سورة الأنعام

(فصل في ذكر نزولها) روى مجاهد عن ابن عباس أن سورة الأنعام مما نزل بمكة وهذا قول الحسن وقتادة وجابر بن زيد.

وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : نزلت سورة الأنعام جملة ليلا بمكة وحولها سبعون ألف ملك وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : هي مكية نزلت جملة واحدة نزلت ليلا وكتبوها من ليلتهم غير ست آيات منها فإنها مدنيات وهي

قوله تعالى : قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى آخر الثلاث آيات

وقوله تعالى : وَما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ الآية

وقوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّه كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ إلى آخر الآيتين وذكر مقاتل نحو هذا وزاد آيتين وهما

قوله تعالى : وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ الآية

وقوله تعالى : الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الآية وروي عن ابن عباس أيضا وقتادة أنهما قالا : هي مكية إلا آيتين نزلتا بالمدينة قوله وَما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ

وقوله : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ الآية ولما نزلت سورة الأنعام ومعها سبعون ألف ملك قد سدوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتحميد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم (سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم وخرّ ساجدا) قال البغوي وروي عنه مرفوعا من قرأ سورة الأنعام صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره وذكره بغير سند واللّه سبحانه وتعالى أعلم.

بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ للّه الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)

١

قوله عز وجل : الْحَمْدُ للّه الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قال كعب الأحبار : هذه الآية أول آية في التوراة وآخر آية في التوراة

قوله تعالى : وَقُلِ الْحَمْدُ للّه الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الآية

وفي رواية عنه أن آخر آية في التوراة آخر سورة هود قال ابن عباس : افتتح اللّه الخلق بالحمد فقال الحمد للّه الذي خلق السموات والأرض وختمه بالحمد

فقال تعالى : وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ

وَقِيلَ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعالَمِينَ وفي قوله : الحمد للّه ، تعليم لعباده كيف يحمدونه أي : قولوا الحمد للّه. وقال أهل المعاني لفظه خبر ومعناه الأمر أي احمدوا اللّه وإنما جاء على صيغة الخبر وفيه معنى الأمر لأنه أبلغ من البيان من حيث إنه جمع الأمرين ولو قيل احمدوا اللّه لم يجمع الأمرين فكان قوله الحمد للّه أبلغ وقد تقدم معنى الحمد في تفسير سورة فاتحة الكتاب بما فيه مقنع الذي خلق السموات والأرض أي احمدوا اللّه خلق السموات والأرض وإنما خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد لأن السماء بغير عمد ترونها وفيها العبر والمنافع والأرض مسكن الخلق وفيها أيضا العبر والمنافع وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ الجعل هنا بمعنى الخلق أي وخلق الظلمات والنور. قال السدي : يريد بالظلمات ، ظلمات الليل والنهار ، وبالنور ، نور النهار. وقال الحسن : يعني بالظلمات الكفر وبالنور الإيمان.

وقيل : يعني بالظلمات

الجهل وبالنور العلم.

وقيل : الجنة والنار. وقال قتادة : خلق اللّه السموات قبل الأرض وخلق الظلمات قبل النور وخلق الجنة قبل النار.

روي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : (إن اللّه خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه ضل) ذكره البغوي بغير سند ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يعني والذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يشركون وأصل العدل ، مساواة الشيء بالشيء. والمعنى : أنهم يعدلون باللّه غير اللّه ويجعلون له عديلا من خلقه فيعبدون الحجارة مع إقرارهم بأن اللّه خلق السموات والأرض.

وقال النضر بن شميل : الباء في قوله بربهم بمعنى عن أي عن ربهم يعدلون وينحرفون من العدول عن الشيء

وقيل دخول ثم في قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون دليل على معنى لطيف وهو أنه تعالى دل به على إنكاره على الكفار العدل به وعلى تعجيب المؤمنين من ذلك ومثال ذلك : أن تقول لرجل أكرمتك وأحسنت إليك وأنت تنكرني وتجحد إحساني إليك فتقول ذلك منكرا عليه ومتعجبا من فعله

قوله تعالى :

٢

٣

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللّه فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣)

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ يعني أنه تعالى خلق آدم من طين وإنما خاطب ذريته بذلك لأنه أصلهم وهم من نسله وذلك لما أنكر المشركون البعث وقالوا من يحيي العظام وهي رميم أعلمهم بهذه الآية أنه خلقهم من طين وهو القادر على إعادة خلقهم وبعثهم بعد الموت. قال السدي : لما أراد اللّه عز وجل أن يخلق آدم بعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بقبضة منها ، فقالت الأرض : إني أعوذ باللّه منك أن تقبض مني فراجع ولم يأخذ منها شيئا فقال : يا رب عاذت بك فبعث اللّه ميكائيل فاستعاذت فرجع فبعث اللّه ملك الموت فعاذت منه فقال : وأنا أعوذ باللّه أن أخالف أمره وأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذا اختلفت ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم ثم قال اللّه لملك الموت رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم اجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : (إن اللّه تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب) أخرجه أبو داود والترمذي

وأما

قوله تعالى : ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ فاختلف العلماء في معنى ذلك فقال الحسن وقتادة والضحاك :

الأجل الأول ، من وقت الولادة إلى وقت الموت. والأجل الثاني : من وقت الموت إلى البعث ، وهو البرزخ.

ويروى نحو ذلك عن ابن عباس قال : لكل أحد أجلان : أجل إلى الموت ، وأجل من الموت إلى البعث ، فإن كان الرجل برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث إلى أجل العمر ، وإن كان فاجرا قاطعا للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث وذلك قوله : وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ وقال مجاهد وسعيد بن جبير : الأجل الأول أجل الدنيا ، والأجل الثاني أجل الآخرة.

وقيل : الأجل هو الوقت المقدر فأجل كل إنسان مقدر معلوم عند اللّه لا يزيد ولا ينقص.

والأجل الثاني : هو أجل القيامة وهو أيضا معلوم مقدر عند اللّه لا يعلمه إلا اللّه تعالى وقال ابن عباس في رواية عطاء عنه ثم قضى أجلا يعني النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع عند الانتباه وأجل مسمى عنده هو أجل الموت

وقيل هما واحد ومعناه ثم قضى أجلا يعني قدّر مدة لأعماركم تنتهون إليها وهو أجل مسمى عنده يعني أن ذلك الأجل عنده لا يعلمه إلا هو والمراد بقوله عنده يعني في اللوح المحفوظ الذي لا يطلع عليه غيره ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ يعني ثم أنتم تشكون في البعث.

قوله عز وجل : وَهُوَ اللّه فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يعني وهو إله السموات وإله الأرض.

وقيل : معناه وهو المعبود في السموات وفي الأرض. وقال محمد بن جرير الطبري : معناه وهو اللّه في السموات يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ في الأرض. وقال الزجاج : فيه تقديم وتأخير تقديره وهو اللّه يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض.

وقيل : معناه وهو المنفرد بالتدبير في السموات وفي الأرض لا شريك له فيهما. والمراد بالسر ، ما يخفيه الإنسان في ضميره فهو من أعمال القلوب وبالجهر ما يظهره الإنسان فهو من أعمال الجوارح والمعنى : أن اللّه لا يخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ يعني من خير أو شر ، بقي في الآية سؤال وهو أن الكسب إما أن يكون من أعمال القلوب وهو المسمى بالسر أو من أعمال الجوارح وهو المسمى بالجهر فالأفعال لا تخرج عن هذين النوعين يعني السر والجهر فقوله ويعلم ما تكسبون يقتضي عطف الشيء على نفسه وذلك غير جائز فما معنى ذلك وأجيب عنه بأنه يجب حمل قوله ويعلم ما تكسبون على ما يستحقه الإنسان على فعله وكسبه من الثواب والعقاب والحاصل فيه أنه محمول على المكتسب فهو كما يقال : هذا المال كسب فلان أي مكتسبه ولا يجوز حمله على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه ذكره الإمام فخر الدين.

٤

٥

٦

٧

وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)

وَما تَأْتِيهِمْ يعني أهل مكة مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ يعني من المعجزات الباهرات التي جاء بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثل انشقاق القمر وغير ذلك

وقيل المراد بالآيات آيات القرآن إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يعني إلا كانوا لها تاركين وبها مكذبين فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ يعني بآيات القرآن

وقيل بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبما أتى به من المعجزات لَمَّا جاءَهُمْ يعني لما جاءهم الحق من عند ربهم كذبوا به فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني فسوف يأتيهم أخبار استهزائهم إذا عذبوا في الآخرة.

قوله تعالى : أَلَمْ يَرَوْا الخطاب لكفار مكة يعني ألم ير هؤلاء المكذبون بآياتي كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ يعني مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم الماضية والقرون الخالية. والقرن الأمة من الناس وأهل كل زمان قرن سموا بذلك لاقترانهم في الوجود في ذلك الزمان

وقيل سمي قرنا لأنه زمان بزمان وأمة بأمة واختلفوا في مقدار القرن ، فقيل : ثمانون سنة.

وقيل : ستون سنة.

وقيل : أربعون سنة.

وقيل : مائة وعشرون ،

وقيل : مائة سنة. وهو الأصح لما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لعبد اللّه بن بشر المازني : إنك تعيش قرنا فعاش مائة سنة. فعلى هذا القول : المراد بالقرن أهله الذين وجدوا فيه ، ومنه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم يعني أصحابي وتابعيهم وتابعي التابعين مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ يعني أعطيناهم ما لم نعطكم يا أهل مكة

وقيل أمددناهم في العمر والبسطة في الأجسام والسعة في الأرزاق مثل إعطاء قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً مفعال من الدر يعني وأرسلنا المطر متتابعا في أوقات الحاجة إليه والمراد بالسماء المطر سمي بذلك لنزوله منها وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ يعني :

وفجرنا لهم العيون تجري من تحتهم والمراد منه كثرة البساتين فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يعني بسبب ذنوبهم وكفرهم وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ يعني وخلفنا من بعد هلاك أولئك أهل قرن آخرين وفي هذه الآية ما يوجب الاعتبار والموعظة بحال من مضى من الأمم السالفة والقرون الخالية فإنهم مع ما كانوا فيه من القوة وسعة

الرزق وكثرة الأتباع أهلكناهم لما كفروا وطغوا وظلموا فكيف حال من هو أضعف منهم وأقل عددا وعددا وهذا يوجب الاعتبار والانتباه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة.

قوله عز وجل : وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ الآية. قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث وعبد اللّه بن أمية ونوفل بن خويلد قالوا يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند اللّه ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند اللّه وإنك رسوله فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ يعني من عندي يعني مكتوبا في قرطاس وهو الكاغد والصحيفة التي يكتب فيها فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ يعني فعاينوه ومسوه بأيديهم وإنما ذكر اللمس ، ولم يذكر المعاينة ، لأنه أبلغ في إيقاع العلم بالشيء من الرؤية ، لأن المرئيات قد يدخلها التخيلات كالبحر ونحوه بخلاف الملموس لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يعني لو أنزلنا عليهم كتابا كما سألوه لما آمنوا به ولقالوا هذا سحر مبين كما قالوا في انشقاق القمر وأنه لا ينفع معهم شيء لما سبق فيهم من علمي بهم.

وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)

٨

٩

١٠

١١

وَقالُوا يعني مشركي مكة لَوْلا يعني هلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ يعني على محمد مَلَكٌ يعني نراه عيانا وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ يعني لفرغ الأمر ولوجب العذاب وهذه سنة اللّه في الكفار أنهم متى اقترحوا آية ثم لم يؤمنوا استوجبوا العذاب واستؤصلوا به ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ يعني أنهم لا يمهلون ولا يؤخرون طرفة عين بل يعجل لهم العذاب وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا يعني ولو أرسلنا إليهم ملكا لجعلناه في صورة رجل وذلك أن البشر لا يستطيعون أن ينظروا إلى الملائكة في صورهم التي خلقوا عليها ولو نظر إلى الملك ناظر لصعق عند رؤيته ولذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الأنس كما جاء جبريل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وكما جاء الملكان إلى داود عليه السلام في صورة رجلين وكذلك أتى الملائكة إلى إبراهيم ولوط عليهما السلام ولما رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم جبريل في صورته التي خلق عليها صعق لذلك وغشي عليه.

وقوله تعالى : وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ يقال لبست الأمر على القوم إذا أشبهته عليهم وجعلته مشكلا ولبست عليه الأمر إذا خلطته عليه حتى لا يعرف جهته ومعنى الآية وخالطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدروا أملك هو أم آدمي

وقيل في معنى الآية إنا لو جعلنا الملك في صورة البشر لظنوه بشرا فتعود المسألة بحالها أنا لا نرضى برسالة البشر ولو فعل اللّه عز وجل ذلك صار فعل اللّه مثل فعلهم في التلبيس وإنما كان تلبيسا لأنهم يظنون أنه ملك وليس بملك أو يظنون أنه بشر وليس هو بشرا وإنما كان فعلهم تلبيسا لأنهم لبسوا على ضعفتهم في أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا : إنما هو بشر مثلكم ولو رأوا الملك رجلا للحقهم من اللبس مثل ما لحق بضعفائهم فيكون اللبس نقمة من اللّه وعقوبة لهم على ما كان منهم من التخليط في السؤال واللبس على الضعفاء.

قوله عز وجل : وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ يعني كما استهزئ بك يا محمد وفي هذه الآية تعزية للنبي صلى اللّه عليه وسلم وتسلية له عما كان من تكذيب المشركين إياه واستهزائهم به إذ جعل له أسوة في ذلك بالأنبياء الذين كانوا قبله فَحاقَ أي فنزل

وقيل : أحاط ،

وقيل : حل بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ والمعنى :

فنزل العذاب بهم ووجب عليهم من النقمة والعذاب جزاء استهزائهم أو في هذه الآية تحذير للمشركين أن يفعلوا

بنبيهم كما فعل من كان قبلهم بأنبيائهم فينزل بهم مثل ما نزل بهم قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين سيروا في الأرض معتبرين ومتفكرين

وقيل هو سير الأقدام ثُمَّ انْظُرُوا فعلى

القول الأول يكون النظر نظرة فكرة وعبرة وهو بالبصيرة بالبصر وعلى

القول الثاني يكون المراد بالنظر نظر العين والمعنى ثم انظروا بأعينكم إلى آثار الأمم الخالية والقرون الماضية السالفة وهو

قوله تعالى : كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ يعني كيف كان جزاء المكذبين وكيف أورثهم الكفر والتكذيب الهلاك فحذر كفار مكة عذاب الأمم الخالية.

قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ للّه كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣)

١٢

١٣

قوله عز وجل : قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ للّه هذا سؤال وجواب المعنى قل يا محمد لهؤلاء المكذبين العادلين بربهم لمن ملك ما في السموات والأرض فإن أجابوك وإلا فأخبرهم أن ذلك للّه الذي قهر كل شيء وملك كل شيء واستعبد كل شيء لا للأصنام التي تعبدونها أنتم فإنها موات لا تملك شيئا ولا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا وإنما أمره بالجواب عقب السؤال ليكون أبلغ في التأكيد وآكد في الحجة ولما بين اللّه تعالى كمال قدرته وتصرفه في سائر مخلوقاته أردفه بكمال رحمته وإحسانه إليهم

فقال تعالى : كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ يعني أنه تعالى أوجب وقضى على نفسه الرحمة وهذا استعطاف منه للمتولين عنه الإقبال عليه وإخبار بأنه رحيم بعباده وأنه لا يعجل بالعقوبة بل يقبل التوبة والإنابة ممن تاب وأناب

(ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (لما خلق اللّه الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي) وفي البخاري : (أن اللّه كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي سبقت غضبي فهو مكتوب عنده فوق العرش)

وفي رواية لهما أن اللّه لما خلق الخلق ، وعند مسلم لما قضى اللّه الخلق كتب في كتاب كتبه على نفسه فهو موضوع عنده ، زاد البخاري على العرش ثم اتفقا (إن رحمتي تغلب غضبي)

(ق) عن أبي هريرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول (جعل اللّه الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) زاد البخاري في رواية له ولو يعلم الكافر بكل الذي عند اللّه من الرحمة لم ييأس من الجنة ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند اللّه من العذاب لم يأمن من العذاب.

ولمسلم إن للّه مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها وأخر اللّه تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة

(م) عن سلمان الفارسي قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (إن اللّه خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة)

(ق) عن عمر قال : قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي تبتغي إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا لا واللّه وهي تقدر أن تطرحه فقال صلى اللّه عليه وسلم اللّه أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها.

وقوله تعالى : لَيَجْمَعَنَّكُمْ اللام في قوله ليجمعنكم لام القسم تقديره واللّه ليجمعنكم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني في يوم القيامة

وقيل معناه في قبوركم إلى يوم القيامة لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أنه آت الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يعني بالشرك باللّه أو غبنوا أنفسهم باتخاذهم الأصنام فعرضوا أنفسهم لسخط اللّه وأليم عقابه فكانوا كمن خسر شيئا وأصل الخسار الغبن يقال خسر الرجل إذا غبن في بيعه فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يعني لما سبق عليهم القضاء

بالخسران فهو الذي حملهم على الامتناع عن الإيمان.

قوله تعالى : وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يعني وله ما استقر

وقيل ما سكن وما تحرك فاكتفى بذكر

أحدهما عن الآخر

وقيل إنما خص السكون بالذكر لأن النعمة فيه أكثر وقال ابن جرير كل ما طلعت عليه الشمس وغربت فهو من ساكن الليل والنهار فيكون المراد منه جميع ما حصل في الأرض من الدواب والحيوانات والطير وغير ذلك مما في البر والبحر وهذا يفيد الحصر والمعنى أن جميع الموجودات ملك للّه تعالى لا لغيره وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم وأصواتهم الْعَلِيمُ بسرائرهم وأحوالهم.

قُلْ أَغَيْرَ اللّه أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللّه بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)

١٤

١٥

١٦

١٧

قوله عز وجل : قُلْ أَغَيْرَ اللّه أَتَّخِذُ وَلِيًّا قال مقاتل لما دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى دين آبائه أنزل اللّه هذه الآية فقال قل لهم يا محمد أغير اللّه اتخذ وليا يعني ربا ومعبودا وناصرا ومعينا وهو استفهام ومعناه الإنكار أي لا أتخذ غير اللّه وليا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالق السموات والأرض ومبدعهما ومبدئهما وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ يعني وهو يرزق ولا يرزق وصف اللّه عز وجل نفسه بالغني عن الخلق وباحتياج الخلق إليه لأن من كان من صفته أن يطعم الخلق لاحتياجهم إليه وهو لا يطعم لاستغنائه سبحانه وتعالى عن الإطعام فهو غني عن الخلق ومن كان كذلك وجب أن يتخذ ربا وناصرا ووليا ومعبودا قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ يعني من هذه الأمة والإسلام بمعنى الاستسلام يعني أمرت أن استسلم لأمر اللّه وأنقاد إلى طاعته وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني

وقيل لي يا محمد لا تكونن من المشركين قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين دعوك إلى عبادة غيري إن ربي أمرني أن أكون أول من أسلم ونهاني عن عبادة شيء سواه وإني أخاف إن عصيت ربي فعبدت شيئا سواه عذاب يوم عظيم وهو عذاب يوم القيامة مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يعني العذاب يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة فَقَدْ رَحِمَهُ يعني بأن أنجاه من العذاب ومن أنجاه من العذاب فقد رحمه وأناله الثواب لا محالة وإنما ذكر الرحمة من صرف العذاب لئلا يتوهم أنه صرف العذاب فقط بل تحصل الرحمة من صرف العذاب عنه وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ يعني أن صرف العذاب وحصول الرحمة هو النجاة والفلاح المبين.

قوله تعالى : وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللّه بِضُرٍّ يعني بشدة وبلية والضر اسم جامع لما ينال الإنسان من ألم ومكروه وغير ذلك مما هو في معناه فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ يعني فلا يدفع ذلك الضر إلا اللّه عز وجل : وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ يعني بعافية ونعمة والخير اسم جامع لكل ما ينال الإنسان من لذة وفرح وسرور ونحو ذلك فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني من دفع الضر وجلب الخير. وهذه الآية خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم والمعنى : لا تتخذ وليا سوى اللّه لأنه هو القادر على أن يمسك بضر وهو القادر على دفعه عنك وهو القادر على إيصال الخير إليك وأنه لا يقدر على ذلك إلا هو فاتخذه وليا وناصرا ومعينا. وهذا الخطاب وإن كان للنبي صلى اللّه عليه وسلم فهو عام لكل أحد والمعنى وإن يمسسك اللّه بضر أيها الإنسان فلا كاشف لذلك الضر إلا هو وإن يمسسك بخير أيها الإنسان فهو على كل شيء قدير من دفع الضر وإيصال الخير.

عن ابن عباس قال : (كنت خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما فقيل لي يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ اللّه يحفظك احفظ اللّه تجده تجاهك وإذا سألت فاسأل اللّه وإذا استعنت فاستعن باللّه واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللّه لك وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللّه عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف) أخرجه الترمذي زاد فيه رزين تعرّف إلى اللّه في الرخاء يعرفك في الشدة وفيه (و إن استطعت أن تعمل للّه بالرضا في اليقين فافعل فإن لم تستطع فاصبر فإن الصبر على ما تكره خير كثير واعلم أن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا ولن يغلب عسر يسرين) قال ابن الأثير وقد جاء نحو هذا أو مثله بطوله في مسند أحمد بن حنبل.

وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللّه شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّه آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠)

١٨

١٩

٢٠

قوله عز وجل : وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ يعني وهو الغالب لعباده القاهر لهم وهم مقهورون تحت قدرته والقاهر والقهار معناه الذي يدبر خلقه بما يريد فيقع في ذلك ما يشق عليهم ويثقل ويغم ويحزن ويفقر ويميت ويذل خلقه فلا يستطيع أحد من خلقه رد تدبيره والخروج من تحت قهره وتقديره وهذا معنى القاهر في صفة اللّه تعالى لأنه القادر والقاهر الذي لا يعجزه شيء أراده ومعنى فوق عباده هنا أن قهره قد استعلى على خلقه فهم تحت التسخير والتذليل بما علاهم به من الاقتدار والقهر الذي لا يقدر أحد على الخروج منه ولا ينفك عنه فكل من قهر شيئا فهو مستعل عليه بالقهر والغلبة. وقال ابن جرير الطبري : معنى القاهر المتعبد خلقه العالي عليهم وإنما قال فوق عباده لأنه تعالى وصف نفسه بقهره إياهم ومن صفة كل قاهر شيئا أن يكون مستعليا عليه فمعنى الكلام إذا واللّه الغالب عباده المذلل لهم العالي عليهم بتذليله إياهم فهو فوقهم بقهره إياهم وهم دونه.

وقيل :

فوق عباده هو صفة الاستعلاء الذي تفرد به اللّه عز وجل : وَهُوَ الْحَكِيمُ يعني في أمره وتدبير عباده الْخَبِيرُ يعني بأعمالهم وما يصلحهم.

قوله عز وجل : قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قال الكلبي أتى أهل مكة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا محمد أرنا من يشهد أنك رسول اللّه فإنا لا نرى أحدا يصدقك ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر فأنزل اللّه عز وجل قل يعني يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يكذبونك ويجحدون نبوتك من قومك أي شيء أكبر شهادة يعني أعظم شهادة فإن هم أجابوك وإلا قُلْ أنت يا محمد اللّه شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قال مجاهد أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم أن يسأل قريشا أي شيء أكبر شهادة ثم أمره أن يخبرهم فيقول اللّه شهيد بيني وبينكم يعني يشهد لي بالحق وعليكم بالباطل الذي تقولونه والحاصل أنهم طلبوا شاهدا مقبول القول يشهد له بالنبوة فبيّن اللّه تعالى بهذه الآية أن أكبر الأشياء شهادة هو اللّه تعالى ثم بيّن أنه يشهد له بالنبوة وهو المراد بقوله : وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ يعني أن اللّه عز وجل يشهد لي بالنبوة لأنه أوحى إليّ هذا القرآن وهو معجزة لأنكم أنتم الفصحاء البلغاء وأصحاب اللسان وقد عجزتم عن معارضته فكان معجزا وإذا كان معجزا كان نزوله على شهادة من اللّه بأني رسوله وهو المراد بقوله لأنذركم به يعني أوحي إلى هذا القرآن لأخوفكم به وأحذركم مخالفة أمر اللّه عز وجل : وَمَنْ بَلَغَ يعني وأنذر من بلغه القرآن ممن يأتي بعدي إلى يوم القيامة من العرب والعجم وغيرهم من سائر الأمم فكل من بلغ إليه القرآن وسمعه فالنبي صلى اللّه عليه وسلم نذير له قال محمد بن كعب القرظي من بلغه القرآن فكأنما

رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم وكلمه وقال أنس بن مالك لما نزلت هذه الآية كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى اللّه عز وجل

(خ) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال (بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار).

( (شرح ما يتعلق بهذا الحديث)) فيه الأمر بإبلاغ ما جاء به النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى من بعده من قرآن وسنة وقوله وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج الحرج الضيق والإثم ومعنى الحديث أنه مهما قلتم عن بني إسرائيل فإنهم كانوا في حال أكثر مما قلتم وأوسع وليس هذا فيه إباحة الكذب والإخبار عن بني إسرائيل لكن معناه الرخصة في الحديث عنهم على بعض البلاغ وإن لم يتحقق ذلك بنقل لأنه أمر قد تعذر لبعد المسافة وطول المدة عن ابن مسعود قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول (نضر اللّه أمرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى له من سامع) أخرجه الترمذي وله عن زيد بن ثابت قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول (نضر اللّه امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه) عن ابن عباس قال (تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم) أخرجه أبو داود موقوفا.

وقوله تعالى : أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّه آلِهَةً أُخْرى يعني قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جحدوا نبوتك واتخذوا آلهة غيري إنكم أيها المشركون لتشهدون أن مع اللّه آلهة أخرى يعني الأصنام التي كانوا يعبدونها وإنما قال أخرى لأن الجمع يلحقه التأنيث كما قال تعالى : وَللّه الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى ولم يقل الأول ولا الأولين قُلْ لا أَشْهَدُ يعني قل يا محمد لهؤلاء المشركين لا أشهد بما تشهدون به أن مع اللّه آلهة أخرى بل أجحد ذلك وأنكره قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ يعني قل لهم إنما اللّه إله واحد ومعبود واحد لا شريك له وبذلك أشهد وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ يعني وأنا بريء من كل شيء تعبدونه سوى اللّه وفي هذه الآية دليل على إثبات التوحيد للّه عز وجل وإبطال كل معبود سواه لأن كلمة إنما تفيد الحصر ولفظة الواحد صريح في التوحيد ونفي الشريك فثبت بذلك إيجاب التوحيد وسلب كل شريك والتبرؤ من كل معبود سوى اللّه تعالى قال العلماء يستحب لكل من أسلم أن يأتي بالشهادتين ويبرأ من كل دين خالف الإسلام لقوله تعالى : وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.

قوله عز وجل : الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ المراد بالذين أوتوا الكتاب علماء اليهود والنصارى الذين كانوا في زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذلك أن كفّار مكة لما قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم إنا سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر وأنكروا معرفته بين اللّه عز وجل أن شهادته له كافية على صحة نبوته وبين في هذه الآية أنهم يعرفونه وأنهم كذبوا في قولهم إنهم لا يعرفونه. وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد اللّه بن سلام قال له عمر بن الخطاب : إن اللّه عز وجل أنزل على نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم بمكة الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد اللّه بن سلام : يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد صلى اللّه عليه وسلم مني بابني فقال عمر وكيف ذاك؟ قال أشهد أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حقا ولا أدري ما يصنع النساء.

وقوله تعالى : الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يعني : أهلكوا أنفسهم وغبنوها وأوبقوها في نار جهنم بإنكارهم نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم.

وفي الذين خسروا أنفسهم قولان :

أحدهما : أنه صفة الذين الأولى ويكون المقصود من ذلك وعيد

المعاندين الذين يعرفون محمدا صلى اللّه عليه وسلم ويجحدون نبوته وهم كفار أهل الكتابين فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يعني به.

والقول الثاني : إنه كلام مبتدأ ولا تعلق له بالأول وهم كفار مكة الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وذكروا في معنى الخسار وجهين :

أحدهما : أنه الهلاك الدائم الذي حصل لهم بسبب كفرهم وإنكارهم نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم.

والوجه الثاني : أنه جعل لكل واحد من بني آدم منزلا في الجنة ومنزلا في النار فإذا كان يوم القيامة جعل اللّه للمؤمنين منازل الكفار التي في الجنة وجعل للكفار منازل المؤمنين التي في النار فذلك هو الخسران.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّه كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللّه رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)

٢١

٢٢

٢٣

٢٤

قوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّه كَذِباً يعني ومن أشد عنادا وأخطأ فعلا وأعظم كفرا ممن اختلق على اللّه كذبا فزعم أن له شريكا من خلقه وإلها يعبد من دونه كما قال المشركون من عبدة الأصنام ، أو ادعى أن له صاحبة وولدا كما قلت النصارى أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ يعني كذب بحجته وأعلام أدلته التي أعطاها رسله كما كذبت اليهود بمعجزات الأنبياء

وقيل معناه أو كذب بآيات القرآن الذي أنزله على محمد صلى اللّه عليه وسلم إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يعني أنه لا ينجح القائلون على اللّه الكذب والمفترون على اللّه الباطل وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً أي اذكر يوم نحشر العابدين والمعبودين وهو يوم القيامة ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ يعني أنها تشفع لكم عند ربكم.

قوله عز وجل : ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ يعني قولهم وجوابهم وقال ابن عباس معذرتهم والفتنة التجربة ، فلما كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم قيل له فتنة قال الزجاج في قوله ثم لم تكن فتنتهم معنى لطيف وذلك أن الرجل يفتتن بمحبوب ثم تصيبه فيه محنة فيبرأ من محبوبه فيقال لم تكن فتنته إلا بذلك المحبوب فكذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام ثم لما رأوا العذاب تبرؤوا منها. يقول اللّه تبارك وتعالى ثم لم تكن فتنتهم ومحبتهم للأصنام إلا أن تبرؤوا منها وهو

قوله تعالى : إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللّه رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وذلك إذا شاهدوا يوم القيامة مغفرة اللّه تعالى لأهل التوحيد فيقول بعضهم لبعض تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجو من أهل التوحيد فيقولون واللّه ربنا ما كنا مشركين فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم بالشرك والكفر قال اللّه تعالى : انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ يعني انظر يا محمد بعين البصيرة والتأمل إلى حال هؤلاء المشركين كيف كذبوا على أنفسهم يعني اعتذارهم بالباطل وتبرؤهم من الأصنام والشرك الذي كانوا عليه واستعمالهم الكذب مثل ما كانوا عليه في دار الدنيا وذلك لا ينفعهم وهو قوله : وَضَلَّ عَنْهُمْ يعني زال عنهم وذهب ما كانُوا يَفْتَرُونَ يعني ما كانوا يكذبون وهو قولهم إن الأصنام تشفع لهم وتنصرهم فبطل ذلك كله في ذلك اليوم.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)

٢٥

٢٦

قوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ الآية. قال الكلبي : اجتمع أبو سفيان صخر بن حرب وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف والحارث بن عامر

يستمعون القرآن فقالوا للنضر يا أبا قتيبة ما يقول محمد؟ قال : ما أدري ما يقول إلا أني أراه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية. وكان النضر كثير الحديث عن القرون الماضية وأخبارها فقال أبو سفيان : إني لأرى بعض ما يقول حقا. فقال أبو جهل : كلا لا تقر بشيء من هذا

وفي رواية للموت أهون علينا من هذا فأنزل اللّه تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يعني إلى كلامك وقراءتك يا محمد وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً يعني أغطية جمع كنان أَنْ يَفْقَهُوهُ يعني لئلا يفقهوه أو كراهية أن يفقهوه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً يعني وجعلنا في آذانهم صمما وثقلا وفي هذا دليل على أن اللّه تعالى يقلب القلوب فيشرح بعضها للّهدى والإيمان فتقبله ويجعل بعضها في أكنة فلا تفقه كلام اللّه ولا تؤمن به : وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها يعني : كل معجزة من المعجزات الدالة على صدقك لا يؤمنوا بها يعني لا يصدقوا بها ولا يقروا أنها دالة على صدقك حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يعني أنهم إذا رأوا الآيات واستمعوا القرآن إنما جاءوا ليجادلوك ويخاصموك لا ليؤمنوا بها يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا أي ما هذا القرآن إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني أحاديث الأولين من الأمم الماضية وأخبارهم وأقاصيصهم. وما سطروا : يعني وما كتبوا والأساطير جمع أسطورة وأسطارة.

وقيل : واحدها سطر وأسطار جمع وأساطير جمع الجمع فعلى هذا لو قال قائل : لم عابوا القرآن وجعلوه أساطير الأولين وقد سطر الأولون في كتبهم الحكم والعلوم النافعة وما لا يعاب قائله؟ أجيب عنه : بأنهم إنما نسبوا القرآن إلى أساطير الأولين بمعنى أنه ليس بوحي من اللّه تعالى وإنما هو أخبار مجردة كما تروى أخبار الأولين.

وقيل في معنى أساطير الأولين : إنها الترهات وهي عند العرب طرق غامضة ومسالك وعرة مشكلة.

يقول قائلهم : أخذنا في الترهات ، بمعنى عدلنا عن الطريق الواضح إلى الطريق المشكل الذي لا يعرض فجعلت الترهات مثلا لما لا يعرف ولا يتضح من الأمور المشكلة الغامضة التي لا أصل لها.

قوله عز وجل : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ يعني ينهون الناس عن اتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ يعني ويتباعدون عنه بأنفسهمه نزلت في كفار مكة كانوا يمنعون الناس عن الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وعن الاجتماع به وينهون عن استماع القرآن وكانوا هم كذلك. وقال ابن عباس : نزلت في أبي طالب عم النبي صلى اللّه عليه وسلم كان ينهى المشركين عن أذى النبي صلى اللّه عليه وسلم ويمنعه منهم وينأى هو بنفسه عن الإيمان به بمعنى يبعد حتى روي أنه اجتمع إليه رؤوس المشركين وقالوا له خذ شابا من أصبحنا وجها وادفع إلينا محمد. فقال : ما أنصفتموني أدفع إليكم ابني محمدا لتقتلوه وأربي لكم ابنكم وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دعا أبا طالب إلى الإيمان فقال لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك ولكن أذب عنك ما حييت وقال في ذلك أبياتا :

واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منه عيونا

ودعوتني وعرفت أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعرضت دينا قد علمت بأنه من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا

وقوله تعالى : وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يعني لا يرجع وبال كفرهم وفعلهم إلا عليهم وَما يَشْعُرُونَ يعني بذلك.

وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠)

٢٧

٢٨

٢٩

٣٠

قوله تعالى : وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ يعني في النار فوضع على موضع في : كقوله (على ملك سليمان) أي في ملك سليمان

وقيل معناه إذ عرضوا على النار وجواب لو محذوف. والمعنى : ولو ترى الكفار الذين ينهون عنك وينأون عنك يا محمد في تلك الحالة لرأيت أمرا عجيبا وموقفا فظيعا فَقالُوا يعني الكفار يا لَيْتَنا نُرَدُّ يعني إلى الدنيا وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تمنوا أن يردوا إلى الدنيا مرة أخرى حتى يؤمنوا ولا يكذبوا بآيات ربهم فرد اللّه عليهم ذلك

فقال تعالى : بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ يعني ليس الأمر كما قالوا لو ردوا إلى الدنيا لأمنوا بل ظهر لهم ما كانوا يسرون في الدنيا من الكفر والمعاصي.

وقيل :

ظهر لهم ما كانوا يخفون من قولهم واللّه ربنا ما كنا مشركين أخفوا شركهم وكتموه فأظهره اللّه عليهم حين شهدت عليهم جوارحهم بما كتموا وستروا من شركهم

وقيل ظهر لهم ما أخفوا من الكفر فعلى هذا تكون الآية في المنافقين وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ يعني في قولهم لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين : وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وهذا خبر عن حال منكري البعث وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما أخبر الكفار عن أحوال القيامة وأهوالها وما أعد اللّه في الآخرة من الثواب للمؤمنين المطيعين وما أعد اللّه من العقاب للكفار والعاصين قالوا ، يعني الكفار ، إن هي أي ما هي إلا حياتنا الدنيا ، أي ، ليس لنا غير هذه الدنيا التي نحن فيها وما نحن بمبعوثين يعني بعد الموت. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :

هذا خبر من اللّه عن هؤلاء الكفار الذي وقفوا على النار أنهم لو ردوا إلى الدنيا لقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين.

قوله عز وجل : وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ يعني على حكم ربهم وقضائه ومسألته وقال مقاتل عرضوا على ربهم قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ أي يقول اللّه يوم القيامة أليس هذا البعث والنشر بعد الموت الذي كنتم تنكرونه في الدنيا وتكذبون به وتقولون لا بعث ولا نشور حقا قالُوا بَلى وَرَبِّنا يعني أنهم اعترفوا بما كانوا ينكرونه فأجابوا وقالوا بلى واللّه إنه لحق.

وقيل : تقول لهم خزنة النار بأمر اللّه أليس هذا بالحق يعني البعث حقا فأجابوا بقولهم بلى وربنا قال ابن عباس : للقيامة مواقف ففي موقف ينكرون ويقولون واللّه ربنا ما كنا مشركين وفي موقف يعترفون بما كانوا ينكرونه في الدنيا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ أي يقول اللّه لهم ذلك أو الخزنة تقول لهم ذلك بأمر اللّه تعالى. وإنما خص لفظ الذوق ، لأنهم في كل حال يجدون ألم العذاب وجدان الذائق في شدة الإحساس بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ يعني هذا العذاب بسبب كفركم وجحودكم البعث بعد الموت.

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللّه حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللّه يَجْحَدُونَ (٣٣)

٣١

٣٢

٣٣

قوله تعالى : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللّه يعني خسروا أنفسهم بسبب تكذيبهم بالمصير إلى اللّه تعالى وبالبعث بعد الموت وهذا الخسران هو فوت الثواب العظيم في دار النعيم المقيم وحصول العذاب الأليم ، في دركات الجحيم حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً يعني جاءتهم القيامة فجأة وسميت القيامة ساعة : لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة لا يعلمها أحد إلا اللّه تبارك وتعالى.

وقيل : سميت ساعة لسرعة الحساب فيها لأن حساب الخلائق يوم القيامة يكون في ساعة أو أقل من ذلك قالُوا يعني منكري البعث وهم كفار قريش ومن سلك

سبيلهم في الكفر والاعتقاد يا حَسْرَتَنا يعني : يا ندامتنا والحسرة التلهف على الشيء الفائت وذكرت على وجه النداء للمبالغة والمراد تنبيه المخاطبين على ما وقع بهم من الحسرة عَلى ما فَرَّطْنا يعني قصرنا فِيها يعني في الدنيا لأنها موضع التفريط في الأعمال الصالحة والمعنى يا حسرتنا على الأعمال الصالحة التي فرطنا فيها في دار الدنيا. وقال محمد بن جرير الطبري : الهاء والألف في قوله فيها تعود إلى الصفقة ولكن اكتفى بدلالة قوله قد خسر الذين كذبوا بلقاء اللّه عليها من ذكرها إذ كان معلوما أن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرى ومعنى الآية قد وكس الذين كذبوا بلقاء اللّه ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به رضوان اللّه وجنته بالكفر الذي يستوجبون به سخط اللّه وعقوبته وهم لا يشعرون بذلك حتى تقوم الساعة.

فإذا جاءتهم الساعة بغتة ورأوا ما لحقهم من الخسران في بيعهم قالوا حينئذ : يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وروى الطبري بسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله يا حسرتنا ، قال : يرى أهل النار منازلهم في الجنة فيقولون يا حسرتنا.

وقوله تعالى : وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ يعني أثقالهم : عَلى ظُهُورِهِمْ والأوزار : الخطايا والذنوب.

وأصل الوزر : الثقل والحمل. يقال : وزرته إذا حملته وإنما قيل للذنوب أوزار ، لأنها تثقل ظهر من يحملها. قال قتادة والسدي : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحا فيقول هل تعرفني؟ فيقول لا فيقول أنا عملك الصالح فاركبني فقد طالما ركبتك في الدنيا فذلك قوله : يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً يعني ركبانا.

وأما الكافر فيستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا فيقول هل تعرفني؟ فيقول لا فيقول أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك فذلك معنى قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ.

وقال عمر بن هانئ : يحشر مع كل كافر عمله في صورة رجل قبيح كلما رأى هو صورته وقبحه زاده اللّه خوفا فيقول له بئس الجليس أنت فيقول أنا عملك طالما ركبتني فلأركبنك اليوم حتى أخزيك على رؤوس الخلائق فيركبه ويتخطى به الناس حتى يقف بين يدي ربه تعالى فذلك

قوله تعالى : وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ. وقال الزجاج : الثقل كما يذكر في الوزن فقد يذكر في الحال والصفة يقال ثقل علي كلام فلان بمعنى كرهته فالمعنى أنهم يقاسون من ألم عقاب ذنوبهم مقاساة تثقل ذلك عليهم فعلى هذا القول يكون قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ مجازا عما يقاسونه من شدة العذاب.

وقيل في معنى الآية : أوزارهم لا تزايلهم كما تقول شخصه نصب عيني أي ذكره ملازم لي أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ يعني بئس الشيء شيئا يحملونه.

وقال ابن عباس : بئس الحمل حملوا.

قوله عز وجل : وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي باطل وغرور لا بقاء لها وهذا فيه رد على منكري البعث في قولهم إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ فقال اللّه ردا عليهم وكذبا لهم وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وهل المراد بهذه الحياة حياة المؤمن أو الكافر قولان :

أحدهما : إن المراد بها حياة الكافر لأن المؤمن لا يزداد بحياته في الدنيا إلا خيرا لأنه يحصل في أيام حياته من الأعمال الصالحة والطاعة ما يكون سببا لحصول السعادة في الآخرة

وأما الكافر فإن كل حياته في الدنيا وبال عليه قال ابن عباس يريد حياة أهل الشرك والنفاق.

والقول الثاني : إن هذا عام في حياة المؤمن والكافر لأن الإنسان يلتذ باللعب واللّهو ثم عند انقضائه تحصل له الحسرة والندامة لأن الذي كان فيه من اللعب واللّهو سريع الزوال لا بقاء له فبان بهذا التقرير أن المراد بهذه الحياة حياة المؤمن والكافر وأنه عام فيهما. وإنما شبه الحياة الدنيا باللعب واللّهو لسرعة زوالها وقصر عمرها كالشيء الذي يلعب به.

وقيل : معناه إن أمر الدنيا والعمل لها لعب ولهو فأما فعل الخير والعمل الصالح فهو من فعل الآخرة وإن كان وقوعه في الدنيا

وقيل معناه وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو لأنه لا يجدي شيئا ولاشتغالهم عما أمروا به ونسبوا إلى اللعب

وقوله تعالى : وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ يعني الجنة واللام فيه لام القسم تقديره واللّه لدار الآخرة خَيْرٌ يعني من الدنيا وأفضل لأن الدنيا سريعة الزوال والانقطاع لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ يعني الشرك.

وقيل :

يتقون اللعب واللّهو أَفَلا تَعْقِلُونَ إن الآخرة خير من الدنيا فيعملون لها.

قوله تعالى : قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ يعني قد نعلم يا محمد إنه ليحزنك الذي يقوله المشركون لك ، قال السدي : التقى الأخنس بن شريق أبو جهل بن هشام فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس هنا أحد يسمع كلامك غيري؟ فقال أبو جهل : واللّه إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل اللّه هذه الآية وقال ناجية بن كعب : قال أبو جهل للنبي صلى اللّه عليه وسلم : ما نتهمك ولا نكذبك ولكنا نكذب الذي جئت به ، فأنزل اللّه هذه الآية. عن علي بن أبي طالب أن أبا جهل قال للنبي إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به فأنزل اللّه فيهم فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللّه يَجْحَدُونَ أخرجه الترمذي من طريقين وقال في

أحدهما وهذا أصح ، ففي هذه الآية تسلية للنبي صلى اللّه عليه وسلم وتعزية عما يواجهه به قومه لأنهم كانوا يعتقدون صدقه وأنه ليس بكذاب وإنما حملهم على تكذيبه في الظاهر الحسد والظلم : فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ يعني أنهم لا يكذبونك في السر ، لأنهم قد عرفوا أنك صادق وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ يعني الكافرين بِآياتِ اللّه يَجْحَدُونَ يعني في العلانية وذلك أنهم جحدوا القرآن بعد معرفة الصدق الذي أنزل عليه لعنادهم وكفرهم كما قال اللّه تعالى في حق غيرهم ، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا.

وقيل : ظاهر الآية يدل على أنهم لم يكذبوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم وإنما جحدوا آيات اللّه وهي القرآن الدال على صدقه ، فعلى هذا يكون المعنى : فإنهم لا يكذبونك لأنهم قد عرفوا صدقك وإنما جحدوا آيات اللّه وهي القرآن الدال على صدقه فعلى هذا يكون المعنى فإنهم لا يكذبونك لأنهم قد عرفوا صدقك وإنما جحدوا صحة نبوتك ورسالتك ،

قوله عز وجل :

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللّه وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)

٣٤

٣٥

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ يعني ولقد كذبت الأمم الخالية رسلهم كما كذبك قومك : فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا يعني أن الرسل عليهم السلام صبروا على تكذيب قومهم إياهم وصبروا على أذاهم ، فاصبر أنت يا محمد على تكذيب قومك وأذاهم لك كما صبر من كان قبلك من الرسل وهذا فيه تسلية للنبي صلى اللّه عليه وسلم وإزالة حزنه على تكذيب قومه له وأذاهم إياه حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا يعني بإهلاك من كذبهم وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللّه يعني ولا ناقض لما حكم اللّه به من إهلاك المكذبين ونصر المسلمين كما قال وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ وقال اللّه تعالى : كَتَبَ اللّه لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ولا خلف فيما وعد اللّه به.

وقوله تعالى : وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ يعني ولقد أنزلت عليك في القرآن من أخبار المرسلين ما فيه تسلية لك وتسكين لقلبك. وقال الأخفش : من هنا صلة كما تقول أصابنا من مطر وقال غيره بل هي للتبعيض لأن الواصل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قصص بعض الأنبياء وأخبارهم كما قال تعالى : مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ.

قوله تعالى : إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ذكر ابن الجوزي في سبب نزول هذه الآية : أن الحارث بن عامر أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في نفر من قريش فقال : ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات فإن فعلت آمنا بك فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. ومعنى الآية : وإن كان عظم عليك يا محمد إعراض هؤلاء المشركين عنك وعن تصديقك والإيمان بك ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحرص على إيمان قومه أشد الحرص وكان إذا سألوه آية أحب أن يريهم اللّه ذلك طعما في إيمانهم فقال اللّه عز وجل : فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ يعني تطلب وتتخذ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ يني سربا في الأرض والنفق سرب في الأرض تخلص منه إلى مكان آخر أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ يعني : أو تتخذ مصعدا إلى السماء والسلم المصعد وهو مشتق من السلامة فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ يعني بالآية :

التي سألوا عنها. ومعنى الآية وإن كان كبر وعظم عليك إعراض قومك عن الإيمان بك فإن قدرت أن تذهب في الأرض أو تصعد إلى السماء فتأتيهم بآية تدلهم على صدقك فافعل وإنما حسن حذف جواب الشرط لأنه معلوم عند السامع والمقصود من هذا أن يقطع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طعمه عن إيمانهم ولا يتأذى بسبب إعراضهم عنه وعن الإيمان به ويدل عليه

قوله تعالى : وَلَوْ شاءَ اللّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى أخبر اللّه عز وجل نبيه صلى اللّه عليه وسلم أنهم إنما تركوا الإيمان وأعرضوا عنه وأقبلوا على الكفر بمشيئة اللّه تعالى ونافذ قضائه فيهم وأنه لو شاء لجمعهم على الهدى :

فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ يعني بأن لو شاء اللّه لجمعهم على الهدى وأنه يؤمن بك بعضهم دون بعض

وقيل معناه لا يشتد تحسرك على تكذيبهم ، إياك ولا تجزع من إعراضهم عنك فتقارب حال الجاهلين الذين لا صبر لهم وإنما نهاه عن هذه الحالة وغلّظ له الخطاب تبعيدا له عن هذه الحالة.

إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللّه ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّه قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)

٣٦

٣٧

٣٨

قوله عز وجل : إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعني المؤمنين الذين فتح اللّه أسماع قلوبهم فهم يسمعون الحق ويستجيبون له ويبغونه وينتفعون به دون من ختم اللّه على سمع قلبه وهو قوله الْمَوْتى يعني الكفار الذين لا يسمعون ولا يستجيبون يَبْعَثُهُمُ اللّه يعني يوم القيامة ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ فيجزيهم بأعمالهم وَقالُوا يعني رؤساء كفار قريش لَوْلا يعني هلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعني الملك ليشهد لمحمد بالنبوة

وقيل الآية المعجزة الباهرة كمثل معجزات الأنبياء قُلْ يعني قل لهم يا محمد إِنَّ اللّه قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً يعني أنه تعالى قادر على إيجاد ما طلبوه وإنزال ما اقترحوه من الآيات والمعجزات الباهرات وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني ماذا عليهم في إنزالها من العذاب إن لم يؤمنوا بها

وقيل معناه إنهم لا يعلمون أن اللّه قادر على إنزال الآيات

وقيل إنهم لا يعلمون وجه المصلحة في إنزالها

قوله تعالى : وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ

قال العلماء : جميع ما خلق اللّه عز وجل لا يخرج عن هاتين الحالتين إما أن يدب على الأرض ، أو يطير في الهواء ، حتى ألحقوا حيوان الماء بالطير ، لأن الحيتان تسبح في الماء كما أن الطير يسبح في الهواء.

وإنما خص ما في الأرض بذكر دون ما في السماء وإن كان ما في السماء مخلوقا لأن الاحتجاج بالشاهد أظهر وأولى مما لا يشهد وإنما ذكر الجناح في قوله بجناحيه للتوكيد كقولك كتبت بيدي ونظرت بعيني إلا أمم أمثالكم.

قال مجاهد : أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها. يريدون أن كل جنس من الحيوان أمة فالطير أمة والدواب أمة والسباع أمة تعرف بأسمائها مثل بني آدم يعرفون بأسمائهم كما يقال الإنس والناس ويدل على أن كل جنس

من الدواب أمة ما روي عن عبد اللّه بن مغفل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.

فإن قلت ثبت بالآية والحديث أن الدواب والطير أمم أمثالنا وهذه المماثلة لم تحصل من كل الوجوه فيما يظهر لنا فما وجه هذه المماثلة.

قلت : اختلف العلماء في وجه هذه المماثلة فقيل : إن هذه الحيوانات تعرف اللّه وتوحده وتسبّحه وتصلي له كما أنكم تعرفون اللّه وتوحدونه وتسبحونه وتصلّون له.

وقيل : إنها مخلوقة للّه كما أنكم مخلوقون للّه عز وجل

وقيل إنها يفهم بعضها عن بعض ويألف بعضها بعضا كما أن جنس الإنسان يألف بعضهم بعضا ويفهم بعضهم عن بعض.

وقيل : أمثالكم في طلب الرزق وتوقي المهالك ومعرفة الذكر والأنثى.

وقيل : أمثالكم في الخلق والموت والبعث بعد الموت للحساب حتى يقتص للجماء من القرناء وهو

قوله تعالى : ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ يعني في اللوح المحفوظ لأنه يشمل جميع أحوال المخلوقات

وقيل إن المراد بالكتاب القرآن يعني أن القرآن مشتمل على جميع الأحوال : ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يعني الدواب والطير قال ابن عباس : حشرها موتها.

وقال أبو هريرة يحشر اللّه الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كوني ترابا

(م).

عن أبي هريرة : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللّه يُضْللّه وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللّه أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّه تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣)

٣٩

٤٠

٤١

٤٢

٤٣

قوله عز وجل : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني بالقرآن وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم

وقيل : كذبوا بحجج اللّه وأدلته على توحيده صُمٌّ يعني عن سماع الحق وَبُكْمٌ يعني عن النطق به والمعنى أنهم في حال كفرهم وتكذيبهم كمن لا يسمع ولا يتكلم ، ولهذا شبه الكفار بالموتى لأن الميت لا يسمع ولا يتكلم فِي الظُّلُماتِ يعني في ظلمات الكفر ، حائرين مترددين فيها لا يهتدون سبيلا مَنْ يَشَأِ اللّه يُضْللّه يعني عن الإيمان وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني ومن يشأ يجعله اللّه على دين الإسلام وفي هذا دليل على أن الهادي والمضل هو اللّه تعالى فمن أحب هدايته وفقه بفضله وإحسانه للإيمان به ومن أحب ضلالته تركه على كفره وهذا عدل منه لأنه تعالى هو الفاعل المختار لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

قوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ يعني : قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين تركوا عبادة اللّه عز وجل وعبدوا غيره من الأصنام أخبروني تقول العرب أرأيتك بمعنى أخبرنا بحالك وأصله أرأيتم والكاف فيه للتأكيد : إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللّه يعني قبل الموت مثل ما نزل بالأمم الماضية الكافرة من : الغرق والخسف والمسخ والصواعق ونحو ذلك من العذاب أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ يعني القيامة أَغَيْرَ اللّه تَدْعُونَ يعني في كشف العذاب عنكم إِنْ كُنْتُمْ

صادِقِينَ يعني في دعواكم. ومعنى الآية أن الكفار كانوا إذا نزل بهم شدة وبلاء رجعوا إلى اللّه بالتضرع والدعاء وتركوا الأصنام فقيل لهم : أترجعون إلى اللّه في حال الشدة والبلاء ولا تعبدونه ولا تطيعونه في حال اليسر والرخاء؟ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ يعني بل تدعون اللّه ، ولا تدعون غيره في كشف ما نزل بكم فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ يعني فيكشف الضر الذي من أجله دعوتموه وإنما قيد الإجابة بالمشيئة رعاية للمصلحة وإن كانت الأمور كلها بمشيئة اللّه تعالى : وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ يعني : وتتركون دعاء الأصنام التي تعبدونها فلا تدعونها لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع

وقيل معناه أنكم في ترككم دعاء الأصنام بمنزلة من قد نسيها وهذا معنى قول الحسن لأنه قال وتعرضون عنها إعراض الناسي لها.

قوله تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ في الآية محذوف والتقدير ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك يا محمد رسلا فخالفوهم وكفروا وحسن هذا الحذف لكونه معلوما عند السامع فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ يعني بالفقر الشديد وأصله من البؤس وهو الشدة والمكروه

وقيل : البأساء ، شدة الجوع وَالضَّرَّاءِ يعني الأمراض والأوجاع والزمانة لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ يعني يخضعون ويتوبون والتضرع التخشع والتذلل والانقياد وترك التمرد وأصله من الضراعة وهي الذلة. ومقصود الآية ، أن اللّه تعالى أعلم نبيه صلى اللّه عليه وسلم أنه قد أرسل من قبله رسلا إلى أقوام بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالبأساء والضراء وهي الشدة في النفس والمال فلم يخضعوا ولم يتضرعوا ففيه تسلية للنبي صلى اللّه عليه وسلم فَلَوْ لا يعني فهلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا معناه نفي التضرع فلم يتضرعوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ يعني ولكن غلظت قلوبهم فلم تضرع ولم تخشع بل أقاموا على كفرهم وتكذيبهم رسلهم وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني من الكفر والتكذيب وتزيين الشيطان إغواؤه بما في المعصية من اللذة. قال ابن عباس : يريد زين الشيطان الضلالة التي كانوا عليها فأصروا على معاصي اللّه عز وجل.

فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)

٤٤

٤٥

قوله عز وجل : فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا ما وعظوا به

وقيل تركوا العمل بما أمرتهم به الرسل وإنما كان النسيان بمعنى الترك لأن التارك للشيء معرضا عنه كأنه قد صيره بمنزلة ما قد نسي فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ يعني بدلنا مكان البأساء والرخاء والسعة في الرزق والعيش ومكان الضراء الصحة والسلامة في الأبدان والأجسام وذلك استدراج منه لهم.

وقيل : فتحنا عليهم أبواب كل شيء من الخير كان مغلقا عنهم حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا يعني فرحوا بما أوتوا من السعة والرخاء والصحة في الأبدان والمعيشة وظنوا أن ما كان نزل بهم من الشدة لم يكن انتقاما من اللّه تعالى فإنهم لما فتح اللّه عليهم ما فتح من الخير والسعة فرحوا به وظنوا أن ذلك باستحقاقهم وهذا فرح بطر كما فرح قارون بما أوتي من الدنيا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً يعني جاءهم عذابنا فجأة من حيث لا يشعرون قال الحسن مكر بالقوم ورب الكعبة ، وقال أهل المعاني : إنما أخذوا في حال الرخاء والسلامة ليكون أشد لتحسرهم على ما فاتهم من حال السلامة والعافية والتصرف في ضروب اللذة ، فأخذناهم في آمن ما كانوا وأعجب ما كانت الدنيا إليهم فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ أي آيسون من كل خير ، وقال الفراء المبلس اليائس المنقطع رجاؤه ولذلك يقال لمن يسكت عند انقطاع حجته ولا يكون له جواب قد أبلس وقال الزجاج المبلس الشديد الحزن والحسرة وقال أبو عبيدة المبلس النادم والحزين والإبلاس هو الإطراق من الحزن والندم روى عقبة بن عامر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال (إذا رأيت اللّه تعالى يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك

استدراج ثم تلا فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ الآية) ذكره البغوي بغير سند وأسنده الطبري.

وقوله تعالى : فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي آخرهم الذي يدبرهم. يقال : دبر فلان القوم ، إذا كان آخرهم. والمعنى : أنهم استؤصلوا بالعذاب فلم تبق منهم باقية وَالْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعالَمِينَ قال الزجاج : حمد اللّه نفسه على أن قطع دابرهم واستأصل شأفتهم ومعنى هذا أن قطع دابرهم نعمة أنعم اللّه بها على الرسل الذين أرسلوا إليهم فكذبوهم فذكر الحمد تعليما للرسل ولمن آمن بهم ليحمدوا اللّه على كفايتهم إياهم شر الذين ظلموا وليحمد محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ربهم ، إذ أهلك المشركين المكذبين.

وقيل : معناه الثناء الكامل والشكر الدائم للّه رب العالمين على إنعامه على رسله وأهل طاعته بإظهار حجتهم على من خالفهم وإهلاك أعدائهم واستئصالهم العذاب.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّه سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللّه بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللّه وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠)

وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١)

٤٦

٤٧

٤٨

٤٩

٥٠

قوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين : إِنْ أَخَذَ اللّه سَمْعَكُمْ يعني الذي تسمعون به فأصمكم حتى لا تسمعوا شيئا وَأَبْصارَكُمْ يعني وأخذ أبصاركم التي تبصرون بها فأعماكم حتى لا تبصروا شيئا أصلا وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ يعني لا تفقهوا شيئا أصلا ولا تعرفوا شيئا مما تعرفون من أمور الدنيا. وإنما ذكر هذه الأعضاء الثلاثة ، لأنها أشرف أعضاء الإنسان فإذا تعطلت هذه الأعضاء ، اختل نظام الإنسان وفسد أمره وبطلت مصالحه في الدين والدنيا. ومقصود هذا الكلام ذكر ما يدل على وجود الصانع الحكيم المختار وتقريره أن القادر على إيجاد هذه الأعضاء وأخذها هو اللّه تعالى المستحق للعبادة لا الأصنام التي تعبدونها وهو

قوله تعالى : مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِهِ يعني يأتيكم بما أخذ اللّه منكم لأن الضمير في به يعود على معنى الفعل ويجوز أن يعود على السمع الذي ذكر أولا ويندرج تحته غيره انْظُرْ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم ويدخل معه غيره أن انظر يا محمد كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ يعني كيف نبين لهم العلامات الدالة على التوحيد والنبوة ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ يعني يعرضون عنها مكذبين لها قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللّه بَغْتَةً يعني فجأة أَوْ جَهْرَةً يعني معاينة ترونه عند نزوله ، وقال ابن عباس ليلا أو نهارا هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ يعني المشركين لأنهم ظلموا أنفسهم بالشرك.

قوله عز وجل : وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ يعني لمن آمن بالثواب وَمُنْذِرِينَ يعني لمن أقام على كفره بالعقاب والمعنى ليس في إرسالهم أن يأتوا الناس بما يقترحون عليهم من الآيات إنما أرسلوا بالبشارة والنذارة فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ يعني آمن بهم وأصلح العمل للّه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يعني حين يخاف أهل النار وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي إذا حزن غيرهم وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ يعني يصيبهم العذاب بِما كانُوا يَفْسُقُونَ يعني بسبب ما كانوا يكفرون ويخرجون عن الطاعة.

قوله تعالى : قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم يعني : قل يا محمد لهؤلاء المشركين لا أقول لكم عِنْدِي خَزائِنُ اللّه نزلت حين اقترحوا عليه الآيات فأمره اللّه تعالى أن يقول لهم إنما بعثت بشيرا ونذيرا ولا

أقول لكم عندي خزائن اللّه جمع خزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي والمعنى ليس عندي خزائن رزق اللّه فأعطيكم منها ما تريدون لأنهم كانوا يقولون للنبي صلى اللّه عليه وسلم إن كنت رسولا من اللّه فاطلب منه أن يوسع علينا عيشنا ويغني فقرنا فأخبر أن ذلك بيد اللّه لا بيدي وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ يعني فأخبركم بما مضى وما سيقع في المستقبل ، وذلك أنهم قالوا له : أخبرنا بمصالحنا ومضارنا في المستقبل حتى نستعد لتحصيل المصالح ودفع المضار ، فأجابهم بقوله : ولا أعلم الغيب فأخبركم بما تريدون وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وذلك أنهم قالوا : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج النساء؟ فأجابهم بقوله : ولا أقول لكم إني ملك لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه البشر ويشاهد ما لا يشاهدون فلست أقول شيئا من ذلك ولا أدّعيه فتنكرون قولي وتجحدون أمري. وإنما نفى عن نفسه الشريفة هذه الأشياء تواضعا للّه تعالى واعترافا له بالعبودية وأن لا يقترحوا عليه الآيات العظام إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ يعني ما أخبركم إلا بوحي من اللّه أنزلهعليّ ومعنى الآية أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أعلمهم أنه لا يملك خزائن اللّه التي منها يرزق ويعطي وأنه لا يعلم الغيب فيخبر بما كان وما سيكون وأنه ليس بملك حتى يطلع على ما لا يطلع عليه البشر إنما يتبع ما يوحى إليه من ربه عز وجل فما أخبر عنه من غيب بوحي اللّه إليه وظاهر الآية يدل على أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ما كان يجتهد في شيء من الأحكام بل جميع أوامره ونواهيه إنما كانت بوحي من اللّه إليه قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ؟

يعني : المؤمن والكافر والضال والمهتدي والعالم والجاهل أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ يعني أنهما لا يستويان.

قوله عز وجل : وَأَنْذِرْ بِهِ يعني وخوف بالقرآن والإنذار إعلام مع تخويف الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ.

قال ابن عباس : يريد المؤمنين لأنهم يخافون يوم القيامة وما فيه من شدة الأهوال.

وقيل : معنى يخافون يعلمون والمراد بهم كل معترف بالبعث من مسلم وكتابي وإنما خص الذين يخافون الحشر بالذكر دون غيرهم وإن كان إنذاره صلى اللّه عليه وسلم لجميع الخلائق لأن الحجة عليهم أوكد من غيرهم لاعترافهم بصحة المعاد والحشر.

وقيل :

المراد بهم الكفار لأنهم لا يعتقدون صحة ولذلك قال : يخافون أن يحشروا إلى ربهم ،

وقيل : المراد بالإنذار جميع الخلائق فيدخل فيه كل مؤمن معترف بالحشر وكل كافر منكر له لأنه ليس أحد إلا وهو يخاف الحشر سواء اعتقد وقوعه أو كان يشكّ فيه ولأن دعوة النبي صلى اللّه عليه وسلم وإنذاره لجميع الخلق لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ يعني من دون اللّه وَلِيٌّ أي قريب ينفعهم وَلا شَفِيعٌ يعني يشفع لهم ثم إن فسرنا الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم أن المراد بهم الكفار فلا إشكال فيه لقوله تعالى : ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ وإن فسرنا الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم أن المراد بهم المؤمنون ففيه إشكال ، لأنه قد ثبت بصحيح النقل شفاعة نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم للمذنبين من أمته وكذلك تشفع الملائكة والأنبياء والمؤمنون بعضهم لبعض والجواب عن هذا الإشكال أن الشفاعة لا تكون إلا بإذن اللّه ل

قوله عز وجل : مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وإذا كانت الشفاعة بإذن اللّه صح قوله : لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ يعني حتى يأذن اللّه لهم في الشفاعة فإذا أذن فيها كان للمؤمنين ولي وشفيع لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يعني ما نهيتم عنه.

وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)

٥٢

قوله تعالى : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قال سلمان وخباب بن الأرت :

فينا نزلت هذه الآية جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري وهما من المؤلفة قلوبهم فوجدوا

النبي صلى اللّه عليه وسلم قاعدا مع صهيب وبلال وعمار وخباب في نفر من ضعفاء المؤمنين فلما رأوهم حوله ، حقّروهم فأتوه فقالوا : يا رسول اللّه لو جلست في صدر المجلس ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم وكانت عليهم جباب صوف لها رائحة ليس عليهم غيرها لجالسناك وأخذنا عنك فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم (ما أنا بطارد المؤمنين) قالوا : فإنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فأقعدهم إن شئت. قال : نعم. قالوا فاكتب لنا عليك بذلك كتابا.

قال : فأتى بالصحيفة ودعا عليا ليكتب. قال : ونحن قعود في ناحية إذا نزل جبريل عليه السلام بقوله : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ إلى قوله أَلَيْسَ اللّه بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ فألقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه وهو يقول سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل اللّه تبارك وتعالى : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ الآية فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقعد معنا بعد ذلك وندنو منه حتى كانت ركبنا تمس ركبته فإذا بلغ الساعة التي يريد أن يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم وقال لنا (الحمد اللّه الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات).

وروي عن سعد بن أبي وقاص قال كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى اللّه عليه وسلم : اطرد هؤلاء لا يجترءون علينا. قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هزيل وبلال ورجلان لست أسميهما فوقع في نفس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما شاء اللّه أن يقع فحدث نفسه فأنزل اللّه عز وجل : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أخرجه مسلم.

وقال الكلبي : قالوا له ، يعني أشراف قريش ، اجعل لنا يوما ولهم يوما. قال : لا أفعل. قالوا : فاجعل المجلس واحدا وأقبل علينا وولّ ظهرك إليهم. فأنزل اللّه هذه الآية. وقال مجاهد : قالت قريش لولا بلال وابن أم عبد يعني ابن مسعود لبايعناك فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وقال ابن مسعود : مر ملأ من قريش بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا : يا محمد رضيت بهؤلاء بدلا من قومك هؤلاء الذين منّ اللّه عليهم من بيننا أنحن نكون تبعا لهؤلاء اطردهم فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فنزلت هذه الآية. وقال عكرمة : جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب عم النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا : يا أبا طالب لو أن ابن أخيك محمدا يطرد عنه موالينا وحلفاءنا فإنهم عبيدنا وعسفاؤنا ، كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له فأتى أبو طالب النبي صلى اللّه عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه به فقال عمر بن الخطاب : لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون وإلى ماذا يصيرون فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ قوله أَلَيْسَ اللّه بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ فجاء عمر فاعتذر من مقالته

قلت بين هذه الروايات والرواية الأولى التي عن سلمان وخباب بن الأرت فرق كثير وبعد عظيم ، وهو أن إسلام سلمان كان بالمدينة ، وكان إسلام المؤلفة قلوبهم بعد الفتح وسورة الأنعام مكية.

والصحيح ما روي عن ابن مسعود والكلبي وعكرمة في ذلك ، ويعضده حديث مسعد بن أبي وقاص المخرج في صحيح مسلم من أن المشركين قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم : اطرد هؤلاء ، يعني ضعفاء المسلمين ، واللّه أعلم.

وأما معنى الآية فقوله : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ الخطاب فيه للنبي صلى اللّه عليه وسلم. يعني : ولا تطرد هؤلاء الضعفاء عنك ولا تبعدهم عن مجلسك لأجل ضعفهم وفقرهم. ثم وصفهم

فقال تعالى الذي يدعون ربهم بالغداة والعشي يعني صلاة الصبح وصلاة العصر. ويروى عنه أن المراد منه الصلوات الخمس. وإنما ذكر هذين الوقتين تنبيها على شرفهما ولأنهم مواظبون عليهما مع بقية الصلوات ، ولأن الصلوات تشتمل على القراءة

والدعاء والذكر فعبر بالدعاء عن الصلاة لهذا المعنى. قال مجاهد : صليت الصبح مع سعيد بن المسيب فلما سلم الإمام ابتدر الناس القاص فقال سعيد بن المسيب : ما أسرع الناس إلى هذا المجلس؟ فقال مجاهد : يتأولون

قوله تعالى يدعون ربهم بالغداة والعشي قال أوفي هذا إنما هو في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن وقال ابن عباس إن ناسا من الفقراء كانوا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ناس من أشراف الناس نؤمن لك وإذا صلينا فأخّر هؤلاء الذين معك فليصلوا خلفنا ،

وقيل : المراد منه حقيقة الدعاء والذكر والمعنى : أنهم كانوا يذكرون ربهم ويدعونه طرفي النهار يريدون وجهه يعني يطلبون بعبادتهم وطاعتهم وجه اللّه مخلصين في عبادتهم له. وقال ابن عباس : يطلبون ثواب اللّه تعالى : ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني لا تكلف أمرهم ولا يكلفون أمرك.

وقيل : ما عليك حسابهم رزقهم فتملهم وتطردهم عنك ولا رزقك عليهم إنما الرازق لجميع الخلق هو اللّه تعالى فلا تطردهم عنك : فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ يعني بطردهم عنك وعن مجلسك.

فقوله : فتطردهم ، جواب النفي وهو قوله ما عليك من حسابهم من شيء

وقوله : فتكون من الظالمين ، جواب النهي وهو قوله ولا تطرد الذين يدعون ربهم واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية فقالوا إن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما همّ بطرد الفقراء عن مجلسه لأجل الأشراف عاتبه اللّه على ذلك ونهاه عن طردهم وذلك يقدح في العصمة وقوله فتطردهم فتكون من الظالمين والجواب عن هذا الاحتجاج أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ما طردهم ولا همّ بطردهم ، لأجل استخفاف بهم والاستنكاف من فقرهم وإنما كان هذا الهم لمصلحة وهي التلطف بهؤلاء الأشراف في إدخالهم في الإسلام فكان ترجيح هذا الجانب أولى وهو اجتهاد منه فأعلمه اللّه تعالى أن إدناء هؤلاء الفقراء أولى من الهمّ بطردهم فقربهم منه وأدناهم.

وأما قوله فتطردهم فتكون من الظالمين فإن الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه فيكون المعنى أن أولئك الفقراء الضعفاء يستحقون التعظيم والتقريب فلا تهم بطردهم عنك فتضع الشيء في غير موضعه فهو من باب ترك الأفضل والأولى لا من باب ترك الواجبات واللّه أعلم.

وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللّه عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللّه بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤)

٥٣

٥٤

قوله عز وجل : وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يعني وكذلك ابتلينا الغني بالفقير ، والفقير بالغني ، والشريف بالوضيع ، والوضيع بالشريف فكل أحد مبتلى بضده فكان ابتلاء الأغنياء فالشرفاء حسدهم لفقراء الصحابة على كونهم سبقوهم إلى الإسلام وتقدموا عليهم فامتنعوا من الدخول في الإسلام لذلك فكان ذلك فتنة وابتلاء لهم.

وأما فتنة الفقراء بالأغنياء ، فلما يرون من سعة رزقهم وخصب عيشهم فكان ذلك فتنة لهم لِيَقُولُوا يعني الأغنياء والشرفاء والرؤساء أَهؤُلاءِ مَنَّ اللّه عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا يعني منّ على الفقراء والضعفاء بالإسلام ومتابعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهذا اعتراض من الكفار على اللّه تعالى فأجابهم بقوله : أَلَيْسَ اللّه بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ يعني أنه تعالى أعلم بخلقه وبأحوالهم وأعلم بالشاكرين من الكافرين.

قوله تعالى : وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ قال عكرمة : نزلت في الذين نهى اللّه نبيه عن طردهم فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام.

وقال عطاء : نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسالم بن أبي عبيدة ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سلمة بن عبد الأسد

وقيل إن الآية على إطلاقها في كل مؤمن.

وقيل : لما جاء عمر بن الخطاب واعتذر من مقالته التي تقدمت في رواية عكرمة وقال : ما

أردت إلا الخير ، نزلت وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كَتَبَ رَبُّكُمْ يعني فرض ربكم وقضى ربكم عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وهذا يفيد الوجوب وسبب هذا أنه تعالى يتصرف في عباده كيف يشاء وأراد فأوجب على نفسه الرحمة على سبيل الفضل والكرم لأنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين : أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ قال مجاهد : كل من عمل ذنبا أو خطيئة فهو بها جاهل واختلفوا في سبب هذا الجهل فقيل لأنه جاهل بمقدار ما استحقه من العقاب وما فاته من الثواب.

وقيل إنه وإن علم أن عاقبة ذلك السوء والفعل القبيح مذمومة إلا أنه آثر اللذة العاجلة على الخير الكثير الآجل ومن آثر القليل على الكثير فهو جاهل

وقيل إنه لما فعل فعل الجهال نسب إلى الجهل وإن لم يكن جاهلا : ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ يعني من بعد ارتكابه ذلك السوء ورجع عنه وَأَصْلَحَ يعني أصلح العمل في المستقبل ،

وقيل أخلص توبته وندم على فعله فَأَنَّهُ غَفُورٌ يعني لمن تاب من ذنوبه رَحِيمٌ بعباده قال خالد بن دينار كنا إذا دخلنا على أبي العالية قال : وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الآية.

عن أبي سعيد الخدري قال : جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقام علينا فلما قام علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سكت القارئ فسلم ثم قال ما كنتم تصنعون؟ قلنا : يا رسول اللّه كان قارئ لنا يقرأ علينا وكنا نستمع إلى كتاب اللّه تعالى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (الحمد للّه الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم) وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسطنا ليعدل بنفسه فينا ثم قال بيده هكذا فتلحقوا وبرزت وجوههم ، قال فما رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عرف منهم أحدا غيري. ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك خمسمائة عام أخرجه أبو داود.

وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للّه يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧)

٥٥

٥٦

٥٧

وقوله عز وجل : وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ يعني وكما فصلنا لك يا محمد في هذه السورة دلائلنا على صحة التوحيد وإبطال ما هم عليه من الشرك كذلك نميز ونبين لك أدلة حججنا وبراهيننا على تقرير كل حق ينكره أهل الباطل وَلِتَسْتَبِينَ قرأ بالتاء على الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم يعني وليظهر لك الحق يا محمد ويتبين لك سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ يعني طريق هؤلاء المجرمين وقرأ بالياء على الغيبة ومعناه ليظهر ويتضح سبيل المجرمين يوم القيامة إذا صاروا إلى النار.

قوله تعالى : قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه يعني نهيت أن أعبد الأصنام التي تعبدونها أنتم من دون اللّه

وقيل تدعونها عند شدائدكم من دون اللّه لأن الجمادات أخس من أن تعبد أو تدعى وإنما كانوا يعبدونها على سبيل الهوى وهو

قوله تعالى قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ يعني في عبادة الأصنام وطرد الفقراء قَدْ ضَلَلْتُ يعني : إِذاً عبدتها وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ يعني لو عبدتها قُلْ يعني قل يا محمد لهؤلاء المشركين إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي قال ابن عباس : يعني على يقين من ربي ،

وقيل : البيّنة الدلالة التي تفصل بين الحق والباطل والمعنى : إني على بيان وبصيرة في عبادة ربي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ يعني وكذبتم بالبيان الذي جئت به من عند ربي وهو القرآن والمعجزات الباهرات والبراهين الواضحات التي تدل على صحة التوحيد وفساد الشرك ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني العذاب ، وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم وكانوا يستعجلون به استهزاء وكانوا يقولون : يا محمد ائتنا بما تعدنا يعني من نزول

العذاب ، فأمر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يقول لهم : ما عندي ما تستعجلون به لأن إنزال العذاب لا يقدر عليه إلا اللّه تعالى ولا يقدر أحد على تقديمه ولا تأخيره.

وقيل : كانوا يستعجلون بالآيات التي طلبوها واقترحوها فأعلم اللّه أن ذلك عنده ليس عند أحد من خلقه.

وقيل : كانوا يستعجلون بقيام الساعة ومنه

قوله تعالى يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للّه يعني الحكم الذي يفصل به بين الحق والباطل والثواب للطائع والعقاب للعاصي أي ما الحكم المطلق إلا للّه ليس معه حكم فهو يفصل بين المختلفين ويقضي بإنزال العذاب إذا شاء يَقُصُّ الْحَقَّ قرئ بالصاد المهملة. ومعناه :

يقول الحق لأن كل ما أخبر به فهو وحق وقرئ يقض بالضاد المعجمة من القضاء يعني أنه تعالى يقضي القضاء الحق وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ يعني وهو خير من بين وفصل وميز بين المحق والمبطل لأنه لا يقع في حكمه وقضائه جور ولا حيف على أحد من خلقه.

قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّه أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠)

٥٨

٥٩

٦٠

قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني من إنزال العذاب. والاستعجال ، المطالبة بالشيء قبل وقته ، فلذلك كانت العجلة مذمومة. والإسراع : تقديم الشيء في وقته ، فلذلك كانت السرعة محمودة. والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين المستعجلين لنزول العذاب لو أن عندي ما تستعجلون به لم أمهلكم ساعة ولكن اللّه حليم ذو أناة لا يعجل بالعقوبة.

قوله تعالى : لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يعني : لا نفصل ما بيني وبينكم ولأتاكم ما تستعجلون به من العذاب وَاللّه أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ يعني أنه أعلم بما يستحقون من العذاب والوقت الذي يستحثونه فيه

وقيل علم أنه سيؤمن بعض من كان يستعجل بالعذاب فلذلك أخره عنهم قال واللّه أعلم بالظالمين وبأحوالهم.

قوله عز وجل :

وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ المفتاح الذي يفتح به المغلاق جمعه مفاتيح ويقال فيه تفتح بكسر الميم وجمعه مفاتح والمفتح بفتح الميم الخزانة وكل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهي مفتح وجمعه مفاتح فقوله وعنده مفاتح الغيب يحتمل أن يكون المراد منه المفاتيح التي يفتح بها ويحتمل أن يكون المراد منه الخزائن. فعلى التفسير الأول فقد جعل للغيب مفاتيح على طرق الاستعارة ، لأن المفاتيح هي التي يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالإغلاق ، فمن علم كيف يفتح بها ويتوصل إلى ما فيها ، فهو عالم. وكذلك هاهنا لأن اللّه تعالى لما كان عالما بجميع المعلومات ما غاب منها وما لم يغب عن هذا المعنى بهذه العبارة.

وعلى التفسير الثاني ، يكون المعنى وعنده خزائن الغيب والمراد منه القدرة الكاملة على كل الممكنات ثم اختلفت أقوال المفسرين في قوله وعنده مفاتح الغيب لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فقيل : مفاتيح الغيب خمس وهي ما روي عن عبد اللّه بن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا اللّه تعالى ، لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا اللّه ، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا اللّه ، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ، ولا يدري أحد متى يجيء المطر.

وفي رواية أخرى : لا يعلم أحد ما تغيض الأرحام ، ولا يعلم ما في غد إلا اللّه ، ولا يعلم متى يأتي المطر

أحد إلا اللّه ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا اللّه ، ولا يعلم متى الساعة إلا اللّه ، أخرجه البخاري. وقال الضحاك ومقاتل : مفاتح الغيب : خزائن الأرض ، وعلم نزول العذاب ، وقال عطاء : هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب.

وقيل : هو انقضاء الآجال وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم.

وقيل : هو علم ما لم يكن بعد أن يكون إذ يكون كيف يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون وقال ابن مسعود : أوتي نبيكم صلى اللّه عليه وسلم كل شيء إلا مفاتح الغيب. وقال ابن عباس : إنها خزائن غيب السموات والأرض من الأقدار والأرزاق وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قال مجاهد : البر المفاوز والقفار ، والبحر القرى والأمصار لا يحدث فيها شيء إلا وهو يعلمه. وقال جمهور المفسرين : هو البر والبحر المعروفان ، لأن جميع الأرض إما بر

وإما بحر وفي كل واحد منهما من عجائب مصنوعاته وغرائب مبتدعاته ما يدل على عظيم قدرته وسعة علمه وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها يريد ساقطة وثابتة والمعنى أنه يعلم عدد ما يسقط من الورق وما بقي على الشجر من ذلك ويعلم كم انقلبت ظهرا لبطن إلى أن تسقط على الأرض وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ قيل : هو الحب المعروف يكون في بطن الأرض قبل أن ينبت.

وقيل : هي الحبة التي في الصخرة التي في أسفل الأرضين وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ قال ابن عباس : الرطب الماء واليابس البادية. وقال عطاء : يريد ما ينبت وما لا ينبت.

وقيل : المراد بالرطب الحي واليابس الميت.

وقيل : هو عبارة عن كل شيء لأن جميع الأشياء إما رطبة

وإما يابسة.

فإن قلت إن جميع هذه الأشياء داخلة تحت قوله وعنده مفاتح الغيب فلم أفرد هذه الأشياء بالذكر وما فائدة ذلك؟.

قلت : لما قال اللّه تعالى وعنده مفاتح الغيب على سبيل الإجمال ذكر من بعد ذلك الإجمال ما يدل على التفصيل ، فذكر هذه الأشياء المحسوسة ليدل بها على غيرها ، فقدم ذكر البر والبحر لما فيهما من العجائب والغرائب من المدن والقرى والمفاوز والجبال وكثرة ما فيها من المعادن والحيوان ، وأصناف المخلوقات مما يعجز الوصف عن إدراكها ، ثم ذكر بعد ذلك ما هو أقل من ذلك وهو مشاهد لكل أحد لأن الورقة الساقطة والثابتة يراها كل أحد ، لكن لا يعلم عددها وكيفية خلقها إلا اللّه تعالى ثم ذكر بعد ذلك ما هو أصغر من الورقة وهي الحبة. ثم ذكر بعد ذلك مثالا يجمع الكل وهو الرطب واليابس فذكر هذه الأشياء وأنه لا يخرج شيء منها عن علمه سبحانه وتعالى فصارت هذه الأمثال منبهة على عظمة عظيمة وقدرة عالية وعلم واسع فسبحان العليم الخبير.

قوله تعالى : إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ فيه قولان :

أحدهما أن الكتاب المبين هو علم اللّه الذي لا يغير ولا يبدل.

والثاني : أن المراد بالكتاب المبين ، هو اللوح المحفوظ ، لأن اللّه كتب فيه علم ما يكون وما قد كان قبل أن يخلق السموات والأرض. وفائدة إحصاء الأشياء كلها في هذا الكتاب ، لتقف الملائكة على إنفاذ علمه ونبه بذلك على تعظيم الحساب وأعلم عباده أنه لا يفوته شيء مما يصنعونه لأن من أثبت ما لا ثواب فيه ولا عقاب في كتاب فهو إلى إثبات ما فيه ثواب وعقاب أسرع.

قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ يعني يقبض أرواحكم إذا نمتم بالليل وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ ما كسبتم بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي يوقظكم فيه أي في النهار لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى يعني أجل الحياة إلى الممات يريد استيفاء العمر على التمام ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ في الآخرة ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

قوله تعالى :

وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّه مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣)

٦١

٦٢

٦٣

وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ يعني وهو العالي عليهم بقدرته لأن كل من قهر شيئا وغلبه فهو مستعل عليه بالقهر والقدرة. فهو كما يقال : أمر فلان فوق أمر فلان ، يعني : أنه أقدر منه. وأغلب هذا مذهب أهل التأويل في معنى لفظة فوق في قوله : وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ

وأما مذهب السلف. فيها : فإمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تأويل ولا إطلاق على جهة والقاهر هو الغالب لغيره المذلل له واللّه تعالى هو القاهر لخلقه وقهر كل شيء بضده فقهر الحياة بالموت والإيجاد بالإعدام والغنى بالفقر والنور بالظلمة.

وقوله تعالى : وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً يعني أن من جملة قهره لعباده إرسال الحفظة عليهم والمراد بالحفظة الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم من الخير والشر والطاعة والمعصية وغير ذلك من الأقوال والأفعال قيل إن مع كل إنسان ملكين ملكا عن يمينه وملكا عن شماله فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال اصبر عليه لعله يتوب منها فإن لم يتب منها كتبها عليه صاحب الشمال. وفائدة جعل الملائكة موكلين بالإنسان أنه إذا علم أن له حافظا من الملائكة موكلا به يحفظ عليه أقواله وأفعاله في صحائف تنشر له وتقرأ عليه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد كان ذلك زاجرا له عن فعل القبيح وترك المعاصي.

وقيل : المراد بقوله ويرسل عليكم حفظة ، هم الملائكة الذين يحفظون بني آدم ويحفظون أجسادهم.

قال قتادة : حفظه يحفظون على ابن آدم رزقه وأجله وعمله حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا يعني أعوان ملك الموت الموكلين بقبض أرواح البشر.

فإن قلت قال اللّه تعالى في آية : اللّه يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وقال في آية أخرى : قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ وقال هنا توفته رسلنا فكيف الجمع بين هذه الآيات؟

قلت وجه الجمع بين هذه الآيات أن المتوفي في الحقيقة هو اللّه تعالى ، فإذا حضر أجل العبد ، أمر اللّه ملك الموت بقبض روحه ولملك الموت أعوان من الملائكة يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت نفسه فحصل الجمع بين الآيات.

وقيل : المراد من قوله توفته رسلنا ملك الموت وحده وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له. وقال مجاهد : جعلت الأرض لملك الموت مثل الطشت يتناول من حيث شاء وجعلت له أعوان ينزعون الأنفس ثم يقبضها منهم وقال أيضا : ما من أهل بيت شعر ولا مدر إلا وملك الموت يطيف بهم كل يوم مرتين.

وقيل : إن الأرواح إذا كثرت عليه يدعوها فتستجيب له

وقوله : وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ يعني الرسل لا يقصرون فيما أمروا به ولا يضيعونه.

قوله عز وجل : ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّه مَوْلاهُمُ الْحَقِّ يعني ثم رد العباد بالموت إلى اللّه في الآخرة وإنما قال مولاهم الحق لأنهم كانوا في الدنيا تحت أيدي موال بالباطل واللّه مولاهم وسيدهم ومالكهم بالحق أَلا لَهُ الْحُكْمُ يعني لا حكم إلا له وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يعني أنه تعالى أسرع من حسب لأنه لا يحتاج إلى فكر وروية وعقد يد فيحاسب خلقه بنفسه لا يشغله حساب بعضهم عن بعض.

قوله تعالى : قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يعني يا محمد ، قل لهؤلاء الكفار الذين يعبدون الأصنام من دون اللّه من ذا الذي ينجيكم من ظلمات البر إذا ضللتم فيه وتحيرتم وأظلمت عليكم الطرق ومن ذا الذي ينجيكم من ظلمات البحر إذا ركبتم فيه فأخطأتم الطريق وأظلمت عليكم السبل فلم تهتدوا

وقيل : ظلمات البر والبحر مجاز عما فيهما من الشدائد والأهوال

وقيل الحل على الحقيقة أولى. فظلمات البر هي ما اجتمع فيه

من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح فيحصل من ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب وظلمات البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة فيحصل من ذلك أيضا الخوف الشديد من الوقوع في الهلاك فالمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان فيها إلا إلى اللّه سبحانه وتعالى لأنه هو القادر على كشف الكروب وإزالة الشدائد وهو المراد من قوله : تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً يعني فإذا اشتد بكم الأمر تخلصون له الدعاء تضرعا منكم إليه واستكانة. جهرا وخفية : يعني سرا حالا وحالا لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ يعني قائلين في حال الدعاء والتضرع لئن أنجيتنا من هذه الظلمات وخلصتنا من الهلاك لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ يعني لك على هذه النعمة والشكر وهو معرفة النعمة مع القيام بحقها لمن أنعم بها.

قُلِ اللّه يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥)

٦٤

٦٥

قُلِ اللّه يُنَجِّيكُمْ مِنْها يعني من الظلمات والشدائد التي أنتم فيها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ يعني وهو الذي ينجيكم من كل كرب أيضا والكرب هو الغم الشديد الذي يأخذ بالنفس ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ يريد أنهم يقرون بأن الذي أنجاهم من هذه الشدائد هو اللّه تعالى ثم إنهم بعد ذلك الإقرار يشركون معه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع.

قوله عز وجل : قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أي : قل يا محمد لقومك إن اللّه هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم يعني الصيحة والحجارة والريح والطوفان كما فعل بقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ يعني الرجفة والخسف كما فعل بقوم شعيب وقارون. وقال ابن عباس ومجاهد : عذابا من فوقكم ، يعني أئمة السوء والسلاطين الظلمة أو من تحت أرجلكم يعني عبيد السوء. وقال الضحاك : من فوقكم يعني من قبل كباركم أو من تحت أرجلكم يعني السفلة أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً الشيع جمع شيعة وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة وأشياع وأصله من التشيع. ومعنى الشيعة : الذين يتبع بعضهم بعضا.

وقيل : الشيعة هم الذي يتقوى بهم الإنسان. قال الزجاج : في قوله أو يلبسكم شيعا يعني يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط إنفاق فيجعلكم فرقا مختلفين يقاتل بعضكم بعضا وهو معنى قوله : وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال ابن عباس : قوله أو يلبسكم شيعا يعني الأهواء المختلفة ويذيق بعضكم بأس بعض يعني أنه يقتل بعضكم بيد بعض. وقال مجاهد : يعني أهواء متفرقة وهو ما كان فيهم من الفتن والاختلاف. وقال ابن زيد : هو الذي فيه الناس اليوم من الاختلاف والأهواء وسفك بعضهم دماء بعض. ثم اختلف المفسرون فيمن عني بهذه الآية فقال قوم عني بها المسلمون من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم وفيهم نزلت هذه الآية. قال أبو العالية : في قوله قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ الآية. قال : هن أربع وكلهن عذاب فجاءت اثنتان بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخمس وعشرين سنة فألبسوا شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض وبقيت اثنتان وهما لا بد واقعتان يعني الخسف والمسخ. وعن أبي بن كعب نحوه وهن أربع خلال وكلهن واقع قبل يوم القيامة مضت ثنتان بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخمس وعشرين سنة ألبسوا شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض ثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم. وقال مجاهد : في قوله من فوقكم أو من تحت أرجلكم لأمة محمد فأعفاهم منه أو يلبسكم شيعا ما كان بينهم من الفتن والاختلاف زاد غيره ويذيق بعضكم بأس بعض يعني ما كان فيهم من القتل بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

(خ) عن جابر قال لما نزلت هذه الآية قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال هذا أهون أو هذا أيسر)

(م).

عن سعد بن أبي وقاص أنه أقبل مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال : (سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها). عن خباب بن الأرت قال صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلاة فأطالها فقالوا يا رسول اللّه صليت صلاة لم تكن تصليها قال : (أجل إنها صلاة رغبة ورهبة إني سألت اللّه فيها ثلاثة فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا تهلك أمتي بسنة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها) أخرجه الترمذي

وقوله تعالى : انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي انظر يا محمد كيف نبين دلائلنا وحجتنا لهؤلاء المكذبين لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ يعني يفهمون ويعتبرون فينزجروا ويرجعوا عما هم عليه من الكفر والتكذيب.

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ

٦٦

٦٧

٦٨

٦٩

وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)

قوله تعالى : وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ يعني بالقرآن وَهُوَ الْحَقُّ يعني في كونه كتابا منزلا من عند اللّه

وقيل الضمير في به يرجع إلى العذاب وهو الحق يعني أنه نازل بهم أن أقاموا على كفرهم وتكذيبهم.

وقيل : الضمير يرجع إلى تصريف الآيات وهو الحق لأنهم كذبوا كونها من عند اللّه قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. أي : قل يا محمد لهؤلاء المكذبين لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الحق بل إنما أنا منذر واللّه هو المجازي لكم على أعمالكم

وقيل معناه إنما أدعوكم إلى اللّه وإلى الإيمان به ولم أومر بحربكم ، فعلى هذا القول ، تكون الآية منسوخة بآية السيف.

وقيل في معنى الآية : قل لست عليكم بوكيل ، يعني حفيظا إنما أطالبكم بالظاهر من الإقرار والعلم لا بما تحويه الضمائر والأسرار فعلى هذا تكون الآية محكمة لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي لكل خبر من أخبار القرآن حقيقة ومنتهى ينتهي إليه إما في الدنيا

وإما في الآخرة.

وقيل لكل خبر يخبر اللّه به وقت ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير فكان ما وعدهم به من العذاب في الدنيا وقع يوم بدر وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني صحة هذا الخبر إما في الدنيا

وإما في الآخرة.

قوله تعالى : وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا الخطاب في وإذا رأيت للنبي صلى اللّه عليه وسلم والمعنى وإذا رأيت يا محمد هؤلاء المشركين الذين يخوضون في آياتنا يعني القرآن الذي أنزلناه إليك والخوض في اللغة هو الشروع في الماء والعبور فيه ، ويستعار للأخذ في الحديث والشروع فيه. يقال : تخاوضوا في الحديث وتفاوضوا فيه ، لكن أكثر ما يستعمل الخوض في الحديث على وجه اللعب والعبث وما يذم عليه ومنه قوله وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ

وقيل : الخطاب في وإذا رأيت لكل فرد من الناس. والمعنى : وإذا رأيت أيها الإنسان الذين يخوضون في آياتنا وذلك أن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في الاستهزاء بالقرآن وبمن أنزله وبمن أنزل عليه ، فنهاهم اللّه أن يقعدوا معهم في وقت الاستهزاء بقوله فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يعني فاتركهم ولا تجالسهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ يعني حتى يكون خوضهم في غير القرآن والاستهزاء به

وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ يعني فقعدت معهم فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى يعني إذا ذكرت فقم عنهم ولا تقعد مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني المشركين

قوله تعالى : وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ قال المسلمون : كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف

بالبيت وهم يخوضون أبدا؟

وفي رواية ، قال المسلمون : إنا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم فأنزل اللّه هذه الآية وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ يعني يتقون الشرك والاستهزاء من حسابهم من حساب المشركين من شيء يعني ليس عليهم شيء من حسابهم ولا آثامهم وَلكِنْ ذِكْرى يعني ولكن ذكروهم ذكرى.

وقيل : معناه ولكن عليكم أن تذكروهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يعني لعل تلك الذكرى تمنعهم من الخوض والاستهزاء.

( (فصل)) قال سعيد بن المسيب وابن جريج ومقاتل : هذه الآية منسوخة بالآية التي في سورة النساء وهي

قوله تعالى : وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللّه يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها وذهب الجمهور إلى أنها محكمة لا نسخ فيها لأنها خبر والخبر لا يدخله النسخ لأنها إنما دلت على أن كل إنسان إنما يختص بحساب نفسه لا بحساب غيره ،

وقيل : إنما أباح لهم القعود معهم بشرط التذكير والموعظة فلا تكون منسوخة.

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللّه وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّه ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللّه كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّه هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١)

٧٠

٧١

قوله عز وجل : وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً الخطاب للنبي. يعني : وذر يا محمد هؤلاء المشركين الذين اتخذوا دينهم الذي أمروا به ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعبا ولهوا وذلك حيث سخروا به واستهزءوا به

وقيل إنهم اتخذوا عبادة الأصنام لعبا ولهوا.

وقيل : إن الكفار كانوا إذا سمعوا القرآن لعبوا ولهوا عند سماعه.

وقيل إن اللّه جعل لكل قوم عيدا فاتخذ كل قوم دينهم يعني عيدهم لعبا ولهوا يلعبون ويلهون فيه إلا المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم صلاة وتكبيرا وفعل الخير فيه مثل عيد الفطر وعيد النحر ويوم الجمعة وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يعني أنهم اتخذوا دينهم لعبا ولهوا لأجل أنهم غرتهم الحياة الدنيا وغلب حبها على قلوبهم فأعرضوا عن دين الحق واتخذوا دينهم لعبا ولهوا ومعنى الآية : وذر يا محمد الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا واتركهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم وهذا يقتضي الإعراض عنهم ثم نسخ ذلك الإعراض بآية السيف وهو قول قتادة والسدي.

وقيل : إنه خرج مخرج التهديد فهو كقوله ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وهذا قول مجاهد فعلى هذا تكون الآية محكمة.

وقيل : المراد بالإعراض عنهم ، ترك معاشرتهم ومخالطتهم لا ترك الإنذار والتخويف ويدل عليه قوله : وَذَكِّرْ بِهِ يعني وذكر بالقرآن وعظ به هؤلاء المشركين أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ أي لئلا تبسل نفس وأصل البسل في اللغة : التحريم وضم الشيء ومنعه. وهذا عليك بسل : أي حرام ممنوع. فمعنى تبسل نفس بما كسبت :

ترتهن وتحبس في جهنم وتحرم من الثواب بسبب ما كسبت من الآثام.

وقال ابن عباس : تبسل تهلك. وقال قتادة : تحبس يعني في جهنم. وقال الضحاك : تحرق بالنار. وقال ابن زيد : تؤخذ يعني بما كسبت.

وقيل : تفضح. والمعنى : وذكرهم بالقرآن ومواعظه وعرفهم الشرائع لكي لا تهلك نفس وترتهن في جهنم بسبب الجنايات التي اكتسبت في الدنيا وتحرم الثواب في الآخرة لَيْسَ لَها يعني لتلك النفس التي هلكت مِنْ دُونِ اللّه وَلِيٌّ أي قريب يلي أمرها وَلا شَفِيعٌ يعني يشفع لها في الآخرة وَإِنْ

تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ يعني وإن تفتد بكل فداء والعدل الفداء لا يُؤْخَذْ مِنْها يعني العدل وتلك الفدية أُولئِكَ الَّذِينَ إشارة إلى الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا يعني أسلموا إلى الهلاك بسبب ما اكتسبوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ ذلك لهم بسبب كفرهم.

قوله تعالى : قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّه ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا يعني : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين دعوك إلى دين آبائك أندعو يعني أنعبد من دون اللّه يعني الأصنام التي لا تنفع من عبدها ولا تضر من ترك عبادتها وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا يعني ونرد إلى الشرك بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللّه يعني إلى دين الإسلام والتوحيد كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ يعني كالذي ذهبت به الشياطين فألقته في هوية من الأرض وأصله من الهوى وهو النزول من أعلى إلى أسفل حَيْرانَ يقال : حار فلان في الأمر ، إذا تردد فيه فلم يهتد إلى الصواب ولا المخرج منه لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى يعني لهذا المتحير الذي استهوته الشياطين أصحاب على الطريق المستقيم ائْتِنا يعني يقولون له ائتنا وهذا مثل ضربه اللّه لمن يدعو إلى عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ولمن يدعو إلى عبادة اللّه عز وجل الذي يضر وينفع يقول مثلهما كمثل رجل في رفقة ضل به الغول والشيطان عن الطريق المستقيم فجعل أصحابه ورفقته يدعونه إليهم يقولون : هلم إلى الطريق المستقيم وجعل الغيلان يدعونه إليهم فبقي حيران لا يدري أين يذهب فإن أجاب الغيلان ضل وهلك وإن أجاب أصحابه اهتدى وسلم قُلْ إِنَّ هُدَى اللّه هُوَ الْهُدى يعني أن طريق اللّه الذي أوضحه لعباده ودينه الذي شرعه لهم هو الهدى والنور والاستقامة لا عبادة الأصنام ففيه زجر عن عبادتها كأنه يقول لا تفعل ذلك فإن هدى اللّه هو الهدى لا هدى غيره وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ أي وأمرنا أن نسلم ونخلص العبادة لِرَبِّ الْعالَمِينَ لأنه هو الذي يستحق العبادة لا غيره.

وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)

٧٢

٧٣

وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ يعني وأمرنا بإقامة الصلاة والتقوى لأن فيهما ما يقرب إليه وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يعني في يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم.

قوله عز وجل : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يعني إظهارا للحق فعلى هذا تكون الباء بمعنى اللام لأنه جعل صنعه دليلا على وحدانيته.

وقيل : خلقها بكمال قدرته وشمول علمه وإتقان صنعه وكل ذلك حق.

وقيل خلقها بكلامه الحق وهو قول كن وفيه دليل على أن كلام اللّه تعالى ليس بمخلوق لأنه لا يخلق مخلوق بمخلوق وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ.

وقيل إنه راجع إلى خلق السموات. والمعنى : اذكر يوم قال للسموات والأرض كن فيكون.

وقيل : يرجع إلى القيامة ويدل عليه سرعة البعث والحساب كأنه قال : ويوم يقول للخلق موتوا فيموتون وقوموا للحساب فيقومون أحياء قَوْلُهُ الْحَقُّ يعني أن قول اللّه تبارك وتعالى للشيء إذا أراده كن فيكون حق وصدق وهو كائن لا محالة وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ إنما أخبر عن ملكه يومئذ وإن كان الملك له سبحانه وتعالى خالصا في كل وقت في الدنيا والآخرة لأنه لا منازع يومئذ يدعي الملك وأنه المنفرد بالملك يومئذ وأن من كان يدعي الملك بالباطل من الجبابرة والفراعنة وسائر الملوك الذين كانوا في الدنيا قد زال ملكهم واعترفوا بأن الملك للّه الواحد القهار وإنه لا منازع له فيه واعلموا أن الذي كانوا يدعونه من الملك في الدنيا باطل وغرور.

واختلف العلماء في الصور المذكور في الآية فقال قوم : هو قرن ينفخ فيه وهو لغة أهل اليمن. قال

مجاهد : الصور قرن كهيئة البوق ويدل على صحة هذا القول ما روي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ما الصور؟ (قال قرن ينفخ فيه) أخرجه أبو داود والترمذي.

عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (كيف أنتم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ فكان ذلك ثقل على أصحابه) فقالوا كيف نفعل يا رسول اللّه وكيف نقول؟

قال : (قولوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل على اللّه توكلنا ، وربما قال توكلنا على اللّه) أخرجه الترمذي. وقال أبو عبيدة : الصور جمع صورة والنفخ فيه إحياؤها بنفخ الروح فيها. وهذا قول الحسن ومقاتل. و

القول الأول أصح لما تقدم في الحديث ولقوله تعالى في آية أخرى : ثم نفخ فيه أخرى : ولإجماع أهل السنة أن المراد بالصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل نفختين ، نفخة الصعق ، ونفخة البعث للحساب.

وقوله تعالى : عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعني أنه تعالى ما غاب عن عباده وما يشاهدونه فلا يغيب عن عمله شيء وَهُوَ الْحَكِيمُ يعني في جميع أفعاله وتدبير خلقه الْخَبِيرُ يعني بكل ما يفعلونه من خير أو شر.

وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦)

٧٤

٧٥

٧٦

قوله تعالى : وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ اختلف العلماء في لفظ آزر فقال محمد بن إسحاق والكلبي والضحاك : آزر اسم أبي إبراهيم وهو تارح ضبطه بعضهم بالحاء المهملة وبعضهم بالخاء المعجمة فعلى هذا يكون لأبي إبراهيم اسمان : آزر وتارح مثل يعقوب وإسرائيل اسمان لرجل واحد فيحتمل أن يكون اسمه الأصلي آزر وتارح لقب له وبالعكس واللّه سماه آزر وإن كان عند النسابين والمؤرخين اسمه تارح ليعرف بذلك وكان آزر أبو إبراهيم من كوثي وهي قرية من سواد الكوفة. وقال سليمان التيمي : آزر سب وعيب. ومعناه في كلامهم المعوج.

وقيل : الشيخ الهرم وهو بالفارسية وهذا على مذهب من يجوز أن في القرآن ألفاظا قليلة فارسية.

وقيل : هو المخطئ فكان إبراهيم عابه وذمه بسبب كفره وزيغه عن الحق. وقال سعيد بن المسيب ومجاهد : آزر اسم صنم كان والد إبراهيم يعبده وإنما سماه بهذا الاسم لأن من عبد شيئا أو أحبه جعل اسم ذلك المعبود أو المحبوب اسما له فهو كقوله : يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ

وقيل : معناه وإذا قال إبراهيم لأبيه آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه والصحيح هو الأول أن آزر اسم لأبي إبراهيم لأن اللّه تعالى سماه به وما نقل عن النسابين والمؤرخين أن اسمه تارح ففيه نظر لأنهم إنما نقلوه عن أصحاب الأخبار وأهل السير من أهل الكتاب ولا عبرة بنقلهم.

وقد أخرج البخاري في أفراده من حديث أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال (يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة) الحديث فسماه النبي صلى اللّه عليه وسلم آزر أيضا ولم يقل أباه تارخ فثبت بهذا أن اسمه الأصلي آزر لا تارخ واللّه أعلم.

وقوله تعالى : أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً معناه : اذكر لقومك يا محمد قول إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة تعبدها من دون اللّه الذي خلقك ورزقك. والأصنام : جمع صنم وهو التمثال الذي يتخذ من خشب أو حجارة أو حديد أو ذهب أو فضة على صورة الإنسان وهو الوثن أيضا إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني : يقول إبراهيم لأبيه آزر : إني أراك وقومك الذين يعبدون الأصنام معك ويتخذونها آلهة في ضلال يعني عن طريق الحق مبين يعني بيّن لمن أبصر ذلك فإنه لا يشك أن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع وهذه الآية احتجاج على مشركي

العرب بأحوال إبراهيم ومحاجته لأبيه وقومه لأنهم كانوا يعظمون إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم ويعترفون بفضله فلا جرم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه في معرض الاحتجاج على المشركين

قوله عز وجل : وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ معناه وكما أرينا إبراهيم البصيرة في دينه والحق في خلاف قومه وما كانوا عليه من الضلال في عبادة الأصنام نريه ملكوت السموات والأرض فلهذا السبب عبر عن هذه الرؤية بلفظ المستقبل في قوله وكذلك نرى إبراهيم لأنه تعالى كان أراه بعين البصيرة أن أباه وقومه على غير الحق فخالفهم فجزاه اللّه بأن أراه بعد ذلك ملكوت السموات والأرض فحسنت هذه العبارة لهذا المعنى. والملكوت : الملك زيدت فيه التاء للمبالغة كالرهبوت والرغبوت والرحموت من الرهبة والرغبة والرحمة.

قال ابن عباس : يعني خلق السموات والأرض. وقال مجاهد وسعيد بن جبير : يعني آيات السموات والأرض وذلك أنه أقيم على صخرة وكشف له عن السموات حتى رأى العرش والكرسي وما في السموات من العجائب وحتى رأى مكانه في الجنة فذلك قوله : وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا يعني أريناه مكانه في الجنة وكشف له عن الأرض حتى نظر إلى أسفل الأرضين ورأى ما فيها من العجائب. قال البغوي : وروي عن سليمان ورفعه بعضهم عن علي قال : لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلا على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال له تبارك وتعالى : (يا إبراهيم أنت رجل مجاب الدعوة فلا تدعون على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال : إما أن يتوب إلي فأتوب عليه

وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني

وإما أن يبعث إلى فإن شئت عفوت وإن شئت عاقبت)

وفي رواية ، وإن تولى فإن جهنم من ورائه ، قال قتادة : ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار ، واختلف في هذه الرؤية هل كانت بعين البصر أو بعين البصيرة على قولين :

أحدهما إنها كانت بين البصر الظاهر فشق لإبراهيم السموات حتى رأى العرش وشق له الأرض حتى رأى ما في بطنها.

والقول الثاني : إن هذه الرؤية كانت بعين البصيرة لأن ملكوت السموات والأرض عبارة عن الملك وذلك لا يعرف إلا بالعقل فبان بهذا أن هذه الرؤية كانت بعين البصيرة ، إلا أن يقال : المراد بملكوت السموات والأرض نفس السموات والأرض.

وقوله تعالى : وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ عطف على المعنى ومعناه (و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض) ليستدل به وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ واليقين : عبارة عن علم يحصل بسبب التأمل بعد زوال الشبهة ، لأن الإنسان في أول الحال لا ينفك عن شبهة وشك ، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت ، صارت سببا لحصول اليقين والطمأنينة في القلب وزالت الشبهة عند ذلك : قال ابن عباس في وليكون من الموقنين جلا له الأمر سره وعلانيته فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال اللّه تعالى : إنك لا تستطيع هذا فردّه اللّه كما كان قبل ذلك فمعنى الآية على هذا القول وكذلك أريناه ملكوت السموات والأرض ليكون ممن يوقن علم كل شيء حسا وخبرا.

وقوله تعالى : فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ يقال جن الليل وأجن إذا أظلم وغطى كل شيء وأجنه الليل وجن عليه إذا ستره بسواده رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ( (ذكر القصة في ذلك)) قال أهل التفسير وأصحاب الأخبار والسير : ولد إبراهيم عليه السلام في زمن نمرود بن كنعان الملك وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس إلى عبادته وكان له كهان منجمون ، فقالوا له : إنه يولد في بلدك

هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه. ويقال : إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء. وقال السدي : رأى نمرود في منامه كأن كوكبا قد طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع من ذلك فزعا شديدا ، فدعا السحرة والكهان وسألهم عن ذلك ، فقالوا : هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة يكون هلاكك وزوال ملكك وهلاك أهل دينك على يديه ، فأمر بذبح كل غلام يولد في تلك السنة في ناحيته وأمر بعزل النساء عن الرجال وجعل على كل عشرة ، رجلا يحفظهم فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها لأنهم كانوا لا يجامعون في المحيض فإذا طهرت من الحيض حالوا بينهما. قالوا : فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فواقعها فحملت بإبراهيم. وقال محمد بن إسحاق : بعث نمرود إلى كل رجل امرأة حبلى بقربه فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها لأنها كانت جارية صغيرة لم يعرف الحبل في بطنها. وقال السدي : فخرج نمرود بالرجال إلى العسكر وعزلهم عن النساء تخوفا من ذلك المولود فمكثت بذلك ما شاء اللّه ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأمن عليها أحدا من قومه إلا آزر فبعث إليه فأحضره عنده وقال له :

إن لي إليك حاجة أحب أن أوصيك بها ولم أبعثك فيها إلا لثقتي بك فأقسمت عليك ألا تدنو من أهلك. فقال آزر : أنا أشح على ديني من ذلك فأوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجة الملك ، ثم قال : لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما دخل على أم إبراهيم ونظر إليها لم يتمالك حتى واقعها فحملت من ساعتها بإبراهيم.

قال ابن عباس : لما حملت أم إبراهيم قال الكهان لنمرود : إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملت به أمه الليلة ، فأمر نمرود بذبح الغلمان فلما دنت ولادة أم إبراهيم وأخذها المخاض ، خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها. قالوا : فوضعته في نهر يابس ثم لفته في خرقة ووضعته في حلفاء ثم رجعت فأخبرت زوجها بأنها ولدت وأن الولد في موضع كذا ، فانطلق إليه أبوه فأخذه من ذلك المكان وحفر له سربا في النهر فواراه فيه وسد بابه بصخرة مخافة السباع. وكانت أمه تختلف إليه فترضعه. وقال محمد بن إسحاق : لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبة منها فولدت فيها إبراهيم وأصلحت من شأنه ما يصلح بالمولود ثم سدت عليها باب المغارة ثم رجعت إلى بيتها. وكانت تختلف إليه لتنظر ما فعل فتجده حيا وهو يمص إبهامه.

قال أبو روق : قالت أم إبراهيم لأنظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من إصبع ماء ، ومن إصبع لبنا ، ومن إصبع سمنا ، ومن إصبع عسلا ، ومن إصبع تمرا. وقال محمد بن إسحاق : كان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل فقالت : ولدت غلاما فما صدقها وسكت عنها. وكان إبراهيم يشب في اليوم كالشهر وفي الشهر كالسنة فلم يمكث في المغارة إلا خمسة عشر شهرا حتى قال : أخرجيني فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض. وقال : إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وساقني لربي الذي ما لي إله غيره ونظر في السماء فرأى كوكبا قال : هذا ربي ثم أتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب فلما أفل قال : لا أحب الآفلين.

فلما رأى القمر بازغا ، قال : هذا ربي وأتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب ثم طلعت الشمس قال هكذا إلى آخره ثم رجعت به إلى أبيه آزر قد استقامت وجهته وعرف ربه وبرئ من دين قومه إلا أنه لم ينادهم بذلك. فلما رجعت به أمه ، أخبرته أنه ابنه وأخبرته بما صنعت به فسر بذلك وفرح فرحا شديدا.

وقيل : إنه مكث في السرب سبع سنين.

وقيل : ثلاث عشرة سنة

وقيل سبع عشرة سنة. قالوا ، فلما شب إبراهيم وهو في السرب قال لأمه :

من ربي؟ قالت : أنا. قال : فمن ربك؟ قالت : أبوك. قال : فمن رب أبي؟ قالت : اسكت ، ثم رجعت إلى زوجها فقالت أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك. ثم أخبرته بما قال فأتاه أبوه آزر فقال إبراهيم : يا أبتاه من ربي؟ قال : أمك. قال : فمن رب أمي؟ قال : أنا. قال : فمن ربك؟ قال : نمرود. قال :

فمن رب نمرود؟ فلطمه لطمة وقال : اسكت.

فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فأبصر كوكبا قال : هذا ربي ويقال إنه قال

لأبويه : أخرجاني ، فأخرجاه من باب السرب حين غابت الشمس فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم فسأل أباه ما هذه؟ قال : إبل وخيل وغنم. فقال إبراهيم : ما لهذه بد من أن يكون لها إله وهو ربها وخالقها. ثم نظر ، فإذا المشتري قد طلع ويقال إنها الزهرة ، وكانت تلك الليلة من آخر الشهر فتأخر طلوع القمر فرأى الكوكب قبل القمر فذلك

قوله عز وجل : فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ يعني ستره بظلامه رأى كوكبا قال هذا رَبِّي ثم اختلف العلماء في وقت هذه الرؤية وفي وقت هذا القول هل كان قبل البلوغ أو بعده على قولين :

أحدهما أنه كان قبل البلوغ في حال طفوليته وذلك قبل قيام الحجة عليه فلم يكن لهذا القول الذي صدر من إبراهيم في هذا الوقت اعتبار ولا يترتب عليه حكم لأن الأحكام إنما تثبت بعد البلوغ.

وقيل : إن إبراهيم لما خرج من السرب في حال صغره ونظر إلى السماء وما فيها من العجائب ونظر إلى الأرض وما فيها من العجائب وكان قد خصه اللّه بالعقل الكامل والفطرة السليمة تفكر في نفسه وقال لا بد لهذا الخلق من خالق مدبر وهو إله الخلق ، ثم نظر في حال تفكره فرأى الكوكب وقد أزهر ، فقال : هذا ربي على ما سبق إلى وهمه وذلك في حال طفوليته وقبل استحكام النظر في معرفة الرب سبحانه وتعالى واستدل أصحاب هذا القول على صحته بقوله لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ قالوا وهذا يدل على نوع تحير وذلك لا يكون إلا في حال الصغر وقبل البلوغ وقيام الحجة وهذا القول ليس بسديد ولا مرضي لأن الأنبياء معصومون في كل حال من الأحوال وأنه لا يجوز أن يكون للّه عز وجل رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو باللّه عارف وله موحد وله من كل منقصة منزه ومن كل معبود سواه بريء وكيف يتوهم هذا على إبراهيم وقد عصمه اللّه وطهره وآتاه رشده من قبل وأراه ملكوت السموات والأرض أفبرؤية الكوكب يقول معتقدا هذا ربي؟ حاشا إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم من ذلك لأن منصبه أعلى وأشرف من ذلك صلى اللّه عليه وسلم.

والقول الثاني : الذي عليه جمهور المحققين إن هذه الرؤية وهذا القول كان بعد بلوغ إبراهيم وحين شرفه اللّه بالنبوة وأكرمه بالرسالة ثم اختلف أصحاب هذا القول في تأويل الآية ومعناها فذكروا فيها وجوها :

الوجه

الأول : أن إبراهيم عليه السلام أراد أن يستدرج قومه بهذا القول ويعرفهم جهلهم وخطأهم في تعظيم النجوم وعبادتها لأنهم كانوا يرون أن كل الأمور إليها ، فأراهم إبراهيم أنه معظّم ما عظموه فلما أفل الكوكب والقمر والشمس أراهم النقص الداخل على النجوم بسبب الغيبوبة والأفول ليثبت خطأ ما كانوا يعتقدون فيها من الألوهية. ومثل هذا كمثل الحواري الذي ورد على قوم كانوا يعبدون صنما فأظهر تعظيمه فأكرموه لذلك حتى صاروا يصدرون عن رأيه في كثير من أمورهم إلى أن دهمهم عدو لا قبل لهم به فشاوروه في أمر هذا العدو فقال :

الرأي عندي أن ندعو هذا الصنم حتى يكشف عنا ما نزل بنا ، فاجتمعوا حول الصنم يتضرعون إليه فلم يغن شيئا فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يدفع ، دعاهم الحواري وأمرهم أن يدعو اللّه عز وجل ويسألوه أن يكشف ما نزل بهم ، فدعوا اللّه مخلصين ، فصرف عنهم ما كانوا يحذرون فأسلموا جميعا.

الوجه الثاني : أن إبراهيم عليه السلام قال هذا القول على سبيل الاستفهام وهو استفهام إنكار وتوبيخ لقومه وتقديره : أهذا ربي الذي تزعمون ، وإسقاط حرف الاستفهام كثير في كلام العرب ومنه

قوله تعالى : أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ يعني أفهم الخالدون. والمعنى أيكون هذا ربا ودلائل النقص فيه ظاهرة.

الوجه الثالث : أن إبراهيم عليه السلام قال ذلك على وجه الاحتجاج على قومه يقول هذا ربي بزعمكم فلما غاب قال لو كان إلها كما تزعمون لما غاب فهو كقوله ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ يعني عند نفسك وبزعمك وكما أخبر عن موسى عليه السلام بقوله تعالى : انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً يريد إلهك بزعمك.

الوجه الرابع : إن في هذه الآية إضمارا تقديره يقولون (هذا ربي) وإضمار القول كثير في كلام العرب ومنه

قوله تعالى : وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا أي يقولان رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا.

الوجه

الخامس : إن اللّه تعالى قال في حقه وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ثم قال بعده فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ والفاء تقتضي التعقيب فدل هذا أن هذه الواقعة كانت بعد أن أراه اللّه ملكوت السموات والأرض وبعض الإيقان ومن كان معه بهذه المنزلة العالية الشريفة لا يليق بحاله أن يعبد الكواكب ويتخذها ربا.

فأما الجواب عن قوله : لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فإن الأنبياء عليهم السلام لم يزالوا يسألون اللّه التثبيت ومنه قوله وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ

قوله تعالى : فَلَمَّا أَفَلَ يعني غاب والأفول غيبة النيرات قالَ يعني إبراهيم لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ يعني لا أحب ربا يغيب ويطلع لأن أمارات الحدوث فيه ظاهرة.

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللّه وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠)

٧٧

٧٨

٧٩

٨٠

قوله تعالى : فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً يعني طالعا منتشر الضوء قالَ هذا رَبِّي معناه ما تقدم من الكلام في الكوكب فَلَمَّا أَفَلَ يعني غاب قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ يعني إن لم يثبتني ربي على الهدى وليس المراد أنه لم يكن مهتديا لأن الأنبياء لم يزالوا على الهداية من أول الفطرة وفي الآية دليل على أن الهداية من اللّه تعالى لأن إبراهيم أضاف الهداية للّه تعالى : فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً يعني طالعة قالَ هذا رَبِّي يعني هذا الطالع أو أنه إشارة إلى الضياء والنور لأنه رأى الشمس أضوأ من الكوكب والقمر

وقيل إنما قال هذا ولم يقل هذه لأن تأنيث الشمس غير حقيقي فلهذا أتى بلفظ التذكير هذا أَكْبَرُ يعني من الكوكب والقمر فَلَمَّا أَفَلَتْ يعني فلما غابت الشمس قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ يعني أنه لما أثبت إبراهيم عليه السلام بالدليل القطعي أن هذه النجوم ليست بآلهة ولا تصلح للربوبية تبرأ منها وأظهر لقومه أنه بريء مما يشركون ولما أظهر خلاف قومه وتبرأ من شركهم أظهر ما هو عليه من الدين الحق فقال إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ يعني إني صرفت وجه عبادتي وقصرت توحيدي لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يعني للذي خلقهما وأبدعهما حَنِيفاً يعني مائلا عن عبادة كل شيء سوى اللّه تعالى. وأصل الحنف : الميل ، وهو ميل عن طرق الضلال إلى طريق الاستقامة.

وقيل :

الحنيف هو الذي يستقبل الكعبة في صلاته وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ تبرأ من الشرك الذي كان عليه قومه.

قوله عز وجل : وَحاجَّهُ قَوْمُهُ يعني وخاصمه قومه وذلك لما أظهر إبراهيم عليه السلام عيب آلهتهم التي كانوا يعبدونها وأظهر التوحيد للّه عز وجل خاصمه قومه وجادلوه في ذلك فقال : أتحاجوني في اللّه. يعني تجادلونني في توحيدي للّه وقد هداني وقد بين لي طريق الهداية إلى توحيده ومعرفته. وقال البغوي : لما رجع إبراهيم إلى أبيه وصار من الشباب بحالة تسقط عنه طمع الذابحين وضمه آزر إلى نفسه جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليبيعها فيذهب إبراهيم وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يكتريها أحد فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فصوب فيه رؤوسها وقال اشربي استهزاء بقومه وبما هم فيه من الضلالة حتى فشا استهزاؤه بها في قومه وأهل قريته حاجه قومه يعني خاصمه وجادله قومه في دينه قالَ يعني إبراهيم أَتُحاجُّونِّي فِي اللّه وَقَدْ

هَدانِ يعني إلى توحيده ومعرفته وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ وذلك أنهم قالوا له : احذر الأصنام فإنا نخاف أن تمسّك بخبل أو جنون لعيبك إياها فأجابهم بقوله ولا أخاف ما تشركون به فإنها جمادات لا تضر ولا تنفع وإنما يكون الخوف ممن يقدر على النفع والضر وهو قوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً يعني لكن أن يشأ ربي شيئا كان ما يشاء لأنه قادر على النفع والضر وإنما قال إبراهيم ذلك لاحتمال أن الإنسان قد يصيبه في بعض حالاته وأيام عمره ما يكرهه فلو أصابه مكروه نسبوه إلى الأصنام فنفى هذه الشبهة بقوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وهذا استثناء منقطع وليس هو من الأول في شيء. والمعنى ولكن إن شاء ربي شيئا كان وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً يعني أحاط علمه بكل شيء فلا يخرج شيء عن علمه أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يعني أفلا تعتبرون أن هذه الأصنام جمادات لا تضر ولا تنفع وأن الضار هو الذي خلق السموات والأرض ومن فيهما.

وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللّه ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤)

٨١

٨٢

٨٣

٨٤

وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ يعني وكيف أخاف الأصنام التي أشركتم بها لأنها جمادات لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللّه يعني وأنتم لا تخافون وقد أشركتم باللّه وهو من أعظم الذنوب ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً يعني ما ليس لكم فيه حجة وبرهان فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني يقول من أولى بالأمن من العذاب في يوم القيامة الموحد أم المشرك الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ وهذا فصل قضاه اللّه بين إبراهيم وبين قومه يعني أن الذين يستحقون الأمن يوم القيامة هم الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.

وقيل : هو من تمام كلام إبراهيم في المحاجّة لقومه. والمعنى : إن الذين يحصل لهم الأمن يوم القيامة هم الذين آمنوا يعني آمنوا باللّه وحده ولم يشركوا به شيئا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم يعني ولم يخلطوا إيمانهم بشرك

(ق).

عن ابن مسعود قال : لما نزلت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ شق ذلك على المسلمين وقالوا أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ليس ذلك إنما هو الشرك ألم تسمعوا قول لقمان لابنه يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ

وفي رواية ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه وذكره.

وقيل : في معنى قوله ولم يلبس إيمانهم بظلم ، يعني : ولم يخلطوا إيمانهم بشيء من معاني الظلم وذلك بأن يفعل بعض ما نهى اللّه عنه أو يترك ما أمر اللّه به فعلى هذا القول تكون الآية على العموم لأن اللّه لم يخص به معنى من معاني الظلم دون غيره والصحيح أن الظلم المذكور في هذه الآية هو الشرك لما تقدم من حديث ابن مسعود أن النبي صلى اللّه عليه وسلم فسّر الظلم هنا بالشرك وفي الآية دليل على أن من مات لا يشرك باللّه شيئا كانت عاقبته الأمن من النار لقوله أُولئِكَ يعني الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم لَهُمُ الْأَمْنُ يوم القيامة من عذاب النار وَهُمْ مُهْتَدُونَ يعني إلى سبيل الرشاد.

وقوله تعالى : وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ يعني ما جرى بين إبراهيم وبين قومه واستدل على حدوث الكوكب والقمر والشمس بالأفول

وقيل لما قالوا لإبراهيم إنّا نخاف عليك من آلهتنا لسبك إياها قال أفلا تخافون أنتم منها إذ سويتم بين الصغير والكبير في العبادة أن يغضب الكبير عليكم؟

وقيل : إنه خاصم قومه المشركين فمالوا أي الفريقين أحق بالأمن من يعبد إلها واحدا مخلصا له الدين والعبادة أم من يعبد أربابا كثيرة

فدلوا من يعبد إلها واحدا فقضوا على أنفسهم فكانت هذه حجة إبراهيم عليه نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ يعني بالعلم والفهم والعدل والفضيلة كما رفعنا درجات إبراهيم حتى اهتدى إلى محاجّة قومه.

وقيل : نرفع درجات من نشاء في الدنيا بالنبوة والعلم والحكمة وفي الآخرة بالثواب على الأعمال الصالحة إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ يعني أنه تعالى حكيم في جميع أفعاله عليم بجميع أحوال خلقه لا يفعل شيء إلا بحكمة وعلم.

قوله عز وجل : وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ لما أظهر إبراهيم عليه السلام دينه وغلب خصمه بالحجج القاطعة والبراهين القوية والدلائل الصحيحة التي فهمه اللّه تعالى إياه وهداه إليها عدد اللّه نعمه عليه وإحسانه إليه بأن رفع درجته في عليين وأبقى النبوة في ذريته إلى يوم الدين

فقال تعالى : وَوَهَبْنا لَهُ يعني لإبراهيم إسحاق يعني ابنا لصلبه ويعقوب يعني ابن إسحاق وهو ولد الولد كُلًّا هَدَيْنا يعني هدينا جميعهم إلى سبيل الرشاد ووفقناهم إلى طريق الحق والصواب وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ يعني من قبل إبراهيم أرشدنا نوحا ووفقناه للحق والصواب ومننّا عليه بالهداية وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ اختلفوا في الضمير إلى من يرجع فقيل يرجع إلى إبراهيم يعني ومن ذرية إبراهيم داوُدَ وَسُلَيْمانَ

وقيل : يرجع إلى نوح وهو اختيار جمهور المفسرين ، لأن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور ولأن اللّه ذكر في جملة هذه الذرية لوطا وهو ابن أخي إبراهيم ولم يكن من ذريته فثبت بهذا أن هاء الكناية ترجع إلى نوح وقال الزجاج : كلا القولين جائز لأن ذكرهما جميعا قد جرى. وداود هو ابن بيشا وكان ممن آتاه اللّه الملك والنبوة وكذلك سليمان بن داود وَأَيُّوبَ هو أيوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم وَيُوسُفَ هو ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وَمُوسى هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب وَهارُونَ هو أخو موسى وكان أكبر منه بسنة وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يعني :

وكما جزينا إبراهيم على توحيده وصبره على أذى قومه كذلك نجزي المحسنين على إحسانهم.

وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللّه يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)

٨٥

٨٦

٨٧

٨٨

وَزَكَرِيَّا هو ابن آذن بن بركيا وَيَحْيى هو ابن زكريا وَعِيسى هو ابن مريم بنت عمران وَإِلْياسَ.

قال ابن مسعود : هو إدريس وله اسمان مثل يعقوب وإسرائيل وقال محمد بن إسحاق : هو الياس بن سنا بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران. وهذا هو الصحيح لأن أصحاب الأنساب يقولون : إن إدريس جد نوح لأن نوحا بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس ولأن اللّه تعالى نسب الياس في هذه الآية إلى نوح وجعله من ذريته كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ يعني أن كل من ذكرنا وسمينا من الصالحين وَإِسْماعِيلَ هو ابن إبراهيم وإنما أخر ذكره إلى هنا لأنه ذكر إسحاق وذكر أولاده من بعده على نسق واحد فلهذا السبب أخر ذكر إسماعيل إلى هنا وَالْيَسَعَ هو ابن أخطوب بن العجوز وَيُونُسَ هو ابن متى وَلُوطاً هو ابن أخي إبراهيم : وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ يعني على عالمي زمانهم. ويستدل بهذه الآية من يقول إن الأنبياء أفضل من الملائكة لأن العالم اسم لكل موجود سوى اللّه تعالى فيدخل فيه الملك فيقتضي أن الأنبياء أفضل من الملائكة.

واعلم أن اللّه تعالى ذكر هنا ثمانية عشر نبيا من الأنبياء عليهم السلام من غير ترتيب لا بحسب الزمان ولا بحسب الفضل ، لأن الواو لا تقتضي الترتيب ولكن هنا لطيفة أوجبت هذا الترتيب وهي أن اللّه تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء عليهم السلام بنوع من الكرامة والفضل ، فذكر أولا نوحا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب

لأنهم أصول الأنبياء وإليهم ترجع أنسابهم جميعا ثم من المراتب المعتبرة بعد النبوة الملك والقدرة والسلطان قد أعطى اللّه داود وسليمان من ذلك حظا وافرا من المراتب : الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد وقد خص اللّه بهذه أيوب عليه السلام ثم عطف على هاتين المرتبتين من جمع بينهما وهو يوسف عليه السلام فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن أعطاه اللّه ملك مصر مع النبوة ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء عليهم السلام كثرة المعجزات وقوة البراهين وقد خص اللّه تعالى موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر ثم من المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا والإعراض عنها وقد خص اللّه بذلك زكريا ويحيى وعيسى والياس عليهم السلام ولهذا السبب وصفهم بأنهم من الصالحين ثم ذكر اللّه من بعد هؤلاء الأنبياء من لم يبق له أتباع ولا شريعة وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة على هذا الوجه كان هذا الترتيب من أحسن شيء يذكر واللّه أعلم بمراده وأسرار كتابه.

قوله تعالى : وَمِنْ آبائِهِمْ يعني ومن آباء الذين سميناهم ومن هنا للتبعيض لأن من آباء بعضهم من لم يكن مسلما وَذُرِّيَّاتِهِمْ يعني ومن ذرياتهم أي بعضهم لأن عيسى ويحيى لم يكن لهما ولد وكان في ذرية بعضهم من هو كافر كابن نوح وَإِخْوانِهِمْ يعني ومن إخوانهم والمعنى أن اللّه تعالى وفق من آباء المذكورين ومن إخوانهم وذرياتهم للّهداية وخالص الدين وهو

قوله تعالى : وَاجْتَبَيْناهُمْ يعني اخترناهم واصطفيناهم وَهَدَيْناهُمْ يعني وأرشدناهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى دين الحق ذلِكَ هُدَى اللّه قال ابن عباس : ذلك دين اللّه الذي كان عليه هؤلاء الأنبياء.

وقيل : المراد بهدى اللّه معرفة اللّه وتنزيهه عن الشركاء والأضداد والأنداد يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني يوفق من يشاء من عباده ويرشده إلى دينه وطاعته وخلع الأضداد والشركاء وَلَوْ أَشْرَكُوا يعني هؤلاء الذين سميناهم لَحَبِطَ يعني لبطل وذهب عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الطاعات قبل ذلك لأن اللّه تعالى لا يقبل مع الشرك من الأعمال شيئا.

أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّه فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠) وَما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللّه عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللّه ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١)

٨٩

٩٠

٩١

قوله عز وجل : أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ يعني أولئك الذين سميناهم من الأنبياء أعطيناهم الكتب التي أنزلناها عليهم وآتيناهم العلم والفهم وشرفناهم بالنبوة وإنما قدم ذكر الكتاب والحكمة على النبوة وإن كانت النبوة هي الأصل لأن منصب النبوة أشرف المراتب والمناصب فذكروا أولا الكتاب والحكم لأنهما يدلان على النبوة فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ يعني فإن يجحد بدلائل التوحيد والنبوة كفار قريش فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ قال ابن عباس : هم الأنصار وأهل المدينة.

وقيل : هم المهاجرون والأنصار وقال الحسن وقتادة : هم الأنبياء الثمانية عشر الذين تقدم ذكرهم واختاره الزجاج قال : والدليل عليه قوله أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّه فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وقال رجاء العطاردي : هم الملائكة وفيه بعد لأن اسم القوم لا ينطلق إلا على بني آدم

وقيل هم الفرس. قال ابن زيد : كل من لم يكفر فهو منهم سواء كان ملكا أو نبيا أو من الصحابة أو التابعين وفي الآية دليل على أن اللّه تعالى ينصر نبيه صلى اللّه عليه وسلم ويقوي دينه ويجعله عاليا على الأديان كلها وقد جعل ذلك فهو

إخبار عن الغيب ...

قوله تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّه يعني النبيين الذين تقدم ذكرهم لأنهم هو المخصوصون بالهداية فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ إشارة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم يعني فبشرائعهم وسننهم اعمل وأصل الاقتداء في اللغة طلب موافقة الثاني للأول في فعله.

وقيل أمره أن يقتدي بهم في أمر الدين الذي أمرهم أن يجمعوا عليه وهو توحيد اللّه تعالى وتنزيهه عن جميع النقائص التي لا تليق بجلاله في الأسماء والصفات والأفعال.

وقيل :

أمره اللّه أن يقتدي بهم في جميع الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية والصفات الرفيعة الكاملة مثل : الصبر على أذى السفهاء ، والعفو عنهم.

وقيل : أمره أن يقتدي بشرائعهم إلا ما خصه دليل آخر فعلى هذا القول يكون في الآية دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا.

( (فصل)) احتج العلماء بهذه الآية على أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. بيانه أن جميع خصال الكمال وصفات الشرف وكانت متفرقة فيهم فكان نوح صاحب احتمال على أذى قومه ، وكان إبراهيم صاحب كرم وبذل مجاهدة في اللّه عز وجل ، وكان إسحاق ويعقوب من أصحاب الصبر على البلاء والمحن ، وكان داود عليه السلام سليمان من أصحاب الشكر على النعمة ، قال اللّه فيهم : اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وكان أيوب صاحب صبر على البلاء ، قال اللّه فيه إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ وكان يوسف قد جمع بين الحالتين ، يعني : الصبر والشكر ، وكان موسى صاحب الشريعة الظاهرة والمعجزات الباهرة ، وكان زكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أصحاب الزهد في الدنيا ، وكان إسماعيل صاحب صدق وكان يونس صاحب تضرع وإخبات ثم إن اللّه تعالى أمر نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يقتدي بهم وجمع له جميع الخصال المحمودة المتفرقة فيهم فثبت بهذا البيان أنه صلى اللّه عليه وسلم كان أفضل الأنبياء لما اجتمع فيه من هذه الخصال التي كانت متفرقة في جميعهم واللّه أعلم.

وقوله تعالى : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً يعني : قل يا محمد لا أطلب على تبليغ الرسالة جعلا قيل لما أمره اللّه تعالى بالاقتداء بالنبيين وكان من جملة هداهم عدم طلب الأجر على إيصال الدين وإبلاغ الشريعة لا جرم اقتدى بهم فقال : لا أسألكم عليه أجرا إِنْ هُوَ يعني ما هو يعني القرآن إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ يعني أن القرآن موعظة وذكرى لجميع العالم من الجن والإنس وفيه دليل على أنه صلى اللّه عليه وسلم كان مبعوثا إلى جميع الخلق من الجن والإنس وإن دعوته عمّت جميع الخلائق.

قوله عز وجل : وَما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ قال ابن عباس : لما عظموا اللّه حق عظمته وعنه أن معناه ما آمنوا أن اللّه على شيء قدير. وقال أبو العالية : ما وصفوا اللّه حق وصفه. وقال الأخفش : ما عرفوا اللّه حق معرفته. يقال : قدر الشيء إذا حزره وسبره وأراد أن يعلم مقداره يقال قدره يقدره بالضم قدرا ثم يقال لمن عرف شيئا هو يقدره قدره وإذا لم يعرفه بصفاته يقال فيه إنه لا يقدر قدره فقوله وَما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ يصح فيه جميع الوجوه المذكورة في معناه إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللّه عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ يعني الذين قالوا ما أنزل اللّه على بشر من شيء ما قدروا اللّه حق قدره ولا عرفوه حق معرفته إذ لو عرفوه حق معرفته لما قالوا هذه المقالة ، ثم اختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية على قولين :

أحدهما : أنها نزلت في كفار قريش وهذا على قول من يقول إن جميع هذه السورة مكية وهو قول السدي.

ويروي ذلك عن مجاهد وصححه الطبري قال : لأن من أول السورة إلى هذا الموضع هو خبر عن المشركين من عبدة الأصنام وكان قوله وَما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ موصولا بذلك غير مفصول عنه فلا يكون قوله إذ قالوا : ما أَنْزَلَ اللّه عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ خبرا عن غيرهم وأورد فخر الدين الرازي على هذا القول إشكالا وهو أن كفار قريش ينكرون نبوة جميع الأنبياء فكيف يمكن إلزامهم بنبوة موسى وأيضا فما بعد هذه الآية لا يليق بكفار قريش

إنما يليق بحال اليهود وأجاب عنه بأن كفار قريش كانوا مختلطين باليهود وقد سمعوا منهم أن موسى جاءهم بالتوراة وبالمعجزات الباهرات وإنما أنكر كفار قريش نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم فيمكن إلزامهم بقوله قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى وأجاب عن كون سياق الآية لأي ليق إلا بحال اليهود بأن كفار قريش واليهود لما كانوا مشتركين في إنكار نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم فلا يبعد أن بعض الآية يكون خطابا لكفار قريش وبعضها خطابا لليهود.

والقول الثاني : في سبب نزول هذه الآية وهو قول جمهور المفسرين أنها نزلت في اليهود وهذا على قول من يقول : إن هذه الآية نزلت بالمدينة وأنها من الآيات المدنيات التي في السور المكية. قال ابن عباس : نزلت سورة الأنعام بمكة إلا ست آيات منها قوله : وَما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ فإنها نزلت بالمدينة ثم اختلف القائلون بهذا القول في اسم من نزلت هذه الآية فيه فقال سعيد بن جبير : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : أنشدك اللّه الذي أنزل التوراة على موسى أما تجدون في التوراة أن اللّه يبغض الحبر السمين وكان حبرا سمينا فغضب. وقال : واللّه ما أنزل اللّه على بشر من شيء فقال أصحابه الذين معه ويحك ولا على موسى فقال واللّه ما أنزل اللّه على بشر من شيء فأنزل اللّه وَما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللّه عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نورا وهدى للناس الآية. قال البغوي :

وفي القصة أن مالك بن الصيف لما سمعت اليهود منه تلك المقالة عتبوا عليه وقالوا : أليس اللّه أنزل التوراة على موسى فلم قلت ما أنزل اللّه على بشر من شي ء؟ فقال مالك بن الصيف : أغضبني محمد فقلت ذلك. فقالوا له :

وأنت إذا غضبت تقول على اللّه غير الحق؟ فنزعوه عن الحبرية وجعلوا مكانه كعب الأشرف. وقال السدي : لما نزلت هذه الآية في فنحاص بن عازوراء اليهودي وهو القائل هذه المقالة. وقال ابن عباس : قالت اليهود يا محمد أنزل اللّه عليك كتابا؟ قال : نعم فقالوا : واللّه ما أنزل اللّه من السماء كتابا فأنزل اللّه : وَما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللّه عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى الآية وقال محمد بن كعب القرظي : جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو محتب؟ فقالوا يا أبا القاسم ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحا يحملونها من عند اللّه فأنزل اللّه يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ الآية التي في سورة النساء فلما حدثهم بأعمالهم الخبيثة جثا رجل منهم وقال : ما أنزل اللّه عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا فأنزل اللّه : وَما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ إذ قالوا ما أنزل اللّه على بشر من شيء وأورد الرازي على هذا القول إشكالا أيضا وهو أنه قال : إن اليهود مقرون بإنزال التوراة على موسى فكيف يقولون ما أنزل اللّه على بشر من شيء مع اعترافهم بإنزال التوراة ولم يجب عن هذا الإشكال بشيء وأجيب عنه بأن مراد اليهود إنكار إنزال القرآن على محمد صلى اللّه عليه وسلم فقط ولهذا ألزموا بما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى

فقال تعالى : قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى أي : قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين أنكروا إنزال القرآن عليك بقولهم ما أنزل اللّه على بشر من شيء من أنزل التوراة على موسى وفي هذا الإلزام توبيخ اليهود بسوء جهلهم وإقدامهم على إنكار الحق الذي لا ينكر نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ يعني التوراة ضياء

من ظلمة الضلالة وبيانا يفرق بين الحق والباطل من دينهم وذلك قبل أن تبدل وتغير تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ يكتبونه في قراطيس مقطعة تُبْدُونَها يعني القراطيس المكتوبة وَتُخْفُونَ كَثِيراً يعني ويخفون كثيرا مما كتبوه في القراطيس وهو ما عندهم من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم ونعته في التوراة ومما أخفوه أيضا آية الرجم وكانت مكتوبة عندهم في التوراة وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ أكثر المفسرين على أن هذا خطاب لليهود ومعناه : أنكم علمتم على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من قبل. قال الحسن : جعل لهم علم ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم فضيعوه ولم ينتفعوا به. وقال مجاهد : هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علمهم على لسان نبيه صلى اللّه عليه وسلم قُلِ اللّه هذا راجع إلى قوله : قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى ، فإن أجابوك يا محمد وإلا فقل أنت

اللّه الذي أنزله : ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ يعني : دعهم يا محمد فيما هم فيه يخوضون من باطلهم وكفرهم باللّه. ومعنى يلعبون : يستهزءون ويسخرون.

وقيل : معناه يا محمد إنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والإنذار هذا المبلغ العظيم فحينئذ لم يبق عليك من أمرهم شيء فذرهم فيما هم فيه من الخوض واللعب وفيه وعيد وتهديد للمشركين.

وقال بعضهم : هذا منسوخ بآية السيف وفيه بعد لأنه مذكور لأجل التهديد والوعيد.

وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّه كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللّه وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّه غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣)

٩٢

٩٣

قوله تعالى : وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ يعني : وهذا القرآن كتاب أنزلناه من عندنا عليك يا محمد كثير الخير والبركة دائم النفع يبشر المؤمنين بالثواب والمغفرة ويزجر عن القبيح والمعصية. وأصل البركة : النماء والزيادة وثبوت الخير مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعني من الكتب الإلهية المنزلة من السماء على الأنبياء يعني أنه موافق لما في التوراة والإنجيل وسائر الكتب ، لأنها اشتملت جميعها على التوحيد والتنزيه للّه من كل عيب ونقيصة وتدل على البشارة والنذارة فثبت بذلك كون القرآن مصدقا لجميع الكتب المنزلة وَلِتُنْذِرَ قرئ بالتاء يعني ولتنذر يا محمد وبالياء ومعناه ولينذر الكتاب أُمَّ الْقُرى يعني مكة وفيه حذف تقديره ولتنذر أهل القرى وسميت مكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها. قاله ابن عباس :

وقيل : لأنها أقدم القرى وأعظمها بركة.

وقيل : لأنها قبلة أهل الأرض وَمَنْ حَوْلَها يعني جميع البلاد والقرى التي حولها شرقا وغربا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ يعني : والذين يصدقون بقيام الساعة وبالمعاد والبعث بعد الموت يصدقون بها الكتاب وأنه منزل من عند اللّه عز وجل

وقيل ببعثة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وذلك أن الذي يؤمن بالآخرة يؤمن بالوعد والوعيد والثواب والعقاب ومن كان كذلك فإنه يرغب في تحصيل الثواب ورد العقاب عنه وذلك لا يحصل إلا بالنظر التام فإذا نظر وتفكر علم بالضرورة أن دين محمد أشرف الأديان وشريعته أعظم الشرائع وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ يعني يداومون عليها في أوقاتها. والمعنى : أن الإيمان بالآخرة يحمل على الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وذلك يحمل على المحافظة على الصلاة ، وفائدة تخصيص الصلاة بالذكر دون سائر العبادات ، التنبيه على أنها أشرف العبادات بعد الإيمان باللّه تعالى ، فإذا حافظ العبد عليها يكون محافظا على جميع العبادات والطاعات

قوله عز وجل : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّه كَذِباً يعني ومن أعظم خطأ وأجهل فعلا ممن اختلق على اللّه كذبا فزعم أن اللّه بعثه نبيا وهو في زعمه كذاب مبطل أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ قال قتادة : نزلت هذه الآية في مسيلمة الكذاب بن ثمامة.

وقيل مسيلمة بن حبيب من بني حنيفة وكان صاحب نيرجات وكهانة وسجع ادعى النبوة باليمن وزعم أن اللّه أوحى إليه وكان قد أرسل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم رسولين : فقال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتشهدان أن مسيلمة نبي؟

قالا : نعم. فقال لهما : النبي صلى اللّه عليه وسلم لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما

(ق).

عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (بينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض فوضع في يدي سواران من ذهب فكبرا عليّ وأهماني فأوحي إلي أن انفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة) وفي لفظ الترمذي قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (رأيت في المنام كأن في يدي سوارين فأولتهما كذا بين يخرجان من بعدي ، يقال ل

أحدهما : مسيلمة صاحب اليمامة والعنسي صاحب صنعاء) قوله فأوحى إليّ أن

أنفخهما يروى بالخاء المهملة ومعناه الرمي والدفع من نفخت الدابة برجلها إذا دفعت ورمحت ويروى بالخاء المعجمة من النفخ يريد أنه نفخهما فطارا عنه وهو قريب من الأول فأما مسيلمة الكذاب فإنه ادعى النبوة باليمامة من اليمن وتبعه قوم من بني حنيفة وكان صاحب نيرجات فاغترّ قومه بذلك وقتل مسيلمة. الكذاب في زمن خلافة أبي بكر الصديق قتله وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب وكان وحشي يقول : قتلت خير الناس يعني حمزة وقتلت شر الناس يعني مسيلمة

وأما الأسود العنسي بالنون فهو عبهلة بن كعب وكان يقال له ذو الحمار ادعى النبوة باليمن في آخر عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم وقتل والنبي صلى اللّه عليه وسلم حي لم يمت وذلك قبل موته بيومين وأخبر أصحابه بقتله وقتله فيروز الديلمي فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم فاز فيروز يعني بقتلة الأسود العنسي فمن قال إن هذه الآية يعني

قوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّه كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ أنزلت في مسيلمة الكذاب والأسود العنسي يقول : إن هذه الآية مدنية نزلت بالمدينة وهو قول لبعض علماء التفسير تقدم ذكره في أول السورة ومن قال إن هذه الآية مكية وقال : إنها نزلت في شأنهما يقول إنها خبر عن غيب قد ظهر ذلك فيما بعد واللّه أعلم.

وقوله تعالى : وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللّه قال السدي : نزلت في عبد اللّه بن أبي سرح القرشي وكان قد أسلم وكان يكتب للنبي صلى اللّه عليه وسلم فكان إذا أملى عليه سميعا بصيرا كتب عليما حكيما وإذا أملى عليه عليما حكيما كتب غفورا رحيما فلما نزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ أملاها عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعجب عبد اللّه من تفصيل خلق الإنسان فقال تبارك اللّه أحسن الخالقين فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اكتبها فهكذا نزلت فشك عبد اللّه بن أبي سرح وقال : لئن كان محمد صادقا فقد أوحي إلي مثل ما أوحي إليه فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ثم رجع عبد اللّه بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم قبل فتح مكة والنبي صلى اللّه عليه وسلم نازل بمر الظهران وقال ابن عباس نزل قوله ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل اللّه في المستهزئين وهو جواب لقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا قال العلماء وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على اللّه كذبا في ذلك الزمان وبعده لأنه لا يمنع خصوص السبب من عموم الحكم : وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ يعني ولو ترى يا محمد حال هؤلاء الظالمين إذ أنزل بهم الموت لرأيت أمرا عظيما وغمراته شدائده وسكراته وغمرة كل شيء معظمه وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها ثم وضعت في موضع الشدائد والمكاره وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ يعني بالعذاب يضربون وجوههم وأدبارهم

وقيل : باسطو أيديهم لقبض أرواحهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ يعني يقولون لهم أخرجوا أنفسكم.

فإن قلت : إنه لا قدرة لأحد على إخراج روحه من بدنه فما فائدة هذا الكلام.

قلت : معناه يقولون لهم أخرجوا أنفسكم كرها لأن المؤمن يحب لقاء اللّه بخلاف الكافر

وقيل معناه يقولون لهم خلصوا أنفسكم من هذا العذاب إن قدرتم على ذلك فيكون هذا القول توبيخا لهم لأنهم لا يقدرون على خلاص أنفسهم من العذاب في ذلك الوقت الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ يعني الهوان بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّه غَيْرَ الْحَقِّ يعني ذلك العذاب الذي تجزونه بسبب ما كنتم تقولون على اللّه غير الحق وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ يعني وبسبب ما كنتم تتعظمون عن الإيمان بالقرآن ولا تصدقونه.

وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)

٩٤

قوله تعالى : وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى يعني وحدانا لا مال معكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم وهذا خبر من اللّه عز وجل عن حال الكافرين يوم القيامة وكيف يحشرون إليه ماذا يقول لهم في ذلك اليوم وفي قوله للكافرين

ولقد جئتمونا فرادى تقريع وتوبيخ لهم لأنهم صرفوا هممهم في الدنيا إلى تحصيل المال والولد والجاه وأفنوا أعمارهم في عبادة الأصنام فلم يغن عنهم كل ذلك شيئا يوم القيامة فبقوا فرادى عن كل ما حصلوه في الدنيا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني جئتمونا حفاة عراة غرلا يعني قلفا كما ولدتهم أمهاتهم في أول مرة في الدنيا لا شيء عليهم ولا معهم

(ق).

عن ابن عباس قال : قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بموعظة فقال : (أيها الناس إنكم تحشرون إلى اللّه حفاة عراة غرلا) كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ

(ق) عن عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول :

(تحشر الناس حفاة غراة غرلا) قالت عائشة : فقلت الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال الأمر أشد من أن يهمهم ذلك روي الطبري بسنده عن عائشة أنها قرأت قول اللّه عز وجل وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فقالت : يا رسول اللّه وا سوأتاه إن الرجال والنساء يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (لكل امرئ منهم يومئذ شيء يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض).

وقوله تعالى : وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ يعني وتركتم الذي أعطيناكم وملكناكم من الأموال والأولاد والخدم والخول وكل ما أعطى اللّه العبد خوله فيه من المال والعبيد وراء ظهوركم يعني في الدنيا وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ يعني أن المشركين زعموا أنهم إنما عبدوا هذه الأصنام (لأنها تشفع لهم عند اللّه يوم القيامة لأنها شركاء اللّه تعالى اللّه عن ذلك فإذا كان يوم القيامة وبخ اللّه المشركين وقرعهم بهذه الآية ثم قال تعالى : لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ قرئ بينكم برفع النون ، ومعناه لقد تقطع وصلكم والبين من الأضداد يكون وصلا ويكون هجرا وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ يعني : وذهب وبطل ما كنتم تكذبون في الدنيا.

إِنَّ اللّه فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللّه فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)

٩٥

٩٦

٩٧

٩٨

قوله عز وجل : إِنَّ اللّه فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى لما تقدم الكلام على تقرير التوحيد وتقرير النبوة ، أردفه بذكر الدلائل على كمال قدرته وعلمه وحكمته تنبيها بذلك على أن المقصود الأعظم هو معرفة اللّه سبحانه وتعالى بجميع صفاته وأفعاله وأنه مبدع الأشياء وخالقها ومن كان كذلك كان هو المستحق للعبادة لا هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها وتعريفا منه خطأ ما كانوا عليه من الإشراك الذي كانوا عليه. والمعنى : أن الذي يستحق العبادة دون غيره هو اللّه الذي فلق الحب عن النبات والنواة عن النخلة. وفي معنى فلق قولان :

أحدهما : أنه بمعنى خلق ومعنى الآية على هذا القول : (أن اللّه خالق الحب والنوى) وهو قول ابن عباس في رواية العوفي عنه وبه. قال الضحاك ومقاتل : قال الواحدي : ذهبوا بفالق مذهب فاطر. وأنكر الطبري هذا القول وقال لا يعرف في كلام العرب فلق اللّه الشيء بمعنى خلق. ونقل الأزهري عن الزجاج جوازه فقال :

وقيل الفلق الخلق ، وإذا تأملت الخلق ، تبين لك أن أكثره عن انفلاق ومعنى هذا الكلام أن جميع الأشياء كانت قبل الوجود في العدم فلما أوجدها اللّه تعالى وأخرجها من العدم إلى الوجود فكأنه فلقها وأظهرها.

والقول الثاني : وهو قول الأكثرين أن الفلق هو الشق ثم اختلفوا في معناه على قولين :

أحدهما : وهو

مروي عن ابن عباس قال : فلق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة وهو قول الحسن والسدي وابن زيد. قال الزجاج : بشق الحبة اليابسة والنواة اليابسة فيخرج منها ورقا أخضر.

والقول الثاني : وهو قول مجاهد إنه الشقان اللذان في الحب والنوى والحب هو الذي ليس له نوى كالحنطة والشعير والأرز وما أشبه ذلك والنوى جمع نواة وهي ما كان على ضد الحب كالرطب والخوخ والمشمش وما أشبه ذلك ومعنى قوله : فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى أنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ثم مر على ذلك قدر من الزمان أظهر اللّه تبارك وتعالى من تلك الحبة ورقا أخضر ثم يخرج من ذلك الورق سنبلة يكون فيها الحب ويظهر من النواة شجرة صاعدة في الهواء وعروقا ضاربة في الأرض فسبحان من أوجد جميع الأشياء بقدرته وإبداعه وخلقه.

وقوله تعالى : يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ قال ابن عباس : في رواية عنه : يخرج من النطفة بشرا حيا ويخرج النطفة الميتة من الحي وهذا قول الكلبي ومقاتل. قال الكلبي : يخرج النسمة الحية من النطفة الميتة ويخرج الفرخة من البيضة ويخرج النطفة الميتة والبيضة الميتة من الحي. وقال ابن عباس في رواية أخرى : يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن فجعل الإيمان بمنزلة الحياة والكفر بمنزلة الموت وهذا قول الحسن.

وقيل : معناه يخرج الطائع من العاصي والعاصي من الطائع. وقال السدي : يخرج النبات من الحب والحب من النبات وهذا اختيار الطبري لأنه قال عقب قوله (إن اللّه فالق الحب والنوى).

فإن قلت كيف قال ومخرج الميت من الحي بلفظ اسم الفاعل بعد قوله (يخرج الحي من الميت) وما السبب في عطف الاسم على الفعل.

قلت : قوله وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ عطف على قوله : فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى

وقوله : يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالبيان والتفسير لقوله فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى لأن فلق الحب والنوى واليابس وإخراج النبات والشجر منه من جنس إخراج الحي من الميت لأن النامي من النبات في حكم الحيوان وقوله ذلِكُمُ اللّه يعني ذلكم اللّه المدبر الخالق الصانع لهذه الأشياء المحيي المميت لها فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ يعني فأنى تصرفون عن الحق فتعبدون غير اللّه الذي هو خالق الأشياء كلها وفيه دليل أيضا على صحة البعث بعد الموت لأن القادر على إخراج البدن من النطفة قادر على إخراجه من التراب للحساب

قوله تعالى : فالِقُ الْإِصْباحِ أي شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده والإصباح مصدر سمي به الصبح. وقال الزجاج : الإصباح والصبح واحد وهما أول النهار.

فإن قلت ظاهر الآية يدل على أنه تعالى فلق الصبح ، والظلمة هي التي تنفلق بالصبح فما معنى ذلك؟

قلت ذكر العلماء فيه وجوها :

الأول : أن يكون المراد فالق ظلمة الصبح وذلك لأن الصبح صبحان : فالصبح الأول هو البياض المستطيل الصاعد في الأفق كذنب السرحان وهو الذئب ثم تعقبه ظلمة بعد ذلك ويسمى هذا الصبح الفجر الكاذب لأنه يبدو في الأفق الشرقي ثم يضمحل ويذهب ثم يطلع بعده الصبح الثاني ، وهو الضوء المستطير في جميع الأفق الشرقي ويسمى الفجر الصادق لأنه ليس بعده ظلمة والحاصل من هذا أن يكون المعنى : فالق ظلمة الصبح الأول بنور الصبح الثاني.

الوجه الثاني : أنه تعالى كما شق ظلمة الليل بنور الصباح فكذلك يشق نور الصبح بضياء النهار فيكون معنى قوله : فالِقُ الْإِصْباحِ أي فالق الصباح بنور النهار.

الوجه الثالث : أن يراد فالق ظلمة الإصباح وهي الغبش في آخر الليل الذي يلي الصبح.

الوجه الرابع : أن يكون المعنى فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر إذا انصدع الفجر وانفلق وسمي الفجر فلقا بمعنى مفلوق.

الوجه

الخامس : الفلق بمعنى الخلق يعني خالق الإصباح. وعلى هذا القول يزول الإشكال. والصبح هو الضوء الذي يبدو أول النهار. والمعنى أنه تعالى مبدي ضوء الصبح وخالقه ومنوره.

وقوله تعالى : وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً السكن ما سكنت إليه واسترحت به. يريد أن الناس يسكنون في الليل سكون راحة لأن اللّه جعل الليل لهم كذلك. قال ابن عباس : إن كل ذي روح يسكن فيه لأن الإنسان قد أتعب نفسه في النهار فاحتاج إلى زمان يستريح فيه ويسكن عن الحركة وذلك هو الليل وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً يعني أنه تعالى قدر حركة الشمس والقمر في الفلك بحسبان معين. قال ابن عباس : يجريان إلى أجل جعل لهما يعني عدد الأيام والشهور والسنين وقال الكلبي منازلهما بحسبان لا يجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية من الأشياء التي خلقها بقدرته وكمال علمه وهو المراد بقوله تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة إلى كمال علمه.

قوله عز وجل : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ جعل هنا بمعنى خلق يعني واللّه الذي خلق لكم هذه النجوم أدلة لتهتدوا بها إذا ضللتم الطريق وتحيرتم فيه ، فامتنّ اللّه على عباده بأن جعل لهم النجوم ليهتدوا بها في المسالك والطرق في البر والبحر إلى حيث يريدون ويستدلون بالنجوم أيضا على القبلة فيستدلون على ما يريدون في النهار بحركة الشمس وفي الليل بحركة الكواكب ومن منافعها أيضا أنه تعالى خلقها زينة للسماء ورجوما للشياطين كما قال : وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ يعني قد بينّا الآيات الدالة على توحيدنا وكمال قدرتنا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أن ذلك مما يستدل به على وجود الصانع المختار وكمال علمه وقدرته.

قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني واللّه الذي ابتدأ خلقكم أيها الناس من آدم عليه السلام فهو أبو البشر كلهم وحواء مخلوقة منه وعيسى أيضا لأن ابتداء خلقه من مريم وهي من بنات آدم فثبت أن جميع الخلق من آدم عليه السلام فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قرئ فمستقر بكسر القاف وفتحها. يقال : قر في مكانه واستقر فمن كسر القاف قال : المستقر بمعنى القارّ. والمعنى : منكم مستقر يعني في الأرحام. ومن فتح القاف جعله مكانا فالمستقر نفس المقر فيكون المعنى لكم مقر.

وأما المستودع فهو مثل أودع فيجوز أن يكون اسما للإنسان الذي استودع ذلك المكان ويجوز أن يكون المكان نفسه.

فمن قرأ فمستقر بفتح القاف جعل المستودع مكانا ، والمعنى : فلكم مكان استقرار ومكان استيداع ومن كسر القاف جعل المعنى منكم مستقر ومنكم مستودع يعني منكم من استقر ومنكم من استودع والفرق بين المستقر والمستودع أن المستقر أقرب إلى الثبات من المستودع ، لأن المستقر من القرار والمستودع معرض لأن يرد.

ولهذا اختلفت عبارات المفسرين في معنى هذين اللفظين فروي عن ابن عباس أنه قال المستقر في أرحام الأمهات والمستودع في أصلاب الآباء ثم قرأ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ ويؤيد هذا القول أن النطفة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا والجنين يبقى في بطن الأم زمانا طويلا ، ولما كان المكث في بطن الأم أكثر من صلب الأب حمل المستقر على الرحم والمستودع على الصلب. وروي عنه أنه قال : بالعكس يعني أن المستقر صلب

الأب والمستودع رحم الأم. ووجه هذا القول ، أن النطفة حصلت في صلب الأب قبل رحم الأم فوجب حمل المستقر على الصلب والمستودع على الرحم. وقال ابن مسعود : المستقر في الرحم إلى أن يولد والمستودع في القبر إلى أن يبعث وقال مجاهد : المستقر على ظهر الأرض في الدنيا لقوله : وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ والمستودع عند اللّه في الآخرة. وقال الحسن : المستقر في القبر والمستودع في الدنيا وكان يقول يا ابن آدم أنت مستودع في أهلك إلى أن تلحق بصاحبك يعني القبر

وقيل المستودع في القبر والمستقر إما في الجنة والنار ، لأن المقام فيهما يقتضي الخلود والتأبيد قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ قد بيّنا الدلائل الدالة على التوحيد بالبراهين الواضحة والحجج القاطعة لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ يعني لقوم يفهمون عن اللّه آياته ودلائله الدالة على توحيده لأن الفقه هو الفهم.

قوله عز وجل :

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)

٩٩

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر

وقيل إن اللّه ينزل المطر من السماء إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض فَأَخْرَجْنا بِهِ يعني بالماء الذي أنزلنا من السماء نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ يعني كل شيء ينبت وينمو من جميع أصناف النبات ،

وقيل معناه أخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء غذاء كل شيء من : الأنعام والبهائم والطير والوحش وأرزاق بني آدم وأقواتهم مما يتغذون به فينبتون عليه وينمون فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً يريد أخضر مثل عور وأعور. والأخضر هو جميع الزروع والبقول الرطبة نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً يعني : يخرج من ذلك الأخضر سنابل فيها الحب يركب بعضها فوق بعض مثل : سنبل القمح والشعير والأرز والذرة وسائر الحبوب وفي تقديم الزرع على النخل دليل على الأفضلية ولأن حاجة الناس إليه أكثر لأنه القوت المألوف وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ يعني من ثمرها. يقال : أطلعت النخلة إذا أخرجت طلعها وطلعها كفراها قبل أن ينشق عن الإغريض. والإغريض : يسمى طلعا أيضا وهو ما يكون في قلب الطلع والطلع أول ما يبدو ويخرج من ثمر النخل كالكيزان يكون فيه العذق فإذا شق عنه كيزانه سمي عذقا وهو القنو وجمعه قنوان مثل : صنو وصنون.

دانية أي قريبة التناول ينالها القائم والقاعد وقال مجاهد : متدلية. وقال الضحاك : قصار ملتصقة بالأرض وفيه اختصار وحذف تقديره ومن النخل ما قنوانها دانية قريبة ومنها ما هي بعيدة عالية فاكتفى بذكر القريبة عن البعيدة لشدة الاهتمام بها ولأنها أسهل تناولا من البعيدة لأن البعيدة تحتاج إلى كلفة وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ يعني وأخرجنا ممن اليهود وقرئ دارست بالألف بمعنى قارأت أهل الكتاب من المدارسة التي هي بين اثنين يعني يقولون قرأت على أهل الكتاب وقرءوا عليك وقرئ درست بفتح الدال والراء والسين وسكون التاء ومعناه أن هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة فدرست وانمحت من قولهم فرس الأثر إذا محي وذهب أثره وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني القرآن

وقيل : معناه نصرف الآيات لقوم يعلمون. قال ابن عباس : يريد أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد

وقيل : معنى الآية وكذلك نصرف الآيات ليسعد بها قوم ويشفى بها آخرون فمن أعرض عنها وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : درست أو درست فهو شقي ومن تبين له الحق وفهم معناها وعمل بها فهو سعيد وقال أبو إسحاق : إن السبب الذي أداهم إلى أن قالوا درست هو تلاوة الآيات عليهم وهذه اللام تسميها أهل اللغة لام الصيرورة يعني صار عاقبة أمرهم أن قالوا دارست فصار ذلك سببا لشقاوتهم وفي هذا دليل على أن اللّه تعالى جعل تصريف الآيات سببا لضلالة قوم وشقاوتهم وسعادة قوم وهدايتهم.

اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللّه ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه فَيَسُبُّوا اللّه عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)

١٠٦

١٠٧

١٠٨

قوله تعالى : اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم يعني اتبع يا محمد ما أمرك به ربك في وحيه الذي أوحاه إليك وهو القرآن فاعمل به وبلغه إلى البادي ولا تلتفت إلى قول من يقول : دارست أو درست. وفي قوله اتبع ما أوحي إليك من ربك تعزية لقلب النبي صلى اللّه عليه وسلم وإزالة الحزن الذي حصل له بسبب قولهم درست ونبه بقوله

تعالى : لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أنه سبحانه وتعالى واحد فرد صمد لا شريك له وإذا كان كذلك فإنه تجب طاعته ولا يجوز تركها بسبب جهل الجاهلين وزيغ الزائغين

وقوله تعالى : وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ قيل : المراد منه في الحال لا الدوام وإذا كان كذلك لم يكن النسخ

وقيل : المراد ترك مقالتهم فعلى هذا يكون الأمر بالإعراض منسوخة بآية القتال

قوله عز وجل : وَلَوْ شاءَ اللّه ما أَشْرَكُوا قال الزجاج : معناه لو شاء اللّه لجعلهم مؤمنين وهذا نص صريح في أن شركهم كان بمشيئة اللّه تعالى خلافا للمعتزلة في قولهم لم يرد من أحد الكفر والشرك فالآية رد عليهم وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً يعني : وما جعلناك يا محمد على هؤلاء المشركين رقيبا ولا حافظا تحفظ عليهم أعمالهم. وقال ابن عباس في رواية عطاء : وما جعلناك عليهم حفيظا تمنعهم منّا ومعناه إنك لم تبعث لتحفظ المشركين من العذاب وإنما بعثت مبلّغا فلا تهتم بشركهم فإن ذلك بمشيئة اللّه تعالى : وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ يعني وما أنت عليهم بقيّم تقوم بأرزاقهم وما أنت عليهم بمسيطر ، فعلى التفسير الأول تكون الآية منسوخة بآية السيف وعلى قول ابن عباس : لا تكون منسوخة.

قوله تعالى : وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه فَيَسُبُّوا اللّه عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ الآية قال ابن عباس : لما نزلت : إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ قال المشركون يا محمد لتنتهين عن سبب آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم اللّه أن يسبوا أوثانهم فيسبوا اللّه عدوا بغير علم وقال قتادة : كان المؤمنون يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم اللّه عن ذلك لئلا يسبوا اللّه لأنهم قوم جهلة لا علم لهم باللّه عز وجل. وقال السدي : لما حضرت أبا طالب الوفاة قالت قريش انطلقوا بنا لندخل على هذا الرجل فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان عمه يمنعه فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبيّ ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن أبي البختري إلى أبي طالب ، فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه فدعاه جاء النبي صلى اللّه عليه وسلم : فقال له أبو طالب : إن هؤلاء قومك وبنو عمك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما يريدون؟ قالوا :

نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك. فقال له أبو طالب : قد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم أرأيتم إن أعطيتكم هذا فهل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم العجم وأدت لكم الخراج؟ فقال أبو جهل نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي؟ فقال : قولوا لا إله إلا اللّه (فأبوا ونفروا) فقال أبو طالب : قل غيرها يا ابن أخي فقال : يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها إرادة أن يؤيسهم فقالوا : لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ونشتمن من يأمرك فأنزلت : وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه يعني ولا تسبوا أيها المؤمنون الأصنام التي يعبدها المشركون فيسبوا اللّه عدوا بغير علم يعني فيسبوا اللّه ظلما بغير علم لأنهم جهلة باللّه عز وجل. قال الزجاج : نهوا في ذلك الوقت قبل القتال أن يلعنوا الأصنام التي كانت عبدها المشركون. وقال ابن الأنباري : هذه الآية منسوخة أنزلها اللّه عز وجل والنبي صلى اللّه عليه وسلم بمكة فلما قواه بأصحابه نسخ هذه الآية ونظائرها بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.

وقيل إنما نهوا عن سب الأصنام وإن كان في بسبها طاعة وهو مباح لما يترتب على ذلك من المفاسد التي هي أعظم من ذلك وهو سب اللّه عز وجل وسب رسوله وذلك من أعظم المفاسد فلذلك نهوا عن سب الأصنام

وقيل لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لا تسبوا آلهتكم فيسبوا ربكم فأمسك المسلمون عن سب آلهتهم فظاهر الآية وإن كان نهيا عن سب الأصنام فحقيقته النهي عن سب اللّه تعالى لأنه سبب لذلك.

وقوله تعالى : كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ يعني كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام وطاعة الشيطان بالحرمان والخذلان كذلك زينا لكل أمه عملهم من الخير والشر والطاعة والمعصية وفي هذه الآية دليل على تكذيب القدرية والمعتزلة حيث قالوا لا يحسن من اللّه خلق الكفر وتزيينه.

وقوله تعالى : ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ يعني المؤمن والكافر والطائع والعاصي فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني في الدنيا ويجازيهم على ذلك.

وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللّه وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩)

١٠٩

قوله عز وجل : وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمانِهِمْ قال محمد بن كعب القرظي والكلبي : قالت قريش يا محمد إنك تخبرنا أن موسى كانت له عصا يضرب بها الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى فأتنا بآية حتى نصدقك ونؤمن بك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أي شيء تحبون؟ قالوا : تجعل لنا الصفا ذهبا وابعث لنا بعض موتانا نسأله عنك أحق ما تقول أم باطل؟ وأرنا الملائكة يشهدون لك؟ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن فعلت بعض ما تقولون أتصدقوني؟ قالوا : نعم واللّه لئن فعلت لنتبعك أجمعون. وسأل المسلمون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجعل يدعو اللّه عز وجل أن يجعل الصفا ذهبا فجاءه جبريل فقال ما شئت إن شئت أصبح ذهبا ولكن إن لم يصدقوك لنعذبهم وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بل يتوب تائبهم فأنزل اللّه عز وجل : وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يعني وحلفوا باللّه جهد أيمانهم يعني وحلفوا باللّه جهد أيمانهم يعني أوكد ما قدروا عليه من الأيمان وأشدها. قال الكلبي ومقاتل : إذا حلف الرجل باللّه فهو جهد يمينه لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ يعني كما جاءت من قبلهم من الأمم لَيُؤْمِنُنَّ بِها يعني ليصدقن بها قُلْ يعني قل يا محمد إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللّه يعني أن اللّه تعالى قادر على إنزالها وَما يُشْعِرُكُمْ يعني : وما يدريكم.

ثم اختلف في المخاطبين بقوله وما يشعركم فقيل هو خطاب للمشركين الذين أقسموا باللّه

وقيل هو خطاب للمؤمنين واختلفوا في قوله أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ فقرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر عن عاصم إنها بكسر الألف على الابتداء وقالوا تم الكلام عند قوله وما يشعروكم على معنى وما يدريكم ما يكون منهم ثم ابتدأ فقال : أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ فمن جعل الخطاب للمشركين قال معناه وما يشعركم أيها المشركون أنها يعني الآيات إنها إذا جاءت آمنتم. ومن جعل الخطاب للمؤمنين قال معناه وما يشعركم أيها المؤمنون إذا جاءت آمنوا لأن المؤمنين كانوا يسألون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يدعو اللّه أن يريهم ما اقترحوا حتى يؤمنوا فخاطبهم اللّه بقوله :

وَما يُشْعِرُكُمْ ثم ابتدأ

فقال تعالى إنها : إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وهذا في قوم مخصوصين حكم اللّه عز وجل عليهم بأنهم لا يؤمنون وذلك لسابق علمه فيهم وقرأ الباقون أنها بفتح الألف وجعلوا الخطاب في ذلك للمؤمنين لأن المؤمنين هم الذين سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنزال الآيات حتى يؤمن المشركون بها إذا رأوها لأن المشركين كانوا حلفوا أنهم إذا جاءتهم آية آمنوا وصدقوا واتبعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأحب أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنزال الآيات لذلك فقال اللّه تعالى : وما يشعركم أيها المؤمنون أن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين لا يؤمنون فعلى هذا اختلفوا في لفظة لا من قوله لا يؤمنون فقيل هي صلة والمعنى وما يشعركم إنها إذا جاءت يؤمنون

وقيل هي على بابها وفيه حذف والمعنى وما يشعركم أنها إذا جاءتهم يؤمنون أو لا يؤمنون

وقيل إن بمعنى لعل في قوله إنها إذا جاءت وكذلك هو في قراءة أبيّ بن كعب لعلها إذا جاءت وهذا سائغ في كلام العرب تقول العرب : أئت السوق أنك تشتري لنا شيئا ، بمعنى لعلك ومنه قول عدي بن زيد :

أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد

يعني لعل منيتي.

وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللّه وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)

١١٠

١١١

قوله تعالى : وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ قال ابن عباس : يعني ونحول بينهم وبين الإيمان فلو جئناهم بالآيات التي سألوها لما آمنوا بها. والتقليب هو تحويل الشيء وتحريكه عن وجهه إلى وجه آخر لأن اللّه تعالى إذا صرف القلوب والأبصار عن الإيمان بقيت على الكفر كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني كما لم يؤمنوا بما قبل ذلك من الآيات التي جاء بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثل انشقاق القمر وغير ذلك من المعجزات الباهرات ،

وقيل : أول مرة يعني الآيات التي جاء بها موسى وغيره من الأنبياء.

وقال ابن عباس : المرة الأولى دار الدنيا يعني لو ردوا من الآخرة إلى الدنيا نقلب أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة قبل مماتهم وفي الآية دليل على أن اللّه تعالى : يهدي من يشاء ويضل من يشاء وأن القلوب والأبصار بيده وفي تصريفه فيقيم ما شاء منها ويزيغ ما أراد منها ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم : (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فمعنى قوله بقلب أفئدتهم نزيغها عن الإيمان ونقلب أبصارهم عن رؤية الحق ومعرفة الصواب وإن جاءتهم الآية التي سألوها فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا باللّه ورسوله وبما جاء من عند اللّه ، فعلى هذا تكون الكناية في به عائدة على الإيمان بالقرآن وبما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل سؤالهم الآيات التي اقترحوها.

وقوله تعالى : وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يعني ونترك هؤلاء المشركين الذين سبق علم اللّه أنهم لا يؤمنون في تمردهم على اللّه واعتدائهم عليه يترددون لا يهتدون إلى الحق.

قوله عز وجل : وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ قال ابن جريج : نزلت في المستهزئين ، وذلك أنهم أتوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في نفر من قريش ، فقالوا : يا محمد ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل وأرنا الملائكة يشهدن لك أنك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أو ائتنا باللّه والملائكة قبيلا فنزلت هذه الآية جوابا لهم. والمعنى :

ولو أنا نزلنا إليهم الملائكة حتى يشهدوا لك بالرسالة وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى يعني كما سألوا وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا يعني وجمعنا عليهم كل شيء قبلا قبيلا ، قيل القبيل الكفيل بصحة ما تقول ما آمنوا وهو قوله : ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللّه يعني إلا أن يشاء اللّه الإيمان منهم وفيه دليل على أن جميع الأشياء بمشيئة اللّه تعالى حتى الإيمان والكفر ، وموضع المعجزة أن الأشياء المحشورة منها ناطق ومنها صامت فإذا أنطق اللّه الكل حتى يشهدوا له بصحة ما يقول كان ذلك في غاية الإعجاز.

وقيل قبلا من المقابلة والمواجهة ، والمعنى : وحشرنا عليهم كل شيء مواجهة ومعاينة ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللّه أخبر اللّه أن الإيمان بمشيئة اللّه لا كما ظنوا أنهم متى شاؤوا آمنوا ومتى شاؤوا لم يؤمنوا ، وقال ابن عباس : ما كانوا ليؤمنوا هم أهل الشقاء إلا أن يشاء اللّه هم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه أنهم يدخلون في الإيمان. وصحح الطبري قول ابن عباس قال : لأن اللّه عم بقوله ما كانوا ليؤمنوا القوم الذين تقدم ذكرهم في قوله : وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها ثم استثنى منهم أهل السعادة وهم الذين شاء لهم الإيمان.

قوله تعالى : وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ يعني يجهلون أن ذلك كذلك ويحسبون أن الإيمان إليهم متى شاؤوا آمنوا ومتى شاؤوا كفروا ، وليس الأمر كذلك بل الإيمان والكفر بمشيئة اللّه تعالى فمن شاء له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر وفي هذا دليل لمذهب أهل السنة أن الأشياء كلها بمشيئة اللّه تعالى ورد على القدرية والمعتزلة في قولهم : إن اللّه أراد الإيمان من جميع الكفار.

وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)

١١٢

١١٣

قوله تعالى : وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا قيل هو منسوق على

قوله تعالى كذلك زينّا لكل أمة عملهم ، أي كما فعلنا ذلك كذلك جعلنا لكل نبي عدوا.

وقيل : معناه كما جعلنا لمن قبلك من الأنبياء أعداء كذلك جعلنا لك أعداء وفيه تعزية للنبي صلى اللّه عليه وسلم وتسلية له يقول اللّه تبارك وتعالى : كما ابتليناك بهؤلاء القوم فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك عدوا ليعظم ثوابه على ما يكابده من أذى أعدائه وعدو واحد يراد به الجمع يعني جعلنا لكل نبي أعداء شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ اختلف العلماء في معنى شياطين الإنس والجن على قولين :

أحدهما : أن المراد شياطين من الإنس وشياطين من الجن والشيطان كل عات متمرد من الجن والإنس وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء ، وهو قول مجاهد وقتادة. قالوا : وشياطين الإنس أشد تمردا من شياطين الجن لأن شيطان الجن إذا عجز عن إغواء المؤمن الصالح وأعياه ذلك استعان على إغوائه بشيطان الإنس ليفتنه ، ويدل على صحة هذا القول ما روي عن أبي ذر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (هل تعوذت باللّه من شيطان الجن والإنس قلت يا رسول اللّه وهل للأنس من شيطان؟ قال نعم هم شر من شياطين الجن) ذكره البغوي بغير سند وأسنده الطبري. وقال مالك بن دينار : إن شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجن وذلك أني إذا تعوذت باللّه ذهب شيطان الجن وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي.

القول الثاني : إن الجميع من ولد إبليس وأضيف الشياطين إلى الإنس على معنى أنهم يغوونهم ، وهذا قول عكرمة والضحاك والكلبي والسدي. ورواية عن ابن عباس قالوا : والمراد بشياطين الإنس التي مع الإنس وبشياطين الجن التي مع الجن وذلك أن إبليس قسم جنده قسمين فبعث فريقا منهم إلى الجن وفريقا إلى الإنس فالفريقان شياطين الجن والإنس بمعنى أنهم يغوونهم ويضلّونهم وكلا الفريقين أعداء للنبي صلى اللّه عليه وسلم ولأوليائه من المؤمنين والصالحين. ومن ذهب إلى هذا القول قال : يدل على صحته أن لفظ الآية يقتضي إضافة الشياطين إلى الإنس والجن والإضافة تقتضي المغايرة فعلى هذا يكون في الشياطين نوع مغاير للإنس والجن وهم أولاد إبليس.

وقوله تعالى : يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يعني يلقي ويسرّ بعضهم إلى بعض ويناجي بعضهم بعضا وهو الوسوسة التي يلقيها إلى من يريد إغوائه ، فعلى

القول

الأول : إن شياطين الإنس والجن يسر بعضهم إلى بعض ما يفتنون به المؤمنين والصالحين ، وعلى

القول الثاني : إن أولاد إبليس يلقى بعضهم بعضا في كل حين فيقول شيطان الإنس لشيطان الجن أضللت صاحبي بكذا وكذا فأضلّ أنت صاحبك بمثله ويقول شيطان الجن لشيطان الإنس كذلك فذلك وحي بعضهم إلى بعض.

وقوله : زُخْرُفَ الْقَوْلِ يعني باطل القول والزخرف هو الباطل من الكلام الذي قد زين ووشي بالكذب وكل شيء حسن مموه فهو زخرف غُرُوراً يعني أن الشياطين يغرون بذلك القول الكذب المزخرف غرورا وذلك أن الشياطين يزينون الأعمال القبيحة لبني آدم ويغرونهم بها غرورا وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ يعني ما فعلوا الوسوسة التي يلقيها الشياطين في قلوب بني آدم ، والمعنى أن اللّه تعالى لو شاء لمنع الشياطين من إلقاء الوسوسة إلى الإنس والجن ولكن اللّه يمتحن من يشاء من عباده بما يعلم أنه الأجزل له في الثواب إذا صبر على المحنة فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ يعني فخلّهم يا محمد وما زين لهم إبليس وغرهم به من الكفر والمعاصي فإني من ورائهم.

قوله تعالى : وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قال ابن عباس : ولتميل إليه وأصل الصغو في اللغة الميل ، يقال : أصغى إلى كذا مال إليه. ويقال صغوت أصغو وصغيت أصغى لغتان. قال ابن الأنباري :

اللام في ولتصغى متعلقة بفعل مضمر معناه وفعلنا بهم ذلك لكي تصغي إلى الباطل أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وقال غيره اللام متعلقة بيوحي تقديره ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروا بذلك ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة والضمير في إليه يرجع إلى زخرف القول ، ليغروا بذلك ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة والضمير في إليه يرجع إلى زخرف القول والمعنى أن قلوب الكفار تميل إلى زخرف القول وباطله وتحبه وترضى به وهو قوله : وَلِيَرْضَوْهُ يعني يرضون ذلك القول المزخرف الباطل وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ يعني وليكتسبوا من الأعمال الخبيثة ما هم مكتسبون.

أَفَغَيْرَ اللّه أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)

١١٤

١١٥

١١٦

١١٧

قوله عز وجل : أَفَغَيْرَ اللّه أَبْتَغِي حَكَماً أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أفغير اللّه أطلب حكما قاضيا يقضي بيني وبينكم وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى اللّه عليه وسلم اجعل بيننا وبينك حكما ، فأمره اللّه تعالى أن يجيبهم بهذا الجواب والحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة ، غير أن بعض أهل المعاني قال : الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم من شأنه أن يحكم والحكم أهل أن يتحاكم إليه وهو الذي لا يحكم إلا بالحق فاللّه تعالى حكم لا يحكم إلا بالحق فلما أنزل اللّه على محمد القرآن فقد حكم له بالنبوة وهو

قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا يعني علماء اليهود والنصارى يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ يعني يشهدون أن هذا القرآن منزل من عند اللّه وذلك لما ثبت عندهم بالدلائل الدالة على ذلك ،

وقيل المراد بهم علماء الصحابة ورؤساؤهم مثل : أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونظرائهم يعلمون أن هذا القرآن منزل من ربك بالحق فآمنوا به وصدقوه فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ يعني فلا تكونن يا محمد من الشاكّين أن علماء أهل الكتاب يعلمون أن هذا القرآن حق وأنه منزل من عند اللّه

وقيل : معناه فلا تكونن في شك مما قصصنا عليك أنه حق وصدق فهو من باب التهييج لأنه صلى اللّه عليه وسلم لم يشك قط ،

وقيل : الخطاب وإن كان في الظاهر للنبي صلى اللّه عليه وسلم إلا أن المراد به غيره. والمعنى : فلا تكونن أيها الإنسان السامع لهذا القرآن في شك أنه منزل من عند اللّه لما فيه من الإعجاز الذي لا يقدر على مثله إلا اللّه تبارك وتعالى.

قوله تعالى : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وقرئ كلمات ربك على الجمع فمن قرأ على التوحيد قال : الكلمة قد يراد بها الكلمات الكثيرة إذا كانت مضبوطة بضابط واحد كقولهم قال الشاعر في كلمته يعني في قصيدته ، وكذلك القرآن كلمة واحدة لأنه شيء واحد في إعجاز النظم وكونه حقا وصدقا ومعجزا ومن قرأ بالجمع قال لأن اللّه قال في سياق الآية لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ فوجب الجمع في اللفظ الأول اتباعا للثاني صِدْقاً وَعَدْلًا يعني صدقا فيما وعد وعدلا فيما حكم

وقيل إن القرآن مشتمل على الأخبار والأحكام فهو صادق فيما أخبر عن القرون الماضية والأمم الخالية وعما هو كائن إلى قيام الساعة. وفيما أخبر عن ثواب المطيع في الجنة وعقاب العاصي في النار وهو عدل فيما حكم من الأمر والنهي والحلال والحرام وسائر الأحكام لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ يعني لا مغير لقضائه ولا رادّ لحكمه ولا خلف لمواعيده ،

وقيل : لما وصف كلماته بالتمام في قوله وتمت كلمة ربك والتمام في كلام اللّه لا يقبل النقص والتغيير والتبديل.

قال اللّه تعالى : لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لأنها مصونة عن التحريف والتغيير والتبديل باقية إلى يوم القيامة وفي قوله : لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ دليل على أن السعيد لا ينقلب شقيا ولا الشقي ينقلب سعيدا ، فالسعيد من سعد في الأزل والشقي من شقي في الأزل وأورد على هذا أن الكافر يكون شقيا بكفره فيسلم فينقلب سعيدا بإسلامه وأجيب عنه بأن الاعتبار بالخاتمة فمن ختم له بالسعادة كان قد كتب سعيدا في الأزل ومن ختم له بالشقاوة كان شقيا في الأزل واللّه أعلم.

وقوله تعالى : وَهُوَ السَّمِيعُ يعني لما يقول العباد الْعَلِيمُ بأحوالهم

قوله عز وجل : وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه قال المفسرون إن المشركين جادلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين في أكل الميتة وذلك أنهم قالوا للمسلمين كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلوا ما قتل ربكم؟ فقال اللّه تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : وإن تطع أكثر من في الأرض في أكل الميتة ، وكان الكفار يومئذ أكثر أهل الأرض يضلوك عن سبيل اللّه ، يعني يضلوك عن دين اللّه الذي شرعه لك وبعثك به

وقيل معناه لا تطعهم في معتقداتهم الباطلة فإنك إن تطعهم يضلوك عن سبيل اللّه يعني يضلوك عن طريق الحق ومنهج الصدق ثم أخبر عن حال الكفار وما هم عليه

فقال تعالى : إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني أن هؤلاء الكفار الذين يجادلونك ما يتبعون في دينهم الذي هم عليه إلا الظن وليسوا على بصيرة وحق في دينهم وليسوا بقاطعين أنهم على حق لأنهم اتبعوا أهواءهم وتركوا التماس الصواب والحق واقتصروا على اتباع الظن والجهل وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يعني يكذبون وأصل الخرص الحزر والتخمين ، ومنه خرص النخلة إذا حزر كمية ثمرتها على الظن من غير يقين ويسمى الكذب خرصا لما يدخله من الظنون الكاذبة

وقيل : إن كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له خرص لأن قائله لم يقله عن علم ويقين إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ يقول اللّه لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم يا محمد إن ربك هو أعلم منك ومن جميع خلقه أيّ الناس يضل عن سبيله وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ يعني وهو أعلم أيضا بمن كان على هدى واستقامة وسداد ولا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه فأخبر تعالى أنه أعلم بالفريقين الضال والمهتدي وأنه يجازي كلّا بما يستحق.

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)

١١٨

١١٩

١٢٠

قوله تعالى : فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ هذا جواب لقول المشركين حيث قالوا للمسلمين أتأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتل ربكم؟ فقال اللّه تعالى للمسلمين فكلوا أنتم مما ذكر اسم اللّه عليه من الذبائح : إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ

وقيل كانوا يحرمون أصنافا من النعم ويحلون الميتة فقيل : أحلوا ما أحل اللّه وحرموا ما حرم اللّه ، فعلى هذا القول تكون الآية خطابا للمشركين.

وعلى

القول الأول تكون الآية خطابا للمسلمين وهو الأصح لقوله في آخر الآية : إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ يعني وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا وما يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه وهذا تأكيد في إباحة ما ذبح على اسم اللّه دون غيره : وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ يعني وقد بين لكم الحلال من الحرام فيما تطعمون. وقال جمهور المفسرين : المراد بقوله وقد فصل لكم ما حرم عليكم المحرمات المذكورة في

قوله تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ وأورد الإمام فخر الدين الرازي هاهنا إشكالا فقال : في سورة الأنعام مكية وسورة المائدة من آخر ما أنزل اللّه تعالى بالمدينة ،

وقوله : وقد فصل يجب أن يكون ذلك المفصل متقدما على هذا المحل والمدني متأخر على

المكي فيمتنع كونه متقدما ثم قال بل الأولى أن يقال

قوله تعالى بعد هذه الآية قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ وهذه الآية وإن كانت مذكورة بعد هذه الآية بقليل إلا أن هذا القدر من المتأخر لا يمنع أن يكون هو المراد قال كاتبه ولما ذكره المفسرون وجه وهو أن اللّه لما علم أن سورة المائدة متقدمة على سورة الأنعام في الترتيب لا في النزول حسن عود الضمير في قوله وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلى ما هو متقدم في الترتيب وهو قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الآية واللّه أعلم بمراده.

قوله تعالى : إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ يعني إلا أن تدعوكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة فيباح لكم ذلك عند الاضطرار وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني وإن كثيرا من الذين يجادلونكم في أكل الميتة ويحتجون عليكم في ذلك بقولهم أتأكلون ما تذبحون ولا تأكلون ما يذبحه اللّه ، وإنما قالوا هذه المقالة جهلا منهم بغير علم منهم بصحة ما يقولون بل يتبعون أهواءهم ليضلوا أنفسهم وأتباعهم بذلك.

وقيل : المراد به عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أول من بحر البحائر وسيّب السوائب وأباح الميتة وغير دين إبراهيم عليه السلام إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ يعني إن ربك يا محمد هو أعلم بمن تعدى حدوده فأحل ما حرم وحرم ما أحل اللّه فهو يجازيهم على سوء صنيعهم.

قوله عز وجل : وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ يعني وذروا أيها الناس ما يوجب الإثم وهي الذنوب والمعاصي كلها سرها وعلانيتها قليلها وكثيرها ، قال الربيع بن أنس : نهى اللّه عن ظاهر الإثم وباطنه أن يعمل به سرا وعلانية وقال سعيد بن جبير : في هذه الآية الظاهر منه قوله : وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ ونكاح المحارم من الأمهات والبنات والأخوات والباطن الزنا ، وقال السدي : أما الظاهر فالزواني في الحوانيت وهنّ أصحاب الرايات.

وأما الباطن فالمرأة يتخذها الرجل صديقة فيأتيها سرا ، وقال الضحاك : كان أهل الجاهلية يستسرون بالزنا ويرون أن ذلك حلالا ما كان سرا فحرم اللّه السر منه والعلانية ، وقال ابن زيد : ظاهر الإثم التجرد من الثياب والتعري في الطواف والباطن الزنا ، وقال الكلبي : ظاهر الإثم طواف الرجال بالبيت نهارا عراة وباطنه طواف النساء بالليل عراة وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك إلى أن جاء الإسلام فنهى اللّه عن ذلك كله.

وقيل : إن هذا النهي عام في جميع المحرمات التي نهى اللّه عنها وهو الأصح لأن تخصيص العام بصورة معينة من غير دليل لا يجوز ، فعلى هذا القول يكون معنى الآية وذروا ما أعلنتم به وما أسررتم من الذنوب كلها ، قال ابن الأنباري :

وذروا الإثم من جميع جهاته.

وقيل : المراد بظاهر الإثم الإقدام على الذنوب من غير مبالاة وباطنه ترك الذنوب لخوف اللّه عز وجل لا خوف الناس

وقيل المراد بظاهر الإثم أفعال الجوارح وباطنه أفعال القلوب فيدخل في ذلك الحسد والكبر والعجب إرادة السوء للمسلمين ونحو ذلك.

وقوله عز وجل : إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ يعني إن الذين يعملون بما نهاهم اللّه عنه ويرتكبون ما حرم عليهم من المعاصي وغيرها سَيُجْزَوْنَ يعني في الآخرة بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ يعني بما كانوا يسكبون في الدنيا من الآثام وظاهر هذا النص يدل على عقاب المذنب أنه مخصوص بمن لم يتب لأن المسلمين أجمعوا على أنه إذا تاب العبد من الذنب توبة صحيحة لم يعاقب وزاد أهل السنة في ذلك ، فقالوا : المذنب إذا لم يتب فهو في خطر المشيئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه بفضله وكرمه ،

وقوله تعالى : وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ قال بن عباس : الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها ، وقال عطاء الآية في تحريم الذبائح التي كانوا يذبحونها على اسم الأصنام ا ه.

( (فصل)) اختلف العلماء في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم اللّه عليها فذهب قوم إلى تحريمها سواء تركها عامدا أو

ناسيا : وهو قول ابن سيرين والشعبي ونقله الإمام فخر الدين الرازي عن مالك ، ونقل عن عطاء أنه قال : كل ما لم يذكر اسم اللّه عليه من طعام أو شراب فهو حرام. احتجوا في ذلك بظاهر هذه الآية. وقال الثوري وأبو حنيفة :

إن ترك التسمية عامدا لا تحل وإن تركها ناسيا تحل. وقال الشافعي : تحل الذبيحة سواء ترك التسمية عامدا أو ناسيا ، ونقله البغوي عن ابن عباس ومالك ونقل ابن الجوزي عن أحمد روايتين : فيما إذا ترك التسمية عامدا وإن تركها ناسيا حلت فمن أباح أكل الذبيحة التي لم يذكر اسم اللّه عليها قال : المراد من الآية الميتات وما ذبح على اسم الأصنام بدليل أنه قال تعالى في سياق الآية وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وأجمع العلماء على أن آكل ذبيحة المسلم التي ترك التسمية عليها لا يفسق واحتجوا أيضا في إباحتها بما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : قلت يا رسول اللّه إن هنا أقواما حديثا عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان فما ندري يذكرون اسم اللّه عليها أم لا قال اذكروا أنتم اسم اللّه وكلوا) قالوا لو كانت التسمية شرطا للإباحة لكان الشك في وجودها مانعا من أكلها كالشك في أصل الذبح وقول الشافعي في أول الآية وإن كان عاما بحسب الصيغة إلا أن آخرها لما حصلت فيه هذه القيود الثلاثة وهي قوله وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم أنكم لمشركون علمنا أن المراد من هذا العموم هو الخصوص والفسق ذكر اسم غير اللّه في الذبح ما قال في آخر السورة قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلى قوله أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ فصار هذا الفسق الذي أهلّ لغير اللّه به مفسرا لقوله وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وإذا كان كذلك كان قوله :

وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢)

١٢١

١٢٢

وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ مخصوصا بما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ واللّه أعلم.

وقوله تعالى : وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ يعني أن الشياطين يوسوسون إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوكم ويخاصموا محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، وذلك أن المشركين قالوا يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها فقال : اللّه قتلها قالوا فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتله الكلب والصقر حلال وما قتله اللّه حرام فأنزل اللّه عز وجلّ هذه الآية ، وقال عكرمة : لما نزلت هذه الآية في تحريم الميتة كتبت فارس ، وهم المجوس ، إلى مشركي قريش أن خاصموا محمدا وقولوا له إن ما ذبحت فهو حلال ، وما ذبحه اللّه فهو حرام فأنزل اللّه : وأن الشياطين ، يعني مردة الإنس وهم المجوس ، ليوحون إلى أوليائهم ، يعني مشركي قريش ، وكان بين فارس والعرب مولاة ومكاتبة على الروم ، فعلى هذا يكون المراد بالوحي المكاتبة في خفية وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ يعني في أكل الميتة ، وما حرم اللّه عليكم إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ يعني أنكم إذا مثلهم في الشرك ، قال الزجاج : فيه دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم اللّه أو حرم شيئا مما أحل اللّه فهو مشرك إنما سمي مشركا لأنه أثبت حاكما غير اللّه عز وجل ومن كان كذلك فهو مشرك.

قوله عز وجل : أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ يعني أو من كان ميتا بالكفر فأحييناه بالإيمان وإنما جعل الكفر موتا لأنه جعل الإيمان حياة لأن الحي صاحب بصر يهتدي به إلى رشده ولما كان الإيمان يهدي إلى الفوز العظيم والحياة الأبدية شبهه بالحياة وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يعني وجعلنا له نورا يستضيء به في الناس ويهتدي به إلى قصد السبيل ، قيل : النور هو الإسلام لأنه يخلص من ظلمات الكفر لقوله : يخرجهم من الظلمات إلى النور.

وقال قتادة : هو كتاب اللّه القرآن لأنه بينة من اللّه مع المؤمن بما يعمله كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ يعني كمن هو في ظلمة الكفر وظلمة الجهالة وظلمة عمى البصيرة لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها يعني من تلك الظلمات وهذا مثل ضربه اللّه تعالى لحال المؤمن والكافر فبين أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتا فأحياه وأعطاه نورا يهتدي به في مصالحه وأن الكافر بمنزلة من هو في ظلمات منغمس فيها ليس بخارج منها فيكون متحيرا على الدوام ، ثم اختلف المفسرون في هذين المثالين هل هما مخصوصان بإنسانين معينين أو هما عامّان في كل مؤمن وكافر؟

فذكروا في ذلك قولين :

أحدهما أن الآية في رجلين معينين ثم اختلفوا فيهما فقال ابن عباس في قوله وجعلنا له نورا يمشي به في الناس يريد حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى اللّه عليه وسلم كمن مثله في الظلمات يريد بذلك أن أبا جهل بن هشام وذلك أبا جهل رمى النبي صلى اللّه عليه وسلم بفرث فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل ، وكان حمزة قد رجع من صيد وبيده قوس وحمزة لم يؤمن بعد فأقبل حمزة غضبان حتى علا أبا جهل وجعل يضربه بالقوس ، وجعل أبو جهل يتضرع إلى حمزة ويقول : يا أبا يعلى أما ترى ما جاء به سفّه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا؟ فقال حمزة : ومن أسفه منكم عقولا تعبدون الحجارة من دون اللّه أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه ، فأسلم حمزة يومئذ فأنزل اللّه هذه الآية. وقال الضحاك : نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل. وقال عكرمة والكلبي : نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل ، وقال مقاتل : نزلت في النبي صلى اللّه عليه وسلم وأبي جهل وذلك أن أبا جهل قال زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا نحن وهم كفرسي رهان ، قالوا منا نبي يوحى إليه واللّه لا نؤمن حتى يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت هذه الآية.

والقول الثاني : وهو قول الحسن في آخرين أن هذه الآية عامة في حق كل مؤمن وكافر وهذا هو الصحيح لأن المعنى إذا كان حاصلا في الكل دخل فيه كل أحد.

وقوله تعالى : كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال أهل السنة : المزين هو اللّه تعالى ويدل عليه قوله زينّا لهم أعمالهم ولأن حصول الفعل يتوقف على حصول الدواعي وحصوله لا يكون إلا بخلق اللّه تعالى فدل ذلك على أن المزين هو اللّه تعالى ، وقالت المعتزلة المزين هو الشيطان ويرده ما تقدم.

وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللّه اللّه أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللّه وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)

١٢٣

١٢٤

وقوله تعالى : وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها يعني وكما جعلنا في مكة أكابر ، وعظماء جعلنا في كل قرية أكابر وعظماء ،

وقيل : هو معطوف على ما قبله. ومعناه : كما زينا للكافرين ما كانوا يعملون كذلك جعلنا في كل قرية أكابر جمع الأكبر ولا يجوز أن يكون مضافا لأنه لا يتم المعنى في بل الآية تقديم وتأخير تقديره : وكذلك جعلنا كل قرية أكابر (مجرميها) وإنما جعل المجرمين أكابر لأنهم أقدر على المكر والغدر وترويج الباطل بين الناس من غيرهم ، وإنما حصل ذلك لأجل رئاستهم وذلك سنة اللّه أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم وجعل فسّاقهم أكابرهم لِيَمْكُرُوا فِيها قال أبو عبيدة : المكر ، الخديعة والحيلة والغدر والفجور. زاد بعضهم والغيبة والنميمة والأيمان الكاذبة وترويج الباطل. قال ابن عباس : معناه ليقولوا فيها الكذب. وقال مجاهد : جلس على كل طريق من طرق مكة أربعة نفر ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ويقولوا هو كذاب ساحر كاهن فكان هذا مكرهم وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ يعني ما يحيق هذا المكر إلا بهم لأن وبال مكرهم يعود عليهم وَما يَشْعُرُونَ يعني أن وبال ذلك المكر يعود عليهم ويضرهم.

قوله عز وجل : وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللّه يعني النبوة وذلك أن الوليد بن المغيرة قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم : لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا ، فأنزل اللّه هذه الآية. وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل ، وذلك أنه قال زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه واللّه لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فأنزل اللّه هذه الآية. وإذا جاءتهم آية ، يعني حجة بينة ودلالة واضحة على صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم.

قالوا : يعني الوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام أو كل واحد من رؤساء الكفر ويدل عليه الآية التي قبلها وهي قوله وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها فكان من مكر كفار قريش أن قالوا لن نؤمن لك حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه يعني النبوة وإنما قالوا هذه المقالة الخبيثة حسدا منهم للنبي صلى اللّه عليه وسلم وفي قولهم لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه قولان :

أحدهما : وهو المشهور أن القوم أرادوا أن تحصل لهم النبوة والرسالة كما حصلت للنبي صلى اللّه عليه وسلم وأن يكونوا متبوعين لا تابعين.

القول الثاني : وهو قول الحسن ومنقول عن ابن عباس أن المعنى : وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم قالوا : لن نؤمن لك يعني لن نصدقك حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه يعني حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل بصدقك بأنك رسول اللّه ، فعلى هذا القول لم يطلبوا النبوة وإنما طلبوا أن تخبرهم الملائكة بصدق محمد صلى اللّه عليه وسلم وأنه رسول اللّه تعالى. وعلى

القول الأول أنهم طلبوا أن يكونوا أنبياء ويدل على صحة هذا القول سياق الآية وهو

قوله تعالى : اللّه أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ يعني أنه تعالى يعلم من يستحق الرسالة فيشرفه بها ويعلم من لا يستحقها ومن ليس بأهل لها ، وأنتم لستم لها بأهل وأن النبوة لا تحصل لمن يطلبها ، خصوصا لمن عنده حسد ومكر وغدر. وقال أهل المعاني : الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل البعثة مطاعين في قومهم ، لأن الطعن كان يتوجه عليهم فيقال إنما كانوا رؤساء مطاعين فاتبعهم قومهم لأجل ذلك فكان اللّه تعالى أعلم بمن يستحق الرسالة فجعلها ليتيم أبي طالب دون أبي جهل والوليد وغيرهما من أكابر قريش ورؤسائها

وقوله تعالى :

سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ أي ذلة وهوان.

وقيل الصغار هو الذل الذي تصغر إلى المرء نفسه فيه عِنْدَ اللّه يعني هذا من عند اللّه

وقيل إن هذا الصغار ثابت لهم عند اللّه فعلى هذا القول إنما يحصل لهم الصغار في الآخرة

وقيل معناه سيصيبهم صغار بحكم اللّه حكم به عليهم في الدنيا وَعَذابٌ شَدِيدٌ يعني في الآخرة بِما كانُوا يَمْكُرُونَ يعني إنما حصل لهم هذ الصغار والعذاب بسبب مكرهم وحسدهم وطلبهم ما لا يستحقون.

١٢٥

فَمَنْ يُرِدِ اللّه أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّه الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)

قوله تعالى : فَمَنْ يُرِدِ اللّه أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ أي الإيمان. يقال : شرح اللّه صدره فانشرح أي وسعه لقبول الإيمان والخير فتوسع وذلك أن الإنسان إذا اعتقد في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح وربحه ظاهر مال بطبعه إليه وقويت رغبته فيه فتسمى هذه الحالة سعة النفس وانشراح الصدر.

وقيل الشرح الفتح والبين ويقال شرح فلان أمره إذا : أوضحه وأظهره. وشرح المسألة إذا كانت مشكلة فأوضحها وبينها فقد ثبت أن للشرح معنين :

أحدهما : الفتح ومنه يقال شرح الكافر بالكفر صدرا أي فتحه لقبوله ومنه

قوله تعالى : وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً

وقوله : أَفَمَنْ شَرَحَ اللّه صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ يعني فتحه ووسعه لقبوله.

والثاني : أن الشرح نور يقذفه اللّه في قلب العبد فيعرف بذلك النور الحق ، فيقبله وينشرح صدره له ومعنى الآية : فَمَنْ يُرِدِ اللّه أَنْ يَهْدِيَهُ للإيمان باللّه وبرسوله وبما جاء به من عنده يوفقه له ويشرح صدره ، لقبوله ويهونه عليه ويسهله له بفضله وكرمه ولطفه به وإحسانه إليه فعند ذلك يستنير الإسلام في قلبه فيضيء به ويتسع له صدره ولما نزلت هذه الآية سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن شرح الصدر فقال (نور يقذفه اللّه في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح) قيل فهل لذلك أمارة قال : (نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت) وأسنده الطبري عن ابن مسعود قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين نزلت عليه هذه الآية : فَمَنْ يُرِدِ اللّه أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ قال (إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح) قالوا فهل لذلك من آية يعرف بها؟ قال :

(الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت).

وقوله تعالى : وَمَنْ يُرِدْ أي اللّه أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً يعني يجعل صدره ضيقا حتى لا يدخله الإيمان ، وقال الكلبي : ليس للخير فيه منفذ ، وقال ابن عباس : إذا سمع ذكر اللّه اشمأز قلبه وإذا سمع ذكر الأصنام ارتاح إلى ذلك. وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية وعنده أعرابي من كنانة فقال له : ما الحرجة فيكم؟

قال : الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء ، فقال عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير. وأصل الحرج الضيق وهو مأخوذ من الحرجة وهي الأشجار الملتف بعضها على بعض حتى لا يصل إليه شيء. وقرأ ابن عباس هذه الآية فقال : هل هنا أحد من بني بكر؟ قال رجل :

نعم. قال : ما الحرجة فيكم؟ قال : الوادي الكثير الشجر المستمسك الذي لا طريق فيه ، فقال ابن عباس : كذلك قلب الكافر. قال أهل المعاني : لما كان القلب محلا للعلوم والاعتقادات وصف اللّه تعالى قلب من يريد هدايته بالانشراح والانفساح ونوره فقبل ما أودعه من الإيمان باللّه ورسوله ووصف قلب من يريد ضلالته بالضيق الذي هو خلاف الشرح والانفساح فدل ذلك على أن اللّه تعالى صير قلب الكافر بحيث لا يعي علما ولا استدلالا على توحيد اللّه تعالى والإيمان به وفي الآية دليل على أن جميع الأشياء بمشيئة اللّه وإرادته حتى إيمان المؤمن وكفر الكافر.

وقوله تعالى : كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ يعني أن الكافر إذا دعي إلى الإسلام كأنه قد كلف أن يصعد إلى السماء ولا يقدر على ذلك ،

وقيل : يجوز أن يكون المعنى كأن قلب الكافر يصعد إلى السماء نبوا عن الإسلام وتكبرا ،

وقيل : ضاق عليه المذهب فلم يجد إلا أن يصعد إلى السماء وليس يقدر على ذلك ،

وقيل : هو من المشقة وصعوبة الأمر فيكون المعنى أن الكافر إذا دعي إلى الإسلام فإنه يتكلف مشقة وصعوبة في ذلك كمن يتكلف إلى السماء وليس يقدر على ذلك كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّه الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ

الكاف في كذلك تفيد التشبيه وفيه وجهان :

الأول معناه أن جعله الرجس عليهم كجعله صدورهم ضيقة حرجة والمعنى كما جعلنا صدورهم ضيقه حرجة كذلك يجعل اللّه الرجس عليهم.

والوجه الثاني : قال الزجاج : أي مثل ما قصصنا عليك كذلك يجعل اللّه الرجس. قال ابن عباس : الرجس الشيطان أي فيسلطه اللّه عليهم ، وقال مجاهد : الرجس ما لا خير فيه.

وفي رواية عن ابن عباس أن الرجس العذاب ، وقال الزجاج : الرجس في الدنيا اللعنة وفي الآخرة العذاب.

وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللّه إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨)

١٢٦

١٢٧

١٢٨

قوله عز وجل : وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً يعني وهذا الذي بيّنّا لك يا محمد في هذه السورة وغيرها من سور القرآن هو صراط ربك يعني دينه الذي شرعه لعباده ورضيه لنفسه وجعله مستقيما لا اعوجاج فيه. قال ابن عباس : في قوله وهذا صراط ربك مستقيما يعني الإسلام ، وقال ابن مسعود : يعني القرآن لأنه يؤدي من تبعه وعمل به إلى طريق الاستقامة والسداد قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ يعني قد فصلنا آيات القرآن بالوعد والوعيد والثواب والعقاب والحلال والحرام والأمر والنهي وغير ذلك من أحكام القرآن لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ يعني لمن يتذكر بها ويتعظ بما فيها من المواعظ والعبر.

قال عطاء : يعني أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني الجنة في قول جميع المفسرين. قال الحسن والسدي : السلام هو اللّه تعالى وداره الجنة. معنى السلام في أسماء اللّه تعالى ذو السلام وهو جمع سلامة لأنه تعالى ذو السلامة من جميع الآفات والنقائص فعلى هذا القول أضيفت الدار إلى السلام الذي هو اسم اللّه تعالى إضافة تشريف وتعظيم كما قيل للكعبة بيت اللّه وللنبي صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه في قوله (و أنه لما قام عبد اللّه يدعوه) ، واحتج لصحة هذا بأن في إضافة الدار إلى اللّه تعالى نهاية تشريفها وتعظيمها فكان ذكر الإضافة مبالغة في تعظيم أمرها.

وقيل إن السلام صفة للدار لأنها دار السلامة الدائمة التي لا تنقطع فعلى هذا يكون السلام بمعنى السلامة كأنه قال دار السلامة التي لا يلقون فيها شيئا يكرهونه.

وقيل سميت بذلك لأن جميع حالاتها مقرونة بالسلامة كما قال تعالى في وصفها ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم وقال تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وقال سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وقوله عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني أن الجنة معدة مهيأة لهم عند ربهم حتى يوصلهم إليها وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني أنه تعالى يتولى أمرهم وإيصال المنافع إليهم ويدفع المضار عنهم.

وقيل معناه أنه يتولاهم في الدنيا بالتوفيق والهداية وفي الآخرة بالجزاء والجنة.

وقيل : الولي هو الناصر والقريب يعني أنه تعالى ينصرهم في الدنيا ويقربهم في الآخرة بسبب أعمالهم الصالحة التي كانوا يتقربون بها إليه في الدنيا

قوله تعالى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً أي اذكر يا محمد يوم نحشر المعادلين باللّه الأصنام مع أوليائهم من الشياطين يعني نحشر المشركين والشياطين جميعا يوم القيامة يا مَعْشَرَ الْجِنِّ فيه حذف تقديره يقول لهم يا معشر الجن والمعشر الجماعة والمراد من الجن الشياطين قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ يعني من إضلالهم وإغوائهم وقال ابن عباس : معناه أضللتم كثيرا من الإنس وهذا التفسير لا بد له من تأويل آخر لأن الجن لا يقدرون على إضلال الإنس وإغوائهم بأنفسهم لأنه لا يقدر على الإجبار أحد إلا اللّه لأنه هو المتصرف في خلقه بما شاء فوجب أن يكون المعنى : قد استكثرتم من الدعاء إلى الإضلال مع مصادفة القبول من الإنس وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ يعني استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن فأما استمتاع الإنس بالجن فقال الكلبي : كان الرجل في الجاهلية إذا سافر فنزل بأرض قفراء وخاف على نفسه من الجن قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في جوارهم.

وأما استمتاع الجن بالإنس فهم أنهم قالوا سدنا الإنس مع الجن حتى عاذوا بنا فيزدادون بذلك شرفا في قومهم وعظما في أنفسهم.

وقيل : استمتاع الإنس بالجن هو ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزيينهم الأمور التي كانوا يهوونها وتسهيل سبلها عليهم واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس للجن ، فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي ،

وقيل : استمتاع الإنس بالجن فيما كانوا يدلونهم على أنواع الشهوات وأصناف الطيبات ويسهلونها عليهم واستمتاع الجن بالإنس هي طاعة الإنس للجن ، فيما يأمرونهم به وينقادون لحكمهم

فصاروا كالرؤساء للإنس والإنس كالأتباع.

وقيل : إن قوله ربنا استمتع بعضنا ببعض هو من كلام الإنس خاصة لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر نادر لا يكاد يظهر ، أما استمتاع الإنس بعضهم ببعض فهو ظاهر فوجب حمل الكلام عليه وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا يعني أن ذلك الاستمتاع كان إلى أجل معين ووقت محدود ثم ذهب وبقيت الحسرة الندامة ، قال الحسن والسدي : لأجل الموت.

وقيل : هو وقت البعث للحساب في يوم القيامة قالَ يعني قال اللّه لهؤلاء الذين استمتع بعضهم ببعض من الجن والإنس النَّارُ مَثْواكُمْ يعني أن النار مقامكم ومقركم فيها ومصيركم إليها خالِدِينَ فِيها يعني مقيمين في نار جهنم أبدا إِلَّا ما شاءَ اللّه اختلفوا في معنى هذا الاستثناء فقيل : معناه خالدين فيها إلا قدر مدة بعثهم ووقوفهم للحساب إلى حين دخولهم إلى النار فإن هذا الوقت ليسوا بخالدين فيه في النار ،

وقيل : المراد من الاستثناء هو أوقات نقلتهم من عذاب إلى عذاب آخر وذلك أنهم يستغيثون من النار فينقلون إلى الزمهرير ثم يستغيثون منه فينقلون إلى النار فكانت مدة نقلتهم هي المراد من هذا الاستثناء. ونقل جمهور المفسرين عن ابن عباس أنه قال : إن هذا الاستثناء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم اللّه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى اللّه عليه وسلم فيخرجون من النار قالوا فعلى هذا التأويل تكون ما في قوله إلا ما شاء اللّه ، بمعنى من يعني إلا ما شاء اللّه ونقل الطبري عن ابن عباس أنه كان يتأول هذا الاستثناء بأن اللّه عز وجل جعل أمر هؤلاء القوم في مبلغ عذابهم إلى مشيئته ، وقال في هذه الآية : إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على اللّه في خلقه أن لا ينزلهم جنة ولا نارا.

قال الزجاج : و

القول الأول أولى لأن معنى الاستثناء إنما هو من يوم القيامة لأن قوله : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً هو يوم القيامة ثم قال خالِدِينَ فِيها منذ يبعثون إِلَّا ما شاءَ اللّه من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدة محاسبتهم.

إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ يعني في تدبير خلقه وتصريفه إياهم في مشيئته من حال إلى حال وغير ذلك من أفعاله.

وقيل حكيم فيما يفعله من ثواب الطائع وعقاب العاصي وفي سائر وجوه المجازاة عَلِيمٌ يعني بعواقب أمور خلقه وما هم إليه صائرون كأنه قال إنما حكمت لهؤلاء الكفار بالخلود في النار ، لعلمي بأنهم يستحقون ذلك.

وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠)

١٢٩

١٣٠

قوله عز وجل : وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً الكاف في كذلك كاف التشبيه تقتضي شيئا تقدم ذكره فالتقدير كما أنزلت العذاب بالجن والإنس الذين استمتع بعضهم ببعض كذلك نولي بعض الظالمين بعضا أي نسلط بعضهم على بعض فنأخذ من الظالم بالظالم كما جاء في الأثر : (من أعان ظالما سلطه اللّه عليه) وقال قتادة : نجعل بعضهم أولياء بعض فالمؤمن ولي المؤمن حيث كان وأين كان والكافر ولي الكافر حيث كان وأين كان.

وفي رواية أخرى عن قتادة قال : يتبع بعضهم بعضا في النار من الموالاة ،

وقيل : معناه نولي ظلمة الإنس الجن وظلمة الجن ظلمة الإنس يعني نكل بعضهم إلى بعض. وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية وأن اللّه تعالى إذا أراد بقوم خيرا ولى عليهم خيارهم وإذا أراد بقوم شرا ولى عليهم شرارهم فعلى هذا القول إن الرعية متى كانوا ظالمين سلط اللّه عز وجل عليهم ظالما مثلهم فمن أراد أن يخلص من ظلم ذلك الظالم فليترك الظلم.

وقوله تعالى : بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يعني يسلط عليهم من يظلمهم بسبب أعمالهم الخبيثة التي اكتسبوها.

قوله تعالى : ا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ

المعشر كل جماعة أمرهم واحد والجمع معاشر لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ

اختلف العلماء في معنى هذه الآية وهل كان من الجن رسل أم لا فذهب أكثر العلماء إلى أنه لم يكن من

الجن رسول وإنما كانت الرسل من الإنس وأجابوا عن قوله رسل منكم يعني من أحدكم وهم الإنس فحذف المضاف فهو كقوله : يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ وإنما يخرج من

أحدهما وهو الملح دون العذب وإنما جاز ذلك لأن ذكرهما قد جمع في قوله مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ وهو جائز في كل ما اتفق في أصله فلذلك لما اتفق ذكر الجن مع الإنس جاز مخاطبتهما بما ينصرف إلى أحد الفريقين وهم الإنس ، وهذا قول الفراء والزجاج ومذهب جمهور أهل العلم. قال الواحدي : وعليه دل كلام ابن عباس لأنه قال يريد أنبياء من جنسهم ولم يكن من جنس الجن أنبياء وذهب قوم إلى أنه أرسل إلى الجن رسلا منهم كما أرسل إلى الإنس رسلا منهم. قال الضحاك : من الجن رسل كما من الإنس رسل وظاهر الآية يدل على ذلك لأنه تعالى قال : لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ

فخاطب الفريقين جميعا وأجيب عن ذلك بأن اللّه تعالى قال : ا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ

وهذا يقتضي كون الرسل بعضا من أبعاض هذا المجموع وإذا كان الرسل من الإنس كان الرسل بعضا من أبعاض هذا المجموع وكان هذا القول أولى من حمل لفظ الآية على ظاهرها فثبت بذلك كون الرسل من الإنس لا من الجن ، ويحتمل أيضا أن يقال إن كافة الرسل كانوا من الإنس لكن اللّه تعالى يلقى الداعية في قلوب قوم من الجن حتى يسمعوا كلام الرسل من الإنس ثم يأتوا قومهم من الجن فيخبروهم بما سمعوا من الرسول ينذرهم به كما قال تعالى : وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ- إلى- فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ فكان أولئك النفر من الجن رسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى قومهم وهذا مذهب مجاهد فإنّ الرسل من الإنس والنذر من الجن ونحو ذلك قال ابن جريج وأبو عبيدة.

وقيل : كانت الرسل يبعثون إلى الجن من الجن ، ولكن بواسطة رسل الإنس واللّه أعلم بمراده وأسرار كتابه.

وقوله تعالى : قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي

يعني يخبرونكم بما أوحي إليهم من آياتي الدالة على توحيدي وتصديق رسلي يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا

يعني ويحذرونكم ويخوفونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وهو يوم القيامة وذلك أن اللّه تعالى يقول يوم القيامة يوم لكفار الجن والإنس على سبيل التقريع والتوبيخ ما أخبر في كتابه ، وهو

قوله تعالى : ا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ

الآية فيجيبون بما أخبر عنهم في

قوله تعالى : الُوا

يعني كفار الجن والإنس هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا

اعترفوا بأن الرسل قد أتتهم وبلغتهم رسالات ربهم وأنذروهم لقاء يومهم هذا وأنهم كذبوا الرسل ولم يؤمنوا بهم وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر قال اللّه تعالى : غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا

إنما كان ذلك بسبب أنهم غرتهم الحياة الدنيا ومالوا إليها : شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ

في الدنيا.

فإن قلت كيف أقروا على أنفسهم بالكفر في هذه الآية وجحدوا الشرك والكفر في قوله : وَاللّه رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ.

قلت : يوم القيامة يوم طويل والأحوال فيه مختلفة فإذا رأوا ما حصل للمؤمنين من الخير والفضل والكرامة أنكروا الشرك لعل ذلك الإنكار ينفعهم ، وقالوا واللّه ربنا ما كنا مشركين فحينئذ يختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم بالشرك والكفر فذلك

قوله تعالى : شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ

.

فإن قلت لما كرر شهادتهم على أنفسهم ،

قلت : شهادتهم الأولى اعتراف منهم بما كانوا عليه في الدنيا من الشرك والكفر وتكذيب الرسل وفي قوله : شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ

ذم لهم وتخطئة لرأيهم ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا ولذاتها فكانت عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والمقصود من شرح حالهم تحذير السامعين وضجر لهم عن الكفر والمعاصي. و

قوله عز وجل :

ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤)

١٣١

١٣٢

١٣٣

١٣٤

وذلِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة ، وقال الزجاج : معناه ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل وأمر عذاب من كذبهم أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ يعني لأنه لم يكن ربك مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ قال الكلبي : معناه لم يكن ليهلكهم بذنوبهم من قبل أن يأتيهم الرسل فتنهاهم فإن رجعوا وإلا أتاهم العذاب ، وهذا قول جمهور المفسرين قال الفراء : يجوز أن يكون المعنى لم يكن ليهلكهم بظلم منه وَأَهْلُها غافِلُونَ أي : وهم غافلون فعلى قول الجمهور : يكون الظلم فعلا للكفار وهو شركهم وذنوبهم التي عملوها ، وعلى قول الفراء : إنه لو أهلكهم قبل بعثة الرسل لكان ظالما واللّه عز وجل يتعالى عن الظلم.

والقول الأول : أصح ، لأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله ، غير أنه أخبر أنه لا يعذب قبل بعثة الرسل ولو فعل ذلك لم يكن ظلما منه

قوله تعالى : وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا يعني ولكل عامل بطاعة اللّه أو بمعصيته درجات ، يعني منازل يبلغها بعمله إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر.

وإنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع والانحطاط كتفاضل الدرج وهذا إنما يكون في الثواب والعقاب على قدر أعمالهم في الدنيا فمنهم من هو أعظم ثوابا ومنهم من هو أشد عقابا ، وهو قول جمهور المفسرين

وقيل : إن

قوله تعالى وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ، مختص بأهل الطاعة لأن لفظ الدرجة لا يليق إلا بهم.

وقوله تعالى : وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ مختص بأهل الكفر والمعاصي ففيه وعيد وتهديد لهم.

والقول الأول أصح ، لأن علمه تعالى شامل لكل المعلومات فيدخر فيه المؤمن والكافر والطائع والعاصي وأنه عالم بأعمالهم على التفصيل التام فيجزي كل عامل على قدر عمله وما يليق به من ثواب أو عقاب.

قوله عز وجل : وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ يعني عن خلقه وذلك أنه تعالى لما بيّن أن لكل عامل بطاعة أو معصية درجة على قدر عمله بين أن تخصيص المطيعين بالثواب والعاصين بالعقاب ليس لأنه محتاج إلى طاعة المطيع أو منتقص بمعصية العاصي بل هو الغني على الإطلاق وأن جميع الخلق فقراء إليه ذُو الرَّحْمَةِ قال ابن عباس :

بأوليائه وأهل طاعته ، وقال الكلبي : بخلقه ذو التجاوز عنهم فمن رحمته تأخير العذاب عن المذنبين لعلهم يتوبون ويرجعون إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يعني يهلككم. الخطاب لأهل مكة ففيه وعيد وتهديد لهم وَيَسْتَخْلِفْ يعني وينشئ ويخلق مِنْ بَعْدِكُمْ يعني من بعد إهلاككم ما يَشاءُ يعني خلقا غيركم أمثل وأطوع منكم كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ اختلف عبارات المفسرين في هذه اللفظة فقال البغوي : يعني آباءهم الماضين قرنا بعد قرن ، ونحوه قال الواحدي وصاحب الكشاف : يعني من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام. وقال الإمام فخر الدين الرازي في

قوله تعالى : وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ يعني من بعد إذهابكم لأن الاستخلاف لا يكون إلا على طريق البدل من فائت.

وأما قوله ما يَشاءُ فالمراد منه خلق ثالث أو رابع واختلفوا فيه ، فقال بعضهم : خلقا آخر من أمثال الجن والإنس. قال القاضي : وهو الوجه الأقرب لأن القوم يعلمون بالعادة أنه تعالى قادر على إنشاء أمثال هذا الخلق فمتى كمل خلق ثالث ورابع يكون أقوى في دلالة القدرة فكأنه تعالى نبه على أن قدرته ليست مقصورة على جنس

دون جنس من الخلق الذين يصلحون لرحمته العظيمة التي هي الثواب فبين بهذا الطريق أنه تعالى لرحمته لهؤلاء الأقوام الحاضرين أبقاهم وأمهلهم ولو شاء لأماتهم وأفناهم وأبدل منهم سواهم ثم بيّن اللّه تعالى قوة قدرته على ذلك فقال : كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ لأن المرء إذا تفكر علم أنه تعالى خلق الإنسان من نطفة ليس فيها من صورته قليل ولا كثير فوجب أن يكون ذلك بمحض القدرة والحكمة وإذا كان كذلك فكما قدر على تصوير هذه الأجسام بهذه الخاصة فكذلك يقدر على تصويرهم خلقا آخر مخالفا لها هذا آخر كلامه. وقال الطبري في قوله (كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) يقول كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلكم ومعنى من في هذا الموضع التعقيب كما يقال في الكلام أعطيتك من دينارك ثوبا يعني مكان الدينار ثوبا لا أن الثوب من الدينار بعض. كذلك الذين خوطبوا بقوله (كما أنشأكم) لم يرد بإخبارهم هذا الخبر أنهم أنشئوا من أصلاب قوم آخرين ولكن معنى ذلك ما ذكرنا أنهم أنشئوا مكان قوم آخرين قد أهلكوا قبلهم.

قوله تعالى : إِنَّ ما تُوعَدُونَ به من مجيء الساعة والبعث بعد الموت والحشر للحساب يوم القيامة لَآتٍ يعني أنه كائن قريب وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ يعني بفائتين حيثما كنتم يدرككم الموت.

١٣٥

١٣٦

١٣٧

قُلْ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم أي قل يا محمد يا قَوْمِ أي قل لقومك من كفار قريش اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ وقرئ مكاناتكم على الجمع والمكانة تكون مصدرا يقال : مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة كما يقال مقام ومقامة فقوله اعملوا على مكانتكم يحتمل أن يكون معناه اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ويحتمل أن يكون معناه اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها كما يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله : مكانتك يا فلان أي أثبت على ما أنت عليه لا تتغير عنه. وقال ابن عباس معناه اعملوا على ناحيتكم إِنِّي عامِلٌ يعني إني عامل على مكانتي التي أنا عليها وما أمرني به ربي والمعنى اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والعداوة فإني ثابت على الإسلام والمصابرة.

فإن قلت ظاهر الآية يدل على أمر الكفار بالإقامة على ما هم عليه من الكفر وذلك لا يجوز.

قلت : معنى هذا الأمر الوعيد والتهديد والمبالغة في الزجر عما هم عليه من الكفر فكأنه قال أقيموا على ما أنتم عليه من الكفر إن رضيتم لأنفسكم بالعذاب الدائم فهو كقوله تعالى : اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ففيه تفويض أمر العمل إليهم على سبيل الزجر والتهديد وليس فيه إطلاق لهم في عمل ما أرادوه من الكفر والمعاصي.

وقوله تعالى : فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني لمن العاقبة المحمودة لنا أو لكم.

وقيل معناه فسوف تعلمون عند نزول العذاب بكم أينا كان على الحق في عمله نحن أم أنتم مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ يعني فسوف تعلمون غدا القيامة لمن تكون عاقبة الدار وهي الجنة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ قال ابن عباس : معناه أنه لا يسعد من كفر بي وأشرك. ثم في هذه الآية قولان :

أحدهما : أنها محكمة وهذا على قول من يقول إن المراد بقوله اعملوا على مكانتكم الوعيد التهديد.

والقول الثاني : أنها منسوخة بآية السيف وهذا على قول من يقول إن المراد بها ترك القتال.

قوله تعالى : وَجَعَلُوا للّه مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً الآية لما بين اللّه عز وجل قبح طريقه الكفار وما كانوا عليه من إنكار البعث وغير ذلك عقبه بذكر أنواع من جهالاتهم وأحكامهم الفاسدة تنبيها على ضعف عقولهم وفساد ما كانوا عليه في الجاهلية

فقال تعالى : وَجَعَلُوا للّه مِمَّا ذَرَأَ يعني مما خلق من الحرث يعني الزرع والثمر والأنعام ، يعني ومن الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم نصيبا يعني قسما وجزءا. قال المفسرون : كان المشركون في الجاهلية يجعلون للّه من حروثهم وثمارهم وأنعامهم وسائر أموالهم نصيبا وللأصنام نصيبا فما جعلوه من ذلك للّه صرفوه إلى الضيفان والمساكين وما جعلوه للأصنام أنفقوه عليها وعلى خدمتها فإن سقط شيء مما جعلوه للّه في نصيب الأوثان تركوه ، وقالوا : إن اللّه غني عن هذا وإن سقط شيء من نصيب الأوثان فيما جعلوه للّه ردوه إلى الأوثان. وقالوا : إنها محتاجة إليه.

وكانوا إذا هلك شيء مما جعلوه للّه لم يبالوا به وإذا انتقص شيء مما جعلوه للأوثان جبروه مما جعلوه للّه فذلك قوله : وَجَعَلُوا للّه مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً وفيه اختصار تقديره وجعلوا للّه مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا وللأصنام نصيبا فَقالُوا هذا للّه بِزَعْمِهِمْ يعني قولهم الذي هو بغير حقيقة لأن معنى زعم حكاية قول يكون مظنة الكذب ولذلك لا يجيء إلا في موضع ذم لقائليه وإنما نسبوا إلى الكذب في قولهم هذا اللّه بزعمهم وإن كانت الأشياء كلها للّه لإضافتهم نصيب الأصنام مع نصيب اللّه وهو قولهم : وَهذا لِشُرَكائِنا يعني الأصنام وإنما سموا الأصنام شركاء لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونه عليها : فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ يعني وما جعلوا لها من الحرث والأنعام فَلا يَصِلُ إِلَى اللّه يعني فلا يعطونه المساكين ولا ينفقونه على الضيفان وَما كانَ للّه فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ والمعنى أنهم كانوا يقرون ما جعلوه للأصنام مما جعلوه للّه ولا يقرون ما جعلوه للّه مما جعلوه للأصنام ، وقال قتادة : كانوا إذا أصابتهم سنة قحط وشدة استعانوا بما جعلوه للّه وأكلوا منه ووفروا مما جعلوه لشركائهم ولم يأكلوا منه شيئا.

وقال الحسن والسدي : كانوا إذا هلك ما جعلوا لشركائهم أخذوا بدله مما جعلوه للّه ولا يفعلون ذلك فيما جعلوه لشركائهم فلذلك ذمهم اللّه تعالى فقال : ساءَ ما يَحْكُمُونَ يعني : بئس ما يحكمون ويقضون وذلك أنهم رجحوا جانب الأصنام على جانب اللّه تعالى في الرعاية والحفظ وهذا سفه منهم.

وقيل : إن الأشياء كلها للّه عز وجل وهو خلقها فلما جعلوا للأصنام جزءا من المال وهي لا تملك ولا تخلق ولا تضر ولا تنفع نسبوا إلى الإساءة في الحكم والمقصود من ذلك بيان ما كانوا عليه في الجاهلية من هذه الأحكام الفاسدة التي لم يرد بها شرع ولا نص ولا يحسنها عقل.

قوله عز وجل : وَكَذلِكَ عطف على قوله وَجَعَلُوا للّه مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً يعني كما فعلوا ذلك جهلا منهم كذلك زين لكثير منهم قتل أولادهم شركاؤهم. والمعنى أن جعلهم للّه نصيبا من أموالهم ولشركائهم نصيبا في غاية الجهل بمعرفة الخالق المنعم لأنهم جعلوا الأصنام مثله في استحقاق النصيب وكذلك إقدامهم على قتل أولادهم في نهاية الجهالة أيضا فكأنه قال ومثل ذلك الذي فعلوه في القسم جهلا وخطأ وضلالا كذلك زَيَّنَ يعني حسّن لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ يعني به وأد البنات أحياء مخافة الفقر والعيلة شُرَكاؤُهُمْ يعني شياطينهم أمروهم أن يقتلوا أولادهم خشية الفقر وسميت الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم فيما أمروهم به من معصية اللّه وقتل الأولاد فأشركوهم مع اللّه في وجوب طاعتهم وأضيف الشركاء إلى المشركين لأنهم أطاعوهم واتخذوهم أربابا ، وقال الكلبي : شركاؤهم سدنة آلهتهم يعني خدامها وهم الذين كانوا يزينون ويحسنون للكفار قتل الأولاد وكان الرجل في الجاهلية يقوم فيحلف لئن ولد له كذا وكذا غلاما لينحرن آخرهم

كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد اللّه فعلى هذا القول ، الشركاء هم السدنة وخدام الأصنام سموا شركاء لأنهم أشركوهم في الطاعة لِيُرْدُوهُمْ يعني ليهلكوهم بذلك الفعل الذي أمروهم به. والإرداء في اللغة : الإهلاك.

قال ابن عباس : ليردوهم في النار وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ يعني وليخلطوا عليهم دينهم. قال ابن عباس :

ليدخلوا عليهم الشك في دينهم وكانوا على دين إسماعيل عليه السلام فرجعوا عنه بتلبيس الشياطين ، وإنما فعلوا ذلك ليزيلهم عن الدين الحق الذي كان عليه إسماعيل وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام فوضعوا لهم هذه الأوضاع الفاسدة وزينوها لهم وَلَوْ شاءَ اللّه ما فَعَلُوهُ يعني ولو شاء اللّه لعصمهم من ذلك الفعل القبيح الذي زين لهم من تحريم الحرث والأنعام وقتل الأولاد أخبر اللّه عز وجلّ أن جميع الأشياء بمشيئته وإرادته إذ لو لم يشأ ما فعلوا ذلك فَذَرْهُمْ يعني فاتركهم يا محمد وَما يَفْتَرُونَ يعني وما يختلقون من الكذب على اللّه فإن اللّه لهم بالمرصاد.

وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّه عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩)

١٣٨

١٣٩

قوله تعالى : وَقالُوا يعني المشركين هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ أي حرام وأصله المنع لأنه منع من الانتفاع منه بتحريمه.

وقيل : هو من التضييق والحبس لأنهم كانوا يحبسون أشياء من أنعامهم وحروثهم لآلهتهم.

قال مجاهد : يعني بالأنعام البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ يعني يأكلها خدام الأصنام والرجال دون النساء : وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها يعني الحوامي وهي الأنعام التي حموا ظهورها عن الركوب فكانوا لا يركبونها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّه عَلَيْهَا يعني لا يذكرون اسم اللّه عليها عند الذبح وإنما كانوا يذكرون عليها أسماء الأصنام :

وقيل معناه لا يحجون عليها ولا يركبونها لفعل الخير لأنه لما جرت العادة بذكر اللّه على فعل كل خير ذم هؤلاء على ترك فعل الخير افْتِراءً عَلَيْهِ يعني أنهم كانوا يفعلون هذه الأفعال ويزعمون أن اللّه أمرهم بها وذلك اختلاق وكذب على اللّه عز وجل : سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ فيه وعيد وتهديد لهم على افترائهم على اللّه الكذب.

قوله عز وجل : وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا يعني نساءنا ، قال ابن عباس وقتادة والشعبي : أراد جنة البحائر والنساء جميعا وهو

قوله تعالى : وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ ودخلت الهاء في خالصة للتأكيد والمبالغة ، كقولهم رجل علّامة ونسّابه. وقال الفراء : دخلت الهاء لتأنيث الأنعام لأن ما في بطونها مثلها فأنث بتأنيثها. وقال الكسائي : خالص وخالصة واحد مثل وعظ وموعظة

وقيل : إذا كان اللفظ عبارة عن مؤنث جاز تأنيثه على المعنى وتذكيره على اللفظ كما في هذه الآية فإنه أنث خالصة على المعنى وذكر ومحرم على اللفظ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ يعني سيكافئهم بسبب وصفهم على اللّه الكذب إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ فيه وعيد وتهديد يعني أنه تعالى حكيم فيما يفعله عليم بقدر استحقاقهم.

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللّه افْتِراءً عَلَى اللّه قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١)

١٤٠

١٤١

قوله تعالى : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ قال عكرمة : نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر وكان الرجل يقاضي الرجل على أن يستحيي جارية ويئد أخرى فإذا كانت الجارية التي توأد غدا الرجل أو راح من عندها امرأته وقال لها أنت عليّ كظهر أمي إن رجعت إليك ولم تئديها فتخدّ لها في الأرض خدا وترسل إلى نسائها فيجتمعن عليها ثم يتداولنها بينهن حتى إذا أبصرته راجعا دستها في حفرتها ثم سوت عليها التراب.

وقال قتادة : هذا من صنيع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنه مخافة السبي والفاقة ويفدو كلبه.

أما سبب الخسران المذكور في قوله قد خسر الذين قتلوا أولادهم : أن الولد نعمة عظيمة أنعم اللّه بها على الوالد فإذا تسبب الرجل في إزالة هذه النعمة عنه وإبطالها فقد استوجب الذم وخسر في الدنيا والآخرة ، أما خسارته في الدنيا فقد سعى في نقص عدده وإزالة ما أنعم اللّه به عليه.

وأما خسارته في الآخرة فقد استحق بذلك العذاب العظيم.

وقوله سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني فعلوا ذلك للسفاهة وهي الخفة والجهالة المذمومة وسبب حصول هذه السفاهة هو قلة العلم بل عدمه لأن الجهل كان هو الغالب عليهم قبل بعثة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولهذا سموا جاهلية

وقوله تعالى : وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللّه يعني البحائر والسوائب والحامي وبعض الحروث وبعض ما في بطون الأنعام ، وهذا أيضا من أعظم الجهالة افْتِراءً عَلَى اللّه يعني أنهم فعلوا هذه الأفعال المذمومة وزعموا أن اللّه أمرهم بذلك وهذا افتراء على اللّه وكذب وهذا أيضا من أعظم الجهالة لأن الجرأة على اللّه والكذب عليه من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر ولهذا قال تعالى : قَدْ ضَلُّوا يعني في فعلهم عن طريق الحق والرشاد وَما كانُوا مُهْتَدِينَ يعني إلى طريق الحق والصواب في فعلهم

(خ).

عن ابن عباس قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم إلى قوله قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ.

قوله عز وجل : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ يعني واللّه الذي ابتدع وخلق جنات يعني بساتين معروشات وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ يعني مسموكات مرتفعات وغير مرتفعات وأصل العرش في اللغة شيء مسقف يجعل عليه الكرم وجمعه عروش يقال عرشت الكرم أعرشه عرشا وعرشته تعريشا إذا جعلته كهيئة السقف واعترش العنب العريش إذا علاه وركبه. واختلفوا في معنى قوله مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ فقال ابن عباس :

المعروشات ما انبسط على الأرض وانتشر مما يعرش مثل الكرم والقرع والبطيخ ونحو ذلك وغير معروشات ما قام على ساق ونسق كالنخل والزرع وسائر الشجر. وقال الضحاك : كلاهما في الكرم خاصة لأن منه ما يعرش ومنه ما لم يعرش بل يلقى على وجه الأرض منبسطا ،

وقيل : المعروشات ما غرسه الناس في البساتين واهتموا به فعرشوه من كرم وغيره وغير معروشات وهو ما أنبته اللّه في البراري والجبال من كرم أو شجر وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ يعني وأنشأ النخل والزرع وهو جميع الحبوب التي تقتات وتدخر مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ يعني به اختلاف الطعوم في الثمار كالحلو والحامض والجيد والرديء ونحو ذلك وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً يعني في المنظر وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ يعني في المطعم كالرمانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف ،

وقيل : إن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان ولكن ثمرتهما مختلفة في الجنس والطعم كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ لما ذكر ما أنعم اللّه به على عباده من خلق هذه الجنات المحتوية على أنواع من الثمار ذكر ما هو المقصود الأصلي وهو الانتفاع بها ،

فقال تعالى : كلوا من ثمره إذا أثمر ، وهذا أمر إباحة. وتمسك بهذا بعضهم فقال : الأمر قد يرد إلى غير الوجوب لأن هذه الصيغة مفيدة لدفع الحجر.

وقال بعضهم : المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحق لأنه تعالى لما أوجب الزكاة في الحبوب

والثمار كان يحتمل أن يحرم على المالك أن يأكل منها شيئا قبل إخراج الواجب فيها لمكان شركة الفقراء والمساكين معه فأباح اللّه أن يأكل قبل إخراجه لأن رعاية حق النفس مقدمة على رعاية حق الغير

وقيل إنما قال تعالى كلوا من ثمره إذا أثمر بصيغة الأمر ليعلم أن المقصود من خلق هذه الأشياء التي أنعم اللّه بها على عباده وهو الأكل وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ يعني يوم جذاذه وقطعه. واختلفوا في هذا الحق المأمور بإخراجه ، فقال ابن عباس وأنس بن مالك : هو الزكاة المفروضة. وهذا قول طاوس والحسن وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب ومحمد بن الحنفية وقتادة. قال قتادة في قوله (و آتوا حقه يوم حصاده) أي من الصدقة المفروضة ذكر لنا أن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم سن فيما سقت السماء والعين السائحة أو سقاه النيل والندى أو كان بعلا العشر كاملا وإن سقي بنضح أو سانية فنصف العشر وهذا فيما يكال من الثمرة أو الزرع وبلغ خمسة أوسق وذلك ثلاثمائة صاع فقد وجب فيها حق الزكاة

وفي رواية عن ابن عباس في

قوله تعالى : وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قال هو العشر ونصف العشر.

فإن قلت على هذا التفسير إشكال وهو أن فرض الزكاة كان بالمدينة وهذه السورة مكية فكيف يمكن حمل قوله وآتوا يوم حصاده على الزكاة المفروضة ،

قلت : ذكر ابن الجوزي في تفسيره عن ابن عباس وقتادة : إن هذه الآية نزلت بالمدينة فعلى هذا القول تكون الآية محكمة نزلت في حكم الزكاة وإن قلنا إن هذه الآية مكية تكون منسوخة بآية الزكاة ، لأنه قد روي عن ابن عباس أنه قال : نسخت آية الزكاة كل صدقة في القرآن

وقيل في قوله تعالى : وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ أنه حق سوى الزكاة فرض يوم الحصاد وهو إطعام من حضر وترك ما سقط من الزرع والثمر ، وهذا قول علي بن الحسن وعطاء ومجاهد وحماد. قال إبراهيم : هو الضغث ، وقال الربيع : هو لقاط السنبل ، وقال مجاهد : كانوا يجيئون بالعذق عند الصرام فيأكل منه من مر. وقال يزيد بن الأصم : كان أهل المدينة إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيعلقونه في جانب المسجد فيجيء المسكين فيضربه بعصاه فما سقط منه أكله فعلى هذا القول هل هذا الأمر أمر وجوب أو استحباب وندب فيه قولان :

أحدهما : أنه أمر وجوب فيكون منسوخا بآية الزكاة.

وبقوله صلى اللّه عليه وسلم في حديث الأعرابي هل علي غيرها قال إلا أن تطوع.

والقول الثاني : إنه أمر ندب واستحباب فتكون الآية محكمة ، وقال سعيد بن جبير : كان هذا حقا يؤمر بإخراجه في ابتداء الإسلام ثم صار منسوخا بإيجاب العشر ، ولقول ابن عباس : نسخت آية الزكاة كل صدقة في القرآن واختار هذا القول الطبري وصححه واختار الواحدي والرازي

القول الأول وصححاه.

فإن قلت : فعلى

القول الأولى كيف تؤدى الزكاة يوم الحصاد والحب في السنبل وإنما يجب الإخراج بعد التصفية والجفاف ،

قلت : معناه قدروا أداء إخراج الواجب منه يوم الحصاد فإنه قريب من زمان التنقية والجفاف ولأن النخل يجب إخراج الحق منه يوم حصاده وهو الصرام والزرع محمول عليه إلا أنه لا يمكن إخراج الحق منه إلا بعد التصفية.

وقيل معناه وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد التصفية ،

وقيل : إن فائدة ذكر الحصاد أن الحق لا يجب بنفس الزرع وبلوغه إنما يجب يوم حصاده وحصوله في يد مالكه لا فيما يتلف من الزرع قبل حصوله في يد مالكه.

قوله تعالى : وَلا تُسْرِفُوا الإسراف تجاوز الحد فيما يفعله الإنسان وإن كان في الإنفاق أشهر

وقيل السراف تجاوز ما حد لك وسرف المال إنفاقه في غير منفعة.

ولهذا قال سفيان : ما أنفقت في غير طاعة اللّه فهو سرف وإن كان قليلا. قال ابن عباس في رواية عنه : عمد ثابت بن قيس بن شماس فصرم خمسمائة نخلة فقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيء فأنزل اللّه هذه الآية

وَلا تُسْرِفُوا قال السدي : معناه لا تعطوا أموالكم وتقعدوا فقراء. قال الزجاج فعلى هذا لو أعطى الإنسان كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئا فقد أسرف لأنه قد صح في الحديث (ابدأ بمن تعول). وقال سعيد بن المسيب :

معناه لا تمنعوا الصدقة فتأويل الآية على هذا القول لا تجاوزوا الحد في البخل والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة وهذان القولان يشتركان في أن المراد من الإسراف مجاوزة الحد إلا أن الأول في البذل والإعطاء

والثاني في الإمساك والبخل ، وقال مقاتل : معناه لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام وهذا القول أيضا يرجع إلى مجاوزة الحد لأن من شرك الأصنام في الحرث والأنعام فقد جاوز ما حد له. وقال الزهري : معناه لا تنفقوا في معصية اللّه عز وجل. وقال مجاهد : الإسراف ما قصرت به في حق اللّه تعالى ولو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقته في طاعة اللّه لم تكن مسرفا ولو أنفقت درهما أو مدا في معصية اللّه كنت مسرفا. وقال ابن زيد : إنما خوطب بهذا السلطان نهي أن يأخذ من رب المال فوق الذي ألزم اللّه ماله. يقول اللّه عز وجل للسلاطين : لا تسرفوا أي لا تأخذوا بغير حق فكانت الآية بين السلطان وبين الناس.

وقوله تعالى : إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ فيه وعيد وزجر عن الإسراف في كل شيء لأن من لا يحبه اللّه فهو من أهل النار.

قوله تعالى :

وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣)

١٤٢

١٤٣

وَمِنَ الْأَنْعامِ يعني وأنشأ من الأنعام حَمُولَةً وهي كل ما يحمل عليها من الإبل وَفَرْشاً يعني صغار الإبل التي لا تحمل. قال ابن عباس : الحمولة هي الكبار من الإبل والفرش هي الصغار من الإبل ، وقال في رواية أخرى عنه ذكرها الطبري :

أما الحمولة : فالإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه

وأما الفرش فالغنم. وقال الربيع بن أنس : الحمولة : الإبل والبقر والفرش المعز والضان فالحمولة كل ما يحمل عليها من الأنعام والفرش ما لا يصلح للحمل سمي فرشا لأنه يفرش للذبح ولأنه قريب من الأرض لصغره كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه يعني كلوا مما أحله اللّه لكم من هذه الأنعام والحرث وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ يعني لا تسلكوا طريقه وآثاره في تحريم الحرث والأنعام كما فعله أهل الجاهلية إِنَّهُ يعني الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ يعني أنه مبين العداوة لكم ثم بين الحمولة والفرش فقال عز وجل : ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يعني وأنشأ من الأنعام ثمانية أزواج يعني ثمانية أصناف والزوج في اللغة الفرد إذا كان معه آخر من جنسه لا ينفك عنه فيطلق لفظ الزوج على الواحد كما يطلق على الاثنين فيقال للذكر زوج وللأنثى زوج مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ يعني الذكر والأنثى والضأن ذوات الصوف من الغنم والواحد ضائن والأنثى ضائنة والجمع ضوائن وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ يعني الذكر والأنثى والمعز ذوات الشعر من الغنم والواحد ماعز والجمع معزى : قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ استفهام إنكار ، أي : قل يا محمد لهؤلاء الجهلة الذكرين من الضأن والمعز حرم عليكم أم الأنثيين منهما ، فإن كان حرم الذكرين من الغنم فكل ذكورها حرام وإن كان حرم الأنثيين منهما فكل إناثها حرام أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ يعني أم حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضأن والمعز فإنها لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى نَبِّئُونِي أي أخبروني وفسروا لي ما حرمتم بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني أن اللّه حرم ذلك عليكم.

وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللّه بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّه كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)

١٤٤

١٤٥

مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ وهذه أربعة أزواج أخر بقية الثمانية قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ وتفسير هذه الآية نحو ما تقدم وفي هاتين الآيتين تقريع وتوبيخ من اللّه تعالى لأهل الجاهلية بتحريمهم ما لم يحرمه اللّه وذلك أنهم كانوا يقولون : هذه أنعام وحرث حجر. وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وكانوا يحرمون بعضها على الرجال والنساء وبعضها على النساء دون الرجال كما أخبر اللّه عنهم في كتابه فلما جاء الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبي صلى اللّه عليه وسلم وكان خطيبهم مالك بن عوف الجشمي فقال : يا محمد بلغنا أنك تحرم أشياء مما كان آباؤنا يفعلونه ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : قد حرمتم أصنافا من النعم على غير أصل وإنما خلق اللّه هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع فمن أين جاء هذا التحريم من قبل الذكر أم من قبل الأنثى؟ فسكت مالك بن عوف وتحير ولم يتكلم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم يا مالك ألا تتكلم؟ فقال : بل أنت تتكلم وأسمع منك ، قال المفسرون : فلو قال جاء التحريم من قبل الذكر بسبب الذكورة وجب أن يحرم جميع الذكور ولو قال بسبب الأنوثة وجب أن يحرم جميع الإناث وإن كان باشتمال الرحم عليه فينبغي أن يحرم الكل لأن الرحم لا يشتمل إلا على ذكر أو أنثى.

وأما تخصيص التحريم بالولد الخامس أو السابع أو بالبعض دون البعض فمن أين ذلك التحريم؟ فاحتج اللّه على بطلان دعواهم بهاتين الآيتين وأعلم نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن كل ما قالوه من ذلك وأضافوه إلى اللّه فهو كذب على اللّه وأنه لم يحرم شيئا من ذلك وأنهم اتبعوا في ذلك أهواءهم وخالفوا أمر ربهم.

وذكر الإمام فخر الدين في معنى الآية وجهين آخرين ونسبهما إلى نفسه ، فقال : إن هذا الكلام ما ورد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم بل هو استفهام على سبيل الإنكار يعني إنكم لا تقرون بنبوة نبي ولا تعترفون بشريعة شارع فكيف تحكمون بأن هذا يحل وهذا يحرم.

والوجه الثاني : إنكم حكمتم بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي مخصوصا بالإبل فاللّه تعالى بيّن أن النعم عبارة عن هذه الأنواع الأربعة وهي : الضأن والمعز والبقر والإبل فلم لم تحكموا بهذه الأحكام في هذه الأنواع الثلاثة وهي الضأن والمعز والبقر فكيف خصصتم الإبل بهذا الحكم دون هذه الأنواع الثلاثة.

قوله تعالى : أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللّه بِهذا يقول اللّه لنبيه صلى اللّه عليه وسلم قل لهؤلاء الجهلة من المشركين الذين يزعمون أن اللّه حرم عليهم ما حرموا على أنفسهم من الأنعام والحرث هل شاهدتم اللّه حرم هذا عليكم ووصاكم به فإنكم لا تقرون بنبوة أحد من الأنبياء فكيف تثبتون هذه الأحكام وتنسبونها إلى اللّه عز وجل. ولما احتج اللّه عليهم بهذه الحجة وبين أنه لا مستند لهم في ذلك قال تعالى : فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّه كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني فمن أشد ظلما وأبعد عن الحق ممن يكذب على اللّه ويضيف تحريم ما لم يحرمه اللّه إلى اللّه ليضل الناس بذلك ويصدهم عن سبيل اللّه جهلا منه إذ ليس هو على بصيرة وعلم في ذلك الذي ابتدعه ونسبه إلى اللّه ويقول إن اللّه أمرنا بهذا ، قيل : أراد به عمرو بن لحي لأنه أول من بحر البحائر وسيب السوائب وغير دين إبراهيم عليه السلام ويدخل في هذا الوعيد كل من كان على طريقته أو ابتدع شيئا لم يأمر اللّه به ولا رسوله ونسب

ذلك إلى اللّه تعالى لأن اللفظ عام فلا وجه للتخصيص فكل من أدخل في دين اللّه ما ليس فيه فهو داخل في هذا الوعيد إِنَّ اللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني أن اللّه لا يرشده ولا يوفق من كذب على اللّه وأضاف إليه ما لم يشرعه لعباده.

قوله عز وجل : قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ اعلم أنه لما بين اللّه تعالى فساد طريقة أهل الجاهلية وما كانوا عليه من التضليل والتحريم من عند أنفسهم واتباع أهوائهم فيما أحلوه وحرموه من المطعومات أتبعه بالبيان الصحيح في ذلك وبيّن أن التحريم والتحليل لا يكون إلا بوحي سماوي وشرع نبوي ،

فقال تعالى : قل أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الجاهلين الذين يحللون ويحرمون من عند أنفسهم لا أجد فيما أوحي إليّ ،

وقيل إنهم قالوا فما المحرم إذا فنزل؟ قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً يعني شيئا محرما على طاعم يطعمه يعني على آكل يأكله إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً يعني سائلا مصبوبا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أي نجس أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ يعني ما ذبح على غير اسم اللّه تعالى فبين اللّه تعالى في هذه الآية أن التحريم والتحليل لا يكون إلا بوحي منه وأن المحرمات محصورة في الأربعة الأشياء المذكورة في هذه الآية وهي : الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما ذبح على غير اسم اللّه ، وهذا مبالغة في أن التحريم لا يخرج عن هذه الأربعة وذلك أنه ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرمات إلا بالوحي وثبت أن اللّه تعالى نص في هذه الآية على هذه الأربعة الأشياء ولهذا اختلف العلماء في حكم هذه الآية فذهب بعضهم إلى ظاهرها وأنه لا يحرم شيء من سائر المطعومات والحيوان إلا ما ذكر في هذه الآية يروى ذلك عن ابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير وهو ظاهر مذهب مالك واحتجوا على ذلك بأن

هذه الآية محكمة لأنها خبر والخبر لا يدخله النسخ واحتجوا بأن هذه الآية وإن كانت مكية لكن يعضدها آية مدنية وهي

قوله تعالى في سورة البقرة : إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه ، وكلمة إنما تفيد الحصر فصارت هذه الآية المدنية مطابقة للآية المكية في الحكم ، وذهب جمهور العلماء إلى أن هذا التحريم لا يختص بهذه الأشياء المنصوص عليها في هذه الآية فإن المحرم بنص الكتاب هو ما ذكر في هذه الآية.

وقد حرمت السنة أشياء فوجب القول بها : منها تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير. عن المقدام بن معديكرب قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب اللّه فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وإنما حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما حرم اللّه تعالى) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب. ولأبي داود قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعفيهم بمثل قراه).

عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو معفو وتلا : قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً الآية أخرجه أبو داود

(م) عن ابن عباس قال (نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير)

(م) عن أبي هريرة (أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية)

(ق) عن جابر (أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل)

وفي رواية : (أكلنا من خيبر الخيل وحمر الوحش) ونهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الحمار الأهلي عن جابر (أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

نهى عن أكل الهر وأكل ثمنه) وقد استثنى الشارع من الميتة السمك والجراد ومن الدم الكبد والطحال وأباح أكل ذلك وقد تقدم دليله.

والأصل في ذلك عند الشافعي أن كل ما لم يرد فيه نص بتحريم أو تحليل فما كان أمر الشرع بقتله كما ورد في الصحيح (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم وهي الحية والعقرب والفأرة والحدأة والكلب العقور) وروي عن سعد بن أبي وقاص (أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر بقتل الوزغ) أخرجه البخاري ومسلم ، وسماه فويسقا. وعن ابن عباس قال (نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب : النملة والنحلة والهدهد والصرد) أخرجه أبو داود فهذا كله حرام لا يحل أكله وما سوى ذلك فالمرجع فيه إلى الأغلب من عادة العرب فما يستطيبه الأغلب منهم فهو حلال وما يستخبثه الأغلب منهم ولا يأكلونه فهو حرام لأن اللّه خاطبهم بقوله : أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ فما استطابوه فهو حلال فهذا تقرير ما يحل ويحرم من المطعومات.

وأما الجواب عن هذه الآية الكريمة فمن وجوه :

أحدها : أن يكون المعنى لا أجد محرما مما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب وغيرها إلا ما أوحي إليّ في هذه الآية.

الوجه الثاني : أن يكون المراد وقت نزول هذه الآية لم يكن محرما غير ما ذكر ونص عليه في هذه الآية ثم حرم بعد نزولها أشياء أخر.

الوجه الثالث : يحتمل أن هذا اللفظ العام خصص بدليل آخر ، وهو ما ورد في السنة.

الوجه الرابع : أن ما ذكر في هذه الآية محرم على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو ما ورد في السنة من المحرمات واللّه أعلم.

بقي في الآية أحكام في

قوله تعالى : أَوْ دَماً مَسْفُوحاً وهو ما سال من الحيوان في حال الحياة أو عند الذبح فإن ذلك الدم حرام نجس وما سوى ذلك كالكبد والطحال فإنهما حلال لأنهما دمان جامدان. وقد ورد الحديث بإباحتهما وكذا ما اختلط باللحم من الدم لأنه غير سائل ، قال عمران بن جرير : سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم وعن القدر يرى فيها حمرة الدم فقال لا بأس بذلك وإنما نهي عن الدم المسفوح. وقال إبراهيم النخعي : لا بأس بالدم في عرق أو مخ إلا المسفوح ، وقال عكرمة : لولا هذه الآية لتتبع المسلمون الدم من العروق ما تتبع اليهود.

وقوله تعالى : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ لما بين اللّه المحرمات في هذه الآية أباح أكلها عند الاضطرار من غير بغي ولا عدوان ، وفي قوله : فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دليل على الرخصة والإباحة عند الاضطرار.

وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦)

١٤٦

قوله تعالى : وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا يعني اليهود حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ قال ابن عباس : هو البعير والنعامة ونحو ذلك من الدواب.

وقيل كل ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير مثل البعير والنعامة والإوز والبط. قال القتيبي هو كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب وسمي الحافر ظفرا على الاستعارة وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما يعني شحم الجوف وهي الثروب وشحم الكليتين إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما يعني إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما من الشحم فإنه غير محرم عليهم ، وقال السدي

وأبو صالح : الألية مما حملت ظهورهما وهذا القول مختص بالغنم لأن البقر ليس لها ألية أَوِ الْحَوايا وهي المباعر ، في قول ابن عباس وجمهور المفسرين واحدتها حاوية وحوية ،

وقيل : الحوايا المباعر والمصارين وهي الدوائر التي تكون في بطن الشاة والمعنى أن الشحم المتلصق بالمباعر والمصارين غير محرم على اليهود أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ يعني من شحم الألية لأنه اختلط بالعصعص وكذا الشحم المختلط بالعظام التي تكون في الجنب والرأس والعين فكل هذا حلال على اليهود فحاصل هذا أن الذي حرم عليهم شحم الثرب وشحم الكلية وما عدا ذلك فهو حلال عليهم

(ق).

عن جابر بن عبد اللّه قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول عام الفتح بمكة (إن اللّه حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول اللّه أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال : لا هو حرام. ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند ذلك : قاتل اللّه اليهود إن اللّه لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه) قوله : جملوه يعني أذابوه يقال أجملت الشحم وجملته إذا أذبته وجملته أكثر وأفصح.

وقوله تعالى : ذلِكَ جَزَيْناهُمْ أي ذلك التحريم جزيناهم عقوبة بِبَغْيِهِمْ يعني بسبب بغيهم وظلمهم وهو قتل الأنبياء وأخذ الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل وَإِنَّا لَصادِقُونَ يعني في الإخبار عن بغيهم وفي الإخبار عن تخصيصهم بهذا التحريم.

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّه ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨)

١٤٧

١٤٨

فَإِنْ كَذَّبُوكَ يعني فإن كذبك اليهود يا محمد فيما أخبرناك أنا حرمنا عليهم وأحللنا لهم مما بينّاه في هذه الآية المتقدمة فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ يعني بتأخير العقوبة عنكم فإن رحمته تسع المسيء والمحسن فلا يعجل بالعقوبة على من كفر به أو عصاه وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ يعني ولا يرد عذابه ونقمته إذا جاء وقتهما عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لما لزمتهم الحجة وتيقنوا بطلان ما كانوا عليه من الشرك باللّه وتحريم ما لم يحرمه اللّه أخبر اللّه تعالى عنهم بما سيقولونه

فقال تعالى : سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني مشركي قريش والعرب لَوْ شاءَ اللّه ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا يعني من قبل ، قال المفسرون : جعلوا قولهم لو شاء اللّه ما أشركنا حجة على إقامتهم على الكفر والشرك. وقالوا : إن اللّه قادر على أن يحول بيننا وبين ما نحن عليه حتى لا نفعله فلولا أنه رضي ما نحن عليه وأراده منا وأمرنا به لحال بيننا وبين ذلك وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ يعني ما حرموه من البحائر والسوائب وغير ذلك ، فقال اللّه عز وجل ردا وتكذيبا لهم كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني من كفار الأمم الخالية الذي كانوا قبل قومك كذبوا أنبياءهم وقالوا مثل قول هؤلاء حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا يعني عذابنا.

( (فصل)) استدل القدرية والمعتزلة بهذه الآية فقالوا : إن القوم لما قالوا لو شاء اللّه ما أشركنا كذبهم اللّه ورد عليهم بقوله كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وأيضا فإن اللّه تعالى حكى عن هؤلاء الكفار صريح مذهب الجبرية وهو قولهم لو شاء اللّه منا أن لا نشرك لم نشرك ولمنعنا عن هذا الكفر وحيث لم يمنعنا عنه ثبت أنه مريد له وإذا أراده منا امتنع تركه منا وأجيب عن هذا بأن اللّه تعالى حكى عن هؤلاء الكفار أنهم قالوا لو شاء اللّه ما أشركنا ثم ذكر عقيبة كذلك كذب الذين من قبلهم وهذا التكذيب ليس هو في قولهم لو شاء اللّه ما أشركنا ، بل ذلك القول حق

وصدق ولكن الكذب في قولهم إن اللّه أمرنا به ورضي ما نحن عليه كما أخبر عنهم في سورة الأعراف وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّه أَمَرَنا بِها فرد اللّه تعالى عليهم بقوله قُلْ إِنَّ اللّه لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ والدليل أن التكذيب في قولهم إن اللّه أمرنا بهذا ورضيه منا لا في قولهم لو شاء اللّه ما أشركنا قوله كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بالتشديد ولو كان خبرا من اللّه عن كذبهم في قولهم لو شاء اللّه ما أشركنا لقال كذلك كذب الذين من قبلهم بالتخفيف فكان ينسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب وقال الحسن بن الفضل : لو قالوا هذه المقالة تعظيما للّه وإجلالا له ومعرفة بحقه وبما يقولون لما عابهم بذلك ، ولكنهم قالوا هذه المقالة تكذيبا وجدلا من غير معرفة باللّه وبما يقولون.

وقيل في معنى الآية : إنهم كانوا يقولون الحق بهذه الكلمة وهو قوله : لَوْ شاءَ اللّه ما أَشْرَكْنا إلا أنهم كانوا يعدونه عذرا لأنفسهم ويجعلونه حجة لهم في ترك الإيمان والرد عليهم في ذلك أن أمر اللّه بمعزل عن مشيئته وإرادته فإن اللّه تعالى مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد ، فعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته فإن مشيئته لا تكون عذرا لأحد عليه في فعله فهو تعالى يشاء الكفر من الكافر ولا يرضى به ولا يأمر به ومع هذا فيبعث الرسل إلى العبد ويأمر بالإيمان ، وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع.

فالحاصل أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يتمسكون بمشيئة اللّه تعالى في شركهم وكفرهم ، فأخبر اللّه تعالى أن هذا التمسك فاسد باطل فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة للّه تعالى في كل الأمور دفع دعوة الأنبياء عليهم السلام واللّه أعلم.

وقوله تعالى : قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين لو شاء اللّه ما أشركنا ولكنه رضي ما نحن عليه من الشرك هل عندكم يعني بدعواكم ما تدعون من علم يعني من حجة وكتاب يوجب اليقين من العلم فَتُخْرِجُوهُ لَنا يعني فتظهروا ذلك العلم لنا وتبينوه كما بينّا لكم خطأ قولكم وفعلكم وتناقض ذلك واستحالته في العقول إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني فيما أنتم عليه من الشرك وتحريم ما لم يحرمه اللّه عليكم وتحسبون أنكم على حق وإنما هو باطل وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ يعني وما أنتم في ذلك كله إلا تكذبون وتقولون على اللّه الباطل.

قُلْ فَللّه الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّه حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّه إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)

١٤٩

١٥٠

١٥١

وقوله تعالى : قُلْ فَللّه الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ يعني : قل يا محمد لهؤلاء المشركين حين عجزوا عن إظهار علم اللّه أو حجة لهم فللّه الحجة البالغة يعني التامة على خلقه بإنزال الكتاب وإرسال الرسل. قال الربيع بن أنس : لا حجة لأحد عصى اللّه أو أشرك به على اللّه ولكن للّه الحجة البالغة على عباده فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ يعني فلو شاء اللّه لوفقكم أجمعين للّهداية ولكنه لم يشأ ذلك وفيه دليل على أنه تعالى لم يشأ إيمان الكافر ولو شاء لهداه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ يعني هاتوا وادعوا شهداءكم. وهلم كلمة دعوة إلى الشيء يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والذكر والأنثى وفيها لغة أخرى يقال للواحد هلم وللاثنين هلما

وللجمع هلموا وللأنثى هلمي واللغة الأولى أفصح أَنَّ اللّه حَرَّمَ هذا وهذا تنبيه من اللّه باستدعاء الشهود من الكافرين على تحريم ما حرموه على أنفسهم وقالوا إن اللّه أمرنا به ليظهر أن لا شاهد لهم على ذلك وإنما اختلقوه من عند أنفسهم فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وهذا تنبيه أيضا على كونهم كاذبين في شهادتهم فلا تشهد أنت يا محمد معهم لأنهم في شهادتهم كاذبون وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني إن وقع منهم شهادة فإنما هي باتباع الهوى فلا تتبع أنت يا محمد أهواءهم ولكن اتبع ما أوحي إليك من كتابي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي ولا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يعني يشركون.

قوله عز وجل : قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ لما بين اللّه تعالى فساد مقالة الكفار فيما زعموا أن اللّه أمرهم بتحريم ما حرموه على أنفسهم فكأنهم سألوا وقالوا : أي شيء حرم اللّه فأمر اللّه عز وجل نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم أن يقول لهم تعالوا تعال من الخاص الذي صار عاما وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم كثر واتسع فيه حتى عمّ.

وقيل أصله أن تدعو الإنسان إلى مكان مرتفع وهو من العلو وهو ارتفاع المنزلة فكأنه دعاه إلى ما فيه رفعة وشرف ثم كثر في الاستعمال ، والمعنى : تعالوا وهلموا أيها القوم أتل عليكم يعني أقرأ ما حرم ربكم عليكم يعني الذي حرم ربكم عليكم حقا يقينا لا شك فيه ولا ظنا ولا كذبا كما تزعمون أنتم بل هو وحي أوحاه اللّه إليّ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً.

فإن قلت : ترك الإشراك واجب فما معنى قوله أن لا تشركوا به شيئا لأنه كالتفصيل لما أجمله فيقوله حرم ربكم عليكم وذلك لا يجوز.

قلت الجواب عنه من وجوه :

الوجه

الأول : أن يكون موضع أن رفع معناه هو أن لا تشركوا له.

الوجه الثاني : أن يكون محل النصب ، واختلفوا في وجه انتصابه فقيل معناه حرم عليكم أن تشركوا وتكون لا صلة.

وقيل : إن حرف لا على أصلها ويكون المعنى : أتل عليكم تحريم الشرك أي لا تشركوا ويكون المعنى أوصيكم أن لا تشركوا لأن قوله وبالوالدين إحسانا محمول على : أوصيكم بالوالدين إحسانا.

الوجه الثالث : أن يكون الكلام قد تم عند قوله حرم ربكم ، ثم قال : عليكم أن لا تشركوا على الإغراء أو بمعنى فرض عليكم أن لا تشركوا به شيئا ومعنى هذا الإشراك الذي حرمه اللّه ونهى عنه هو أن يجعل اللّه شريكه من خلقه أو يطيع مخلوقا في معصية الخالق أو يريد بعبادته رياء وسمعة ومنه قوله : وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.

وقوله عز وجل : وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي : وفرض عليكم ووصاكم بالوالدين إحسانا وإنما ثنى بالوصية بالإحسان إلى الوالدين لأن أعظم النعم على الإنسان نعمة اللّه لأنه هو الذي أخرجه من العدم إلى الوجود وخلقه وأوجده بعد أن لم يكن شيئا ثم بعد نعمة اللّه نعمة الوالدين لأنهما السبب في وجود الإنسان ولما لهما عليه من حق التربية والشفقة والحفظ من المهالك في حال صغره وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ يعني من خوف الفقر ، والإملاق : الإقتار. والمراد بالقتل ، وأد البنات وهن أحياء فكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك وحرمه عليهم نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ يعني لا تئدوا بناتكم خوف العيلة والفقر فإني رازقكم وإياهم لأن اللّه تعالى إذا تكفل برزق الوالد والولد وجب على الوالد القيام بحق الولد وتربيته والاتكال في أمر الرزق على اللّه عز وجل : وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ يعني الزنا ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ يعني علانيته وسره وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأسا في السر فحرم اللّه تعالى الزنا في السر والعلانية

وقيل

إن الأولى حمل لفظ الفواحش على العموم في جميع الفواحش المحرمات والمنهيات فيدخل فيه الزنا وغيره لأن المعنى الموجب لهذا النهي هو كونه فاحشة فحمل اللفظ على العموم أولى من تخصيصه بنوع من الفواحش ، وأيضا فإن السبب إذا كان خاصا لا يمنع من حمل اللفظ على العموم وفي قوله ما ظهر منها وما بطن دقيقة وهي أن الإنسان إذا احترز عن المعاصي في الظاهر ولم يحترز منها في الباطن دل ذلك على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية اللّه وطاعته فيما أمرها به أو نهى عنه ولكن لأجل الخوف من رؤية الناس ومذمتهم ومن كان كذلك استحق العقاب ومن ترك المعصية ظاهرا وباطنا لأجل خوف اللّه وتعظيما لأمره استوجب رضوان اللّه وثوابه وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّه إِلَّا بِالْحَقِّ حرم اللّه تعالى قتل النفس إلا بالحق وقتها من جملة الفواحش المتقدم ذكرها في

قوله تعالى : وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ وإنما أفرد قتل النفس بالذكر تعظيما لأمر القتل وإنه من أعظم الفواحش والكبائر ،

وقيل : إنما أفرده بالذكر لأنه تعالى أراد أن يستثني منه ولا يمكن ذلك الاستثناء من جملة الفواحش إلا بالإفراد فلذلك فقال : لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّه إِلَّا بِالْحَقِّ وهي التي أبيح قتلها من ردة أو قصاص أو زنا بعد إحصان وهو الذي يوجب الرجم.

(ق) عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة).

وقوله تعالى : ذلِكُمْ يعني ما ذكر من الأوامر والنواهي المحرمات وَصَّاكُمْ بِهِ يعني أمركم به وأوجبه عليكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يعني لكي تفهموا ما في هذه التكاليف من الفوائد والمنافع فتعملوا بها.

قوله تعالى :

وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللّه أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢)

١٥٢

وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

يعني ولا تقربوا مال اليتيم إلا بما فيه صلاحه وتثميره وتحصيل الربح له. قال مجاهد : هو التجارة فيه وقال الضحاك : هو أن يسعى له فيه. ولا يأخذ من ربحه شيئا هذا إذا كان القيم بالمال غنيا غير محتاج فلو كان الوصي فقيرا فله أن يأكل بالمعروف حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ

يعني احفظوا مال اليتيم إلى أن يبلغ أشده فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله.

فأما الأشد فهو استحكام قوة الشباب والسن حتى يتناهى في الشاب إلى حد الرجال. قال الشعبي ومالك :

لأشد الحلم حين تكتب له الحسنات وتكتب عليه السيئات. وقال أبو العالية : حتى يعقل وتجتمع قوته. وقال الكلبي : الأشد هو ما بين ثمان عشرة سنة إلى ثلاثين سنة

وقيل إلى أربعين

وقيل إلى ستين سنة وقال الضحاك :

الأشد عشرون سنة ، وقال السدي : الأشد ثلاثون سنة وقال مجاهد : الأشد ثلاث وثلاثون سنة وهذه الأقوال التي نقلت عن المفسرين في هذه الآية إنما هي نهاية الأشد لا ابتداؤه. والمراد بالأشد في هذه الآية ، هو ابتداء بلوغ الحلم مع إيناس الرشد وهذا هو المختار في تفسير هذه الآية.

وقوله تعالى : وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ

يعني بالعدل من غير زيادة ولا نقصان لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها

يعني طاقتها وما يسعها في إيفاء الكيل والميزان وإتمامه. لم يكلف المعطي أن يعطي أكثر مما وجب عليه ولم يكلف صاحب الحق الرضا بأقل من حقه حتى لا تضيق نفسه عنه ، بل أمر كل واحد بما يسعه مما لا حرج عليه فيه وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا

يعني في الحكم والشهادة وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى

يعني المحكوم عليه وكذا

المشهود عليه ،

وقيل : إن الأمر بالعدل في القول هو أعم من الحكم والشهادة ، بل يدخل فيه كل قول حتى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير زيادة فيه ولا نقصان وأداء الأمانة وغير ذلك من جميع الأقوال التي يعتمد فيها العدل والصدق وَبِعَهْدِ اللّه أَوْفُوا

يعني ما عهد إلى عباده ووصاهم به وأوجبه عليهم أو ما أوجبه الإنسان على نفسه كنذر ونحوه فيجب الوفاء به ذلِكُمْ

يعني الذي ذكر في هذه الآيات وَصَّاكُمْ بِهِ

يعني بالعمل به لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

يعني لعلكم تتعظون وتتذكرون فتأخذون ما أمرتكم به.

وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤)

١٥٣

١٥٤

قوله عز وجل وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ يعني وأن هذا الذي وصيتكم به وأمرتكم به في هاتين الآيتين هو صراطي يعني طريقي وديني الذي ارتضيته لعبادي مستقيما يعني قويما لا اعوجاج فيه فاتبعوه ويعني فاعملوا به.

وقيل : إن اللّه تعالى لما بين في الآيتين المتقدمين ما وصى به مفصلا أجمله في هذه الآية إجمالا يقتضي دخول جميع ما تقدم ذكره فيه ويدخل فيه أيضا جميع أحكام الشريعة وكل ما بينه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من دين الإسلام هو المنهج القويم والصراط المستقيم والدين الذي ارتضاه اللّه لعباده المؤمنين وأمرهم باتباع جملته وتفصيله وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ يعني الطرق المختلفة والأهواء المضلة والبدع الرديئة

وقيل السبل المختلفة مثل :

اليهود والنصرانية وسائر الملل والأديان المخالفة لدين الإسلام فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ يعني فتميل بكم هذه الطرق المختلفة المضلة عن دينه وطريقه الذي ارتضاه لعباده ، روى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال : خط لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطا ثم قال هذا سبيل اللّه ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه وقرأ وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل الآية ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ يعني باتباع دينه وصراطه الذي لا اعوجاج فيه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني الطرق المختلفة والسبل المضلة. قال ابن عباس : هذه الآيات محكمات في جميع الكتب لم ينسخهن شيء وهن من محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار. وعن ابن مسعود قال : من سرّه أن ينظر إلى الصحيفة التي عليها خاتم محمد صلى اللّه عليه وسلم فليقرأ هؤلاء الآيات قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ الآيات- إلى قوله- لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب.

قوله تعالى : ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة.

فإن قلت إتيان موسى الكتاب كان قبل نزول القرآن وحرف ثم للتعقيب فما معنى ذلك؟

قلت دخلت ثم لتأخير الخير لا لتأخير النزول والمعنى قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وهو كذا وكذا إلى

قوله تعالى لعلكم تتقون ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب

وقيل إن المحرمات المذكورة في

قوله تعالى : قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ محرمات على جميع الأمم وجميع الشرائع فتقدير الكلام : ذلك وصاكم به يا بني آدم قديما وحديثا ثم بعد ذلك آتينا موسى الكتاب يعني بعد إيجاب هذه المحرمات

وقيل معناه قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ثم قال بعد ذلك يا محمد إنا آتينا موسى الكتاب فحذف لفظة قل لدلالة الكلام عليها.

وقوله تعالى : تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ اختلف أهل التفسير فيه فقيل معناه تماما على المحسنين من قومه فيكون الذي بمعنى أي تماما على من أحسن من قومه لأنه كان منهم محسن ومسيء وعلى قراءة ابن مسعود تماما على الذين أحسنوا ،

وقيل : معناه تماما على كل من أحسن أي أتممنا فضيلة موسى على المحسنين وهم الأنبياء

والمؤمنون أي أتممنا فضله عليهم بالكتاب ،

وقيل : الذي أحسن هو موسى فيكون الذي بمعنى ما أي على ما أحسن وتقديره وآتينا موسى الكتاب إتماما للنعمة عليه لإحسانه في الطاعة والعبادة وتبليغ الرسالة وأداء الأمر.

وقيل الإحسان بمعنى العلم وتقديره آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن موسى من العلم والحكمة زيادة له على ذلك

وقيل معناه تماما مني على إحساني إلى موسى وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ يعني : وفيه بيان لكل شيء يحتاج إليه من شرائع الدين وأحكامه وَهُدىً يعني : وفيه هدى من الضلالة وَرَحْمَةً يعني : إنزاله عليهم رحمة مني عليهم لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ قال ابن عباس : لكي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب.

وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللّه وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)

١٥٥

١٥٦

١٥٧

قوله عز وجل : وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ يعني : القرآن لأنه كثير الخير والنفع والبركة ولا يتطرق إليه نسخ فَاتَّبِعُوهُ يعني : فاعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام وَاتَّقُوا يعني مخالفته لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يعني : ليكن الغرض بالتقوى رحمة اللّه

وقيل معناه لكي ترحموا على جزاء التقوى أَنْ تَقُولُوا يعني لئلا تقولوا

وقيل معناه كراهية أن تقولوا يعني أنزلنا إليكم الكتاب كراهية أن تقولوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ

وقيل :

يجوز أن تكون أن متعلقة بما قبلها فيكون المعنى واتقوا أن تقولوا وهذا خطاب لأهل مكة والمعنى واتقوا يا أهل مكة أن تقولوا إنما أنزل الكتاب والكتاب اسم جنس لأن المراد به التوراة والإنجيل عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا يعني اليهود والنصارى وَإِنْ كُنَّا أي : وقد كنا

وقيل وإنه كنا عَنْ دِراسَتِهِمْ يعني قراءتهم لَغافِلِينَ يعني :

لا علم لنا بما فيها لأنها ليست بلغتنا. والمراد بهذه الآية إثبات الحجة على أهل مكة وقطع عذرهم بإنزال القرآن على محمد صلى اللّه عليه وسلم بلغتهم والمعنى : وأنزلنا القرآن بلغتهم لئلا يقولوا يوم القيامة إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا بلسانهم ولغتهم فلم نعرف ما فيهما فقطع اللّه عذرهم بإنزال القرآن عليهم بلغتهم أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ وذلك أن جماعة من الكفار قالوا لو أنزل علينا ما أنزله على اليهود والنصارى لكنّا خيرا منهم وأهدى وإنما قالوا ذلك لاعتمادهم على صحة عقولهم وجودة فطنهم وذهنهم قال اللّه عز وجل : فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وهو رحمة ونعمة أنعم اللّه بها عليكم فَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلم أو أكفر مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللّه وَصَدَفَ عَنْها يعني وأعرض عنها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ يعني أسوأ العذاب وأشده بِما كانُوا يَصْدِفُونَ أي ذلك العذاب جزاؤهم بسبب إعراضهم وتكذيبهم بآيات اللّه

قوله تعالى :

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨)

١٥٨

هَلْ يَنْظُرُونَ يعني : هل ينتظر هؤلاء بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن وصدهم عن آيات اللّه وهو استفهام معناه النفي وتقديره الآية أنهم لا يؤمنون بك إلا إذا جاءتهم إحدى هذه الأمور الثلاث فإذا جاءتهم إحداها آمنوا وذلك حين لا ينفعهم إيمانهم إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ يعني : لقبض أرواحهم

وقيل أن تأتيهم بالعذاب أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ يعني : للحكم وفصل القضاء بين الخلق يوم القيمة وقد تقدم الكلام في معنى الآية في

سورة البقرة عند قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ بما فيه كفاية وإن المجيء والذهاب على اللّه لمحال فيجب إمرارها بلا تكييف أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ قال جمهور المفسرين : هو طلوع الشمس من مغربها ، ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض) أخرجه مسلم. عن أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله (أو يأتي بعض آيات ربك) قال : (طلوع الشمس من مغربها) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب

(م) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال (من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب اللّه عليه) عن صفوان بن عسال المراد قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (باب من قبل المغرب مسيرة عرضه أو قال يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة خلقه اللّه تعالى يوم خلق السموات والأرض مفتوحا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

(ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها)

وفي رواية (فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا)

(م) عن حذيفة بن أسد الغفاري قال اطلع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال ما تذكرون قلنا الساعة فقال (إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر : الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم وثلاث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تطرد الناس إلى محشرهم)

(م) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال (بادروا بالأعمال قبل ست : طلوع الشمس من مغربها والدخان والدجال والدابة وخويصة أحدكم وأمر العامة)

(م) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : حفظت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول (إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا) وروى الطبري بسنده عن عبد اللّه بن مسعود في تفسير هذه الآية قال : (تصبحون والشمس والقمر من هاهنا من قبل المغرب كالبعيرين القرينين) زاد في رواية عنه (فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) وبسنده عن أبي ذر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما (أ تدرون أين تذهب هذه الشمس قالوا اللّه ورسوله أعلم قال إنها تذهب إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي من حيث جئت فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي فارجعي من حيث جئت فتصبح طالعة من مطلعها لا تنكر الناس منها شيئا

حتى تنتهي فتخر ساجدة في مستقرها تحت العرش فيقال لها اطلعي من مغربك فتصبح طالعة من مغربها) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (أ تدرون أي يوم ذلك أقالوا : اللّه ورسوله أعلم. قال ذلك يوم لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا).

وبسنده عن أبي ذر قال : كنت رديف النبي صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم على حمار (فنظر إلى الشمس حين غربت فقال إنها تغرب في عين حمئة تنطلق حتى تخر لربها ساجدة تحت العرش حتى يأذن لها فإذا أراد أن يطلعها من مغربها حبسها فتقول يا رب إن مسيري بعيد فيقول لها اطلعي من حيث غربت فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) وروي بسنده عن ابن عباس قال : خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عشية من العشيات فقال لهم (عباد اللّه توبوا إلى اللّه قبل أن يأتيكم بعذاب فإنكم توشكون أن تروا الشمس من قبل المغرب فإذا فعلت حبست التوبة وطوي العمل) فقال الناس : هل لذلك من آية يا رسول اللّه؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إن آية تلك الليلة أن تطول كقدر ثلاث ليال فيستيقظ الذين يخشون ربهم فيصلون له ثم يقضون صلاتهم والليل مكانه لم ينقص ثم يأتون مضاجعهم

فينامون حتى إذا استيقظوا والليل مكانه فإذا رأوا ذلك خافوا أن يكون ذلك بين يدي أمر عظيم فإذا أصبحوا فطال عليهم رأت أعينهم طلوع الشمس فبينما هم ينظرونها إذ طلعت عليهم من قبل المغرب فإذا فعلت ذلك لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) قال ابن عباس : لا ينفع مشركا إيمانه عند الآيات وينفع أهل الإيمان عند الآيات إن كانوا اكتسبوا خيرا قبل ذلك. وقال ابن الجوزي قيل إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها أن الملحدة المنجمين زعموا أن ذلك لا يكون فيريهم اللّه قدرته فيطلعها من المغرب كما أطلعها من المشرق فيتحقق عجزهم

وقيل بل ذلك بعض الآيات الثلاثة : الدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها. يروى عن ابن مسعود أنه قال : التوبة معروضة على ابن آدم إن قبلها ما لم تخرج إحدى ثلاث : الدابة وطلوع الشمس من مغربها أو يأجوج ومأجوج. ويروى عن عائشة قالت : إذا خرج أول الآيات طرحت التوبة وحبست الحفظة وشهدت الأجساد على الأعمال. ويروى عن أبي هريرة في

قوله تعالى أو يأتي بعض الآيات ربك قال هي مجموع الآيات الثلاث : طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض ورواه مرفوعا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض) وأصح الأقوال في ذلك ما تظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة وثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه طلوع الشمس من مغربها

وقوله تعالى : يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ يعني لا ينفع من كان مشركا إيمانه ولا تقبل توبة فاسق عند ظهور هذه الآية العظيمة التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً يعني أو عملت قبل ظهور هذه الآية خيرا من عمل صالح وتصديق.

قال الضحاك : من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه قبل اللّه منه العمل الصالح بعد نزول الآية كما قبل منه قبل ذلك فأما من آمن من شرك أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية فلا يقبل منه لأنها حالة اضطرار كما لو أرسل اللّه عذابا على أمة فآمنوا وصدقوا فإنها لا ينفعهم إيمانهم ذلك لمعاينتهم الأهوال والشدائد التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة وقوله قُلِ انْتَظِرُوا يعني ما وعدتم به من مجيء الآية ففيه وعيد وتهديد إِنَّا مُنْتَظِرُونَ يعني ما وعدكم ربكم من العذاب يوم القيامة أو قبله في الدنيا. قال بعض المفسرين : وهذا إنما ينتظره من تأخر في الوجود من المشركين والمكذبين لمحمد صلى اللّه عليه وسلم إلى ذلك الوقت والمراد بهذا أن المشركين إنما يمهلون قدر مدة الدنيا فإذا ماتوا أو ظهرت الآيات لم ينفعهم الإيمان وحلت بهم العقوبة اللازمة أبدا.

وقيل إن قوله قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ المراد به الكف عن قتال الكفار فتكون الآية منسوخة بآية القتال وعلى

القول الأول تكون الآية محكمة.

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللّه ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩)

١٥٩

قوله عز وجل : إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا وقرئ فارقوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً يعني أحزابا متفرقة في الضلالة ومعنى فرقوا دينهم أنهم لم يجتمعوا عليه وكانوا مختلفين فيه فمن قرأ وفرقوا دينهم يعني جعلوا دينهم وهو دين إبراهيم الحنيفية السهلة أديانا مختلفة كاليهودية والنصرانية وعبادة الأصنام ونحو ذلك من الأديان المختلفة ، ومن قرأ فارقوا دينهم قال : معناه باينوه وتركوه من المفارقة للشيء.

وقيل : إن معنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد في الحقيقة وهو أن من فرق دينه فأمر ببعض وأنكر بعضا فارق دينه في الحقيقة ثم اختلفوا في المعنى بهذه الآية ، فقال الحسن : هم جميع المشركين لأن بعضهم عبدوا الأصنام وقالوا هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه وبعضهم عبدوا الملائكة وقالوا إنهم بنات اللّه وبعضهم عبدوا الكواكب فكان هذا تفريق دينهم. وقال مجاهد : هم اليهود. وقال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك : هم اليهود والنصارى لأنهم تفرقوا فكانوا فرقا مختلفة. وقال أبو هريرة :

في هذه الآية هم أهل الضلالة من هذه الأمة وروى ذلك مراوعا قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وليسوا منك هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة) أسنده

الطبري ، فعلى هذا يكون المراد من هذه الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع المضلة. وروي عن عمر بن الخطاب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لعائشة : (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع والأهواء من هذه الأمة) ذكره البغوي بغير سند عن العرباض بن سارية قال :

صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل بوجهه علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل : يا رسول اللّه كأن هذه موعظة مودّع فما تعهد إلينا؟ فقال (أوصيكم بتقوى اللّه والسمع والطاعة وإن تأمر عليك عبد حبشي فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) أخرجه أبو داود والترمذي عن معاوية قال : قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة (زاد في رواية) وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله) أخرجه أبو داود عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول اللّه قال من كان على ما أنا عليه وأصحابي) أخرجه الترمذي. قال الخطابي في هذا الحديث دلالة على أن هذه الفرق غير خارجة من الملة والدين إذ جعلهم من أمته. وقوله تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ، التجاري تفاعل من الجري وهو الوقوع في الأهواء الفاسدة والبدع المضلة تشبيها بجري الفرس والكلب. قال ابن مسعود (إن أحسن الحديث كتاب اللّه وأحسن الهدى هدى محمد صلى اللّه عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها) ورواه جابر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرفوعا.

وقوله تعالى : لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ يعني : في قتال الكفار فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية القتال وهذا على قول من يقول إن المراد من الآية اليهود والنصارى والكفار ، ومن قال : المراد من الآية أهل الأهواء والبدع من هذه الأمة قال : معناه لست منهم في شيء أي أنت منهم بريء وهم منك برآء. تقول العرب إن فعلت كذا فلست منك ولست مني أي كل واحد منا بريء من صاحبه إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللّه يعني في الجزاء والمكافأة ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ يعني إذا وردوا القيامة.

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي للّه رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)

١٦٠

١٦١

١٦٢

١٦٣

قوله تعالى : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها يعني مثلها في مقابلتها واختلفوا في هذه الحسنة والسيئة على قولين :

أحدهما : أن الحسنة قول لا إله إلا اللّه والسيئة هي الشرك باللّه ، وأورد على هذا القول : إن كلمة التوحيد لا مثل لها حتى يجعل جزاء قائلها عشر أمثالها وأجيب عنه بأن جزاء الحسنة قدر معلوم عند اللّه فهل يجازى على قدر إيمان المؤمن بما يشاء من الجزاء وإنما قال عشر أمثالها للترغيب في الإيمان لا للتحديد وكذلك جزاء السيئة بمثلها من جنسها.

والقول الثاني : إن اللفظ عام في كل حسنة يعملها العبد أو سيئة ، وهذا أولى. لأن حمل اللفظ على العموم أولى قال بعضهم : التقدير بالعشرة ليس التحديد لأن اللّه يضاعف لمن يشاء في حسناته إلى سبعمائة ويعطي من

يشاء بغير حساب وإعطاء الثواب لعامل الحسنة فضل من اللّه تعالى هذا مذهب أهل السنة وجزاء السيئة بمثلها عدل منه سبحانه وتعالى وهو

قوله تعالى : وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ يعني لا ينقص من ثواب الطائع ولا يزاد على عذاب العاصي

(ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى اللّه تعالى)

(م) عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (يقول اللّه تبارك وتعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد من جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة)

(ق) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال (يقول اللّه تبارك وتعالى وإذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن ترك من أجلي فاكتبوها له حسنة وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة) لفظ البخاري وفي لفظ مسلم عن محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال (قال اللّه تبارك وتعالى إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها) فقال رسول

اللّه صلى اللّه عليه وسلم (قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال : ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة فإنما تركها من أجلي) زاد الترمذي : من جاء بالحسنة فله عشرة أمثالها.

قوله عز وجل : قُلْ يعني : قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني : قل لهم إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم وهو دين الإسلام الذي ارتضاه اللّه لعباده المؤمنين دِيناً قِيَماً يعني هداني صراطا مستقيما دينا قيما ،

وقيل : يحتمل أن يكون محمولا على المعنى تقديره :

وعرفني دينا قيما يعني دينا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ ،

وقيل : قيما ثابتا مقوما لأمور معاشي ومعادي ،

وقيل : هو من قام وهو أبلغ من القائم مِلَّةَ إِبْراهِيمَ والملة بالكسر الدين والشريعة. يعني هداني وعرفني دين إبراهيم وشريعته حَنِيفاً الأصل في الحنيف الميل وهو ميل عن الضلالة إلى الاستقامة والعرب تسمي كل من اختتن أو حج حنيفا تنبيها على أنه على دين إبراهيم عليه السلام وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني إبراهيم عليه السلام وفيه رد على كفار قريش لأنهم يزعمون أنهم على دين إبراهيم فأخبر اللّه تعالى أن إبراهيم لم يكن من المشركين وممن يعبد الأصنام قُلْ إِن َّ صَلاتِي

أي : قل يا محمد إن صلاتي وَنُسُكِي قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والسدي : أراد بالنسك في هذا الموضع الذبيحة في الحج والعمرة ،

وقيل : النسك العبادة والناسك العابد.

وقيل : المناسك أعمال الحج.

وقيل : النسك كل ما يتقرب به إلى اللّه تعالى من صلاة وحج وذبح وعبادة. ونقل الواحدي عن أبي الأعرابي قال : النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة

وقيل للمتعبد ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث.

وفي قوله إن صلاتي ونسكي دليل على أن جميع العبادات يؤديها العبد على الإخلاص للّه ويؤكد هذا قوله للّه رب العالمين لا شريك له وفيه دليل على أن جميع العبادات لا تؤدى إلا على وجه التمام والكمال لأن ما كان للّه لا ينبغي أن يكون إلا كاملا تاما مع إخلاص العبادة له فما كان بهذه الصفة من العبادات كان مقبولا وَمَحْيايَ وَمَماتِي أي حياتي وموتي بخلق اللّه وقضائه وقدره أي هو يحييني ويميتني

وقيل معناه إن محياي بالعمل الصالح ومماتي إذا مت على الإيمان للّه ،

وقيل : معناه إن طاعتي في حياتي للّه وجزائي بعد مماتي من اللّه وحاصل هذا الكلام له أن اللّه أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يبين أن صلاته ونسكه وسائر عباداته وحياته وموته كلها واقعة بخلق اللّه

وقضائه وقدره وهو المراد بقوله للّه رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ يعني في العبادة والخلق والقضاء والقدر وسائر أفعاله لا يشاركه فيها أحد من خلقه وَبِذلِكَ أُمِرْتُ يعني : قل يا محمد وبهذا التوحيد أمرت وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قال قتادة : يعني من هذه الأمة

وقيل معناه وأنا أول المستسلمين لقضائه وقدره.

قُلْ أَغَيْرَ اللّه أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)

١٦٤

١٦٥

قوله عز وجل : قُلْ أَغَيْرَ اللّه أَبْغِي رَبًّا أي : قل يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك أغير اللّه أطلب سيدا أو إلها وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ يعني وهو سيد كل شيء ومالكه لا يشاركه فيه أحد وذلك أن الكفار قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم ارجع إلى ديننا. قال ابن عباس : كان الوليد بن المغيرة يقول اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم فقال اللّه عز وجل ردا عليه وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها يعني أن إثم الجاني عليه لا على غيره وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يعني لا تؤاخذ نفس آثمة بإثم أخرى ولا تحمل نفس حاملة حمل أخرى ولا يؤاخذ أحد بذنب آخر ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ يعني يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يعني في الدنيا من الأديان والملل.

قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ يعني : واللّه الذي جعلكم يا أمة محمد خلائف في الأرض فإن اللّه أهلك من كان قبلكم من الأمم الخالية واستخلفكم فجعلكم خلائف منهم في الأرض تخلفونهم فيها وتعمرونها بعدهم وذلك لأن محمدا صلى اللّه عليه وسلم خاتم الأنبياء وهو آخرهم وأمته آخر الأمم وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ يعني أنه تعالى خالف بين أحوال عباده فجعل بعضهم فوق بعض في الخلق والرزق والشرف والعقل والقوة والفضل فجعل منهم الحسن والقبيح والغني والفقير والشريف والوضيع والعالم والجاهل والقوي والضعيف وهذا التفاوت بين الخلق في الدرجات ليس لأجل العجز أو الجهل أو الجهل أو البخل فإن اللّه سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص وإنما هو لأجل الابتلاء والامتحان وهو

قوله تعالى : لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ يعني يعاملكم معاملة المبتلي والمختبر وهو أعلم بأحوال عباده. والمعنى : يبتلي الغني بغناه والفقير بفقره والشريف بشرفه والوضيع بدناءته والعبد والحر وغيرهم من جميع أصناف خلقه ليظهر منكم ما يكون عليه الثواب والعقاب ، لأن العبد إما أن يكون مقصرا فيما كلف به

وإما أن يكون موفيا ما أمره به فإن كان مقصرا كان نصيبه التخويف والترغيب وهو

قوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ يعني لأعدائه بإهلاكهم في الدنيا وإنما وصف العقاب بالسرعة لأن كل ما هو آت فهو قريب إن كان العبد موفيا حقوق اللّه تعالى فيما أمره به أو نهاه عنه كان نصيبه الترغيب والتشريف والتكريم وهو

قوله تعالى : وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ يعني لذنوب أوليائه وأهل طاعته رَحِيمٌ يعني بجميع خلقه واللّه أعلم بمراده وأسرار كتابه.

﴿ ٠