٤٠٤١٤٢٤٣قوله عز وجل : إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني كذبوا بدلائل التوحيد فلم يصدقوا بها ولم يتبعوا رسلنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي وتكبروا عن الإيمان بها والتصديق لها وأنفوا عن اتباعها والانقياد لها والعمل بمقتضاها تكبرا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ يعني لا تفتح لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم ولا يصعد لهم إلى اللّه عز وجل في وقت حياتهم قول ولا عمل لأن أرواحهم وأقوالهم وأعمالهم كلها خبيثة وإنما يصعد إلى اللّه تعالى الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما : لا تفتح أبواب السماء لأرواح الكفار وتفتح لأرواح المؤمنين. وفي رواية عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أيضا قال : لا يصعد لهم قول ولا عمل ، وقال ابن جريج : لا تفتح أبواب السماء لأعمالهم ولا لأرواحهم. وروى الطبري بسنده عن البراء بن عازب : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذكر قبض روح الفاجر وأنه يصعد بها إلى السماء قال فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة قال فيقولون فلان بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون له فلا يفتح له ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) وقيل في معنى الآية : لا تنزل عليهم البركة والخير لأن ذلك لا ينزل إلا من السماء فإذا لم تفتح لهم أبواب السماء فلا ينزل عليهم من البركة والخير والرحمة شيء. وقوله تعالى : وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ والولوج الدخول والجمل معروف وهو الذكر من الإبل وسم الخياط ثقب الإبرة قال الفراء : الخياط والمخيط ما يخاط به والمراد به الإبرة في هذه الآية وإنما خص الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات لأنه أكبر من سائر الحيوانات جسما عند العرب قال الشاعر : جسم الجمال وأحلام العصافير وصف من هجاه بهذا بعظم الجسم مع صغر العقل فجسم الجمل من أعظم الأجسام وثقب الإبرة من أضيق المنافذ فكان ولوج الجمل مع عظم جسمه في ثقب الإبرة الضيق محالا فكذلك دخول الكفار الجنة محال ولما وصف اللّه دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط وكان وقوع هذا الشرط محالا ثبت أن الموقوف على المحال محال فوجب بهذا الاعتبار أن دخول الكفار الجنة مأيوس منه قطعا. وقال بعض أهل المعاني : لما علق اللّه تعالى دخولهم الجنة بولوج الجمل في سم الخياط وهو خرق الإبرة كان ذلك نفيا لدخولهم الجنة على التأبيد وذلك لأن العرب إذا علقت ما يجوز كونه بما لا يجوز كونه استحال كون ذلك الجائز وهذا كقولك : لا آتيك حتى يشيب الغراب ويبيض القار ومنه قول الشاعر : إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب قوله تعالى : وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي ومثل الذي وصفنا نجزي المجرمين يعني : الكافرين لأنه تقدم من صفتهم أنهم كذبوا بآيات اللّه واستكبروا عنها وهذه صفة الكفار فوجب حمل لفظ المجرمين على أنهم الكفار ولما بين اللّه عز وجل أن الكفار لا يدخلون الجنة أبدا بين أنهم من أهل النار ووصف ما أعد لهم فيها فقال تعالى : لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ يعني لهم من نار جهنم فراش وأصل المهاد التمهد الذي يقعد عليه ويضطجع عليه كالفراش والبساط وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ جمع غاشية وهي الغطاء كاللحاف ونحوه ومعنى الآية أن النار محيطة بهم من تحتهم ومن فوقهم ، قال محمد بن كعب القرظي والضحاك والسدي : المهاد الفراش والغواشي اللحف وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ يعني وكذلك نكافئ ونجازي المشركين الذين وضعوا العبادة في غير موضعها. قوله عز وجل : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لما ذكر اللّه تعالى وعيد الكافرين وما أعد لهم في الآخرة أتبعه بذكر وعد المؤمنين وما أعد لهم في الآخرة فقال والذين آمنوا وعملوا الصالحات يعني والذين صدقوا اللّه ورسوله وأقروا بما جاءهم به من وحي اللّه إليه وتنزيله عليه من شرائع دينه وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه في ذلك وتجنبوا ما نهاهم عنه لا نكلف نفسا إلا وسعها يعني لا نكلف نفسا إلا ما يسعها من الأعمال وما يسهل عليها ويدخل في طوقها وقدرتها وما لا حرج فيه عليها ولا ضيق. قال الزجاج : الوسع ما يقدر عليه ، وقال مجاهد : معناه إلا ما افترض عليها يعني الذي افترض عليها من وسعها الذي تقدر عليه ولا تعجز عنه وقد غلط من قال إن الوسع بذل المجهود قال أكثر أصحاب المعاني إن قوله تعالى لا نكلف نفسا إلا وسعها اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير والذين آمنوا وعملوا الصالحات أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا نكلف نفسا إلا وسعها وإنما يحسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر لأنه جنس هذا الكلام لأنه تعالى لما ذكر عملهم الصالح ذكر أن ذلك العمل من وسعهم وطاقتهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم قدرها ومحلها يتوصل إليها بالعمل الصالح السهل من غير تحمل كلفة ولا مشقة صعبة. وقال قوم من أصحاب المعاني هو من تمام الخبر موضعه رفع والعائد محذوف كأنه قال لا نكلف نفسا منهم إلا وسعها فحذف العائد للعلم به. قوله تعالى : وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ يعني وقلعنا وأخرجنا ما في صدور المؤمنين من غش وحسد وحقد وعداوة كانت بينهم في الدنيا ومعنى الآية أزلنا تلك الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في الدنيا فجعلناهم إخوانا على سرر متقابلين لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خص اللّه به بعضهم دون بعض ومعنى نزع الغل تصفية الطباع وإسقاط الوساوس ودفعها عن أن ترد على القلب روي عن علي رضي اللّه عنه قال : فينا واللّه أهل بدر نزلت وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ وروي عنه أيضا أنه قال إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال اللّه تعالى فيهم : وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ وقيل إن الحسد والغل يزول بدخولهم الجنة (خ) عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن اللّه لهم في دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا) وقال السدي في هذه الآية : إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوا وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يسحنوا بعدها أبدا. وقيل إن درجات أهل الجنة متفاوتة في العلو والكمال فبعض أهل الجنة أعلى من بعض وأخرج اللّه عز وجل الغل والحسد من صدورهم وأزاله عنهم ونزعه من قلوبهم فلا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب العالية ، وأورد على هذا القول كيف يعقل أن الإنسان يرى الدرجات العالية والنعم العظيمة وهو محبوس عنها لا يصل إليها ولا يميل بطبعه إليها ولا يغتم بسبب حرمانه منها وإن كان في لذة ونعيم وأجيب عن هذا بأن اللّه تعالى قد وعد بإزالة الحقد والحسد من قلوب أهل الجنة حتى تكمل لهم اللذة والسرور حتى إن أحدهم لا يرى نفسه إلا في كمال وزيادة في النعيم الذي هو فيه فيرضى بما هو فيه ولا يحسد أحدا أبدا وبهذا تم نعيمه ولذته وكمل سروره وبهجته. وقوله تعالى : تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ لما أخبر اللّه تعالى بما أنعم به على أهل الجنة من إزالة الغل والحسد والحقد من صدورهم أخبرنا بما أنعم به عليهم من اللذات والخيرات والمسرات وَقالُوا الْحَمْدُ للّه الَّذِي هَدانا لِهذا يعني أن المؤمنين إذا دخلوا الجنة قالوا الحمد للّه الذي وفقنا وأرشدنا للعمل الذي هذا ثوابه وتفضل علينا رحمة منه وإحسانا وصرف عنا عذاب جهنم بفضله وكرمه فله الحمد على ذلك وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللّه يعني وما كنا لنرشد لذلك العمل الذي هذا ثوابه لولا أنه أرشدنا اللّه إليه ووفقنا بفضله ومنه وكرمه وفي الآية دليل على أن المهتدي من هداه اللّه ومن لم يهده اللّه فليس بمهتد لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ يعني أن أهل النعيم إذا دخلوها ورأوا ما أعد اللّه لهم فيها من النعيم قالوا لقد جاءت رسل ربنا بالحق يعني أنهم رأوا ما وعدهم به الرسل عيانا وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ يعني : ونادى منادي أهل الجنة إن هذه الجنة التي كانت الرسل وعدتكم بها في الدنيا واختلفوا في المنادى فقيل هو اللّه عز وجل وقيل الملائكة ينادون بأمر اللّه عز وجل وقيل هذا النداء يكون في الجنة (م). عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي اللّه تعالى عنهما : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا فذلك قوله عز وجل ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون). وقوله تعالى : أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ روى أبو هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال (ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منزله من النار والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة) زاد في رواية فذلك قوله تعالى : أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال بعضهم لما سمى اللّه الكافر ميتا بقوله أموات غير أحياء وسمى المؤمن حيا بقوله : لينذر من كان حيا وفي الشرع أن الأحياء يرثون الأموات فقال أورثتموها يعني أن المؤمن حي وهو يرث الكافر منزله من الجنة لأنه في حكم الميت. وقيل معناه أن أمرهم يؤول إلى الجنة كما أن الميراث يؤول إلى الوارث ، وقيل : أورثتموها عن الأعمال الصالحة التي عملتموها لأن الجنة جعلت لهم جزاء وثوابا على الأعمال ويعارض هذا القول ما ورد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال (لن يدخل الجنة أحد بعمله وإنما يدخلها برحمة اللّه) فإن دخول الجنة برحمة اللّه وانقسام المنازل والدرجات بالأعمال. وقيل إن العمل الصالح لن يناله المؤمن ولن يبلغه إلا برحمة اللّه تعالى وتوفيقه وإذا كان العمل الصالح بسبب الرحمة كان دخول الجنة في الحقيقة برحمة اللّه تعالى وجعلها اللّه ثوابا وجزاء لهم على تلك الأعمال الصالحة التي عملوها في دار الدنيا واللّه أعلم. وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللّه عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) |
﴿ ٤٣ ﴾