سورة المائدة

نزلت بالمدينة إلا

قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فإنها نزلت بعرفة في حجة الوداع والنبي صلى اللّه عليه وسلم واقف بعرفة فقرأها النبي صلى اللّه عليه وسلم في خطبته وقال (يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها).

فإن قلت لما خص النبي صلى اللّه عليه وسلم هذه السورة من بين سور القرآن بقوله فأحلوا حلالها وحرموا حرامها وكل سور القرآن يجب أن يحل حلالها ويحرم حرامها ،

قلت هو كذلك وإنما خص هذه السورة لزيادة الاعتناء بها فهو كقوله تعالى : إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّه اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللّه يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ فأكد اجتناب الظلم في هذه الأربعة أشهر وإن كان لا يجوز الظلم في شيء من جميع أشهر السنة وإنما أفرد هذه الأربعة الأشهر بالذكر لزيادة الاعتناء بها ،

وقيل إنما خص النبي صلى اللّه عليه وسلم هذه السورة لأن فيها ثمانية عشر حكما لم تنزل في غيرها من سور القرآن.

قال البغوي روي عن ميسرة قال : إن اللّه تعالى أنزل في هذه السورة ثمانية عشر حكما لم ينزلها في غيرها وهي قوله : وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وتمام بيان الطهر في قوله : (إذا قمتم إلى الصلاة- والسارق والسارقة- ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم- ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام)

وقوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ.

١

قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يعني العهود قال الجماعة : واختلفوا في المراد بهذه العقود التي أمر اللّه تعالى بوفائها فقال ابن جريج : هذا خطاب لأهل الكتاب. والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة ، أوفوا بالعقود التي عهدتها إليكم في شأن محمد صلى اللّه عليه وسلم والإيمان به.

وقيل : هو خطاب للمؤمنين أمرهم بالوفاء بالعقود. قال ابن عباس : هي عهود الإيمان وما أخذه على عباده في القرآن فيما أحل وحرم.

وقيل هي العقود التي كانت في الجاهلية كان يعاقد بعضهم بعضا على النصرة والمؤازرة على من حاول ظلمه أو بغاه بسوء وذلك هو معنى الحلف الذي كانوا يتعاقدونه بينهم. قال قتادة : ذكر لنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقول (أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام).

وقيل : بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم وما يعقده الإنسان على نفسه. والعقود خمسة : عقد اليمين ، وعقد النكاح ، وعقد العهد ، وعقد البيع ، وعقد الشركة. زاد بعضهم : وعقد الحلف.

قال الطبري : وأولى الأقوال عندنا بالصواب ما قاله ابن عباس أن معناه أوفوا يا أيها المؤمنون بعقود اللّه التي أوجبها عليكم وعقدها فيما أحلّ وحرم عليكم وألزمكم فرضه وبيّن لكم حدوده وإنما قلنا إن هذا القول أولى بالصواب ، لأن اللّه تعالى أتبعه بالبيان عما أحل لعباده وحرم عليهم

فقال تعالى : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وهو خطاب للمؤمنين خاصة والبهيمة اسم لكل ذي أربع من الحيوان لكن خص في التعارف بما عدا السباع والضواري من الوحوش وإنما سميت بهيمة لأنها أبهمت عن العقل والتمييز. قال الزجاج : كل حي لا يميز فهو بهيمة. والأنعام : جمع النعم وهي الإبل والبقر والغنم ولا يدخل فيها ذوات الحافر في قول جميع أهل اللغة. واختلفوا في معنى الآية فقال الحسن وقتادة : بهيمة الأنعام ، الإبل والبقر والغنم والمعز. وعلى هذا القول إنما أضاف البهيمة إلى الأنعام على جهة التوكيد. وقال الكلبي : بهيمة الأنعام وحشيّها كالظباء وبقر الوحش وحمر الوحش. وعلى هذا إنما أضاف البهيمة إلى الأنعام ليعرف جنس الأنعام وما أحل منها لأنه لو أفردها فقال البهيمة لدخل فيه ما يحل ويحرم من البهائم فلهذا قال تعالى : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ. وقال ابن عباس :

هي الأجنّة التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت أو نحرت. ذهب أكثر العلماء إلى تحليلها وهو مذهب الشافعي ويدل عليه ما روي عن أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال في الجنين ذكاته ذكاة أمه أخرجه الترمذي وابن ماجة.

وفي رواية أبي داود قال : (قلنا يا رسول اللّه ننحر النّاقة ونذبح البقرة والشاة ونجد في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله؟ قال : كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه) وروى الطبري عن ابن عمر في قوله : أحلّت لكم بهيمة الأنعام ، قال : ما في بطنها.

قال عطية العوفي : قلت إن خرج ميتا آكله؟ قال : نعم هو بمنزلة رئتها وكبدها. وعن ابن عباس قال :

الجنين من بهيمة الأنعام وعنه أن بقرة نحرت فوجد في بطنها جنين فأخذ ابن عباس بذنب الجنين. وقال : هذا من بهيمة الأنعام. وشرط بعضهم الإشعار وتمام الخلق. وقال ابن عمر : ذكاة ما في بطنها ذكاتها إذا تم خلقه ونبت شعره ومثله عن سعيد بن المسيب. وقال أبو حنيفة : لا يحل أكل الجنين إذا خرج ميتا بعد ذكاة الأم.

وقوله تعالى : إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ يعني في القرآن تحريمه وأراد به

قوله تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إلى آخر الآية فهذا من المتلو علينا وهو ما استثنى اللّه عز وجل من بهيمة الأنعام غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يعني أحللت لكم الأنعام كلها والوحشية أيضا من الظباء والبقر والحمر غير محلّي صيدها وأنتم محرمون في حال الإحرام فلا يجوز للمحرم أن يقتل صيدا في حال إحرامه إِنَّ اللّه يَحْكُمُ ما يُرِيدُ يعني أن اللّه يقضي في خلقه ما يشاء ، من تحليل ما أراد تحليله وتحريم ما أراد تحريمه وفرض ما يشاء أن يفرضه عليهم من أحكامه وفرائضه مما فيه مصلحة لعباده.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّه وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)

٢

قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّه نزلت في الحطم واسمه شريح بن هند بن ضبعة البكري أتى المدينة وحده وخلف خيله خارج المدينة ودخل على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال للنبي صلى اللّه عليه وسلم : إلا ما ، تدعو الناس

فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقال حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ولعلي أسلم وآتي بهم فخرج من عنده وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان فلما خرج شريح. قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم ، فمرّ بسرح من سرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول :

لقد لفّها بالليل سواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر وضم باتوا نياما وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين ممسوح القدم

فتبعوه فلم يدركوه فلما كان العام القابل ، خرج شريح حاجّا مع حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة وقد قلد الهدي ، فقال المسلمون : يا رسول اللّه هذا الحطم قد خرج حاجا فخلّ بيننا وبينه ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : إنه قد قلد الهدي. فقالوا : يا رسول اللّه هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية فأبى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّه.

قال ابن عباس : هي المناسك كان المشركون يحجون ويهدون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم اللّه عن ذلك.

وقيل : الشعائر ، الهدايا المشعرة وإشعارها أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل دمه فيكون ذلك علامة أنها هدي وهو سنة في الإبل والبقر عون الغنم ، ويدل عليه ما روي عن عائشة : (فتلت قلائد بدن النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم أشعرها وقلدها ثم بعث بها إلى البيت فما حرم عليه شيء كان له حلالا) أخرجاه في الصحيحين

(م).

عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهلّ بالحج. وعند أبي حنيفة لا يجوز إشعار الهدي بل قال يكره ذلك. وقال ابن عباس (١) في معنى الآية : لا تحلوا شعائر اللّه هي أن تصيد وأنت محرم.

وقيل : شعائر اللّه شرائع اللّه ومعالم دينه ، والمعنى : لا تحلوا شيئا من فرائضه التي افترض عليكم واجتنبوا نواهيه التي نهى عنها وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ أي ولا تحلوا الشهر الحرام بالقتال فيه والشهر الحرام : هو الذي كانت العرب تعظمه وتحرم القتال في الجاهلية فيه ، فلما جاء الإسلام ، لم ينقض هذا الحكم ، بل أكده. والمراد بالشهر الحرام هنا ، ذو القعدة.

وقيل : رجب. ذكرهما ابن جرير.

وقيل : المراد بإحلال الشهر الحرام النسيء. قال مقاتل : كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ ، فيقول : إني قد أحللت كذا وحرمت كذا يعني به الأشهر فنهى اللّه عن ذلك وسيأتي تفسير النسيء في سورة براءة : وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ الهدي ما يهدى إلى بيت اللّه من بعير أو بقرة أو شاة أو غير ذلك مما يتقرب به إلى اللّه تعالى ، والقلائد جمع قلادة وهي التي تشد في عنق البعير وغيره والمعنى : ولا الهدي ذوات القلائد. قال الشاعر :

حلفت برب مكة والمصلى وأعناق هدي مقلدات

فعلى هذا القول إنما عطف القلائد على الهدي مبالغة في التوصية لأنها من أشراف البدن المهداة والمعنى :

ولا تستحلوا الهدي خصوصا المقلدات منها.

وقيل : أراد أصحاب القلائد وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا إذا

________

(١) قوله وقال ابن عباس إلخ كأن هذا قول ثان له رضي اللّه عنه إذ تقدم له غير هذا ا ه.

أرادوا الخروج من الحرم قلدوا أنفسهم وإبلهم من لحاء شجر الحرم فكانوا يأمنون بذلك فلا يتعرض لهم أحد ، فنهى اللّه المؤمنين عن ذلك الفعل ونهاهم عن استحلال نزع شيء من شجر الحرم وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يعني ولا تستحلوا القاصدين إلى البيت الحرام وهو الكعبة شرّفها اللّه وعظمها يَبْتَغُونَ يعني يطلبون فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ يعني الرزق والأرباح في التجارة وَرِضْواناً يعني ويطلبون رضا اللّه عنهم بزعمهم لأن الكافر لا حظ له في الرضوان لكن يظن أن فعله ذلك طلب الرضوان فيجوز أن يوصف به بناء على ظنه.

وقيل إن المشركين كانوا يقصدون بحججهم ابتغاء رضوان اللّه وإن كانوا لا يغالونه فلا يبعد أن يحصل لهم بسبب ذلك القصد نوع من الحرمة وهو الأمن على أنفسهم.

وقيل : كان المشركون يلتمسون في حجهم ما يصلح لهم دنياهم ومعاشهم.

وقيل : ابتغاء الفضل هو للمؤمنين والمشركين عامة وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة وذلك أنهم يحجون جميعا.

( (فصل)) اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية فقال قوم : هذه الآية منسوخة إلى هاهنا لأن

قوله تعالى لا تحلوا شعائر اللّه ولا الشهر الحرام يقتضي حرمة القتل في الشهر الحرام وفي الحرم وذلك منسوخ بقوله تعالى :

فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ

وقوله تعالى : وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يقتضي حرمة منع المشركين عن البيت الحرام وذلك منسوخ بقوله تعالى : فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا فلا يجوز أن يحج مشرك ولا يأمن بالهدي والقلائد كافر وهذا قول ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأكثر المفسرين.

قال الشعبي : لم ينسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية.

وقيل : المنسوخ منها قوله ولا آمين البيت الحرام نسختها آية براءة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ

وقوله : فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وقال ابن عباس : كان المؤمنون والمشركون يحجون البيت جميعا فنهى اللّه المؤمنين أن يمنعوا أحدا أن يحج البيت أو يتعرضوا له من مؤمن أو كافر ثم أنزل اللّه بعد هذا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وقال آخرون : لم ينسخ من ذلك شيء سوى القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلدونها من لحاء شجر الحرم.

قال الواحدي : وذهب جماعة إلى أنه لا منسوخ في هذه السورة وأن هذه الآية محكمة قالوا ما ندبنا إلى أن نخيف من يقصد بيته من أهل شريعتنا في الشهر الحرام ولا في غيره وفصل الشهر الحرام عن غيره بالذكر تعظيما وتفضيلا وحرم علينا أخذ الهدي من المهدين وصرفه عن بلوغ محله وحرم علينا القلائد التي كانوا يفعلونها في الجاهلية وهذا غير مقبول ، والظاهر ما عليه جمهور العلماء من نسخ هذه الآية لإجماع العلماء ، على أن اللّه عزّ وجلّ قد أحلّ قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها.

وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه وذراعيه جميع لحاء الشجر لم يكن ذلك له أمانا من القتل إذا لم يكن قد تقدم له عهد ذمة أو أمان. وكذلك أجمعوا على منع من قصد البيت بحج أو عمرة من المشركين لقوله تعالى عمرة من المشركين لقوله تعالى : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا واللّه أعلم.

وقوله تعالى : وَإِذا حَلَلْتُمْ يعني من إحرامكم فَاصْطادُوا هذا أمر إباحة ، لأن اللّه حرم الصيد على المحرم حالة إحرامه بقوله تعالى : غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وإذا حلّ من إحرامه بقوله وإذا حللتم فاصطادوا وإنما قلنا إنه أمر إباحة لأنه ليس واجبا على المحرم إذا حل من إحرامه أن يصطاد ومثله

قوله تعالى :

فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ معناه أنه قد أبيح لكم ذلك بعد الفراغ من الصلاة وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ.

قال ابن عباس : لا يحملنكم.

وقيل : معناه لا يكسبنكم ولا يدعوكم شَنَآنُ قَوْمٍ يعني بغض قوم وعداوتهم أَنْ صَدُّوكُمْ يعني لأن صدوكم عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ والمعنى : لا يحملنكم عداوة قوم على الاعتداء ، لأن صدوكم عن المسجد الحرام ، لأن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية ، فكان الصدّ قد تقدم أَنْ تَعْتَدُوا عليهم يعني : بالقتل وأخذ المال وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى يعني ليعن بعضكم بعضا على ما يكسب البر والتقوى قال ابن عباس : البر متابعة السنة وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ يعني ولا يعن بعضكم بعضا على الإثم وهو الكفر والعدوان هو الظلم.

وقيل : الإثم المعاصي ، والعدوان البدعة

(م) عن النواس بن سمعان ، قال : سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن البر والإثم فقال : البر (حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس) وَاتَّقُوا اللّه أي احذروا اللّه أن تعتدوا ما أمركم به أو تجاوزوا إلى ما نهاكم عنه إِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقابِ يعني لمن خالف أمره ففيه وعيد وتهديد عظيم.

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)

٣

قوله عز وجل : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ بيّن اللّه تعالى في أول السورة ما أحل لنا من بهيمة الأنعام بقوله أحلت لكم بهيمة الأنعام ثم إنه تعالى استثنى من ذلك بقوله : إلا ما يتلى عليكم. فذكر ذلك المستثنى بقوله حرمت عليكم الميتة فكل ما فارقته الروح مما يذبح بغير ذكاة فهو ميتة. وسبب تحريم الميتة ، أن الدم لطيف جدا ، فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس ذلك الدم وبقي في العروق فيفسد ويحصل منه ضرر عظيم والدم هو المسفوح الجاري ، وكانت العرب في الجاهلية تجعل الدم في المصارين وتشويه وتأكله ، فحرم اللّه ذلك كله. ولحم الخنزير ، أراد به جميع أجزائه وأعضائه. وإنما خص اللحم بالذكر ، لأنه المقصود بالأكل وقد تقدم في سورة البقرة أحكام هذه الثلاثة أشياء وما استثنى الشارع من الميتة والدم وهو السمك والجراد والكبد والطحال وذكرنا الدليل على إباحة ذلك واختلاف العلماء في ذلك.

وقوله تعالى : وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ يعني ما ذكر على ذبحه غير اسم اللّه وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح فحرم اللّه بهذه الآية وبقوله : ولا تأكلوا مما لا يذكر اسم اللّه عليه وَالْمُنْخَنِقَةُ.

قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها فحرم اللّه ذلك. والمنخنقة : جنس الميتة لأنها لما ماتت لم يسل دمها. والفرق بينهما ، أن الميتة تموت بلا سبب أحد ، والمنخنقة تموت بسبب الخنق. وَالْمَوْقُوذَةُ : يعني المقتولة بالخشب. وكانت العرب في الجاهلية يضربون الشاة بالعصا حتى تموت ويأكلونها فحرّم اللّه ذلك وَالْمُتَرَدِّيَةُ يعني التي تتردى من مكان عال فتموت أو في بئر فتموت. والتردي : هو السقوط من سطح أو من جبل ونحوه وهذه المتردية تلحق بالميتة فيحرم أكلها ويدخل في هذا الحكم إذا رمى بسهمه صيدا فتردى ذلك الصيد من جبل أو من مكان عال فمات فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم هل مات بالتردي أو بالسهم وَالنَّطِيحَةُ يعني التي تنطحها شاة أخرى حتى تموت وكانت العرب في الجاهلية تأكل ذلك ، فحرمها اللّه تعالى لأنها في حكم الميتة. فأما الهاء في الكلمات التي تقدمت أعني المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ، فإنما دخلت عليها ، لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة. كأنه قال : حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة

والمتردية. وخصت الشاة ، لأنها من أعم ما يأكله الناس ، والكلام إنما يخرج على الأعم الأغلب ثم يلحق به غيره.

فإن قلت : لم أثبتت الهاء في النطيحة مع أنها في الأصل منطوحة فعدلوا بها إلى النطيحة وفي مثل هذا الموضع تكون الهاء محذوفة تقول : كف خضيب وعين كحيل يعني كف مخضوبة وعين مكحولة.

قلت : إنما تحذف الهاء من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها ، فإذا لم يذكر الموصوف وذكرت الصفة وضعتها موضع الموصوف تقول : رأيت قبيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أم امرأة. فعلى هذا ، إنما دخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لموصوف غير مذكور وهو الشاة.

وقال ابن السكيت : قد تأتي فعيلة بالهاء وهي في تأويل مفعول بها تخرج مخرج الأسماء ولا يذهب بها مذهب النعوت نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع ومررت بقبيلة بني فلان.

وقوله تعالى : وَما أَكَلَ السَّبُعُ قال قتادة : كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله أو أكل منه أكلوا ما بقي منه ، فحرمه اللّه تعالى.

والسبع اسم يقع على كل حيوان له ناب ويعدو على الناس والدواب فيفترس بنابه كالأسد والذئب والنمر والفهد ونحوه وفي الآية محذوف تقديره وما أكل السبع منه لأن ما أكله السبع فقد فقد فلا حكم له ، إنما الحكم للباقي منه.

إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ يعني إلا ما أدركتموه وقد بقيت فيه حياة مستقرة من هذه الأشياء المذكورة والظاهر أن هذا الاستثناء يرجع إلى جميع المحرمات المذكورة في الآية من

قوله تعالى : والمنخنقة ، إلى ، وما أكل السبع. وهذا قول علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن وقتادة.

قال ابن عباس : يقول اللّه تعالى ما أدركتم من هذا كله وفيه روح فاذبحوه فهو حلال. وقال الكلبي : هذا الاستثناء مما أكل السبع خاصة. والقول هو الأول

وأما كيفية إدراكها ، فقال أكثر أهل العلم من المفسرين : إن أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف أو ذنب يتحرك فأكله جائز. قال ابن عباس : إذا طرفت بعينها أو ركضت برجلها أو تحركت فاذبح فهو حلال. وذهب بعض أهل العلم إلى أن السبع إذا جرح فأخرج الحشوة أو قطع لجوف قطعا تيأس معه الحياة فلا ذكاة لأن ذلك وإن كان به حركة ورمق إلا أنه قد صار إلى حالة لا يؤثر في حياته الذبح وهو مذهب مالك واختاره الزجاج وابن الأنباري ، لأن معنى التذكية أن يلحقها وفيها بقية تشخب معها الأوداج وتضطرب اضطراب المذبوح لوجود الحياة فيه قبل ذلك وإلا فهو كالميتة. وأصل الذكاة في اللغة تمام الشيء ، فالمراد من التذكية ، تمام قطع الأوداج وانهار الدم ويدل عليه ما روي عن رافع بن خديج عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : ما أنهر الدم وذكر اسم اللّه عليه فكلوه ليس السن والظفر (و سأحدثكم عن ذلك ، أما السن فعظم

وأما الظفر فمدى الحبشة) أخرجاه في الصحيحين.

وأقل الذبح في الحيوان المقدور عليه قطع المريء والحلقوم وأكمله قطع الودجين مع ذلك والحلقوم بعد الفم ، وهو موضع النفس والمريء مجرى الطعام والودجان عرقان يقطعان عند الذبح

وأما آلة الذبح فكل ما أنهرا الدم وفرى الأوداج من حديد وغيره إلا السن والظفر لما تقدم من نهي النبي صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك.

قوله تعالى : وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ يعني وحرم ما ذبح على النصب. والنصب يحتمل أن يكون جمعا واحده نصاب وأن يكون واحدا وجمعه أنصاب وهو الشيء المنصوب. قيل : كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون حجرا منصوبة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ويذبحون لها وليست هذه الحجارة بأصنام إنما الأصنام الصور المنقوشة. وقال ابن عباس : هي الأصنام المنصوبة. والمعنى : وما ذبح على اسم النصب أو لأجل النصب

فهو حرام وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ يعني وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام وهو طلب القسم والحكم من الأزلام وهي القداح وكانت أزلامهم سبع قداح مستوية مكتوب على واحد منها أمرني ربي وعلى واحد نهاني وعلى واحد منكم وعلى واحد من غيركم وعلى واحد ملصق وعلى واحد العقل وعلى واحد غفل أي ليس عليه شيء. وكانت العرب في الجاهلية ، إذا أرادوا سفرا أو تجارة أو نكاحا أو اختلفوا في نسب أو أمر قتيل أو تحمل عقل أو غير ذلك من الأمور العظام جاءوا إلى هبل وكانت أعظم صنم لقريش ، بمكة وجاءوا بمائة درهم وأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم. فإن خرج أمرني ربي فعلوا ذلك الأمر وإن خرج نهاني ربي ولم يفعلوه وإن أجالوا على نسب فإن خرج منكم كان وسطا فيهم وإن خرج من غيركم كان حلفا فيهم وإن خرج ملصق كان على حاله وإن اختلفوا في العقل وهو الدية فمن خرج عليه قدح العقل تحمله وإن خرج الغفل أجابوا ثانيا حتى يخرج المكتوب عليه فنهاهم اللّه عن ذلك وحرمه وسماه فسقا.

وقيل : الأزلام كعاب فارس والروم التي كانوا يقامرون بها.

وقيل : كانت الأزلام للعرب. والكعاب للعجم وهي : النرد وكلها حرام لا يجوز اللعب بشيء منها.

عن قطن بن قبيصة عن أبيه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : (العيافة والطيرة والطرق من الجبت) أخرجه أبو داود وقال : الطرق الزجر والعيافة الخط.

وقيل : العيافة زجر الطير والطرق الضرب بالحصى والجبت كل ما عبد من دون اللّه عز وجل.

وقيل : الجبت الكاهن.

.

وروى البغوي بسند الثعلبي عن أبي الدرداء قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (من تكهن أو استقسم بالأزلام أو تطيّر طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى يوم القيامة

وقوله تعالى : ذلِكُمْ فِسْقٌ يعني ما ذكر من هذه المحرمات في هذه الآية لأن المعنى حرم عليكم تناول كذا وكذا فإنه فسق والفسق ما يخرج من الحلال إلى الحرام

وقيل إن الإشارة عائدة على الاستقسام بالأزلام والأول أصح الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ يعني يئسوا أن ترجعوا عن دينكم إلى دينهم كفارا ، وذلك أن الكفار كانوا يطمعون في أن يعود المسلمون إلى دينهم ، فلما قوي الإسلام ، أيسوا من ذلك وذلك هو اليوم الذي دخل فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة عام حجة الوداع فعند ذلك يئس الكفار من بطلان دين الإسلام.

وقيل : إن ذلك هو يوم عرفة فنزلت هذه الآية والنبي صلى اللّه عليه وسلم واقف بعرفة.

وقيل : لم يرد يوما بعينه وإنما المعنى الآن يئس الذين كفروا من دينكم فهو كما تقول : اليوم قد كبرت.

تريد : الآن قد كبرت. وتقول : فلان كان يزورنا وهو اليوم يجفونا ولم ترد يوما بعينه. يعني : وهو الآن يجفونا ولم تقصد به اليوم قال الشاعر :

فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسرّ

أراد فزمان علينا وزمان لنا ولم يقصد اليوم واحد معين فَلا تَخْشَوْهُمْ فلا تخافوا الكفار أيها المؤمنون الذين آمنوا أن يظهروا على دينكم فقد زال الخوف عنكم بإظهار دينكم وَاخْشَوْنِ أي وخافوا مخالفة أمري وأخلصوا الخشية لي.

قوله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نزلت هذه الآية في يوم الجمعة بعد العصر في يوم عرفة والنبي صلى اللّه عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فكادت عضد الناقة تندق وبركت لثقل الوحي وذلك في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة

(ق).

عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال : فأي آية؟ قال : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعرفات في يوم الجمعة أشار عمر إلى ذلك اليوم يوم عيد لنا. وعن ابن عباس

أنه قرأ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً وعنده يهودي فقال : لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذناها عيدا فقال ابن عباس : (فإنها نزلت في يوم عيدين في يوم جمعة ويوم عرفة) أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب.

قال ابن عباس : كان في ذلك اليوم خمسة أعياد يوم جمعة ، ويوم عرفة ، وعيد لليهود ، وعيد للنصارى ، وعيد للمجوس. ولم تجتمع أعياد لأهل الملل في يوم واحد قبله ولا بعده.

وروي أنه لما نزلت هذه الآية ، بكى عمر فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : (ما يبكيك يا عمر؟ فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا. فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص قال : صدقت) فكانت هذه الآية نعي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عاش بعدها أحدا وثمانين يوما ومات صلى اللّه عليه وسلم يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول

وقيل : لاثنتي عشر ليلة وهو الأصح سنة إحدى عشرة من الهجرة.

وأما تفسير الآية فقوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يعني بالفرائض والسنن والحدود والأحكام والحلال والحرام ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض هذا معنى قول ابن عباس.

وقال سعيد بن جبير وقتادة : معنى أكملت لكم دينكم ، أي حيث لم يحج معكم مشرك وخلا الموسم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وللمسلمين.

وقيل : معناه أني أظهرت دينكم على الأديان وأمنتكم من عدوكم بأن كفيتكم ما كنتم تخافونه.

وقيل : إكمال الدين لهذه الأمة أنه لا يزول ولا ينسخ وإن شريعتهم باقية إلى يوم القيامة.

وقيل : إكمال الدين لهذه الأمة أنهم آمنوا بكل نبي وكل كتاب ولم يكن هذا لغير هذه الأمة. وقال ابن الأنباري : اليوم أكملت شرائع الإسلام على غير نقصان كان قبل هذا الوقت وذلك أن اللّه تعالى كان يتعبد خلقه بالشيء في وقت ثم يزيد عليه في وقت آخر فيكون الوقت الأول تاما في وقته ، وكذلك الوقت الثاني تاما في وقته فهو كما يقول القائل :

عندي عشرة كاملة. ومعلوم أن العشرين أكمل منها والشرائع التي تعبد اللّه عز وجل بها عباده في الأوقات المختلفة مختلفة وكل شريعة منها كاملة في وقت التعبد بها فكمل اللّه عز وجل الشرائع في اليوم الذي ذكره وهو يوم عرفة ولم يوجب ذلك أن الدين كان ناقصا في وقت من الأوقات ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن القفال واختاره أن الدين ما كان ناقصا البتة بل كان أبدا كاملا كانت الشرائع النازلة من عند اللّه كافية في ذلك الوقت إلا أنه تعالى كان عالما في أول وقت البعثة بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد لا يصالح فيه لا جرم كان ينسخ بعد الثبوت وكان يزيل بعد التحتم.

وأما في آخر زمان البعثة ، فأنزل اللّه شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة ، فالشرع أبدا كان كاملا إلا أن الأول كمال إلى يوم مخصوص ،

والثاني كمال إلى يوم القيامة ، فلأجل هذا المعنى قال : اليوم أكملت لكم دينكم. ثم قال تعالى : وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي يعني بإكمال الدين والشريعة ، لأنه لا نعمة أتم من الإسلام.

وقال ابن عباس : حكم لها بدخول الجنة.

وقيل : معناه أنه تعالى أنجز لهم ما وعدهم في قوله ولأتم نعمتي عليكم فكان من تمام النعمة أن دخلوا مكة آمنين وحجّوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً يعني واخترت لكم الإسلام دينا من بين الأديان

وقيل : معناه ورضيت لكم الإسلام لأمري والانقياد لطاعتي فيما شرعت لكم من الفرائض والأحكام والحدود ومعالم الدين الذي أكملته لكم وإنما قال تعالى :

وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً يوم نزلت هذه الآية وإن كان اللّه تعالى لم يزل راضيا بدين الإسلام فيما مضى قبل نزول هذه الآية لأنه لم يزل يصرف نبيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعباده المؤمنين من حال إلى حال وينقلهم من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها حتى أكمل لهم شرائع الدين ومعالمه وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه ثم أنزل عليهم هذه الآية :

ورضيت لكم الإسلام دينا ، يعني بالصفة التي هو اليوم بها وهي نهاية الكمال وأنتم الآن عليه فالزموه ولا

تفارقوه. روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد اللّه قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول قال جبريل قال اللّه عز وجل :

(هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه) وروى الطبري عن قتادة قال : ذكر لنا أنه يمثل لكل أهل دين دينهم يوم القيامة فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في الخبر حتى يجيء الإسلام فيقول يا رب أنت السلام وأنا الإسلام فيقول إياك اليوم أقبل وبك اليوم أجزى.

وقوله تعالى :

فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ هذه الآية من تمام ما تقدم ذكره في المطاعم التي حرمها اللّه تعالى ومتصلة بها ، والمعنى : أن المحرمات وإن كانت محرمة ، إلا أنها قد تحل في حالة الاضطرار إليها. ومن

قوله تعالى : ذلكم فسق ، إلى هنا اعتراض وقع بين الكلامين والغرض منه تأكيد ما تقدم ذكره من معنى التحريم ، لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام الذي هو المرضي عند اللّه.

ومعنى الآية : فمن اضطر أي أجهد وأصيب بالضر الذي لا يمكنه معه الامتناع من أكل الميتة. وهو

قوله تعالى : في مخمصة ، يعني في مجاعة. والمخمصة : خلو البطن من الغذاء عند الجوع. غير متجانف لإثم : يعني غير مائل إلى إثم أو منحرف إليه. والمعنى : فمن اضطر إلى أكل الميتة أو إلى غيرها في المجاعة فليأكل غير متجانف لإثم وهو أن يأكل فوق الشبع. وقول فقهاء العراق.

وقيل : معناه غير متعرض لمعصية في مقصد وهو قول فقهاء الحجاز فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ ، يعني لمن أكل من الميتة في حال الجوع والاضطرار.

يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّه فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّه عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)

٤

قوله عز وجل : يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ روى الطبري بسنده عن أبي رافع قال : (جاء جبريل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم يستأذن عليه فأذن له فلم يدخل فقال : قد أذنّا لك يا رسول اللّه قال أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب).

قال أبو رافع فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها ثم جئت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته فأمرني بقتله فرجعت إلى الكلب فقتلته فجاؤوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا رسول اللّه ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها قال فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه : يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ.

وروي عن عكرمة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب فقتل حتى بلغ العوالي فدخل عاصم وسعد بن أبي خيثمة وعويمر بن ساعدة على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا : ماذا أحل لنا فنزلت : يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ قال ابن الجوزي : وأخرج حديث أبي رافع الحاكم في صحيحه قال البغوي : فلما نزلت هذه الآية أذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها

(ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (من أمسك كلبا فإنه ينقص كل يوم من عمله قيراط إلا كلب حرث أو ماشية). ولمسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال (من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم) وقال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين وهو زيد الخيل الذي سماه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زيد الخير قالا : يا رسول اللّه إنّا قوم نصيد بالكلاب وبالبزاة فماذا يحل لنا فنزلت هذه الآية.

قال البغوي : وهذا القول أصح في سبب نزولها.

وأما التفسير فقوله تعالى يسألونك يعني يسألك أصحابك يا محمد ما الذي أحل لهم أكله من المطاعم والمآكل كأنهم لما تلا عليهم من خبائث المآكل ما تلا سألوا عما أحل لهم قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ يعني قل لهم يا محمد أحل لكم الطيبات يعني : ما ذبح عن اسم اللّه عز

وجل.

وقيل : الطيبات كل ما تستطيبه العرب وتستلذه من غير أن يرد بتحريمه نص من كتاب أو سنة. واعلم : أن العبرة في الاستطابة والاستلذاذ بأهل المروءة والأخلاق الجميلة من العرب ، فإن أهل البادية منهم يستطيبون أكل جميع الحيوانات فلا عبرة بهم لقوله تعالى : وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ فإن الخبيث غير مستطاب ، فصارت هذه الآية الكريمة نصا فيما يحل ويحرم من الأطعمة.

وقوله تعالى : وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ يعني وأحل صيد ما علمتم من الجوارح فحذف ذكر الصيد وهو مراد في الكلام لدلالة الباقي عليه ولأنهم سألوا عن الصيد

وقيل : إن قوله وما علمتم من الجوارح ابتداء كلام خبره فكلوا مما أمسكن عليكم وعلى هذا القول يصح معنى الكلام من غير إضمار. والجوارح : جمع جارحة وهي الكواسب من : السباع والطير كالفهد والنمر والكلب والبازي والصقر والعقاب والشاهين والباشق من الطير مما يقبل التعليم سميت جوارح من الجرح لأنها تجرح الصيد عند إمساكه

وقيل : سميت جوارح لأنها تكسب. والجوارح : الكواسب من جرح واجترح إذا اكتسب ومنه

قوله تعالى : الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ

يعني اكتسبوا وقوله ويعلم ما جرحتم بالنهار أي اكتسبتم مكلبين يعني معلمين.

والمكلب : هو الذي يغري الكلاب على الصيد.

وقيل : هو مؤدّب الجوارح ومعلمها وإنما اشتق له هذا الاسم من الكلب ، لأنه أكثر احتياجا إلى التعليم من غيره من الجوارح. (تعلمونهن) يعني تعلمون الجوارح الاصطياد مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّه يعني من العلم الذي علمكم اللّه ، ففي الآية دليل على أنه لا يجوز صيد جارحة ما لم تكن معلمة. وصفة التعليم هو أن الرجل يعلم جارحة الصيد وذلك أن يوجد فيها أمور منها : أنه إذا أشليت (١) على الصيد استشلت وإذا زجرت انزجرت وإذا أخذت الصيد أمسكت ولم تأكل منها شيئا ومنها أن لا ينفر منه إذا أراده وأن يجيبه إذا دعاه فهذا هو تعليم جميع الجوارح فإذا وجد ذلك منها مرارا كانت معلمة وأقلها ثلاث مرات فإنه يحل قتلها إذا جرحت بإرسال صاحبها

(ق). عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت إنا قوم نصيد بهذه الكلاب؟ فقال (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم اللّه عليه فكل مما أمسك عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه وإن خالط كلابا لم يذكر اسم اللّه عليه فأمسكن وقتلن فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره).

وفي رواية : فإنك لا تدري أيها قتل وسألته عن الصيد المعراض ، فقال : إذا أصبت بحده فكل وإذا أصبت بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل فإن وقع في المال فلا تأكل.

واختلف العلماء فيما إذا أخذت الكلاب الصيد وأكلت منه شيئا فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه ويروى ذلك عن ابن عباس وهو قول عطاء وطاوس الشعبي وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وهو أصح قول الشافعي ويدل عليه قوله صلى اللّه عليه وسلم : وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ورخص بعضهم في أكله يروي ذلك عمر وسلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وبه قال مالك لما روي عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في صيد الكلب (إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم اللّه فكل وإن أكل منه) أخرجه أبو داود.

وأما غير المعلم من الجوارح إذا أخذت صيدا أو المعلم إذا خرج بغير إرسال صاحبه فأخذ وقتل فإنه لا يحل إلا أن يدركه حيا فيذبحه فيحل

(ق).

________

(١) قوله إذا أشليت قال في الصحاح وقول الناس أشليت الكلب على الصيد خطأ وقال أبو زيد أشليت الكلب دعوته وقال ابن السكيت يقال أو سدت الكلب بالصيد وآسدته إذا أغربته به ولا يقال أشليته إنما الإشلاء الدعاء ا ه.

عن أبي ثعلبة الخشني قال : قلت يا رسول اللّه أنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي؟ قال : أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم اللّه عليه فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم اللّه عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل.

وقوله تعالى : فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ دخلت من في قوله مما للتبعيض لأنه إنما أحل أكل بعض الصيد وهو اللحم دون الفرث والدم.

وقيل : من زائدة فهو كقوله تعالى : كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّه عَلَيْهِ.

قال ابن عباس : يعني إذا أرسلت جارحك فقل بسم اللّه وإن نسيت فلا حرج. ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم لعدي : (إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم اللّه عليه فكل) فعلى هذا يكون الضمير في عليه عائد إلى ما علمتم من الجوارح أي سموا اللّه عليه عند إرساله.

وقيل : الضمير عائد إلى ما أمسكن عليكم. والمعنى : سموا اللّه عليه إذا أدركتم ذكاته.

وقيل : يحتمل أن يكون الضمير عائد إلى الأكل يعني واذكروا اسم اللّه عليه عند الأكل فعلى هذا تكون للتسمية شرطا عند إرسال الجوارح وعند إرسال الذبيحة وعند الأكل وسيأتي بيان هذه المسألة (١) في سورة الأنعام عند قوله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه وَاتَّقُوا اللّه يعني واحذروا مخالفة اللّه يعني فيما أحل لكم وحرم عليكم إِنَّ اللّه سَرِيعُ الْحِسابِ يعني إذا حاسب عباده يوم القيامة ففيه تخويف لمن خالف أمره وفعل ما نهاه عنه.

٥

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)

قوله عز وجل : الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إنما كرر إحلال الطيبات للتأكيد كأنه قال : اليوم أحل لكم الطيبات التي سألتم عنها ويحتمل أن يراد باليوم ، اليوم الذي أنزلت فيه هذه الآية أو اليوم الذي تقدم ذكره في قوله : اليوم يئس الذي كفروا من دينكم اليوم أكملت لكم دينكم. ويكون الغرض من ذكر هذا الحكم ، أنه تعالى قال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، فبين أنه كما أكمل الدين وأتم النعمة ، فكذلك أتم النعمة بإحلال الطيبات.

وقيل : ليس المراد باليوم يوما معينا وقد تقدم الكلام في ذلك اليوم وفي معنى الطيبات في الآية المتقدمة.

وقوله تعالى : وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ يعني وذبائح أهل الكتاب حل لكم وهم اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم. فأما من دخل في دينهم بعد مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم وهم متنصروا العرب من بني تغلب فلا تحل ذبيحته.

روي عن علي بن أبي طالب قال : لا تأكل من ذبائح نصارى العرب بني تغلب فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر. وبه قال ابن مسعود. ومذهب الشافعي : أن من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن ، فإنه لا تحل ذبيحته.

سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب فقال : لا بأس به. ثم قرأ : ومن يتولهم منكم ، فإنه منهم وهذا

________

(١) قوله وسيأتي بيان هذه المسألة إلخ لم يتعرض لما ذكره هنا عند الآية الآتية في سورة الأنعام ا ه مصححه.

قول الحسن وعطاء بن أبي رباح والشعبي وعكرمة وقتادة والزهري والحكم وحماد وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد والرواية الأخرى مثل هذا مذهب الشافعي.

وأجمعوا على تحريم ذبائح المجوس وسائر أهل الشرك من مشركي العرب وعبدة الأصنام ومن لا كتاب له ، وأجمعوا على أن المراد بطعام الذين أوتوا الكتاب ذبائحهم خاصة لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة ولأن ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح فحمل هذه الآية عليه أولى ولأن سائر الطعام لا يختلف من تولاه من كتابي أو غيره ، وإنما تختلف الذكاة ، فلما خص أهل الكتاب بالذكر دل على أن المراد بطعامهم وذبائحهم واختلف العلماء فيما لو ذبح يهودي أو نصراني على غير اسم اللّه فقال ابن عمر : لا يحل ذلك وهو قول ربيعة وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يحل. سئل الشعبي وعطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح فقال : يحل فإن اللّه قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.

وقال الحسن : إذا ذبح اليهودي والنصراني وذكر غير اسم اللّه وأنت تسمع فلا تأكل وإذا غاب عنك فكل فقد أحله اللّه لك وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا وإن ذكروا غير اسم اللّه فيكون هذا ناسخا لقوله تعالى : وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ ، وليس الأمر كذلك ولا نسخ لأن الأصل أنهم يذكرون اللّه عند الذبح فيحمل أمرهم على هذا فإن تيقنا أنهم ذبحوا على غير اسم اللّه لم تأكل ولا وجه للنسخ.

وقوله تعالى : وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ يعني أن ذبائحنا لهم حلال وهذا يدل على أنهم مخاطبون بشريعتنا.

وقال الزجاج : معناه ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم فجعل الخطاب للمؤمنين على معنى أن التحليل يعود إلى إطعامنا إياهم لا إليهم لأنه لا يمتنع أن يحرم اللّه تعالى أن تطعمهم من ذبائحنا.

وقيل : إن الفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة من الجانبين وإباحة الذبائح كانت حاصلة من الجانبين لا جرم ذكر اللّه تعالى ذلك تنبيها على التمييز بين النوعين ثم قال تعالى : وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ قال مجاهد : هن الحرائر فعلى هذا القول لا تدخل الأمة المؤمنة في هذا التحليل ومن أجاز نكاحهن أجازه بشرطين : خوف العنت ، وعدم طول الحرة.

وقال ابن عباس : المحصنات : العفائف. فعلى هذا القول لا يحل نكاح الزانية لأنها لم تدخل في هذا التحليل وأباح العلماء نكاحها إذا تابت وحسنت توبتها.

روى طارق بن شهاب أن رجلا أراد أن يزوج أخته فقالت : إني أخشى أن أفضحك إني قد بغيت فأتى عمر فذكر ذلك له منها فقال : أليس قد تابت؟ قال : بلى. قال : فزوجها.

وقيل : إنما خص المحصنات بالذكر وهن الحرائر أو العفائف ليحث المؤمنين على تخير النساء ليكون الولد كريم الأصل من الطرفين.

وقوله تعالى : وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني وأحل لكم المحصنات من أهل الكتاب اليهود والنصارى. قال ابن عباس : يعني الحرائر من أهل الكتاب. وقال الحسن والشعبي والنخعي والضحاك : يريد العفائف من أهل الكتاب فعلى قول ابن عباس : لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية وهو مذهب الشافعي قال : لأنه اجتمع في حقها نوعان من النقصان ، الكفر ، والرق. وعلى قول الحسن ومن وافقه ، يجوز التزويج بالأمة الكتابية وهو مذهب أبي حنيفة لعموم هذه الآية. واختلف العلماء في حكم هذه المسألة فذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التزويج بالذميات من اليهود والنصارى. روي أن عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية وأن طلحة بن عبيد اللّه تزوج يهودية وروي عن ابن عمر كراهية ذلك ويحتج

بقوله تعالى : وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وكان يقول : لا أعلم شركا أعظم من قولها إن ربها عيسى وأجاب الجمهور عن قوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن بأنه عام خص بهذه الآية فأباح اللّه تعالى المحصنات من أهل الكتاب وحرم من سواهن من أهل الشرك وقال سعيد بن المسيب والحسن : يجوز التزويج بالذميات والحربيات من أهل الكتاب لعموم

قوله تعالى : وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وأجاب جمهور العلماء بأن ذلك مخصوص بالذميات دون الحربيات من أهل الكتاب.

قال ابن عباس : من نساء أهل الكتاب من تحل لنا ومنهن من لا تحل لنا. وقرأ : قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون والمراد بهم أهل الذمة دون أهل الحرب من أهل الكتاب.

وقوله تعالى : إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني مهورهن وهو العوض الذي يبذله الزوج للمرأة مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ يعني متعففين بالتزوج غير زانين وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ يعني ولا منفردين ببغي واحدة قد خادنها وخادنته واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها وحده حرم اللّه الجماع على جهة السفاح وهو الزنا واتخاذ الصديق وهو الخدن وأحله على جهة الإحصان وهو التزويج بعقد صحيح وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ يعني ومن يجحد ما أمر اللّه به من توحيده ونبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وما جاء به من عند اللّه فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ يعني فقد بطل ثواب عمله الذي كان عمله في الدنيا وخاب وخسر في الدنيا والآخرة.

وقيل في معنى الآية ، ومن يكفر بشرائع الإيمان وتكاليفه فقد خاب وخسر وقال قتادة ذكر لنا إن ناسا من المسلمين قالوا : كيف نتزوج نساءهم؟ يعني نساء أهل الكتاب وهم على غير ديننا ، فأنزل اللّه تعالى : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين.

وقيل : لما أباح اللّه تعالى نكاح الكتابيات ، قلن فيما بينهن لولا أن اللّه قد رضي أعمالنا لم يبح للمؤمنين تزويجنا ، فأنزل اللّه هذه الآية والمعنى أن تزوج المسلمين إياهن ليس بالذي يخرجهن من الكفر.

وقيل : إن أهل الكتاب وإن حصلت لهم في الدنيا فضيلة بإباحة ذبائحهم ونكاح نسائهم إلا أن ذلك غير حاصل لهم في الآخرة ، لأن كل من كفر باللّه وجحد نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين.

وقيل : إن من أحل ما حرم اللّه أو حرم ما أحل اللّه أو جحد بشيء مما أنزل اللّه فقد كفر باللّه وحبط عمله المتقدم وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ إذا مات على ذلك وهذا الشرط لا بد منه لأنه إذا تاب وآمن قبل الموت قبلت توبته وصح إيمانه.

٦

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللّه لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)

قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ يعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة ومثله

قوله تعالى : فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّه أي : إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ باللّه ومثله من الكلام إذا اتجرت فأتجر في البر أي إذا أردت التجارة. وهذا القول يقتضي وجوب الوضوء عند كل صلاة وهو ظاهر الآية ومذهب داود الظاهري وذهب جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم إلى أنه يجزئ عدة صلوات بوضوء واحد وأجيب عن ظاهر الآية بأن المعنى إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر فحذف ذلك لدلالة المعنى عليه وهذا أحد اختصارات القرآن وهو

كثير جدا ولأن النبي صلى اللّه عليه وسلم جمع يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد وعن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (لا يقبل اللّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) أخرجاه في الصحيحين

وقيل في معنى الآية : إذا قمتم إلى الصلاة من النوم

وقيل : هو أمر ندب ندب من قام إلى الصلاة أن يجدد لها طهارة وإن كان على طهر ويدل عليه ما روي عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (من توضأ على طهر كتب اللّه له عشر حسنات) أخرجه الترمذي.

وقيل : هذا إعلام من اللّه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال ويدل عليه ما روي عن ابن عباس (أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج يوما من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا ألا نأتيك بوضوء فقال إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة) أخرجه مسلم. و

القول الأول هو المختار في معنى الآية وفروض الوضوء المذكور في هذه الآية أربعة : الأول غسل الوجه وهو

قوله تعالى : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ واستدل الشافعي على وجوب النية عند غسل الوجه بهذه الآية وحجته أن الوضوء مأمور به وكل مأمور به يجب أن يكون منويا ولما روي في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم (قال إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى). والوضوء من الأعمال فيجب أن يكون منويا وإنما قلنا : إن الوضوء مأمور به وأنه من أعمال الدين لقوله تعالى : وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. والإخلاص ، عبارة عن النية الخالصة ومتى كانت النية الخالصة ، معتبرة كان أصل النية في جميع الأعمال التي يتقرب بها إلى اللّه تعالى معتبرا. واستدل أبو حنيفة لعدم وجوب النية في الوضوء بهذه الآية قال : إن النية ليست شرطا لصحة الوضوء ، لأن اللّه تعالى أوجب غسل الأعضاء الأربعة في هذه الآية ولم يوجب النية فيها ، فإيجاب النية زيادة على النص والزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس غير جائز.

وأجيب عنه : بأنا إنما أوجبنا النية في الوضوء بدلالة القرآن وهو

قوله تعالى : وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

وأما حد الوجه ، فمن منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا لأنه مأخوذ من المواجهة فيجب غسل جميع الوجه في الوضوء ويجب إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين وأهداب العينين والعذارين والشارب والعنفقة وإن كانت كثة.

وأما اللحية فإن كانت كثة لا ترى البشرة من تحتها لا يجب غسل ما تحتها ويجب غسل ما تحت اللحية الخفيفة وهل يجب إمرار الماء على ظاهر ما نزل من اللحية عن الذقن؟ فيه قولان :

أحدهما وبه قال أبو حنيفة ، لا يجب لأن الشعر النازل عن حد الرأس لا يكون حكمه حكم الرأس في المسح فكذلك حكم الشعر النازل عن حد الوجه لا يجب غسله.

والقول الثاني يجب إمرار الماء على ظاهره لأن الوجه مأخوذ من المواجهة فتدخل جميع اللحية في حكم الوجه.

الفرض الثاني

قوله تعالى : وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ

يعني : واغسلوا أيديكم إلى المرافق والمرافق بالكسر هو من الإنسان أعلى الذراع وأسفل العضد. وذهب جمهور العلماء إلى وجوب إدخال المرفقين في الغسل ونقل عن مالك والشافعي وزفر وأبي بكر بن داود الظاهري ، أنه لا يجب إدخال المرفقين في الغسل واختاره ابن جرير الطبري. ونقل عن مالك : وقد سئل عن قول اللّه عز وجل : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ فقال :

الذي آمر به أن يبلغ المرفقين في الغسل لا يجاوزهما وحجة أصحاب هذا القول أن كلمة إلى لانتهاء الغاية وما يجعل غاية للحكم يكون خارجا عنه كما في

قوله تعالى : ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ولأن الحد لا يدخل في المحدود فوجب أن لا يجب غسل المرفقين في الوضوء وحجة الجمهور أن كلمة إلى هنا بمعنى مع ومنه

قوله تعالى : وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ أي مع أموالكم ويعضده من السنة ما صح من حديث أبي هريرة أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل اليمنى حتى أشرع في العضد ثم يده السرى حتى أشرع في العضد ثم قال : هكذا رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يتوضأ. والجواب عن الحجة المتقدمة إن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه كما في هذه الآية لأن المرفق من جنس اليد وإذا لم يكن من جنس المحدود لم يدخل فيه كما في

قوله تعالى : ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ لأن النهار من غير جنس الليل فلا يدخل فيه. الفرض الثالث :

قوله تعالى :

وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ اختلف العلماء في القدر الذي يجب مسحه من الرأس فقال مالك يجب مسح جميعه وهو إحدى الروايتين عن أحمد والرواية الأخرى عنه أنه يجب مسح أكثره وقال أبو حنيفة : يجب مسح ربعه.

وفي رواية أخرى عنه : يجب مسح قدر ثلاثة أصابع منه وقال الشافعي الواجب مسح ما ينطلق عليه اسم المسح والمراد إلصاق المسح بالرأس وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح بالرأس فأخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب وأخذ الشافعي باليقين فأوجب مسح ما يقع عليه اسم المسح وأخذ أبو حنيفة ببيان السنة وهو ما روي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين متفق عليه وقدر الناصية بربع الرأس. الفرض الرابع :

قوله تعالى : وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ اختلف العلماء في هذا الحكم. وهل فرض الرجلين المسح أو الغسل؟ فروى عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان. ويروى ذلك عن قتادة أيضا. ويروى عن أنس أنه قال : نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل. وعن عكرمة قال : ليس في الرجلين إنما نزل فيهما المسح. وعن الشعبي أنه قال : إنما هو المسح عن الرجلين. ألا ترى إن ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم وما كان عليه المسح أهمل. ومذهب الإمامية من الشيعة : أن الواجب في الرجلين المسح.

وقال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم والأئمة الأربعة وأصحابهم : إن فرض الرجلين هو الغسل. وقال داود الظاهري : يجب الجمع بينهما. وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري : المكلف مخير بين الغسل والمسح. وسبب هذا الاختلاف ، اختلاف القراء في هذا الحرف. فقرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم : وأرجلكم بفتح اللام عطفا على الغسل فيكون من المؤخر الذي معناه التقديم ويكون المعنى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم. وقال أصحاب هذه القراءة :

إنما أمر اللّه عباده بغسل الأرجل دون مسحها ويدل عليه أيضا فعل النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه والتابعين فمن بعدهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم وأرجلكم بكسر اللام عطفا على المسح. أما قراءة النصب فالمعنى فيها ظاهر لأنه عطف على المغسول لوجوب غسل الرجلين على مذهب الجمهور ولا يقدح فيه قول من خالف.

وأما قراءة الكسر فقد اختلفوا في معناها والجواب عنها فقال أبو حاتم وابن الأنباري وأبو علي الكسر عطف على الممسوح ، غير أن المراد بالمسح في الأرجل الغسل. وقال أبو زيد : المسح خفيف الغسل لقول العرب تمسحت للصلاة بمعنى توضأت لها وهات ما أتمسح به للصلاة بمعنى أتوضأ.

قال أبو حاتم : وذلك أن المتوضئ لا يرضى بصب الماء على أعضائه حتى يمسحها مع الغسل فسمي الغسل مسحا بهذا الاعتبار فعلى هذا الرأس والرجل ممسوحا إلا أن مسح الرأس أخف. والذي يدل على أن المراد بالمسح في الرجل الغسل ذكر التحديد وهو

قوله تعالى : إلى الكعبين لأن التحديد إنما جاء في المغسول ولم يجئ في الممسوح فلما وقع التحديد مع المسح علم أنه في حكم الغسل. وقال جماعة من العلماء : إن الأرجل معطوفة على الرؤوس في الظاهر والمراد فيها الغسل لأنه قد ينسق بالشيء على غيره والحكم فيهما مختلف كما قال الشاعر :

يا ليت بعلك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا

والمعنى : وحاملا رمحا لأن الرمح لا يتقلد به وكذلك قول الآخرين. علفتها تبنا وماء باردا. يعني وسقيتها ماء باردا. وكذلك المعنى في الآية وامسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم فلما لم يذكر الغسل وعطفت الأرجل على الرؤوس في الظاهر اكتفى بقيام الدليل على أن الأرجل مغسولة من مفهوم الآية والأحاديث الصحيحة الواردة بغسل الرجلين في الوضوء.

وأما من جعل كسر اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ دون الحكم واستدل بقولهم : جحر ضب خرب. وقال الخرب نعت للجحر لا للضب وإنما أخذ إعراب الضب للمجاورة فليس

يجيد لأن الكسر على المجاورة إنما يحمل لأجل الضرورة في الشعر أو يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس لأن الخرب لا يكون نعتا للضب بل للجحر ولأن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف.

أما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب

وقوله تعالى : إِلَى الْكَعْبَيْنِ فيه دليل قاطع على وجوب غسل الكعبين كما في وجوب غسل الرجلين كما في

قوله تعالى : وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ والمعنى : واغسلوا أرجلكم مع الكعبين وقد تقدم اختلاف العلماء في ذلك عند قوله إلى المرافق ، والكعبان : هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم هذا قول جمهور العلماء من أهل الفقه واللغة وشذت الشيعة ، ومن قال بمسح الرجلين. فقال :

الكعب عبارة عن عظم مستدير على ظهر القدم ويدل على بطلان هذا القول أن الكعب لو كان على ما ذكره لكان في كل رجل كعب واحد فكان ينبغي أن يقال : وأرجلكم إلى الكعاب كما في

قوله تعالى : وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ فلما قال إلى الكعبين علم أن لكل رجل كعبين فبطل ما قالوه وثبت قول الجمهور.

( (فصل)) قد تقدم أن الفروض المذكورة في هذه الآية أربعة : وهي غسل الوجه وغسل اليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين وقد تقدم استدلال الشافعي بهذه الآية على وجوب النية في الوضوء فصارت فرضا خامسا. وذهب الشافعي ومالك وأحمد إلى وجوب الترتيب في الوضوء ، وهو أن يغسل الأعضاء في الوضوء على الولاء كما ذكره اللّه في هذه الآية فيغسل أولا وجهه ثم يده ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه ، فصار الترتيب فرضا سادسا. وذهب أبو حنيفة ، إلى أن الترتيب في الوضوء غير واجب احتج الشافعي على وجوب الترتيب بهذه الآية وذلك أن اللّه تعالى أمر بغسل الوجه ثم بغسل اليدين ثم بمسح الرأس ثم بغسل الرجلين فوجب أن يقع الفعل مرتبا كما أمر اللّه تعالى ولقوله صلى اللّه عليه وسلم في حديث حجة الوداع (ابدأ بما بدأ اللّه به) وهذا الحديث ، وإن ورد في قصة السعي بين الصفا والمروة ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولأن أفعال النبي صلى اللّه عليه وسلم في الوضوء ما وردت إلا مرتبة كما ورد في نص الآية ولم ينقل عنه ولا عن غيره من الصحابة أنه توضأ منكسا أو غير مرتب ، فثبت أن ترتيب أفعال الوضوء كما مر اللّه تعالى ونص عليه في هذه الآية واجب واحتج. أبو حنيفة لمذهبه بهذه الآية أيضا. وذلك أن الواو لا توجب الترتيب ، فإذا قلنا بوجوب الترتيب صار ذلك زيادة على النص وذلك غير جائز وأجيب عنه بأنه لم ينقل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه توضأ إلا مرتبا كما ذكر وبيان الكتاب إنما يؤخذ من السنة.

( (فصل في ذكر الأحاديث التي وردت في صفة الوضوء وفضله))

(ق) عن حمران مولى عثمان بن عفان (أن عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاثا ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين ثم قال : رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال : من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه)

(ق).

عن عبد اللّه بن زيد بن عاصم الأنصاري (قيل له توضأ لنا وضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدعا بإناء فأفرغ منه على يديه ثلاثا ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثا ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثم قال هكذا كان وضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم) زاد في رواية بعد قوله : (فأقبل بيديه وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه).

عن عبد خير قال : أتانا علي كرم اللّه وجهه وقد صلى فدعا بطهور فقلنا ما يصنع بالطهور وقد صلى ما يريد إلا ليعلمنا فأتى بإناء فيه ماء وطست فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل يده ثلاثا ثم تمضمض واستنشق ثلاثا فمضمض ونثر من كف يأخذ منه ثم غسل وجهه ثلاثا وغسل يده اليمين ثلاثا وغسل الشمال ثلاثا ثم جعل يده في الإناء فمسح رأسه مرة واحدة ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ورجله الشمال ثلاثا ثم جعل يده في الإناء فمسح رأسه مرة واحدة ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ورجله الشمال ثلاثا ثم قال : (من سره أن يعلم وضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فهو هذا) أخرجه أبو داود عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص (أن رجلا أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه كيف الطهور فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السبابتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم قال : هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو قال ظلم وأساء) أخرجه أبو داود.

وعن ابن عباس : (أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما) أخرجه الترمذي وصححه

(ق) عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال : (ويل للأعقاب من النار)

(م) عن جابر قال : أخبرني عمر بن الخطاب (أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ارجع وأحسن وضوءك قال فرجع فتوضأ ثم صلى) أخرجه مسلم عن خالد عن بعض أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم (أن النبي صلى اللّه عليه وسلم رأى رجلا يصلي وفي قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة) أخرجه أبو داود

(ق) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : تخلف عنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادانا بأعلى صوته : (ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثا) عن ابن عباس (أن النبي صلى اللّه عليه وسلم توضأ مرة) أخرجه البخاري عن أبي هريرة : (أن النبي صلى اللّه عليه وسلم توضأ مرتين مرتين أخرجه أبو داود والترمذي. وقال وقد روي عن أبي هريرة : (أن النبي صلى اللّه عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا)

(م).

عن عقبة بن عامر قال : كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي فروحتها بعشي فأدركت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قائما يحدث الناس فأدركت من قوله (ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة) فقلت ما أجود هذا فإذا قائل بين يدي يقول التي قبلها أجود فنظرت فإذا عمر قال :

إني قد رأيتك جئت آنفا قال : (ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمد عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)

(م).

عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب)

(ق) عن نعيم بن عبد اللّه المجمر عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال (إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)

وفي رواية قال : رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد ثم مسح رأسه ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق ، ثم قال : هكذا رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتوضأ وقال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله).

وفي رواية لمسلم قال : سمعت خليلي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (يقول تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال (من توضأ على طهر كتب اللّه له به عشر حسنات) أخرجه الترمذي.

عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه) أخرجه أبو داود وابن ماجة.

وقوله تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا أي اغتسلوا أمر اللّه بالاغتسال من الجنابة وذلك يجب على الرجل والمرأة بأحد شيئين : إما بخروج المني على أي صفة كان من احتلام أو غيره أو بالتقاء الختانين وإن لم يكن معه إنزال فإذا حصل وجب الغسل

(ق).

عن عائشة : (أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء يخلل بهما أصول شعره ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيده ثم يفيض الماء على سائر جسده) أو

قوله تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ فقد تقدم تفسيره وأحكامه في تفسير سورة النساء وفي

قوله تعالى منه دليل على أنه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب.

وقوله تعالى : ما يُرِيدُ اللّه لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ يعني من ضيق بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم عند عدم الماء وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ يعني من الأحداث والذنوب والخطايا لأن الوضوء تكفير للذنوب لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني تشكرون نعمة اللّه عليكم بأن طهركم من الأحداث والذنوب وما جعل عليكم في الدين من حرج.

٧

٨

٩

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للّه شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩)

قوله تعالى : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ يعني : ما أنعم به عليكم من النعم كلها ، لأن كثرة النعم وذكرها يوجب مزيد الشكر من المنعم عليه والاشتغال بطاعة المنعم بها والانقياد لأمره وهو اللّه تعالى : وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ يعني : واذكروا عهده الذي عاهدكم به أيها المؤمنون إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وذلك حين بايعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا

وقيل الميثاق هو الذي أخذه عليهم في يوم ألست بربكم قالوا بلى :

وَاتَّقُوا اللّه يعني فيما أخذه عليكم من الميثاق فلا تنقضوه إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني إن اللّه تعالى عالم بما في قلوب عباده من خير وشر. و

قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للّه قال ابن عباس يريد أنهم يقومون للّه بحقه ومعنى ذلك : هو أن يقوم للّه بالحق في كل ما يلزمه القيام به من العمل بطاعته واجتناب نواهيه شُهَداءَ بِالْقِسْطِ يعني وتشهدون بالعدل يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودّك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أهل بغضك وأعداءك أقم شهادتك لهم وعليهم بالصدق والعدل.

وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ولا يحملنكم بغض قوم عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا على ترك العدل فيهم لعدوانهم اعْدِلُوا أمر اللّه بالعدل في كل أحد القريب والبعيد والصديق والعدو هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي العدل أقرب للتقوى وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعني : أن اللّه تعالى خبير بجميع أعمالكم مطلع عليها وخبير بمن عدل ومن لم يعدل.

قوله تعالى : وَعَدَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني عملوا بما واثقهم اللّه به وأوفوا بالعهود التي عاهدهم عليها لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ هذا بيان للوعد كأنه لما تقدم ذكر الوعد فقيل : أي شيء هذا الوعد؟

فقال : لهم مغفرة وأجر عظيم وإذا وعدهم أنجز لهم الوعد فإنه تعالى لا يخلف الميعاد.

١٠

١١

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللّه وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا يعني : والذين جحدوا وحدانية اللّه ونقضوا عهوده ومواثيقه وكذبوا بما جاءت به الرسل من عنده أُولئِكَ يعني من هذه صفته أَصْحابُ الْجَحِيمِ هذه الآية نص قاطع في أن الخلود في النار ليس إلا للكفار لأن المصاحبة تقتضي الملازمة كما يقال : فلان صاحب فلان يعني الملازم له.

قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ يعني : اذكروا نعمة اللّه عليكم بالدفع عنكم مع سائر نعمه التي أنعم بها عليكم ثم وصف تلك النعمة التي ذكرهم بها وأمرهم بالشكر عليها

فقال تعالى : إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ يعني بالقتل والبطش بكم فصرفهم عنكم وحال بينكم وبين ما أرادوه بكم.

اختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية وفي صفة هذه النعمة التي أمر اللّه تعالى أصحاب نبيه صلى اللّه عليه وسلم بذكرها والشكر عليها ، فقال قتادة : نزلت هذه الآية ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببطن نخلة حين أراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك وأنزل صلاة الخوف.

وقال الحسن : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم محاصرا غطفان بنخل فقال رجل من المشركين : هل لكم أن أقتل محمدا؟

قالوا : وكيف تقتله؟ قال : أفتك به. قالوا : وددنا أنك فعلت ذلك. فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم والنبي صلى اللّه عليه وسلم متقلد سيفه فقال : يا محمد أرني سيفك فأعطاه إياه فجعل الرجل يهز السيف وينظر إليه مرة وإلى النبي صلى اللّه عليه وسلم مرة ثم قال : من يمنعك مني يا محمد؟ قال : اللّه. فتهدده أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأغمد السيف ومضى فأنزل اللّه هذه الآية. وقال مجاهد وعكرمة والكلبي : بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي وهو أحد النقباء ليلة العقبة في ثلاثين راكبا من المهاجرين والأنصار إلى بني عامر بن صعصعة فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل على بئر معونة وهي من مياه بني عامر فاقتتلوا فقتل المنذر وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم : أحدهم عمرو بن أمية الضمري فلم يرعهم إلا الطير تحوم في السماء يسقط من بين مناقيرها علق الدم فقال أحد النفر الثلاثة : قتل أصحابنا. ثم تولى يشتد حتى لقي رجلا من المشركين فاختلفا ضربتين فلما خالطته الضربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه فقال :

اللّه أكبر الجنة ورب العالمين ورجع صاحباه فلقيا رجلين من بني سليم وكان بين النبي صلى اللّه عليه وسلم وبين قومهما موادعة فانتسبا إلى بني عامر فقتلاهما وقدم قومهما إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم يطلبون الدية فخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستعينهم في عقلهما وكانوا قد عاهدوا النبي صلى اللّه عليه وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات.

وقيل أراد أن يستقرض منهم دية رجلين فقالوا نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي سألته فجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فخلا بعض اليهود ببعض وقالوا : إنكم لم تجدوا محمدا أقرب منه الآن فمن يظهر منكم على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيربحنا منه فقال عمرو بن جحاش : أنا. فعمد إلى رحى عظيمة ليطرحها على النبي صلى اللّه عليه وسلم فأمسك اللّه يده ونزل جبريل فأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك ، فخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم راجعا إلى المدينة. قال : وخرج معه علي بن أبي طالب فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لعلي لا تبرح مكانك حتى يخرج إليك أصحابي فمن خرج إليك منهم وسألك عني فقل توجه إلى المدينة ففعل ذلك حتى تناهوا إليه ثم اتبعوه إلى المدينة وأنزل اللّه عز وجل هذه الآية : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ يعني اليهود أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ يقال بسط يده إليه إذا بطش به وهو إذا مدها إلى المبطوش به ليقتله فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ يعني أنه تعالى منعهم مما أرادوه بكم

وَاتَّقُوا اللّه يعني فيما أمركم به ونهاكم عنه وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أمر اللّه تعالى المؤمنين بالتوكل عليه لأنه هو الكافي عباده جميع أمورهم فإذا فعلوا ذلك وتوكلوا عليه حفظهم ورعاهم ممن أرادهم بسوء كما كفّ أيدي اليهود عنهم لما أرادوا أن يفتكوا بهم وهذه القصة أولى بالصواب لأنه عقب الآية بذم اليهود وذكر قبيح أفعالهم وخيانتهم وذلك

قوله تعالى :

١٢

وَلَقَدْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللّه إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّه قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢)

وَلَقَدْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لما ذكر اللّه في الآية المتقدمة بعض غدرات اليهود وما أرادوه من كيد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه أتبعه بذكر أسلافهم وما نقضوه من المواثيق والعهود ومعنى الآية أن اللّه أخذ ميثاقهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وأن يعملوا بما في التوراة من الأحكام والتكاليف وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً اختلف العلماء في معنى النقيب فقال ابن عباس : النقيب الضمين. وقال قتادة : هو الشهيد على قومه.

وقيل : هو الأمين الكفيل.

وقيل : هو الباحث عن القوم وعن أحوالهم.

( (ذكر القصة في ذلك)) قال أصحاب الأخبار والسير : إن اللّه عز وجل وعد موسى عليه السلام أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون فأمر اللّه موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الأرض وقال : إني كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصرك عليهم وخذ من قومك اثني عشر نقيبا من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به فاختار موسى النقباء وسار ببني إسرائيل حتى قربوا من أريحاء وهي مدينة الجبارين فبعث هؤلاء النقباء يتجسسون له الأخبار ويعلمون علمها فلقيهم رجل من الجبارين يقال له ، عوج بن عنق ، وعنق : أمه ، وهي إحدى بنات آدم عليه السلام. وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع هكذا نقله البغوي وفيه نظر لأن آدم عليه السلام كان طوله على ما ورد في الأحاديث الصحيحة ستين ذراعا.

قال : وكان عوج يحتجر بالسحاب ويشرب من مائه ويتناول الحوت من قعر البحر ويشويه في عين الشمس ، ويروى أن الماء لما طبق على الأرض من جبل وغيره ما بلغ ركبتي عوج وقال لنوح عليه السلام : احملني معك في السفينة فقال نوح عليه السلام : اخرج عني يا عدو اللّه فإني لم أؤمر بك وعاش عوج ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه اللّه تعالى على يد موسى عليه السلام وذلك أنه اقتلع صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى ، وكان فرسخا في فرسخ وحملها على رأسه ليطبقها عليهم فبعث اللّه الهدهد فنقب الصخرة وقورها بمنقاره فوقعت في عنقه فصرعته وأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله قال ، فلما لقي عوج النقباء أخذهم وجعلهم في حجزته وكان على رأسه حزمة حطب وانطلق بهم إلى امرأته وقال لها : انظري إلى هؤلاء الذين يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها وقال لا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته : بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا منك

وقيل إنه جعلهم في كمه وأتى بهم إلى الملك فنثرهم بين يديه فقال لهم الملك ارجعوا إلى قومكم فأخبروهم بما رأيتم وكان مما رأوا أن العنقود العنب لا يحمله إلا خمسة أنفس منهم بينهم في خشبة ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع منها حبسها خمسة أنفس فرجع النقباء وقال بعضهم لبعض : يا قوم إنكم إذا خبرتم بني إسرائيل خبر القوم رجعوا عن نبي اللّه موسى ولا يقاتلونهم معه اكتموا عن بني إسرائيل خبر القوم وأخبروا موسى

وهارون بما رأيتم فيريان رأيهما وأخذ بعض النقباء على بعض الميثاق بذلك فلما رجعوا إلى بني إسرائيل نكثوا العهد والميثاق وأخبر كل رجل سبطه بما رأى إلا رجلان منهم وهم يوشع بن نون وكالب بن يوقنا فإنهم أوفيا بالعهود ولم ينكثا الميثاق فذلك

قوله تعالى : وَلَقَدْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللّه إِنِّي مَعَكُمْ فيه حذف تقديره وقال للنقباء : إني معكم يعني بالنصر والمعونة.

وقيل : هو خطاب لعامة بني إسرائيل : و

القول الأول أولى لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور فكان عوده إلى النقباء أولى ثم ابتدأ الكلام فقال مخاطبا لبني إسرائيل : لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ هذه جملة شرطية والشرط مركب من خمسة أمور ، وهي قوله :

لئن أقمتم الصلاة وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّه قَرْضاً حَسَناً وجزاء الشرط

قوله تعالى :

لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وذلك إشارة إلى إزالة العذاب.

وقوله تعالى : وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إشارة إلى إيصال الثواب ومعنى الآية لئن أقمتم الصلاة المكتوبة وآتيتم الزكاة المفروضة وآمنتم برسلي يعني جميع رسلي وإنما أخر ذكر الإيمان بالرسل لأن اليهود كانوا مقربين بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان ببعض الرسل فقال اللّه لهم إنه لا يتم لكم ذلك ولا يحصل المقصود إلا بالإيمان بجميع الرسل.

وقوله تعالى :

وعزرتموهم ، يعني ونصرتموهم. وأصل التعزير في اللغة : الردع. فمعنى وعزرتموهم : ونصرتموهم بأن تردوا أعداءهم عنهم.

وقيل : معناه وقرتموهم وعظتموهم. والقول هو الأول.

وأقرضتم اللّه قرضا حسنا : يعني به الصدقات المندوبة لأن الزكاة تقدم ذكرها فلا فائدة في تفسير هذا الفرض بالزكاة.

فإن قلت : كيف؟ قال : وأقرضتم اللّه قرضا حسنا ولم يقل إقراضا حسنا لأن مصدر أقرضتم الإقراض

قلت : إن قوله قرضا أخرج مصدرا من معناه لا من لفظه وذلك أن أقرض بمعنى قرض فكان معنى الكلام وأقرضتم اللّه فقرضتم قرضا حسنا ونظير ذلك

قوله تعالى : وَاللّه أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً إذ كان معناه فنبتم نباتا وقوله لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يعني إذا فعلتم سائر ما أمرتكم به لأمحونّ عنكم سيئاتكم وأغفرها لكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ يعني بعد أخذ العهد والميثاق فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ يعني فقد أخطأ الطريق المستقيم وهو طريق الدين الذي شرعه والهدى الذي أمر باتباعه

قوله تعالى :

١٣

١٤

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّه بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي بسبب نقضهم الميثاق وذلك أن بني إسرائيل نقضوا ميثاق اللّه وعهده بأن كذبوا الرسل الذين جاءوا من بعد موسى وقتلوا أنبياء اللّه ونبذوا كتابه وضيّعوا فرائضه لَعَنَّاهُمْ يعني جازيناهم على ذلك بأن أبعدناهم وطردناهم عن رحمتنا وأصل اللعنة الإبعاد عن الرحمة وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يعني غليظة يابسة لا تلين لأن القسوة خلاف اللين والرقة

وقيل معناه إن قلوبهم ليست خالصة للإيمان بل إيمانهم مشوب بالكفر والنفاق يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يعني يغيرون حدود التوراة وأحكامها

وقيل هو تبديلهم صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم ونعته من التوراة

وقيل هو تحريفهم معاني الألفاظ بسوء التأويل وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ يعني وتركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان يعني على معصية منهم وكانت خيانتهم نقض العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب محمد صلى اللّه عليه وسلم وهمهم بقتله وسمه ونحوها من خيانتهم التي ظهرت إِلَّا قَلِيلًا

مِنْهُمْ يعني أنهم لم يخونوا ولم ينقضوا العهد وهم عبد اللّه بن سلام وأصحابه الذين أسلموا من أهل الكتاب فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ أي فاعف عن زلاتهم يا محمد واصفح عن جرمهم ومؤاخذتهم وهذا الأمر بالعفو والصفح عن أهل الكتاب منسوخ بقوله تعالى : قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية التي نزلت في سورة براءة قاله قتادة

وقيل إنها غير منسوخة بل نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي صلى اللّه عليه وسلم عهد فغدروا ونقضوا ذلك العهد فأظهر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك وأنزل هذا الآية ولم تنسخ وذلك أن يجوز أن يعفو عن غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حربا ولم يمنعوا من أداء الجزية والصغار وعلى هذا القول بأنها غير منسوخة يكون معنى الآية فاعف عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم قبل ذلك.

وقيل : معناه فاعف عن صغائر زلاتهم ما داموا باقين على العهد إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يعني إذا عفوت عنهم فإنك تحسن واللّه يحب المحسنين

قوله عز وجل : وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ لما ذكر نقض اليهود الميثاق اتبعه بذكر نقض النصارى الميثاق وأن سبيل النصارى مثل سبيل اليهود في نقض العهد والميثاق وإنما قال تعالى : وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ولم يقل من النصارى لأنهم الذين ابتدعوا هذا الاسم وسموا به أنفسهم لأن اللّه تعالى سماهم به أخذنا ميثاقهم يعني كتبنا عليهم في الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ يعني فتركوا ما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فَأَغْرَيْنا يعني فألقينا وأوقعنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.

قال قتادة : لما تركوا العمل بكتاب اللّه وعصوا رسله وضيعوا فرائضه وعطلوا حدوده ، ألقى اللّه العداوة والبغضاء بينهم.

وقيل : العداوة والبغضاء هي الأهواء المختلفة وفي الهاء والميم من قوله بينهم قولان :

أحدهما أن المراد بهم اليهود والنصارى فإن العداوة والبغضاء حاصلة بينهم إلى يوم القيامة.

والقول الثاني أن المراد بهم فرق النصارى ، فإن كل فرقة منهم تكفر الأخرى وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّه بِما كانُوا يَصْنَعُونَ يعني أن اللّه تعالى يخبرهم في الآخرة بأعمالهم التي عملوها في الدنيا ففيه وعيد وتهديد لهم.

قوله تعالى :

١٥

١٧

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّه نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللّه مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّه هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّه شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَللّه مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)

يا أَهْلَ الْكِتابِ يعني اليهود والنصارى قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يعني محمد صلى اللّه عليه وسلم يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ يعني أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم يظهر كثيرا مما أخفوا وكتموا من أحكام التوراة والإنجيل وذلك أنهم أخفوا آية الرجم وصفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وغير ذلك ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيّن ذلك وأظهره وهذا معجزة النبي صلى اللّه عليه وسلم لأنه لم يقرأ كتابهم ولم يعلم ما فيه فكان إظهاره ذلك معجزة له وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ يعني مما يكتمونه فلا يتعرض له ولا يؤاخذهم به لأنه لا حاجة إلى إظهاره والفائدة في ذلك أنهم يعلمون كون النبي صلى اللّه عليه وسلم عالما بما يخفونه وهو معجزة له أيضا فيكون ذلك داعيا لهم إلى الإيمان به قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّه نُورٌ يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم إنما سماه اللّه نورا لأنه يهتدى به كما يهتدى بالنور في الظلام

وقيل : النور هو الإسلام وَكِتابٌ مُبِينٌ يعني القرآن يَهْدِي بِهِ اللّه يعني يهدي اللّه بالكتاب المبين مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي اتبع ما رضيه اللّه وهو دين الإسلام لأنه مدحه وأثنى عليه سُبُلَ

السَّلامِ قال ابن عباس : يريد دين اللّه وهو الإسلام فسبله دينه الذي شرع لعباده وبعث به رسله وأمر عباده باتباعه.

وقيل : سبل السلامة طرق السلام.

وقيل : سبل السلام دار السلام فيكون من باب حذف المضاف وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان بِإِذْنِهِ يعني بتوفيقه وهدايته وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني دين الإسلام

قوله عز وجل لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّه هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. قال ابن عباس : هؤلاء نصارى نجران ، فإنهم قالوا هذه المقالة وهو مذهب اليعقوبية والملكانية من النصارى لأنهم يقولون بالحلول وأن اللّه قد حل في بدن عيسى فلما كان اعتقادهم ذلك لا جرم حكم اللّه عليهم بالكفر ثم ذكر اللّه ما يدل على فساد مذهبهم

فقال تعالى : قُلْ يعني يا محمد لهؤلاء النصارى الذين يقولون هذه المقالة فَمَنْ يَمْلِكُ يعني يقدر أن يدفع مِنَ اللّه شَيْئاً يعني من أمر اللّه شيئا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ يعني يعدم المسيح وأمه وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ووجه الاحتجاج على النصارى بهذا أن المسيح لو كان إنما كما يقولون لقدر على دفع أمر اللّه إذا أراد إهلاكه وإهلاك أمه وغيرها وَللّه مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إنما قال وما بينهما ولم يقل وما بينهن لأنه أراد ما بين هذين النوعين أو الصنفين من الأشياء فإنها ملكه وأهلها عبيده وعيسى وأمه من جملة عبيده يَخْلُقُ ما يَشاءُ يعني من غير اعتراض عليه فيما يخلق لأنه خلق آدم من غير أب وأم وخلق عيسى من أم بلا أب وخلق سائر الخلق من أب وأم وَاللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أن اللّه تعالى لا يعجزه شيء أراده فلا اعتراض لأحد من خلقه عليه

قوله تعالى :

١٨

١٩

٢٠

وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَللّه مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠)

وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ قال ابن عباس : أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عثمان وابن أصار وبحري بن عمرو وشاس بن عدي فكلموه وكلمهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودعاهم إلى اللّه وحذرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوفنا يا محمد نحن أبناء اللّه وأحباؤه كقول النصارى ، فأنزل اللّه عز وجل فيهم وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى ، نَحْنُ أَبْناءُ اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ الآية. وسبب هذه المقالة ما حكاه السدي قال : أما اليهود فإنهم قالوا إن اللّه أوحى إلى إسرائيل إني أدخل من ولدك النار فيكونون فيها أربعين يوما حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ثم ينادي مناد أن اخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل فيخرجون فذلك

قوله تعالى : لن تمسنا النار إلا أياما معدودات.

وأما النصارى ، فإن فرقا منهم يقولون المسيح ابن اللّه وكذبوا فيما قالوا على اللّه تعالى فأما وجه قول اليهود فإنهم يعنون أنه من عطفه عليهم كالأب الشفيق على الولد

وأما وجه قول النصارى ، فإنهم لما قالوا في المسيح أنه ابن اللّه وادعوا أنه منهم فكأنهم قالوا : نحن أبناء اللّه لهذا السبب.

وقيل : إن اليهود إنما قالوا هذه المقالة من باب حذف المضاف والمعنى نحن أبناء رسول اللّه

وأما النصارى فإنهم تأولوا قول المسيح أذهب إلى أبي وأبيكم.

وقوله : إذا صليتم فقولوا يا أبانا الذي في السماء لنقدسن اسمك فذهبوا إلى ظاهر هذه المقالة ولم يعلموا ما أراد المسيح عليه السلام إن صحت هذه المقالة عنه فإن تأويلها أنه في بره ورحمته وعطفه على عباده الصالحين كالأب الرحيم لولده وجملة الكلام في ذلك أن اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلا على من سواهم بسبب أسلافهم الأفاضل حتى انتهوا في تعظيم أنفسهم إلى أن قالوا : نحن أبناء اللّه وأحباؤه فأبطل اللّه عز وجل

دعواهم وكذبهم فيما قالوا بقوله تعالى : قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ. معناه : إذا كان الأمر كما تزعمون فلم يعذبكم اللّه وأنتم قد أقررتم على أنفسكم أنه يعذبكم أربعين يوما وهل رأيتم والدا يعذب ولده بالنار وهل تطيب نفس محب أن يعذب حبيبه في النار بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يعني بل أنتم يا معشر اليهود والنصارى كسائر بني آدم مجزيون بالإساءة والإحسان.

قوله تعالى : يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ يعني لمن تاب من اليهود والنصرانية وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يعني من مات على اليهودية والنصرانية.

وقيل : معناه يهدي من يشاء فيغفر له ويميت من يشاء على كفره فيعذبه وَللّه مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما. يعني : أنه تعالى يملك ذلك لا شريك له في ذلك فيعارضه وهو الذي يملك المغفرة لمن يشاء والتعذيب لمن يشاء وفيه دليل على أنه تعالى لا ولد له لأن من يملك السموات والأرض يستحيل أن يكون له شبيه من خلقه أو شريك في ملكه وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يعني وإلى اللّه مرجع العباد في الآخرة فيجازيهم بأعمالهم.

قوله تعالى : يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ قال ابن عباس : قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود : يا معشر اليهود اتقوا اللّه فو للّه إنكم لتعلمون أنه رسول اللّه لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته ، فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهودا : ما قلنا ذلك لكم وما أنزل اللّه من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده فأنزل اللّه هذه الآية يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم يبين لكم يعني أحكام الدين والشرائع على فترة من الرسل قال ابن عباس : يعني على انقطاع من الرسل. واختلف العلماء في قدر مدة الفترة فروي عن سلمان قال : فترة ما بين عيسى ومحمد صلى اللّه عليه وسلم ستمائة سنة أخرجه البخاري. وقال قتادة : كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى اللّه عليه وسلم ستمائة سنة وما شاء اللّه من ذلك وعنه أنها خمسمائة سنة وستون سنة. وقال ابن السائب : خمسمائة وأربعون سنة. وقال الضحاك : إنها أربعمائة وبضع وثلاثون سنة. ونقل ابن الجوزي عن ابن عباس : على فترة من الرسل قال : على انقطاع منهم.

قال : وكان بين ميلاد عيسى وميلاد محمد صلى اللّه عليه وسلم خمسمائة سنة وتسعة وستون سنة وهي الفترة وكان بين عيسى ومحمد أربعة من الرسل فذلك قوله إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ قال : والرابع لا أدري من هو فكانت تلك السنون مائة وأربعا وثلاثين سنة نبوة وسائرها فترة. قال أبو سليمان الدمشقي : والرابع واللّه أعلم خالد بن سنان الذي قال فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : نبيّ ضيعه قومه.

قال الإمام فخر الدين الرازي : والفائدة في بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم عند فترة الرسل ، هي أن التحريف والتغيير كان قد تطرف إلى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها وسبب ذلك اختلاط الحق بالباطل والكذب بالصدق فصار ذلك عذرا ظاهرا في إعراض الخلق عن العبادات لأن لهم أن يقولوا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادتك ولكنا ما عرفنا كيف نعبدك فبعث اللّه في هذا الوقت محمدا صلى اللّه عليه وسلم لإزالة هذا العذر فذلك

قوله عز وجل : أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ يعني لئلا تقولوا

وقيل معناه كراهية أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير في هذا الوقت فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ يعني فقد أرسلت إليكم محمدا صلى اللّه عليه وسلم لإزالة هذا العذر وَاللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أنه قادر على بعثة الرسل في وقت الحاجة إليهم.

قوله عز وجل : وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ قال ابن عباس : اذكروا عافية اللّه.

وقيل : معناه اذكروا أيادي اللّه عندكم وأيامه التي أنعم فيها عليكم قال الطبري : هذا تعريف من اللّه تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم بتمادي هؤلاء في الغي وبعدهم عن الحق وسوء اختيارهم لأنفسهم وشدة مخالفتهم لأنبيائهم مع كثرة نعم اللّه عليهم وتتابع أياديه وآلائه لديهم سلّى بذلك نبيه صلى اللّه عليه وسلم عما نزل به من مقاساتهم ومعالجتهم في ذات اللّه عز وجل إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ يعني أن موسى عليه السلام ذكر قومه بني إسرائيل بأيام اللّه عندهم وبما أنعم به عليهم فقال اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ فضلكم بأن جعل فيكم أنبياء. قال

الكلبي : هم السبعون الذي اختارهم موسى من قومه وانطلق بهم إلى الجبل وأيضا كان أنبياء بني إسرائيل من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام وهؤلاء لا شك أنهم من أكابر الأنبياء وأولاد يعقوب وهم الأسباط أنبياء على قول الأكثرين وموسى وهارون عليهما السلام وأيضا فإن اللّه تعالى أعلم موسى أنه يبعث من بعده في بني إسرائيل أنبياء فإنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء فكان هذا شرفا عظيما لهم ونعمة ظاهرة عليهم وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً يعني : وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد أن كنتم عبيدا في أيدي القبط. قال ابن عباس : يعني جعلكم أصحاب خدم وحشم. قال قتادة : كانوا أول من ملك الخدم ولم يكن لمن قبلهم خدم وروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكا ذكره البغوي بغير سند وسأل رجل عبد اللّه بن عمرو بن العاص فقال ألسنا من فقراء المهاجرين فقال له عبد اللّه ألك امرأة تأوي إليها؟ قال نعم ، قال : لك مسكن تسكنه؟ قال نعم ، قال : أنت من الأغنياء ، قال فإن لي خادما قال فأنت من الملوك. وقال الضحاك : كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية ومن كان مسكنه واسعا وفيه ماء جار فهو ملك وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ يعني من عالمي زمانكم يذكرهم ما أنعم اللّه به عليهم من فلق البحر لهم وإهلاك عدوهم وإنزال المن والسلوى عليهم وإخراج الماء من الحجر لهم وتظليل الغمام فوقهم إلى غير ذلك من النعم التي أنعم اللّه بها عليهم.

٢١

٢٢

يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّه لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢)

قوله تعالى : يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّه لَكُمْ لما ذكر موسى قومه ما أنعم اللّه عليهم أمرهم بالخروج إلى جهاد عدوهم فقال : يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة المباركة. قال الكلبي : صعد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقيل له انظر فما أدرك بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريتك والأرض هي الطور وما حوله.

وقيل : هي أريحاء وفلسطين وبعض الأردن.

وقيل : هي دمشق.

وقيل : هي الشام ، كلها. قال كعب الأحبار : ووجدت في كتاب اللّه المنزل أن الشام كنز اللّه في أرضه وبها أكثر عباده التي كتب اللّه لكم يعني كتب اللّه في اللوح المحفوظ إنها لكم مساكن

وقيل : فرض اللّه عليكم دخولها وأمركم بسكناها.

وقيل : وهبها لكم.

فإن قلت : كيف؟ قال اللّه تعالى : ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب اللّه لكم. وقال فإنها محرمة عليهم وكيف الجمع بينهما؟

قلت فيه وجوه

أحدها أنها كانت هبة من اللّه ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم.

الوجه الثاني : أن اللفظ وإن كان عاما لكن المراد منه الخصوص فصار كأنه مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم فإن يوشع بن نون وكالب بن يوفنا دخلاها وكانا ممن خوطب بهذا الخطاب.

الوجه الثالث : إن هذا الوعد كان مشروطا بالطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط.

الوجه الرابع : أنه قال : إنها محرمة عليهم أربعين سنة فلما مضت الأربعون دخلوها وكانت مساكن لهم كما وعدهم اللّه تعالى : وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ يعني ولا ترجعوا القهقرى مرتدّين على أعقابكم إلى ورائكم ولكن امضوا لأمر اللّه الذي أمركم به وإن فعلتم خلاف ما أمركم اللّه به فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ يعني فترجعوا خائبين لأنكم رددتم أمر اللّه

قوله عز وجل : قالُوا يعني قوم موسى يا مُوسى إِنَّ فِيها يعني في الأرض المقدسة قَوْماً جَبَّارِينَ يعني قوما عاتين لا طاقة لنا بهم ولا قوة لنا بقتالهم وسموا أولئك القوم جبارين لشدة بطشهم وعظم خلقهم وكانوا ذوي أجسام عظيمة وأشكال هائلة وهم العمالقة بقية قوم عاد وأصل الجبار في صفة الإنسان فعال من جبره على الأمر يعني أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد

وقيل إنه مأخوذ من قولهم

نخلة جبارة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها ويقال رجل جبار إذا كان طويلا عظيما قويا تشبيها بالجبار من النخل وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها يعني أرض الجبارين التي أمرهم اللّه بدخولها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها حتى يخرج الجبارون من الأرض المقدسة وإنما قالوا ذلك استبعادا لخروج الجبارين من أرضهم فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ يعني إليها قال العلماء بالأخبار إن النقباء لما خرجوا يتجسسون الأخبار لموسى عليه السلام ورجعوا إليه وأخبروه خبر القوم وما عاينوه منهم. قال لهم موسى : لا تخبروا بني إسرائيل بهذا فيجبنوا ويضعفوا عن قتالهم.

وقيل : إن النقباء الاثني عشر لما خرجوا من أرض الجبارين قال بعضهم لبعض : لا تخبروا بني إسرائيل بما رأيتم فلما رجعوا وأخبروا موسى أمرهم أن لا تخبروا بني إسرائيل بذلك فخالفوا أمره ونقضوا العهد وأخبر كل رجل النقباء سبطه بما رأى إلا يوشع بن نون وكالب فإنهما كتما ووفيا بالعهد فلما علم بنو إسرائيل بذلك وفشا ذلك فيهم رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا : ليتنا متنا في أرض مصر ولا يدخلنا اللّه أرضهم فتكون نساؤنا وأولادنا وأموالنا غنيمة لهم. وجعل الرجل من بني إسرائيل يقول لصاحبه : تعالوا نجعل لنا رأسا وننصرف إلى مصر فلما قال بنو إسرائيل ذلك هموا بالانصراف إلى مصر خر موسى وهارون ساجدين وخرق يوشع وكالب ثيابهما وهما اللذان أخبرنا اللّه عنهما بقوله :

٢٣

٢٤

٢٥

٢٦

قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللّه فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)

قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ يعني يخافون اللّه ويراقبونه أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمَا يعني بالهداية والوفاء ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ يعني قال الرجلان ، وهما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا لبني إسرائيل ، ادخلوا على الجبارين باب مدينتهم فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ لأن اللّه وعدكم بالنصر وأن اللّه ينجز لكم وعده وَعَلَى اللّه فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني يقول الرجلان لقوم موسى ثقوا باللّه فإنه معكم وناصركم إن كنتم مصدقين بأن اللّه ناصركم لا يهولنكم عظم أجسامهم فإنا قد رأيناهم فكانت أجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فلما قالا ذلك ، أراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوا أمرهما ، وقالوا : ما أخبرنا اللّه عنهم بقوله تعالى : قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً يعني : قال قوم موسى لموسى إنا لن ندخل مدينة الجبارين أبدا يعني مدة حياتنا ما دامُوا فِيها يعني مقيمين فيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ إنما قالوا هذه المقالة لأن مذهب اليهود التجسيم فكانوا يجوزون الذهاب والمجيء على اللّه تعالى عن ذلك علوا كبيرا. قال بعض العلماء : إن كانوا قالوا هذا على وجه الذهاب من مكان إلى مكان فهو كفر وإن كانوا قالوه على وجه الخلاف لأمر اللّه وأمر نبيه فهو فسق ،

وقال بعضهم : إنما قالوه على وجه المجاز. والمعنى : اذهب أنت وربك معين لك لكن قوله : فقاتلا يفسد هذا التأويل.

وقال بعضهم : إنما أرادوا بقولهم وربك أخاه هارون لأنه كان أكبر من موسى والأصح أنهم إنما قالوا ذلك جهلا منهم باللّه تعالى وصفاته ومنه

قوله تعالى : وَما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ

(خ).

عن ابن مسعود قال : شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون أنا صاحبه أحب إليّ مما عدل به أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يدعو على المشركين يوم بدر فقال يا رسول اللّه ألا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن امض ونحن معك فكأنه سرّي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وفي رواية : لكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك فرأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أشرق

وجهه وسرّ.

قوله تعالى : قالَ يعني موسى عليه السلام رَبِّ أي يا رب إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي يعني إني لا أملك إلا نفسي وأخي لا يملك إلا نفسه

وقيل معناه لا أملك إلا نفسي ونفس أخي لأنه كان يطيعه وإذا كان كذلك فقد ملكه وإنما قال موسى لا أملك إلا نفسي وأخي وإن كان معه في طاعته يوشع بن نون وكالب بن يوفنا لاختصاص هارون به ولمزيد الاعتناء بأخيه ويحتمل أن يكون معناه وأخي في الدين ومن كان على دينه وطاعته فهو أخوه في الدين فعلى هذا الاحتمال يدخل الرجلان في قوله وأخي ثم قال : فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي افصل

وقيل احكم بيننا وبين القوم الفاسقين يعني الخارجين عن طاعتك وإنما قال موسى ذلك لأنه لما رأى بني إسرائيل وما فعلوه من مخالفة أمر اللّه وهمهم بيوشع وكالب غضب لذلك ودعا عليهم فأجاب اللّه تعالى دعاء موسى عليه السلام (قال) اللّه عز وجل : فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ يعني فإن الأرض المقدسة محرمة عليهم ومعناه أن تلك البلدة محرمة عليهم أبدا ولم يرد تحريم تعبد وإنما أراد تحريم منع فأوحى اللّه تعالى إلى موسى (بي حلفت لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع وكالب ولأتيهنهم في هذه البرية أربعين سنة مكان كل يوم من الأيام التي كانوا يتجسسون فيها سنة ولألقين جيفهم في هذه القفار

وأما أبناؤهم الذين لم يعملوا الشر فيدخلونها) فذلك

قوله تعالى فإنها يعني الأرض المقدسة محرمة عليهم. قال أكثر أهل العلم : هذا تحريم منع لا تحريم تعبّد.

وقيل : يحتمل أن يكون تحريم تعبد فيجوز أن يكون اللّه تعالى أمرهم بأن يمكثوا في تلك المفازة في الشدة والبلية عقابا لهم على سوء صنيعهم (أربعين سنة) فمن قال إن الكلام ثم عند قوله فإنها محرمة عليهم قال أربعين سنة يتيهون في الأرض فأما الحرمة فإنها مؤبدة حتى يموتوا ويدخلها أبناؤهم.

وقيل : معناه أن الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة ثم يدخلونها وتفتح لم.

وقوله تعالى : يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ يعني يتحيرون فيها. يقال : تاه يتيه إذا تحير. واختلفوا في مقدار الأرض التي تاهوا فيها ، فقيل : مقدار ستة فراسخ.

وقيل : ستة فراسخ في اثني عشر فرسخا.

وقيل : تسع فراسخ في ثلاثين فرسخا. وكان القوم ستمائة ألف مقاتل وكانوا يرحلون ويسيرون يومهم أجمع فإذا أمسوا إذا هم في الموضع الذي رحلوا منه وكان ذلك التيه عقوبة لبني إسرائيل ما خلا موسى وهارون ويوشع وكالب فإن اللّه تعالى سهله عليهم وأعانهم عليه كما سهل على إبراهيم النار وجعلها بردا وسلاما.

فإن قلت : كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في هذا المقدار الصغير من الأرض أربعين سنة بحيث لم يخرج منه أحد؟.

قلت : هذا من باب خوارق العادات. وخوارق العادات في أزمان الأنبياء غير مستبعدة ، فإن اللّه على كل شيء قدير.

وقيل : إن فسرنا ذلك التحريم بتحريم التعبد زال هذا الإشكال لاحتمال أن اللّه ما حرم عليهم الخورج من تلك الأرض بل أمر بالمكث أربعين سنة في المشقة والمحنة جزاء لهم على سوء صنيعهم ومخالفتهم أمر اللّه ولما حصل بنو إسرائيل في التيه شكوا إلى موسى عليه السلام حالهم فأنزل اللّه عليهم المن والسلوى وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم فينشأ الناشئ منهم فتكون معه على مقداره وهيئته وسأل موسى ربه أن يسقيهم فأتى بحجر أبيض من جبل الطور فكان إذا نزل ضربه بعصاه فيخرج منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط منهم عين وأرسل اللّه عليهم الغمام يظلّهم في التيه ومات في التيه كل من دخله ممن جاوز عشرين سنة غير يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ولم يدخل أريحاء ممن قال : إنا لن ندخلها أبدا واختلفوا في أن موسى عليه السلام مات في التيه أم خرج منه فقيل : إن موسى وهارون ماتا في التيه جميعا.

( (قصة وفاة موسى وهارون عليهما السلام)) فأما هارون فإنه كان أكبر من موسى بسنة. قال السدي : أوحى اللّه عز وجل إلى موسى إني متوفى هارون

فأت به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل فإذا بشجرة لم ير مثلها وإذا ببيت مبني وفيه سرير عليه فراش وفيه رائحة طيبة فلما رأى هارون ذلك البيت أعجبه ، وقال : يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير. قال : نم. قال : إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب عليّ. قال : لا تخف إني أكفيك ربّ هذا البيت فنم. قال : يا موسى فنم أنت معي فإن جاء رب هذا البيت غضب عليّ وعليك جميعا. فلما ناما أخذ هارون الموت فلما وجد مسه قال : يا موسى خدعتني فلما قبض هارون رفع البيت والسرير إلى السماء وهارون عليه وذهبت الشجرة فرجع موسى إلى بني إسرائيل وليس هارون معه فقال بنو إسرائيل حسد موسى هارون فقتله لحبنا إياه. قال موسى : ويحكم إن هارون كان أخي أفتروني أقتله؟ فلما أكثروا عليه قام موسى فصلى ركعتين ثم دعا اللّه عز وجل فنزل السرير وعليه هارون فنظروا إليه وهو بين السماء والأرض فصدقوه ثم رفع.

وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : صعد موسى عليه السلام وهارون إلى الجبل فمات هارون وبقي موسى فقال بنو إسرائيل لموسى : أنت قتلته وآذوه فأمر اللّه الملائكة فحملوه حتى مروا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته فصدقت بنو إسرائيل أنه مات وبرأ اللّه موسى مما قالوه ثم إن الملائكة حملوه ودفنوه ولم يطلع على موضع قبره أحد إلا الرخم فجعله اللّه أصم أبكم.

وأما وفاة موسى عليه السلام فقال ابن إسحاق كان صفي اللّه موسى عليه السلام قد كره الموت وأعظمه فأراد اللّه أن يحبب إليه الموت فنبأ يوشع بن نون فكان موسى يغدو ويروح إليه ويقول له يا نبي اللّه ما أحدث اللّه إليك فيقول له يوشع يا نبي اللّه ألم أصحبك كذا وكذا سنة فهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث اللّه إليك حتى كنت أنت تبتدئ به وتذكره لي ولا يذكر له شيئا فلما رأى موسى ذلك كره الحياة وأحب الموت

(ق). عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أرسل ملك الموت إلى موسى فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت فرد اللّه إليه عينه وقال : ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بكل ما غطت يده من شعره سنة. قال : أي رب ثم مه قال : ثم الموت قال : فالآن فسأل اللّه أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر)

وفي رواية لمسلم قال : جاء ملك الموت إلى موسى فقال : أجب ربك قال فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها) ثم ذكر معنى ما تقدم قال الشيخ محيي الدين النووي. قال المازري : وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث وأنكر تصوره قالوا كيف يجوز على موسى فقء عين ملك الموت.

وأجاب عنه العلماء بأجوبة

أحدها أنه لا يمتنع أن يكون اللّه قد أذن لموسى في هذه اللطمة ويكون ذلك امتحانا للمطلوم واللّه تعالى يفعل في خلقه ما يشاء ويمتحنهم بما أراد.

الثاني : أن موسى لم يعلم أنه ملك من عند اللّه وظن أنه رجل قصده يريد نفسه فدافعه عنها فأدت المدافعة إلى فقء عينه لأنه قصدها بالفقء وتؤيده رواية صكه وهذا جواب الإمام أبي بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين واختاره المازري والقاضي عياض. قالوا : وليس في الحديث تصريح بأنه قصد فقء عينه.

فإن قيل : فقد اعترف موسى حين جاء ثانيا بأنه ملك الموت.

فالجواب ، أنه أتاه في المرة الثانية بعلامة علم بها أنه ملك الموت فاستسلم له بخلاف المرة الأولى

وأما سؤال موسى الإدناء من الأرض المقدسة فلشرفها وفضلها وفضل من بها من المدفونين من الأنبياء وغيرهم وفيه دليل على استحباب الدفن في المواضع الفاضلة والمواطن المباركة والقرب من مدافن الصالحين قال بعض العلماء وإنما سأل موسى الإدناء ولم يسأل نفس بيت المقدس لأنه خاف أن يكون قبره مشهورا عندهم فيفتتن به الناس واللّه أعلم.

قال وهب بن منبه : خرج موسى لبعض حاجته فمر برهط من الملائكة وهم يحفرون قبرا لم ير شيئا أحسن

منه ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة ، فقال لهم : يا ملائكة اللّه لمن تحفرون هذا القبر؟ فقالوا : لعبد كريم على ربه. فقال : إن هذا العبد من اللّه بمنزلة ما رأيت كاليوم قط.

فقالت الملائكة : يا صفي اللّه تحب أن يكون لك؟ قال : وددت. قالوا : فانزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربك فنزل واضطجع وتوجه إلى ربه عز وجل ثم تنفس أسهل تنفس فقبض اللّه روحه ثم سوت الملائكة عليه التراب.

وقيل : إن ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقيض روحه وكان عمر موسى عليه السلام مائة سنة وعشرين سنة فلما مات موسى عليه السلام انقضت الأربعون سنة وبعث اللّه يوشع إلى بني إسرائيل فأخبرهم أن اللّه قد أمره بقتال الجبارين فصدقوه وتابعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء وهي مدينة الجبارين ومعه تابوت الميثاق فأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر فلما كان من السابع نفخوا في القرون وضجوا في الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة فدخلوها وقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل من الجبابرة يضربونها حتى يقطعونها وكان القتال والفتح يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس أن تغرب وتدخل ليلة السبت فقال : اللّهم اردد علي الشمس وقال للشمس : إنك في طاعة اللّه وأنا في طاعة اللّه وسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقف حتى ينتقم من أعداء اللّه قبل دخول السبت فرد اللّه عليه الشمس وزيد في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين وتتبع ملوك الشام فاستباح منهم أحدا وثلاثين ملكا حتى غلب على جميع أرض الشام وصارت كلها لبني إسرائيل وفرق عماله نواحيها وجميع الغنائم فجاءت النار لتأكلها فلم تطعمها فقال : إن فيكم غلولا فليبايعني من كل قبيلة رجل ففعلوا فلصقت يد رجل بيده.

فقال : فيكم الغلول فجاؤوا برأس ثور من ذهب مكلل بالياقوت والجوهر قد غلّه رجل منهم فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان.

وفي الحديث الصحيح ما يدل على صحة هذا أو هو ما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن بها ولا أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها ولا رجل اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس إنك مأمورة وأنا مأمور اللّهم احبسها علينا فحبست حتى فتح اللّه عليه فجمع الغنائم فجاءت يعني النار لتأكلها فلم تطعمها فقال إن فيكم غلولا فليبايعني من كل قبيلة رجل فلزقت يد رجل بيده فقال فيكم الغلول فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعها فجاءت النار فأكلتها) زاد في رواية : (فلم تحل الغنائم لأحد قبلنا ثم أحل اللّه لنا الغنائم لما رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا) أخرجه البخاري ومسلم.

شرح غريب هذا الحديث. قوله لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة ، البضع بضم الباء كناية عن فرج المرأة ولم يبن بها أي لم يدخل عليها ، ولخلفات النوق الحوامل قوله للشمس إنك مأمورة وأنا مأمور اللّهم احبسها علينا قال الشيخ محيي الدين قال القاضي عياض : اختلف الناس في حبس الشمس المذكور هنا فقيل : ردت إلى ورائها

وقيل : وقفت ولم ترد

وقيل : بطء حركتها وكل ذلك من معجزات النبوة قال ويقال إن الذي حبست عليه الشمس يوشع بن نون قال القاضي.

وقد روي أن نبينا محمدا صلى اللّه عليه وسلم حبست له الشمس مرتين إحداهما يوم الخندق حين شغلوا عن صلاة العصر حتى غربت الشمس فردها اللّه عليه حتى صلى العصر ذكر ، ذلك الطحاوي وقال : رواته ثقات.

والثانية : صبيحة ليلة الإسراء حين انتظر العير لما أخبر بوصولها مع شروق الشمس ذكره يونس بن بكير في زياداته عن سيرة بن إسحاق.

وقال وهب : ثم مات يوشع بن نون ودفن في جبل أفراثيم وكان عمره مائة سنة وستا وعشرين سنة وكان تدبيره أمر بني إسرائيل بعد موسى سبعا وعشرين سنة.

وقيل : إن الذي فتح أريحاء هو موسى عليه السلام وكان

يوشع بن نون على مقدمته فسار إليهم بمن بقي من بني إسرائيل فدخلها يوشع وقاتل الجبابرة ثم دخلها موسى وأقام بها ما شاء اللّه تعالى ثم قبضه اللّه إليه ولا يعلم أحد قبره وهذا أصح الأقاويل لاتفاق العلماء أن موسى عليه السلام هو الذي قتل عوج بن عنق وهذا القول هو اختيار الطبري. ونقل عن السدي قال : غضب موسى على قومه فدعا عليهم فقال : رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي الآية. فقال اللّه عز وجل : فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلما ضرب عليهم التيه ندم موسى وأتاه قومه الذين كانوا يطيعونه فقالوا له : ما صنعت بنا يا موسى فمكثوا في التيه فلما خرجوا منه رفع المن والسلوى والبقول والتقى موسى وعوج فنزا موسى في السماء عشر أذرع وكانت عصاه عشرة أذرع وكان طوله عشرة فأصاب كعب عوج فقتله. قال الطبري : ولو كان قتل موسى إياه قبل مصيره في التيه لم يجزع بنو إسرائيل لأنه كان من أعظم الجبارين. وروي عن نون قال : كان سرير عوج ثمانمائة ذراع. وقال : وإن أهل العلم بأخبار الأولين مجمعون على أن بلعم بن باعوراء كان ممن أعان الجبارين بالدعاء على موسى لأنه كان يعلم الاسم الأعظم فدعا عليه وسترد قصته في سورة الأعراف إن شاء اللّه تعالى

وقوله تعالى : فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ يعني : لا تحزن عليهم لأنهم أهل مخالفة وخروج عن الطاعة.

وقيل : لما ندم موسى على ما دعاه على قومه أوحى اللّه إليه فلا تأس على القوم الفاسقين. قال الزجاج :

وجائز أن يكون خطابا لمحمد صلى اللّه عليه وسلم أي : لا تحزن يا محمد على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل.

٢٧

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ

أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّه مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧)

قوله عز وجل : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ يعني اذكر لقومك وأخبرهم خبر ابني آدم وهما هابيل وقابيل في قول جمهور المفسرين ونقل عن الحسن والضحاك أن ابني آدم اللذين قربا القربان ما كانا ابني آدم لصلبه وإنما كانا رجلين من بني إسرائيل ويدل عليه

قوله تعالى في آخر القصة مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ الآية والصحيح ما ذهب إليه جمهور المفسرين ، لأن اللّه تعالى قال في آخر الآية : فَبَعَثَ اللّه غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لأن القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلّم من فعل الغراب بالحق أن أخبرهم خبرا ملتبسا بالحق والصدق لأنه من عند اللّه وموافقا لما في الكتب المتقدمة وهم يعلمون صحته ومقصود هذا الخبر هو تقبيح الحسد لأن المشركين وأهل الكتاب كانوا يحسدون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إِذْ قَرَّبا قُرْباناً القربان اسم لما يتقرب به إلى اللّه عز وجل من صدقة أو ذبيحة أو غير ذلك مما يتقرب به.

(ذكر قصة القربان وسببه وقتل قابيل هابيل) ذكر أهل العلم بالأخبار والسير أن حواء كانت تلد لآدم في كل بطن غلاما وجارية فكان جميع ما ولدته أربعين ولدا في عشرين بطنا أولهم قابيل وتوأمته إقليما وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أم المغيث ثم بارك اللّه في نسل آدم. قال ابن عباس : لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا واختلفوا في مولد قابيل وهابيل فقال بعضهم غشي آدم حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمائة سنة فولدت له قابيل وتوأمته إقليما في بطن ثم هابيل وتوأمته لبودا في بطن.

وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب

الأول : إن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت بقابيل وأخته فلم تجد عليهما وحما ولا وصبا ولا طلقا ولم تر دما وقت الولادة فلما هبط إلى الأرض تغشاها فحملت بهابيل وتوأمته فوجدت عليهما الوحم والوصب والطلق والدم وكان إذا كبر أولاده زوج غلام هذا البطن جارية بطن أخرى وكان الرجل منهم يتزوج أية أخواته شاء غير توأمته التي ولدت معه

لأنه لم يكن يومئذ نساء إلا أخواتهم فكبر قابيل وأخوه هابيل وكان بينهما سنتان ، فلما بلغوا ، أمر اللّه آدم أن يزوج قابيل لبودا أخت هابيل ويزوج هابيل إقليما. وكانت إقليما أحسن من لبودا ، فذكر آدم ذلك لهما فرضي هابيل وسخط قابيل وقال : هي أختي وأنا أحق بها ونحن أولاد من الجنة وهما من أولاد الأرض. فقال أبوه آدم : إنها لا تحل لك. فأبى أن يقبل ذلك. وقال : إن اللّه لم يأمرك بهذا وإنما هو من رأيك فقال لهما آدم. قربا للّه قربانا فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت من السماء نار بيضاء فأكلتها وإن لم تكن مقبولة لم تنزل النار بل تأكلها الطير والسباع. فخرجا من عند آدم ليقربا القربان وكان قابيل صاحب زرع فقرب صبرة من طعام رديء وأضمر في نفسه : لا أبالي أيتقبل مني أم لا لا يتزوج أختي أحد غيري وكان هابيل صاحب غنم فعدل إلى أحسن كبش في غنمه فقربه وأضمر في نفسه رضا اللّه فوضعا قربانهما على جبل ثم دعا آدم فنزلت النار من السماء فأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل فذلك

قوله تعالى : فَتُقُبِّلَ مِنْ

أَحَدِهِما يعني هابيل وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ يعني قابيل فغضب قابيل إذ لم يتقبل قربانه فأضمر لأخيه الحسد إلى أن آتى آدم مكة لزيارة البيت وغاب عنهم فأتى قابيل وهابيل وهو في غنمه قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ قال هابيل ولم تقتلني؟ قال قابيل :

لأن اللّه تقبّل قربانك وردّ قرباني وتريد أن تنكح أختي الحسناء وأنكح أختك الدميمة فيتحدث الناس بأنك خير مني ويفخر ولدك على ولدي فقال هابيل وما ذنبي إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّه مِنَ الْمُتَّقِينَ يعني أن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال فلذلك كان أحد القربانين مقبولا دون الآخر ولأن التقوى من أعمال القلوب وكان قد أضمر في قلبه الحسد لأخيه على تقبل قربانه وتوعّده بالقتل فقال له : إنما أوتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى وإنما يتقبل اللّه من المتقين فأجابه بجواب مختصر.

وقيل : يحتمل أن يكون خطابا للنبي صلى اللّه عليه وسلم فكأنه تعالى بين للنبي صلى اللّه عليه وسلم أنه إنما لم يتقبل قربانه لأنه لم يكن متقيا وإنما يتقبل اللّه من المتقين ثم قال تعالى إخبارا عن هابيل.

٢٨

٢٩

٣٠

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللّه رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠)

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ يعني لئن مددت إلي يدك لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ يعني ما أنا بمنتصر لنفسي بل أستسلم لأمر اللّه.

وقيل : معناه ما كنت بمبتدئك بالقتل وذلك أن اللّه كان قد حرم عليهم قتل نفس بغير نفس ظلما. وقال مجاهد : كان قد كتب عليهم إذا أراد الرجل أن يقتل رجلا تركه ولا يمتنع منه.

وقيل : إن المقتول كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكنه تحرج عن قتل أخيه فاستسلم له خوفا من اللّه فذلك قوله إِنِّي أَخافُ اللّه رَبَّ الْعالَمِينَ والمعنى إني أخاف اللّه في بسط يدي إليك إن أبسطها لقتلك أن يعاقبني على ذلك.

قوله عز وجل إخبارا عن هابيل إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ يعني ترجع بإثم قتلي إلى إثم معاصيك التي عملتها من قبل.

فإن قلت : كيف؟ قال هابيل إني أريد وإرادة القتل والمعصية من الغير لا تجوز.

قلت :

أجاب ابن الأنباري عن هذا بأن قال : إن قابيل لما قال لأخيه هابيل لأقتلنك وعظه هابيل وذكره اللّه واستعطفه وقال لئن بسطت إليّ يدك الآية فلم يرجع فلما رآه هابيل قد صمم على القتل وأخذ له الحجارة ليرميه بها قال له هابيل عند ذلك إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك أي إذا قتلتني ولم يندفع قتلك إياي إلا بقتلي إياك فحينئذ يلزمك إثم قتلي إذا قتلتني فكان هذا عدلا من هابيل وإليه أشار الزجاج فقال : معناه إن قتلتني فما أنا مريد ذلك فهذه الإرادة منه بشرط أن يكون قاتلا له والإنسان إذا تمنى أن يكون إثم دمه على قاتله لم يلم على ذلك وعلى هذا التأويل.

قال بعضهم : معناه إني أريد أن تبوء بعقاب إثمي وإثمك فحذف المضاف وما باء بإثم باء بعقاب ذلك الإثم ذكره الواحدي وقال الزمخشري : ليس ذلك بحقيقة الإرادة لكنه لما علم أنه يقتله لا محالة ووطن نفسه على الاستسلام للقتل طلبا للثواب فكأنه صار مريدا لقتله مجازا وإن لم يكن مريدا حقيقة فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ يعني الملازمين لها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ يعني جهنم جزاء من قتل أخاه ظلما.

قوله تعالى : فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ يعني زينت له وسهلت عليه القتل وذلك أن الإنسان إذا تصور أن قتل النفس من أكبر الكبائر صار ذلك صارفا له عن القتل فلا يقدم عليه فإذا سهلت عليه نفسه هذا الفعل فعله بغير كلفة فهذا هو المراد من

قوله تعالى : (فطوعت له نفسه قتل أخيه) فَقَتَلَهُ.

قال ابن جريج : لما قصد قابيل قتل هابيل لم يدر كيف يقتله فتمثل له إبليس وقد أخذ طيرا فوضع رأسه على حجر ثم رضخه بحجر آخر وقابيل ينظر فعلمه القتل فرضخ قابيل رأس هابيل بين حجرين وهو مستسلم صابر

وقيل بل اغتاله وهو نائم فقتله.

واختلف في موضع قتله فقال ابن عباس : على جبل ثور.

وقيل : على عقبة حراء.

وقيل : بالبصرة عند مسجدها الأعظم وكان عمر هابيل يوم قتل عشرين سنة.

وقوله تعالى : فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ قال ابن عباس : خسر دنياه وآخرته أما دنياه فإسخاط والديه وبقي بلا أخ

وأما آخرته فأسخط ربه وصار إلى النار

(ق) عن عبد اللّه بن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل).

فَبَعَثَ اللّه غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)

٣١

قوله تعالى : فَبَعَثَ اللّه غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قال أصحاب الأخبار لما قتل قابيل هابيل تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به لأنه أول ميت من بني آدم على وجه الأرض فقصدته السباع لتأكله فحمله قابيل على ظهره في جراب أربعين يوما. وقال ابن عباس : سنة حتى أروح وأنتن فأراه اللّه أن يرى قابيل سنته في موتى بني آدم في الدفن فبعث اللّه غرابين فاقتتلا فقتل

أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه حفيرة ثم ألقاه فيها وواراه بالتراب وقابيل ينظر فذلك

قوله تعالى : فَبَعَثَ اللّه غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ يعني يحفرها وينثر ترابها ليريه كيف يواري سوأة أخيه يعني ليري اللّه أو يري الغراب قابيل كيف يواري ويستر جيفة أخيه فلما رأى ذلك قابيل من فعل الغراب قالَ يا وَيْلَتى أي لزمه الويل وحضره وهي كلمة تحسر وتلهف وتستعمل عند وقوع الداهية العظيمة وذلك أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول فلما علم ذلك من فعل الغراب علم أن الغراب أكثر علما منه وعلم أنه إنما ندم على قتل أخيه بسبب جهله وعدم معرفته فعند ذلك تلهف وتحسر على ما فعله فقال : يا ويلتا. وفيه اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ يعني مثل هذا الغراب الذي وارى الغراب الآخر فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي يعني فأستر جيفته وعورته عن الأعين فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ يعني على حمله على ظهره مدة سنة لا على قتله.

وقيل : إنه ندم على قتل أخيه لأنه لم ينتفع بقتله وسخط عليه أبواه وإخوته فندم لأجل ذلك لا لأجل أنه جنى جناية واقترف ذنبا عظيما بقتله فلم يكن ندمه ندم توبة وخوف وإشفاق من فعله فلأجل ذلك لم ينفعه الندم ، قال المطلب بن عبد اللّه بن حطب : لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بمن عليها سبعة أيام وشربت دم المقتول كما تشرب الماء فناداه تعالى أين أخوك هابيل؟

فقال ما أدري ما كنت عليه رقيبا : فقال اللّه تعالى إن دم أخيك ليناديني من الأرض فلم قتلت أخاك؟ قال فأين دمه

إن كنت قتلته! فحرم اللّه على الأرض يومئذ أن تشرب دما بعده أبدا ويروى عن ابن عباس قال لما قتل قابيل هابيل كان آدم بمكة فاشتاك الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه واغبرت الأرض فقال آدم : قد حدث في الأرض حدث ، فأتى الهند فوجد قابيل قد قتل هابيل ،

وقيل : لما رجع آدم سأل قابيل عن أخيه ، فقال : ما كنت عليه وكيلا. فقال : بل قتلته ولذلك اسود جلدك.

وقيل : إن آدم مكث بعد قتل هابيل مائة سنة لا يضحك وأنه رثاه بشعر فقال :

تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبّر قبيح

تغير كل ذي طعم ولون وقل بشاشة الوجه المليح

ويروى عن ابن عباس أنه قال : من قال إن آدم قال شعرا فقد كذب وأن محمدا صلى اللّه عليه وسلم والأنبياء كلهم في النهي سواء ولكن لما قتل هابيل رثاه آدم وهو سرياني فلما قال آدم مرثيته قال لشيث : يا بني أنت وصيي احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرثي الناس عليه فلم يزل ينتقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو أول من خط العربية وكان يقول الشعر فنظر في المرثية فرد المقدم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدم فوزنه شعرا وزاد فيه أبياتها منها :

وما لي لا أجود بسكب دمع وهابيل تضمنه الضريح

أرى طول الحياة عليّ غما فهل أنا من حياتي مستريح

قال الزمخشري : ويروي أنه رثاه بشعر وهو كذب بحت وما الشعر إلا منحول ملحون وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر. قال الإمام فخر الدين الرازي : ولقد صدق صاحب الكشاف فيما قال فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق إلا بالحمقى من المعلمين فكيف ينسب إلى من جعل اللّه علمه حجة على الملائكة؟.

قال أصحاب الأخبار : فلما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمسين سنة ولدت له حواء شيئا وتفسيره هبة اللّه يعني أنه خلف من هابيل وعلمه اللّه تعالى ساعات الليل والنهار وعلمه عبادة الخلق في كل ساعة وأنزل عليه خمسين صحيفة وصار وصي آدم وولي عهده

وأما قابيل فقيل له اذهب طريدا شريدا فزعا مرعوبا لا تأمن من تراه فأخذ بيد أخته إقليما وهرب بها إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس وقال له إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يعبدها فانصب أنت نارا تكون لك ولعقبك فبنى بيت النار فهو أول من عبد النار وكان قابيل لا يمر به أحد إلا رماه بالحجارة فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابنه فقال ابن الأعمى لأبيه هذا أبوك قابيل فرماه بحجارة فقتله فقال ابن الأعمى لأبيه قتلت أباك قابيل فرفع الأعمى يده ولطم ابنه فمات فقال الأعمى ويل لي قتلت أبي برميتي وقتلت ابني بلطمتي فلما مات قابيل علقت إحدى رجليه بفخذه وعلق بها فهو معلق بها إلى يوم القيامة ووجهه إلى الشمس حيث دارت وعليه حظيرة من نار في الصيف وحظيرة من ثلج في الشتاء فهو يعذب بذلك إلى يوم القيامة قالوا : واتخذ أولاد قابيل آلات للّهو من الطبول والزمور والعيدان والطنابير وانهمكوا في اللّهو وشرب الخمر وعبادة النار والفواحش حتى أغرقهم اللّه تعالى جميعا بالطوفان في زمن نوح عليه السلام فلم يبق من ذرية قابيل أحد وأبقى اللّه ذرية شيث ونسله إلى يوم القيامة.

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)

٣٢

قوله تعالى : مِنْ أَجْلِ ذلِكَ يعني بسبب ذلك القتل الذي حصل

وقيل الأجل في اللغة الجناية يقال أجل عليهم شرا أي جنى عليهم شرا كَتَبْنا أي فرضنا وأوجبنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ.

فإن قلت : من أجل ذلك معناه من أجل ما مر من قصة قابيل وهابيل كتبنا على بني إسرائيل. وهذا مشكل لأنه لا مناسبة بين واقعة قابيل وهابيل وبين وجوب القصاص على بني إسرائيل.

قلت : قال بعضهم هو من تمام الكلام الذي قبله والمعنى فأصبح من النادمين من أجل ذلك أي من أجل أنه قتل هابيل ولم يواره. ويروى عن نافع أنه كان يقف على قوله من أجل ذلك ويجعله تمام الكلام الأول فعلى هذا يزول الإشكال. لكن جمهور المفسرين وأصحاب المعاني على أن قوله من أجل ذلك ابتداء كلام وليس يوقف عليه. فعلى هذا قال بعضهم : إن قوله من أجل ذلك ليس هو إشارة إلى قصة قابيل وهابيل ، بل هو إشارة إلى ما مر ما ذكره في هذه القصة من أنواع المفاسد الحاصلة بسب هذا القتل الحرام منها قوله فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ وفيه إشارة إلى أنه حصلت له خسارة في الدين والدنيا والآخرة.

ومنها قوله : فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ وفيه إشارة إلى أنه حظر في أنواع الندم والحسرة والحزن مع أنه لا دافع لذلك البتة فقوله من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أي من أجل ذلك الذي ذكرنا في أثناء القصة من أنواع المفاسد المتولدة من القتل العمد المحرم شرعنا القصاص على القاتل.

فإن قلت : فعلى هذا تكون شريعة القصاص حكما ثابتا في جميع الأمم ، فما الفائدة بتخصيصه ببني إسرائيل.

قلت : إن وجوب القصاص وإن كان عامّا في جميع الأديان والملل إلا أن التشديد المذكور هاهنا في حق بني إسرائيل غير ثابت في جميع الأديان والملل لأنه تعالى حكم في هذه الآية بأن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا ولا يشك أن المقصود منه المبالغة في عقاب قاتل النفس عدوانا وأن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل وذلك يدل على قساوة قلوبهم وبعدهم عن اللّه عز وجل ولما كان الفرض من ذكر هذه القصة تسلية النبي صلى اللّه عليه وسلم على ما أقدم عليه اليهود بالفتك بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وبأصحابه فتخصيص بني إسرائيل في هذه القصة بهذه المبالغة مناسب للكلام وتوكيد للمقصود واللّه أعلم بمراده.

قوله عز وجل : أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً يعني من قتل نفسا ظلما بِغَيْرِ نَفْسٍ يعني بغير قتل نفس لا على وجه الاقتصاص فيقاد من قاتل النفس على وجه العدوان المحرم أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ هو عطف على بغير نفس يعني وبغير فساد في الأرض فيستحق به القتل لأن القتل على أسباب كثيرة منها القصاص وهو المراد من قوله :

قتل نفسا بغير نفس. ومنها الشرك والكفر بعد الإيمان ومنها قطع الطريق ونحو ذلك وهو المراد من قوله أو فساد في الأرض فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً قال مجاهد : من قتل نفسا محرمة يصلى النار بقتلها كما يصلاها بقتل الناس جميعا ومن سلم من قتلها فكأنما سلم من قتل الناس جميعا. وقال ابن عباس : من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا. ومن شد عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا.

وقيل : معناه أن من قتل نفسا محرمة يجب عليه من القصاص مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعا ومن أحياها يعني من غرق أو حرق أو وقوع في هلكة فكأنما أحيا الناس جميعا يعني أن له من الثواب مثل ثواب من أحيا الناس جميعا

وقيل : معناه من استحل قتل مسلم بغير حقه فكأنما استحل قتل الناس جميعا لأنهم لا يسلمون منه ومن تورع عن قتل مسلم فكأنما تورع عن قتل جميع الناس فقد سلموا منه قال أهل المعاني قوله ومن أحياها على المجاز لأن المحيي هو اللّه تعالى في الحقيقة فيكون المعنى ومن ناجاها من الهلاك فكأنما نجى جميع الناس منه. سئل الحسن عن هذه الآية أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل فقال : أي والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على اللّه من دمائنا.

وقوله تعالى : وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ يعني : ولقد جاءت بني إسرائيل رسلنا ببيان الأحكام والشرائع والدلالات الواضحات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ يعني بعد مجيء الرسل وبعد ما كتبنا عليهم تحريم القتل فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ يعني بالقتل لا ينتهون عنه

وقيل معناه لمجازون حد الحق وإنما قال تعالى وإن كثيرا منهم ، لأنه تعالى علم أن منهم من يؤمن باللّه ورسوله وهم قليل من كثير.

قوله عز وجل : إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ قال ابن عباس نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخيّر اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم إن يشأ يقتل وإن يشأ يصلب وإن يشأ يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وهذا قول الضحاك أيضا.

وقال الكلبي : نزلت في قوم هلال بن عويمر وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن مر بهلال إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فهو آمن لا يهاج فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بقوم هلال ولم يكن هلال شاهدا فشدوا عليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فنزل جبريل عليه السلام بالقضاء فيهم بهذه الآية. وقال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في قوم من عرينة وعكل أتوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة فاستوخموا المدينة ، فبعثهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى إبل الصدقة فارتدوا وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل

(ق).

عن أنس بن مالك أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى اللّه عليه وسلم وتكلموا بالإسلام فقالوا : يا نبي اللّه إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة فأمر لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد الإسلام وقتلوا راعي النبي صلى اللّه عليه وسلم واستاقوا الذود ، فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فبعث الطلب في أثرهم فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وأرجلهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم. قال قتادة بلغنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان بعد ذلك يحث على الصدقة وينهى عن المثلة. زاد في رواية قال قتادة : فحدثني ابن سيرين إن ذلك قبل إن تزول الحدود.

وفي رواية للبخاري أن ناسا من عرينة اجتووا المدينة فرخص لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها فقتلوا الراعي واستاقوا الذود فأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم وتركهم في الحرة يعضون الحجارة. زاد في رواية : قال أبو قلابة وأي شيء أشد مما صنع هؤلاء ارتدوا عن الإسلام وقتلوا وسرقوا ،

وفي رواية أبي داود إن قوما من عكل أو قال من عرينة قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاجتووا المدينة فأمر لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فما صحوا قتلوا راعي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واستاقوا النعم فبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم فلما ارتفع النهار حتى جيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون قال أبو قلابة :

فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا اللّه ورسوله زاد في رواية له وأنزل اللّه عز وجل :

إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣)

٣٣

إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا الآية.

شرح غريب هذا الحديث وحكمه قوله إنا كنا أهل ضرع يعني ، أهل ماشية وبادية نعيش باللبن ولسنا من

أهل المدن. والريف هو الأرض التي فيها زرع وخصب والجمع أرياف. قوله : استوخموا المدينة يعني أنها لم توافق مزاجهم وكذا قوله : اجتووا المدينة وهو معناه والذود من الإبل ما بين الثلاثة إلى العشرة والحرة هي أرض ذات حجارة سود وهي هنا اسم لأرض بظاهر المدينة معروفة.

وقوله : فسمر أعينهم ، معناه أنه حمى مسامير الحديد وكحل بها أعينهم حتى ذهب بصرها.

وقوله : وينهى عن المثلة ، أن تقطع أطراف الحيوان وتشوه خلقته ومثلة القتيل أن يقطع أنفه وأذنيه ومذاكيره ونحو ذلك. واختلف العلماء في حكم هذا الحديث فقيل : هو منسوخ لنهي النبي صلى اللّه عليه وسلم عن المثلة.

وقيل : حكمه ثابت غير السمل والمثلة.

وقيل : إن هذه الآية ناسخة لما فعله النبي صلى اللّه عليه وسلم بهم.

وقيل : كان ذلك قبل أن تنزل الحدود ، فلما نزلت الحدود وجب الأخذ بها والعمل بمقتضاها.

وقيل :

نزلت هذه الآية معاتبة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتعليما من اللّه تعالى إياه عقوبتهم وما يجب عليهم

فقال تعالى : إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ واعلم أن المحاربة للّه غير ممكنة وفي معناها للعلماء قولان :

أحدهما أن المحاربين للّه هم المخالفون أمره الخارجون عن طاعته لأن كل من خالف أمر إنسان فهو حرب له فيكون المعنى يخالفون اللّه ورسوله ويعصون أمرهما.

والقول الثاني : معناه يحاربون أولياء اللّه وأولياء رسوله فهو من باب حذف المضاف وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يعني بحمل السلاح والخروج على الناس وقتل النفس وأخذ الأموال وقطع الطريق.

واختلفوا في حكم هؤلاء المحاربين الذين يستحقون هذا الحد فقال قوم : هم الذين يقطعون الطريق ويحملون السلاح والمكابرون في البلد وهذا قول الأوزاعي ومالك والليث بن سعد والشافعي وقال أبو حنيفة :

المكابرون في الأمصار ليس لهم حكم المحاربين في استحقاق هذا الحد ثم ذكر اللّه تعالى عقوبة هؤلاء المحاربين وما يستحقونه

فقال تعالى : أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ وللعلماء في لفظة أو المذكورة في هذه الآية قولان :

أحدهما أنها للتخيير وهو قول ابن عباس في رواية عنه وبه قال الحسن وسعيد بن المسيب والنخعي ومجاهد ، وهو أن الإمام مخير في أمر المحاربين فإن شاء قتل ، وإن شاء صلب ، وإن شاء قطع ، وإن شاء نفى من الأرض كما هو ظاهر الآية.

والقول الثاني : أن لفظة أو للبيان وليست للتخيير وهو الرواية الثانية عن ابن عباس وهو قول أكثر العلماء لأن الأحكام تختلف فترتبت هذه العقوبات على ترتيب الجرائم. وهذا كما روي عن ابن عباس في قطاع الطريق قال : إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا لم يأخذوا المال قتلوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض ، وهذا قول قتادة والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي. واختلفوا في كيفية الصلب فقيل : يصلب حيا ثم يطعن في بطنه برمح حتى يموت. قال الشافعي : يقتل أولا ويصلى عليه ثم يصلب. وإنما يجمع بين القتل والصلب إذا قتل وأخذ المال ويصلب على الطريق في ممر الناس ليكون ذلك زاجرا لغيره عن الإقدام على مثل هذه المعصية. واختلفوا في تفسير النفي من الأرض المذكور في الآية ، فقيل : إن الإمام يطلبهم ففي كل بلد وجدوا نفوا عنه وهو قول سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز.

وقيل : يطلبون حتى تقام عليهم الحدود وهو قول ابن عباس والليث بن سعد والشافعي وقال أبو حنيفة وأهل الكوفة : النفي هو الحبس لأنه نفي من الأرض لأن المحبوس لا يرى أحدا من أحبابه ولا ينتفع بلذات الدنيا وطيباتها فهو منفي من الأرض في الحقيقة إلا من تلك البقعة الضيقة التي هو فيها.

قال مكحول : إن عمر بن الخطاب أول من حبس في السجون يعني من هذه الأمة وقال أحبسه حتى أعلم منه التوبة ولا أنفيه إلى بلد آخر فيؤذيهم ثم قال تعالى : ذلِكَ يعني الذي ذكر في هذه الآية من الحدود لَهُمْ يعني للمحاربين خِزْيٌ فِي الدُّنْيا أي عذاب وهو ان وفضيحة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ هذا الوعيد في

حق الكفار الذين نزلت الآية فيهم ، فأما من أجرى حكم الآية على المحاربين من المسلمين فينفي العذاب العظيم عنهم في الآخرة لأن المسلم إذا عوقب بجناية في الدنيا كانت عقوبته كفارة له وإن لم يعاقب في الدنيا فهو في خطر المشيئة ، إن شاء عذبه بجنايته ثم يدخله الجنة ، وإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة هذا مذهب أهل السنة.

إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)

٣٤

وقوله تعالى : إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ

يعني لكن الذين تابوا من شركهم وحربهم للّه ورسوله ومن السعي في الأرض بالفساد من قبل أن تقدروا عليهم. يعني فلا سبيل لكم عليهم بشيء من العقوبات المذكورة في الآية المتقدمة فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه غَفُورٌ يعني لمن تاب من الشرك رَحِيمٌ يعني به إذا رجع عما يسخط اللّه عز وجل وهذا قول معظم أهل التفسير أن المراد بهذا الاستثناء المشرك المحارب إذا آمن وأصلح قبل القدرة عليه سقط عنه جميع الحدود التي ذكرها اللّه تعالى في هذه الآية وأنه لا يطالب بشيء مما أصاب من مال أو دم. قال أبو إسحاق : جعل اللّه التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم ليكون ذلك داعيا لهم إلى الدخول في الإسلام ، فهذا حكم المشرك المحارب إذا آمن وأصلح وكذلك لو آمن بعد القدرة عليه لم يطالب بشيء بالإجماع ،

وأما المسلم المحارب ، إذا تاب واستأمن قبل القدرة عليه. فقال السدي : هو الكافر إذا آمن لم يطالب بشيء إلا إذا أصيب عنده مال بعينه فإنه يرده على أهله وهذا مذهب مالك والأوزاعي غير أن مالك قال يؤخذ بالدم إذا طلب به وليه ، فأما ما أصاب من الدماء والأموال ولم يطلبها أولياؤها فلا يتبعه الإمام بشيء من ذلك وهذا حكم علي بن أبي طالب في حارثة بن زيد وكان قد خرج محاربا فتاب قبل أن يقدر عليه فآمنه علي على نفسه وكذلك جاء رجل من مراد إلى أبي موسى الأشعري وهو على الكوفة في خلافة عثمان بعد ما صلى المكتوبة ، فقال : يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك أنا فلان بن فلان المرادي كنت قد حاربت اللّه ورسوله وسعيت في الأرض بالفساد وإني قد تبت من قبل أن يقدر عليّ. فقام أبو موسى فقال : هذا فلان المرادي وأنه كان حارب اللّه ورسوله وسعى في الأرض فسادا وأنه قد تاب من قبل أن يقدر عليه فلا يتعرض له أحد إلا بخير.

وقال الشافعي : يسقط عنه بتوبته قبل القدرة عليه حد اللّه ولا يسقط عنه بها ما كان من حقوق بني آدم من قصاص أو مظلمة من مال أو غيره

وأما إذا تاب بعد القدرة عليه فظاهر الآية أن التوبة لا تنفعه وتقام عليه الحدود وقال الشافعي : ويحتمل أن يسقط كل حد للّه عز وجل بالتوبة.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّه وَاللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)

٣٥

٣٦

٣٧

٣٨

قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه أي خافوا اللّه بترك المنهيات وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ يعني واطلبوا إليه القرب بطاعته والعمل بما يرضي وإنما قلنا ذلك ، لأن مجامع التكاليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما. أحد النوعين : ترك المنهيات وإليه الإشارة بقوله : اتقوا اللّه.

والثاني : التقرب إلى اللّه تعالى بالطاعات وإليه الإشارة بقوله : وابتغوا إليه الوسيلة والوسيلة فعيلة من وسل إليه إذا تقرب ومنه قول الشاعر :

إن الرجال لهم إليك وسيلة

أي قربة.

وقيل : معنى الوسيلة المحبة أي تحببوا إلى اللّه عز وجل وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ أي وجاهدوا العدو في طاعته وابتغاء مرضاته لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يعني لكي تسعدوا بالخلود في جنته لأن الفلاح اسم جامع للخلاص من كل مكروه والفوز بكل محبوب

قوله عز وجل : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ يعني : أن الكافر لو ملك الدنيا ودنيا أخرى مثلها معها ثم فدى نفسه من العذاب يوم القيامة لم يقبل منه ذلك الفداء وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ المقصود من هذا أن العذاب لازم للكفار وأنه لا سبيل لهم إلا الخلاص منه بوجه من الوجوه

(ق). عن أنس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (يقول اللّه تبارك وتعالى لأهون أهل النار عذابا لو كانت لك الدنيا كلها أكنت مفتديا بها فيقول نعم فيقول قد أردت منك أيسر من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي ولا أدخلك النار وأدخلك الجنة فأبيت إلا الشرك) هذا لفظ مسلم.

وفي رواية البخاري قال : يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له لقد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك أن لا تشرك بي يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها فيه وجهان :

أحدهما أنهم يقصدون الخروج من النار ويطلبونه ولكن لا يستطيعون ذلك قيل إذا حملهم لهب النار إلى فوق طلبوا الخروج منها فلا يقدرون عليه.

والوجه الثاني : أنهم يتمنون الخروج من النار بقلوبهم وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ يعني ولهم عذاب دائم ثابت لا يزول عنهم ولا ينتقل أبدا.

قوله عز وجل : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما قال ابن السائب نزلت في طعمة بن أبيرق وقدمنا قصته في سورة النساء وإنما سمي السارق سارق لأنه يأخذ الشيء الذي ليس له أخذه في خفاء ومنه استرق السمع مستخفيا والسارق هنا مرفوع بالابتداء لأنه لم يقصد واحد بعينه إنما هو كقولك من سرق فاقطع يده والمراد باليد المذكورة هنا اليمين. قاله الحسن والشعبي والسدي وكذلك هو في قراءة عبد اللّه بن مسعود : فاقطعوا أيمانهما. وإنما قال : أيديهما ولم يقل يديهما ، لأنه أراد يمينا من هذا ويمينا من هذه فجمع فإنه ليس للإنسان إلا يمين واحدة وكل شيء موحد من أعضاء الإنسان إذا ذكر مضافا إلى اثنين فصاعدا جمع والمراد باليد هنا الجارحة وحدها عند جمهور أهل اللغة من رؤوس الأصابع إلى الكوع فيجب قطعها في حد السرقة من الكوع.

وقوله تعالى : جَزاءً بِما كَسَبا يعني ذلك القطع جزاء على فعلهم نَكالًا مِنَ اللّه يعني عقوبة من اللّه وَاللّه عَزِيزٌ في انتقامه ممن عصاه حَكِيمٌ يعني فيما أوجبه من قطع يد السارق.

(فصل في بيان حكم الآية : وفيه مسائل) المسألة الأولى : اقتضت هذه وجوب القطع على كل سارق وقطع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في السرقة

(ق).

عن عائشة ، أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا : من يكلم فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : قالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فكلمه أسامة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أتشفع في حد من حدود اللّه؟ ثم قام فاختطب ثم قال : إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم اللّه لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) وعن عائشة قالت : (أتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسارق فقطعه فقالوا ما كنا نراك تبلغ به هذا قال لو كانت فاطمة لقطعتها) أخرجه النسائي

(ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (لعن اللّه السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده) قال الأعمش :

يرون أنه بيض الحديد وأن من الحبال ما يساوي دراهم أخرجه البخاري ومسلم ، أما السارق الذي يجب عليه القطع ، فهو البالغ ، العاقل ، العالم بتحريم السرقة ، فلو كان حديث عهد بالإسلام ولا يعلم أن السرقة حرام ، فلا قطع عليه.

المسألة الثانية : اختلف العلماء في قدر النصاب الذي يقطع به فذهب أكثر العلماء إلى أنه ربع دينار فإن سرق ربع دينار أو متاعا قيمته ربع دينار يقطع ، وهذا قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وبه قال عمر بن العزيز والأوزاعي والشافعي. ويدل عليه ما روي عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا) أخرجاه في الصحيحين وذهب مالك وأحمد وإسحاق إلى أنه ثلاثة دراهم أو قيمتها لما روي عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم أخرجه الجماعة. المجن : الترس ، وروي عن أبي هريرة أن قدر النصاب الذي تقطع به اليد خمسة دراهم وبه قال ابن أبي ليلى لما روي عن أنس قال : قطع أبو بكر في مجن قيمته خمسة دراهم

وفي رواية قطع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخرجه النسائي. وقال : الرواية الأولى ، أصح.

وذهب قوم إلى أنه لا قطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم يروى ذلك عن ابن مسعود وإليه ذهب سفيان الثوري وأبو حنيفة لما روي عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أول من قطع في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم أخرجه أبو داود فإذا سرق نصابا من المال من حرز لا شبهة له فيه قطعت يده اليمنى من الكوع ولا يجب القطع بسرقة ما دون النصاب وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن القدر غير معتبر فيجب القطع في القليل والكثير وكذا الحرز غير معتبر أيضا عندهم وإليه ذهب داود الظاهري واحتجوا بعموم الآية فإن

قوله تعالى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما يتناول القليل والكثير وسواء سرقه من حرز أو غير حرز.

المسألة الثالثة : الحرز ، هو ما جعل للسكنى وحفظ الأموال كالدور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس ويحفظون أمتعتهم فيها فكل حرز وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أو مغلق ، فأما ما كان في غير بناء ولا خيمة فإنه ليس بحرز إلا أن يكون عنده من يحفظه أما نباش القبور ، فإنه يقطع وهو قول مالك والشافعي وأحمد. وقال ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة : لا قطع عليه ، فإن سرق شيئا من غير حرز كثمر من بستان لا حارس له أو حيوان في برية ولا راعي له أو متاع في بيت منقطع عن البيوت فلا قطع عليه. عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق فقال : من أصاب بفيه منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي. وزاد فيه : ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة. ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة.

قوله : غير متخذ خبنة ، الخبنة : بالخاء المعجمة وبعدها باء موحدة من تحت نون وهو ما يحمله الإنسان في حضنه.

وقيل : وما يأخذه من خبنة ثوبه وهو ذيله وأسفله. والجرين : موضع التمر الذي يجفف فيه مثل البيدر للحنطة.

وروى مالك في الموطأ ، عن أبي حسين المكي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة الجبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن. هكذا رواه مالك منقطعا. وهو رواية من حديث عبد اللّه بن عمرو المتقدم فإن هذه الرواية عن أبي حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وجده هو عبد اللّه بن عمرو بن العاص قوله : ولا في حريسة الجبل. من العلماء من يجعل الحريسة السرقة نفسها.

يقال : حرس يحرس حرسا إذا سرق ومنهم من يجعلها المحروسة. ومعنى الحديث : أنه ليس فيما يحرس في الجبل إذا سرق قطع لأنه ليس بحرز.

وقيل : حريسة الجبل هي الشاة التي يدركها الليل قبل أن تصل مأواها والمراح بضم الميم هو الموضع الذي تأوي إليه الماشية بالليل. عن جابر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس. قطع أخرجه الترمذي والنسائي.

المسألة الرابعة : إذا سرق مالا له فيه شبهة كالولد يسرق من مال والده والوالد يسرق من مال ابنه أو العبد يسرق من مال سيده أو الشريك يسرق من مال شريكه فلا قطع على أحد من هؤلاء فيه.

المسألة الخامسة : إذا سرق أول مرة قطعت يده اليمنى من الكوع وإذا سرق ثانية قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم واختلفوا فيما إذا سرق مرة ثالثة فذهب أكثرهم إلى أن تقطع يده اليسرى فإن سرق مرة رابعة قطعت رجله اليمنى ثم إذا سرق بعد ذلك يعذّر ويحبس حتى تظهر توبته. يروى عن هذا عن أبي بكر وهو قول قتادة وبه قال مالك والشافعي لما روي عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (في السارق إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله) ذكره البغوي بغير سند وذهب قوم إلى أنه (إن سرق بعد ما قطعت يده ورجله فلا قطع عليه بل يحبس) ويروى عن علي أنه قال : إني أستحي أن لا أدع له يدا يستنجي بها ولا رجلا يمشي بها. وهذا قول الشعبي والنخعي والأوزاعي وبه قال أحمد وأصحاب الرأي.

فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّه يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللّه فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّه شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّه أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)

٣٩

٤٠

٤١

قوله تعالى : فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ يعني من بعد ما ظلم نفسه بالسرقة وَأَصْلَحَ يعني وأصلح العمل في المستقبل فَإِنَّ اللّه يَتُوبُ عَلَيْهِ يعني فإن اللّه يغفر له ويتجاوز عنه إِنَّ اللّه غَفُورٌ يعني لمن تاب رَحِيمٌ به.

(فصل) وهذه التوبة مقبولة فيما بينه وبين اللّه. فأما القطع ، فلا يسقط عنه بالتوبة عند أكثر العلماء لأن الحد جزاء عن الجناية. ولا بد من التوبة بعد القطع وتوبته الندم على ما مضى والعزم على تركه في المستقبل. عن أبي أمية المخزومي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتي بلصّ قد اعترف اعترافا ولم يوجد معه متاع فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما أخالك سرقت فقال : بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا كل ذلك يعترف فأمر به فقطع. ثم جيء به فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :

استغفر اللّه وتب إليه. فقال رجل : أستغفر اللّه وأتوب إليه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : اللّهم تب عليه. أخرجه أبو داود والنسائي بمعناه وإذا قطع السارق يجب عليه غرم ما سرق من المال عند أكثر أهل العلم. وقال الثوري وأصحاب الرأي : لا غرم عليه فلو كان المسروق باقيا عنده يجب عليه أن يرده إلى صاحبه وتقطع يده لأن القطع حق اللّه والغرم حق الآدمي فلا يمتنع

أحدهما بالآخر واللّه أعلم.

قوله عز وجل : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم والمراد به جميع الناس

وقيل معناه ، ألم تعلم أيها الإنسان فيكون الخطاب لكل فرد من الناس أن اللّه له ملك السموات والأرض ، يعني أن اللّه مدبر أمره في السموات والأرض ومصرفه وخالق من فيها ومالكه لا يمتنع عليه شيء مما أراده فيهما لأن ذلك كله في ملكه وإليه أمره يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ.

قال ابن عباس : يعذب من يشاء على الصغيرة ويغفر لمن يشاء على الكبيرة

وقيل يعذب من يشاء على معصيته وكفره بالقتل والقطع وغير ذلك في الدنيا ، ويغفر لمن يشاء بالتوبة عليه فينقذه من الهلكة والعذاب وإنما

قدم التعذيب على المغفرة ، لأنه في مقابلة قطع السرقة على التوبة. وهذه الآية فاضحة للقدرية والمعتزلة في قولهم بوجوب الرحمة للمطيع والعذاب للعاصي لأن الآية دالة على أن التعذيب والرحمة مفوضان إلى المشيئة والوجوب ينافي ذلك وجواب آخر وهو أنه تعالى أخبر أن له ملك السموات والأرض والمالك له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء وأراد لا اعتراض لأحد عليه في ملكه يؤكد ذلك قوله وَاللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أنه تعالى قادر على تعذيب من أراد تعذيبه من خلقه وغفران ذنوب من أراد إسعاده وإنقاذه من الهلكة من خلقه ، لأن الخلق كلهم عبيده وفي ملكه.

قوله تعالى : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ هذا خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم وهو خطاب تشريف وتكريم وتعظيم ، وقد خاطبه اللّه عز وجل بيا أيها النبي في مواضع من كتابه وبيا أيها الرسول في موضعين : هذا

أحدهما والآخر

قوله تعالى : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. وقوله لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يعني لا تهتم بموالاتهم الكفار ولا تبال بهم فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ يعني المنافقين لأنهم أظهروا الإيمان بالقول وكتموا الكفر وهذه صفة المنافقين وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا أي وطائفة من اليهود قال الزجاج وهذا يحتمل وجهين :

أحدهما أن الكلام تم عند قوله ومن الذين هادوا ثم ابتدأ الكلام بقوله :

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ويكون تقدير الكلام لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ من المنافقين وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا ثم وصف الكل بكونهم سماعين للكذب.

والوجه الثاني : أن الكلام تم عند قوله وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ثم ابتدأ

فقال تعالى : وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي ومن الَّذِينَ هادُوا قوم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ والمعنى أنهم قائلون الكذب ، أي يسمعون الكذب من رؤسائهم ويقبلونه منهم والسمع يستعمل والمراد منه القبول ، كما تقول : لا تسمع من فلان أي ، لا تقبل منه.

وقيل : معناه سماعون لأجل أن يكذبوا عليك وذلك أنهم كانوا يسمعون من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم يخرجون من عنده ويقولون سمعنا منه كذا وكذا ولم يسمعوا ذلك منه بل كذبوا عليه.

وقوله تعالى : سَمَّاعُونَ يعني بني قريظة يعني أنهم جواسيس وعيون لِقَوْمٍ آخَرِينَ وهم أهل خيبر لَمْ يَأْتُوكَ يعني أهل خيبر لم يأتوك ولم يحضروا عندك يا محمد.

( (ذكر القصة في ذلك)) قال علماء التفسير : إن رجلا وامرأة من أشراف يهود خيبر زنيا وكانا محصنين وكان حدهما الرجم عندهم في حكم التوراة فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما ، فقالوا : إن هذا الرجل بيثرب يعنون محمدا صلى اللّه عليه وسلم وليس في كتابه الرجم ولكن الضرب فأرسلوا إلى إخوانكم بني قريظة فإنهم جيرانه وصلح معه فليسألوه عن ذلك ، فبعثوا رهطا منهم مستخفين وقالوا لهم : اسألوا محمدا عن الزانيين إذا أحصنا ما حدهما؟ فإن أمركم بالحد فاقبلوا منه ، وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه وأرسلوا معهم الزانيين. فقدم الرهط حتى نزلوا على بني قريظة والنضير وقالوا لهم : إنكم جيران هذا الرجل ومعه في بلده وقد حدث فينا حدث وذلك أن فلان وفلانة قد زنيا وقد أحصنا فنحب أن تسألوه عن قضائه في ذلك فقال لهم بنو قريظة والنضير إذا واللّه يأمركم بما تكرهون ثم انطلق قوم منهم فيهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وسعيد بن عمرو ومالك بن الصّيف وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالوا : يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما في كتابك؟ فقال هل ترضون بقضائي؟ قالوا : نعم فنزل جبريل عليه السلام بآية الرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به فقال جبريل للنبي صلى اللّه عليه وسلم : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ، ووصفه لهم فقال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا نعم قال فأي رجل هو فيكم؟ فقالوا هو أعلم يهودي

بقي على وجه الأرض بما أنزل اللّه على موسى عليه السلام في التوراة قال فأرسلوا إليه ففعلوا فلما جاء قال له النبي صلى اللّه عليه وسلم أنت ابن صوريا؟ قال نعم ، قال : أنت أعلم يهودي؟ قال كذلك يقولون فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لليهود تجعلونه بيني وبينكم قالوا نعم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لابن صوريا : (ناشدتك باللّه الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى وأخرجكم من مصر وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون وبالذي ظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه هل تجدون في كتابكم الرجم على المحصن؟) فقال ابن صوريا :

اللّهم نعم والذي ذكرتني به لولا خشيت أن ينزل علينا العذاب إن كذبت وغير ما اعترفت لك ولكن كيف هي في كتابكم يا محمد؟ قال : إذا شهد أربعة رهط عدول أنه أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليهما الرجم. فقال ابن صوريا : والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل اللّه في التوراة على موسى فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : فما كان أول ما ترخصتم به في أمر اللّه تعالى؟ فقال ابن صوريا : كنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنى ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ثم زنى رجل آخر في امرأة من قومه فأراد الملك رجمه فقام قومه دونه وقالوا واللّه لا ترجمه حتى ترجم فلانا لابن عم الملك ، فقلنا : تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الشريف والوضيع فوضعنا الجلد والتحميم وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بقار ثم تسود وجوههما ثم يحملان على حمارين ووجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما فجعلوا ذلك مكان الرجم. فقالت اليهود لابن صوريا : ما أسرع ما أخبرته وما كنت لما أثنينا عليك بأهل ولكنك كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك. فقال لهم ابن صوريا : إنه قد ناشدني بالتوراة ولولا خشيت أن ينزل علينا العذاب ما أخبرته. فأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بهما فرجما عند باب المسجد وقال : (اللّهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه) فأنزل اللّه هذه الآية

(ق) عن ابن عمر قال إن اليهود جاءوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون فقال عبد اللّه بن سلام :

كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد اللّه بن سلام : ارفع يدك ، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما النبي صلى اللّه عليه وسلم فرجما قال : فرأيت الرجل ينحني على المرأة يقيها الحجارة.

وفي رواية أخرى لهما قال : (أتي النبي صلى اللّه عليه وسلم برجل وامرأة من اليهود قد زنيا فقال لليهود ما تصنعون بهما قال نفحم وجوههما ونخزيهما قال فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فجاؤوا بها فقال الرجل ممن يرضون أعور اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليها فقال ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم تلوح ، فقال : يا محمد إن فيها الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا فأمر بهما فرجما فرأيته يحنى) زاد في رواية أخرى : (فرجما قريبا موضع الجنائز قرب المسجد)

(م) عن البراء بن عازب قال : (مر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال : هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟

قالوا : نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال أنشدك باللّه الذي أنزل التوراة على موسى هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال : لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : اللّهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ، فأمر به فرجم فأنزل اللّه : يا أيها الرسول) لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، إلى قوله ، إن أوتيتم هذا فخذوه. يقول : ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أمركم بالرجم فاحذروه فأنزل اللّه تبارك وتعالى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ في الكفار كلها. التحميم هو تسويد الوجه بالحمم وهو الفحم وقوله ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟

قال العلماء : هذا السؤال من النبي صلى اللّه عليه وسلم ليس لتقليدهم ولا لمعرفة الحكم منهم ، وإنما هو لإلزامهم بما

يعقدونه في كتابهم. ولعله صلى اللّه عليه وسلم كان قد أوحى إليه أن الرجم في التوراة الموجودة في أيديهم لم يغيروه كما غيّروا شيئا منها أو أخبروه بذلك من أسلم من أهل الكتاب وهو عبد اللّه بن سلام كما في حديث بن عمر المتفق عليه ولذلك لم يخف عليه صلى اللّه عليه وسلم حين كتموه.

قوله تعالى : يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ ، يعني : يغيرون حدود اللّه التي أوجبها عليهم في التوراة وذلك أنهم بدلوا الرجم بالجلد والتحميم وقال الحسن إنهم يغيرون ما يسمعون من النبي صلى اللّه عليه وسلم بالكذب عليه. وقال ابن جرير الطبري : يحرفون حكم الكلم فحذف ذكر الحكم لمعرفة السامعين به مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يعني من بعد أن وضعه اللّه مواضعه وفرض فروضه وأحلّ حلاله وحرّم حرامه

فإن قلت : قد قال اللّه عز وجل هنا يحرفون الكلم من بعد مواضعه. وقال في موضع آخر : يحرفون الكلم عن مواضعه فهل من فرق بينهما؟

قلت نعم بينهما فرق وذلك أنّا إذا فسرنا يحرفون الكلم عن مواضعه بالتأويلات الباطلة فيكون معنى قوله يحرفون الكلم عن مواضعه أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص وليس فيه بيان أنهم يحرفون تلك اللفظة من الكتاب.

وأما قوله يحرفون الكلم من بعد مواضعه ففيه دلالة على أنهم جمعوا بين الأمرين يعني أنهم كانوا يذكرون التأويلات الفاسدة وكانوا يحرفون اللفظة من الكتاب في قوله : يحرفون الكلم عن مواضعه إشارة إلى التأويل الباطل وفي قوله من بعد مواضعه إشارة إلى إخراجه من الكتاب بالكلية

وقوله تعالى : يَقُولُونَ يعني اليهود إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ يعني إن أفتاكم محمد بالجلد والتحميم فاقبلوا منه وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا يعني وإن لم يفتكم بذلك وأفتاكم بالرجم فاحذروا أن تقبلوه وَمَنْ يُرِدِ اللّه فِتْنَتَهُ يعني كفره وضلالته فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّه شَيْئاً يعني فلن تقدر على دفع أمر اللّه فيك أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّه أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ قال ابن عباس معناه أن يخلص نياتهم

وقيل معناه لم يرد اللّه أن يهديهم وفي هذه الآية دلالة على أن اللّه تعالى لم يرد إسلام الكافر وإنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك ولو فعل ذلك لآمن وهذه الآية من أشد الآيات على القدرية لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ يعني للمنافقين واليهود أما خزي المنافقين ، فبالفضيحة وهتك ستارهم بإظهار نفاقهم وكفرهم

وأما خزي اليهود فبأخذ الجزية والقتل والسبي والإجلاء من أرض الحجاز إلى غيرها وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني الخلود في النار للمنافقين واليهود.

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢)

٤٢

قوله عز وجل : سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ نزلت في حكام اليهود مثل كعب بن الأشرف ونظرائه كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم قال الحسن : كان الحاكم منهم إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه ثم يريها إياه ويتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه فيسمع الكذب ويأكل الرشوة وهي السحت وأصل السحت الاستئصال يقال : سحته إذا استأصلته وسميت الرشوة في الحكم سحتا ، لأنها تستأصل دين المرتشي. والسحت كله حرام يحمل عليه شدة الشره وهو يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا تكون له بركة ولا لآخذه مروءة ويكون في حصوله عار بحيث يخفيه لا محالة ومعلوم أن حالة الرشوة كذلك فلذلك حرمت الرشوة على الحاكم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لعن الراشي والمرتشي في الحكم). أخرجه الترمذي وأخرجه أبو داود عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص. قال الحسن : إنما ذلك في الحاكم إذا رشوته ليحق لك باطلا أو يبطل عنك حقا وقال ابن مسعود : الرشوة في كل شيء فمن شفع شفاعة ليرد بها حقا أو يدفع بها ظلما فأهدى بها إليه فقبل فهو سحت.

فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم كفر قال اللّه تعالى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.

قوله عز وجل : فَإِنْ جاؤُكَ يعني اليهود فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً خيّر اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم في الحكم بينهم فإن شاء ترك قال الحسن ومجاهد والسدي نزلت في اليهوديين اللذين زنيا. وقال قتادة : نزلت في رجلين من قريظة والنضير قتل

أحدهما الآخر. قال ابن زيد : كان حيي بن أخطب قد جعل للنضير ديتين وللقرظي دية واحدة لأنه كان من بني النضير فقالت قريظة : لا نرضى بحكم حيي ونتحاكم إلى محمد فأنزل اللّه هذه الآية يخير نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم في الحكم بينهم.

( (فصل)) اختلف علماء التفسير في حكم هذه الآية على قولين :

أحدهما أنها منسوخة وذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا ترافعوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم كان مخيرا فإن شاء حكم بينهم وإن شاء عرض عنهم ثم نسخ ذلك بقوله وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فلزمه الحكم بينهم وزال التخير هذا القول مروي عن ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والسدي.

والقول الثاني : إنها محكمة وحكام المسلمين بالخيار إذا ترافعوا إليهم فإن شاؤوا حكموا بينهم وإن شاؤوا أعرضوا عنهم وهذا القول مروي عن الحسن والشعبي والنخعي والزهري وبه ، قال أحمد : لأنه لا منافاة بين الآيتين.

أما قوله فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ففيه التخيير بين الحكم والإعراض.

وأما قوله وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه ففيه كيفية الحكم إذا حكم بينهم قال الإمام فخر الدين الرازي : ومذهب الشافعي ، إنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه لأن إمضاء حكم الإسلام صغارا لهم. فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يتخير في ذلك وهو التخيير المذكور في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين

وأما إذا تحاكم مسلم وذمي وجب على الحاكم بينهم لا يختلف القول فيه لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة واللّه أعلم.

قوله تعالى : وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ يعني بالعدل والاحتياط إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ يعني العادلين فيما ولوا وحكموا فيه

(م) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إن المقسطين عند اللّه على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا). هذا من أحاديث الصفات فمن العلماء من قال فيه وفي أمثاله : نؤمن بها ولا نتكلم في تأويلها ولا نعرف معناها لكن نعتقد أن ظاهرها غير مراد وأن لها معنى يليق باللّه. هذا مذهب جماهير السلف وطوائف من المتكلمين. ومنهم من قال : إنها تؤول بتأويل يليق بها وهذا قول أكثر المتكلمين. فعلى هذا قال القاضي عياض : المراد بكونهم عن اليمين الحالة الحسنة والمنزلة الرفيعة والعرب تنسب الفعل المحمود والإحسان إلى اليمين وضده إلى اليسار قالوا واليمين مأخوذة من اليمن وقوله وكلتا يديه يمين مبني على أنه ليس المراد باليمين الجارحة تعالى اللّه عن ذلك فإنها مستحيلة في حقه تعالى وقوله وما ولوا بفتح الواو وضم اللام المخففة هكذا ذكره الشيخ محيي الدين في شرح مسلم. قال : ومعناه وما كانت له عليه ولاية وهذا الفضل لمن عدل فيما تقلده من الأحكام واللّه أعلم.

وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللّه ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)

٤٣

قوله تعالى : وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ هذا تعجيب من اللّه تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم في تحكيم اليهود إياه مع علمهم بما في التوراة تركهم قبول ذلك الحكم مع اعتقادهم صحته وعدولهم إلى حكم من يجحدون نبوته طلبا للرخصة لا جرم إن اللّه تعالى أظهر جهلهم وعنادهم لأنهم حكموا النبي صلى اللّه عليه وسلم وسلم في أمر

الزانيين ثم أعرضوا عن حكمه في الآية لتقريع اليهود والمعنى وكيف يجعلونك حكما بينهم ويرضون بحكمك وعندهم التوراة فِيها حُكْمُ اللّه يعني الرجم الذي تحاكموا إليك من أجله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعني ثم يعرضون عن حكمك الموافق لما في كتابهم وَما أُولئِكَ يعني اليهود بِالْمُؤْمِنِينَ يعني بكتابهم كما يزعمون.

وقيل : معناه وما أولئك بالمصدقين.

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللّه وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)

٤٤

قوله عز وجل : إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ سبب نزول هذه الآية استفتاء اليهود رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أمر الزانيين وقد سبق بيانه والهدى هو البيان لأن التوراة مبينة صحة نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ومبينة ما تحاكموا فيه والنور هو الكاشف للشبهات الموضح للمشكلات والتوراة كذلك.

وقيل : الفرق بين الهدى والنور أن الهدى محمول على بيان الأحكام والشرائع والنور محمول على بيان أحكام التوحيد والنبوات والمعاد يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا أراد بالنبيين الذين بعثوا بعد موسى عليه السلام وذلك أن اللّه بعث في بني إسرائيل ألوفا من الأنبياء وليس معهم كتاب إنما بعثوا بإقامة التوراة وأحكامها ومعنى أسلموا : أي انقادوا لأمر اللّه تعالى والعمل بكتابه وهذا على سبيل المدح لهم وفيه تعريض باليهود لأنهم بعدوا عن الإسلام الذي هو دين الأنبياء عليهم السلام وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي : يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد صلى اللّه عليه وسلم وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيما وتشريفا له صلى اللّه عليه وسلم لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم وكان هذا الحكم في التوراة. قال ابن الأنباري هذا رد على اليهود والنصارى لأن الأنبياء عليهم السلام ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين للّه تعالى منقادين لأمره ونهيه.

للذين هادوا يعني لليهود يعني يحكم بالتوراة لهم وفيما بينهم ويحملهم على أحكامها كما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم كما هو في التوراة ولم يوافقهم على ما أرادوه من الجلد وقال الزجاج وجائز أن يكون المعنى على التقديم والتأخير على معنى : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ أما الربانيون فتقدم تفسيره في سورة آل عمران

وأما الأحبار فقال ابن عباس : هم الفقهاء.

وقيل : هم العلماء الأحبار واحده حبر بفتح الحاء وكسرها لغتان. وقال الفراء : إنما هو حبر بكسر الحاء وإنما سمي به لمكان الحبر الذي يكتب به وذلك لأنه صاحب كتاب. وقال أبو عبيد : إنما هو حبر بفتح الحاء والحبر العالم لما يبقى من أثر علومه في قلوب الناس وأفعاله الحسنة التي يقتدى بها وجمعه أحبار ومنه كعب الأحبار.

وقيل : الحبر الأثر المستحسن ومنه الحديث : يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره أي جماله وبهاؤه. وإنما سمي العالم حبرا لما عليه من أثر جمال العلم وهل فرق بين الربانيين والأحبار أم لا؟ فيه خلاف ، فقيل : لا فرق. والربانيون ، والأحبار بمعنى واحد وهم : العلماء والفقهاء.

وقيل : الربانيون أعلى درجة من الأحبار لأن اللّه تعالى قدمهم في الذكر على الأحبار.

وقيل : الربانيون هم الولاة. والحكام والأحبار هم العلماء.

وقيل : الربانيون علماء النصارى ، والأحبار : علماء اليهود. ومعنى الآية : يحكم بأحكام التوراة النبيون وكذلك يحكم بها الربانيون والأحبار.

وقوله تعالى : بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللّه يعني بما استودعوا من كتاب اللّه.

وقيل : هو أن يحفظوا كتاب اللّه فلا ينسوه

وقيل هو أن يحفظوه فلا يضيعوا أحكامه وشرائعه.

وقد أخذ اللّه على العلماء حفظ كتابه من هذين الوجهين معا وذلك بأن يحفظوا كتاب اللّه في صدورهم ويدرسونه بألسنتهم لئلا ينسوه وأن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا

شرائعه فإذا فعلوا ذلك كانوا قائمين بحفظه وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ يعني : أن هؤلاء النبيين والربانيين والأحبار كانوا شهداء على كتاب اللّه تعالى ويعلمون أنه حق وصدق وأنه من عند اللّه فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ هذا خطاب لحكام اليهود الذين كانوا في زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعني لا تخافوا أحدا من الناس في إظهار صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم والعمل بالرجم واخشون يعني في كتمان ذلك وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا يعني ولا تستبدلوا بآيات اللّه وأحكامه ثمنا قليلا يعني الرشوة في الأحكام والجاه عند الناس ورضاهم والمعنى كما نهيتكم عن تغير الأحكام لأجل خوف الناس كذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه وأخذ الرشوة فإن كل متاع

الدنيا قليل وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ بمعنى : أن اليهود لما أنكروا حكم اللّه تعالى المنصوص عليه في التوراة وقالوا إنه غير واجب عليهم ، فهم كافرون على الإطلاق بموسى والتوراة وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآن واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآيات الثلاث وهي قوله : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فقال جماعة من المفسرين : الآيات الثلاث نزلت في الكفار ومن غير حكم اللّه من اليهود ، لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة ، لا يقال إنه كافر وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك. ويدل على صحة هذا القول ما روي عن البراء بن عازب قال أنزل اللّه تبارك وتعالى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ في الكفار كلها أخرجه مسلم وعن ابن عباس قال وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ إلى قوله هم الفاسقون هذه الآيات الثلاث في اليهود خاصة قريظة والنضير أخرجه أبو داود. وقال مجاهد : في هذه الآيات الثلاث من ترك الحكم بما أنزل اللّه ردا لكتاب اللّه فهو كافر ظالم فاسق. وقال عكرمة ومن لم يحكم بما أنزل اللّه جاحدا به فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق وهذا قول ابن عباس أيضا واختار الزجاج لأنه قال : من زعم أنّ حكما من أحكام اللّه تعالى التي أتانا بها الأنبياء باطل فهو كافر.

وقال طاوس : قلت لابن عباس أكافر من لم يحكم بما أنزل اللّه؟ فقال : به كفر وليس بكفر ينقل عن الملة كمن كفر باللّه وملائكته ورسله واليوم الآخر ونحو هذا روي عن عطاء. قال : هو كفر دون الكفر. وقال ابن مسعود والحسن والنخعي : هذه الآيات الثلاث عامة في اليهود وفي هذه الأمة فكل من ارتشى وبدل الحكم فحكم بغير حكم اللّه فقد كفر وظلم وفسق وإليه ذهب السدي لأنه ظاهر الخطاب.

وقيل : هذا فيمن علم نص حكم اللّه ثم رده عيانا عمدا وحكم بغيره

وأما من خفي عليه النص أو أخطأ في التأويل فلا يدخل في هذا الوعيد واللّه أعلم بمراده.

وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)

٤٥

قوله تعالى : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ يعني : وفرضنا على بني إسرائيل في التوراة أن نفس القاتل بنفس المقتول وفاقا فيقتل به وذلك أن اللّه تعالى حكم في التوراة أن على الزاني المحصن الرجم وأخبر أن اليهود بدّلوه وغيروه وأخبر أيضا أن في التوراة أن النفس بالنفس وأن هؤلاء اليهود غيروا هذا الحكم وبدلوه ففضلوا بني النضير على بني قريظة فكان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة أدوا إليهم نصف الدية وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا إليهم الدية كاملة فغيروا حكم اللّه الذي أنزل في التوراة.

قال ابن عباس : أخبر اللّه بحكمه في التوراة وهو أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن

بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص. قال : فما لهم يخالفون فيقتلون النفسين بالنفس ويفقئون العينين بالعين.

ومعنى الآية : أن قاتل النفس يقتل بها إذا تكافأ الدمان ومذهب الشافعي : أنه لا يقتل مسلم بكافر لما صح من حديث علي بن أبي طالب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : (لا يقتل مسلم بكافر) الحديث أخرجاه في الصحيحين

وقوله تعالى :

وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ يعني تفقأ بها وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ يعني يجدع به وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ يعني تقطع بها وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ يعني تقلع بها

وأما سائر الأطراف والأعضاء فيجري فيها القصاص كذلك ،

وقوله تعالى : وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ يعني فيما يمكن أن يقتص منه وهذا تعميم بعد التخصيص ، لأن اللّه تعالى ذكر النفس والعين والأنف والأذن فخص هذه الأربعة بالذكر ثم قال تعالى : والجروح قصاص ، على سبيل العموم فيما يمكن أن يقتص منه كاليد والرجل والذكر والأنثيين وغيرها

وأما ما لا يمكن القصاص فيه كرضّ في لحم أو كسر في عظم أو جراحة في بطن يخاف منها التلف فلا قصاص في ذلك وفيه الأرش والحكومة.

واعلم أن هذه الآية دالة على أن هذا الحكم كان شرعا في التوراة فمن قال شرع من قبلنا يلزمنا إلا ما نسخ منه بالتفصيل قال هذه الآية حجة في شرعنا ومن أنكره قال إنها ليست بحجة علينا وأصل هذه المسألة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم وأمته بعد البعثة هل هم متعبدون بشرع من تقدم من الأنبياء عليهم السلام؟ فنقل عن أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وعن أحمد في أحد الروايتين عنه أنه كان متعبدا بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي إليه لا من جهة كتبهم المبدلة ونقل أربابها واختار ابن الحاجب من المتأخرين هذا المذهب وهو أنه صلى اللّه عليه وسلم كان بعد البعثة متعبدا بشرع من قبله فيما لم ينسخ من الأحكام الباقية قبل شريعته لكنه لم يعتبر فيه قيد الوحي وهو الحق وإلا لم يبق للنزاع معنى إذ لا ينكر أحد كون النبي صلى اللّه عليه وسلم متعبدا بعد البعثة بما أوحى إليه سواء كان من شريعة من قبله أم لا وذهبت الأشاعرة والمعتزلة إلى المنع من ذلك وهو اختيار الآمدي من المتأخرين واحتج الأولون لصحة مذهبهم بأن الإجماع منعقد على صحة الاستدلال بقوله : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الآية مع أنه من شريعة من تقدم لأنه مذكور في التوراة.

ومكتوب على بني إسرائيل : ولولا أنا متعبدون بشريعة من قبلنا لما صح هذا الاستدلال ،

وقوله تعالى : فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ يعني بالقصاص فلم يقتص من الجاني فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ في هاء له قولان :

أحدهما أن الهاء في له كناية عن المجروح وولي المقتول وذلك أن المجروح أو ولي المقتول إذا تصدق بالقصاص كان ذلك كفارة لذنوبه وهذا قول ابن مسعود وعبد اللّه بن عمرو بن العاص والحسن ويدل عليه ما روي عن أبي الدرداء قال :

سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول (ما من رجل يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه اللّه به درجة وحط عنه به خطيئة) أخرجه الترمذي. وعن أنس قال : (ما رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو أخرجه أبو داود والنسائي).

والقول الثاني : أن الضمير في قوله له يعود إلى الجارح والقاتل يعني أن المجني عليه إذا عفا عن الجاني كان ذلك العفو كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذ به في الآخرة وهذا قول ابن عباس ومجاهد ومقاتل كما أن القصاص كفارة له فأما أجر العافي ، فعلى اللّه تعالى.

وقوله تعالى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ : يعني لأنفسهم حيث لم يحكموا بما أنزل اللّه عز وجل :

وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللّه فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللّه لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)

٤٦

٤٧

٤٨

قوله عز وجل : وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ يعني وعقبنا على آثار النبيين الذين أسلموا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ يعني أن عيسى عليه السلام كان مصدقا بأن التوراة منزلة من عند اللّه عزّ وجل وكان العمل بها واجبا قبل ورود النسخ عليها فإن عيسى عليه السلام نسخ بعض أحكام التوراة وخالفها وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ يعني فيه هدى من الجهالة وضياء من عمى البصيرة وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ هذا ليس بتكرار للأول لأن في الأول الإخبار بأن عيسى مصدق لما بين يديه من التوراة. وفي الثاني : الإخبار بأن الإنجيل مصدق للتوراة ، فظهر الفرق بين اللفظين وأنه ليس بتكرار وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ إنما قال : وهدى مرة أخرى لأن الإنجيل يتضمن البشارة بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فيكون سببا لاهتداء الناس إلى نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم.

وأما كون الإنجيل موعظة ، فلما فيه من المواعظ البليغة والزواجر والأمثال وإنما خص المتقين بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بالمواعظ.

قوله تعالى : وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللّه فِيهِ قال أهل المعاني : قوله وليحكم يحتمل وجهين :

أحدهما أن يكون المعنى وقلنا ليحكم أهل الإنجيل ، فيكون هذا إخبارا عما فرض عليهم في وقت إنزاله عليهم من الحكم بما تضمنه الإنجيل ثم حذف القول لأن ما قبله من قوله وكتبنا وقفينا يدل عليه وحذف القول كثير.

والوجه الثاني : أن يكون قوله وليحكم ابتداء وفيه أمر للنصارى بالحكم بما في كتابهم وهو الإنجيل.

فإن قلت فعلى هذا الوجه كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن

قلت : إن المراد بهذا الحكم الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم لأن ذكره في الإنجيل ووجوب التصديق بنبوته موجود فإذا آمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فقد حكموا بما في الإنجيل.

وقوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ يعني : فأولئك هم الخارجون عن طاعة اللّه عز وجل.

قوله عز وجل : وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم يعني وأنزلنا إليك يا محمد القرآن بِالْحَقِّ يعني بالصدق الذي لا شك فيه أنه من عند اللّه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ يعني أن يصدق جميع الكتب التي أنزلها اللّه على أنبيائه وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ قال ابن عباس يعني شاهدا على الكتب التي قبله ومنه قول حسان :

إن الكتاب مهيمن لنبينا والحق يعرفه ذوو الألباب

يريد أنه شاهد ومصدق لنبينا صلى اللّه عليه وسلم وإنما كان القرآن مهيمنا على الكتب التي قبله لأنه الكتاب الذي لا ينسخ ولا يغير ولا يبدل. وإذا كان القرآن كانت شهادته على التوراة والإنجيل والزبور وجميع الكتب المنزلة حقا وصدقا.

وقيل : المهيمن الأمين. وإنما كان القرآن أمينا على الكتب التي قبله فيما أخبر أهل الكتب عن كتبهم فإن قالوا ذلك في القرآن فقد صدقوا وإلا فلا فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه يعني : إذا ترافع أهل الكتاب إليك يا محمد فاحكم بينهم بالقرآن الذي أنزل اللّه إليك وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ يعني : ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود في الحكم وقال ابن عباس لا تأخذ بأهوائهم في جلد المحصن عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ يعني ولا تنحرف عن الحق

الذي جاءك من عند اللّه متبعا أهواءهم ،

وقوله : ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق وإن كان خطابا للنبي صلى اللّه عليه وسلم لكن المراد به غيره لأنه صلى اللّه عليه وسلم لم يتبع أهواءهم قط.

وقوله تعالى : لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً الخطاب في قوله منكم للأمم الثلاثة أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم وعليهم أجمعين بدليل أن اللّه عز وجل قال قبل هذه إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ثم قال بعد ذلك وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ثم قال وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ثم جمع فقال لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً والشرعة : الشريعة. يعني لكل أمة شريعة فللتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة والدين واحد وهو التوحيد. وأصل الشريعة من الشرع وهو البيان والإظهار فمعنى شرع بيّن وأوضح.

وقيل : هو من الشروع في الشيء. والشريعة في كلام العرب ، المشرعة التي يشرعها الناس فيشربون ويسقون منها.

وقيل : الشريعة الطريقة ثم استعير ذلك للطريقة الإلهية المؤدية إلى الدين والمنهاج الطريق الواضح وقال بعضهم الشريعة والمنهاج عبارتان عن معنى واحد والتكرير للتأكيد والمراد بهما : الدين وقال آخرون : بينهما فرق لطيف وهو أن الشريعة هي التي أمر اللّه بها عباده. والمنهاج : الطريق الواضح المؤدي إلى الشريعة.

قال ابن عباس : في قوله شرعة ومنهاجا سنة وسبيلا. وقال قتادة : سبيلا وسنة فالسنن مختلفة للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة يحل اللّه عز وجل فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه والدين الذي لا يقبل غيره هو التوحيد والإخلاص للّه الذي جاءت به جميع الرسل عليهم السلام وقال علي بن أبي طالب : الإيمان منذ بعث آدم عليه السلام شهادة أن لا إله إلا اللّه والإقرار بما جاء من عند اللّه ولكل قوم شريعة ومنهاج.

قال العلماء : وردت آيات دالة على عدم التباين في طريقة الأنبياء والرسل منها قوله : أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّه فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ووردت آيات دالة على حصول التباين بينهم منها هذه الآية وهي قوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وطريق الجمع بين هذه الآيات أن كل آية دلت على عدم التباين فهي دالة على أصول الدين من الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكل ذلك جاءت به الرسل من عند اللّه ولم يختلفوا فيه.

وأما الآيات الدالة على حصول التباين بينهم ، فمحمولة على الفروع ، وما يتعلق بظواهر العبادات فجائز أن يتعبد اللّه عباده في كل وقت بما يشاء فهذه طريق الجمع بين هذه الآيات واللّه أعلم بأسرار كتابه واحتج بهذه من قال إن شرع من قبلنا لا يلزمنا لأن قوله لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا يدل على أن كل رسول جاء بشريعة خاصة فلا يلزم أمة رسول الاقتداء بشريعة رسول آخر ثم قال تعالى : وَلَوْ شاءَ اللّه لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً يعني جماعة متفقة على شريعة واحدة ودين واحد لا اختلاف فيه وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ يعني ولكن أراد أن يختبركم فِي ما آتاكُمْ يعني من الشرائع المختلفة هل تعلمون بها أم لا؟ فيتبين بذلك المطيع من العاصي والموافق من المخالف اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ

هذا خطاب لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم يعني فبادروا يا أمة محمد بالأعمال الصالحات التي تقربكم إلى اللّه تعالى إِلَى اللّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً يعني المطيع والعاصي والموافق والمخالف فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يعني : فيخبركم في الآخرة بما كنتم فيه تختلفون من أمر الدين والدنيا. والمعنى : فيخبركم في الآخرة بما لا تشكون معه فيفصل بين المحق والمبطل والطائع والعاصي بالثواب والعقاب.

وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللّه إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللّه أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)

٤٩

٥٠

قوله تعالى : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه قال ابن عباس : إن كعب بن أسيد وعبد اللّه بن صوريا

وشاس بن قيس قال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأشرافهم وسادتهم وأنّا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود ولم يخالفونا وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فاقض لنا عليهم نؤمن بك ونصدقك فأبى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأنزل اللّه هذه الآية وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّه يعني احكم بينهم يا محمد بالحكم الذي أنزله اللّه في كتابه وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ يعني فيما أمروك به.

قال العلماء : ليس في هذه الآية تكرار لما تقدم ، وإنما أنزلت في حكمين مختلفين. أما الآية الأولى :

فنزلت في شأن رجم المحصن وأن اليهود طلبوا منه أن يجلده وهذه الآية نزلت في شأن الدماء والديات حين تحاكموا إليه في أمر قتيل كان بينهم قال بعض العلماء هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله : فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ.

وقوله تعالى : وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللّه إِلَيْكَ يعني : واحذر يا محمد هؤلاء اليهود الذين جاءوا إليك أن يصرفوك ويصدوك بمكرهم وكيدهم فيحملوك على ترك العلم ببعض ما أنزل اللّه إليك في كتابه واتباع أهوائهم فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني فإن أعرضوا عن الإيمان بك والرضا بالحكم بما أنزل اللّه عليك فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللّه أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ يعني فاعلم يا محمد أن اللّه يريد أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم وإنما خص بعض الذنوب لأن اللّه جازاهم في الدنيا على بعض ذنوبهم بالقتل والسبي والجلاء وأخر مجازاتهم على باقي ذنوبهم إلى الآخرة وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ يعني اليهود لأنهم ردوا حكم اللّه تعالى أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ يعني أفحكم الجاهلية يطلب هؤلاء اليهود قال ابن عباس : يعني بحكم الجاهلية ما كانوا عليه من الضلال والجور في الأحكام وتحريفهم إياها عما أمر اللّه به وقال مقاتل كانت بين بني النضير وقريظة دماء وهما حيان من اليهود وذلك قبل أن يبعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم فلما بعث وهاجر إلى المدينة تحاكموا إليه فقالت بنو قريظة بنو النضير إخواننا أبونا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد فإن قتل بنو النضير منا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر وإن قتلنا منهم قتيلا أخذوا منا مائة وأربعين وسقا وأرش جراحتنا على النصف من جراحتهم فاقض بيننا وبينهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فإني أحكم أن دم القرظي وفاء من دم النضيري ، ودم النضيري وفاء من دم القرظي

ليس ل

أحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل ولا جراحة. فغضبت بنو النضير ، وقالوا : لا نرضى بحكمك فإنك لنا عدو وإنك ما تألو في وضعنا وتصغيرنا. فأنزل اللّه : أفحكم الجاهلية يبغون. وقرئ بالتاء على الخطاب. والمعنى : قل لهم يا محمد أفحكم الجاهلية تبغون وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يعني :

أي حكم أحسن من حكم اللّه إن كنتم موقنين أنّ لكم ربا وأنه عدل في أحكامه.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللّه أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢)

٥١

٥٢

قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية وإن كان حكمها عاما لجميع المؤمنين ، لأن خصوص السبب لا يمنع من عموم الحكم ، فقال قوم :

نزلت هذه الآية في عبادة بن الصامت رضي اللّه عنه وعبد اللّه بن أبي سلول رأس المنافقين وذلك أنهما اختصما فقال عبادة إن لي أولياء من اليهود كثير عددهم شديدة شوكتهم وإني أبرأ إلى اللّه وإلى رسوله من ولايتهم ولا مولى لي إلا اللّه ورسوله فقال عبد اللّه بن أبيّ : لكني لا أبرأ من ولاية اليهود فإن أخاف الدوائر ولا بد لي منهم.

فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : يا أبا الحباب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه فقال : إذن أقبل

فأنزل اللّه هذه الآية. وقال السدي : لما كانت وقعة أحد اشتد الأمر على طائفة من الناس وتخوفوا أن يدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين : أنا ألحق بفلان اليهودي وآخذ منه أمانا إني أخاف أن يدال علينا اليهود. وقال رجل آخر : أنا ألحق بفلان النصراني من أهل الشام وآخذ منه أمانا. فأنزل اللّه هذه الآية ينهاهم عن موالاة اليهود والنصارى.

وقال عكرمة : نزل في أبي لبابة بن عبد المنذر لما بعثه النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى بني قريظة حين حاصرهم فاستشاروه في النزول وقالوا : ماذا يصنع بنا إذا نزلنا؟ فجعل إصبعه في حلقه أشار إلى أنه الذبح وأنه يقتلكم فأنزل اللّه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ فنهى اللّه المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وأعوانا على أهل الإيمان باللّه ورسوله وأخبر أنه من اتخذهم أنصارا وأعوانا وخلفاء من دون اللّه ورسوله والمؤمنين فإنه منهم وإن اللّه ورسوله والمؤمنين منه براء بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يعني أن بعض اليهود أنصار لبعض على المؤمنين وأن النصارى كذلك يد واحدة على من خالفهم في دينهم وملتهم وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ يعني ومن يتولّ اليهود والنصارى دون المؤمنين فينصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم لأنه لا يتولى مولى إلا وهو راض به وبدينه وإذا رضيه ورضى دينه صار منهم وهذا تعليم من اللّه تعالى وتشديد عظيم في مجانبة اليهود والنصارى وكل من خالف دين الإسلام إِنَّ اللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني أن اللّه لا يوفق من وضع الولاية في غير موضعها فتول اليهود والنصارى مع علمه بعداوتهم للّه ولرسوله وللمؤمنين ، روي أن أبا موسى الأشعري قال : قلت لعمر بن الخطاب : إن لي كاتبا نصرانيا فقال : مالك وله قاتلك اللّه ألا اتخذت حنيفا؟

يعني مسلما أما سمعت قول اللّه عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ

قلت : له دينه ولي كتابته. فقال : لا أكرّمهم إذا أهانهم اللّه ولا أعزهم إذا أذلهم اللّه ولا أدنيهم إذا أبعدهم اللّه.

قلت : إنه لا يتم أمر البصرة إلا به. فقال : مات النصراني والسلام يعني : هب أنه مات فما تصنع بعده فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغن عنه بغيره من المسلمين.

قوله تعالى : فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني فترى يا محمد الذين في قلوبهم شك ونفاق يُسارِعُونَ فِيهِمْ يعني يسارعون في مودة اليهود وموالاتهم ومناصحتهم لأنهم كانوا أهل ثروة ويسار فكانوا يغشونهم ويخالطونهم لأجل ذلك. نزلت في عبد اللّه بن أبي ، المنافق وفي أصحابه من المنافقين يَقُولُونَ يعني المنافقين نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ الدائرة من دوائر الدهر كالدولة التي تدول والمعنى. يقول المنافقون : إنما نخالط اليهود لأنا نخشى أن يدور علينا الدهر بمكروه ، ويعنون بذلك المكروه الهزيمة في الحرب والقحط والجدب والحوادث المخوفة. قال ابن عباس : معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور علينا الأمر كما كان قبل محمد فَعَسَى اللّه أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ قال المفسرون : عسى من اللّه واجب لأن الكريم إذا أطمع في خير فعله وهو بمنزلة الواعد لتعلق النفس به ورجائها له والمعنى فعسى اللّه أن يأتي بالفتح لرسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم على أعدائه وإظهاردينه على الأديان كلها وإظهار المسلمين على أعدائهم من الكفار واليهود والنصارى وقد فعل اللّه ذلك بمنّه وكرمه فأظهر دينه ونصر عبده.

وقيل : أراد بالفتح فتح مكة.

وقيل : فتح قرى اليهود مثل خيبر وفدك ونحوهما من بلادهم أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يعني أنه تعالى يقطع أصل اليهود من أرض الحجاز ويخرجهم من بلادهم بلا كلفة وتعب ولا يكون للناس فيه فعل البتة كما ألقى في قلوبهم الرعب فأخلوا ديارهم وخربوها بأيديهم ورحلوا إلى الشام.

وقوله تعالى : فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ يعني فيصبح المنافقون الذين كانوا يوالون اليهود نادمين على ما حدثوا به أنفسهم أنّ أمر محمد لا يتم

وقيل ندموا على دس الأخبار إلى اليهود.

٥٣

٥٤

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّه بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللّه واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني ويقول الذين آمنوا في وقت إظهار اللّه تعالى نفاق المنافقين أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ وذلك أن المؤمنين كانوا يتعجبون من حال المنافقين عند ما أظهروا الميل إلى موالاة اليهود والنصارى ويقولون إن المنافقين حلفوا باللّه جهد أيمانهم إنهم لمعنا ومن أنصارنا والآن كيف صاروا موالين لأعدائنا من اليهود محبين للاختلاط بهم فبان كذب المنافقين في أيمانهم الباطلة حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطل كل خير عملوه لأجل ما أظهروا من النفاق وموالاة اليهود فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ يعني أنهم خسروا في الدنيا بافتضاحهم وخسروا في الآخرة بإحباط ثواب أعمالهم وحصلوا بالعذاب الدائم المقيم.

قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ يعني من يرجع منكم عن دينه الحق الذي هو عليه وهو دين الإسلام فيبدله ويغيره بدخوله في الكفر بعد الإيمان فيختار : إما اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من أصناف الكفر فلن يضر اللّه شيئا وإنما ضرّ نفسه برجوعه عن الدين الصحيح الذي هو دين الإسلام قال الحسن : علم اللّه تعالى أن قوما سيرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم صلى اللّه عليه وسلم فأخبر أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه. وذكر صاحب الكشاف أن إحدى عشرة فرقة من العرب ارتدت ثلاث في زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهم : بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار وهو الأسود العنسي وكان كاهنا فتنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج منها عمال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فأهلكه اللّه تعالى على يد فيروز الديلمي في بيته فقتله فأخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المسلمين بقتله ليلة قتل فسرّ المسلمون بذلك وقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الغد وأتى خبر قتله في آخر ربيع الأول. وبنو حنيفة وهم قوم مسيلمة الكذاب تنبأ وكتب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من مسيلمة رسول اللّه إلى محمد رسول اللّه.

(أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك) فكتب إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (من محمد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذاب. أما بعد فإن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) وستأتي قصة قتله فيما بعد وبنو أسد وهم قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد فقاتله فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وارتد سبع فرق في خلافة أبي بكر الصديق وهم فزارة قوم عيينة بن حصن الفزاري وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة اليربوعي وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوجت نفسها من مسيلمة الكذاب. وكندة قوم الأشعث بن قيس الكندي وبنو بكر بن وائل قوم الحطم بن زيد فكفى اللّه أمرهم على يد أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه وفرقة واحدة ارتدت في خلافة عمر بن الخطاب وهم غسان قوم جبلة بن الأيهم واختلف العلماء في المعنى بقوله تعالى :

فَسَوْفَ يَأْتِي اللّه بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومانعي الزكاة وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قبض ارتد عامة العرب (١) كما تقدم تفصيله إلا أهل المدينة وأهل مكة وأهل البحرين من بني عبد القيس فإنهم ثبتوا على الإسلام ونصر اللّه بهم الدين ولما ارتد من ارتد من العرب ومنعوا الزكاة همّ أبو بكر بقتالهم وكره ذلك أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال عمر : كيف تقاتل الناس وقد قال

________

(١) قوله (ارتد عامة العرب) إلخ الذين تقدم ارتدادهم في زمن أبي بكر سبع فرق لا غير. ا ه.

رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه فمن قالها فقد عصم مني ماله ودمه إلا بحقه وحسابه على اللّه). فقال أبو بكر : واللّه لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال واللّه لو منعوني عناقا أو قال عقالا كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. وقال أنس بن مالك : كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة ، وقالوا : هم أهل القبلة ، فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده فلم يجدوا بدّا من الخروج على أثره ، فقال ابن مسعود : كرهنا ذلك في الابتداء ثم حمدناه عليه في الانتهاء.

وقال أبو بكر بن عياش : سمعت أبا حصين يقول : ما ولد بعد النبيين أفضل من أبي بكر الصديق لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة وقالت عائشة : توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وارتدت العرب واشرأبّ النفاق ونزل بأبي بكر ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها وبعث أبو بكر الصديق خالد بن الوليد في جيش كثير إلى بني حنيفة باليمامة وهم قوم مسيلمة الكذاب فأهلك اللّه مسيلمة على يد وحشي غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة ، فكان وحشي يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام أراد بذلك وحشي أنه في حال الجاهلية قتل حمزة وهو خير الناس وفي حال إسلامه قتل مسيلمة الكذاب وهو شر الناس وقال قوم : المراد بقوله تعالى : فَسَوْفَ يَأْتِي اللّه بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ الأشعريون قوم أبي موسى الأشعري ، روي عن عياض بن غنم الأشعري قال لما نزلت هذه الآية فَسَوْفَ يَأْتِي اللّه بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : هم قوم هذا يعني أبا موسى الأشعري أخرجه الحاكم في المستدرك

وقيل هم أهل اليمن

(ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا الإيمان يمان والحكمة يمانية).

وقال السدي : نزلت في الأنصار لأنهم هم الذين نصروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأعانوه على إظهار الدين.

وقيل :

هم أحياء من أهل اليمن ألفان من النخع وخمسة آلاف من أهل كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أخلاط الناس جاهدوا في سبيل اللّه يوم القادسية في خلافة عمر ، وعلى هذا التقدير ، تكون هذه الآية إخبارا عن الغيب وقد وقع الخبر على وفقه بحمد اللّه تعالى فتكون هذه الآية معجزة.

وأما معنى المحبة ، فيقال أحببت فلانا بمعنى جعلت قلبي معرضا بأن يحبه والمحبة إرادة ما تراه أو تظنه خيرا. ومحبة اللّه تعالى العبد ، إنعامه عليه وتوفيقه وهدايته إلى طاعته والعمل بما يرضى به عنه وأن يثيبه أحسن الثواب على طاعته وأن يثني عليه ويرضى عنه ومحبة العبد للّه عزّ وجل أن يسارع إلى طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعل ما يوجب سخطه وعقوبته وأن يتحبب بما يوجب له الزلفى لديه جعلنا اللّه ممن يحبهم ويحبونه بمنّه وكرمه.

وقوله تعالى : أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ هذه من صفات الذين اصطفاهم اللّه تعالى ووصفهم بقوله : يحبهم ويحبونه ، يعني أنهم أرقاء رحماء لأهل دينهم وإخوانهم من المؤمنين ولم يرد ذل الهوان بل أراد لين جانبهم لإخوانهم المؤمنين وهم من رقتهم ورحمتهم ولين جانبهم أشداء أقوياء غلظاء على أعدائهم الكافرين.

قال علي بن أبي طالب : أذلة على المؤمنين يعني أهل رقة على أهل دينهم أعزة على الكافرين أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. وقال ابن عباس : تراهم كالولد لوالده والعبد لسيده وهم في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته. وقال ابن الأنباري : أثنى اللّه على المؤمنين بأنهم يتواضعون للمؤمنين إذا لقوهم ويعنفون الكافرين إذا لقوهم.

وقيل : إن الذل بمعنى الشفقة والرحمة كأنه قال راحمين للمؤمنين مشفقين عليهم على وجه التذلل والتواضع وإنما أتى بلفظة على حتى يدل على علو منصبهم وفضلهم وشرفهم لا لأجل كونهم ذليلين في أنفسهم بل ذلك التذلل لأجل أنهم ضموا إلى علو منصبهم فضيلة التواضع ويدل على صحة هذا سياق الآية وهو

قوله : أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يعني أنهم أشداء أقوياء في أنفسهم وعلى أعدائهم يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه يعني أنهم ينصرون دين اللّه وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ يعني لا يخافون عدل عادل في نصرهم الدين وذلك أن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم فبين اللّه تعالى في هذه الآية أن من كان قويا في الدين فإنه لا يخاف في نصره لدين اللّه بيده أو بلسانه لومة لائم وهذه صفة المؤمنين المخلصين إيمانهم للّه تعالى

(ق).

عن عبادة بن الصامت قال : بايعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره على أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في اللّه لومة لائم ثم قال تعالى : ذلِكَ فَضْلُ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ذلك إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصفهم بمحبة اللّه ولين جانبهم للمؤمنين وشدتهم على الكافرين وأنهم يجاهدون في سبيل اللّه ولا يخافون لومة لائم كل ذلك من فضل اللّه تعالى تفضل بهم عليهم ومن إحسانه إليهم وَاللّه واسِعٌ عَلِيمٌ يعني أنه تعالى واسع الفضل عليم بمن يستحقه.

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللّه وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّه هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)

٥٥

٥٦

قوله تعالى : إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبادة بن الصامت حين تبرأ من موالاة اليهود وقال : أوالي اللّه ورسوله والمؤمنين يعني أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم وقال جابر بن عبد اللّه :

نزلت في عبد اللّه بن سلام وذلك أنه جاء إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه إن قومنا قريظة والنضير قد هجرونا وفارقونا وأقسموا أن لا يجالسونا ، فنزلت هذه الآية ، فقرأ : عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال عبد اللّه بن سلام : رضينا باللّه ربّا وبرسوله نبيا وبالمؤمنين أولياء.

وقيل : الآية عامة في حق جميع المؤمنين لأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض فعلى هذا يكون

قوله تعالى :

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ صفة لكل مؤمن ويكون المراد بذكر هذه الصفات تمييز المؤمنين عن المنافقين لأن المنافقين كانوا يدعون أنهم مؤمنون إلا أنهم لم يكونوا يداومون على فعل الصلاة والزكاة فوصف اللّه تعالى المؤمنين بأنهم يقيمون الصلاة يعني بتمام ركوعها وسجودها في مواقيتها ويؤتون الزكاة يعني ويؤدون زكاة أموالهم إذا وجبت عليهم.

أما

قوله تعالى وهم راكعون فعلى هذا التفسير فيه وجوه :

أحدها : أن المراد من الركوع هنا الخضوع والمعنى أن المؤمنين يصلون ويزكون وهم منقادون خاضعون لأوامر اللّه ونواهيه.

الوجه الثاني : أن يكون المراد منه أن من شأنهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإنما خص الركوع بالذكر تشريفا له.

الوجه الثالث : قيل إن هذه الآية نزلت وهم ركوع.

وقيل : نزلت في شخص معين وهو علي بن أبي طالب.

قال السدي : مر بعلي سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه ، فعلى هذا

قال العلماء : العمل القليل في الصلاة لا يفسدها والقول بالعموم أولى وإن كان قد وافق وقت نزولها صدقة علي بن أبي طالب وهو راكع. ويدل على ذلك ما روي عن عبد الملك بن سليمان قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي الباقر عن هذه الآية إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا من هم؟ فقال : المؤمنون ، ف

قلت : إن ناسا يقولون هو علي ، فقال : علي من الذين آمنوا.

وقوله تعالى : وَمَنْ يَتَوَلَّ اللّه وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا يعني ومن يتول القيام بطاعة اللّه ونصر رسوله والمؤمنين. قال ابن عباس : يريد المهاجرين والأنصار ومن يأتي بعدهم فَإِنَّ حِزْبَ اللّه يعني أنصار دين اللّه هُمُ الْغالِبُونَ لأن اللّه ناصرهم على عدوهم والحزب في اللغة أصحاب الرجل الذين يكونون معه على رأيه وهم القوم الذين يجتمعون لأمر حزبه يعني أهمه.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللّه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّه وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩)

٥٧

٥٨

٥٩

قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً قال ابن عباس : كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهر الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. ومعنى : اتخذوا دينكم هزوا ولعبا هو إظهارهم الإسلام بألسنتهم قولا وهم على ذلك يبطنون الكفر ويسرونه مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني اليهود وَالْكُفَّارَ يعني عبدة الأصنام وإنما فصل بين أهل الكتاب والكفار وإن كان أهل الكتاب من الكفر لأن كفر المشركين من عبدة الأصنام أغلظ وأفحش من كفر أهل الكتاب أَوْلِياءَ يعني لا تتخذوهم أولياء والمعنى أن أهل الكتاب والكفار اتخذوا دينكم يا معشر المؤمنين هزوا وسخرية فلا تتخذوهم أنتم أولياء وأنصارا وَاتَّقُوا اللّه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني مؤمنين حقا لأن المؤمن يأبى موالاة أعداء اللّه عز وجل.

قوله تعالى : وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً قال الكلبي : كان منادي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا نادى إلى الصلاة وقام المسلمون إليها ، قالت اليهود : قد قاموا لا قاموا وصلوا لا صلوا ويضحكون على طريق الاستهزاء فأنزل اللّه هذه الآية. وقال السدي : نزلت هذه الآية في رجل من النصارى كان بالمدينة فكان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه يقول حرق الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار وهو وأهله نيام فطارت منها شرارة فاحترق البيت واحترق هو وأهله.

وقيل : إن الكفار والمنافقين كانوا إذا سمعوا حسدوا المسلمين على ذلك فدخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالوا : يا محمد لقد أبدعت شيئا لم يسمع بمثله فيما مضى من الأمم قبلك فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت الأنبياء قبلك ولو كان فيه خير لكان أولى الناس به الأنبياء فمن أين لك صياح كصياح العير فما أقبح هذا الصوت وما أسمج هذا الأمر؟ فأنزل اللّه عز وجل : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللّه الآية وأنزل وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ يعني أن هزؤهم ولعبهم من أفعال السفهاء والجهال الذين لا عقل لهم.

قوله تعالى : قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم يعني : قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى الذي اتخذوا دينك هزوا ولعبا هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا وهذا على سبيل التعجب من فعل أهل الكتاب والمعنى هل تجدون علينا في الدين إلا الإيمان باللّه وبما أنزل إلينا وبما أنزل على جميع الأنبياء من قبل وهذا ليس مما ينكر أو ينقم منه وهذا كما قال بعضهم :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

يعني أنه ليس فيهم عيب إلا ذلك وهذا ليس بعيب بل هو مدح عظيم لهم. قال ابن عباس : أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع وعازوراء وزيد وخالد وأزار بن أبي أزار وأشيع فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال : أؤمن باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق

ويعقوب والأسباط- إلى قوله- ونحن له مسلمون الآية فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته ، وقالوا : واللّه لا نؤمن بمن آمن به ، فأنزل اللّه هذه الآية.

وقيل : إنهم قالوا واللّه ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم فأنزل اللّه هذه الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللّه وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وهذا هو ديننا الحق وطريقنا المستقيم فلم تنقمونه علينا وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ يعني إنما كرهتم إيماننا ونقمتموه علينا مع علمكم بأننا على الحق بسبب فسقكم وإقامتكم على الدين الباطل لحب الرياسة وأخذ الأموال بالباطل وإنما قال أكثركم لأن اللّه يعلم أن من أهل الكتاب من يؤمن باللّه وبرسوله.

قوله عز وجل :

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللّه مَنْ لَعَنَهُ اللّه وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللّه أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)

٦٠

٦١

٦٢

٦٣

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ هذا جواب لليهود لما قالوا ما نعرف دينا شرا من دينكم. والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين قالوا هذه المقالة هل أخبركم بشر من ذلك الذي ذكرتم ونقمتم علينا من إيماننا باللّه وبما أنزل علينا مَثُوبَةً عِنْدَ اللّه يعني جزاء.

فإن قلت : المثوبة مختصة بالإحسان لأنها في معنى الثواب ، فكيف جاءت في الإساءة؟.

قلت : وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله : تحية بينهم ضرب وجيع.

فإن قلت : هذا يقتضي أن الموصوفين بذلك الدين محكوم عليهم بالشر لأنه تعالى قال بشر من ذلك ومعلوم أن الأمر ليس كذلك فما جوابه؟.

قلت : جوابه أن الكلام خرج على حسب قولهم واعتقادهم ، فإن اليهود حكموا بأن اعتقاد ذلك الدين شر فقال لهم : هب أن الأمر كذلك لكن من لعنه اللّه وغضب عليه ومسخ صورته شر من ذلك.

وقوله تعالى : مَنْ لَعَنَهُ اللّه معناه هل أنبئكم بمن لعنه اللّه أو هو من لعنه اللّه ومعنى لعنه اللّه : أبعده وطرده عن رحمته وَغَضِبَ عَلَيْهِ يعني وانتقم منه لأن الغضب إرادة الانتقام من العصاة وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ يعني من اليهود من لعنه اللّه وغضب عليه ومنهم من جعلهم قردة وخنازير قال ابن عباس : إن الممسوخين كلاهما أصحاب السبت فشبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير.

وقيل إن مسخ القردة كان من أصحاب السبت من اليهود ومسخ الخنازير كان في الذين كفروا بعد نزول المائدة في زمن عيسى عليه السلام ولما نزلت هذه الآية عيّر المسلمون اليهود وقالوا لهم : يا إخوان القردة والخنازير وافتضحوا بذلك وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ يعني : وجعل منهم عبد الطاغوت ، يعني من أطاع الشيطان فيما سول له والطاغوت هو الشيطان.

وقيل : هو العجل.

وقيل : هو الكهان والأحبار. وجملته أن كل من أطاع أحدا في معصية اللّه فقد عبده وهو الطاغوت أُولئِكَ يعني الملعونين والمغضوب عليهم والممسوخين شَرٌّ مَكاناً يعني من غيرهم ونسب الشر إلى المكان والمراد به أهله فهو من باب الكناية

وقيل : أراد أن مكانهم سقر ولا مكان أشد شرا منه وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ يعني وأخطأ عن قصد طريق الحق.

قوله تعالى : وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا قال قتادة : نزلت في أناس من اليهود دخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

فأخبروه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به وهم متمسكون بضلالتهم وكفرهم فكان هؤلاء يظهرون الإيمان وهم في ذلك منافقون ، فأخبر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم بحالهم وشأنهم وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ يعني : إنهم دخلوا كافرين وخرجوا كما دخلوا كافرين لم يتعلق بقلوبهم شيء من الإيمان فهم كافرون في حالتي الدخول والخروج وَاللّه أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ يعني من الكفر الذي في قلوبهم.

قوله عز وجل : وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم. وترى يا محمد كثيرا من اليهود وكلمة (من) يحتمل أن تكون للتبعيض. ولعل هذه الأفعال المذكورة في هذه الآية ما كان يفعلها كل اليهود فلذا قال تعالى :

وترى كثيرا منهم يُسارِعُونَ. المسارعة في الشيء : المبادرة إليه بسرعة لكن لفظة المسارعة إنما تستعمل في الخير. ومنه

قوله تعالى : يسارعون في الخيرات وضدها العجلة ، وتقال في الشر في الأغلب وإنما ذكرت لفظة في قوله يسارعون فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ الفائدة وهي أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات كأنهم محقون فيها. والإثم اسم جامع لجميع المعاصي والمنهيات فيدخل تحته العدوان وأكل السحت ، فلهذا ذكر اللّه العدوان وأكل السحت بعد الإثم والمعاصي

وقيل الإثم ما كتموه من التوراة والعدوان ما زادو فيها والسحت هو الرشا وما يأكلونه من غير وجهه لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني لبئس العمل كان هؤلاء اليهود يعملون وهو مسارعتهم إلى الإثم والعدوان وأكلهم السحت.

قوله تعالى : لَوْلا يعني هلا وهي هنا بمعنى التحضيض والتوبيخ يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ قال الحسن الربانيون علماء أهل الإنجيل والأحبار علماء أهل التوراة وقال غيره كلهم من اليهود لأنه متصل بذكرهم عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ يعني الكذب وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ والمعنى هلا نهى الأحبار والرهبان ، اليهود عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ يعني الأحبار والرهبان إذا لم ينهوا غيرهم عن المعاصي. وهذا يدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأن اللّه تعالى ذمّ الفريقين في هذه الآية. قال ابن عباس : ما في القرآن أشد توبيخا من هذه الآية. وقال الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها.

وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّه مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّه وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللّه لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)

٦٤

قوله عز وجل : وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّه مَغْلُولَةٌ نزلت هذه الآية في فنحاص اليهودي. قال ابن عباس : إن اللّه قد بسط على اليهود حتى كانوا أكثر الناس أموالا وأخصبهم ناحية فلما عصوا اللّه ومحمدا صلى اللّه عليه وسلم وكذبوا به كف عنهم ما بسط عليهم من السعة.

فعند ذلك قال فنحاص : يد اللّه مغلولة يعني محبوسة مقبوضة عن الرزق والبذل والعطاء. فنسبوا اللّه تعالى إلى البخل والقبض تعالى اللّه عن قولهم علوّا كبيرا ، ولما قال هذه المقالة الخبيثة فنحاص ولم ينهه بقية اليهود ورضوا بقوله ، لا جرم لأن اللّه تعالى أشركهم معه في هذه المقالة

فقال تعالى إخبارا عنهم : وقالت اليهود يد اللّه مغلولة. يعني نعمته مقبوضة عنا.

وقيل : معناه يد اللّه مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بقدر ما يبر به قسمه وذلك قدر ما عبد آباؤنا العجل.

والقول الأول أصح ، لقوله تعالى : ينفق كيف يشاء. واعلم أن غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود بدليل

قوله تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ والسبب أن اليد آلة لكل

الأعمال لا سيما لدفع المال وإنفاقه وإمساكه فأطلقوا اسم السبب على المسبب وأسندوا الجود والبخل إلى اليد مجازا فقيل للجواد الكريم فياض اليد ومبسوط اليد

وقيل للبخيل مقبوض اليد.

وقوله تعالى : غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا يعني : أمسكت أيديهم عن كل خير وطردوا عن رحمة اللّه.

قال الزجاج : رد اللّه عليهم فقال : أنا الجواد الكريم وهم البخلاء وأيديهم هي المغلولة الممسوكة.

وقيل :

هذا دعاء على اليهود علمنا اللّه كيف ندعو عليهم؟ فقال : غلت أيديهم أي في نار جهنم. فعلى هذا هو من الغل حقيقة أي شدت أيديهم إلى أعناقهم وطرحوا في النار جزاء لهم على هذا القول ومعنى لعنوا بما قالوا عذبوا بسبب ما قالوا فمن لعنتهم أنهم مسخوا في الدنيا قردة وخنازير وضربت عليهم الذلة والمسكنة والجزية وفي الآخرة لهم عذاب النار.

وقوله تعالى : بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يعني أنه تعالى جواد كريم ينفق كيف يشاء وهذا جواب لليهود ورد عليهم ما افتروه واختلقوه على اللّه تعالى عن قولهم علوا كبيرا وإنما أجيبوا بهذا الجواب على قدر كلامهم.

وأما الكلام في اليد فقد اختلف العلماء في معناها على قولين :

أحدهما وهو مذهب جمهور السلف وعلماء أهل السنة وبعض المتكلمين أن يد اللّه صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه فيجب علينا الإيمان بها والتسليم ونمرها كما جاءت في الكتاب والسنة بلا كيف ولا تشبيه ولا تعطيل قال اللّه تعالى لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين).

والقول الثاني : قول جمهور المتكلمين وأهل التأويل ، فإنهم قالوا اليد تذكر في اللغة على وجوه ،

أحدها : الجارحة وهي معلومة. وثانيهما : النعمة. يقال : لفلان عندي يد أشكره عليها.

وثالثها : القدرة قال اللّه تعالى :

أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ فسروه بذوي القوى والعقول لا يدلك بهذا الأمر والمعنى سلب كمال القدرة.

ورابعها : الملك يقال هذه الضيعة في يد فلان أي في ملكه ومنه

قوله تعالى الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ أي يملك ذلك ، أما الجارحة فمنتفية في صفة اللّه عز وجل لأن العقل دل على أنه يمتنع أن تكون يد اللّه عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض تعالى اللّه عن الجسمية والكيفية والتشبيه علوا كبيرا فامتنع بذلك أن تكون يد اللّه بمعنى الجارحة

وأما سائر المعاني ، التي فسرت اليد بها فحاصلة ، لأن أكثر العلماء من المتكلمين زعموا أن اليد في حق اللّه عبارة عن القدرة وعن الملك وعن النعمة وهاهنا إشكالان :

أحدهما : أن اليد إذا فسرت بمعنى القدرة فقدرة اللّه واحدة ونص القرآن ناطق بإثبات اليدين في

قوله تعالى بل يداه مبسوطتان وأجيب عن هذا الإشكال بأن اليهود لما جعلوا قولهم يَدُ اللّه مَغْلُولَةٌ كناية عن البخل أجيبوا على وفق كلامهم فقال : بل يداه مبسوطتان. أي ليس الأمر على ما وصفتموه من البخل بل هو جواد كريم على سبيل الكمال فإن من أعطى بيديه فقد أعطى عل أكمل الوجوه.

الإشكال الثاني : أن اليد إذا فسرت بالنعمة فنص القرآن ناطق بتثنية اليد ونعم اللّه غير محصورة ولا معدودة ومنه

قوله تعالى : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّه لا تُحْصُوها وأجيب عن هذا الإشكال بأن التثنية بحسب الجنس ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها مثل : نعمة الدنيا ونعمة الدين ونعمة الظاهر ونعمة الباطن ونعمة النفع ونعمة الدفع. فالمراد بالتثنية ، المبالغة في وصف النعمة. أجاب أصحاب القول عن هذا بأن قالوا : إن اللّه تعالى أخبر عن آدم أنه خلقه بيديه ولو كان معنى خلقه لآدم بقدرته أو بنعمته أو بملكه لم يكن لخصوصية آدم بذلك وجه مفهوم لأن جميع خلقه مخلوقون بقدرته وجميعهم في ملكه ومتقلبون في نعمه فلما خص اللّه آدم عليه السلام بقوله تعالى لما خلقت بيدي دون خلقه علم بذلك اختصاصه وتشريفه على غيره. ونقل الإمام فخر الدين

الرازي عن أبي الحسن الأشعري قولا : أن اليد صفة قائمة بذات اللّه وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء قال والذي يدل عليه أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه على سبيل الكرامة لآدم واصطفائه له فلو كانت اليد عبارة عن القدرة امتنع كون آدم مصطفى بذلك لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات فلا بد من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء هذا آخر كلامه. وأجيب عن قولهم :

إن التثنية بحسب الجنس ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع كثيرة بأن الاسم إذا ثني لا يؤدي في كلام العرب إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجمع ولا يؤدي عن الجنس أيضا قالوا وخطأ في كلام العرب أن يقال ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس بمعنى ما أكثر الدراهم في أيديهم لأن الدرهم إذا ثني لا يؤدي في كلام العرب إلا عن اثنين بأعيانهما ولكن الواحد يؤدي عن جنسه ، كما تقول العرب : ما أكثر الدرهم في أيدي الناس. بمعنى ما أكثر الدراهم في أيديهم ، لأن الواحد يؤدي عن الجمع فثبت بهذا البيان قول من قال : إن اليد صفة للّه تعالى تليق بجلاله وإنها ليست بجارحة ، كما نقول : المجسمة تعالى اللّه عن قولهم علوّا كبيرا يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ يعني أنه تعالى يرزق كما يريد ويختار فيوسع على من يشاء ويقتّر على من يشاء لا اعتراض عليه في ملكه ولا فيما يفعله

(ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : قال اللّه تبارك وتعالى لما أنفق عليك وقال يد اللّه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم ينقص ما بيده وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يرفع ويخفض وهذا الحديث أيضا أحد أحاديث الصفات فيجب الإيمان به وإمراره كما جاء من غير تشبيه ولا تكييف.

وقوله تعالى : وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً يعني كلما نزلت عليك آية من القرآن كفروا بها فازدادوا شدة في كفرهم وطغيانا مع طغيانهم والمراد بالكثير علماء اليهود

وقيل إقامتهم على كفرهم زيادة منهم فيه وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني : ألقينا العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى.

وقيل : ألقى ذلك بين طوائف اليهود ، فجعلهم مختلفين في دينهم متعادين متباغضين إلى يوم القيامة ، فإن بعض اليهود جبرية ، وبعضهم قدرية ، وبعضهم مشبهة وكذلك النصارى فرق كالملكانية ، والنسطورية ، واليعقوبية ، والمارونية.

فإن قلت : فهذا المعنى أيضا حاصل بين فرق المسلمين فكيف يكون ذلك عيبا على اليهود والنصارى حتى يذموا به.

قلت : هذه البدع التي حصلت في المسلمين إنما حدثت بعد عصر النبي صلى اللّه عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين.

أما في الصدر الأول ، فلم يكن شيء من ذلك حاصلا بينهم فحسن جعل ذلك عيبا على اليهود والنصارى في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّه يعني كلما أفسد اليهود وخالفوا حكم اللّه يبعث اللّه عليهم من يهلكهم. أفسدوا فبعث اللّه عليهم بختنصر البابلي ثم أفسدوا فبعث اللّه عليهم طيطوس الرومي ثم أفسدوا فسلط اللّه عليهم المجوس وهم الفرس ثم أفسدوا. وقالوا : يد اللّه مغلولة فبعث اللّه المسلمين فلا تزال اليهود في ذلة أبدا وقال مجاهد : معنى الآية كلما مكروا في حرب محمد صلى اللّه عليه وسلم أطفأه اللّه تعالى وقال السدي : كلما أجمعوا أمرهم على شيء ليفسدوا به أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم فرّقه اللّه تعالى وكلما أوقدوا نارا في حرب محمد صلى اللّه عليه وسلم أطفأها اللّه وأخمد نارهم وقذف في قلوبهم الرعب وقهرهم ونصر نبيه ودينه وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يعني ويجتهدون في دفع الإسلام ومحو ذكر محمد صلى اللّه عليه وسلم من كتبهم.

وقيل : إنهم يسعون بالمكر والكيد والحيل وليس يقدرون على غير ذلك وَاللّه لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ يعني أن اللّه لا يحب من كانت هذه صفته. قال قتادة : لا نلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس فيها وهم أبغض خلق اللّه إليه.

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧)

٦٥

٦٦

٦٧

قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وصدقوه فيما جاء به وَاتَّقَوْا يعني اليهودية والنصرانية لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يعني : لمحونا عنهم ذنوبهم التي عملوها قبل الإسلام لأن الإسلام يجب ما قبله وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ يعني مع المسلمين يوم القيامة وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ يعني أقاموا أحكامهما بحدودهما وعملوا بما فيهما من الوفاء بالعهود والتصديق بمحمد صلى اللّه عليه وسلم لأن نعته وصفته موجودان فيهما.

فإن قلت : كيف يأمر أهل الكتاب بإقامة التوراة والإنجيل مع أنهما نسخا وبدلا.

قلت : إنما أمرهم اللّه تعالى بإقامة ما فيهما من الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم واتباع شريعته وهذا غير منسوخ لأنه موافق لما في القرآن.

وقوله تعالى : وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ فيه قولان

أحدهما أن المراد به كتب أنبيائهم القديمة مثل كتاب شعياء وكتاب أرمياء وزبور داود وفي هذا الكتب أيضا ذكر محمد صلى اللّه عليه وسلم فيكون المراد بإقامة هذه الكتب الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم.

والقول الثاني : أن المراد بما أنزل من ربهم هو القرآن لأنهم مأمورون بالإيمان به فكأنه نزل إليهم من ربهم لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يعني أن اليهود لما أصروا على تكذيب محمد وثبتوا على كفرهم ويهوديتهم أصابهم اللّه بالقحط والشدة حتى بلغوا إلى حيث قالوا يَدُ اللّه مَغْلُولَةٌ فأخبر اللّه أنهم لو تركوا اليهودية والكفر الذي هم عليه لانقلبت تلك الشدة بالخصب والسعة وهو

قوله تعالى : لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ قال ابن عباس : معناه لأنزلت عليهم المطر وأخرجت لهم النبات والمراد من ذلك توسعة الرزق عليهم مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ أي عادلة. والاقتصاد : الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير. أصله من القصد ، لأن من عرف مقصودا طلبه من غير اعوجاج عنه. والمراد بالأمة المقتصدة : من آمن من أهل الكتاب مثل عبد اللّه بن سلام وأصحابه والنجاشي وأصحابه الذين أسلموا وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يعني من أهل الكتاب الذين أقاموا على كفرهم مثل كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود ساءَ ما يَعْمَلُونَ يعني بئس ما يعملون من إقامتهم على كفرهم قال ابن عباس : عملوا بالقبيح مع التكذيب بالنبي صلى اللّه عليه وسلم.

قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الآية روي عن الحسن أن اللّه تعالى لما بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ضاق ذرعا وعرف أن من الناس من يكذبه ، فأنزل هذه الآية.

وقيل : نزلت في عيب اليهود وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام فقالوا : أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزئون به ويقولون : تريد أن نتخذك حنانا كما اتخذت النصارى عيسى حنانا ، فلما رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك منهم ، سكت ، فأنزل اللّه هذه الآية وأمره بأن يقول لهم :

يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ الآية.

وقيل : نزلت هذه الآية في أمر الجهاد وذلك أن المنافقين كرهوه فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يمسك في بعض الأحايين عن الحث على الجهاد لما علم من كراهية بعضهم له فأنزل اللّه هذه الآية.

وقيل : نزلت في قصة الرجم والقصاص وما سأل عنه اليهود ومعنى الآية يا أيها الرسول بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك مجاهرا به ولا تراقبن أحدا ولا نترك شيئا مما أنزل إليك من ربك وإن أخفيت شيئا من ذلك في وقت من الأوقات فلما بلغت رسالته وهو

قوله تعالى وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وقرئ رسالاته قال

ابن عباس : يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالتي يعني أنه صلى اللّه عليه وسلم لو ترك إبلاغ البعض كان كمن لم يبلغ شيئا مما أنزل اللّه إليه وحاشا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يكتم شيئا مما أوحي إليه. روى مسروق عن عائشة قالت من حدثك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل إليه فقد كذب؟ ثم قرأت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أخرجاه في الصحيحين بزيادة فيه.

وقوله تعالى : وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ يعني يحفظك يا محمد ويمنعك منهم والمراد بالناس هنا الكفار

فإن قلت أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته يوم أحد وقد أوذي بضروب من الأذى فكيف يجمع بين ذلك وبين قوله واللّه يعصمك من الناس.

قلت : المراد منه أنه يعصمه من القتل فلا يقدر عليه أحد أراده بالقتل ويدل على صحة ذلك ما روي عن جابر أنه غزى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل نجد فلما قفل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة فنزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر فنزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه ونمنا معه نومة ، فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعونا ، وإذا عنده أعرابي فقال : إن هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا. فقال : من يمنعك مني؟ ف

قلت : اللّه ثلاثا ولم يعاقبه وجلس.

وفي رواية أخرى (قال جابر كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجاء رجل من المشركين وسيف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معلق بالشجرة فاخترطه فقال تخافني؟. فقال : لا. فقال من يمنعك مني؟ قال : اللّه فتهدده أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم) أخرجاه في الصحيحين وزاد البخاري في رواية له : أن اسم ذلك الرجل غورث بن الحارث

(ق).

عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : (سهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال : ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة قال : فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة السلاح فقال من هذا؟ قال سعد بن أبي وقاص :

فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما جاء بك؟ فقال : وقع في نفسي خوف على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم نام) وعن عائشة قالت (كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحرس ليلا حتى نزلت (و اللّه يعصمك من الناس) فأخرج رسول اللّه من القبة فقال لهم أيها الناس انصرفوا فقد عصمني اللّه) أخرجه الترمذي. وقال : حديث غريب.

وقيل في الجواب عن هذا : إن هذه الآية نزلت بعد ما شج رأسه في يوم أحد لأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا وقوله إِنَّ اللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ قال ابن عباس : معناه لا يرشد من كذبك وأعرض عنك. وقال ابن جرير الطبري : معناه إن اللّه لا يوفق للرشد من حاد عن سبيل الحق وجار عن قصد السبيل وجحد ما جئت به من عند اللّه ولم ينته إلى أمر اللّه وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه.

قوله تعالى : قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ يعني : قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى لستم على شيء من الدين الحق المرتضى عند اللّه ولستم على شيء مما تدعون أنكم عليه مما جاءكم به موسى عليه السلام يا معشر اليهود ولا مما جاءكم به عيسى يا معشر النصارى فإنكم أحدثتم وغيّرتم.

قال ابن عباس : (جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف وراتع بن حرملة.

قالوا يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها حق ، فقال رسول اللّه : صلى اللّه عليه وسلم بلى : ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس فأنا بريء من إحداثكم. قالوا : فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الحق والهدى ولا نؤمن لك ولا نتبعك فأنزل اللّه :

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللّه عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللّه بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)

٦٨

٦٩

٧٠

٧١

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ الآية وقد تقدم معنى إقامة التوراة والإنجيل وإنه يلزمهم العمل بما فيهما وهو الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وقد تقدم تفسير ما أنزل إليكم من ربكم وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً

وقوله تعالى فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ يعني فلا تحزن يا محمد على هؤلاء اليهود الذي جحدوا نبوتك ولم يؤمنوا بك فإنما يعود ضرر ذلك الكفر عليهم.

قوله عز وجل : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى لما بين اللّه عز وجل أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا ، بين في هذه الآية أن هذا الحكم عام في كل أهل الملل وأنه لا يحصل لأحد منهم فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن باللّه واليوم الآخر وعمل صالحا يرضاه اللّه ومن العمل الصالح الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم لأنه لا يتم الإيمان إلا به وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة.

وقوله تعالى : وَالصَّابِئُونَ ظاهر الإعراب يقتضي أن يقال : والصابئين ، وكذا قراءة أبيّ بن كعب وابن مسعود وابن كثير من السبعة. وقرأ الجمهور بالرفع. ومذهب الخليل وسيبويه أنه ارتفع الصابئون بالابتداء على نية التأخير كأنه قيل إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ والصابئون كذلك فحذف خبره والحكمة في عطف الصابئين على من قبلهم هي أن الصابئين أشد الفرق المذكورة في هذه الآية ضلالا فكأنه قال : كل هؤلاء الفرق إذا آمنوا وأتوا بالعمل الصالح قبل اللّه توبتهم حتى الصابئون ، فإنهم إذا آمنوا كانوا أيضا كذلك ، وإنما سموا صابئين ، لأنهم صبئوا عن الأديان كلها ، بمعنى : خرجوا لأنهم صبئوا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم ولم يتبعوا ما جاءت به الرسل من عنده اللّه.

فإن قلت : قد قال اللّه تعالى في أول الآية إن الذين آمنوا ثم قال في آخر الآية فمن آمن فما فائدة هذا التكرار.

قلت : فائدته أن المنافقين كانوا يظهرون الإسلام ويزعمون أنهم مؤمنون ، ففي هذا التكرار إخراجهم من قبيل المؤمنين فيكون معنى إن الذين آمنوا أي بألسنتهم لا بقلوبهم. ثم قال : من آمن يعني من ثبت على إيمانه ورجع عن نفاقه منهم.

وقيل : فيه فائدة أخرى وهي أن الإيمان يدخل تحته أقسام كثيرة وأشرفها الإيمان باللّه واليوم الآخر ففائدة التكرار التنبيه على أشرف أقسام الإيمان هذان القسمان وفي قوله مَنْ آمَنَ بِاللّه حذف تقديره من آمن باللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ منهم وإنما حسن هذا الحذف لكونه معلوما عند السامعين وَعَمِلَ صالِحاً يعني وضم إلى إيمانه العمل الصالح وهو الذي يراد به وجه اللّه تعالى فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني في الآخر.

قوله عز وجل : لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ يعني أخذنا العهود عليهم في التوراة بأن يعملوا بما فيها من التوحيد والعمل بما أمرناهم به والانتهاء عما نهيناهم عنه وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا يعني لبيان الشرائع والأحكام كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ يعني بما يخالف أهواءهم ويضاد شهواتهم من ميثاق التكليف والعمل بالشرائع فَرِيقاً كَذَّبُوا يعني من الرسل الذين جاءتهم وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ يعني من الرسل فكان

فيمن كذبوا عيسى ومحمد صلى اللّه عليه وسلم وكان فيمن قتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام وإنما فعلوا ذلك نقضا للميثاق وجراءة على اللّه عز وجل ومخالفة لأمره.

قوله تعالى : وَحَسِبُوا يعني وظنّ هؤلاء الذين كذبوا الرسل وقتلوا الأنبياء أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ يعني أن لا يعذبهم اللّه ولا يبتليهم بذلك الفعل الذي فعلوه وإنما حملهم على هذا الظن الفاسد أنهم كانوا يعتقدون أن كل رسول جاءهم بشرع آخر غير شرعهم يجب عليهم تكذيبه وقتله. فلهذا السبب حسبوا أن لا يكون فعلهم ذلك فتنة يبتلون بها.

وقيل : إنما قدموا على ذلك لاعتقادهم أن آباءهم وأسلافهم يدفعون عنهم العذاب في الآخرة فَعَمُوا وَصَمُّوا يعني أنهم عموا عن الحق فلم يبصروه وصموا عنه فلم يسمعوه وهذا العمى هو كناية عن عمى البصيرة لا البصر وكذلك الصمم هو كناية عن منع نفوذ الحق إلى قلوبهم وسبب ذلك شدة جهلهم وقوة كفرهم وإعراضهم عن قبول الحق قال بعض المفسرين سبب هذا العمى والصمم عبادتهم العجل في زمن موسى عليه السلام ثُمَّ تابَ اللّه عَلَيْهِمْ يعني أنهم لما تابوا من عبادتهم العجل تاب اللّه عليهم ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا يعني في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام لأنهم كذبوا عيسى وقتلوا زكريا ويحيى

وقيل إن العمى والصمم الأول كان بعد موسى ثم تاب اللّه عليهم يعني ببعثه عيسى عليه السلام ثم عموا وصموا يعني بسبب الكفر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم كَثِيرٌ مِنْهُمْ من اليهود لأن بعضهم آمن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم مثل عبد اللّه بن سلام وأصحابه وَاللّه بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ يعني من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل.

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّه هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللّه رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّه فَقَدْ حَرَّمَ اللّه عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّه ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللّه وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)

٧٢

٧٣

٧٤

٧٥

قوله عز وجل : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّه هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ لما حكى اللّه عن اليهود ما حكاه من نقضهم الميثاق وقتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل وغير ذلك شرع في الأخبار عن كفر النصارى وما هم عليه من فساد الاعتقاد

فقال تعالى : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّه هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذا قول اليعقوبية والملكانية من النصارى لأنهم لا يقولون إن مريم ولدت إلها ولأنهم يقولون إن الإله جل وعلا حل في ذات عيسى واتحد به فصار إلها تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللّه رَبِّي وَرَبَّكُمْ يعني وقد كان المسيح قال هذا لبني إسرائيل عند مبعثه إليهم وهذا تنبيه على ما هو الحجة القاطعة على فساد قول النصارى ذلك لأنه عليه السلام لم يفرق بينه وبين غيره في العبودية والإقرار للّه بالربوبية وإن دلائل الحدوث ظاهرة عليه إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّه فَقَدْ حَرَّمَ اللّه عَلَيْهِ الْجَنَّةَ يعني أنه من يجعل له شريكا من خلقه فقد حرم اللّه عليه الجنة يعني إذا مات على شركه وَمَأْواهُ النَّارُ يعني أنه يصير إلى النار في الآخرة وَما لِلظَّالِمِينَ يعني وما للمشركين الذين ظلموا أنفسهم بالشرك مِنْ أَنْصارٍ يعني ما لهم من أنصار ينصرونهم ويمنعونهم من العذاب يوم القيامة.

قوله تعالى : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّه ثالِثُ ثَلاثَةٍ وهذا قول المرقوسية والنساورية من النصارى.

ولتفسير قول النصارى طريقان :

أحدهما وهو قول أكثر المفسرين إنهم أرادوا بهذه المقالة أن اللّه ومريم وعيسى

آلهة ثلاثة وأن الإلهية مشتركة بينهم وأن كل واحد منهم إله ويبين ذلك

قوله تعالى للمسيح : أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّه؟ فقوله ثالث ثلاثة فيه إضمار تقديره إن اللّه أحد ثلاثة آلهة أو واحد من ثلاثة آلهة. قال الواحدي : ولا يكفر من يقول إن اللّه ثالث ثلاثة ولم يرد به أنه ثالث ثلاثة آلهة لأنه ما من اثنين إلا واللّه ثالثهما بالعلم ويدل عليه

قوله تعالى في سورة المجادلة ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وقد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما؟). و

الطريق الثاني : أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون : إنه جوهر واحد ثلاثة أقانيم أب وابن وروح القدس وهذه الثلاثة إله واحد كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة ، وعنوا بالأب الذات وبالابن الكلمة وبالروح الحياة وأثبتوا الذات والكلمة والحياة قالوا إن الكلمة التي هي كلام اللّه اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء باللبن ، وزعموا أن الأب إله والابن إله والروح إله والكل إله واحد واعلم أن هذا الكلام معلوم البطلان لبديهة العقل ، فإن الثلاثة لا تكون واحدا والواحد لا يكون ثلاثة ، ولا ترى في الدنيا مقالة أشد فسادا ولا أظهر بطلانا من مقالة النصارى وعلى هذا أخبر اللّه عنهم في قوله لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّه ثالِثُ ثَلاثَةٍ فهذا معنى مذهبهم وإن لم يصرحوا بأنه واحد من ثلاثة آلهة فذلك لازم لهم وإنما يمتنعون من هذه العبارة لأنهم إذا قالوا : إن كل واحد من الأقانيم إله فقد جعلوه ثالث ثلاثة.

وقولهم بعد هذا : هو إله واحد فيه مناقضة لما قالوا أولا فهذا بيان فساد قول النصارى ثم رد اللّه عليهم

فقال تعالى : وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ يعني أنه ليس في الوجود إله واحد موصوف بالوحدانية لا ثاني له ولا شريك له ولا والد له ولا ولد له ولا صاحبة له إلا اللّه تعالى : وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ يعني وإن لم ينته النصارى عن هذه المقالة الخبيثة لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني ليصيبن الذين أقاموا على هذا القول الخبيث وهذا الدين الذي ليس بمرضي عذاب وجيع في الآخرة وإنما قال تعالى منهم لعلمه السابق أن من النصارى من سيؤمن ويخلص ويترك هذا القول ويعلم أنه فاسد ثم ندب سائر النصارى إلى التوبة من هذه المقالة الخبيثة

فقال تعالى : أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللّه يعني من قولهم بالتثليث وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وهذا استفهام بمعنى الأمر أي : توبوا إلى اللّه واستغفروه من هذا الذنب العظيم فإنه تعالى يغفر الذنوب وَاللّه غَفُورٌ يعني لمن استغفره وتاب إليه رَحِيمٌ به وبسائر خلقه.

قوله عز وجل : مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ يعني أن المسيح رسول من اللّه عز وجل ليس بإله كما أن الرسل الذين كانوا من قبله لم يكونوا آلهة وقد أتى عيسى عليه السلام بالمعجزات الدالة على صدقه كما أن الذين من قبله أتوا بالمعجزات الدالة على صدقهم وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ يعني أنها كثيرة الصدق

وقيل : سميت مريم صديقة ، لأنها صدقت بآيات ربها وكتبه.

وقوله تعالى : كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ في احتجاج على فساد قول النصارى بإلهية المسيح. يعني : أن المسيح وأمه مريم كانا بشرين يأكلان الطعام ويعيشان به كسائر بني آدم ، فكيف يكون إلها من يحتاج إلى الطعام ولا يعيش إلا به؟

وقيل : معناه أنه لو كان إلها كما يزعمون لدفع عن نفسه ألم الجوع وألم العطش ولم يوجد ذلك فكيف يكون إلها

وقيل هذا كناية عن الحدث وذلك أن كل من أكل وشرب لا بد له من الغائط والبول ومن كانت هذه صفته فكيف يكون إلها؟

وبالجملة فإن فساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج إلى إقامة دليل عليه ثم قال تعالى : انْظُرْ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم أي انظر يا محمد كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ يعني الدالة على بطلان قولهم ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن استماع الحق وقبوله.

قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)

٧٦

٧٧

٧٨

٧٩

قوله تعالى : قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم أي : قل يا محمد لهؤلاء النصارى أتعبدون من دون اللّه ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً يعني لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم اللّه به من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال ولا يقدر أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم اللّه به من صحة الأبدان وسعة الأرزاق فإن الضار والنافع هو اللّه تعالى لا من تعبدون من دونه ومن لم يقدر على النفع والضر لا يكون إلها وَاللّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يعني أنه تعالى سميع لأقوالكم وكفركم عليم بما في ضمائركم.

قوله عز وجل : قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ. الغلوّ : مجاوزة الحد وذلك أن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط فمجاوزة الحد والتقصير مذمومان في الدين غَيْرَ الْحَقِّ يعني : لا تغلوا في دينكم غلوا باطلا غير الحق وذلك أنهم خالفوا الحق في دينهم ثم غلوا في الإصرار عليه وكلا الفريقين من اليهود والنصارى غلوا في عيسى عليه السلام ، أما غلوّ اليهود فالتقصير في حقه حتى نسبوه إلى غير رشدة ،

وأما غلوّ النصارى فمجاوزة الحد في حقه حتى جعلوه إلههم وكلا الغلوين مذموم وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ الأهواء جمع هوى وهو ما تدعو شهوة النفس إليه ، قال الشعبي : ما ذكر اللّه تعالى الهوى في القرآن إلا وذمه وقال أبو عبيدة :

لم نجد الهوى يوضع إلا موضع الشر لأنه لا يقال فلان يهوى الخير إنما يقال فلان يحب الخير ويريده والخطاب في قوله ولا تتبعوا أهواء قوم لليهود والنصارى الذين كانوا في زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه من الضلالة بأهوائهم وهو المراد بقوله أهواء قوم قد ضلوا من قبل فبين اللّه تعالى أنهم كانوا على ضلاله وَأَضَلُّوا كَثِيراً يعني من اتبعهم على ضلالتهم وأهوائهم وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ يعني وأخطئوا عن قصد طريق الحق.

قوله تعالى : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ قال أكثر المفسرين : هم أصحاب السبت لما اعتدوا في السبت واصطادوا الحيتان فيه. قال داود عليه السلام : اللّهم العنهم واجعلهم قردة فمسخوا قردة وستأتي قصتهم في سورة الأعراف وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يعني وعلى لسان عيسى ابن مريم وهم كفار أصحاب المائدة لما أكلوا منها وادخروا ولم يؤمنوا قال عيسى عليه السلام اللّهم العنهم واجعلهم خنازير فمسخوا خنازير وستأتي قصتهم.

وقال بعض العلماء : إن اليهود كانوا يفتخرون بآبائهم ويقولون نحن من أولاد الأنبياء عليهم السلام ، فأخبر اللّه تعالى بأنهم ملعونون على ألسنة الأنبياء عليهم السلام.

وقيل : إن داود وعيسى بشّرا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ولعنا من يكفر به ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ يعني ذلك اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم ثم فسر الاعتداء والمعصية

فقال تعالى : كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أي لا ينهى بعضهم بعضا عن منكر.

وقيل : معناه لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه ولا عن الإصرار عليه لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ اللام في لبئس لام القسم أي أقسم لبئس ما كانوا يفعلون يعني من ارتكاب المعاصي والعدوان. عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق اللّه ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ، ضرب اللّه قلوب بعضهم ببعض ثم قال لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما

عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ إلى قوله فاسقون ثم قال (كلا واللّه لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا) زاد في رواية أو ليضربن اللّه قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم أخرجه أبو داود وأخرجه الترمذي عنه فقال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وآكلوهم وشاربوهم فضرب اللّه قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم : ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان متكئا فقال (لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا) قال الترمذي : هذا الحديث حسن غريب قوله أكيله وشريبه وقعيده هو المؤاكل والمشارب والمقاعد فعيل بمعنى فاعل

وقوله : لتأطرنه ، الأطر العطف يعني لتعطفنه ولتردنه إلى الحق الذي خالفه والقصر والقهر على الشيء.

تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللّه عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢)

٨٠

٨١

٨٢

قوله عز وجل : تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يعني من اليهود مثل كعب بن الأشرف وأصحابه يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني : يوالون المشركين من أهل مكة وذلك حين خرجوا إليهم ليجيشوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقال ابن عباس : معناه ترى كثيرا من المنافقين يتولون اليهود لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ يعني بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة أَنْ سَخِطَ اللّه عَلَيْهِمْ يعني بما فعلوا من موالاة الكفار وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ يعني في الآخرة أَنْ سَخِطَ اللّه عَلَيْهِمْ يعني بما فعلوا من موالاة الكفار وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ يعني في الآخرة وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالنَّبِيِّ يعني ولو كان هؤلاء الذين يتولون الكفار يؤمنون باللّه ويصدقون بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وأنه نبي مبعوث إلى كافة الخلق وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ يعني ويؤمنون بالقرآن الذي أنزل إليه من ربه مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ يعني ولكن أكثرهم خارجون عن طاعة اللّه وأمره وإنما قال كثيرا لأنه علم أن منهم من سيؤمن مثل عبد اللّه بن سلام وأصحابه.

قوله تعالى : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا اللام في قوله لتجدن لام القسم تقديره واللّه يا محمد إنك لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا بك وصدقوك اليهود والذين أشركوا ووصف اللّه شدة عداوة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق وجعلهم قرناء المشركين عبدة الأصنام في العداوة للمؤمنين وذلك حسدا منهم للمؤمنين وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ووصف لين عريكة النصارى وسهولة قبولهم الحق. قال بعضهم : مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر والأذى إلى من خالفهم في الدين بأي طريق كان مثل القتل ونهب المال بأنواع المكر والكيد والحيل ، ومذهب النصارى خلاف اليهود ، فإن الإيذاء في مذهبهم حرام ، فحصل الفرق بين اليهود والنصارى.

وقيل : إن اليهود مخصوصون بالحرص الشديد على الدنيا وطلب الرياسة ومن كان كذلك كان شديد العداوة لغيره.

وأما النصارى ، فإن فيهم من هو معرض عن الدنيا ولذتها وترك طلب الرياسة ومن كان كذلك فإنه لا يحسد أحدا ولا يعاديه بل يكون لين العريكة في طلب الحق لهذا قال تعالى : ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ يعني من النصارى

قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ولم يرد به كل النصارى فإن معظم النصارى في عداوة المسلمين كاليهود بل الآية نزلت فيمن آمن من النصارى مثل النجاشي وأصحابه. والقس والقسيس : اسم رئيس النصارى والجمع قسيسون. وقال قطرب : القس والقسيس العالم بلغة الروم. وهذا مما وقع الوفاق بين اللغتين يعني العربية والرومية.

وأما الرهبان ، فهو جمع راهب.

وقيل : الرهبان واحد وجمعه رهابين وهم سكان الصوامع.

فإن قلت : كيف مدحهم اللّه بذلك مع قوله وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها

قلت : إنما مدحهم اللّه في مقابلة ذم اليهود ووصفهم بشدة العداوة للمؤمنين ولا يلزم من هذا القدر أن يكون مدحا على الإطلاق.

وقيل : إنما مدح من آمن منهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فوصفهم بالتمسك بدين عيسى إلى أن بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فآمنوا به واتبعوه

فإن قلت :

كفر النصارى أشد وأغلظ من كفر اليهود وأقبح فإن النصارى ينازعون في الإلهيات فيدعون أن للّه ولدا واليهود ينازعون في النبوات فيقرون ببعض النبيين وينكرون بعضهم والأول أقبح فلم ذم اليهود ومدح النصارى؟

قلت : إنما هو مدح في مقابلة ذم وليس بمدح على الإطلاق وقد تقدم الفرق بين شدة عداوة اليهود ولين النصارى فلذلك ذم اليهود ومدح النصارى الذين آمنوا منهم. واختلف العلماء في من نزلت هذه الآية فقيل نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة وأصحابه الذين أسلموا معه.

(ذكر قصة الهجرة الأولى وسبب نزول هذه) قال ابن عباس وغيره من المفسرين في قوله وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى :

إن قريشا ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم فأذوهم وعذبوهم فافتتن من افتتن منهم وعصم اللّه من شاء منهم ومنع اللّه رسوله محمدا صلى اللّه عليه وسلم بعمه أبي طالب ، فلما رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما نزل بأصحابه ولم يقدر أن يمنعهم من المشركين ولم يؤمر بعد بالجهاد ، أمر أصحابه بالخروج إلى أرض الحبشة ، وقال : إن بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا إليه حتى يجعل اللّه للمسلمين فرجا فخرج إليها أحد عشر رجلا وأربع نسوة سرا وهم : عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، والزبير بن العوام وعبد اللّه بن مسعود ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو حذيفة بن عقبة وامرأته سهلة بنت سهل بن عمرو ، ومصعب بن عمير ، وأبو سلمة بن عبد الأسد وزوجته أم سلمة بنت أمية ، وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة ، وحاطب بن عمرو وسهيل بن بيضاء ، فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة بنصف دينار إلى أرض الحبشة وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وهذه الهجرة الأولى. ثم خرج بعدهم جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون فكان جميع من هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان ، فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وجماعة بهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردهم إليهم ، فدخل إليه عمرو وقال له : أيها الملك إنه قد خرج فينا رجل سفّه عقول قريش وأحلامها وزعم أنه نبي وأنه قد بعث إليك برهط من أصحابه ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم وأن قومهم يسألونك أن تردهم إليهم. فقال : حتى نسألهم فأمر بهم فأحضروا فلما أتوا باب النجاشي قالوا : يستأذن أولياء اللّه. فقال :

ائذنوا لهم فمرحبا بأولياء اللّه. فلما دخلوا عليه سلموا ، فقال الرهط من المشركين : أيها الملك ألا ترى أنا قد صدقناك إنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها؟ فقال لهم الملك : ما منعكم أن تحيوني بتحيتي؟ فقالوا له : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة. فقال لهم النجاشي : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ فقال جعفر بن أبي طالب : يقول هو عبد اللّه ورسوله وكلمة اللّه وروح منه ألقاها إلى مريم العذراء ، ويقول في مريم إنها العذراء البتول. قال : فأخذ النجاشي عودا من الأرض وقال : واللّه ما زال صاحبكم على ما قال عيسى قدر هذا العود.

فكره المشركون قوله وتغيرت وجوههم. فقال : هل تعرفون شيئا مما أنزل على صاحبكم؟ قالوا : نعم. قال :

اقرءوا ، فقرأ جعفر سورة مريم وهنالك قسيسون ورهبان وسائر النصارى فعرفوا ما قرأ فانحدرت دموعهم مما

عرفوا من الحق فأنزل اللّه فيهم ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ إلى آخر الآيتين فقال النجاشي لجعفر وأصحابه اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يعني أنكم آمنون فرجع عمرو وأصحابه خائبين وأقام المسلمون عند النجاشي بخير دار وخير جوار إلى أن هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة وعلا أمره وقهر أعداءه وذلك في سنة ست من الهجرة وكتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت قد هاجرت مع زوجها ومات عنها فأرسل النجاشي جارية يقال لها أبرهة إلى أم حبيبة يخبرها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد خطبها فسرت بذلك وأعطت الجارية أوضاحا كانت لها وأذنت لخالد بن سعيد في نكاحها فأنكحا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على صداق مبلغه أربعمائة دينار وكان الخاطب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم النجاشي فأرسل إليها بجميع الصداق على يد جاريته أبرهة فلما جاءتها بالدنانير وهبتها منها خمسين دينار فلم تأخذها. وقالت :

إن الملك أمرني أن لا أخذ منك شيئا. وقالت : أنا صاحبة دهن الملك وثيابه وقد صدقت بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وآمنت به وحاجتي إليك أن تقرئيه مني السلام. قالت : نعم. فقالت قد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من دهن وعود وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يراه عندها فلا ينكره. قالت أم حبيبة : فخرجنا إلى المدينة ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحاصر خيبر فخرج من خرج إليه ممن قدم من الحبشة وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكان يسألني عن النجاشي وقرأت عليه السلام من أبرهة جارية الملك فرد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليها السلام وأنزل اللّه عز وجل : عَسَى اللّه أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً يعني أبا سفيان وذلك بتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أم حبيبة ولما بلغ أبا سفيان أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تزوج أم حبيبة قال ذلك الفحل لا يجدع أنفه. وبعث النجاشي بعد خروج جعفر وأصحابه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ابنه أزهى في ستين رجلا من أصحابه وكتب إليه يا رسول اللّه إني أشهد أنك رسول اللّه صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك جعفرا وأسلمت للّه رب العالمين وقد بعثت إليك ابني أزهى وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت والسلام عليك يا رسول اللّه.

فركبوا في سفينة قي أثر جعفر حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا ووافى جعفر وأصحابه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بخير ووافى مع جعفر سبعون رجلا عليهم ثياب الصوف منهم اثنان وستون رجلا من الحبشة وثمانية من الشام فقرأ عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يس إلى آخرها فبكى القوم حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام فأنزل اللّه هذه الآية فيهم وهي قول : وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى يعني : وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر وهم السبعون وكانوا من أصحاب الصوامع.

وقيل : نزلت في ثمانين رجلا أربعين من نصارى نجران من بني الحرث بن كعب واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية روميين من أهل الشام. وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق بما جاء به عيسى عليه السلام فلما بعث محمد صلى اللّه عليه وسلم آمنوا به وصدقوه فأثنى اللّه عليهم بقوله : وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يعني لا يتعظمون عن الإيمان والإذعان للحق.

وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللّه وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللّه بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّه لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧)

٨٣

٨٤

٨٥

٨٦

٨٧

قوله عز وجل : وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ يعني : وإذا سمعوا القرآن الذي أنزل إلى الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ يقال : فاض الإناء إذا امتلأ حتى يخرج منه ما فيه. وصفهم اللّه تعالى بسيل الدمع عند البكاء ورقة القلب عن سماع القرآن. قال ابن عباس : يريد النجاشي وأصحابه لما قرأ عليهم جعفر بن أبي طالب سورة مريم. قال : فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يعني الذي نزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم وهو الحق يَقُولُونَ يعني القسيسين والرهبان الذين سمعوا القرآن من جعفر عند النجاشي رَبَّنا آمَنَّا يعني بالقرآن وشهدنا أنه حق وصدق فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ يعني مع أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم الذين يشهدون بالحق وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللّه وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ قال ابن عباس : لما رجع الوفد من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لامهم قومهم على ترك دينهم.

وقيل : إن اليهود عيروهم وقالوا تركتم دينكم فأجابوا بهذا الجواب. ومعنى الآية :

ومالنا لا نؤمن بوحدانية اللّه وما جاءنا من الحق من عنده على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وَنَطْمَعُ يعني : ونرجو بذلك الإيمان أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ يعني مع أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم

قوله تعالى : فَأَثابَهُمُ اللّه بِما قالُوا يعني بالتوحيد الذي قالوه وإنما علق الثواب وهو

قوله تعالى : جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ بمجرد القول لأنه قد سبق وصفهم بما يدل على إخلاصهم فيما قالوا وهو المعرفة والبكاء المؤذنان بحقيقة الإخلاص واستكانة القلب ، لأن القول إذا اقترن بالمعرفة ، فهو الإيمان الحقيقي الموعود عليه بالثواب.

وقال ابن عباس : بما قالوا يريد سألوا يعني قولهم فاكتبنا مع الشاهدين خالِدِينَ فِيها يعني في الجنات وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ يعني المؤمنين الموحدين المخلصين في إيمانهم وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا لما ذكر اللّه عز وجل الوعد لمؤمني أهل الكتاب وما أعدلهم من الجنات ذكر الوعيد لمن أقام منهم على كفره وتكذيبه وأطلق القول بذلك ليكون هذا الوعيد لهم ولمن جرى مجراهم في الكفر والتكذيب فقال والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ

قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّه لَكُمْ قال علماء التفسير : إن النبي صلى اللّه عليه وسلم ذكر الناس يوما ووصف القيامة فرقّ الناس وبكوا ، فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم : أبو بكر ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد اللّه بن مسعود ، وعبد اللّه بن عمر ، وأبو ذر الغفاري ، وسالم مولى أبي حذيفة ، والمقداد بن الأسود ، وسلمان الفارسي ، ومعقل بن مقرن ، وتشاوروا واتفقوا على أنهم يترهبون ويلبسون المسوح ويجبون مذاكيرهم ويصومون الدهر ويقومون الليل ولا ينامون على الفرش ولا يأكلون اللحم والودك ولا يقربون النساء ولا الطيب ويسيحون في الأرض. فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه ، فقال لامرأته : أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب وكرهت أن تبدي سر زوجها ، فقالت : يا رسول اللّه إن كان قد أخبرك عثمان فقد صدق.

فانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما جاء عثمان أخبرته بذلك فأتى هو وأصحابه العشرة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا فقالوا بلى يا رسول اللّه وما أردنا إلا الخير فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إني لم أؤمر بذلك ، ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ثم جمع الناس وخطبهم فقال : ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب وشهوات الدنيا فإني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد ، اعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد اللّه عليهم فتلك بقاياهم في الديار والصوامع فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّه لَكُمْ يعني الطيبات اللذيذات التي تشتهيها الأنفس وتميل إليها القلوب من المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة فأعلم اللّه عز وجل بهذه الآية أن شريعة نبيه صلى اللّه عليه وسلم غير ما عزموا عليه من ترك الطيبات وأنه لا ينبغي أن تجتنب

الطيبات المباحات ومعنى : لا تحرموا ، لا تعتقدوا تحريم الطيبات المباحات ، فإن من اعتقد تحريم شيء أحله اللّه فقد كفر. أما ترك لذات الدنيا وشهواتها والانقطاع إلى اللّه والتفرغ لعبادته من غير إضرار بالنفس ولا تفويت حق الغير ففضيلة لا مانع منها بل مأمور بها.

وقوله تعالى : وَلا تَعْتَدُوا يعني : ولا تجاوزوا الحلال إلى الحرام.

وقيل : معناه ولا تجبوا أنفسكم فسمى جب المذاكير اعتداء

وقيل معناه ولا تعتدوا بالإسراف في الطيبات إِنَّ اللّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ يعني المجاوزين الحلال إلى الحرام.

وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللّه الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)

٨٨

وقوله تعالى : وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه حَلالًا طَيِّباً يعني : وكلوا أيها المؤمنون من رزق اللّه الذي رزقكم وأحله لكم من المطاعم والمشارب. قال عبد اللّه بن المبارك : الحلال ما أخذته من وجهه ، والطيب ما غذى وأنمى ، فأما الجامد كالطين والتراب وما لا يغذي فمكروه إلا على وجه التداوي. وعن ابن عباس : أن رجلا أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمت عليّ اللحم فأنزل اللّه :

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّه لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه حَلالًا طَيِّباً أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وله عن عائشة قالت : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحب الحلواء والعسل. وله عن أبي هريرة قال : أتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها قالت عائشة : ما كان الذراع أحب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولكن كان لا يجد اللحم إلا غبا وكان يعجل إليه الذراع لأنه أعجلها نضجا أخرجه الترمذي.

وقوله تعالى : وَاتَّقُوا اللّه الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ هذا تأكيد للوصية بما أمر اللّه تعالى به وزاد التأكيد بقوله الذي أنتم به مؤمنون لأن الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى أمر اللّه به وعما نهى عنه. وفي الآية دليل على أن اللّه عز وجل قد تكفل برزق كل أحد من عباده فإنه تعالى لو لم يتكفل بذلك لما قال وكلوا مما رزقكم اللّه وإذا تكفل برزق العبد وجب أن لا يبالغ في الطلب والحرص على الدنيا وأن يعول على ما وعده اللّه وتكفل به فإنه تعالى أكرم من أن يخلف الوعد.

لا يُؤاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)

٨٩

قوله تعالى : لا يُؤاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ قال ابن عباس : (لما نزلت يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم- قالوا يا رسول اللّه كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها وكانوا قد حلفوا على ما اتفقوا عليه فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم) وقد تقدم تفسير اللغو في الأيمان في سورة البقرة

وقوله تعالى : وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ يعني ولكن يؤاخذكم بما تعمدتم وقصدتم به اليمين ومنه قول الفرزدق :

ولست بمأخوذ بلغو تقوله إذا لم تعمد عاقدات العزائم

وفي الآية حذف تقديره ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم فحذفه لأنه معلوم عند السامعين فَكَفَّارَتُهُ يعني فكفارة إيمانكم التي عقدتموها إذا حنثتم إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ يعني من

أقصد ذلك لأن من الناس من يسرف في إطعام أهله ومنهم من يقتر عليهم فأمر اللّه بالعدل في أداء الكفارة.

وقيل : أراد بالأوسط في القيمة فلا يكون غالبا من أعلى الموجود ولا خسيس الثمن من أردأ الموجود بل الوسط في القيمة

وقيل أراد بالأوسط الأفضل قال ابن عباس : كل شيء في كتاب اللّه أوسط فهو أفضل فعلى هذا يكون المعنى من خير ما تطعمون أهليكم وأفضله أَوْ كِسْوَتُهُمْ هو معطوف على محل أوسط أي كما تطعمون المساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم فكذلك فاكسوهم من أوسط الكسوة أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ يعني عتق رقبة والمراد جملة الشخص.

( (فصل في حكم الآية وفيه مسائل)) المسألة الأولى : في بيان الكفارة وهي أربعة أنواع :

النوع

الأول : من الكفارة الإطعام فيجب إطعام عشرة مساكين واختلفوا في قدر ما يطعم لكل مسكين فذهب قوم إلى أنه يطعم لكل مسكين مد من الطعام بمد النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو رطل وثلث بالبغدادي من غالب قوت البلد وكذلك سائر الكفارات وهذا قول ابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسليمان بن يسار وعطاء والحسن وإليه ذهب مالك والشافعي ويروى عن عمر وعلي وعائشة أنه يطعم لكل مسكين مدان من بر وهو نصف صاع وبه قال أهل العراق. وقال أبو حنيفة : إن أطعم من الحنطة فنصف صاع وإن أطعم من غيرها فصاع وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير ومجاهد. وقال أحمد بن حنبل :

يطعم لكل مسكين مد من البر أو نصف صاع من غيرها مثل التمر والشعير : ومن شرط الإطعام تمليك الطعام للمساكين فلو عشاهم وغداهم لم يجزه وقال أبو حنيفة : يجزيه ذلك ولا يجوز إخراج القيمة في الكفارة كالدراهم والدنانير. وقال أبو حنيفة : يجوز ذلك ولا إخراج الدقيق والخبز في الكفارة بل يجب إخراج الحب ، وجوّزه أبو حنيفة ولا يجوز صرف الكل إلى مسكين واحد في عشرة أيام.

النوع الثاني : من الكفارات الكسوة واختلف العلماء في قدرها فذهب قوم إلى أنه يكسو كل مسكين ثوبا واحدا مما يقع عليه اسم الكسوة إزار أو رداء أو قميص أو عمامة أو سراويل أو كساء ونحو ذلك وهذا قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعطاء وطاوس وإليه ذهب الشافعي. وقال مالك : يجب أن يكسو كل مسكين ما تجوز به الصلاة فيكسو الرجل ثوبا والمرأة ثوبين درعا وخمارا. وقال أحمد : للرجال ثوبا وللمرأة ثوبين درعا وخمارا وهو أدنى ما يجزى في الصلاة وقال ابن عمر : يجب قميص وإزار ورداء. وقال أبو موسى الأشعري : يجب ثوبان وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين وقال إبراهيم النخعي : يجب ثوب جامع كالملحفة.

النوع الثالث : من الكفارات العتق فيجب إعتاق رقبة مؤمنة وكذلك يجب في جميع الكفارات وأجاز أبو حنيفة والثوري إعتاق الرقبة الكافرة في جميع الكفارات إلا كفارة القتل فإن اللّه قيد الرقبة بالإيمان في كفارة القتل ومذهب الشافعي أن المطلق يحمل على المقيد ولا يجوز إعتاق المرتد في الكفارات بالإجماع ويشترط أن تكون الرقبة سليمة الرق حتى لو أعتق في الكفارة مكاتبا أو أم ولد أو عبدا اشتراه بشرط العتق أو اشترى قريبه الذي يعتق عليه فكل هؤلاء لا يجزى في إعتاق الكفارة وجوز أصحاب الرأي عتق المكاتب في الكفارة إذا لم يؤد من نجوم الكتابة شيئا وجوزوا عتق القريب في الكفارة ويشترط أن تكون الرقبة سليمة من كل عيب يضر بالعمل فلا يجزى مقطوع اليد أو الرجل ولا الأعمى ولا الزمن ولا المجنون المطبق ويجوز عتق الأعور والأصم ومقطوع الأذنين والأنف لأن هذه العيوب كلها لا تضر بالعمل وعند أبي حنيفة كل عيب يفوت جنسا من المنفعة يمنع الجواز فيجوز عتق مقطوع إحدى اليدين ولا يجوز عتق مقطوع الأذنين في الكفارة.

النوع الرابع : من الكفارات الصوم وهو

قوله تعالى : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ يعني الكفارة فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ

يعني فإذا عجز من لزمته كفارة اليمين عن الإطعام أو الكسوة أو العتق وجب عليه صيام ثلاثة أيام وهو

قوله تعالى : فصيام ثلاثة أيام ، يعني فعليه صيام ثلاثة أيام. قال الشافعي : إذا كان عنده قوته أو قوته عياله يومه وليلته وفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالإطعام وإن لم يكن عنده هذا القدر جاز له الصيام. وقال أبو حنيفة : يجوز له الصيام إذا لم يكن عنده من المال ما تجب فيه الزكاة فجعل من لا زكاة عليه عادما. وقال الحسن : إذا لم يجد درهمين صام. وقال سعيد بن جبير : ثلاثة دراهم. واختلفوا في وجوب التتابع في الصيام عن كفارة اليمين على قولين :

أحدهما : أنه يجب التتابع فيه قياسا على كفارة الظهار والقتل وهو قول ابن عباس ومجاهد وطاوس وعطاء وقتادة وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وأحد قولي الشافعي

والقول الثاني : لا يجب التتابع في كفارة اليمين فإن شاء تابع وإن شاء فرق والتتابع أفضل وبه قال الحسن ومالك وهذا

القول الثاني للشافعي.

المسألة الثانية : كلمة أو للتخيير بين الإطعام والكسوة والعتق فإن شاء أطعم وإن شاء كسا وإن شاء أعتق فبأيها أخذ المكفر فقد أصاب وخرج عن العهدة.

المسألة الثالثة : لا يجوز صرف شيء من الكفارات إلا إلى مسلم حر محتاج فلو صرف إلى ذمي أو عبد أو غني لا يجزيه. وجوز أبو حنيفة صرفها إلى أهل الذمة واتفقوا على أن صرف الزكاة إلى أهل الذمة لا يجوز.

المسألة الرابعة : اختلفوا في تقديم الكفارة على الحنث فذهب قوم إلى جوازه لما روي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (من حلف على يمينه فرأى خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير) أخرجه الترمذي

(ق) عن عبد الرحمن بن سمرة. قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (يا عبد الرحمن لا تسأل الأمارة فإنها إن أتتك عن مسألة وكلت إليها وإن أتتك من غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفّر عن يمينك) وهذا قول عمر وابن عباس وعائشة وعامة الفقهاء وبه قال الحسن وابن سيرين وإليه ذهب مالك والأوزاعي والشافعي. إلا أن الشافعي قال : إن كفر بالصوم قبل الحنث لا يجوز لأنه بدني إنما يجوز الطعام أو الكسوة أو العتق. وقال أبو حنيفة : لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث وقوله ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من الإطعام أو الكسوة أو العتق أو الصوم عند العجز كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ يعني : وحنثتم ، لأن الكفارة لا تجب بمجرد اليمين إنما تجب بالحنث بعد اليمين وفيه إشارة إلى تقديم الكفارة على اليمين لا يجوز ، بل بعد اليمين وقبل الحنث كما تقدم وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ يعني قللوا أيمانكم ففيه النهي عن كثرة الحلف ومنه قول الشاعر :

قليل الألايا حافظ ليمينه وصفه بأنه لا يحلف

وقيل في معنى الآية : واحفظوا أيمانكم عن الحنث إذا حلفتم لئلا تحتاجوا إلى التكفير وهذا إذا لم يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه فإن حلف على ذلك فالأفضل ، بل الأولى أن يحنث نفسه ويكفر لما روي عن أبي موسى الأشعري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (إني واللّه إن شاء اللّه لا أحلف على يمين فأرى غيرها خير منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) أخرجاه في الصحيحين

قوله تعالى : كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آياتِهِ يعني كما بيّن لكم كفارة أيمانكم إذا حنثتم كذلك يبين لكم جميع ما تحتاجون إليه في أمر دينكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني نعمه التي أنعم بها عليكم أن بيّن لكم آياته ومعالم شريعته.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّه وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)

٩٠

٩١

قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ لما أنزل اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّه لَكُمْ

وقوله : وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه حَلالًا طَيِّباً وكانت الخمر والميسر مما يستطاب عندهم بين اللّه تعالى في هذه الآية أن الخمر والميسر غير داخلين في جملة الطيبات المحللات ، بل هما من جملة المحرمات والخمر كل ما خامر العقل وغطاه والميسر القمار وقد تقدم تفسيرهما في سورة البقرة والأنصاب هي الحجارة التي كانوا ينصبونها للعبادة ويذبحون عندها والأزلام هي القداح التي كانوا يستقسمون بها وتقدم تفسير ذلك.

والرجس في اللغة الشيء الخبيث المستقذر مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ يعني من تزيينه وإغوائه ودعائه إياكم إليها وليس المراد أنها من عمل يديه فَاجْتَنِبُوهُ يعني كونوا جانبا منه والضمير في قوله فاجتنبوه عائد إلى الرجس لأنه اسم جامع للكل كأنه قال إن هذه الأربعة الأشياء كلها رجس فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يعني لكم لكي تدركوا الفلاح إذا اجتنبتم هذه المحرمات التي هي رجس

قوله تعالى : إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فروى أبو ميسرة أن عمر بن الخطاب قال : اللّهم بيّن لنا في الخمر والميسر بيانا شافيا فنزلت الآية في سورة البقرة : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ الآية فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللّهم بيّن لنا في الخمر والميسر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في سورة النساء : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فدعي عمر فقرئت عليه ثم قال : اللّهم بين لنا في الخمر والميسر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في المائدة إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فدعي عمر فقرئت عليه فقال انتهينا انتهينا أخرجه الترمذي من طريقين. وقال رواية أبي ميسرة هذه أصح وأخرجه أبو داود والنسائي.

وروى مصعب بن سعيد عن أبيه قال : صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فشربنا وذلك قبل أن تحرم زاد حتى انتشينا فتفاخرت الأنصار وقريش فقالت الأنصار نحن أفضل منكم فقال سعد بن أبي وقاص : المهاجرون خير منكم فأخذ رجل من الأنصار لحى جمل فضرب به أنف سعد ففزره فأتى سعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره فنزلت هذه الآية :

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وقال ابن عباس : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا حتى ثملوا وعبث بعضهم ببعض فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول فعل بي هذا فلان أخي وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن فأنزل اللّه تعالى تحريم الخمر في هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ

وأما تفسير الآية فقوله تعالى إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر يعني إنما يزين لكم الشيطان شرب الخمر والقمار بالقداح وهو الميسر ويحسن ذلك لكم إرادة أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء بسبب شرب الخمر لأنها تزيل عقل شاربها فيتكلم بالفحش وربما أفضى ذلك إلى المقاتلة وذلك سبب إيقاع العداوة والبغضاء بين شاربيها.

وأما الميسر ، فقال قتادة : كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله فيقمر فيقعد حزينا سليبا ينظر إلى ماله في يد غيره فيورثه ذلك العداوة والبغضاء فنهى اللّه عن ذلك وتقدم ما فيه واللّه أعلم بما يصلح خلقه فظهر بذلك أن الخمر والميسر سببان عظيمان في إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس وهذا فيما يتعلق بأمر الدنيا وفيهما مفاسد تتعلق بأمر الدين وهي

قوله تعالى : وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّه وَعَنِ الصَّلاةِ لأن شرب الخمر يشغل عن ذكر اللّه وعن فعل الصلاة وكذلك القمار يشغل صاحبه عن ذكر اللّه وعن الصلاة.

فإن قلت : لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام في الآية الأولى ثم أفرد الخمر والميسر في هذه الآية؟

قلت : لأن الخطاب مع المؤمنين بدليل

قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا والمقصود نهيهم عن شرب الخمر واللعب بالقمار وإنما ضم الأنصاب والأزلام إلى الخمر والميسر لتأكيد تحريم الخمر والميسر فلما كان المقصود من الآية النهي عن شرب الخمر والميسر لا جرم أفردهما بالذكر في آخر الآية واللّه أعلم.

قوله تعالى : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ لفظة استفهام ومعناه الأمر أي انتهوا وهذا من أبلغ ما ينهى به لأنه تعالى ذم الخمر والميسر وأظهر قبحهما للمخاطب كأنه قيل قد تدلى عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم منتهون مع هذه الأمور أم أنتم على ما كنتم عليه كأنكم لم توعظوا ولم تنزجروا؟ وفي هذه الآية دليل على تحريم شرب الخمر لأن اللّه تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأصنام وعدّد أنواع الفساد الحاصلة بهما ووعد بالفلاح عند اجتنابهما وقال فهل أنتم منتهون ومعناه الأمر وقد صح من حديث عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : (كل شراب أسكر فهو حرام) أخرجاه في الصحيحين وزاد الترمذي وأبو داود : ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام. الفرق بالتحريك إناء يسع ستة عشر رطلا ، عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب اللّه عليه فإن عاد لم يقبل اللّه له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب اللّه عليه فإن عاد لن يقبل اللّه له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب اللّه عليه فإن عاد الرابعة لم يقبل اللّه له أربعين صباحا فإن تاب لم يتب اللّه عليه وسقاه اللّه من نهر الخبال) قالوا يا أبا عبد الرحمن وما نهر الخبال؟ قال : صديد أهل النار أخرجه الترمذي. وقال : حديث حسن وأخرجه النسائي وعنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (لعن اللّه الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه) أخرجه أبو داود.

وَأَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّه بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّه مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤)

٩٢

٩٣

٩٤

قوله عز وجل : وَأَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يعني ، فيما أمركم به ونهاكم عنه وَاحْذَرُوا أي واحذروا مخالفة اللّه ومخالفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما أمركم به ونهاكم عنه فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ يعني فإن أعرضتم عما أمركم به ونهاكم عنه فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ وهذا وعيد وتهديد لمن أعرض عن أمر اللّه ونهيه كأنه قال فاعلموا أنكم بسبب توليكم وإعراضكم قد استحققتم العذاب والسخط.

قوله تعالى : لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الآية عن البراء بن عازب قال :

مات ناس من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم وهم يشربون الخمر ، فلما نزل تحريم الخمر قال ناس من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم :

كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ قال : فنزلت : لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الآية أخرجه الترمذي. وقال حديث : حسن صحيح. عن ابن عباس قال : قالوا يا رسول اللّه أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر لما نزل تحريم الخمر فنزلت : لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الآية أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن ومعنى الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا أي لا حرج ولا إثم عليهم فيما شربوا من الخمر وأكلوا من مال القمار في وقت الإباحة قبل التحريم قال ابن قتيبة يقال : لم أطعم خبزا ولا ماء ولا نوما قال الشاعر :

فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

النقاخ الماء والبرد النوم إِذا مَا اتَّقَوْا يعني إذا ما اتقوا الشرك

وقيل اتقوا ما حرم اللّه عليهم وَآمَنُوا يعني باللّه ورسوله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي وازدادوا من عمل الصالحات ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا يعني اتقوا الخمر والميسر بعد التحريم فعلى هذا تكون الأولى إخبارا عن حال من مات وهو يشربها قبل التحريم أنه لا جناح عليه.

والثانية : خطاب لمن بقي بعد التحريم أمروا باتقائها والإيمان بتحريمها ثُمَّ اتَّقَوْا يعني ما حرم عليهم في المستقبل وَأَحْسَنُوا يعني العمل.

وقيل : المراد بالاتقاء الأول فعل التقوى وبالثاني المداومة عليها وبالثالث اتقاء الظلم مع ضم الإحسان إليه.

وقيل : إن المقصود من التكرير التأكيد والمبالغة في الحث على الإيمان والتقوى وضم الإحسان إليهما ثم قال تعالى : وَاللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يعني أنه تعالى يحب المتقربين إليه بالإيمان والأعمال الصالحة والتقوى والإحسان وهذا ثناء ومدح لهم على الإيمان والتقوى والإحسان لأن هذه المقامات من أشرف الدرجات وأعلاها

(م) عن عبد اللّه بن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إلى آخر الآية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قيل لي : أنت منهم ومعناه ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قيل له إن ابن مسعود منهم يعني من الذين آمنوا وعملوا الصالحات والتقوى والإحسان.

قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّه بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ نزلت هذه الآية عام الحديبية وكانوا محرمين ، فابتلاهم اللّه بالصيد ، فكانت الوحوش تغشى رحالهم من كثرتها فهمّوا بأخذها وصيدها فأنزل اللّه هذه الآية : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّه الآية اللام في ليبلونكم لام القسم أي ليخبرن طاعتكم من معصيتكم والمعنى يعاملكم معاملة المختبر بشيء من الصيد يعني بصيد البر دون البحر.

وقيل : أراد الصيد في حالة الإحرام دون الإحلال وإنما قال بشيء من الصيد ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي نزل عندها أقدام الثابتين ويكون التكليف فيها صعبا شاقا كالابتلاء ببذل الأموال والأرواح وإنما هو ابتلاء سهل كما ابتلي أصحاب السبت بصيد السمك فيه لكن اللّه عز وجل بفضله وكرمه عصم أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم فلم يصطادوا شيئا في حالة الابتلاء ولم يعصم أصحاب السبت فمسخوا قردة وخنازير.

وقوله تعالى : تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ يعني الفرخ والبيض وما لا يقدر أن يفر من صغار الصيد وَرِماحُكُمْ يعني كبار الصيد مثل حمر الوحش ونحوها. وقال ابن عباس : في قوله تناله أيديكم ورماحكم هو الضعيف من الصيد وصغيره يبتلي اللّه به عباده في إحرامهم حتى لو شاؤوا نالوه بأيديهم فنهاهم اللّه أن يقربوه لِيَعْلَمَ اللّه أي : ليرى اللّه فإنه قد علمه فهو مجاز لأنه تعالى عالم لم يزل والمعنى يعاملكم معاملة المختبر.

وقيل : معناه ليظهر المعلوم وهو خوف الخائف

وقيل هو من باب حذف المضاف والتقدير ليعلم أولياء اللّه مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ يعني : من يخاف اللّه ولم يره فلا يصطاد في حالة الإحرام شيئا بعد النهي فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ يعني فصاد في حالة الإحرام بعد النهي فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الدنيا. قال ابن عباس : هو أن يوجع ظهره وبطنه جلدا وتسلب ثيابه وهذا قول أكثر المفسرين في معنى هذه الآية لأنه قد سمى الجلد عذابا وهو قوله وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّه عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّه مِنْهُ وَاللّه عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥)

٩٥

وقوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ جمع حرام. أي : لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بالحج والعمرة

وقيل المراد منه دخول الحرم. يقال : أحرم إذا عقد الإحرام ، وأحرم : إذا دخل الحرم.

وقيل : هما مرادان بالآية فلا يجوز قتل الصيد للمحرم ولا في الحرم نزلت هذه الآية في أبي اليسر شد على حمار وحش فقتله وهو محرم ثم صار هذا الحكم عاما فلا يجوز قتل الصيد ولا التعرض له ما دام محرما ولا في الحرم. والمراد بالصيد ، كل حيوان متوحش مأكول اللحم وهذا قول الشافعي. وقال أبو حنيفة : هو كل حيوان متوحش سواء كان مأكولا أو لم يكن فيجب عنده الضمان على من قتل سبعا أو نمرا أو نحو ذلك واستثنى الشارع خمس فواسق فأجاز قتلهن

(ق).

عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور)

وفي رواية : (خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والإحرام)

(ق). عن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحرم :

الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور) ولمسلم (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم) وذكر نحوه.

وفي رواية النسائي قال : (خمس يقتلن المحرم : الحية ، والعقرب ، والفأرة ، والغراب الأبقع ، والكلب العقور). قال ابن عيينة : الكلب العقور كل سبع ضار يعقر. وقاس الشافعي عليها جميع ما لا يؤكل لحمه ، قال :

لأن الحديث يشتمل على أشياء بعضها سباع ضارية وبعضها هوام قاتلة وبعضها طير لا يدخل في معنى السباع ولا في معنى الهوام وإنما هو حيوان مستخبث اللحم. وتحريم الأكل ، يجمع الكل فاعتبره ورتب عليه الحكم.

وذهب أصحاب الرأي إلى وجوب الجزاء في كل ما لا يؤكل لحمه إلا الأعيان المذكورة في الحديث وقاسوا عليها الذئب فلم يوجبوا فيه كفارة.

قوله تعالى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً قال مجاهد والحسن وابن زيد : هو الذي يتعمد قتل الصيد مع نسيان الإحرام فعليه الجزاء.

أما إذا تعمد قتل الصيد ذكرا لإحرامه ، فلا جزاء عليه لأنه أعظم من أن يكون له كفارة. وقال ابن عباس والجمهور : يحكم عليه بالجزاء وإن تعمد القتل مع ذكر الإحرام وهذا مذهب عامة الفقهاء ، أما إذا قتل الصيد خطأ بأن قصد غيره بالرمي فأصابه ، فهو كالعمد في وجوب الجزاء وهذا مذهب جمهور المفسرين والفقهاء قال الزهري : نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ يعني ألحقت المخطئ بالمتعمد في وجوب الجزاء وقال سعيد بن جبير : لا أرى في الخطأ شيئا وهذا قول شاذ لا يؤخذ به فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يعني فعليه جزاء من النعم مثل ما قتل والمثل والشبه واحد واختلفوا في هذه المماثلة أهي بالخلقة أم بالقيمة والذي عليه جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم أن المماثلة في الخلقة معتبرة لأن ظاهر الآية يدل على ذلك وما لا مثل له فالقيمة ، وقال أبو حنيفة : المثل الواجب في قتل الصيد هو القيمة لأن الصيد المقتول إذا لم يكن له مثل فإنه يضمن بالقيمة وهذا لا نزاع فيه فكان المراد بالمثل هو القيمة في هذه الصورة فوجب أن يكون في سائر الصور كذلك لأن اللفظ الواحد لا يجوز حمله إلا على معنى واحد وأجيب عنه بأن حقيقة المماثلة أمر معلوم فيجب رعايتها بأقصى الإمكان وإن لم تكن رعايتها إلا بالقيمة وجب الاكتفاء بها للضرورة وحجة الشافعي ومن وافقه في اعتبار المماثلة بالخلقة أن الصحابة حكموا في بلدان شتى وأزمان مختلفة بالمثل من النعم فحكموا في النعامة ببدنة وهي لا تساوي بدنة وحكموا في حمار الوحش ببقرة وهو لا يساوي بقرة وكذا في الضبع بكبش فدل ذلك على أنهم إنما نظروا إلى ما يقرب من الصيد شبها من حيث الخلقة فحكموا به ولم يعتبروا القيمة فيجب في الظبي شاة وفي الأرنب سخل وفي الضب سخلة وفي اليربوع جفرة ويجب في الحمامة وكل ما عبّ وهدر كالفواخت والقمري وذوات الأطواق شاة وما سواه من الطير ففيه القيمة في المكان

الذي أصيب فيه. وروي عن عثمان وابن عباس أنهما حكما في حمام الحرم. وروي عن عمر أنه قضى في الضبع بكبش وفي الغزال بعنز وفي الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة.

وقوله تعالى : يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ يعني يحكم بالجزاء في قتل الصيد رجلان صالحان عدلان من أهل ملتكم ودينكم وينبغي أن يكونا فقيهين فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به.

قال ميمون بن مهران : جاء أعرابي إلى أبي بكر الصديق ، فقال : إني أصبت من الصيد كذا وكذا فسأل أبو بكر أبي بن كعب ، فقال الأعرابي : إني أتيتك أسألك وأنت تسأل غيرك ، فقال أبو بكر : وما أنكرت من ذلك؟ قال اللّه تعالى : يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فشاورت صاحبي فإذا اتفقنا على شيء أمرناك به

وقوله تعالى : هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ يعني أن الكفارة هدي يساق إلى الكعبة وسميت الكعبة كعبة لارتفاعها والعرب تسمي كل بيت مرتفع كعبة. وإنما أريد الكعبة ، كل الحرم لأن الذبح لا يقع في الكعبة وعندها ملاقيا لها إنما يقع في الحرم وهو المراد بالبلوغ فيذبح الهدي بمكة ويتصدق به على مساكين الحرم هذا مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة له أن يتصدق به حيث شاء إذا وصل الهدي إلى الكعبة أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً ذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة إلى أن كلمة- أو- في هذه الآية للتخيير وقال أحمد وزفر من أصحاب أبي حنيفة إنها للترتيب وهما روايتان. عن ابن عباس قال الشافعي إذا قتل صيدا له مثل فهو مخير بين ثلاثة أشياء : إن شاء ذبح المثل من النعم وتصدق به على مساكين الحرم وإن شاء قوم المثل دراهم والدراهم طعاما ثم يتصدق به على مساكين الحرم وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يوما. وقال أبو حنيفة : يصوم عن كل نصف صاع يوما.

وعن أحمد روايتان كالقولين وأصل هذه المسألة أنّ الصوم مقدر بطعام اليوم فعند الشافعي مقدر بالمد وعند أبي حنيفة مقدر بنصف صاع وله أن يصوم حيث شاء لأنه لا نفع فيه للمساكين وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخيار في تعيين أحد هذه الثلاثة الأشياء إلى قاتل الصيد الذي وجب عليه الكفارة لأن اللّه أوجب عليه أحد هذه الثلاثة على التخيير فوجب أن يكون هو المخير بين أيها شاء وقال محمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة التخيير إلى الحكمين لأن اللّه تعالى قال : يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ومن قال : إن كلمة أو للترتيب ، قال : إن لم يجد الهدي اشترى طعاما وتصدق به فإن كان معسرا صام وقال مالك : إن لم يخرج المثل من النعم يقوّم الصيد ثم يجعل القيمة طعاما فيتصدق به أو يصوم. وقال أبو حنيفة : لا يجب المثل من النعم ، بل يقوم الصيد فإن شاء صرف تلك القيمة إلى شيء من النعم وإن شاء إلى الطعام فيتصدق به وإن شاء صام عن كل نصف صاع من بر أو صاع من غيره يوما واختلفوا في موضع التقويم فقال جمهور الفقهاء يقوم في المكان الذي قتل فيه الصيد. وقال الشعبي : يقوم بمكة بثمن مكة لأنه يصرف بها.

وقوله تعالى : لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ يعني جزاء ذنبه. والوبال في اللغة ، الشيء الثقيل الذي يخاف ضرره.

يقال : مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة وإنما سمى ذلك اللّه وبالا لأن إخراج الجزاء ثقيل على النفس لأن فيه تنقيصا للمال وهو ثقيل على النفس وكذا الصوم أيضا ثقيل على النفس لأن فيه إنهاك البدن عَفَا اللّه عَمَّا سَلَفَ يعني قبل التحريم وَمَنْ عادَ يعني إلى قتل الصيد مرة ثانية فَيَنْتَقِمُ اللّه مِنْهُ يعني في الآخرة والانتقام المبالغة في العقوبة وهذا الوعيد لا يمنع إيجاب الجزاء في المرة الثانية والثالثة فإذا تكرر من المحرم قتل الصيد تكرر عليه الجزاءو هذا قول جمهور العلماء وقد روي عن ابن عباس والنخعي وداود الظاهري أنه إذا قتل الصيد مرة ثانية فلا جزاء عليه لأنه وعد بالانتقام منه.

قال ابن عباس : إذا قتل المحرم صيدا متعمدا سئل هل قتل شيئا من الصيد ، فإن قال نعم ، لم يحكم عليه.

ويقال له : اذهب فينتقم اللّه منك وإن قال لم أقتل قبله شيئا ، حكم عليه ، فإن عاد بعد ذلك لم يحكم عليه ، ولكن يملأ ظهره وصدره ضربا وكذلك حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في صيدوج وهو واد بالطائف : وَاللّه عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ يعني ممن عصاه. وإذا أتلف المحرم شيئا من الصيد الذي لا مثل له من النعم مثل البيض وطائر صغير دون الحمام

ففيه القيمة فيقوّم ثم يشتري بقيمته طعاما ويتصدق به على محاويج الحرم أو يصوم عن كل مد يوما.

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللّه الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)

٩٦

قوله تعالى : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ المراد بالصيد ما صيد من البحر والمراد جميع المياه العذبة والمالحة.

فأما طعامه ، فاختلفوا فيه فقيل : هو ما قذفه البحر ورمى به إلى الساحل يروى ذلك عن أبي بكر وعمر وابن عمرو أبي أيوب وقتادة

وقيل : صيد البحر طريه وطعامه مالحه. يروى ذلك عن سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والسدي.

ويروى عن ابن عباس ومجاهد كالقولين وجملة حيوان الماء على قسمين : سمك وغير سمك فأما السمك فجميعه حلال على اختلاف أجناسه وأنواعه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب فيحل أكله وقال أبو حنيفة لا يحل إلا أن يموت بسبب وما عدا السمك فقسمان : قسم يعيش في البر والبحر كالضفدع والسرطان فلا يحل أكلهما وقال سفيان أرجو أن لا يكون بالسرطان بأس واختلفوا في الجراد فقيل هو من صيد البحر فيحل أكله للمحرم وذهب جمهور العلماء إلى أنه من صيد البر وأنه لا يحل للمحرم أكله في حال الإحرام فإن أصاب جرادة فعليه صدقة.

قال عمر : في الجرادة تمرة. وعنه وعن ابن عباس قبضة من طعام وكذلك طير الماء فهو من صيد البر أيضا وقال أحمد : يؤكل كل ما في البحر إلا الضفدع والتمساح قال لأن التمساح يفترس ويأكل الناس. وقال ابن أبي ليلى ومالك يباح كل ما في البحر وذهب جماعة إلى أن ماله نظير من البر يؤكل فيؤكل نظيره من حيوان البحر مثل بقر الماء ونحوه ولا يؤكل ما لا يؤكل نظيره في البر مثل كلب الماء وخنزير الماء فلا يحل أكله.

قوله تعالى : مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ يعني ينتفع به المقيمون والمسافرون فيتزودون منه.

قوله تعالى : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً ذكر اللّه عز وجل تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة

أحدها في أول السورة وهو قوله : غير محلّي الصيد وأنتم حرم.

والثاني قوله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ والثالث : هذه الآية وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما. كل ذلك لتأكيد تحريم قتل الصيد على المحرم واختلف العلماء هل يجوز للمحرم أن يأكل من لحم صيد صاده غيره فذهب قوم إلى أنه لا يحل ذلك بحال يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول طاوس وإليه ذهب الثوري واحتجوا على ذلك بما روي عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى للنبي صلى اللّه عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فلما رأى ما في وجهه من الكراهة قال : إنا لم نرده عليك إلا أنّا حرم. أخرجاه في الصحيحين وذهب جمهور العلماء إلى أنه يجوز للمحرم أن يأكل لحم الصيد إذا لم يصده بنفسه ولا صيد له ولا بإشارته ولا أعان عليه.

وهذا قول عمر وعثمان وأبي هريرة وبه قال عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي ويدل عليه ما روي عن أبي قتادة الأنصاري ، قال : كنت جالسا مع رجال من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم في منزل في طريق مكة ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمامنا والقوم محرمون وأنا غير محرم عام الحديبية ، فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلا فلم يؤذنوا بي وأحبوا لو أني أبصرته فالتفّت ، فأبصرته ، فقمت إلى

الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم ناولوني السوط والرمح. قالوا : لا واللّه لا نعينك عليه ، فغضبت ونزلت فأخذتهما ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته ثم جئت به وقد مات ، فوقعوا فيه يأكلون. ثم إنهم شكّوا في أكلهم إياه وهم حرم فرحنا وخبأت العضد فأدركنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألته عن ذلك فقال : هل معكم منه شي ء؟ فقلت نعم. فناولته العضد فأكل منها وهو محرم. وزاد في رواية : أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لهم : إنما هي طعمة أطعمكموها اللّه.

وفي رواية : هو حلال فكلوه.

وفي رواية قال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا : لا؟ قال : كلوا ما بقي من لحمها. أخرجاه في الصحيحين وأجاب أصحاب هذا المذهب عن حديث الصعب بن جثامة بأنه إنما رده النبي صلى اللّه عليه وسلم لأنه ظن أنه إنما صيد لأجله والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله وَاتَّقُوا اللّه يعني فلا تستحلّوا الصيد في حال الإحرام ولا في الحرم ثم حذرهم بقوله الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يعني في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم.

جَعَلَ اللّه الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨)

٩٧

٩٨

قوله عز وجل : جَعَلَ اللّه الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ جعل بمعنى صبر.

وقيل : معناه بيّن وحكم. وقال مجاهد : سمي البيت كعبة لتربيعه.

وقيل : لارتفاعه عن الأرض. وسمي البيت الحرام لأن اللّه حرمه وعظمه وشرفه وعظم حرمته وحرم أن يصطاد عنده وأن يختلى خلاه وأن يعضد شجره وأراد بالبيت الحرام ، جميع الحرم لما صح من حديث ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال (إن هذا البلد حرمه اللّه تعالى يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاه).

وقوله تعالى : قِياماً لِلنَّاسِ أصله قواما لأنه سبب لقوام مصالح الناس في أمر دينهم ودنياهم وآخرتهم.

أما في أمر الدين فإنه به يقوم الحج وتتم المناسك ،

وأما في أمر الدنيا فإنه تجبى إليه ثمرات كل شيء ويأمنون فيه من النهب والغارة فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم لم يهجه ،

وأما في أمر الآخرة فإن البيت جعل لقيام المناسك عنده وجعلت تلك المناسك التي تقام عنده أسبابا لعلو الدرجات وتكفير الخطيئات وزيادة الكرامات والمثوبات فلما كانت الكعبة الشريفة سببا لحصول هذه الأشياء كانت سببا لقيام الناس وَالشَّهْرَ الْحَرامَ يعني وجعل الشهر الحرام قياما للناس وأراد بالشهر الحرام الأشهر الحرم الأربعة وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الفرد يعني وكذلك جعل الأشهر الحرم يأمنون فيها من القتال وذلك أن العرب كان يقتل بعضهم بعضا ويغير بعضهم على بعض وكانوا إذا دخلت الأشهر الحرم أمسكوا عن القتال والغارة فيها فكانوا يأمنون في الأشهر الحرم فكانت سببا لقيام مصالح الناس. وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ يعني وكذلك جعل الهدي والقلائد سببا لقيام مصالح الناس وذلك أنهم كانوا يأمنون بسوق الهدي إلى البيت الحرام على أنفسهم وكذلك كانوا يأمنون إذا قلدوا أنفسهم من لحاء شجر الحرام فلا يتعرض لهم أحد ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني : أنه تعالى علم في الأزل بمصالح العباد وما يحتاجون إليه فجعل الكعبة البيت الحرام والشهر الحرام والهدي والقلائد يأمنون بها لأنه يعلم مصالح العباد كما يعلم ما في السموات وما في الأرض لأنه تعالى علم جميع المعلومات الكليات والجزئيات وهو

قوله تعالى : وَأَنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعني أنه تعالى لا تخفى عليه خافية اعْلَمُوا أَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقابِ يعني لمن انتهك محارمه واستحلها وَأَنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني لمن تاب وآمن ولما ذكر اللّه أنواع رحمته بعباده ذكر بعدها أنه شديد العقاب لأن الإيمان لا يتم إلا بحصول الرجاء والخوف ثم ذكر بعده ما يدل على سعة رحمته وأنه غفور رحيم.

ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللّه يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللّه يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّه عَنْها وَاللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١)

٩٩

١٠٠

١٠١

قوله تعالى : ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ يعني ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم إلا تبليغ ما أرسل به من الإنذار بما فيه قطع الحجج ، ففي الآية تشديد عظيم في إيجاب القيامة بما أمر اللّه وأن الرسول صلى اللّه عليه وسلم قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت الحجة عليكم بذلك ولزمتكم الطاعة فلا عذر في التفريط وَاللّه يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ يعني أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوالكم ظاهرا وباطنا قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ يعني الحلال والحرام في الدرجة والرتبة ولا يعتد الرديء والجيد ولا المسلم والكافر ولا الصالح والطالح وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ يعني ولو سرك كثرة الخبيث لأن عاقبته عاقبة سوء. والمعنى : أن أهل الدنيا يعجبهم كثرة المال وزينة الدنيا وما عند اللّه خير وأبقى لأن زينة الدنيا ونعيمها يزول وما عند اللّه يدوم. وقال ابن الجوزي :

روى جابر بن عبد اللّه أن رجلا قال : يا رسول اللّه إن الخمر كانت تجارتي فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة اللّه؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (إن اللّه طيب لا يقبل إلا الطيب) وقال مقاتل : نزلت في شريح بن ضبعة البكري وحجاج بن بكر وقد تقدمت القصة في أول السورة فَاتَّقُوا اللّه يعني فيما أمركم به أو نهاكم عنه ولا تعتدوه يا أُولِي الْأَلْبابِ يعني يا ذوي العقول السليمة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فروي عن أنس بن مالك قال خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطبة ما سمعنا مثلها قط فقال لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا قال فغطى أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجوههم لهم حنين فقال رجل : من أبي؟ فقال فلان فنزلت هذه الآية لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ

وفي رواية أخرى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر فقام على المنبر فذكر الساعة فذكر فيها أمورا عظاما ثم قال : من أحب أن يسألني عن شيء فليسأل ، فلا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي فأكثر الناس البكاء وأكثر أن يقول سلوا فقام عبد اللّه بن حذافة السهمي فقال : من أبي؟ فقال :

أبوك حذافة. ثم أكثر أن يقول سلوني فبرك عمر على ركبتيه فقال : (رضينا باللّه ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا) فسكت ثم قال : عرضت علي الجنة والنار أنفا في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر. قال ابن شهاب : فأخبرني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة قال : قالت أم عبد اللّه بن حذافة لعبد اللّه بن حذافة ما سمعت بابن قط أعق منك أمنت أن تكون أمك قارفت بعض ما تقارف أهل الجاهلية فتفضحها عن أعين الناس؟ فقال عبد اللّه بن حذافة : لو ألحقني بعبد أسود للحقته زاد في رواية أخرى قال قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ أخرجاه في الصحيحين

(خ).

عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل : من أبي؟ ويقول الرجل : تضل ناقته أين ناقتي؟ فأنزل اللّه فيهم هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية كلها

وقيل نزلت هذه الآية في شأن الحج عن علي بن أبي طالب قال لما نزلت وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قالوا : يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في كل عام؟ فسكت فقالوا يا رسول اللّه في كل عام؟ قال : لا ولو قلت نعم لوجبت فأنزل اللّه عز وجل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ أخرجه الترمذي وقال حديث غريب

(م).

عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول اللّه فقال : يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا. فقال رجل : أفي كل عام؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ثم قال : ذروني ما تركتكم ولو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذ نهيتكم عن شيء فاجتنبوه).

وروى مجاهد عن ابن عباس : لا تسألوا عن أشياء قال هي البحيرة والوصيلة والسائبة والحام ألا ترى أنه يقول بعد ذلك ما جعل اللّه من بحيرة ولا كذا ولا كذا وقال عكرمة : إنهم كانوا يسألون عن الآيات فنهوا عن ذلك ثم قال قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرون ومعنى الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ جمع شيء إِنْ تُبْدَ لَكُمْ أي تظهر لكم وتبن لكم تَسُؤْكُمْ يعني إن أمرتم بالعمل بها فإن من سأل عن الحج لم يأمن أن يؤمر به فلا يقدر عليه فيسوءه ذلك ومن سأل عن نسبه لم يأمن أن يلحقه النبي صلى اللّه عليه وسلم بغير أبيه فيفتضح ويسوءه ذلك وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ معناه : إن صبرتم حتى ينزل القرآن بحكم من فرض أو نهي أو حكم وليس في ظاهره شرح ما تحتاجون إليه ومست حاجتكم إليه فإذا سألتم عنه فحينئذ يبدي لكم ، ومثال هذا : أن اللّه عز وجل لما بيّن عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل ولم يكن في عدد هؤلاء دليل على عدة التي ليست ذات قرء ولا حامل فسألوا عنها فأنزل اللّه عز وجل جوابهم في قوله وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ الآية عَفَا اللّه عَنْها يعني عن مسألتكم عن الأشياء التي سألتم عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم التي كره اللّه لكم السؤال عنها فلم يؤاخذكم بها ولم يعاقبكم عليها وَاللّه غَفُورٌ يعني لمن تاب منكم حَلِيمٌ فلا يعجل بعقوبتكم. وقال عطاء : غفور يعني لما كان في الجاهلية. حليم : يعني عن عقابكم منذ آمنتم وصدقتم. وقال بعض العلماء : الأشياء التي يجوز السؤال عنها ، هي ما يترتب عليها أمر الدين والدنيا من مصالح العباد وما عدا ذلك فلا يجوز السؤال عنه

(ق).

عن سعد بن أبي وقاص أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته

(ق).

عن المغيرة بن شعبة أنه كتب إلى معاوية أن النبي صلى اللّه عليه وسلم (كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال) عن معاوية أن النبي صلى اللّه عليه وسلم (نهى عن الأغلوطات) أخرجه أبو داود. والأغلوطات صعاب المسائل التي تزل فيها أقدام العلماء ويؤيد ذلك قول أبي هريرة : شرار الناس الذين يسألون عن شرار المسائل كي يغلطوا بها العلماء. عن سلمان قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أشياء فقال (الحلال ما أحل اللّه في كتابه والحرام ما حرمه اللّه في كتابه وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه فلا تتكلفوا) وعن أبي ثعلبة الخشني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال (إن اللّه تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تقربوها وترك أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها) هذان الحديثان أخرجهما في جامع الأصول ولم يعزهما إلى الكتب الستة ثم قال تعالى :

قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢) ما جَعَلَ اللّه مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣)

قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ قال المفسرون : يعني قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها فأصبحوا بها كافرين ، وقوم موسى قالوا : أرنا اللّه جهرة ، فكان هذا السؤال وبالا عليهم ، وقوم عيسى ، سألوا نزول المائدة عليهم ثم كذبوها. كأنه تعالى يقول : إن أولئك سألوا فلما أعطوا سؤلهم كفروا به فلا تسألوا أنتم شيئا فلعلكم إن أعطيتم سؤلكم ساءكم ذلك.

١٠٢

١٠٣

قوله تعالى : ما جَعَلَ اللّه أي ما أنزل اللّه ولا حكم به ولا شرعه ولا أمر به مِنْ بَحِيرَةٍ البحيرة : من البحر وهو الشق. يقال : بحر ناقته إذا شق أذنها فهي فعلية بمعنى مفعولة وَلا سائِبَةٍ يعني المسيبة المخلاة وَلا وَصِيلَةٍ الوصيلة : الشاة وكانت العرب في الجاهلية إذا ولدت لهم ذكرا أو أنثى قالوا وصلت أخاها وَلا حامٍ الحام : هو الفحل من الإبل يحمى ظهره فلا يركب ولا ينتفع به. قال ابن عباس : في بيان هذه الأوصاف ، البحيرة : هي الناقة إذا ولدت خمسة أبطن لم يركبوها ولم يجزّوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلأ ثم نظروا إلى خامس ولدها فإن كان ذكرا نحروه وأكله الرجال والنساء وإن كانت أنثى شقوا أذنها وتركوها وحرموا على الناس منافعها. وكانت منافعها للرجال خاصة فإذا ماتت حلت الرجال والنساء.

وقيل كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة سنة إناثا سيبت فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم سيب مع أمها ويفعل بها ما يفعل بأمها.

وقيل : السائبة البعير الذي يسيب لآلهتهم وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية كان إذا مرض أو غاب له قريب نذر ، فقال : ٧ ن شفاني اللّه أو شفى اللّه مريضي أو قدم غائبي فناقتي هذه سائبة ثم يسيبها ، فلا تحبس عن ماء ولا مرعى ولا يركبها أحد ، فهي بمنزلة البحيرة والوصيلة من الغنم.

كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن نظروا فإن كان السابع ذكر ذبحوه وأكل منه الرجال والنساء وإن كانت أنثى تركوها في الغنم وإن كانت ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها واستحيوا الذكر فلم يذبحوه من أجل الأنثى والحامي هو الفحل إذا ركب ولد ولده.

وقيل : هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة أبطن. قالوا : حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى فإذا مات أكله الرجال والنساء

(ق) عن سعيد بن المسيب قال :

البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء. قال أبو هريرة : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار. ولمسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخا بني كعب وهو يجر قصبه في النار

(خ) عن عائشة قالت : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأيت جهنم تحطم بعضها بعضا ورأيت عمرا يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب. القصب بضم القاف وسكون الصاد المهملة الأمعاء كانت الجاهلية تفعل هذا في جاهليتهم فلما بعث اللّه عز وجل نبيه صلى اللّه عليه وسلم أبطل ذلك بقوله ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام يعني ما بحر اللّه من بحيرة ولا سيب من سائبة ولا وصل من وصيلة ولا حمى من حام ولا أذن فيه ولا أمر به ولكنكم أنتم فعلتم ذلك من عند أنفسكم

(خ) عن ابن مسعود أن أهل الإسلام لا يسيبون وأن أهل الجاهلية كانوا يسيبون.

وقوله تعالى : وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ يعني بقولهم إن اللّه أمرنا بهم وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أراد بالأكثر الاتباع يعني أن الاتباع لا تعقل أن هذا كذب وافتراء من الرؤساء على اللّه عز وجل :

وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللّه وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)

١٠٤

وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللّه وَإِلَى الرَّسُولِ يعني : وإذا قيل لهؤلاء الذين بحروا البحائر وفعلوا هذه الأشياء أضافوها إلى اللّه كذبا تعالوا إلى ما أنزل اللّه يعني في كتابه وإلى الرسول يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم الذي أنزل عليه كتابه ليبين لكم كذب ما تضيفونه إلى اللّه ويبين لكم الشرائع والأحكام وإن الذي تفعلونه ليس بشيء قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا يعني قد اكتفينا بما أخذنا عنهم من الدين ونحن لهم تبع قال اللّه ردا عليهم أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ يعني إنما يصح الاقتداء بالعالم المهتدي الذي يبني قوله على الحجة والبرهان والدليل وأن آباءهم ما كانوا كذلك فيصح اقتداؤهم بهم

قوله عز وجل :

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)

١٠٥

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قال بعض العلماء : هذا أمر من اللّه تعالى ومعناه احفظوا أنفسكم من ملابسة الذنوب والإصرار على المعاصي لأنك إذا قلت عليك زيدا معناه الزم زيدا

وقيل معناه عليكم أنفسكم فأصلحوها واعملوا في خلاصها من عذاب اللّه عز وجل. وانظروا لها ما يقربها من اللّه عز وجل. لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، يعني لا يضركم كفر من كفر إذا كنتم مهتدين وأطعتم اللّه عز وجل فيما أمركم به ونهاكم عنه.

قال سعيد بن جبير ومجاهد : نزلت هذه الآية في أهل الكتاب اليهود والنصارى يعني عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب فخذوا منهم الجزية واتركوهم.

وقيل : لما قبلت الجزية من أهل الكتاب قال بعض الكفار : كيف تقبل الجزية من بعض دون بعض؟ فنزلت هذه الآية.

وقيل : إن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار على كفرهم فقيل لهم : عليكم أنفسكم واجتهدوا في صلاحهم لا يضركم ضلال الضالين ولا جهل الجاهلين إذا كنتم مهتدين.

فإن قلت هل يدل ظاهر هذه الآية على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قلت : لا يدل على ذلك والذي عليه أكثر الناس أن المطيع لربه عزّ وجل لا يكون مؤاخذا بذنوب أصحاب المعاصي فأما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فثابت بدليل الكتاب والسنة. عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ولا تضعونها موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : (إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم اللّه بعقاب منه) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وأخرجه أبو داود زاد فيه : (ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم اللّه بعقاب).

وقال قوم في معنى الآية عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم قال ابن مسعود مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم فإن رد عليكم فعليكم أنفسكم ، ثم قال : إن القرآن نزل منه أي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ومنه أي وقع تأويلهن على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومنه أي وقع تأويلهن بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيسير ومنه أي يقع تأويلهن في آخر الزمان ومنه أي يقع تأويلهن يوم القيامة وهو ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة لم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا اختلفت قلوبكم وأهواؤكم وألبستم شيعا وأذيق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية.

وقيل لابن عمر لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن اللّه يقول (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ألا ليبلغ الشاهد الغائب فكنا نحن الشهود وأنت الغائب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم. وعن أبي أمية الشعباني قال أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف نصنع بهذه الآية قال : أية آية قلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قال : أما واللّه لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال (ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام فإن من ورائكم أيام الصبر فمن صبر فيهن قبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم).

وفي رواية : (قيل : يا رسول اللّه أجر خمسين رجلا منا أو منهم ، قال : لا بل أجر خمسين منكم) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب

وقيل في معنى الآية : إن العبد إذا عمل بطاعة اللّه واجتنب نواهيه لا يضره من ضل. وقال ابن عباس : قوله (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) يقول إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته من الحلال والحرام فلا يضره من ضل بعده إذا عمل بما أمرته به وعن صفوان بن محرز قال : دخل عليّ شاب من أصحاب الأهواء فذكر شيئا من أمره فقلت له : ألا أدلك على خاصة اللّه التي خص بها أوليائه (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) وقال الحسن : لم يكن مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله.

وقيل في معنى الآية : لا يضركم من كفر باللّه وحاد عن قصد السبيل من أهل الكتاب إذا اهتديتم أنتم. قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في أهل الكتاب. وقال ابن زيد : كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت وكان ينبغي لك أن تنصرهم وتفعل وتفعل فقال اللّه عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قال الطبري : وأولى هذه الأقوال وأصح التأويلات عندنا في هذه الآية ما روي عن أبي بكر الصديق وهو العمل بطاعة اللّه وأداء ما لزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم لأن اللّه تعالى يقول : وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ومن التعاون على البر والتقوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم حتى يرجع عن ظلمه.

وقال عبد اللّه بن المبارك : هذه الآية أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن اللّه تعالى قال : عليكم أنفسكم يعني أهل دينكم بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغبه في الخيرات وينفره عن القبائح والمكروهات والذي يؤكد ذلك أن معنى قوله : عليكم أنفسكم أي احفظوا أنفسكم وهذا أمر بأن نحفظ أنفسنا ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واللّه أعلم.

وقوله تعالى : إِلَى اللّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً يعني في الآخرة الطائع والعاصي والضال والمهتدي فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني فيخبركم بأعمالكم ويجزيكم عليها.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّه إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّه إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦)

١٠٦

قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ سبب نزول هذه الآية ما روي أن تميم بن أوس الداري ، وعدي بن بداء ، خرجا من المدينة في تجارة إلى الشام وهما نصرانيان ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلما فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه جميع ما معه من المتاع وألقاه في متاعه ولم يخبر صاحبيه بذلك فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله إذا رجعا إلى المدينة ومات بديل ، ففتشا متاعه ، فوجدا فيه إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فغيباه ، ثم إنهما قضيا حاجتهما وانصرفا إلى المدينة فدفعا المتاع إلى أهل البيت ففتشوه فأصابوا الصحيفة وفيها تسمية ما كان معه فجاء أهل الميت إلى تميم وعدي فقالوا : هل باع صاحبنا شيئا من متاعه قالا : لا. قالوا : فهل أتجر تجارة؟ قالا : لا.

قالوا : فهل طال مرضه فأنفق شيئا على نفسه قالا : لا. قالوا : إنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما كان معه وإنا فقدنا إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة قالا : لا ندري إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه وما لنا علم بالإناء فاختصموا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأصرا على الإنكار وحلفا فأنزل اللّه هذه الآية هذا قول المفسرين.

وروى الترمذي عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا

حضر أحدكم الموت قال تميم برىء الناس منها غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام بتجارتهما قبل الإسلام فأتيا إلى الشام بتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله قال تميم : ولما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي فلما أتينا أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقد الجام فسألونا عنه فقلنا ما ترك غير هذا ولا دفع إلينا غيره قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم على أهل دينه فحلف فأنزل اللّه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إلى قوله أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدي قال الترمذي : هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح.

وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه قال ابن عباس : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم وجدوا الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا باللّه لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم قال وفيهم نزلت هذه الآية : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وأخرج هذه الرواية الأخيرة البخاري في صحيحه فأما التفسير فقوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ يعني ليشهد ما بينكم لأن الشهادة إنما يحتاج إليها عند وقوع التنازع والتشاجر إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ يعني إذا قارب وقت حضور الموت حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ لفظه خبر ومعناه الأمر يعني ليشهد اثنان منكم عند حضور الموت وأردتم الوصية ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ يعني من أهل دينكم وملتكم يا معشر المؤمنين واختلفوا في هذين الاثنين فقيل هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي

وقيل هما الوصيان لأن الآية نزلت فيهما ولأنه قال تعالى :

فَيُقْسِمانِ بِاللّه والشاهد لا يلزمه يمين وجعل الوصي اثنين تأكيدا فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور كقولك : شهدت وصية فلان بمعنى حضرت أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ يعني من غير أهل دينكم وملتكم وهذا قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن جبير والنخعي والشعبي وابن سيرين وابن شريح وأكثر المفسرين.

وقيل : معناه من غير عشيرتكم وقبيلتكم وهم مسلمون. واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال إبراهيم النخعي وجماعة : هي منسوخة كانت شهادة أهل الذمة مقبولة في الابتداء ثم نسخت بقوله تعالى :

وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ لأن إجماع الأمة على أن شهادة الفاسق لا تجوز فشهادة الكفار وأهل الذمة لا تجوز بطريق الأولى وذهب قوم إلى أنها ثابتة لم تنسخ وهو قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن جبير وابن سيرين وبه قال أحمد بن حنبل قالوا إذا لم يجد مسلمين يشهدان على وصيته وهو في أرض غربة فليشهد كافرين أو ذميين أو من أي دين كانا لأن هذا موضع ضرورة قال شريح : من كان بأرض غربة لم يجد مسلما يشهد وصيته فليشهد كافرين على أي دين كانا من أهل الكتاب أو من عبدة الأصنام فشهادتهم جائزة في هذا الموضع ولا تجوز شهادة كافر على مسلم بحال إلا على وصيته في سفر لا يجد فيه مسلما. عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه ولم يجد أحدا من المسلمين حضر يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال أبو موسى هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأحلفهما بعد العصر باللّه ما خانا ولا كذبا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وأنها لوصيته الرجل وتركته فأمضى شهادتهما أخرجه أبو داود. وقال قوم في قوله ذوا عدل منكم يعني من

عشيرتكم وحيكم أو آخران من غيركم من غير عشيرتكم وحيكم وأن الآية كلها في المسلمين وهذا قول الحسن والزهري وعكرمة وقالوا لا تجوز شهادة كافر في شيء من الأحكام وهذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة غير أن أبا حنيفة أجاز شهادة أهل الذمة فيما بينهم بعضهم على بعض واحتج من قال بأن هذه الآية محكمة بأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا وليس فيها منسوخ واحتج من أجاز شهادة غير المسلم في هذا الموضع بأن اللّه تعالى قال في أول الآية : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فعمّ بهذا الخطاب جميع المؤمنين ثم قال بعده ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ فعلم بذلك أنهما من غير المؤمنين ، ولأن الآية دالة على وجوب الحلف على هذين الشاهدين وأجمع المسلمون على أن الشاهد المسلم لا يجب عليه يمين ولأن الميت إذا كان في أرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته ضاع ماله وربما كان عليه ديون أو عنده وديعة فيضيع ذلك كله وإذا كان ذلك كذلك احتاج إلى إشهاد من حضر من أهل الذمة وغيرهم من الكفار حتى لا يضيع ماله وتنفذ وصيته فهذا كالمضطر الذي أبيح له أكل الميتة في حال الاضطرار والضرورات قد تبيح شيئا من المحظورات واحتج من منع ذلك بأن اللّه تعالى قال :

مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ والكفار ليسوا مرضيين ولا عدولا فشهادتهم غير مقبولة في حال من الأحوال.

وقوله تعالى : إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يعني : إن أنتم سافرتم في الأرض فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ يعني نزل بكم أسباب الموت فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليهما تَحْبِسُونَهُما يعني إن اتهمهما بعض الورثة وادعوا عليهما خيانة فالحكم فيه أن يوقفوهما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ يعني من بعد صلاة العصر لأن جميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويجتنبون فيه الحلف الكاذب

وقيل من بعد صلاة أهل دينهم لأنهما إذا كانا كافرين لا يحترمان صلاة العصر فَيُقْسِمانِ بِاللّه يعني فيحلفان باللّه.

قال الشافعي : الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزمان والمكان فيحلف بعد صلاة العصر إن كان بمكة بين الركن والمقام وإن كان بالمدينة فعند المنبر وإن كان في بيت المقدس فعند الصخرة وفي سائر البلاد في أشرف المساجد وأعظمها بها إِنِ ارْتَبْتُمْ يعني إن شككتم أيها الورثة في قول الشاهدين وصدقهما ، فحلّفوهما وهذا إذا كانا كافرين أما إذا كانا مسلمين فلا يمين عليهما لأن تحليف الشاهد المسلم غير مشروع لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً يعني لا نبيع عهد اللّه بشيء من الدنيا ولا نحلف باللّه كاذبين لأجل عوض نأخذه أو حق نجحده وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى يعني ولو كان المشهود له ذا قرابة منا وإنما خص القربى بالذكر لأن الميل إليهم أكثر من غيرهم وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّه إنما أضاف الشهادة إليه لأنه أمر بإقامتها ونهى عن كتمانها إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ يعني إن كتمنا الشهادة أو خنّا فيها ولما نزلت هذه الآية صلى صلى اللّه عليه وسلم العصر ودعا تميما وعديا وحلفهما عند المنبر باللّه الذي لا إله إلا هو أنهما لم يخونا شيئا مما دفع إليهما فحلفا على ذلك فخلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سبيلهما ثم ظهر الإناء من بعد ذلك قال ابن عباس وجد الإناء بمكة ، فقالوا : اشتريناه من تميم وعدي.

وقيل : لما طالت المدة أظهروه فبلغ ذلك بني سهم ، فأتوهما في ذلك ، فقالا : إنا كنا اشتريناه منه. فقالوا لهما : ألم تزعما أن صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه؟ قالا : لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر لكم به فكتمناه لذلك فرفعوهما إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم.

فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللّه لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّه وَاسْمَعُوا وَاللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)

١٠٧

١٠٨

فَإِنْ عُثِرَ يعني فإن اطلع وظهر والعثور الهجوم على أمر لم يهجم عليه غيره وكل من اطلع على أمر كان قد خفي عليه قيل له قد عثر عليه عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً يعني الوصيين ومعنى الآية فإن حصل العثور

والوقوف على أن الوصيين كانا استوجبا الإثم بسبب خيانتهما وأيمانهما الكاذبة فَآخَرانِ يعني من أولياء الميت وأقربائه يَقُومانِ مَقامَهُما يعني مقام الوصيين في اليمين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ يعني من الذين استحق عليهم الإثم وهم الورثة والمعنى إذا ظهرت خيانة الحالفين وبان كذبهما يقوم اثنان آخران من الذين جنى عليهم وهم أهل الميت وعشيرته الْأَوْلَيانِ يعني بأمر الميت وهم أهله وعشيرته فَيُقْسِمانِ بِاللّه يعني فيحلفان باللّه لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما يعني أيماننا أحق وأصدق من أيمانهما وَمَا اعْتَدَيْنا يعني في أيماننا وقولنا إن شهادتنا أحق من شهادتهما إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ولما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان لو وهما من أهل الميت وحلفا باللّه بعد العصر ودفع الإناء إليهما وإنما ردت اليمين على أولياء الميت لأن الوصيين ادعيا أن الميت باعهما الإناء وأنكر ورثة الميت ذلك ومثل هذا أن الوصي إذا أخذ شيء من مال الميت وقال : إنه أوصى له به وأنكر ذلك الورثة ردت اليمين عليه ولما أسلم تميم الداري بعد هذه القصة كان يقول صدق اللّه وصدق رسوله أنا أخذت الإناء فأنا أتوب إلى اللّه وأستغفره.

وقوله تعالى : ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها يعني ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين على أولياء الميت بعد أيمانهم أدنى ، أي : أجدر وأحرى أن يأتوا بالشهادة على وجهها يعني أن يأتي الوصيان وسائر للناس بالشهادة على وجهها فلا يخونوا فيها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أي وأقرب أن يخاف الوصيان أن ترد الأيمان على أولياء الميت فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا ويغرّموا فربما لا يحلفون كاذبين إذا خافوا هذه الحكم وَاتَّقُوا اللّه يعني وخافوا اللّه أن تحلفوا أيمانا كاذبة أو تخونوا أمانة وَاسْمَعُوا يعني المواعظ والزواجر

وقيل معناه واسمعوا سمع إجابة وَاللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ يعني : واللّه لا يرشد من كان على معصية وهذا تهديد وتخويف ووعيد لمن خالف حكم اللّه تعالى أو خان أمانته أو حلف أيمانا كاذبة وهذه الآية الكريمة من أصعب ما في القرآن من الآيات نظما وإعرابا وحكما واللّه أعلم بأسرار كتابه.

يَوْمَ يَجْمَعُ اللّه الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللّه يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠)

١٠٩

١١٠

قوله عز وجل : يَوْمَ يَجْمَعُ اللّه الرُّسُلَ قال الزجاج هي متصلة بما قبلها تقديرها : واتقوا اللّه يوم يجمع اللّه الرسل ،

وقيل : تقدير : واللّه لا يهدي القوم الفاسقين يوم يجمع اللّه الرسل. أي لا يهديهم إلى الجنة في ذلك اليوم وهو يوم القيامة

وقيل إنها منقطعة عما قبلها وتقديره اذكر يا محمد يوم يجمع اللّه الرسل ذلك يوم القيامة فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ يعني فيقول اللّه تبارك وتعالى للرسل ماذا أجابكم أممكم وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم في دار الدنيا إلى توحيدي وطاعتي وفائدة هذا السؤال توبيخ أمم الأنبياء الذين كذبوهم قالُوا يعني الرسل لا عِلْمَ لَنا قال ابن عباس : معناه لا علم لنا كعلمك فيهم لأنك تعلم ما أضمروا وما أظهروا ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا وأبلغ.

فعلى هذا القول ، إنما نفوا العلم عن أنفسهم وإن كانوا علماء لأن علمهم صار كلا علم عند علم اللّه.

وقال في رواية أخرى : معناه لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا وهذا القول قريب من الأول.

وقيل : معناه

لا علم لنا بوجه الحكمة عن سؤالك إيانا عن أمر أنت أعلم به منا.

وقيل : معناه لا حقيقة لعلمنا بعاقبة أمرهم لأنا كنا نعلم ما كان من أفعالهم وأقوالهم وقت حياتنا ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا ولا نعلم ما أحدثوا من بعدنا ومنه ما أخبر اللّه عن عيسى عليه السلام بقوله : (و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) ومنه ما روي عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (ليردن على الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا دوني فلأقولن أي رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) زاد في رواية (فأقول سحقا لمن بدل بعدي) أخرجاه في الصحيحين وقال جمع من المفسرين إن للقيامة أهوالا وزلازل تزول فيها القلوب عن مواضعها فيفزعون من هول ذلك ويذهلون عن الجواب ثم إذا ثابت إليهم عقولهم يشهدون على أممهم بالتبليغ.

وهذا فيه ضعف ونظر لأن اللّه تعالى قال في حق الأنبياء : (لا يحزنهم الفزع الأكبر) ، وذكر الإمام فخر الدين الرازي وجها آخر وهو أن الرسل عليهم السلام لما علموا أن اللّه تعالى عالم لا يجهل وحليم لا يسفه وعادل لا يظلم علموا أن قولهم لا يفيد خيرا ولا يدفع شرا فرأوا أن الأدب في السكوت وفي تفويض الأمر إلى اللّه تعالى وعدله فقالوا لا علم لنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعني إنك تعلم ما غاب عنا من بواطن الأمور ونحن نعلم ما نشاهد ولا نعلم ما في البواطن.

وقيل معناه إنك لا يخفى عليك ما عندنا من العلوم وأن الذي سألتنا عنه ليس بخاف عليك لأنك أنت علام الغيوب ومعناه العالم بأصناف المعلومات على تفاوتها ليس تخفى عليه خافية وبناء فعال بتاء التكثير ودلت الآية على جواز إطلاق العلام على اللّه تعالى كما يجوز إطلاق الخلاق عليه.

قوله عز وجل : إِذْ قالَ اللّه يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ قال بعضهم : إن إذ قال اللّه تعالى : يا عيسى صلة لما ذا أجبتم ولما كان المراد بقوله للرسل ما أجبتم توبيخ الأمم ومن تمرد منهم على اللّه وكان أشد الأمم احتياجا وافتقارا إلى التوبيخ والملامة النصارى الذين يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام ووجه ذلك أن جميع الأمم إنما كان طعنهم في أنبيائهم بالتكذيب لهم وطعن هؤلاء النصارى تعدي إلى جلال اللّه تعالى حيث وصفوه بما لا يليق بجلاله من اتخاذ الزوجة والولد. ذكر اللّه في هذه الآية أنواع نعمه على عيسى عليه السلام التي تدل على أنه عبد وليس بإله والفائدة في ذكر هذه الحكاية تنبيه النصارى على قبح مقالتهم وفساد اعتقادهم وتوكيد الحجة عليهم.

وقيل : فائدة ذلك إسماع الأمم يوم القيامة ما خص اللّه عيسى عليه السلام به من الكرامة.

وقيل :

موضع إذا رفع بالابتداء على القطع ومعناه اذكر إذ قال اللّه : يا عيسى وإنما خرج قوله : إذ قال اللّه على لفظ الماضي دون المستقبل لأنه ورد على سبيل حكاية الحال.

وقيل : تقديره إذ يقول اللّه يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك لفظه واحد والمراد به الجمع لأن اللّه تعالى عدد نعمه عليه في هذه الآية والمراد من ذكرها شكرها وَعَلى والِدَتِكَ يعني بنعمته على مريم عليها السلام أنه تعالى : أنبتها نباتا حسنا وطهرها واصطفاها على نساء العالمين.

ثم ذكر نعمه على عيسى عليه السلام

فقال تعالى : إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ يعني بجبريل عليه السلام لأن القدس هو اللّه تعالى وأضافه إليه على سبيل التشريف والتعظيم كإضافة بيت اللّه وناقة اللّه.

وقيل : أراد بروح القدس الروح المطهرة لأن الأرواح تختلف باختلاف الماهية فمنها روح طاهرة مقدسة نورانية ومنها روح خبيثة كدرة ظلمانية فخصّ اللّه عيسى بالروح المقدسة الطاهرة النورانية المشرفة تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ يعني تكلمهم طفلا في حال الصغر وَكَهْلًا يعني وفي حالة الكهولة من غير أن يتفاوت كلامك في هذين الوقتين وهذه معجزة عظيمة وخاصة شريفة ليست لأحد قبله. قال ابن عباس : أرسل اللّه عيسى عليه السلام وهو ابن ثلاثين سنة فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه اللّه إليه وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ يعني الكتابة وهي الخط والحكمة الفهم والاطلاع على أسرار العلوم وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أي وعلمتك التوراة التي أنزلتها على موسى والإنجيل الذي

أنزلته عليك وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي يعني وإذ تجعل وتصور من الطين كصورة الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها ذكر هنا فيها سورة آل عمران فيه يعني بالضمير في قوله فيها يعود إلى الهيئة بجعلها مصدرا كما يقع اسم الخلق على المخلوق وذلك لأن النفخ لا يكون في الهيئة إنما يكون في المهيأ وذي الهيئة ويجوز أن يعود الضمير إلى الطير لأنها مؤنثة قال اللّه تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ.

وأما الضمير المذكور في آل عمران في قوله فيه فيعود إلى الكاف يعني في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وإنما كرر قوله بإذني تأكيدا لكون ذلك الخلق واقعا بقدرة اللّه تعالى وتخليقه لا بقدرة عيسى عليه السلام وتخليقه لأن المخلوق لا يخلق شيئا إنما خالق الأشياء كلها هو اللّه تعالى لا خالق لها سواه وإنما كان الخلق لهذا الطير معجزة لعيسى عليه السلام أكرمه اللّه تعالى بها وكذا

قوله تعالى : وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي يعني وتشفي الأكمه وهو الأعمى المطموس البصر والأبرص معروف ظاهر وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى يعني من قبورهم أحياء بِإِذْنِي تفعل ذلك كله بدعائك والفاعل لهذه الأشياء كلها في الحقيقة هو اللّه تعالى لأنه هو المبرئ للأكمه والأبرص وهو محيي الموتى وهو على كل شيء قدير وإنما كانت هذه الأشياء معجزات لعيسى عليه السلام ووقعت بإذن اللّه تعالى وقدرته.

وقوله تعالى : وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ يعني واذكر نعمتي عليك إذ كففت وصرفت عنك اليهود ومنعتك منهم حين أرادوا قتلك إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني بالدلالات الواضحات والمعجزات الباهرات التي ذكرت في هذه الآية وذلك أن عيسى عليه السلام لما أتى بهذه المعجزات العجيبة الباهرة قصد اليهود قتله فخلصه اللّه منهم ورفعه إلى السماء فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ يعني فقال الذين استمروا على كفرهم من اليهود ولم يؤمنوا بهذه المعجزات إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يعني ما جاءهم به عيسى عليه السلام من المعجزات.

وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللّه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢)

١١١

١١٢

قوله عز وجل : وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ يعني ألهمتهم وقذفت في قلوبهم فهو وحي إلهام كما أوحى إلى أم موسى وإلى النحل والحواريون هم أصحاب عيسى وخواصه أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي يعني عيسى عليه السلام قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ لما وفقهم اللّه للإيمان ، قالوا : آمنا. وإنما قدم ذكر الإيمان على الإسلام ، لأن الإيمان من أعمال القلوب والإسلام هو الانقياد والخضوع في الظاهر والمعنى أنهم آمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم.

قوله تعالى : إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قال المفسرون : هذا على المجاز ولا يجوز لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكّوا في قدرة اللّه تعالى لكنه كما يقول الرجل لصاحبه هل تستطيع أن تقوم معي؟ مع علمه بأنه يقدر على القيام وإنما قصد بقوله هل تستطيع هل يسهل عليك وهل يخف أن تقوم معي فكذلك. معنى الآية : لأن الحواريين كانوا مؤمنين عارفين باللّه عز وجل ومعترفين بكمال قدرته وإنما قالوا ذلك ليحصل لهم مزيد الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام ولكن ليطمئن قلبي. ولا شك أن مشاهدة هذه الآية العظيمة تورث مزيد الطمأنينة في القلب ولهذا السبب قالوا وتطمئن قلوبنا وقال بعضهم هو على ظاهره. وقال : غلط القوم وقالوا ذلك قبل استحكام الإيمان والمعرفة في قلوبهم وكانوا بشرا فقالوا هذه المقالة فرد اللّه عليهم عند غلطهم بقوله : اتَّقُوا اللّه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني اتقوا اللّه إن كنتم مؤمنين يعني اتقوا اللّه أن تشكوا في قدرة اللّه عز وجل و

القول الأول أصح

وقيل في معنى الآية : هل يقبل ربك دعاءك ويعطيك بإجابة

دعائك وسؤالك إنزال المائدة ، فقد ورد في الآثار : من أطاع اللّه أطاعه كل شيء أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ المائدة الخوان الذي عليه الطعام ولا يسمى مائدة إن لم يكن عليه طعام إنما يقال خوان أو طبق وأصلها من ماد يميد إذا تحرك كأنها تميد بما عليها من الطعام قالَ يعني عيسى مجيبا للحواريين اتَّقُوا اللّه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني اتقوا اللّه في هذا السؤال إن كنتم مؤمنين لأنه سؤال تعنت

وقيل : أمرهم بالتقوى ليحصل لهم هذا السؤال ومعنى إن كنتم مؤمنين مصدقين فلا تشكوا في قدرة اللّه تعالى

وقيل معناه اتقوا اللّه أن تسألوا شيئا لم يسأله أحد من الأمم قبلكم فنهاهم عن اقتراح الآية بعد الإيمان.

قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللّه إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)

١١٣

١١٤

١١٥

قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها يعني : قال الحواريون مجيبين لعيسى عليه السلام إنما نطلب نزول المائدة علينا لأن نأكل منها فإن الجوع قد غلب علينا.

وقيل : معناه نريد أن نأكل منها للتبرك بها لا أكل حاجة وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا يعني وتسكن قلوبنا ونستيقن قدرة اللّه تعالى لأنا ، وإن علمنا قدرة اللّه بالدليل ، فإذا شاهدنا نزول المائدة ازداد اليقين وقويت الطمأنينة وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا يعني : ونزداد إيمانا ويقينا بأنك رسول اللّه وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ يعني للّه بالوحدانية ولك بالرسالة والنبوة.

وقيل : معناه ونكون لك عليها من الشاهدين عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم ، فلما قالوا ذلك ، أمرهم عيسى أن يصوموا ثلاثين يوما وقال لهم : إنكم إذا صمتم ذلك وأفطرتم فلا تسألون اللّه شيئا إلا أعطاكم ، ففعلوا ذلك وسألوا نزول المائدة فعند ذلك قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهمَّ قيل : إنه اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وبكى ثم دعا فقال اللّهم رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا يعني عائدة من اللّه علينا وحجة وبرهانا والعيد يوم السرور وأصله من عاد يعود إذا رجع والمعنى نتخذ ذلك اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيدا لعظمه ونصلي فيه نحن ومن يجيء من بعدنا فنزلت في يوم الأحد فاتخذه النصارى عيدا.

وقال ابن عباس : معناه يأكل منها أول الناس كما يأكل آخرهم وَآيَةً مِنْكَ أي وتكون المائدة دلالة على قدرتك دلالة على قدرتك ووحدانيتك وحجة بصدق رسولك وَارْزُقْنا أي ارزقنا ذلك من عندك

وقيل : ارزقنا الشكر على هذه النعمة وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ يعني وأنت خير من تفضل ورزق قالَ اللّه عز وجل مجيبا لعيسى إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ يعني المائدة فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ يعني بعد نزول المائدة فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً يعني جنسا من العذاب لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ يعني من عالمي زمانهم فجحدوا وكفروا بعد نزول المائدة فمسخوا خنازير. قال الزجاج : ويجوز أن يكون هذا العذاب معجلا في الدنيا ويجوز أن يكون مؤخرا إلى الآخرة. قال عبد اللّه بن عمر : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون. واختلف العلماء في نزول المائدة فقال الحسن ومجاهد :

لم تنزل المائدة لأن اللّه لما أوعدهم على كفرهم بالعذاب بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم فاستعفوا وقالوا : لا نريدها فلم تنزل عليهم فعلى هذا القول يكون معنى

قوله تعالى : إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ إن سألتم نزولها والصحيح الذي عليه جمهور العلماء والمفسرين أنها نزلت لأن اللّه تعالى قال : إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ وهذا وعد من اللّه بإنزالها ولا خلف في خبره ووعده ولما روي عن عمار بن ياسر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد ، فمسخوا قردة وخنازير

أخرجه الترمذي. وقال قد روي عن عمار من غير طريق موقوفا وهو أصح. وقال ابن عباس : إن عيسى عليه السلام قال لهم : صوموا ثلاثين يوما ثم اسألوا اللّه ما شئتم يعطيكموه فصاموا فلما فرغوا قالوا يا عيسى إنا لو عملنا عملا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا وسألوا المائدة فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. وقال سليمان الفارسي : لما سأل الحواريون المائدة لبس عيسى صوفا وبكى وقال : اللّهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء الآية ، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهي تهوي إليهم منقضّة حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه السلام وقال : اللّهم اجعلني من الشاكرين اللّهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة واليهود ينظرون إلى شيء لم ينظروا مثله ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه فقال عيسى عليه السلام ليقم أحسنكم عملا فليكشف عنها ويسمّ اللّه. فقال شمعون الصفار رأس الحواريين : أنت أولى بذلك منا. فقام عيسى عليه السلام فتوضأ وصلى صلاة طويلة وبكى بكاء كثيرا ثم كشف المنديل عنها وقال بسم اللّه خير الرازقين ، فإذا هو بسمكة مشوية ليس فيها شوك ولا عليها فلوس تسيل من الدسم وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد. فقال شمعون : يا روح اللّه أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال عيسى : ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الجنة ولكنه شيء اخترعه اللّه بقدرته العالية. كلوا مما سألتم واشكروا يمددكم ويزدكم من فضله.

فقالوا : يا روح اللّه كن أول من يأكل منها فقال عيسى : معاذ اللّه أن آكل منها يأكل منها من سألها ، فخافوا أن يأكلوا منها فدعا لها أهل الفاقة والمرض والبرص والجذام والمقعدين فقال : كلوا من رزق اللّه لكم الشفاء ولغيركم البلاء ، فأكلوا منها وهم ألف وثلاثمائة رجل وامرأة من فقير ومريض وزمن ومبتلى وصدروا عنها وهم شباع ، وإذا السمكة بحالها حين أنزلت ثم طارت المائدة صعودا وهم ينظرون إليها حتى توارت ولم يأكل منها مريض أو زمن أو مبتلى إلا عوفي ولا فقير إلا استغنى. وندم من لم يأكل منها.

وقيل : مكثت أربعين صباحا تنزل ضحى فإذا نزلت اجتمع إليها الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء يأكلون منها ولا تزال منصوبة يؤكل منها حتى يفيء الفيء ، فإذا فاء الفيء ، طارت وهم ينظرون إليها حتى تتوارى عنهم وكانت تنزل غبا يوما ويوما لا تنزل فأوحى اللّه عز وجل إلى عيسى عليه السلام اجعل مائدتي ورزقي للفقراء دون الأغنياء فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكوا وشككوا الناس فيها وقالوا : ترون المائدة حقا تنزل من السماء ، فأوحى اللّه عز وجل إلى عيسى عليه السلام إني شرطت أن من كفر بعد نزولها عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فقال عيسى عليه السلام عند ذلك (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) فمسخ اللّه منهم ثلاثمائة وثلاثين رجلا باتوا ليلتهم مع نسائهم على فرشهم ثم أصبحوا خنازير يسعون في الطرق يأكلون العذرة من الكناسات والحشوش فلما رأى الناس ذلك فزعموا إلى عيسى عليه السلام وبكوا ولما أبصرت الخنزير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطيف به وجعل عيسى عليه السلام يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برءوسهم ولا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا. وقال كعب : أنزلت المائدة منكوسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل شيء إلا اللحم وقال ابن عباس : أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم. وقال الكلبي : كان عليها خبز بر وبقل. وقال وهب بن منبه : أنزل اللّه أقرصة من شعير وحيتانا فكان القوم يأكلون ويخرجون ثم يجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوا بأجمعهم وفضل. وقال قتادة : كانت تنزل عليهم بكرة وعشيا حيث كانوا كالمن والسلوى لبني إسرائيل.

وقال الكلبي ومقاتل : أنزل اللّه سمكا وخمسة أرغفة فأكلوا منها ما شاء اللّه والناس ألف ونيف فلما رجعوا إلى قراهم ونشروا الحديث ضحك من لم يشهد منهم وقالوا ويحكم إنما سحر أعينكم فمن أراد اللّه به خيرا ثبته ومن أراد فتنته رجع إلى كفره فمسخوا خنازير وليس فيهم

صبي ولا امرأة فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يتوالدوا ولم يأكلوا ولم يشربوا وكذلك كل ممسوخ.

وَإِذْ قالَ اللّه يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّه قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦)

١١٦

قوله عز وجل : وَإِذْ قالَ اللّه يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّه الآية اختلف المفسرون في وقت هذا القول فقال السدي : قال اللّه لعيسى هذا القول حين رفعه إلى السماء بدليل أن حرف إذ يكون للماضي وقال سائر المفسرين : إنما يقول اللّه له هذا القول يوم القيامة بدليل قوله : يَوْمَ يَجْمَعُ اللّه الرُّسُلَ وذلك يوم القيامة وبدليل قوله هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ وذلك يوم القيامة وأجيب عن حرف إذ بأنها قد تجيء بمعنى إذا كقوله وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا يعني إذ فزعوا وقال الراجز ثم جزاك اللّه عني إذا جزى.

جنات عدن في السموات العلى ولفظ الآية في قوله : أأنت قلت للناس لفظ استفهام ومعناه الإنكار والتوبيخ لمن ادعى ذلك على عيسى عليه السلام من النصارى ، لأن عيسى عليه السلام لم يقل هذه المقالة ،

فإن قلت إذا كان عيسى عليه السلام لم يقلها فما وجه هذا السؤال له مع علم اللّه بأنه لم يقله؟

قلت : وجه هذا السؤال تثبيت الحجة على قومه وإكذاب لهم في ادعائهم ذلك عليه وأنه أمرهم به فهو كما يقول القائل لآخر : أفعلت كذا؟ وهو يعلم أنه لم يفعله وإنما أراد تعظيم ذلك الفعل فنفى عن نفسه هذه المقالة. وقال : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا اللّه ربي وربكم فاعترف بالعبودية وأنه ليس بإله كما زعمت وادعت فيه النصارى

فإن قلت إن النصارى لم يقولوا بإلهية مريم ، فكيف قال : اتخذوني وأمي إلهين من دون اللّه قلت إن النصارى لما ادعت في عيسى أنه إله ورأوا أن مريم ولدته لزمهم بهذه المقالة على سبيل التبعية

وقوله تعالى إخبارا عن عيسى عليه السلام قالَ سُبْحانَكَ يعني تنزيها لك عن النقائص وبراءة لك من العيوب قال أبو روق إذا سمع عيسى عليه السلام قالَ سُبْحانَكَ يعني تنزيها لك عن النقائص وبراءة لك من العيوب قال أبو روق إذا سمع عيسى عليه السلام هذا الخطاب وهو قوله : أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِيوَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّه

ارتعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة من جسده عين من دم وقال مجيبا للّه تعالى سبحانك ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أي كيف أقول هذا الكلام ولست بأهل ولست أستحق العبادة حتى ادعو الناس إليها ولما بيّن أنه ليس له أن يقول هذه المقالة وهذا المقام مقام التواضع والخشوع لعظمة اللّه تعالى شرع في بيان هل وقع ذلك منه أم لا؟ فقال : إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ أسند العلم إلى اللّه تعالى وهذا هو غاية الأدب وإظهار المسكنة لعظمة اللّه تعالى وتفويض الأمر إلى علمه ثم قال تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ يعني تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم وقال ابن عباس تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك

وقيل معناه تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي

وقيل معناه تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة

وقيل معناه تعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل والنفس عبارة عن ذات الشيء يقال نفس الشيء وذاته بمعنى واحد. وقال الزجاج : النفس عبارة عن جملة الشيء وحقيقته يقال تعلم جميع حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك.

وقيل : معناه تعلم معلومي ولا أعلم معلومك وإنما ذكر هذا الكلام على طريقة المشاكلة والمطابقة وهو من فصيح الكلام ثم قال : إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعني أنك تعلم ما كان وما سيكون وهذا تأكيد لما تقدم من قوله تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك.

ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّه رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)

١١٧

١١٨

قوله تعالى إخبارا عن عيسى ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ يعني ما قلت لهم إلا قولا أمرتني به أَنِ اعْبُدُوا اللّه يعني قلت لهم اعبدوا اللّه رَبِّي وَرَبَّكُمْ يعني وحده ولا تشركوا به شيئا وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ يعني وكنت أشهد ما يفعلون وأحصره ما دمت مقيما فيهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي يعني فلما رفعتني إلى السماء فالمراد به وفاة الرفع لا الموت كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ يعني الحفيظ عليهم المراقب لأعمالهم وأحوالهم والرقيب الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يعني أنت شهدت مقالتي التي قلتها لهم وأنت الشهيد عليهم بعد ما رفعتني إليك لا تخفى عليك خافية فعلى هذا الشهيد هنا بمعنى الشاهد لما كان وما يكون أن يجوز أن يكون الشهيد هنا بمعنى العليم يعني أنت العالم بكل شيء فلا يعزب عن علمك شيء.

قوله عز وجل إخبارا عن عيسى عليه السلام إِنْ تُعَذِّبْهُمْ يعني إن تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة بأن تميتهم على كفرهم فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ لا يقدرون على دفع ضر نزل بهم ولا جلب نفع لأنفسهم وأنت العادل فيهم لأنك أوضحت لهم طريق الحق فرجعوا عنه وكفروا وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ يعني لمن تاب من كفره منهم بأن تهديه إلى الإيمان فإن ذلك بفضلك ورحمتك فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ يعني في الانتقام ممن تريد الانتقام منه لا يمتنع عليك ما تريده الْحَكِيمُ في أفعالك كلها وهذا التفسير إنما يصح على قول السدي لأنه قال كان سؤال اللّه عز وجل لعيسى عليه السلام حين رفعه إلى السماء قبل يوم القيامة. أما على قول جمهور المفسرين إن هذا السؤال إنما يقع يوم القيامة ففي قوله وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إشكال وهو أنه يليق بعيسى عليه السلام طلب المغفرة لهم مع علمه بأن اللّه تعالى لا يغفر لمن يموت على الشرك والجواب عن هذا الإشكال من وجوه

أحدها أنه ليس هذا على طريق طلب المغفرة ولو كان كذلك لقال فإنك أنت الغفور الرحيم ولكنه على تسليم الأمر إلى اللّه وتفويضه إلى مراده فيهم لأنه العزيز في ملكه الحكيم في فعله ويجوز في حكمته وسعة مغفرته ورحمته أن يغفر للكفار ، لكنه تعالى أخبر أنه لا يفعل ذلك بقوله إِنَّ اللّه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ

الوجه الثاني : قيل معناه أن تعذبهم يعني إقامتهم على كفرهم إلى الموت وإن تغفر لهم يعني لمن آمن منهم وتاب ورجع عن كفره ،

الوجه الثالث : قال ابن الأنباري : لما قال اللّه لعيسى أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّه.

لم يقع لعيسى إلا أن النصارى حكت عنه الكذب لأنه لم يقل ذلك وقول الكذب ذنب فيجوز أن يسأل له المغفرة واللّه أعلم بمراده وأسرار كتابه

(م) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن النبي صلى اللّه عليه وسلم تلا قول اللّه عز وجل في إبراهيم رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي الآية وقول عيسى : إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فرفع يديه وقال اللّهم أمتي أمتي فبكى فقال اللّه تعالى : يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فاسأله ما يبكيك ، فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك. عن أبي ذر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قام حتى أصبح بآية والآية إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أخرجه النسائي

قوله عز وجل :

قالَ اللّه هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) للّه مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)

١١٩

١٢٠

قالَ اللّه هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ اتفق جمهور العلماء على أن المراد بهذا اليوم يوم القيامة

والمعنى أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في الآخرة لأنه يوم الإثابة والجزاء وما تقدم من صدقهم في الدنيا يتبين نفعه يوم القيامة والمراد بالصادقين النبيون والمؤمنون لأن الكفار لا ينفعهم صدقهم يوم القيامة. قال قتادة : متكلمان لا يخطئان يوم القيامة عيسى عليه السلام لأنه يقوم فيقول ما قص اللّه عنه ما قلت لهم إلا ما أمرتني به الآية فكان صادقا في الدنيا والآخرة فينفعه صدقه.

وأما المتكلم الآخر فإبليس فإنه يقوم فيقول وقال الشيطان لما قضى الأمر الآية فصدق عدو اللّه فيما قال ولم ينفعه صدقه. وقال عطاء هو يوم من أيام الدنيا لأن الآخرة دار جزاء لا دار عمل وذهب في هذا القول إلى ظاهر الآية من أن الصدق النافع إنما يكون في الدنيا وهذا القول موافق لمذهب السدي حيث يقول إن هذه المخاطبة جرت مع عيسى عليه السلام حين رفع إلى السماء ، والوجه ما ذهب إليه الجمهور ثم ذكر اللّه تعالى ما لهم من الثواب على صدقهم

فقال تعالى : لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً فهذا إشارة إلى ما يحصل من الثواب الدائم الذي لا انقطاع له ولا انتهاء رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ يعني بطاعتهم لهم وَرَضُوا عَنْهُ يعني بما أعطاهم من ثوابه وجزيل كرامته ذلِكَ إشارة إلى ما ذكره من ثوابهم الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني أنهم فازوا بالجنة وبرضوانه عنهم ونجوا من النار للّه مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ عظم اللّه عز وجل نفسه عما قال فيه النصارى يعني ، أن الذي له ملك السموات والأرض هو الذي يستحق الإلهية لا ما قالت النصارى من إلهة المسيح وأمه لأنهما جملة من في السموات والأرض فهما عبيده وفي ملكه.

وقيل :

هو جواب السؤال مضمر في الكلام كأنه لما وعد الصادقين بالثواب العظيم قيل من يعطيهم ذلك قال الذي له ملك السموات والأرض ومن فيهن وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ واللّه سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

﴿ ٠