قلت هل لها عدة قال نعم؟ حيضة قلت هل يتوارثان؟ قال لا وروى أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس بالمتعة قال : قاتلهم اللّه أنا ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق لكن قلت إنما تحل للمضطر كما تحل الميتة له وروي أنه رجع عنه. وقال بتحريمها وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله فما استمتعتم به منهن إنها صارت منسوخة بقوله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وروى سالم بن عبد اللّه بن عمر أن عمر بن الخطاب صعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال ما بال أقوام ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عنها لا أجد رجلا نكحها إلا رجمته بالحجارة وقال هدم المتعة : النكاح والطلاق والعدة والميراث قال الشافعي : لا أعلم في الإسلام شيئا أحل ثم حرم ثم أحل ثم حرم غير المتعة. وقال أبو عبيد : المسلمون اليوم مجمعون على أن متعة النساء قد نسخت بالتحريم نسخها الكتاب والسنّة هذا قول أهل العلم جميعا من أهل : الحجاز والشام والعراق من أصحاب الأثر والرأي وأنه لا رخصة فيها لمضطر ولا لغيره قال ابن الجوزي في تفسيره : وقد تكلف قوم من مفسري القرآن فقالوا : المراد بهذه الآية نكاح المتعة ثم نسخت بما روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه نهى عن متعة النساء وهذا تكلف لا يحتاج إليه لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أجاز المتعة ثم منع منها فحرمها فكان قوله منسوخا بقوله

وأما الآية فإنها لم تتضمن جواز المتعة لأنه تعالى قال فيها إن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فدل ذلك على النكاح الصحيح. قال الزّجاج ومعنى قوله فما استمتعتم به منهن فما نكحتموه على الشرائط التي جرت وهو قوله محصنين غير مسافحين أي عاقدين التزويج.

وقال ابن جرير الطبري : أولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوله فما نكحتموه منهن فجامعتموهن فآتوهن أجورهن لقيام الحجة بتحريم اللّه تعالى متعة النساء على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقوله تعالى : فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني مهورهن فَرِيضَةً يعني لازمة وواجبة وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ اختلفوا فيه فمن حمل ما قبله على نكاح المتعة قال : أراد إنهما إذا عقد عقدا إلى أجل على مال فإذا تم الأجل فإن شاءت المرأة زادت في الأجل وزاد الرجل في الأجر ، وإن لم يتراضيا فارقها وقد تقدم أن ذلك كان جائزا ثم نسخ وحرم ومن حمل الآية على الاستمتاع بالنكاح الصحيح. قال المراد بقوله ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به يعني من الإبراء من المهر والافتداء والاعتياض. وقال الزّجاج معناه لا جناح عليكم أن تهب المرأة للزوج مهرها وأن يهب الرجل للمرأة التي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه إِنَّ اللّه كانَ عَلِيماً يعني بما يصلحكم أيها الناس في مناكحكم وغيرها من سائر أموركم حَكِيماً يعني فيما دبر لكم من التدبير وفيما يأمركم به وينهاكم عنه ولا يدخل حكمه خلل ولا زلل.

(فصل في قدر الصداق وما يستحب منه)

اعلم أنه لا تقدير لأكثر الصداق لقوله تعالى : وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً والمستحب أن لا يغالى فيه قال عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه : ألا لا تغالوا في صدقة النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند اللّه لكان أولاكم بها نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما علمت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية أخرجه الترمذي ولأبي داود نحوه

(م) عن أبي سلمة قال : سألت عائشة زوج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كم كان صداق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ قالت : كان صداقه لأزواجه اثنتي عشر أوقية ونشا قالت : أتدري ما النش؟

قلت : لا قالت : نصف أوقية فذلك خمسمائة درهم واختلف العلماء في أقل الصداق فذهب جماعة إلى أنه لا تقدير لأقله بل كل ما جاز أن يكون مبيعا أو ثمنا جاز أن يكون صداقا وهو قول ربيعة وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وقال قوم يتقدر الصداق بنصاب السرقة وهو قول مالك وأبي حنيفة. غير أن نصاب السرقة عند مالك ثلاث دراهم وعند أبي حنيفة عشرة دراهم والدليل على أن الصداق لا يتقدر ما روي عن سهل بن سعد الساعدي قال : جاءت امرأة إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت يا رسول اللّه قد وهبت نفسي لك فنظر إليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فصعد النظر فيها وصوبه ثم طأطأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رأسه فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست فقام رجل من أصحابه فقال يا رسول اللّه إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال فهل عندك من شي ء؟

فقال لا واللّه يا رسول اللّه فقال اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا؟ فذهب ثم رجع فقال : لا واللّه ما وجدت شيئا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (انظر ولو خاتما من حديد) فذهب ثم رجع فقال لا واللّه يا رسول اللّه ولا خاتما من حديد ولكن إزاري هذا. قال سهل ما له رداء فلها نصفه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شي ء) فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم موليا فأمر به فدعا له فلما جاء قال ماذا معك من القرآن قال معي سورة كذا وسورة كذا عددها قال تقرأهن عن ظهر قلب قال نعم قال : اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن

وفي رواية فقد زوجتكها تعلمها من القرآن

وفي رواية فقد أنكحناكها بما معك من القرآن. أخرجاه في الصحيحين وهذا لفظ الحميدي. ففي هذا الحديث دليل على أنه لا تقدير لأقل الصداق لأنه هل تجد شيئا فهذا يدل على جواز أي شيء كان من المال ثم قال ولو خاتما من حديد ولا قيمة له إلا القليل التافه وفيه دليل على أنه يجوز أن يجعل تعليم القرآن صداقا وهو قول الشافعي ومنعه أصحاب الرأي عن أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل.

أخرجه أبو داود عن عبد اللّه بن عامر عن أبيه أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أرضيت من نفسك ومالك بنعلين قالت نعم فأجازه أخرجه الترمذي وقال عمر بن الخطاب : ثلاث قبضات من زبيب مهر.

قوله عز وجل :

﴿ ٢٤