٨٠٨١٨٢قوله عز وجل : تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يعني من اليهود مثل كعب بن الأشرف وأصحابه يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني : يوالون المشركين من أهل مكة وذلك حين خرجوا إليهم ليجيشوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقال ابن عباس : معناه ترى كثيرا من المنافقين يتولون اليهود لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ يعني بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة أَنْ سَخِطَ اللّه عَلَيْهِمْ يعني بما فعلوا من موالاة الكفار وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ يعني في الآخرة أَنْ سَخِطَ اللّه عَلَيْهِمْ يعني بما فعلوا من موالاة الكفار وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ يعني في الآخرة وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالنَّبِيِّ يعني ولو كان هؤلاء الذين يتولون الكفار يؤمنون باللّه ويصدقون بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وأنه نبي مبعوث إلى كافة الخلق وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ يعني ويؤمنون بالقرآن الذي أنزل إليه من ربه مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ يعني ولكن أكثرهم خارجون عن طاعة اللّه وأمره وإنما قال كثيرا لأنه علم أن منهم من سيؤمن مثل عبد اللّه بن سلام وأصحابه. قوله تعالى : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا اللام في قوله لتجدن لام القسم تقديره واللّه يا محمد إنك لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا بك وصدقوك اليهود والذين أشركوا ووصف اللّه شدة عداوة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق وجعلهم قرناء المشركين عبدة الأصنام في العداوة للمؤمنين وذلك حسدا منهم للمؤمنين وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ووصف لين عريكة النصارى وسهولة قبولهم الحق. قال بعضهم : مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر والأذى إلى من خالفهم في الدين بأي طريق كان مثل القتل ونهب المال بأنواع المكر والكيد والحيل ، ومذهب النصارى خلاف اليهود ، فإن الإيذاء في مذهبهم حرام ، فحصل الفرق بين اليهود والنصارى. وقيل : إن اليهود مخصوصون بالحرص الشديد على الدنيا وطلب الرياسة ومن كان كذلك كان شديد العداوة لغيره. وأما النصارى ، فإن فيهم من هو معرض عن الدنيا ولذتها وترك طلب الرياسة ومن كان كذلك فإنه لا يحسد أحدا ولا يعاديه بل يكون لين العريكة في طلب الحق لهذا قال تعالى : ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ يعني من النصارى قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ولم يرد به كل النصارى فإن معظم النصارى في عداوة المسلمين كاليهود بل الآية نزلت فيمن آمن من النصارى مثل النجاشي وأصحابه. والقس والقسيس : اسم رئيس النصارى والجمع قسيسون. وقال قطرب : القس والقسيس العالم بلغة الروم. وهذا مما وقع الوفاق بين اللغتين يعني العربية والرومية. وأما الرهبان ، فهو جمع راهب. وقيل : الرهبان واحد وجمعه رهابين وهم سكان الصوامع. فإن قلت : كيف مدحهم اللّه بذلك مع قوله وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها قلت : إنما مدحهم اللّه في مقابلة ذم اليهود ووصفهم بشدة العداوة للمؤمنين ولا يلزم من هذا القدر أن يكون مدحا على الإطلاق. وقيل : إنما مدح من آمن منهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فوصفهم بالتمسك بدين عيسى إلى أن بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فآمنوا به واتبعوه فإن قلت : كفر النصارى أشد وأغلظ من كفر اليهود وأقبح فإن النصارى ينازعون في الإلهيات فيدعون أن للّه ولدا واليهود ينازعون في النبوات فيقرون ببعض النبيين وينكرون بعضهم والأول أقبح فلم ذم اليهود ومدح النصارى؟ قلت : إنما هو مدح في مقابلة ذم وليس بمدح على الإطلاق وقد تقدم الفرق بين شدة عداوة اليهود ولين النصارى فلذلك ذم اليهود ومدح النصارى الذين آمنوا منهم. واختلف العلماء في من نزلت هذه الآية فقيل نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة وأصحابه الذين أسلموا معه. (ذكر قصة الهجرة الأولى وسبب نزول هذه) قال ابن عباس وغيره من المفسرين في قوله وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى : إن قريشا ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم فأذوهم وعذبوهم فافتتن من افتتن منهم وعصم اللّه من شاء منهم ومنع اللّه رسوله محمدا صلى اللّه عليه وسلم بعمه أبي طالب ، فلما رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما نزل بأصحابه ولم يقدر أن يمنعهم من المشركين ولم يؤمر بعد بالجهاد ، أمر أصحابه بالخروج إلى أرض الحبشة ، وقال : إن بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا إليه حتى يجعل اللّه للمسلمين فرجا فخرج إليها أحد عشر رجلا وأربع نسوة سرا وهم : عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، والزبير بن العوام وعبد اللّه بن مسعود ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو حذيفة بن عقبة وامرأته سهلة بنت سهل بن عمرو ، ومصعب بن عمير ، وأبو سلمة بن عبد الأسد وزوجته أم سلمة بنت أمية ، وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة ، وحاطب بن عمرو وسهيل بن بيضاء ، فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة بنصف دينار إلى أرض الحبشة وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وهذه الهجرة الأولى. ثم خرج بعدهم جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون فكان جميع من هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان ، فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وجماعة بهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردهم إليهم ، فدخل إليه عمرو وقال له : أيها الملك إنه قد خرج فينا رجل سفّه عقول قريش وأحلامها وزعم أنه نبي وأنه قد بعث إليك برهط من أصحابه ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم وأن قومهم يسألونك أن تردهم إليهم. فقال : حتى نسألهم فأمر بهم فأحضروا فلما أتوا باب النجاشي قالوا : يستأذن أولياء اللّه. فقال : ائذنوا لهم فمرحبا بأولياء اللّه. فلما دخلوا عليه سلموا ، فقال الرهط من المشركين : أيها الملك ألا ترى أنا قد صدقناك إنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها؟ فقال لهم الملك : ما منعكم أن تحيوني بتحيتي؟ فقالوا له : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة. فقال لهم النجاشي : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ فقال جعفر بن أبي طالب : يقول هو عبد اللّه ورسوله وكلمة اللّه وروح منه ألقاها إلى مريم العذراء ، ويقول في مريم إنها العذراء البتول. قال : فأخذ النجاشي عودا من الأرض وقال : واللّه ما زال صاحبكم على ما قال عيسى قدر هذا العود. فكره المشركون قوله وتغيرت وجوههم. فقال : هل تعرفون شيئا مما أنزل على صاحبكم؟ قالوا : نعم. قال : اقرءوا ، فقرأ جعفر سورة مريم وهنالك قسيسون ورهبان وسائر النصارى فعرفوا ما قرأ فانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق فأنزل اللّه فيهم ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ إلى آخر الآيتين فقال النجاشي لجعفر وأصحابه اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يعني أنكم آمنون فرجع عمرو وأصحابه خائبين وأقام المسلمون عند النجاشي بخير دار وخير جوار إلى أن هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة وعلا أمره وقهر أعداءه وذلك في سنة ست من الهجرة وكتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت قد هاجرت مع زوجها ومات عنها فأرسل النجاشي جارية يقال لها أبرهة إلى أم حبيبة يخبرها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد خطبها فسرت بذلك وأعطت الجارية أوضاحا كانت لها وأذنت لخالد بن سعيد في نكاحها فأنكحا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على صداق مبلغه أربعمائة دينار وكان الخاطب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم النجاشي فأرسل إليها بجميع الصداق على يد جاريته أبرهة فلما جاءتها بالدنانير وهبتها منها خمسين دينار فلم تأخذها. وقالت : إن الملك أمرني أن لا أخذ منك شيئا. وقالت : أنا صاحبة دهن الملك وثيابه وقد صدقت بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وآمنت به وحاجتي إليك أن تقرئيه مني السلام. قالت : نعم. فقالت قد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من دهن وعود وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يراه عندها فلا ينكره. قالت أم حبيبة : فخرجنا إلى المدينة ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحاصر خيبر فخرج من خرج إليه ممن قدم من الحبشة وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكان يسألني عن النجاشي وقرأت عليه السلام من أبرهة جارية الملك فرد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليها السلام وأنزل اللّه عز وجل : عَسَى اللّه أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً يعني أبا سفيان وذلك بتزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أم حبيبة ولما بلغ أبا سفيان أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تزوج أم حبيبة قال ذلك الفحل لا يجدع أنفه. وبعث النجاشي بعد خروج جعفر وأصحابه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ابنه أزهى في ستين رجلا من أصحابه وكتب إليه يا رسول اللّه إني أشهد أنك رسول اللّه صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك جعفرا وأسلمت للّه رب العالمين وقد بعثت إليك ابني أزهى وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت والسلام عليك يا رسول اللّه. فركبوا في سفينة قي أثر جعفر حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا ووافى جعفر وأصحابه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بخير ووافى مع جعفر سبعون رجلا عليهم ثياب الصوف منهم اثنان وستون رجلا من الحبشة وثمانية من الشام فقرأ عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يس إلى آخرها فبكى القوم حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام فأنزل اللّه هذه الآية فيهم وهي قول : وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى يعني : وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر وهم السبعون وكانوا من أصحاب الصوامع. وقيل : نزلت في ثمانين رجلا أربعين من نصارى نجران من بني الحرث بن كعب واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية روميين من أهل الشام. وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق بما جاء به عيسى عليه السلام فلما بعث محمد صلى اللّه عليه وسلم آمنوا به وصدقوه فأثنى اللّه عليهم بقوله : وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يعني لا يتعظمون عن الإيمان والإذعان للحق. وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللّه وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللّه بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّه لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) |
﴿ ٨٢ ﴾